إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشهد أن محمد عبده ورسوله. وبعد.....،
في الحياة الدنيا يعتز الإنسان بأولاده كثرةً ونوعية، فهم زينة الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى:" المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً" [ الكهف :46]
ولقد أصبحنا اليوم أمام موضوعَيْن لا موضوع واحد، موضوع تربية الأبناء، وموضوع العقبات والعوائق والشهوات التي تلاحق أبناءنا وبناتنا، وكيف نخلصهم ونقيهم منها.
ولما تأملت ما كتب في تربية الأبناء وجدت أن هناك تركيزاً ظاهراً على تربية الناشئة والأطفال ، وأنا لا أقلل من أهمية النشء، ولكني اعتقد أن المسئولية تزداد والتربية تستمر وتكبر تبعاتها كلما كبر الأبناء، ووجب على كل أبٍ أن يحرص أكثر في متابعة أبنائه ويسعى جاهداً في توجيههم وإرشادهم، خاصةً مع هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن ، والتبس فيه الحق بالباطل وضعفت فيه الديانة.
والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه لم يخص التربية بالأطفال فحسب، بل كان عليه الصلاة والسلام المربي الأول للأجيال على شتى طبقاتهم واختلاف أجناسهم وتفاوت أعمارهم.(1/1)
ومن ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع ابنته فاطمة رغم كبرها، وبعد زواجها ..أي أنها تجاوزت سن البلوغ بلا شك، فقد روى البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: شكت فاطمة ما تلقى من أثر الرحى فجاء سبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم- أي من أسرى الجهاد سبايا من النساء – فانطلقت إلى أبيها فلم تجده، فوجدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فأخبرتها بما تلقى، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمجيء فاطمة. يقول علي: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال :"على مكانكما" فقعد بيننا، حتى وجدت برد قدميه في صدري، فقال:" ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني ؟ إذا أخذتم مضاجعكما تكبرا أربعا وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين وتحمدا ثلاثاً وثلاثين هو خير لكما من خادم"(1).
وفي هذه الرسالة لا نريد أن نخوض في جوانب الأسرة كما خاضت فيها الدراسات الاستشراقية ففسرت النص تفسيرًا منحرفًا، وعزلت الأحكام عن مقاصدها، وأسقطت التكاليف الشرعية للأسرة وكيانها ..، وإنما سننطلق بحديثنا هنا من بيت النبوة، مدللين لما نقول بما جاء في كتاب الله.
أسأل الله الكريم أن ينفع بهذه الرسالة ، كاتبها وقارئها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وكتب
فهد بن محمد الحميزي
المأذون الشرعي لعقود الأنكحة بالرياض
Fahad442@maktoob.com
www.homizi.com
دعا الإسلام إلى تزوّج الودود الولود، ولكل أب في الغالب غرضان هامّان من الإنجاب ، فالأول : تحقيق حاجة في نفس الأب الذي يحب أن يرى صورة نفسه في ولده، ويأكل هذا الابن من ثمار أتعابه ،و من هنا كان الأبناء زينة الحياة الدنيا ، كما قال الله تعالى:{المال والبنون زينة الحياة الدنيا }[ الكهف :46].
__________
(1) فتح الباري : مناقب علي والدعوات. [7/71](1/2)
الغرض الثاني: يتحقق في إنجاب ذرية صالحة لتعمير الأرض ، واستمرار الحياة البشرية على وفق التعاليم الربانية .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتزوج من أجل الإنجاب ، وإكثار الذرية ، فقد قال رضي الله عنه : ما آتي النساء للشهوة ، ولولا الولد ما باليتُ ألا أرى امرأة بعيني، وإني لأكرِه نفسي على الجماع رجاء أن يخُرج الله مني نسمة تُسبحه وتذكره.
فإذا تحقق للأب هذان الغرضان تحقق له تكوين ذرية صالحة تكون له صدقة جارية بعد مماته. قال عليه الصلاة والسلام:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة، صدقة جارية، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له"(1) .
من ركائز بناء البيت المسلم والحفاظ على هويته وخصائصه: العناية الفائقة بتربية الأولاد وتعليمهم، ومفهوم التربية أعم وأوسع من التعليم.
فالتربية : هي تنشئة الولد حتى يبلغ حد التمام والكمال شيئا فشيئا، لا يحدها سن محدد، ولا أي أمر طارئ كخروج من منزل ، أو سفر بعيد.
وتشمل هذه التنشئة التربية النفسية والروحية والوجدانية والعقلية والسلوكية والاجتماعية.
والتعليم: جزء من هذه المنظومة التربوية، يتضمن نقل المعلومات التي يحتاج إليها الابن في حياته.
وأول ركائز هذه التربية وأُسها التي لا غنى لها عنه ( القدوة الحسنة ) بأن يكون الأب قدوة حسنة في سلوكه وأقواله وأعماله كلها أمام أبناءه قبل كل شيء، فقبل أن يربيهم على التخلق بالخلق الحسن، يجب عليه أن يتصف هو بمكارم الأخلاق، وهذا هو حال قدوتنا الأول عليه الصلاة والسلام، فإنه كان إذا أمر بشيء عمل به أولاً ثم تأسى به الناس من بعده، وهذا بلا شك أقوى وأوقع في النفس.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ، باب الوصية 11/85.(1/3)
واذكر مثالاً واحداً على ذلك بُغية الاختصار ، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء في أناء فغسل كفيه ثلاثاً ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ، ثم مسح برأسه، فأدخل إصبعيه السباحتين –أي: السبابتين- في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء ،فمن زاد أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء "(1) .
ثم بعد ذلك على الأب الحصيف أن يتدرج في تعليمه لأبنائه ولا يستعجل النتائج ويقدم الأهم فالمهم .. وهذا ما نستفيده من قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى
اليمن(2).
فالقدوة الصالحة المتمثلة في الأب مع التدرج في التعليم للأبناء هي بمثابة الجناحين للطائر ورأسه الصبر وتحمل مشاق التربية والتعليم.
كان عليه الصلاة والسلام يخطب فدخل عليه رجل غريب يسأل عن دينه ، فترك عليه الصلاة والسلام خطبته ودعا بكرسي فجلس يعلمه ثم عاد لخطبته"(3)
وبهذا الصنيع يعطينا عليه الصلاة والسلام درساً لكل معلم ومربٍ ، سواء كان أباً أم غيره، أن يتصف بالحلم والتواضع والصبر على نشر تعاليم الإسلام وأخلاقياته وغرس مبادئه لدى من يربي ويعول.
فأولادك أيها الأب الموفق أمانة في عنقك ، وصلاحك يفيد أبناءك، وهو صلاح لك إن شاء الله تعالى؛ كما قال سبحانه:{وكان أبوهما صالحاً}[الكهف:82].
ومن هنا كان لزاماً عليك مسؤولية توجيههم وإرشادهم ، عملا بقوله تعالى:{ يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ...} [التحريم:66].
__________
(1) رواه أبو داود برقم :135.باب الطهارة .وصححه الألباني في صحيح أبي داود(123)
(2) الحديث بطوله رواه البخاري في صحيحه برقم :(1425)، ومسلم برقم (19) من رواية ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) رواه مسلم برقم (876).(1/4)
وقوله عليه الصلاة والسلام :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع ومسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(1).
وكما أن الأم مدرسة كما يقال ، فكذلك الأب هو أيضاً مدرسة عظيمة في تربية الأبناء لا تقل أهمية عن مدرسة الأم ، فهو مدرسة في تربية من يعول على الأخلاق الحسنة، ومدرسة لأبنائه في الكسب الحلال ، ومدرسة لأبنائه في الكلمة الطيبة.. الخ.
فعلى الأب أن يستشعر أهمية هذه التربية المنوطة به ، وأنه من الإساءة للابن والإخلال في الأمانة التي استودعها الله له أن يتركه بدون تربية وتوجيه.
يقول ابن القيم رحمه الله : ( وصيةُ الله للآباء سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، قال الله تعالى:" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " [الإسراء:31] فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه ، وتركه سدى؛ فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال : يا أبت ، إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً .. ) (2)
وعل الأب أيضاً أن يعرف كيف يتعامل مع مراحل نمو أولاده ،وأن يفرق بين مرحلة و أخرى ، ولازلنا في الحقيقة نعاني من جفاء بعض الأباء نحو أبنائهم واحتقارهم وعدم إعطائهم الثقة المنضبطة التي يحتاجونها مهما بلغوا من العمر .
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) تحفة المولود.ص: 139.(1/5)
يقول المفكر محمد قطب : ولئن كانت مرحلة الطفولة مرحلة نمو وتغير دائم لا يتوقف، حتى إن اليوم الواحد قد يضيف مزيداً من النمو في بعض الأحيان ، سواء في مرحلة المشي أو مرحلة النطق أو مرحلة التقاط الخبرات وظهور الاستعدادات .. ، ولئن كانت مرحلة المراهقة مرحلة تفجر جسدي وروحي مع النمو العقلي المتزايد ..فإن مرحلة الشباب الباكر الممتدة حتى النضج هي مرحلة نمو من نوع متميز ..، وليست فيها التغير السريع الذي يميز مرحلة الطفولة ولا التفجر المتقلب الذي يصحب مرحلة المراهقة، وإنما فيها النمو المفضي إلى النضج وهو لون خاص غير اللونين السابقين..
أرأيت إلى الثمرة كادت تنضج ؟! إن فيها كل ملامح الثمرة الناضجة أو معظمها ، ولكنها لم تنضج بعد ، وهي تتغير وهي تقريباً على صورتها!.
وإن التغير الذي يحدث فيها لعظيم الأهمية ولا شك ، لأنه هو الذي يؤهلها لأن تصبح ثمرة ناضجة نافعة مرغوبة ومطلوبة. ولكن لا يكاد يغير شيئا من ملامحها الأصلية إنما يركز فيها حتى تصبح في النهاية مكتملة النمو. وهذه المرحلة في حياة الإنسان أقرب شيء إلى ذلك .
إن ملامح الشخصية قد بدأت تبرز وهناك تغير مستمر يطرأ عليها لا يتوقف ولكنه لا يغير الملامح الرئيسية بقدر ما يركزها ويزيدها بروزًا ؛ حتى تصل إلى صورتها المتكاملة ،إنه لا يضيف عناصر جديدة بقدر ما يقوي ويركز ويصقل العناصر الموجودة بالفعل ، هذا هو الذي يميزها أساسًا عن المرحلتين السابقين(1).
نتائج هذه التربية :
يجب أن يدرك الأب أن الهداية من الله، وأن البذرة الطيبة تبقى طيبة، وما يبذل الأب من حرص كبير مع أبنائه في سبيل تنشئتهم التنشئة الصالحة لن يذهب سدى.
__________
(1) منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب . ج2/246-247.(1/6)
ولكن لابد من فعل الأسباب والاجتهاد مع عدم التعويل على النتائج كثيرًا؛ ( فقد يبذل الأب قصارى جهده ، ويأخذ بمناهج التربية الإسلامية، ومع هذا ينشأ الولد على الشذوذ والانحراف ، كما اخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ولد نوح عليه السلام، فأبى الهداية والتربية النبوية واستنكر وكان مع الكافرين ، فعاقبه الله معهم بالطوفان فأصبح الجميع من المغرقين، وفي هذه الحال يعذر الأب المربي أمام الله لكونه أدى ما عليه من الحقوق وقام بما أوجبه الله عليه من مسؤوليات !!)(1).
فهل هناك مجال للشك أن نوحاً لم يقم بواجب التربية الصالحة مع ابنه؟ ولكنها إرادة الله القائل:{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص:56].
إن التشجيع للأبناء وتعزيزهم مادياً ومعنوياً هو دفع سريع لعجلة صلاحهم ، وتحفيزهم - بما هو مناسب في الوقت المناسب – له آثاره الطيبة على الأبناء.
ومجالات التشجيع كثيرة لا يمكن حصرها .. يشجع الأب ابنه على حفظ القرآن، وعلى ملازمة المسجد وإقامة الصلاة مع جماعة المسلمين ، ويشجعه على حفظ اللسان ، وعلى الصحبة الصالحة، وكذلك يشجع الأب ابنته على لبس الحجاب الشرعي حتى تألفه ، ويشجعها على الحياء وعلى اهتمامها بشؤون المنزل وقرارها فيه ، ومن شب على شيء شاب عليه.
ويجدر التنبيه هنا إلى أمر مهم وهو أن نرتقي بوسائل التشجيع التي نستخدمها مع أبنائنا، وان يكون هذا التشجيع بحد ذاته هو فائدة يجنيها المُشَجَعُ ، وان تحذر أن تكون وسيلة التشجيع أمراً محرماً أو يؤدي للوقوع في المحرم.
فلا يستقيم أن نشجع أبنائنا مثلاً إذا حفظ أحدهم سورة من القرآن، أو أنهي مشروعاً علمياً أن يقدمَ له تلفاز أو شريط فيديو يحتوي على محظورات شرعية.
__________
(1) تربية الأولاد في الإسلام. د/عبد الله ناصح علوان .ج2 ص 1002.بتصرف(1/7)
وما أجمل أن تتنوع وسائل التشجيع والتعزيز ، فتارة نشجع بالكلمة الطيبة ، والثناء الحسن ، وتارة نشجع الابن بإهدائه ما يحتاجه، وتارة يكون التشجيع بنزهة خارج المنزل، وتارة تشترك هذه الوسائل وتتعدد. والمحصلة النهائية ، دفع الابن للمسير قدما في طريق العلم ، والتحصيل وتهيئتة لقيادة نفسه إلى ما ينفعه في أخرته.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله صلى الله علية وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟" فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فأرجعه"(1).
وفي رواية ، قال رسول الله عليه وسلم :" يا بشير ألك ولد سوى هذا؟" قال : نعم قال :" فلا تشهدني إذن ؛ فإني لا أشهد على جور"- أي: ظلم- ثم قال :"أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟" قال: بلى، قال:" فلا إذن".
وعلى هذا عليك أن تعلم أيها الأب المبارك: أنه يحرم عليك أن تفضل أحداً من أبنائك على أحد في العطايا والهبات، ولكن هناك حالات تقتضي التفضيل وأراها مجملة في قول ابن قدامة – رحمه الله – حيث قال : ( فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بعمى أو كثر عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل أو صرف بعض عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله ، أو ينفقه فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة)(2)
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله-:
__________
(1) راجع في شرح الحديث : فتح الباري.ج:6 ص 141. وصحيح مسلم مع شرح النووي: 11/74.
(2) أنظر : المغني 5/665.
(3) مجموعة رسائل مفيدة . ص : 65(1/8)
(لكن لو أعطى بعضهم شيئا يحتاجه والثاني لا يحتاجه ، مثل أن يحتاج أحد الأولاد إلى أدوات مكتبية أو علاج أو زواج، فلا بأس أن يخصه بما يحتاج إليه ؛ لأن هذا تخصيص من أجل الحاجة فيكون كالنفقة) (3)
كنت أسير قبل زمن بأحد شوارع العاصمة فلفت نظري محل بهذا الاسم (فن الترف) فتساءلت بداخلي ، وهل اصبح للترف فناً ؟! ثم بدأت أفكر وأجول بخاطري في نماذج الترف التي نعيشها ونربي عليها أبناءنا ، وما أكثرها! حتى أضحى الترف من أساسيات المعيشة ولوازم التربية عند بعض الأباء.
يقول الشيخ عبد الله آل جار الله – رحمه الله -:
(جنّب أولادك الترف وعودهم الخشونة، فالترف يضعف إرادة النفس ويثنيها عن المطالب العالية التي تتطلب صبراً وجهداً، وقد ذم الله عز وجل المترفين في مواضع من القرآن وبين أنهم ضد كل صلاح ومصلحين، ومن ذلك قوله تعالى:{وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنَّا بما أرسلتم به كافرون}[سبأ:34]،أما الخشونة فمن خصائص الرجال )(1) أ- هـ.
فلا شك أن الترف مفسدٌ للأبناء ، وأصبحنا نسمع من يقول متفاخراً : أنا لا أجعل ابني في احتياج إلى شيء أبداً فأنا ألبي له جميع طلباته ورغباته، ومثل هذا يظن أته احسن إلى ولده، والحقيقة أن هذا الفعل ليس من التربية في شيء.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين" (2).
وهذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده ، وذلك لأن التنعم بالمباح – وإن كان جائزاً - يوجب الأنس به، ويُخشى من غائلته ، من نحو بطر وأشر وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك.
والإكثار من التنعم بالمباح خطر عظيم لأنه يورث المرء ارتياحاً إلى الدنيا وركوناً إليها ،
__________
(1) - أنظر تذكير العباد بحقوق الأولاد ص : 56.
(2) - أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: 2668(1/9)
ويبعد عن الخوف الذي هو جناح المؤمن ؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" البذاذة من الإيمان"(1)
فالبذاذة من أخلاق أهل الإيمان إن قُصد بها تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر.
وقد ذكر الله عز وجل الترف في كتابه في ثمان مواضع ، كلها مواضع ذم وتحذير ، يقول الله جل وعلا:{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فدمرناها تدميرا}[الإسراء:16].
وقال عز من قائل:{حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون}[المؤمنون:64].
قد أثبتت الدراسات أن وسائل الإعلام ذات الطابع المرئي – بالصوت والصورة- أبلغ في التأثير على المشاهد من وسائل الإعلام الأخرى كالمقروءة والمسموعة.
ولذلك أدرك أعداء الإسلام أهمية وسائل الإعلام المرئية في عصر من يمتلك فيه هذه الوسائل.
فهذه القنوات تلوث فضاءنا العربي والإسلامي وتقصد النيل من مبادئنا وهويتنا الإسلامية.
وما أجمل ما قال أحدهم :إن الأب الذي أهدى الدش إلى أبنائه إنما هو الذي أهدى أبناءه إلى الدش؛ ليربيهم ويوجههم وفق ما يريد، فحينما يدخل الأب هذا الجهاز لبيته فإنه يكون قد أحضر لأبنائه مدرساً خصوصياً مقيماً في المنزل، وهو بارع في تلقيهم فنون العشق والغرام ، فينشأون وقد تحطمت فيهم مبادئ الخلق والعفة والفضيلة.
تقول صاحبة كتاب ( بصمات على ولدي):
__________
(1) - أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة والحاكم في مستدركه وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم -2879- من حديث أبي أمامة الحارثي.(1/10)
(أحدث التلفاز تغيراً ملموساً في دور الأسرة ،.. حتى إن البعض هداهم الله يعمدون إلى تهدئة صخب أطفالهم بوضعهم أمام التلفاز ولا يعلمون أنهم بذلك يقضون على أطفالهم فالبرامج المعدة للأطفال لها أثر أيما أثر على سلوك الأبناء الديني والخلقي والاجتماعي ، ففيها إظهار لشعائر أهل الكفر ورموز دينهم كالصليب والمعابد وفيه نشر للسحر والشعوذة وفيها الأعظم من ذلك كله وهو التشكيك في قدرة الله وخلقه ..
إن الأباء الذين يضعون القواعد الأساسية للنظام وللسلوك في المنزل منذ البداية لا يجدون مشكلة في الابن ... ولكن ما إن تبدأ المراهقة حتى يفلت الزمام من يد الأباء قليلاً فالابن يعلن أنه أصبح مستقلاً ومن حقه أن يرى ما يريد وأن يفعل ما يريد ..فيقع الآباء في الحيرة ، ويحسم ذلك عمق إيمان الأباء بالقيم الدينية والخلقية ، وعلى قدر ثقتهم بذلك تثبت مواقفهم فلا يشعرون بالتردد ولا يقعون في الحيرة)(1)
وقد كان هذا الغزو الفضائي في وقت مضى بالإلماح والإيحاء غير المباشر ، أما الآن فالقنوات الفضائية تعج بسيل جارف من القنوات التي تشكك في مبادئ الإسلام وتزعزع الثقة بالله وتنهش الأخلاق من القلوب، وتذهب بالقيم ، وتطمس الهوية الإسلامية.
ولم نكن نتصور أبداً أن نسمع بقنوات تعلم السحر وتدعو إليه داخل بيوتنا موجهة لأبنائنا وأبناء الأمة المسلمة التي يأمر شرعها بقتل الساحر ضرباً بالسيف !!
لم يعد غريبا أن يُعلَّم أبناؤنا وبناتنا أصول النصرانية وعقائدها وليس في بلاد الكفر والزندقة ، أو في كنائسهم أو أديرتهم ، إنما في بيوتنا وبأموالنا !!
__________
(1) - بصمات على ولدي. طيبة اليحيى. ص 77.(1/11)
ولن أتحدث هنا عن القنوات المتخصصة في التنصير والتي تديرها منظمات وهيئات تنصيرية للدعوة إلى دينهم ولبث الشبهات حول الدين الإسلامي (1). فهذه القنوات فسادها ظاهر وخطرها واضح ولكن سأذكر لك قناة يكثر المشاهدين لها من الدول العربية بل ويتجاوز المشاهدين لها الملايين ، وهي ليست بأقل خطراً من القنوات المخصصة للتنصير ..
[ قناة(mbc) فهي تُظهر في قنواتها المتعددة بين الفينة والأخرى بعض شعائر النصارى ، فغالب البرامج فيها لا تكاد تخلو من رؤية الصليب ، كما يشاهد صلاتهم في بعض البرامج ، وفي برامج أخرى يلجأ الضعيف سواء كان امرأة أو طفلاً بعدما تتكالب عليه الخطوب إلى الراهب في الكنيسة ليخلصه من المشكلة ، مما يرسخ للمشاهد في اللاشعور أن الخلاص في مثل هذه الأماكن التعبدية)(2).
إن من الخطأ أن نتصور أن الغزو الفضائي غزو أخلاقي فحسب ، بل هو حرب على العقائد والقيم مُسيَّسٌ مدروس.
يقول أحد المفكرين ممن سبق وأن أُسْتُعْمِرَتْ بلاده:
إن هذا الاستعمار خرج من شوارع المدن ، ولكن سيعود عن طريق البث المباشر ، وعودته هذه المرة ليست إلى الأسواق فقط ولكن عاد لشاركنا السكن في بيوتنا ، والخلوة في غرفنا ، رجع ليقضي على الدين واللغة والأخلاق ، كان يقيم بيننا بالكره- يعني الاستعمار- ولكن عاد لنستقبله بالحب والترحاب ، كنا ننظر إليه فنمقته ، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته والجلوس معه ، إنه الاستعمار الجديد ، إنه خطر يهدد الجيل الجديد كله.
وقد انتشر في الآونة الأخيرة ظهور بعض القنوات المخلة بالآداب الإسلامية وكان سبب انتشارها بيع الأجهزة المستقبلة لها في السوق السوداء دون أي تبعات أمنية من قبل السلطة.
__________
(1) 1 - مثل : قناة المحبة ، وقناة الكرامة ، وقناة الروح، وقناة الشفاء، وقناة سات 7، وقناة نور سات، وقناة معجزة.
(2) 2 - أنظر الفضائيات العربية التنصيرية ، تركي الظفيري ص 48-49. بتصرف(1/12)
وإذا شاهد الأبناء هذه القنوات المستوردة وعكفوا على مشاهدة هذا العفن الفني وتلك البرامج الهابطة والتي تُسَيَّر وفق منهج الفكر الغربي، جعلتهم كالكائن الآلي التي تحركه غرائزه المظلمة المتكونة داخله جرّاء المشاهدة المستميتة لهذه القنوات ، حتى تورثه علاقات تناقض وصراع لا علاقات انسجام وعبودية.
ولعلك تفترض أيها الأب اللبيب أن يتولى تربية أهلك وأبناءك غيرك .. فالحذر الحذر فإنها أمانة التربية ومسؤولية القوامة ، وأنت مسؤول عن رعيتها أو إضاعتها . وليس المجال هنا حديثاً مكتملاً عن القنوات الفضائية وبيان خطرها إنما هي إشارة إلى أمر خطير ينبغي التنبه له.
قبل ما يقرب ثلاثين عاماً لم يعرف العالم ما يسمى (بالشبكة العنكبوتية) أو ( الإنترنت) بل حتى الحاسبات الشخصية لم تظهر إلا في الثمانينات الميلادية.
والعاقل لابد أن يعي ما تحمل هذه الشبكة من مغريات وفتن كي يصبح حذراً في متابعة من يعول ، ولعلي أجعلك أيها الأب تقف مع هذه الإحصائيات الخطيرة ولغة الأرقام أحياناً تغني عن لغة البيان :
بلغت مجموعة مشتريات مواد الدعارة في الإنترنت إلى 8% من التجارة الإلكترونية ، والبالغ دخلها 18 مليار دولار، كما بلغت مجموعة الأموال المنفقة على الدخول على الصفحات الإباحية 970 مليون دولار، وكان من المتوقع أنها تبلغ ثلاث مليارات دولار ، وهذه الصفحات تتكاثر بشكل مهول تبلغ مئات الصفحات الإباحية الجديدة في الأسبوع الواحد، وكثير منها تؤمن هذه الخدمة مجانا(1).
وقد يستدرك البعض بوجود نظام الترشيح في كثير من الدول ، وهذا بلا شك يقلل من خطر هذه الوسيلة ولكنه لا يفي بالنقاء الكامل حيث انه يمكن الوصول بطرية أو بأخرى لهذه المواقع.
__________
(1) - أنظر الإباحية وتباعاتها ،د/ مشعل القدهي ص 36.(1/13)
وثمة أمر آخر في غاية الأهمية ( يفيد به فريق الترشيح الوطني ، أنه خلال السنوات القريبة الماضية بدأت الصفحات الإباحية المتخصصة ببنات وأبناء المسلمين بالظهور ، وهذا مؤسف ومخجل ، وكثيراً ما يتم محاولة إخفائها في صفحات أخرى وخلف نظام اشتراكات ، كما يفيد الفريق المذكور بان المصدر الأساسي لهذه الإباحية في الوقت الحاضر هو كاميرات الجوالات وخدمات الدردشة المصورة ، حيث يقوم الشباب والشابات بتصوير مشاهد التعري بهذه الوسائل ثم يتم تحميل تلك المشاهد إلى الإنترنت أو تبادلها مباشرة في الطرقات العامة باستخدام تقنية "بلوتوث" الخاصة بالجوالات مما يساعد على انتشارها )(1). وبدأنا نسمع في مجتمعنا المحافظ بمدمني المواد الإباحية ، فهم أشبه ما يكونوا بمدمني المخدرات والمسكرات ، فبعد حين من الزمن يجدون أنهم لا يتمالكون أنفسهم أمام هذا البلاء .
وهنا يأتي دور الأب المربي مع أبنائه في ترشيد استخدام هذه الوسيلة ، ومتابعة الأبناء ذكوراً وإناثاً متابعةً دقيقة أثناء جلوسهم على أجهزة الحاسوب مع محاولة جعل جهاز الحاسب المتصفح للإنترنت في مكان بارز في المنزل وغير منزوي ويكثر المرور من حوله ، لئلا يكون هناك جواً مهيئاً للابن للتفتيش عن هذه المواقع ، وقد يكون من المناسب لرب الأسرة الاشتراك في مرشد الخدمة أو ما يسمى ( بالبطاقة الخضراء )وهي ذات صفحات مخصصة ومفيدة وخالية من كل ما يخدش الحياء .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لكل بني آدم حظ من الزنا ، فالعينان تزنيان وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي ، والفم يزني وزناه القبل ، والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أيكذبه"(2).
__________
(1) - المرجع السابق ص : 118.
(2) -رواه أحمد في مسنده ، ورواح البخاري ومسلم بلفظ قريب من هذا اللفظ.(1/14)
ومما يجدر التنبيه إليه وهو في الحقيقة مرضٌ بدأ يستشري في مجتمعنا ، قضية ارتباط حبال الزوجية عن طريق الإنترنت أو عبر مراسلات بالبريد الإلكتروني ، فحذاري أيها الأب المبارك أن يقع ابنك أو تقع أبنتك ضحية الزواج عبر هذه الشبكة ، ولم أنبه على ذلك إلا بسبب تفشي هذا النوع من الزواج ورضوخ عدد من الأباء له جراء ما يلاقونه من العنوسة المتفشية في الآونة الأخيرة.
وقد أضحى هذا الزواج ظاهرة مرضية تستوجب الرصد والمتابعة ، وإن كان غالباً ما يبوء بالفشل .
(وقد كشفت أرقام رسمية صادرة عن وزارة التخطيط السعودية عن أن المجتمع السعودي بدأت تتفشى فيه ظاهرة العنوسة وتأخر سن الزاج ، وتؤكد أحدث الإحصائيات المتوفرة أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي ثلث عدد الفتيات السعوديات اللاتي في سن الزواج وهي نسبة مخيفة إلى حد كبير)(1)
فعلى الأب أن يراجع نفسه مرات ومرات وألا يرضى بهذا الزواج تحت ضغط الواقع ، أو ما يمليه عليه واقع ابنه أو ابنته المتأخرة في الزواج.
لعلك أخي القارئ يا من أصبحت أباً أن تتأمل في وصية عبد الله بن شداد إلى ابنه قبل وفاته ، لتجد فيها كلمة جامعة لأصول التربية الأبوية ..
لما حضرت عبد الله بن شداد بن الهاد الوفاة دعا ابنا له يقال له محمد ، فقال : يا بني ، إني أرى داعي الموت لا يقلع ، وأرى من مضى لا يرجع ، ومن بقي فإنه ينزع وإني موصيك بوصية فاحفظها : عليك بتقوى الله العظيم وليكن أولى الأمور بك شكر الله وحسن النية في السر والعلانية ، فإن الشكور يزداد ، والتقوى خير زاد ، وكما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ *** ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً *** وعند الله للأتقى مزيد
وما لابد أن يأتي قريب *** ولكن الذي يمضي بعيد
__________
(1) - الشبكة وغزل الأشباح .د/ عبد الفتاح الفنتوخ. ص: 49-50.(1/15)
ثم قال : أي بني، لا تزهدن بمعروف فإن الدهر ذو صروف، والأيام ذات نوائب ،وعلى الشاهد والغائب ، فكم من رغب وكان مرغوباً إليه وطالب أصبح مطلوباً ما لديه ، وأعلم أن الزمان ذو ألوان ومن يصخب الزمان يرى الهوان ، فكن بُني كما قال الأسود الدؤلي :
وعد من الرحمن فضلاً ونعمة *** عليك إذا ما جاء للعرف طالب
وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده *** يكن هيناً ثقيلاً على من يصاحب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالباً *** فإنك لا تدري متى أنت راغب
رأيت التوا هذا الزمان بأهله *** وبينهم فيه تكون النوائب
ثم قال: أي بني، كن جواداً بالمال في موضع الحق ، وبخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق ، فإن أحمد جود المرء : الإنفاق في وجه البر ، وإن أحمد بخل الحر : الضمن بمكتوم السر، وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري:
أجود بمكنون التلاد وإنني *** بسرك عمن سألني لضنين
إذا جاوز الاثنين سر فإنه *** بنت وتكثير الحديث قمين
وعندي له يوماً إذا ما ائتمنتني *** مكان بسوداء الفؤاد مكين
ثم قال : أي بني، إن غلبت يوماً على المال فلا تدع الحيلة على حال ، فإن الكريم يحتال ، والدني عيال ، وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً ، وأقل ما تكون في الباطن مالاً ، فإن الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عنده الإنفاذ نعمته، وكن كما قال ابن خذاق العبدي:
وجد أبي قد أورثه أبوه *** خلالاً قد تعد من المعالي
فأكرم ما تكون علي نفسي *** إذا ما قل في الأزمات مالي
فتحس سيرتي وأصون عرضي *** ويجمل عند أهل الرأي حالي
وإن نلت الغنى لم أغل فيه *** ولم أخصص بجفوني الموالي
ثم قال : أي بني، وإن سمعت كلمة من حاسد ، فكن كأنك لست بالشاهد ، فإنك إن أمضيتها حيالها ، رجع العيب على من قالها ، وكان يقال : الأريب العاقل ، هو الفطن المتغافل، وكن كما قال حاتم الطائي:
ومال من شيمتي شتم ابن عمي *** وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد في غير جرم *** سمعت فقلت مري فانفذيني(1/16)
فعابوها علي ولم تسوئني *** ولم يعرق لها يوماً جبيني
وذو اللونين يلقاني طليقاً *** وليس إذا تغيب يأتليني
قال أبو علي: ما ألوت : ما قصرت، وما ألوت يعني ما استطعت
سمعت بعيبه فصفحت عنه *** محافظة على حسبي وديني
قال أبو علي: ويروى : سمعت بغيبة . ثم قال : أي بني، لا تواخ امرأً حتى تعاشره ، وتتفقد موارده ومصادره، فإذا استطعت العشرة ، ورضيت الخبرة ، فواخه على إقالة العثرة ، والمواساة في العسرة ، وكن كما قال المقنع الكندي:
أُبل الرجال إذا أرت إخاءهم *** وتوسمن فعالهم وتفقد
وفيه ظفرت بذي اللبابة والتقى *** فيه اليدين قرير عين فاشدد
وإذا رأيت ولا محالة زلة *** فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد
ثم قال:أي بني، إذا أحببت فلا تفرط ، وإذا أبغضت فلا تشطط، فإنه قد كان يقال : أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
وكن كما قال هدبه بن الخشرم العذري:
وكن معقلاً للحلم واصفح عن الخنا *** فإنك راء ما حييت وسامع
وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً *** فإنك لا تدري متي أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً *** فإنك لا تدري متى أنت راجع
وعليك بصحبة الأخيار وصدق الحديث ، وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار، وكن كما قال الشاعر:
اصحب الأخيار وراغب فيهم *** رب من أصحبته مثل الجرب
ودع الناس فلا تشتمهم *** وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب
إن من شاتم وغدا كالذي *** يشتري الصفر بأعيان الذهب
واصدق الناس إذا حدثتهم *** ودع الناس فمن شاء كذب
فما أجمل أن يزود كل أب عاقل ابنه بمثل تلك الآداب وهذه الوصايا القيمة.(1/17)
حث الاسلام قولاً وعملاً على رعاية البنات والصبر عليهن ورحمتهن واستشعار الأجر المترتب على تربيتهن , فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فعن أبي هريرة رضى الله عنة قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : " من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن , وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته , كن له حجاباً من النار يوم القيامة " (1)
بل وصل حرص النبي صلي الله علية وسلم على رعاية البنات والعناية بتربيتهن إلى أن يكون من قام برعاية بناته واحتسب في ذلك أن يكون مصاحباً له في الجنة , فعن أنس رضى الله عنة قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : " من عال جاريتين حتى تدركا دخل الجنة , أنا وهو كهاتين وأشار بإصبعية السبابة والوسطي" (2)
هذا من الجانب القولي , أما أذا تأملنا في الجانب العملي والذي نُقل لنا من فعله عليه الصلاة والسلام إنما هو حثٌ على إيثار البنات على النفس والحث على رحمتهن والشفقة عليهن فقد روت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قولها : " دخلت امرأة معها ابنتان تسألني فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة , فأعطينها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت , فدخل النبي صلى الله علية وسلم علينا فأخبرته فقال : " من ابتلى من هذه البنات بشيء كن له ستراً من النار " , (3)
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يستقبل ابنته فاطمة ويمشي معها وكان إذا رآها رحب بها وقال " مرحبا بابنتي " ثم يجلسها عن يمينه أو شماله " (4)
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا دخلت عليه فاطمة ابنته قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها مجلسه.."(5)
__________
(1) 1 -صحيح الجامع الصغير . للألباني برقم : 6488 .
(2) 2- صحيح الجامع الصغير للألباني برقم 6391
(3) 3 - رواة البخاري ومسلم والترمذي وانظر صحيح الجامع الصغير برقم 5932
(4) 4 - رواة مسلم باب فضائل فاطمة من حديث عائشة برقم 2450
(5) 5 - رواة أبو داود والترمذى(1/18)
وروى البخاري عن البراء رضي الله عنة أنه قال : " ... فدخلت مع أبى بكر على أهله فإذا عائشة أبنته مضطجعة قد أصابتها حمى , فرأيت أباها يقبل خدها , وقال : كيف أنت يابُنية "
فلابد إذن من إشعار البنت بالأبوة والحنان ، وقد تكون أكثر من الابن حاجة إلى ذلك ، وما اجمل أن يحسن الأب تعامله مع بناته ، وأن يكون له معهن جلسات هادفة ، يستغلها بما ينفعهن في الدنيا والآخرة كلما جاءتهن متغيرات الحياة وصوارف الأيام، استغل هذه الجلسات بتذكير ونصح وبقصة يبين فيها العظة والعبرة..، ولعلي أقف معك أيها الأب الموفق بعض الوقفات السريعة وألمح معك بعض اللمحات اللطيفة حول موضوع تربية البنات وخاصة في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه الفتن واتسع فيه الخرق على الراقع في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: ابنتك وكتاب الله.
درج كثير من الآباء االمربين على تنشئة أبنائهم على حفظ القرآن الكريم وتعظيمه في نفوسهم ، وتحفيزهم على حفظه كاملاً أو بعضه ، وركز بعض الأباء على السور ذات الإيحاء التربوي كسورة النور وسورة لقمان وسورة الحجرات.. وألحقوا أبناءهم بحلق تحفيظ القرآن ، وهذا بلا شك محمدة جميلة يشكر عيها كل أب حمل على عاتقه مسؤولية تربية أبنائه.
ولكن بعض الأباء هداهم الله نسوا أو تناسوا أو لنقل انشغلوا عن الاهتمام بتربية بناتهم على حفظ كتاب الله والتركيز على ذلك ، وهذا بحق يعد تقصيراً ينبغي أن يدركه كل أب عاقل يسعى جاهداً أن يغرس حب القرآن وتعاليمه في قلوب أبناءه جميعاً ولا يفرق في ذلك بين الأبناء والبنات.(1/19)
وفي هذا الوقت انتشرت ولله الحمد مدارس تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء والفتيات ، وتكثفت جهود ثلة مباركة من الداعيات على تأسيسها والإشراف عليها وفق آلية موحدة وأهداف مرحلية تناسب الفئة العمرية للمشاركات في هذه الحلقات المباركة ، وبدأنا نسمع عن بعض المناشط النسوية داخل هذه الدور مما يبشر بخروج نبتة صالحة وجيل مترب على آداب القرآن ومحاسن الأخلاق ، فينبغي للأب الحريص على تربية أبنائه إلحاق من يعول في هذه الحلقات وعدم التردد في ذلك أو التسويف بذريعة مشاغل الحياة اليومية.
وإذا تأملت معي يا من استرعاك الله رعية ، حال أمهات المؤمنين أو نساء السلف وبناتهم اللاتي خلد التاريخ ذكرهن وجدت أن الحال مختلف تماماً عما عليه بعض نسائنا اليوم ، وكأن واقع الأمس أصبح عندهم أمراً مستبعداً اليوم.
الوقفة الثانية: ابنتك وتعليمها ما ينفعها.
لزاماً على كل أب أن يعلم أنه يجب عليه وعلى من يعول ، بل يجب على كل رجل وامرأة عل وجه هذه الخليقة أن يتعلم ما يمكّنه من أداء ما يجب عليه لتحقيق العبودية لله تعالى ، والقاعدة الشرعية تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
والمرأة خصوصاً في هذا الزمن محتاجة إلى أن تتعرف على معتقد أهل السنة والجماعة ، وفقه الحلال والحرام وأن تحفظ من القرآن ما تقرأه في صلاتها على اقل تقدير.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" طلب العلم فريضة على كل مسلم"(1)
ولم يخص أحد من أهل العلم من شراح هذا الحديث بأن المراد من الفريضة في الحديث الرجال خاصة دون النساء، فالكل مخاطب بذلك.
__________
(1) -صحيح الجامع الصغير للألباني . برقم 3914.(1/20)
وقد بوب البخاري في صحيحه ( باب تعليم الرجل أمته وأهله) ومعلوم أن فقه الإمام البخاري رحمه الله في تبويبه وساق تحت هذا الباب حديث أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثلاثة لهم أجران، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأمن بمحمد صلى الله عليه وسلم والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران"
وهذا شاهد واضح الدلالة من السنة النبوية يدل على حق النساء في التعليم وحثهن عليه.
وفي دراسة حديثة لباحث مسلم في مركز (أوكسفورد) للدراسات الإسلامية في بريطانيا أسمه محمد أكرم ندوي، وضع فيها قاموساً للمحدِّثات المسلمات ، وكان يعتقد الباحث حين بدأ إعداد هذا البحث أنه لن يهتدي إلى أثر أكثر من عشرين أو ثلاثين منهن ، وقادته رحلة بحثه إلى اكتشاف أكثر من ثمانية آلاف محدثة ، وأفضى به البحث إلى محدثة مصرية في القرن الثاني عشر أذهلت طلبتها من الرجال بحفظها نصوصاً تعادل حمل جمل!!.
وعثر أيضاً على سيرة محدثة أخرى برعت في تدريس علم الحديث في المدينة المنورة في القرن الخامس عشر وإلى عالمة في المدينة كذلك بلغت مرتبة الفقهاء في القرن السابع وكانت تفتي في شؤون الحج والتجارة فعلينا ألا نغفل ما نجده عند بناتنا من فهم وقوة حفظ وإدراك وأن نستغله قبل أن يضيع فيما لا ينفع.(1/21)
وهذه الدراسة تذكرنا بالجيل الأول في عهد النبوة ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله ، قال:"اجتمعن يوم كذا وكذا : فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهن مما علمه الله ثم قال :" ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابا من النار" فقالت امرأة:واثنتين واثنتين واثنتين ، فقال رسول الله :"واثنتين واثنتين واثنتين" .
الوقفة الثالثة: وأمر أهلك بالصلاة.
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والله عز وجل يقول :{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}[طه:132].
فالآية عامة للذكر والأنثى والصغير والكبير.
فالواجب على الأب أن يبدأ مع أولاده بتعويدهم من السن السابعة ، ويستمر معهم على هذه الشعيرة ويحرص ألا تنقطع بسن معين أو بعارض زائل.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في بيان هذه الآية: ( أي: حيث أهلك على الصلاة ، وأزعجهم إليها من فرض أو نفل والأمر بالشيء أمر بجميع ما لا يتم إلا به فيكون أمراً بتعليمهم ما يُصلح الصلاة بإقامتها بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها ، فإن ذلك مشق على النفس ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك والصبر معها دائماً فإن العبد إذا ما أقام صلاته على الوجه المأمور به كان لما سواها أضيع ، ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق فقال:{نحن نرزقك}أي رزقك علينا قد تكفلنا به كما تكفلنا بأرزاق الخلائق كلهم فكيف بمن قام بأمرنا واشتغل بذكرنا بما يجلب السعادة الأبدية وهو التقوى . ولهذا قال :{والعاقبة} في الدنيا والآخرة {للتقوى} التي هي فعل المأمور وترك المنهي عنه فمن قام بها كانت له العاقبة كما قال الله تعالى:{والعاقبة للمتقين}[العراف:128])(1).أ.هـ
__________
(1) 1 - تيسير الكريم الرحمن. ص :517.(1/22)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، حول هذا المعنى :(ومن كان عنده صغيرٌ مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير ، ويعزر الكبير على ذلك تعزيراً بليغاً ؛ لأنه عصى الله ورسوله)(1).
الوقفة الرابعة: حينما تريد تزويج ابنتك.
حين تصل الفتاة سن البلوغ يبدأ التفكير لديها في الزواج ، وتبدأ خواطر النفس في بيت الزوجية وكنهه ، وهذا التفكير الجبلي والمتوقع حدوثه من المناسب استغلاله لئلا نُلجأ بناتنا في هذا السن في التفكير فيما لا تُحمد عقباه ، فنحن في زمان فتن متلاطمة، وإعلام مرئي ومقروء هادم للأخلاق ؛ ومحرض على السلوك السلبي ، فالمصلحة والعقل تقتضيان تزويج البنت عند سن البلوغ.
وحسبنا قدوة في ذلك زواج رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حيث عقد عليها وهي بنت ست سنوات ، ودخل عليها وهي بنت تسع"(2)
(فيحسن تنبيه الأبناء إلى احتساب الأجر في هذا الزواج وأنهم إنما تزوجوا طلباً للعفة ، وتكوين بيت مسلم، وإنجاب ذرية صالحة ، ينتج عنها جيل صالح يكون بإذن الله عز وجل سبباً في عز الإسلام والمسلمين)(3).
فعليك أيها الأب المبارك عندما تبلغ ابنتك سن الزواج أن تراجع نفسك في جوانب مهمة هي في الحقيقة بمثابة أمراض تستشري وتفت من عضدك.
* فمن ذلك تأخير زواج البنات بحجة إكمال الدراسة أو حتى تنضج ويكمل عقلها أو غير ذلك من الحجج الواهية والمتهافتة، ولا شك أن تبكير الولي أو الأب بتزويج ابنته يعد موافقة لمقاصد الشريعة التي أمرت بحفظ الأمانة ومراعاة المصالح والمفاسد وهو كذلك أحفظ لأخلاقها ، وأدعى إلى صيانتها، وإشعارها بالمسئولية، وهو أولاً وأخيراً يعتبر موافقة للفطرة التي سن الله بني آدم عليها.
__________
(1) 2 -مجموع فتاوى بن تيمية.22/50.
(2) 3 - صحيح البخاري(7/264).
(3) 4 - التعامل مع البنات. نورة السعيد. ص:59
.(1/23)
فليكن شغلك الشاغل أيها الأب تزويج أبنائك عند بلوغهم السن المعتبرة للزواج ، ففي عملك هذا محافظة عليهم من الوقوع في الزلل.
* ومن ذلك التساهل في اختيار الزوج ، فعلى الأب أن يتقي الله في اختيار الزوج الكفء لموليته، وعليه باختيار الزوج الصالح الذي يحفظ ابنته وأولادها من بعد زواجها.
قال عليه الصلاة والسلام:"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(1)
وعند البخاري :" مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا: حري- أي حقيق وجدير- إن خطب أن ينكح ، وأن شفع يشفع ، وإن قال يستمع ، ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : حري إن خطب ألا ينكح ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال ألا يستمع ، فقال رسول الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا."
وقال رجل للحسن : من أزوج ابنتي ؟ قال: ممن يتقي الله ؛ فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقال الشعبي: من زوج ابنته فاسقاً فقد قطع رحمه.
* ومن ذلك المغالاة في المهور، وقد حرص الإسلام على توجيه الناس إلى عدم المغالاة والإقلال في المهور.
فليس المهر تجارة ولا طريقاً للربح ، أو وسيلة لسداد الديون ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، - وأن كان في سنده مقال- :" أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة "(2)
وقال عروة : من أول شؤمها أن يكثر صداقها.
وفي المقابل فإن المهر المسمى في العقد سواء قل أو كثر يجب الوفاء به ، وهو حق ثابت للمرأة . قال الله تعالى:{وإن أرتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً }[النساء:20].
__________
(1) 1 -رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في السلسة الصحيحة.
(2) 1 -رواه احمد (44595) والبيهقي والحاكم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم 1117.(1/24)
وهذه الآية هي التي احتجت بها امرأة في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر قائلا:( ألا تغالوا في صدقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله في الآخرة ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية- أي من الفضة(1)- فمن زاد على أربع مئة شيئاً جعلت الزيادة في بيت المال)(2).
حينما تقرأ في ما كتب في فن علم النفس تجد من يتكلم من منَّظري هذا العلم عن تربية وتنشئة الأبناء ، والتمايز بينهم في أطوارهم المختلفة مع مزية كل مرحلة من الطفولة إلى الشيخوخة، وحينما تفتش في كتب الإدارة ، تجد أنهم يتحدثون عن الإدارة الأسرية وكيفية إدارة الأبناء والتفنن في طرق التدابير المناسبة لإدارة المنزل ، وحينما تطلع على ما قيل في دواوين الشعر ، تجد أن الوجدانيات وما قيل في مدح الآباء والأمهات ومن أنشد في أبنائه ومن رثا أحدهم قد ملئت أوراق وقراطيس كثير من الأدباء.
وهكذا يتجزأ الحديث عن هذا الموضوع الحيوي والمتجدد بتجدد وسائل التربيةوصوارفها.
لكن يبقى الأمر المهم والثمرة المرجوة، وهي أن تجد هذه الأصول التنظيرية أرضية في الواقع تصل إلى الأبناء والبنات بدون مشقة ولا تشدق.
وهذا برامج عملي في نهاية هذه الرسالة ليضع النقاط على الحروف، وليتمم حلقات هذا الموضوع المهم:(3)
الإخلاص والاجتهاد في تربية الأبناء والاستعانة بالله عز وجل في ذلك ، وهو منهج إبراهيم عليه السلام وامرأة عمران ، وإعانة الأولاد على البر وحسن الخلق.
__________
(1) 2 - الأوقية: أربعون درهما من الفضة.
(2) 3 - مجمع الزوائد: 4/283 وما بعدها.
(3) 1 -تم الاستفادة من أغلب هذا التطبيق من مقال ، بعنوان : التربية بين طموح الآباء وواقع الأبناء ، وهو منشور في موقع (الألوكة) على الشبكة العنكبوتية.(1/25)
الدعاء للأبناء وتجنب الدعاء عليهم ، فإن كانوا صالحين دعا لهم بالثبات والمزيد ، وإن كانوا طالحين دعا لهم بالهداية والتسديد.
غرس الإيمان والعقيدة الصحيحة والقيم الحميدة والأخلاق الكريمة في نفوس الأبناء وخير مصدر لذلك هو الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
تجنيبهم الأخلاق الرذيلة وتقبيحها في نفوسهم ، فيكرِّه الوالدان لأبنائهم الكذب والخيانة والحسد والحقد الغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والأثرة والكسل والتخاذل وغيرها من سفاسف الأخلاق والأفعال حتى ينشأوا مبغضين لها نافرين منها.
تعليمهم الأمور المستحسنة وتدريبهم عليها مثل : تشميت العاطس ، وكتمان التثاؤب، والأكل باليمين، وآداب قضاء الحاجة ، وآداب السلام ورده، وآداب استقبال الضيوف ، والتعاون، والبحث عن المعرفة .. فإذا تدرب الأبناء على هذه الآداب والأخلاق والأمور المستحسنة منذ الصغر ، ألفوها وأصبحت سجية لهم في سني عمرهم القادمة.
الحرص على تحفيظهم كتاب الله ، وتحصينهم بالأذكار الشرعية وتعليمهم إياها ، واصطحابهم في رحلات إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وإلى مجالس الذكر والمحاضرات الدينية التي تقام في المساجد.
الحرص على تعليمهم بالقدوة فلا يسلك الوالدان أو أحدهما مسلكاً يناقض ما يعلمهم ويحثهم عليه ؛ لأن ذلك يجعل جهودهم لا تحقق ثمارها وتفقد نصائحهم أثرها.
تنمية الجرأة الأدبية وزرع الثقة في نفوس الأبناء وتعويدهم على التعبير عن آرائهم حتى يعيش كل منهم كريماً شجاعاً في حدود الأدب.
تعويد الأبناء على القيام ببعض المشاركات الاجتماعية ، وذلك بحثهم على المساهمة في خدمة دينهم ومجتمعهم وإخوانهم المسلمين ، إما بالدعوة إلى الله أو إغاثة الملهوفين ، أو مساعدة الفقراء والمحتاجين.
تدريبهم على اتخاذ القرار وتحمل ما يترتب عليه ، فإن أصابوا شجعوا وشُد على أيديهم وإن أخطأوا قُوموا وسددوا بلطف.(1/26)
تخصيص وقت للجلوس مع الأبناء مهما كان الوالدان مشغولين ، فلا بد من الجلوس الهادف معهم لمؤانستهم وتسليتهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه ، فهذه الجلسات الهادفة لها من الآثار الجانبية مالا حصر له من الشعور بالاستقرار والأمن وهدوء النفس والطباع.
الإصغاء إليهم إذا تحدثوا وإشعارهم بأهميتهم وأهمية ما يقولون مهما كان تافهاً في نظر الوالدين ، وقد قيل: أنصت لأبنائك ليحسنوا الإنصات لك .
تفقد أحوالهم ومراقبتهم عن بعد ، ومن ذلك ملاحظة مدى أدائهم للشعائر الدينية والسؤال عن أصحابهم ، وملاحظة مدى استخدامهم للهواتف وملاحظة ما يقرؤونه أو ما يشاهدونه أو يتعاملون معه في الإنترنت وتحذيرهم من البرامج أو المجلات أو المواقع التي تفسد دينهم وأخلاقهم وإرشادهم إلى بدائل نافعة.
تهيئة الظروف المناسبة لإحاطة الأبناء بالصحبة الصالحة وتجنيبهم رفقة السوء ، وخاصة في مرحلة المراهقة وإكرام الصحبة الصالحة للأبناء .
التركيز على إيجابيات الأبناء وإظهارها والإشادة بها وتنميتها والتغافل – لا الغفلة - عن بعض ما يصدر منهم من عبث أو طيش ، والبعد عن تضخيم الأخطاء بل عليهم أن ينزلوها منازلها ويدركوا أن الكمال لله وحده.
إعطاء الأبناء فرصة لتصحيح أخطائهم ؛ لينهضوا للأمثل ويتخذ الوالدين من ذلك الخطأ سبيلا لتدريب الأبناء على حل مشاكلهم.
العناية باختيار المدارس المناسبة للأبناء والحرص على متابعتهم فيها.
العدل بين الأبناء ، فقد يكون أحد الأبناء أكثر تحبباً لوالديه وقد يجد الأب هذه الصفة محببة إليه فينجذب لمن يمتلكها من أبنائه وهذا خطأ كبير قد يؤذي بقية الأبناء نفسياً.
عدم تربية الأبناء على الترف الزائد والتنعم والبذخ ، حتى لا ينشأ الأبناء مترفين منعمين همهم أنفسهن وحسب.
أن يختار الأب لابنته الزوج المثالي ، ليس بمقاييس البشر من المال والمنصب والشهرة وإنما بمقاييس الشرع وبميزان العدل.(1/27)
عندما تريد ابنتك الزواج ، اجتمع معها وحاول إفهامها بأنه لا مهرب لأحدهما من أن يكون سبب سعادة الآخر، وأخبرها بوجوب طاعة زوجها وعدم المبالغة في الغيرة ، ونصحها بالطاعة له والصدق والأمانة والقناعة في الأمور كلها.
تنمية مهاراتهم العقلية ، مثل التفكير الناقد ، والتحليل للأمور ، وإدراك النتائج المترتبة على سلوكياتهم وتحمل مسئوليتها.
ربطهم بما يجري في مجتمعهم وفي العالم من أحداث ، ومناقشتهم وتوضيح دورهم الإيجابي الذي يمكن أن يساهموا به لعزة الإسلام والمسلمين.
عدم اليأس إذا ما رأى الوالدين من أبنائهم إعراضاً ونفوراً أو تمادياً ، فعليهم ألا ييأسوا من صلاحهم واستقامتهم ، فاليأس من روح الله ليس من صفات المؤمنين وليتذكر الوالدين أنفسهم بضرورة عدم استعجال النتائج ، بل عليهم الصبر والمثابرة مع الاستمرار في العمل والدعاء لهم والحرص عليهم ؛ فقد يستجيب الله لهم ولو بعد حين.
أن يدرك الوالدين أن النصح لا يضيع ، فهو بمثابة البذر الذي يوضع في الأرض والله عز وجل يتولى سقيه ورعايته وتنميته، فالنصح ثمرته مضمونة بكل حال: فإما أن يستقيم الأولاد في الحال ، وإما أن يفكروا في ذلك ، وإما أن يقصروا بسببه عن التمادي في الباطل أو أن يعذر الإنسان إلى الله.
استحضار فضائل التربية في الدنيا والآخرة ، هذا مما يعين الوالدين على الصبر والتحمل ، فإذا صلح الأبناء كانوا قرة عين لهم في الدنيا وسبباً لإيصال الأجر لهم بعد مماتهم ، ولو لم يأت الوالدين من ذلك إلا أن يَكْفي شرهم ويسلم من تبعيتهم.
استحضار عواقب الإهمال والتفريط في تربية الأبناء والتي منها : أن الوالدين لن يسلما من أي أذى يرتكبه الأبناء في الدنيا وسيكون سبباً لتعرضهم للعقاب في الآخرة.
**************
أيها الأب المربي:
هذا هو المنهج النبوي في تربية أولادك ، وهذه هي النصيحة التي أبعثها لك في طريق تقويم وإصلاح أبنائك وهدايتهم.(1/28)
فالله الله بالشعور بالمسئولية ، واستشعار التبعة ، فقد قال الله تعالى:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}[التوبة :105]
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
القرآن الكريم.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، للسعدي.
تربية الأبناء في الإسلام، د/ عبد الله علوان
فتح الباري شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني.
صحيح مسلم بشرح النووي.
السلسلة الصحيحة والضعيفة ، للعلامة ناصر الدين الألباني.
تحفة المولود، لابن القيم.
منهج التربية الإسلامية ، لمحمد قطب.
حقوق الأبناء على الآباء في الشريعة الإسلامية، لمحمد يحيى عطيف.
التعامل مع البنات، نورة محمد السعيد.
تذكير العباد بحقوق الأولاد للشيخ عبد الله آل جار الله.
بصمات على ولدي، طيبة اليحيى.
الفضائيات العربية التنصيرية، تركي الظفيري.
الإباحية وتبعاتها، د/ مشعل القدهي.
الشبكة وغزل الأشباح، د/ عبد القادر الفنتوخ.
الموضوع ... رقم الصفحة
قبل البداية ... 3
حكمة الإنجاب ... 5
أمانة التربية ... 6
تشجيع الأبناء ... 10
العدل في النفقة على الأبناء ... 11
فن الترف ... 12
أبناؤك وغثاء القنوات الفضائية ... 14
أبناؤك والشبكة العنكبوتية ... 17
نموذج وصية الوالد المربي ... 19
حتى لا تكون أبنتك ريشة في مهب الريح ... 22
ابنك وكتاب الله ... 23
ابنتك وتعليمها ما ينفعها ... 24
أمر أهلك بالصلاة ... 25
حينما تريد تزويج ابنك ... 26
تأخير زواج البنات بحجج واهية متهافتة ... 27
التساهل في اختيار الزوج
المغالاة في المهور ... 27
التطبيق العملي لتربية الأبناء ... 29
الخاتمة ... 34
المراجع ... 35
الفهرس ... 36(1/29)