الآثار الإيمانية والأمنية من كلام رب البرية
إعداد الفقير إلى عفوربه الباري
أبي الحسن رضوان بن ياسين الشهابي
الحمد لله الذي أنزل كتابه المجيد على أحسن أسلوب وبهر بحسن أساليبه وبلاغة تركيبه القلوب،نزله آيات بينات ،وفصله سورا وآيات، ورتبه بحكمته البالغة أحسن ترتيب ،ونظمه أعظم نظام بأفصح لفظ وأبلغ تركيب، صلى الله على من أنزل اليه لينذر به وذكرى ،ونزله على قلبه الشريف فنفى عنه الحرج وشرح له صدرا وعلى آله وصحبه مهاجرة ونصرا وبعد (1)
فإن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة ،التي أصبحت معالم الوثنية بها تالدة ،(فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله ورسالة تشتمل على قول مؤديها بين فيه سبحانه أن حجته كافية هادية ولا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها أو حجة تتلوها وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات والتشكك في المشاهدات ولذلك قال عز ذكره ? ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ?(2) وقال عز وجل ? ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ? (3)
__________
(1) أسرار ترتيب القرآن للسيوطي ص65
(2) …سورة الأنعام آية(7)
(3) سورة الحجر(14-15)0…(1/1)
(1)فكتاب الله فيه الضياء والنور وفيه الموعظة والهداية وفيه الشفاء والعافية، وما من مجتمع يبتعد عن معينه، إلا غلبته الشقاوة، وإن لكلام الله من الآثار الكثيرة التي نعجز أن نحصرها في هذه الوريقات، وإنما هو على سبيل الإيجاز والإقتصار تلبية ومشاركة لما دعت إليه الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض من الإسهام في بعض البحوث بمناسبة الملتقى الثالث للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم فنسأل الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ، وأن يوفق القائمين على الجمعيات الخيرية لكل خير، وأن يجزي المؤسس لهذا الصرح العظيم فضيلة شيخنا العلامة عبد الرحمن بن عبد الله آل فريان كل خير، ويغفر له ويرحمه ويجعله في عليين على ما قام به من خدمة أهل القرآن ، ويجعله في أعالي الجنان،،،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتبه أبو الحسن رضوان بن ياسين الشهابي
ص0ب(18577) الرياض(11425)
Alshehabe3@maktoob.com
alshehabe2@hotmail.com
المبحث الأول:العلاقة والترابط بين الآثار الإيمانية والآثار الأمنية0
__________
(1) …اقتباس من كتاب إعجاز القرآن للباقلاني ص7(1/2)
العلاقة بين الأمن والإيمان، من جميع جوانبها جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، وأوضحها في حال الأمم السابقة وفي حالنا نحن لنتعظ ولنعتبر، فالله تبارك وتعالى يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66]، ويقول جل شأنه: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً [الجن:16] وآيات كثيرة تبين أنه لا أمن ولا رخاء ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وأن كل من يبحث عن الأمن في نفسه، أو مجتمعه، أو أمته فإنه لن يجده إلا في الإيمان بالله.
فعليه أولاً أن يؤمن بالله، وأن يخضع أعماله وجوارحه وهواه لله تبارك وتعالى، يكون تابعاً لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والنور والحق والسُنة.
ولهذا يقول جل شأنه في حال الطرف الآخر: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
ويقول تبارك وتعالى في حال الطرف الآخر الذي لم يحقق الإيمان: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45].(1/3)
والعلاقة بين الأمن وبين الإيمان تتضح من نفس مبنى الكلمة في اللغة العربية، فإن الإيمان تتركب حروفه الأصلية من نفس الكلمة التي تتركب منها حروف الأمن، وهي الهمزة والميم والنون (أَمِنَ)، هذه المادة -مادة (أمن)- يشتق منها الإيمان، وتدل عليه كما تدل على الأمن، وتدل على مادة أخرى وهي (الأمانة) فنجد أن الأمانة والأمن والإيمان متقاربة في الاشتقاق في اللفظ، فهي متقاربة في المعنى وفي الدلالة، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأييداً لذلك: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم } أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والأمانة يقول الله تبارك وتعالى فيها: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]، فما هذه الأمانة؟
هي نفس عبء وحمولة الإيمان بالله وعبادة الله تبارك وتعالى التي قال فيها في موضع آخر: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فالأمانة هي مدلول الإيمان، وهي تشمل جميع الإيمان. (1)
فالأمن في الأوطان نتيجة للإيمان برب الأرباب، وكلام الله عز وجل يزيد أهل الإيمان إيماناكما قال الله تعالى?إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللهُ وجِلت قلوبُهم وإذا تلِيت عليهم ءاياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكَّلون?(2)
المبحث الثاني: الآثار الإيمانية من كلام رب البرية0
وفيه مطالب:
المطلب الأول: بيان إعجاز القرآن
__________
(1) الموقع الإكتروني للدكتور سفر الحوالي0…
(2) …سورة الأنفال(2)(1/4)
إن كلام العزيز الحكيم به من الإعجاز ما يعجز عنه الوصف، فقد أودع الله في كل آية من آيات كتابه أسراراً لا تُحصى وعجائب لا تنقضي ومعجزاتٍ لا تنفد فكم من صناديد الشرك والوثنية من خالط قلبه الإيمان بمجرد أن سمع آيات الله تتلى،فهذا الصحابي الجليل الطفيل بن عامرالدوسي، اسلم بسما ع آيات من القرآن ،وقد أورد القصة الإمام البيهقي عن ابن اسحاق قال: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث انه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمشى اليه رجال من قريش وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً فقالوا له إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمعن منه0 قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت على ان لا أسمع منه شيئا ولا اكلمه حتى حشوت في اذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرق من ان يبلغني شيء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا ان يسمعني بعض قوله ،فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي إني لرجل لبيب شاعر ما يخفي علي الحسن من القبيح فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فتبعته فقلت إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا فاعرض علي امرك فعرض علي الاسلام وتلا علي القرآن،فلا والله ما سمعت قولاً قط احسن منه ولا أمرا اعدل منه فأسلمت وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الاسلام ،فادع الله ان يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فقال اللهم اجعل له آية فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية كداء وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي إني اخشى ان يظنوا انها مثلة وقعت في وجهي، فتحول فوقع في رأس(1/5)
سوطي كالقنديل المعلق ثم دعوت قومي الى الاسلام فابطأوا علي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن دوسا غلبتني فادع الله عليهم فقال اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدمت عليه بخيبر بمن أسلم من قومي سبعين أو ثمانين بيتا من دوس" (1)
ومن تلك القصص قصة سما ع الوليد بن المغيرة للقرآن ووصفه إياه بوصف عظيم ولكنه عاند واستكبر فلم يسلم روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال: يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال: لم ؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدا لتَعرَّض ما قبله ، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً ، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، قال: وماذا أقول ؟ فوالله؛ ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ، ولا بقصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله؛ ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله؛ إن لقوله الذي يقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه،قال: فدعني حتى أفكر فيه . (2)
فنعلم من هذه الرواية عظمة القرآن ، والحق ما شهدت به الأعداء، فقد وصف الوليد كلام الله بوصفٍ جميل، فمن تأمل ذلك يعلم أثر القرآن على القلوب، فسبحان علام الغيوب ،،فهذا هو كتاب الله عزّ وجلّ يتحدى أرباب البلاغة والبيان في زمن نزوله فيعترفون بعجزهم عن الإتيان بمثله، ويدركون أن هذه البلاغة لايمكن لبشر أن يأتي بمثلهاـ إنها البلاغة التي كانت سبباً في إيمان الكثير من المشركين .
__________
(1) …الخصائص الكبرى للسيوطي ج1/ص225
(2) …صحيح السيرة النبوية ص158(1/6)
ففي ذلك العصر تجلّت معجزة القرآن بشكلها البلاغي لتناسب عصر البلاغة والشعر. وليكون لها الأثر الكبير في هداية الناس إلى الإسلام.
ومن القصص في إعجاز القرآن قصة إسلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سمع آياتٍ من سورة (طه)، فأثّرت فيه بلاغة كلماتها، وأدرك من خلال هذه البلاغة أن القرآن هو كلام الله عز وجل، فانقلب من الشِّرك والضلال إلى التوحيد والإيمان! هذا هو تأثير المعجزة البلاغية على من فهمها وأدركها ورآها.
لقد آمن بالاسلام وبالقرآن أفراد وجماعات كثيرة من غير المسلمين، وكان إسلامهم نتيجة تأثير القرآن في نفوسهم بطريق مباشر أو غير مباشر، فأما عن تأثيره المباشر فقد اعترفت به أفراد من علماء أوروبا ذوى الالباب والفطر السليمة ممن سمعوا القرآن أو قرأوه وفهموا بعض أسراره وإعجازه، ومن أمثلة ذلك ما فهمه أحد الأطباء من قوله تعالى في سورة النساء آية - 56: ?كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب? فأدرك أن وراء هذه الآية حقيقة علمية ما كانت معلومة للناس وقت نزول القرآن، وأنه لابد أن يكون من كلام عليم خبير بتركيب جسم الانسان، وبشبكة الاعصاب الدقيقة التى تنتشر أطرافها في الطبقة الجلدية وهى التى تستقبل الاحساس بالحرارة والبرودة والألم والراحة،فهم ذلك الطبيب من الآية أن تجدد الألم الذى انقطع بحرق الجلد لا يكون إلا بإعادة الجلد حيا كما كان لكى يتجدد ألمه مرارا وتكرارا كلما تبدل الجلد في كل مرة بعد حرقه، وتأكد الطبيب بأن هذا الكلام لا يصدر إلا من عالم خبير بتركيب الجسم البشرى ووظيفة الاعصاب المنتشرة في كيانه، وأن هذا الكلام نزل منذ قرون بعيدة على لسان نبى أمى لم يدرس علم الطب ولا التشريح فأيقن أن هذا كلام من أرسل محمدا رسولا فآمن به وأسلم.(1/7)
ومثل آخر لربان بحرى كان يجول البحار ويشاهد أحوالها ومظاهرها ليلا ونهارا وما تتعرض له عن عواصف وسحب وأمواج متلاطمة ورياح عاتية وظلمات وغير ذلك مما كابده خلال سنين عمله في البحار والمحيطات، فإنه لما قرأ في سورة النور آية - 40 قوله تعالى:?أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها? قال في نفسه إن أحدا لا يستطيع أن يصف هذا الوصف الدقيق لاحوال البحار وظواهرها الجوية إلا من كان بحارا شق عباب الماء وعاين تقلبات الاحوال فيه، وأن محمدا الذى نزل عليه هذا الكلام لم يكن في يوم من أيامه بحارا كما أنه لم يركب البحر في حياته وعاش في وسط الصحراء البعيدة كل البعد عن عالم البحار فمن أين له هذه المعلومات الدقيقة التى لا يعرفها سوى الملاحون؟ إنه ولا شك كلام عليم خبير وهو الله سبحانه فآمن وأسلم بأن محمدا رسول الله حقا وصدقا.
وهناك شعوب أسلمت وآمنت بالقرآن بطريق غير مباشر ومن أمثلة هؤلاء سكان إندونيسيا وما حولها وسكان شرق قارة أفريقية ووسطها حيث نزل بساحتهم التجار العرب المسلمون الذين ذهبوا إلى هذه الجهات النائية للاتجار وتعاملوا مع أهلها معاملة كلها الصدق والامانة والوفاء ومكارم الاخلاق التي اكتسبوها من القرآن الكريم فراعتهم هذه الاخلاق السامية والمبادئ العالية التى كانوا عليها وعلموا أن مزاياهم الجميلة هذه هى من أثر القرآن وتعاليم الاسلام التى أكسبتهم هذه الفضائل والمكارم وصاغتهم هذه الصياغة الكريمة التى لا مئيل لها فيمن عرفوا من الناس فآمنوا بالاسلام دينا وبالقرآن معجزة لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه.(1/8)
بمثل هذه الآيات السالفة الذكر وآثارها في العقول والنفوس كان إيمان كثير من النصارى وغيرهم من الملل الاخرى من ذوى الالباب والفطن الذين ما كانوا يعرفون معنى الاعجاز البيانى أو البلاغى في لغة القرآن وإنما عرفوا منه الاعجاز العلمى الذى وجدوه في كثير من الآيات العلمية مثل قوله تعالى:(خلق الانسان من علق)(يخرج الميت من الحى ويخرج الحى من الميت)(وجعلنا الرياح لواقح)(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) وإن من شئ إلا يسبح بحمده)(والسماء ذات الحبك)(لا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) وفى هذا ما يؤكد أن الكون هو كتاب الله الصامت، وآن القرآن هو كتاب الله الناطق بما يدل على علم الله بأسراره).
وهناك أمورٌ كثيرة تبين عظمة القرآن وقوة إعجازه وعظمة أثره على القلوب فنسأل الله أن يجعلنا ممن يتدبر القرآن ويتلوه حق تلاوته0
المطلب الثاني: الآثار الإيمانية:
لايخفى على ذي لب بأن المادة يوم أن طغت في هذه الأيام على البشرية، قلَّ عندها التدبر للقرآن ، فأصابها الخور والهوان، وما أعز الأمة عندما تستمسك بالمعين الصافي والنور الرباني، فإنه لا تتحقق تلك الآثار إلا حين أن نتدبر هذا الكتاب العزيز قال تعالى? أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها? فكم من قاريءٍ للقرآن والقرآن يلعنه تراه يظلم وربنا يقول?ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون? وتراه يكذب وربنا يقول? فنجعل لعنتَ اللهِ على الكاذبين? إلى غير ذلك مما ابتليت به الأمة، وتحقق فيه الوعيد النبوي(1/9)
إذ يقول- عليه السلام - في الحديث الذي يرويه ثوبان رضي الله عنه: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل: يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت .(1)
فلا تتحقق تلكم الآثار الجليلة على القلوب فتزيدها ثباتاً وإيماناً إلا بقوة التدبر وتحقيق الحكمة التي أنزل لأجلها القرآن كما قال الله عز وجل?كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب?فإذا سعينا إلى التدبر لكلام الله وتلاوته حق تلاوته، جنينا بعده تلك الآثار العظيمة وغيرها، وتحقق الخير كله،،،
ومن الآثار الإيمانية ما يلي:
قوة الوازع الديني: فالقاريء للقرآن المتدبر له في ازدياد من الخير والإيمان، فهو يهديه لأقوم الطرق وأفضل السبل كما قال تعالى?إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا?(2) فإذا قوي الإيمان حصل الأثر الإيماني على الأفراد، ثم على المجتمعات، فينتج بذلك الخير كله0
زيادة الإيمان: فقد وصف الله أهل الإيمان بأنهم إذا تليت عليهم الآيات زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون فقال سبحانه? إنما المؤمنون الذين إذا ذكِر َاللهُ وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ? (3)
__________
(1) سلسة الأحاديث الصحيحة برقم(2664) في الفتن واشراط الساعة والبعث
(2) …سورة الإسراء آية(9)
(3) …سورة الأنفال آية(2)(1/10)
ومما يضيء سناه ابتهاجاً،والصدرانشراحاً ، ما يحصل للمتدبر للقرآن قديماً وحديثاً،وما يحكيه واقعنا المعاصر ممثلاً بالحلقات القرآنية،والصروح الإيمانية،من تلك النماذج من الشباب الذين يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم(سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله00)وذكر منهم(شاب نشأ في طاعة الله) ومن أعظم أنواع الطاعات الإنشغال بالذكر ومن أعظم الذكرتلاوةكلام رب البرية،فترى هؤلاء الشباب هم من أحسن الناس سلوكاً،وأبعد الناس عن سلوك طرق أهل الغواية،فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته إذاهم تدبروا آياته واستمسكوابه وعملوا بما فيه،ويشرف بأهل القرآن من يسعى جاهداً لخدمتهم وتقديرهم من القائمين على الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن،وهمه خدمة أهل القرآن معلمين وطلاباً نسأل الله أن يزيدهم توفيقاً وسداداً 0
المبحث الثالث:الآثار الأمنية0
الأمن مطلب البشرية جمعاء، بل الخلائق أجمع ، كلُ يطمح إلى مكان آمن ، فالإنسان يتمنى المكان الآمن له ولمن يعول، والطير يبني عشه لأجل أن يأمن فيه مع فراخه،والحيوان من بهيمة الأنعام في حضيرته، فكل الخلائق تسعى إلى أن يكون لها المكان الآمن، فمن ذا الذي يؤمن الخلائق غير خالقها، ومن ذا الذي ييسر سبل الأمن والأمان إلا خالق الأنام سبحانه وتعالى،،
وإن من أعظم مقومات الأمن والأمان هو الإيمان برب العباد، والتمسك بشرائع الإسلام ظاهرا وباطنا، قال ربنا عزوجل ? الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون? (1)
عندما نزلت هذه الآية شق ذلك على الناس، وقالوا يارسول الله : أينا لم يظلم نفسه، فقال :(( إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعواما قال العبدالصالح { يا بني لاتشرك بالله إن الشرك لظلمُ عظيم } إنماهو الشرك0فمن أشرك بالله في العبوديه، وعبد غير الله، وعمل لأجل الناس، فذلك قد ظلم نفسه، وليس له أمن ولا أمان من رب العباد،،
__________
(1) سورة الأنعام آية(82)0…(1/11)
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - :"من أعطي فشكر، ومُنِع فصبر،وظلم فاستغفر،وظُلِم فغفر" وسكت فقال الصحابة : يارسول الله ماله؟ قال { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون - - } ،،
وإن في تدبر القرآن،والسير على منهاجه لهو الخير والفلاح، وهو السعادة والنجاح ، وفي ذلك آثاراً عظيمة قد تحدثنا عن بعضها في البحوث السابقة، وسنتحدث في هذا البحث عن الآثار الأمنية التي تنتج عن تدبر القرآن والعمل به، والتمسك على المنهج الرباني، فمن تلك الآثار ما يلي:
1- الحياة الطيبة بين الأفراد والمجتمعات قال الله تعالى?من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة?(1) النحل ، قال بن كثير رحمه الله في تفسيره
__________
(1) …سورة النحل آية (97)0(1/12)
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله وان هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها هي السعادة وقال الحسن ومجاهد وقتادة لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة وقال الضحاك هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ورواه مسلم 1054 من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به وروى الترمذي 2349 والنسائي س كبرى تحفة 11033 من حديث أبي هانئ عن أبي علي الجهني عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به وقال الترمذي هذا حديث صحيح(1)0
2- قوة الأمن والأمان في تطبيق شرع الله ،فكم شرع الله لعباده من الأحكام والأوامر التي تعود عليهم بالنفع إذا ائتمروا بها، ولم يتعدوا حدود الله،ولا يكون هذا إلا بالتدبر لكتاب الله العزيز والعمل به،وقد حد الله حدوداً في القرآن عظيمة، من سار عليها وطبقها في نفسه وفي مجتمعه أعقبت خيراً كثيراً خاصةً في أمن الأفراد والمجتمعات ومن ذلك مايلي:
__________
(1) …تفسير ابن كثير ج2/ص586(1/13)
أ- وصف الله قتل القاتل حياة للناس ، وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله ? ولكم في القصاص حياة ? (1) يعني نكالا وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لأولي الألباب وفيه عظة لأهل الجهل والسفه كم من رجل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ولكن الله حجز عباده بها بعضهم عن بعض وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر إصلاح في الدنيا والآخرة وما نهى الله عن أمر إلا وهو أمر فساد والله أعلم بالذي يصلح خلقه(2)0
ب- أمر الله سبحانه بقطع يد السارق والسارقة في قوله سبحانه ? والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ? (3)
وعن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها قالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها "(4) وهذه النصوص الربانية فيها من الحكم العظيمة،والغايات النبيلة مايعجز المقام لذكرها حصراً،وما أحسن ماذكره الشنقيطي رحمه الله عند شرحه لهذه الآية الكريمة، فقد قال :
__________
(1) …سورة البقرة آية(179)
(2) …الدر المنثور ج1/ص421
(3) سورة المائدة آية(38)…
(4) …سنن النسائي (المجتبى) ج8:ص74(1/14)
قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نهيه والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني فمدت أصابعها الخائنة إلى مال الغير لتأخذه بغير حق واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح يد نجسة قذرة ساعية في الإخلال بنظام المجتمع إذ لا نظام له بغير المال فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن وتطهيرا له من المرض ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ارتكاب معصية السرقة مع الردع البالغ(1)0
3- كلام الله عز وجل يهدي لأقوم الفعال،وأفضل الأعمال، وأشرف الأمور فالقرآن يهذب السلوك، ويثبت الأمن والأمان، ويقوم الأخلاق قال الله تعالى?إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيرا?قال الإمام الشنقيطي في أضواء البيان:
__________
(1) …أضواء البيان ج3/ص32(1/15)
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، ثم يقول رحمه الله:وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار وطعنوا بسببها في دين الإسلام لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة فمن ذلك توحيد الله جل وعلا فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته وفي عبادته وفي أسمائه وصفاته0(1)
__________
(1) …أضواء البيان ج3/ص17(1/16)
وقد استطرد العلامة الشنقيطي في بيان هداية القرآن للتي هي أقوم وذكر أموراً عديدة وأشياء كثيرة، ومما قال رحمه الله: ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك ورجلك بساقك كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيها على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه كقوله تعالى ? ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ? أي لا تخرجون إخوانكم وقوله ? لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ? أي بإخوانهم على أصح التفسيرين وقوله ? ولا تلمزوا أنفسكم ? أي إخوانكم على أصح التفسيرين وقوله ? ولا تأكلوا أموالكم بينكم ? أي لا يأكل أحدكم مال أخيه إلى غير ذلك من الآيات ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )(1/17)
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية قوله تعالى ? لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ? إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والابناء والإخوان والعشائر وقوله ? والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض ? وقوله ? إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ? وقوله ? فأصبحتم بنعمته إخوانا ? إلى غير ذلك من الآيات ،فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين، ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال باب قوله تعالى ? يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون? حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال حفظناه من عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار ، المهاجري يا للمهاجرين فسمَّعها الله رسوله قال ( ما هذا ) فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( دعوها فإنها منتنة ) الحديث فقول هذا الأنصاري يا للأنصار وهذا المهاجري يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( دعوها فإنها منتنة ) يقتضي وجوب ترك النداء بها لأن قوله ( دعوها) أمر صريح بتركها والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول لأن الله يقول ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (1)0
__________
(1) …أضواء البيان ج3/ص41-ص43(1/18)
فمما سبق في الكلام على قول الله تعال ?إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم? وشرح الإمام الشنقيطي رحمه الله، يتجلى لمن يتدبر هذا القرآن من المسلمين أنه كما قال الله عنه?وإنه لتنزيل رب العالمين* نزل به الروح الأمين? فالقرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع نواحي الحياة، فيزيد المؤمنين إيماناً ويزيد ديار الإسلام المستمسكين به والمعتزين به أمناً وسلاماً،فعلينا أهل القرآن أن تتجلى فينا تلك الرابطة العظيمة – رابطة الدين- وأن نترفع عن كل ما يشوبها من النعرات العصبية والقومية والشعوبية التي انتشرت عند بعض أهل الإسلام، فإن تلك الأمور تجلب الفتن والفوضى وتحصد الأمة من جرائها الخوف والفتن0
فكتاب الله وتدبره يجيء بجميع المصالح التي عليها مدار جميع الشرائع وما أحسن ماذكره الشنقيطي عند ذكره للمصالح فقال: فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة :
الأولى درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات
والثانية جلب المصالح المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات
والثالثة الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها،فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
الأول :الدين وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها كما قال تعالى ? وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله?
والثاني :النفس وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها ولذلك أوجب القصاص درءا للمفسدة عن الأنفس كما قال تعالى ? ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب? وقال ?كتب عليكم القصاص في القتلى ?(1/19)
الثالث :العقل وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها قال تعالى ? يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ? إلى قوله ? فهل أنتم منتهون ? وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءا للمفسدة عن العقل،الرابع: النسب، الخامس والسادس: العرض والمال0
المصلحة الثانية: جلب المصالح وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين قال تعالى ?فإذا قضيت الصلواة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله? وقال ? ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ? وقال ? يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون ?
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع ليستجلب كل مصلحته من الآخر كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة وما جرى مجرى ذلك 0(1/20)
المصلحة الثالثة :الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت ( كان خلقه القرآن ) لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق لأن الله تعالى يقول في نبيه صلى الله عليه وسلم ?وإنك لعلى خلق عظيم ? فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق0(1) والكلام في هدي القرآن للتي هي أقوم وحله لكثير من المشاكل العالمية والإقليمية كثيرٌ جداً ، فالإستمساك به والعمل به وتدبره فيه من الآثار ما لا ينحصر في مثل مقامنا هذا ،فالآثار الأمنية لكتاب ربنا كثيرة، فما أعظم أثر تطبيق القرآن على الأفراد والمجتمعات،ومما عظم أثره في واقعنا المعاصر في هذه الديار السعودية إنتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم في كل منطقة ومحافظة، وفي كل مدينة وقرية، وفي كل مركز وهجرة ،وهذا من فضل الله رب العالمين،الذي تكفل بحفظ كتابه،وهيء لذلك الأمور،ومن ذلك ماأنعم الله على هذه البلاد المباركة-بلادالحرمين- المملكة العربية السعودية- من قيادة حكيمة قامت على الكتاب والسنة،فأقامت الحدود ونشرت العلوم وتصدت لكل فكر منحرف،ومما حرصت عليه القيادة الرشيدة خدمة كلام رب البرية ممثلاً ذلك بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف،والذي يعد مفخرة لهذه البلاد المباركة فقد انتشر مصحف المجمع لجميع بقاع المعمورة،ومن خدمة القرآن إنتشار جمعيات التحفيظ في كل منطقة والتي تشرف عليها وزارة الشئون الإسلامية بمتابعة من معالي وزير الشئون الإسلامية الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله ورعاه،وقد قامت الجمعيات وما يتبعها من
__________
(1) …أضواء البيان ج3/ص47-ص50 مع بعض التصرف والإختصار0(1/21)
مدارس وحلقات بأعمال مشكورة في خدمة تعليم القرآن والتشجيع عليه ،مما يجعل لذلك آثاراً عديدة ومتنوعة، ومن تلك الآثار المتنوعة والكثيرة،ما يحصل من القرآن وتدبره والعمل به من الآثار الأمنية الواضحة للعيان كما ذكرنا ذلك في بداية هذا المبحث،وواقعنا المعاصر في هذه الديار المباركة ممثلا بجمعيات تحفيظ القرآن يتجلى لنا فيها كثيرٌ من الأعمال الطيبة التي تقوم فيها هذه الجمعيات يعود آثارها على الشئون الأمنية، ومن تلك الأعمال:
فتح الحلقات وتشجيع منسوبيها في كل مكان، مما يكون له الأثر الواضح في تهذيب سلوكيات الشباب والمراهقين، خصوصاً إذا تم حثهم على تدبر القرآن وآياته0
فتح الحلقات في السجون، وتشجيع الدولة لمن حفظ القرآن في السجن في تخفيف الحكم أو العفو عنه، مما يكون له الأثر الأمني الواضح وذلك بتحويل المفسد في الوطن إلى مصلح ينفع نفسه ووطنه0
إقامة المسابقات المحلية والدولية في حفظ القرآن وتجويده مما له الأثر الواضح في جذب الشباب إلى هذه الحلقات،ممايؤثر في سلوكياتهم الخاصة والعامة0
نتاج الحلقات ومدارس التحفيظ سيكون طلاباً حفاظاً للقرآن ثم بإذن الله أئمة يدعون إلى الخير في مجتمعاتهم، وينبذون جميع الأفكار التي تخالف دينهم00
إلى غير ذلك من الأعمال العظيمة والآثار الجليلة التي لا تخفى على ذي لب،فالجمعيات الخيرية أثرها عظيم في إبعاد الشباب عن الفراغ وربطهم بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، وحثهم على الحفظ والتدبر،والعلم والعمل،فالقرآن يدعوا إلى نبذ العنف والتطرف قال تعالى?ولا تقتلواأنفسكم إن الله كان بكم رحيما?(1)
ويقول سبحانه ?وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين?(2)
__________
(1) سورة النساء آية (29)0…
(2) …سورة البقرة آية(195)(1/22)
والقرآن يدعوا إلى الدخول في السلم كافة قال تعالى?ياأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين?(1)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافق أنه يسعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل أمر المسلمين بما يضاد ذلك وهو الموافقة في الإسلام وفي شرائعه(2)
والقرآن يدعوا إلى الحوار قال تعالى? قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون? (3)0
والقرآن يدعوا إلى الجدال بالتي هي أحسن قال ربنا عز وجل?وجادلهم بالتي هي أحسن?(4)0
فهذه الأخلاق الفاضلة التي يدعوا إليها القرآن،تؤثر على أهل الإيمان وتزيدهم إيماناً،وتهذب أخلاقهم لذلك روى الصحابي الجليل أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله أهلين من الناس قالوا يا رسول الله من هم قال هم أهل القرآن أهل الله وخاصته "(5)
فكفى أهل القرآن شرفاً وعزاً هذا الحديث،وليعلم أنه لا يدخل في هذا الوصف إلا من تدبر القرآن وعمل بما فيها فالغاية هي التدبر ،والعمل رزقنا الله علماً نافعاً وعملاً متقبلاً00
الخاتمة:
الحمد لله أولاً وآخراً على ما تم في هذا البحث الصغير،وإن كان المقام كبير، والتحدث عن الآثار الإيمانية والأمنية من كلام رب البرية لا يكفيه بحث كهذا وإنما كما ذكرنا في المقدمة، بأن ما ذكرناه من الآثار إنما هو على سبيل الإيجاز، وأرجوا من الله أن لا يكون إيجازاً مخلاً،ولا شك أن أعمال البشر جميعاً كباراً وصغاراً ينتابها الخلل والقصور، ولا كامل إلا الرب الغفور، ولا معصوم إلا من عصمه العزيز الحكيم0
__________
(1) …سورة البقرة آية (208)
(2) التفسير الكبير ج5/ص175
(3) …سورة آل عمران آية (64)0
(4) …سورة النحل آية(125)0
(5) …سنن ابن ماجه ج1:ص78(1/23)
وقد ذكرت عدداً من الآثار الإيمانية والأمنية مما هو غيض من فيض وقليل من كثير، مع أن بعض الآثار متداخلة ومترابطة، فكلام الله يزيد المؤمن إيماناً، ويؤثر على القلوب، ويهذب السلوك، فأهل القرآن أحسن الناس سلوكاً، وأعظم أثراً على جميع المستويات، ولا يخفى أثرهم على الأفراد والمجتمعات، فهم من ينبذ العنف والإرهاب، وهم من ينبذ التميع والفسوق، وهم من يدعون إلى الخير والصلاح ويحاربون الفساد والإلحاد، فجزى الله كل خير من يخدم كلام رب البرية، ويقوم بالتشجيع إلى حفظه على ظهر هذه المعمورة، والمملكة العربية السعودية قامت بهذا الدور خير قيام بتبنيها المسابقة الدولية التي تقوم كل عام، ولا يخفى هذا الأثر على المستوى الدولي والعالمي، كما تقوم الدولة بتشجيع الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن ودعمها ممثلاً ذلك بالجهة المشرفة على الجمعيات وهي وزارة الشئون الإسلامية، ومما تقوم به الدولة مشكورة تلك المسابقات المحليةالعديدة التي ترعاها ويُتفيءُ ظلالها كل عام كمسابقة الأمير سلمان بن عبد العزيز حفظه الله وغيرها من المسابقات،والتي تعود على البلاد والعباد بالنفع العظيم وهو إصلاح البنين والبنات، والشباب والشابات، وذلك بربطهم بهذا الكتاب العظيم حفظاً وتلاوةً وتعلماً وتعليماً،مما يكون له الأثر الأمني الواضح00
وفي ختام المطاف، هذا هو جهد المقل فإن كان صواباً فالفضل لله وحده، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان وقانا الله شره ونزغاته والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات00
أسأل المولى القدير، أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال وأن يوفقنا جميعاً للخيرات0
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين0
التوصيات0
الوصية الأولى والأهم لي وللمسلمين هي تقوى الله عز وجل، والسيرعلى خطى الأوائل من سلف الأمة في تدبر القرآن والتمسك بسنة خير الآنام ففي هذه الوصية الخير كله0(1/24)
أن تعمل الجمعيات وما يتبعها في إطار العمل الواحد لخدمة كتاب الله رب العالمين، وخدمة أهل القرآن0
أن يكون التعاون بين منسوبي جمعيات تحفيظ القرآن وفق قول الله تعالى?هو سماكم المسلمين من قبل?فلا يلتفت إلى غير ذلك من الأمور كالتفضيل بين الجنسيات أو العرقيات لأن ذلك مخالف للهدي القرآني في قوله تعالى?إن أكرمكم عند الله أتقاكم?
أن يكون هناك تشجيع على إنتشار المقرءات في كل حي من الأحياء وفي كل مدينة مع الحرص على ذوي الخبرات والكفاءات في تعليم القراءات ،وأن يكون هناك تنظيما للإجازات القرآنية وتشجيع لعلماء القراءات0
أن تقوم الجمعية باستقطاب أكبر لعلماء القراءات من ذوي الإجازات العالية، وتشجع على الأخذ منهم، ويكون هناك اهتمام أكبر في القراءات العشر 0
أن تحرص الجمعيات في تعيينها للمعلمين من ذوي الكفاءات ومن يحفظ القرآن كاملاً0
أن تحرص الجمعيات على تكوين اللقاءات بين المعلمين في جميع المناطق لأجل أن يستفيد الجميع من خبرات بعضهم0
أن يكون هناك تنسيق رسمي بين جمعيات التحفيظ وبين الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه0
المراجع:
أسرار ترتيب القرآن للحافظ جلال الدين السيوطي دراسة وتحقيق عبدالقادر احمد عطا- دار الإعتصام0
إعجاز القرآن للإمام أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق عماد الدين احمد حيدر- مؤسسة الكتب الثقافية- الطبعة الأولى-1411هـ0
الخصائص الكبرى للإمام أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن أبي بكر السيوطي- توزيع مكتبة عباس الباز0
صحيح السيرة النبوية للإمام المحدث الألباني-المكتبة الإسلامية-الطبعة الأولى-1421هـ
سلسلة الأحاديث الصحيحة للعلامة الألباني- اعتنى به أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان-مكتبة المعارف- الطبعة الأولى-1425هـ0
أضواء البيان للعلامة الشنقيطي دار الفكر للطباعة والنشر. - بيروت. - 1415هـ - 1995م. ، تحقيق: مكتب البحوث والدراسات.(1/25)
التفسير الكبير فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000م، الطبعة: الأولى
سنن النسائي(المجتبى) مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب - 1406 - 1986، الطبعة: الثانية، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة0
سنن ابن ماجة0 دار النشر: دار الفكر - بيروت - تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي0
تفسير بن كثير دار الفكر - بيروت - 1401
الفهرس
المبحث الأول:العلاقة والترابط بين الآثار الإيمانية والآثار الأمنية0…3
المبحث الثاني: الآثار الإيمانية من كلام رب البرية0…5
وفيه مطالب:…5
المطلب الأول: بيان إعجاز القرآن…5
المطلب الثاني: الآثار الإيمانية:…13
المبحث الثالث:الآثار الأمنية0…16
الخاتمة:…34
التوصيات0…36
المراجع:…37
الفهرس…39(1/26)