سلسلة أعمال القلوب
للشيخ : خالد بن عثمان السبت
بسم الله الرحمن الرحيم
الأعمال القلبية لها منزلة وقدر، وهي في الجملة أعظم من أعمال الجوارح، وتناولها والتفقه فيها من المقاصد وليس من الوسائل؛ لذا كان لزاما بيان أهميتها ومنزلتها وموقعها في نصوص الوحيين، وبيان آثار صلاح أعمال القلب وفسادها على العبد في الدنيا والآخرة، مع تناول أمثلة من الأعمال القلبية التي لها منزلة خاصة كالإخلاص واليقين بالدراسة والتفصيل..وهذا بعض ما تناولته هذه السلسلة من أعمال القلوب .
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا فَمَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ،،،
فإن الأعمال القلبية لها منزلة وقدر، وجلالة ومكانة عظيمة في الدين؛ فهي في الجملة أعظم من أعمال الجوارح- كما سيتبين لنا إن شاء الله تعالى- ثم إن هذا الموضوع موضوع يتعلق بعضو شريف وهو القلب، وهو ملك الجوارح، ولاشك أن شرف العلم بشرف متعلقه، فالعلم الذي يتعلق بالقلب أشرف من العلم الذي يتعلق بغيره، وحديثنا عن ملك الجوارح وعن الأعمال المتعلقة به .
ثم أيضاً: هذا الموضوع الجليل العظيم هو من المقاصد وليس من الوسائل، ونحن في كثير من الأحيان ندرس أصول الفقه، ومصطلح الحديث، وندرس النحو كل ذلك من أجل أن يكون مرقاة للفقه في الدين، وإن أعظم الفقه، ومن أجله هو ذلك الفقه المتعلق بالأعمال القلبية .(1/1)
وطالما حدثتني نفسي منذ سنين متطاولة أن أتحدث عن هذا الموضوع، وأن أتشاغل به، وأن أحث الإخوان على دراسته والنظر فيه، وأحمد الله عز وجل أن هيأ لنا هذه الفرصة لنتدارسه وإني منشرح الصدر بذلك، ولا أستخسر وقتاً أقضيه في الحديث عن أعمال القلوب، بل إني أجد هذه المجالس هي من أرجح المجالس، ومن أعظمها ومن أشرفها وأجلها، وأسأل الله عز وجل أن يرزقنا فيها نية صالحة، فإن قلوبنا إن صلحت؛ صلحت أعمالنا، وصلحت أحوالنا، وارتفعت كثير من مشكلاتنا. وإن فسدت هذه القلوب- التي هي القائدة للأبدان والجوارح- ؛ فسدت أعمال العبد، واضطربت عليه أحواله، ولم يعد يتصرف التصرف اللائق الذي يرضي ربه ومولاه؛ فخسر في الدنيا وخسر في الآخرة .
· حديثنا في هذه المقدمة في تسع نقاط وهي:
أولاً:تحديد المراد بالقلب .
ثانياً:منزلة القلب .
ثالثاً:الموازنة بين القلب وبين السمع والبصر-وهي من أشرف الأعضاء والمنافع والحواس-.
رابعاً:الأمور التي يتم به إصلاح القلب .
خامساً:الأمور التي تفسده .
سادساً:مرادنا بأعمال القلوب .
سابعاً:أحكام الأعمال القلبية من حيث الثواب والعقاب .
ثامناً:أهمية الأعمال القلبية، والمفاضلة بينها وبين أعمال الجوارح .
تاسعاً: لزوم العناية بأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأحوال الناس في ذلك .
الأمرالأول: وهو تحديد المراد بالقلب : والمقصود بهذا الاستفهام هو بيان العضو المسئول عن التأثر والاستجابة الشعورية، وعن المحل الذي يحصل به التعقل والتفكير والفهم، وعن المحل الذي يحصل به العقل والتدبر والإخبات والتوكل والثقة، وما إلى ذلك من الأمور التي نجدها في قلوبنا .. هل هو القلب الذي في الصدر أم هو الدماغ ؟؟
أقول: القلب له معنيان [ انظر:المقاييس في اللغة] :
المعنى الأول: وهو أن هذه اللفظة تدل على خالص الشيء وشريفه، فالشيء الخالص الشريف يقال له قلب.(1/2)
والمعنى الآخر: يدل على رد شيء على شيء من جهة إلى جهة، كما أقلب هذه الحقيبة أقول قلبتها، وقلبت الثوب.. فهذا من معاني القلب .
والمقصود هنا: هو المعنى الأول، فقلب الإنسان وقلب غير الإنسان سمي بذلك لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه؛ لأن الخالص من كل شئ والأشرف من كل شيء يقال له: قلب .. إذًا : المراد بالقلب هنا هو المعنى الأول من هذين المعنيين .
ولربما قيل له قلب لكثرة تقلبه، فهو كثير التقلب بالخواطر والواردات والأفكار والعقائد، ويتقلب على صاحبه في النيات والإرادات كثيراً، كما أنه كثير التقلب من حال إلى حال، يتقلب من هدى إلى ضلالة، ومن إيمان إلى كفر أو نفاق، ولهذا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: [ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. وذلك لكثرة تقلب هذا القلب .. وكما أنه يقال له الفؤاد ربما لكثرة تفؤده أي كثرة توقده في الخواطر والإرادات والأفكار .. والإنسان قد يستطيع أن يصم أذنه فلا يسمع، وقد يستطيع أن يغمض عينه فلا يبصر، ولكنه لا يستطيع أن يمنع قلبه من الفكر في الواردات والخواطر، فهي تعرض له شاء صاحبه أم أبى .. ولهذا قيل له فؤاد: } إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36] { [سورة الإسراء].
وما سمى القلب إلا من تقلبه ……والرأي يصرف بالإنسان أطواراً
وقد كثر الكلام في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن القلب،وهذا الحديث هل يراد به هذا العضو الصنوبري المعروف، أم أن المراد به الدماغ، أم أن المراد به معنى لطيفاً يتعلق بهذا العضو الصنوبري بحيث يقال:هو لطيفة ربانية لها بهذا القلب، وهو العضو الصنوبري الجسماني .. تعلق وثيق كما أن لها تعلقاً بالدماغ وبإشاراته الحسية والعصبية، وعلى نحو لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى .(1/3)
وعقيدة أهل السنة والجماعة- وهو الذي دل عليه القرآن هو- أن العقول في الصدور، وليست في الأدمغة .. وأما الفلاسفة من القدماء وكما يقرره الأطباء في هذا العصر- إلا من رحم الله عز وجل- يقولون، ويقول الفلاسفة: إن العقل بالدماغ . وأما الذي عليه أهل السنة والجماعة هو أن العقل في القلب، وهو الذي دل عليه القرآن .
ومما يدل على ذلك حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لَأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ...] قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ. رواه مسلم وللبخاري نحوه .
فهذا واضح في الدلالة على أن المراد بالقلب هو القلب الذي في الصدر، فشق صدره فاستخرج قلبه، فأخرج منه تلك العلقة، وقال : [ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ]، فدل على أن الهدى والضلال يتعلق بهذا القلب الذي داخل الصدر، وهو هذا العضو الذي نعرفه جميعاً .(1/4)
وقد ذكر جماعة من المفسرين هذه الحادثة حديث أنس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:} أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ[1] {[سورة الشرح] . ففسروه بشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، واستخراج ذلك من قلبه .. وهذا الفعل الذي فعله جبريل عليه الصلاة والسلام يدل دلالة واضحة على أن هذا العضو في الإنسان به لطيفة غيبية تؤثر في أفعال الإنسان، فهذه العلقة التي استخرجها جبريل قد تكون حسية, مع أننا نعرف معنى العلقة وهي القطعة من الدم الجامد وهذا من الأمور الغيبية، والله عز وجل يقول:} فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[46] { [سورة الحج]. وما قال: ولكن تعمى القلوب التي في الأدمغة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ] رواه البخاري ومسلم. فقول النبي صلى الله عليه وسلم:[...مُضْغَةً...] نص في القلب الحسي اللحمي المعروف .. والمضغة هي القطعة من اللحم على قدر ما يمضغ ويقول الحافظ بن حجر رحمه الله في الفتح 1 / 211: ويستدل به- أي: الحديث- على أن العقل في القلب، والله عز وجل يقول:} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا...[46] {[سورة الحج]. فجعل القلب محلاً للعقل. والنبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر التقوى أشار بيده صلى الله عليه وسلم إلى صدره كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَحَاسَدُوا- إلى أن قال- : التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ...] رواه مسلم .. [التَّقْوَى هَاهُنَا] ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: [ التَّقْوَى هَاهُنَا] فيكون مشيراً إلى دماغه، كما يفعل كثير من الناس إذا أراد(1/5)
أن يشير إلى كمال عقله فإنه يشير إلى رأسه وهذا خطأ، الإشارة الصحيحة تكون بالإشارة إلى القلب الذي في الصدر؛ لأنه محل للعقل.
ومعلوم أن:' المرء بأصغريه'، وهما: قلبه ولسانه، ولا يقال: قلبه وعقله، أو يقال: لسانه وعقله، أو يقال: لسانه ودماغه، وإنما يقال: قلبه الذي هو محل للعقل .. أما الطب الحديث فهو لم يتوصل إلى حقيقة هذه القضية، ولن يتوصل إليها إطلاقاً لأنها من الأمور الغيبية .. ما الذي يؤثر على أعمال الإنسان المعنوية وإرادته، أين وكيف تقع أمور الخوف والرجاء والمحبة والرضا والسرور والانقباض وغير ذلك من الأمور كيف تقع للإنسان؟ لا يستطيع الطب أن يحدد ذلك، وإنما غاية ما يقرره الطب: أن المكان الذي يؤثر على الأفعال الحسية هو الدماغ، وهذا لا يمنع أن يكون للقلب تعلق بهذه الأمور، لكن الطب لم يتوصل إليها ومعلوم أن الطب يتعلق بالأمور التي يمكنه أن يصل إليها دون الأمور الغيبية؛ لأنه لا يطلع عليها إلا الله عز وجل.(1/6)
ولما كانت حياة الإنسان الظاهرة متعلقة بالقلب والدماغ معاً على نحو ظاهر؛ فيمكن بذلك أن تتعلق إرادته وإحساساته بالقلب والدماغ معاً، فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش على نحو سوي إلا بسلامة قلبه ودماغه، فما المانع أن يكون بين قلبه ودماغه تعلق وثيق مؤثر على أفعاله وتصرفاته المعنوية وكذا ما نسميه بالأمراض القلبية والإحساسات والمشاعر الداخلية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:' قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ . كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا ' [الفتاوى 9 / 303 ] . ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:'الأفئدة هي العقول التي مركزها القلب على الصحيح وقيل الدماغ' [تفسير ابن كثير 4 / 508] .(1/7)
فعلى كل حال: هذه الأدلة جميعاً تدل على أن محل الإرادات والخواطر وما يقع للإنسان من محبة وبغض ورضا وإنابة وما إلى ذلك أن محل ذلك جميعاً هو القلب .. وهذا القلب ليس ثمة مانع أن يكون له اتصال بالدماغ . الله عز وجل أعلم به ويدل على ذلك أن الإنسان إذا ضرب على دماغه لربما فقد عقله فهذا يدل على وجود نوع اتصال بينهما لكن ليس معنى ذلك أن محل العقل هو ذلك الدماغ فحسب، وإنما لهما اتصال، والقلب هو مستقر الإرادات، وهو محل هذه الأعمال التي نتحدث عنها.
بعد ذلك أقول: إذا كان القلب محل الإيمان والتقوى، أو الكفر والنفاق والشرك، وما إلى ذلك، فقد يسأل بعضكم: لو قطع قلب إنسان، ثم وضع له قلب إنسان كافر، فهل معنى ذلك أن هذا الإنسان سيتحول إلى عقيدة ذلك الكافر فيكون كافراً مثله ؟(1/8)
الجواب: لا .. والطب الحديث له تجارب في ذلك لربما قطع قلب الإنسان مدة من الزمان ثم أعمل فيه محل هذا القلب مؤقتاً آلة تضخ الدم ريثما يوضع له قلب آخر وهذا شئ سمعته من بعض الأطباء المشتغلين بطب القلوب، وأيضاً جرب الأطباء استبدال القلب لربما نزعوا قلب رجل، ووضعوا فيه قلب رجل آخر فماذا كانت النتيجة ؟؟ قرأت في بعض التحقيقات والتقريرات الطبية في ذلك يقولون: إن الإنسان يعيش مدة محدودة ثم هو لا يكاد يتكلم ويتصرف ويعبر عن مكنوناته كما كان قبل ذلك، وإنما يغلب عليه لربما شئ من السكون والركود، ومن ثم لا يعرف كثيراً مدى التغير الذي حصل له بسبب تغير هذا القلب، والتأثر الذي ناله من صاحب ذلك القلب الذي نقل إليه، والذي أظنه- والله تعالى أعلم- هو أن الإنسان لا يتحول من الإيمان إلى الكفر، أو العكس، أو غير ذلك إذا نقل إليه قلب إنسان آخر، فلو جئنا بإنسان كافر ووضعنا له قلب إنسان مؤمن؛ فإن هذا الكافر إن قدر له أن يعيش ولو مدة محدودة، فإنه لا يتحول إلى إنسان مؤمن، وإنما يبقى على كفره، وتبقى له أرجاسه وأدناسه، وهكذا لو عكسنا القضية، ولكن لا يبعد أن يتأثر صاحبه بعض الأثر ,كيف لا والإنسان يتأثر بالمخالطة والنظر، ويتأثر بما يسمع، ويتأثر بالشم كما يتأثر بما يأكل، فأكل الحلال يؤثر بالإنسان كما يؤثر أكله الحرام في قلبه، كما أن اللغة أيضاً تؤثر في عقله وقلبه، ولذلك لما رأى الإمام أحمد رحمه الله ابنه عبد الله ترضعه جارية أخذه أخذة منها، ونزعه نزعاً شديداً ثم وضع أصبعه في فمه حتى استفرغ تلك الرضعة وقال لا آمن عليه من هذه الرضعة، ولما كبر عبد الله كان يعتريه شئ في بعض الأحيان، فكان الإمام أحمد يقول: 'لا آمن أن تكون من تلك الرضعة' . فلاحظ كيف تؤثر رضعة ! كيف تؤثر في هذا الإنسان، ولربما في سلوكه، وفي عقله، فكيف إذا نقل إليه قلب بكامله ؟!(1/9)
هذا خلاصة ما أظنه في هذه المسألة التي طالما سأل الناس عنها، وهذا يدل على أن القضية ترتبط بهذا العضو الصنوبري، ولكنه ليس هو القلب وحده، وإنما يتعلق به أمر معنوي يتعلق به تعلقاً مباشراً، ولهذا قال بعضهم عن القلب: هو نور وضعه الله طبعاً، وغريزة يبصر به، ويعبر به، فهو نور في القلب كالنور في العين الذي هو البصر، فالعقل نور في القلب، والبصر نور في العين... هكذا قال بعض العلماء .[ انظر مفهوم العقل والقلب ص 266] .
وبغض النظر عن عبارة هذا القائل إلا أنه لاشك أن هذه القطعة يتعلق بها أمر معنوي، والدليل عليه هو الواقع الذي نشاهده .(1/10)
ثانياً: منزلة القلب : كلكم يعلم أن القلب ملك الجوارح، وهو كما يقول العز بن عبد السلام في [قواعد الأحكام 1 / 167]: مبدأ التكاليف كلها وهو مصدرها، وصلاح الأجساد موقوف على صلاحه وفساد الأجساد موقوف على فساده، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: [... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ] رواه البخاري ومسلم. أي: أنها إذا صلحت بالإيمان، ومعرفة حقائقه، ومحاسن الأحوال؛ فإن الجسد يصلح بطاعة ربه ومولاه، وبالإذعان له. وإذا فسد هذا القلب بالشرك والكفر، ومساوئ الأحوال، والأعمال القلبية السيئة من الكبر والعجب والرياء وما إلى ذلك؛ فإن ذلك يفسد الجسد بالفسوق والعصيان والتمرد على طاعة الله عز وجل، وتسخير الجوارح وتعبيدها لغير الله تبارك وتعالى، ومع التعالي على الخلق، والترفع عنهم وظلمهم، والإفساد في الأرض، كل ذلك يكون نتيجة طبيعية لفساد هذا القلب وتبدل أحواله .. ويقول ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: [... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً] يقول:' إن فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله وخشيته الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع هواه وطلب ما يحبه ولو كرهه الله؛ فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعث إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع الهوى هوى القلب ' [جامع العلوم والحكم 1 / 210].(1/11)
يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه في كلمة مختصرة جليلة، يعبر بها عن معنى كبير يقول:' لكل امرئ جواني وبراني - جواني يعني: الداخلي، والبراني: هو الخارجي - لكل امرئ جواني وبراني فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه'[ الزهد لابن المبارك 'زيادات نعيم بن حماد' ص 17] .. وهذا شئ مشاهد، ولهذا تجد الموعظة تطرق الأسماع، وتجد آثارها على الناس متفاوتة غاية التفاوت كالمطر ينزل على الأرض، فمنها: ما يخرج ألوان النباتات والثمار والأزهار، فتغدو تلك الأرض طيبة، معشبة، مربعة . وأما الأرض الأخرى فهي لا تنبت كلأ، وقد لا تمسك ماء- نسأل الله العافية- وقد تمسكه لكنها لا تنتفع به وإنما ينتفع غيرها، وهكذا الناس يسمعون وحي الله عز وجل، ويسمعون القرآن، ويسمعون المواعظ، فمنهم: من يتأثر ويظهر ذلك في سمته وهديه وأخلاقه وسائر أعماله؛ فيثمر ذلك في قلبه خشوعاً وخضوعاً وألواناً من العبوديات، كما يثمر عملاً صالحاً في جوارحه. ومنهم: من لا يظهر عليه أثر ذلك سواء حفظه، فنقله إلى الناس، فانتفعوا به، أو أنه لم يحفظ شيئاً من ذلك، فضيعه، والمقصود: أنه لم ينتفع به.(1/12)
تجد الكلمات الطيبة يسمعها اثنان هذا يتحول إلى مؤمن صالح، والآخر يبقى على حاله، وكم من أقوام طرق أسماعهم القرآن، وسمعوا النبي صلى الله عليه و سلم يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، فكبهم الله عز وجل في النار على وجوههم، وكم من أقوام سمعوا كلمة واحدة، فقلب ذلك حياتهم رأساً على عقب، فتحولت أمورهم وأحوالهم، وتبدلت شئونهم، وتركوا الملذات والشهوات التي حرمها الله عز وجل بسبب كلمة واحدة سمعوها، وما ذلك إلا لصلاح القلب، أو فساده، فحق لهذا المحل الشريف أن يعتني به غاية العناية، يقول الحسن البصري رحمه الله :' داو قلبك فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم - وأشار بأصبعه إلى صدره- وأعمالكم' .
فمحل نظر الله عز وجل هو قلب العبد، فإذا صلح قلبه؛ صلحت أعماله، وكان مقبولاً عند الله عز وجل. وإذا كان القلب فاسداً، فلربما سجد صاحبه وركع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الدرك الأسفل من النار كعبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين، يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزوات، ولربما قدموا شيئاً من أموالهم دفعاً للتهمة عنهم، أو حياء من الناس، ومع ذلك لم تزك نفوسهم، ولم تصلح قلوبهم ولا أعمالهم؛ لأن هذه القلوب قد انطوت على معنى سيئ أفسدها، على نجاسة كبرى لا تطهرها مياه البحار، وهي الشرك بالله عز وجل والنفاق.(1/13)
وقد كان الحسن البصري رحمه الله يجلس في مجلس خاص في منزله لا يتكلم فيه عن شئ إلا في معاني الزهد والنسك والرقاق، والقضايا المتعلقة بالأعمال القلبية، فإن سئل سؤالاً يتعلق بغيرها في ذلك المجلس تبرم، وقال:' إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر'[ سير أعلام النبلاء 4 / 579] . وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي ألا يغفل وألا يكون شارداً في زحمة الأعمال - حتى الأعمال الدعوية ينبغي أن يكون له مجالس يتذاكر فيها مع إخوانه، ويرقق قلبه، ويصلح ما فسد من هذا القلب في زحمة الأشغال كزيارة القبور، وذكر الموت، وما إلى ذلك من الأمور التي سيأتي ذكرها وهي مصلحات القلوب .
ثالثاً:الموازنة : بين هذا المحل الشريف وهو القلب وبين أشرف عضوين أو أشرف حاستين في الإنسان وهما: السمع والبصر وهي الثلاث التي ذكرها الله عز وجل في آية الإسراء في قوله:} وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36] {[سورة الإسراء] . مع أن الإنسان يسأل عن جميع جوارحه وعن منافعه، وعن نعم الله عز وجل عليه، بماذا صرفها؟ وماذا عمل بها؟ لكن الله عز وجل خص هذه المواضع الثلاثة؛ لأنها الأشرف والأكمل، وهي أعظم المنافع، وأشرف المحال عند الإنسان، فأي هذه الثلاث أشرف هل هو السمع، أو البصر، أو القلب ؟(1/14)
يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن وتفارقها بشيء، وهو أنها إنما يرى بها صاحبها الأشياء الحاضرة، والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص - معنى هذا الكلام: أن العين أقل هذه الأمور الثلاثة شرفاً مع أن العين وهي عضو شريف في غاية الشرف ومع ذلك هي أقل شرفاً من السمع والقلب - لماذا ؟ لأن العين لا يرى بها الإنسان إلا الأمور المتشخصة يرى السارية، ويرى الإنسان، ويرى الشجرة لكنه لا يرى الهواء لا يرى الأمور التي لا يدركها نظر العين، فهو لا يرى الأشياء البعيدة جدا،ً ولكنه قد يسمع صوتاً فنحن قد نسمع صوت الطائرة ولا نراها، وقد نسمع أصواتاً من بعد ولكننا لا نبصرها، ثم أيضاً الإنسان لا يبصر إلا من جهة واحدة وهي الأمام وأما الخلف وعن اليمين وعن الشمال، فإن الإنسان لا يبصر شيئاً من ذلك فهو بحاجة إلى الالتفات.(1/15)
وأما السمع فإن الإنسان يسمع ما أمامه وما فوقه وما تحته كما يسمع عن يمينه وشماله وخلفه ولا يحتاج مع ذلك إلى التفات، يقول شيخ الإسلام:'فأما القلب والأذن، فيعلم بهما ما غاب عنه، وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية ثم بعد ذلك يفترقان' - أي القلب والأذن بدأ يوازن بين القلب والأذن، انتهى من البصر- يقول: 'القلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، فأما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام' يقصد أن الأذن مجرد بريد، وأين يحصل تحليل هذا الكلام ؟ وأين يحصل تعقل هذا المسموع ؟ يحصل ذلك في القلب، وأما الأذن فهي وسيلة إلى نقله فحسب، هي واسطة بين مصدر الصوت وبين القلب، فتنقل هذا الصوت إلى القلب، فيحصل تحليله، والنظر فيه لذلك المحل العجيب، يقول شيخ الإسلام: 'فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب وإنما سائر الأعضاء حجبة له ترسل إليه الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى:} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا...[46] {[سورة الحج] . ولم يذكر هنا العين فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة في الأمم المعذبة، وهي حكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ويقول: مثله قوله تعالى:} أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ...[44] {[سورة الفرقان].
يقول: وتتبين حقيقة الأمر في قوله:} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[37] {[سورة ق]. [الفتاوى 9 / 310] .(1/16)
وبهذا نعلم أن القلب هو الأشرف بإطلاق؛ لأن العين، أو البصر والسمع ميزابان يصبان في العقل، وهما وسيلتان لنقل العلوم والمعارف، والمشاهدات والمسموعات إلى هذا القلب، ثم تستقر فيه، ويحصل بعد ذلك من آثار هذه الأمور المسموعة، أو المبصرة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فقد يبصر الإنسان مشهداً يكون له عبرة يعتبر بها، فيكون ذلك سبباً لإنابته وتوبته، وقد يبصر الإنسان منظراً ومشهداً في شاشة، أو في سوق، أو في مكان آخر يفسد عليه قلبه، فتعرض عليه هذه الصورة دائماً تترائى كأنه ينظر إليها، فتفسد عليه القلب مشغولاً مشوشاً بهذا المنظر، ويجد من ألم ذلك ومغبته ما لا يقدر قدره إلا الله تبارك وتعالى .
رابعاً:الأمور التي يتم بها صلاح القلب: وهذه النقطة والتي بعدها ذكرتها إتماماً للقسمة، وإلا فالحديث عنها يطول، وهي كثيرة جداً، ولكني أذكر طرفاً يسيراً منها؛ لعل الله عز وجل أن ينفع بها في مثل هذا المجلس، ويكون مشتملاً على جملة الأمور الهامة المتعلقة بهذه المقدمة فمن أعظم الأمور التي تصلح القلب:
1- المجاهدة: يحتاج الإنسان إلى مجاهدة دائمة ومستمرة وإلى مكابدة، يقول ابن المنكدر رحمه الله وهو من علماء التابعين:'كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي'[ نزهة الفضلاء 607] . فصار في حال من العبودية عجيب كان يقول:'إني لأدخل في الليل فيهولني فينقضي وما قضيت منه أربي' . ما معنى هذا الكلام ؟ يقول: إذا أقبل الليل ودخلت فيه، وبادرت فيه إلى الصلاة، وخلوت بربي؛ لم يمض إلى شيء حتى انقضى هذا الليل، وتصرمت ساعاته، ولم أشعر بذلك، ولم يحصل ما كنت أؤمله من طول المناجاة، فهي قصيرة في نظره لشدة شغفه وتعلقه بذلك !!
كيف نصل إلى هذه المرحلة، ونحن إذا جلس الإمام يصلي وزاد دقيقتين لربما بدأنا نتململ وبعضنا يتنحنح، وبعضنا يحرك أصابعه ويفرقعها، ولربما عاتبنا الإمام بعد ذلك !(1/17)
إننا حينما نصلي كأن الواحد منا طائر في القفص يبحث عن الحيلة كيف يتخلص، ولو كانت قلوبنا عامرة بمحبة الله والإقبال عليه؛ لم نشبع من صلاتنا وعبادتنا، وكم رأيت من الصالحين من يتعجب أن فلاناً من الناس لربما بكى في القراءة في الصلاة السرية، وأي عجب في هذا هو يناجي ربه كيف تعجبون من هذا .. !! وأي مقام هو أعظم من مقام العبد بين يدي ربه وخالقه يناجيه وينطرح بين يديه في أذل الصور التي يعبد بها العبد نفسه ويذلل جبهته في السجود والركوع وهل هناك تذلل أكثر من مناجاة الله عز وجل والخضوع بين يديه والجبهة على الأرض ؟ ليس هناك صورة في الذل أعظم من هذه .. لكننا ألفناها فما عادت تؤثر في قلوبنا، على كل حال أيها الأخوة نحن نحتاج إلى كثير من المجاهدة لإصلاح هذه القلوب، ولعل هذه المجالس تكون سبباً في إعانة الواحد منا على إصلاح قلبه .(1/18)
يقول أبو حفص النيسابوري رحمه الله:'حرست قلبي عشرين سنة، ثم حرسني عشرين سنة'[ نزهة الفضلاء 1205] . إذا استقام قلب العبد؛ استقامت أعماله وجوارحه، فإذا جاءه الشيطان بخاطرة من الخواطر قبل أن يستقيم قلبه ويثبت على الطاعة؛ فإن القلب يحتاج إلى مدافعة عظيمة لهذه الخواطر، فإذا صار في القلب قوة وصلابة في الإيمان، واستقام القلب لصاحبه، وروضه على طاعة الله عز وجل والإقبال عليه؛ فإنه يحرس صاحبه، فإذا رأى شيئاً تلتفت إليه كثير من النفوس الضعيفة، ويتطلع إليه أصحاب القلوب المريضة، فيطمع الذي في قلبه مرض؛ فإن الإنسان ينصرف قلبه عن هذه الأمور المشينة ولا يلتفت إليها، ويتذكر مباشرة عظمة الله وجلال الله ورقابة الله، فلا تتحرك نفسه للمعصية، أو الوقوع في الريبة والدخول في أمور وطرائق ليس له أن يدخل فيها.. 'حرست قلبي عشرين سنة وحرسني عشرين سنة ثم وردت عليّ وعليه حالة صرنا محروسين جميعاً' معنى هذا الكلام: أنه كان في مكابدة في عشرين سنة حتى استقام قلبه، فحرسه عشرين سنة، ثم مرت عليه أحوال صار قلبه محروساً، وصارت جوارحه محروسة حينما تروضت على طاعة الله عز وجل، فالعين لا تنظر إلا إلى ما يرضي الله، وصار السمع المحرم الذي يعشقه كثير من الناس وتميل إليه قلوبهم صار قلبه ينفر منه وصارت أذنه تمجه لا يجد له لذة وحلاوة يجدها أولئك الذين مرضت قلوبهم ولهذا إذا أردت أن تربي نفسك فعليك أن تحرس قلبك أولاً ثم يحرسك هذا القلب ثم تكون بعد ذلك محروساً معها، لا يكفي أن نعلم الناس بعض الأمور الظاهرة لا يكفي أن تعلمهم بعض الآداب- مع أنها مطلوبة- بل لابد أيضا أن نربي القلوب على الإخبات والخوف والمحبة والخشية والمجاهدة والصبر واليقين وما إلى ذلك من المعاني .(1/19)
أما إذا خلت القلوب من ذلك مع صلاح الظاهر؛ فإن أمراض القلوب وعللها تظهر في مناسبات كثيرة: تظهر في حال المنافسات، فيتصارع الأقران، ويحصل التباغض والتطاحن، وتحصل العداوة، تحصل في المواطن التي تتطلع النفس فيها إلى الظهور والعلو في الأرض، والنفس تواقة إلى ذلك تحتاج إلى كبح وإلى مجاهدة وإلى أن يكبتها العبد، وأن يأخذ بزمامها فلا تنفلت عليه، وإلا فإنه إذا سرحها، فإنها تسرح به في أودية الهلكة طلباً للرئاسة والشهرة وتحصيل شهوات معنوية ولذات هي أعظم من اللذات الحسية التي يطلبها كثير من المساكين الذين قد تكون غاية أحدهم لذة حسية من مأكل، ومشرب، وملبس، ومنكح، أو مال يحصله، ولكن هناك شهوات هي أعظم من ذلك كله وهي التطلع إلى الظهور في الأرض والعلو على الناس، وأن ينال شرفاً في أعينهم وقدراً في نفوسهم.
هذه الأمور قد لا يستطيع الإنسان أن يتخلص منها إذا لم يكن له التفات كبير إلى قلبه ومجاهدة عظيمة مع هذا القلب والواردات التي ترد عليه، تجد الشخص يتربى سنوات طويلة على كثير من الآداب، ثم بعد ذلك ترى منه أشياء عجيبة يخجل العاقل منها وربما ذهبت بعمله الصالح الذي عمله من دعوة، أو صلاة، أو صيام، أو غير ذلك، الإنسان قد يتعب جوارحه وينهك قواه من أجل أن يحصل على لذة معنوية إما أن تكون لذة مطلوبة شرعاً كلذة العبودية والأنس بالله عز وجل وإما أن تكون لذة محرمة وهي أن يذكر ويعرف وينال شرفاً عند الناس .(1/20)
2- ومما يصلح القلب: كثرة ذكر الموت وزيارة القبور ورؤية المحتضرين: فإنها اللحظات التي يخرج الإنسان فيها من الدنيا ويفارق سائر الشهوات واللذات، ويفارق الأهل والمال الذي أتعب نفسه في جمعه في لحظة ينكسر فيها الجبارون، ويخضع فيها الكبراء، ولا يحصل فيها للعبد تعلق بالدنيا ولهذا يكثر من الناس التصدق في تلك الأحوال فلربما كتب الواحد منهم في حال صحته وعافيته وصية يوصي بها أن إذا مات وانقطعت علائقه من الدنيا أن يخرج من ماله كذا وكذا.
فذكر الموت يحيي القلب، ويلين ما فيه من القسوة، فاجعل لنفسك وقتاً تتفكر فيه بهذا المعنى وتزور فيه المقابر وتتبع الجنائز، سعيد بن جبير رحمه الله- وهو من عبّاد التابعين وعلمائهم- كان يقول:'لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي' [نزهة الفضلاء506 ] . معنى ذلك أن الموت ملازم لقلبه يذكره في كل أحواله، وكان صفوان بن سليم يأتي البقيع، فيمر بمحمد بن صالح التمار، فتبعه في ذات يوم، فقال محمد: فقلت في نفسي سأنظر ما يصنع، فجاء صفوان على قبر من القبور في البقيع، فلم يزل يبكي حتى رحمته من كثرة البكاء، وظننت أنه قبر بعض أهله، فهو يأتي لزيارته، ويتذكر هذا القريب الحبيب فيبكي ويرق لذلك، يقول:ومر به مرة أخرى فتتبعته ففعل مثل ذلك فذكرت ذلك لمحمد بن المنكدر فقال:'كلهم أهله وإخوته إنما هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات كلما عرضت له قسوة' [نزهة الفضلاء610 ].(1/21)
3- ومما يحيي القلب: مجالسة الصالحين الذين يذكرون الله عز وجل ويذكرون بالله بالنظر إلى وجوههم: من الناس من إذا نظرت إلى وجهه؛ انشرح صدرك؛ وذهبت عنك كثير من الأوهام والهموم والمخاوف . قال ابن القيم رحمه الله:كان إذا حدق بنا الخصوم، وأرجفوا بنا، وألبوا علينا، واعترتنا المخاوف من كل جانب؛ أتينا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: فوالله ما إن نرى وجهه حتى يذهب ذلك عنا جميعاً لما يرون في وجهه من الإنارة، وما يرون فيه من المعاني الدالة على انشراح الصدر، وثبات القلب والتقى والرجاء والخوف من الله، فإن الوجه مرآة للقلب ولهذا قيل:'ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه' .
ودخل رجل على عثمان رضي الله عنه، فقال عثمان:'أيعصي أحدكم ربه ثم يدخل علي؟ فقال الرجل:أَوَحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني كيف علمت؟- فأخبره أنها فراسة المؤمن حيث يكون الوجه مظلماً لما في القلب من الظلمة، ويكون الوجه مشرقاً لما في القلب من الإشراق.
ومن الناس من إذا رأيته أحببته قبل أن يتكلم، ومن الناس من إذا رأيته أبغضته قبل أن يتكلم، وما ذلك إلا أن هذه الأوجه هي صفحات ينقش فيها ما تكنه القلوب . يقول جعفر بن سليمان رحمه الله:' كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع - وكان من كبار العباد والصالحين - كان وجهه كأنه ثكلى'[نزهة الفضلاء638 ] ، يعني: كأنه وجه ثكلى من أثار الخوف من الله عز وجل، بادية عليه آثار الإشفاق، آثار الخشية ظاهرة على وجهه، فإذا نظروا إلى وجهه؛ رقت قلوبهم قبل أن يتكلم لا يحتاجون إلى كثير من كلامه.(1/22)
ومن الناس من إذا نظرت إلى وجهه؛ أظلم قلبك ويتصدد الإنسان أحياناً عن رؤية بعض الوجوه من أجل ما فيها من الظلمة، فإن النظر إلى هذه الأشياء يؤثر على القلب، ولهذا تعلمون أن جريج الراهب دعت عليه أمه كما في صحيح مسلم قالت: [ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ] فقط، والمومسات-أعزكم الله- البغايا، لما: [ أَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ فَقَالَ يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا فَقَالَتْ إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ قَالَ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنْكَ فَقَالَ أَيْنَ الصَّبِيُّ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ قَالَ فُلَانٌ الرَّاعِي قَالَ فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ(1/23)
وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ وَقَالُوا نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لَا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا...] رواه البخاري ومسلم- واللفظ له- .
هذه الدعوة التي دعت بها أمه ماذا كانت نتيجتها أيها الأخوة ؟! كان نتيجتها أنه نظر إلى وجه مومس واحدة امرأة واحدة بغي اتهمته فجئ به إليها، وقيل له أنت فجرت بهذه فأنجبت هذا الغلام، نظر إلى امرأة واحدة فكان ذلك إجابة لدعوة أمه عليه، فكيف بالذي يقلب بصره صباح مساء وقد شخص بصرة أمام القنوات الفضائية يرى وجوه المومسات !! كم نجني على قلوبنا أيها الأخوة كم نفسدها بأيدينا وبأفعالنا .. كم يجني الإنسان على نفسه حينما يقلب طرفه ويسخر نظره في المواقع الكثيرة في الشبكة العنكبوتية ينظر إلى ما حرم الله عز وجل كم تؤثر فيه هذه النظرات !! فالنظر في وجوه الصالحين يؤثر في القلب، يقول عبد الله بن المبارك وهو من العلماء يقول:'إذا نظرت إلى الفضيل بن عياض جدد لي الحزن ومقت نفسي ثم بكى'[نزهة الفضلاء778 ] . أي: طرد عنه الفكاهة والغفلة، فجدد في قلبه الحزن والإشفاق من الآخرة واحتقر نفسه، إذا كان ابن المبارك يحقر نفسه إذا نظر إلى وجه الفضيل بن عياض فماذا نقول نحن ونحن أصحاب غفلة طويلة ؟!
وهذه الموضوعات قلَّ من يتكلم عليها مع أننا في أمس الحاجة إليها، وقلَّ من يزور المقابر، وقلَّ من يسعى إلى مجالس الصالحين الذين ينتقون أطايب الكلام ويجددون الإيمان في قلبه وقد يجتمع معهم ويتحدثون فيما حرم الله عز وجل من الغيبة والنميمة، بأي عذر اعتذروا، وبأي تبرير برروا ذلك، والله عز وجل يعلم ما في القلوب .
4- أن يكون تعلقه بربه ومعبوده وخالقه جل جلاله: إذا تعلق القلب بالمخلوق؛ عذب بهذا المخلوق أياً كان سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو سيارة، أو عقارات، أو مالاً، أو غير ذلك.(1/24)
فالله عز وجل خلق هذا القلب وركبه تركيباً خاصاً لا يصلح بحال من الأحوال إلا إذا علق بربه ومليكه، فإذا علق بغير الله؛ تعذب بهذا التعلق، ولذلك تجد كثيراً من الناس يسألون عن قضايا تتعلق بروابط ووشائج وصحبه مع بعض إخوانهم ويختلط عليهم الأمر كثيراً، فيظنون ذلك لله وفي الله، وأن ذلك يقربهم إلى الله مع أنهم يجدون ألمه في قلوبهم، ويجدون حسرة تعصف بهذه القلوب، فالعلائق والأعمال، والأحوال والارتباطات، والمجالس والأقوال، إذا كانت صحيحة مع صحة قصد صاحبها، فإنها تورث في القلب نوراً وانشراحاً، وإذا كانت على غير الجادة انعصر القلب وتألم، فمن كان يؤاخي أحداً من الناس في الله ولله، فإن ذلك يشرح صدره، ويقوي قلبه.
وأما إذا كان لمعنى آخر قد لا يشعر به هو أولا يدركه؛ فإنه يجد ألماً وحسرة بهذه الصحبة تؤثر فيه أرقاً دائماً لربما كدر عليه عيشه... وهذا مثال واحد.
وتعليق القلب بالله عز وجل هو الذي يصلح هذا القلب، يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله :'كلما ازداد القلب لله حباً؛ ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية؛ ازداد له حباً وحرية عمن سواه - لا يكون القلب عبداً أسيراً لأحد من المخلوقين لا امرأة ولا أحد من الناس - ويقول:'القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين:من جهة العبادة، ومن جهة الاستعانة والتوكل فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يسر ولا يطيب، ولا يطمئن ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبة ومطلوبة' [الفتاوى 10 /193 - 194].
ولهذا كان ابن القيم رحمه الله يقول:'إن في القلب وحشة لا يذهبها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقه -يعني: فقر- لا يذهبه إلا صدق اللجوء إليه، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً ..' .(1/25)
5- ومما يصلح القلب: الأعمال الصالحة: بجميع أنواعها كما قال ابن عباس رضي الله عنه:'إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق' .
6- أن نستعمله فيما خلق له: هذا القلب خلق ليكون عبداً لله، خلق ليعمل أعمالً جليلة هي الأعمال القلبية الصالحة، فإذا أشغل القلب بغيرها؛ تكدر وفسد كما قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: 'ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء كما خلق العين يرى بها الأشياء والأذن يسمع بها الأشياء ...- إلى أن قال:- وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة فإذا استعمل العبد العضو فيما خلق له وأعد من أجله؛ فذلك هو الحق القائم والعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو، وإرضاء لربه وصلاحاً للشيء الذي استعمل فيه...- إلى أن قال:- وإذا لم يستعمل العضو في حقه بل ترك بطالاً؛ فذلك خسران وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً ....- إلى أن قال:- ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب- ثم قال:- وإذ قد خلق القلب لأن يعمل به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، فالفكر للقلب كالإصغاء للأذن...- ثم قال:- فصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء لا أقول أن يعلمها فقط فقد يعلم الشيء ولا يكون عاقلاً له بل غافلاً عنه ملغياً له والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا...[269] ([سورة البقرة](1/26)
'[الفتاوى 9 / 307].
7- ذكر الله عز وجل وقراءة القرآن: والحديث عن هذا يطول، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ولقد قال سليمان الخواص رحمه الله:'الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا- أو كما قال- '[الفتاوى 9 / 312]. وقد أحسن من قال :
دواء قلبك خمس عند قسوته ……فأذهب عليها تفز بالخير والظفر
خلاء بطن وقرآن تدبره …… كذا تضرع باك ساعة السحر
ثم التهجد جنح الليل أوسطه ……وأن تجالس أهل الخير والخبر
خامساً:مفسدات القلوب: وهي أيضاً كثيرة، ولو أنك عكست الأشياء السابقة؛ لظهر لك من هذا المعنى شيء كثير، ومن أعظم ما يفسد القلب:(1/27)
1-أن يُعلق بغير الله عز وجل: كما ذكرنا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -في كلام متين له-:'كل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية له بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة- ولو كانت مباحة له مثل زوجة أو أمة- يبقى قلبه أسيراً لها؛ تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها أو زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً بغير الله عز وجل، فهذا هو الذل والأسر معه والعبودية لمن استعبد القلب، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائماً بما يقدر عليه من واجبات، وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله عز وجل، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس، فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما أن الغني غنى النفس' [الفتاوى 10/185-187 مع شيء من الاختصار] .(1/28)
2- الفضول من كل شيء: الفضول من الأكل والشرب، والفضول من النوم، والفضول من الكلام، والفضول من المخالطة والمجالسة، والفضول من الضحك، كل شئ زاد من هذه الأشياء؛ فإنه يؤثر على قلب صاحبه، فيفسد قلبه، الذي يأكل كثيراً؛ يقسو قلبه، والذي ينام كثيراً؛ يتبلد قلبه، وتحصل له الغفلة، والذي يضحك كثيراً؛ لا تسأل عن لهوه وغفلة قلبه، والذي ينظر كثيرا فيما يحل، وما لا يحل؛ لا تسأل عن شرود قلبه ومعاناته..وهكذا في كثرة المخالطة لأن المخالطة كما قال ابن القيم: لقاح وإنما يحتاج إليها لشحذ النفس، وتجديد العزيمة، ودفع السآمة، والتقاط أطايب الكلام، وأما الإكثار من ذلك؛ فإنه يضر ولا ينفع، فكل شيء من هذه الأشياء إذا أكثرت منه ضرك إلا العبادة، فكلما أكثرت منها؛ كلما زاد ذلك صلاحاً في القلب، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله:'خصلتان تقسيان القلب:كثرة الكلام وكثرة الأكل'[نزهة الفضلاء779] . ويقول أبو سليمان الداراني:'لكل شيء صدأ وصدأ القلب الشبع'[نزهة الفضلاء 864 ] .
إذا كان الإنسان يشبع في أول النهار- ولابد أن يشبع وإلا طلب الزيادة- ,ويشبع في وسطه، ويشبع في آخره، وإذا رأى أهله أن الطعام قد أكل أجمع؛ أسفوا لذلك، واعتقدوا أن ذلك لقلة في الطعام، فزادوه في اليوم الآخر !! لابد أن يأكل ويأكل حتى يتوقف ويعجز، ثم تتبقى زيادة في الطعام لا تطيقها نفسه.. هكذا نحن نربي أنفسنا، وهكذا نربي أبناءنا، ونردد حكمة سخيفة- ولربما كتبناها في مدارسنا- :'أن العقل السليم في الجسم السليم' وهي حكمة ساقطة، إنما الحكمة نبعها مع الجوع لا مع الشبع، والبخاري رحمه الله حينما كان في مرضه الذي مات فيه جيء له بالطبيب، فنظر في بوله- حلله- فقال :'هذا لم يأكل إلا خبز الشعير منذ عشرين سنة' .(1/29)
أين أرطال اللحم؟! أين البروتينات بأقدار معلومة وأنواع النشويات؟! أين الأشياء التي نسمن بها الأجساد، ونربي بها أبناءنا تربية العجول- ونقلق إذا وجدنا الولد لا يأكل كما ينبغي ونذهب به إلى الأطباء؟! ونحن بذلك نفسد قلبه وعقله، إنما التسمين للعجول وليس للآدميين ! وما يورث هذا الأكل الكثير إلا بلادة وتخمة وكسلاً عن عبادة الله عز وجل- كما نرى- وقسوة في القلوب، فيقرأ القرآن من أوله إلى آخره في صلاة التراويح، وقد لا تجد خاشعاً واحداً ! من أين ذلك؟!
من هذه التخمة، فينبغي أن نتفطن لهذا المعنى.
وأكثر العلماء من السلف رضي الله عنهم كانوا من المرضى والسقمى، ومن ذوي العاهات، هذا أعمى، وهذا أعرج- يعني: من المعاقين- وفيهم من ألوان الأمراض والأوجاع، ويجوع الواحد منهم الأيام الطويلة وما ضرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يمر الهلال، والهلال، والهلال، وما يوقد في بيته نار ولربما خرج صلى الله عليه وسلم من بيته وما أخرجه إلا الجوع، ولربما ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع، وهكذا كان أصحابه الذين فتحوا الدنيا وملئوها علماً وحكمة ونوراً، وبلغوه للعالمين.
أما نحن، فلما كانت عنايتنا بأجسامنا، وكثرت تلك المحلات التي تسمن الأجسام، أو التي تقويها فتنفتل عضلات الإنسان- لربما على خيبه- لا ليعد نفسه للجهاد في سبيل الله، بل لا يخطر ذلك في باله، وإنما يفتل عضلاته لمعنى، أو لآخر .
فبعد ذلك الأمور التي تفسد القلب كثيرة جداً ولا أستطيع أن أحيط بذكرها في هذا المجلس:
· كل المعاصي تفسد القلب.
· كل ما حرم الله عز وجل إذا تعاطاه العبد من نظر، أو سماع، أو أكل، أو بأي لون؛ فإنه يفسد قلبه.
· وهكذا اللغو في المجالس يفسد قلب الإنسان.
· والإغراق في الدنيا.
· وأماكن اللهو كأن يكون الإنسان من أول نهاره إلى آخره في الأسواق، فإن ذلك يؤثر على قلبه.(1/30)
فيحتاج الإنسان إلى صقل هذا القلب، وكيف يصقل قلبه، إن كان من المصلين بمجرد أن يصلى ينصرف مباشرة بعد السلام، ولا يمكن أن يتمهل ليسمع كلمة تنفعه أو موعظة!! متى يصلح قلب هذا الإنسان في السوق، في المتجر عند مشاهدة القنوات .. كيف يصلح؟!
سادساً:ماذا نريد بالأعمال القلبية؟
المراد بالأعمال القلبية: هي تلك الأعمال التي يكون محلها القلب، وترتبط به، وأعظمها الإيمان بالله عز وجل، الذي يكون في القلب منه التصديق الانقيادي والإقرار، هذا بالإضافة إلى المحبة التي تقع في قلب العبد لربه ومعبوده، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والصبر واليقين، والإخبات والإشفاق والخشوع، وما إلى ذلك.
هذه الأعمال القلبية، وبهذا نعرف الفرق بينها وبين أعمال الجوارح واللسان:
· فأعمال اللسان: هي أقواله.
· وأعمال الجوارح: كالركوع، والسجود، وغير ذلك مما يفعله الإنسان ببدنه.
سابعاً:أحكام الأعمال القلبية من حيث الثواب والعقاب: أعمال القلوب كأعمال الأبدان من هذه الجهة، مع أن أعمال القلوب أشرف- كما سيأتي- لكن أعمال القلوب يتعلق بها الثواب والعقاب كما أنه يتعلق بأعمال الجوارح، فالإنسان يعاقب إذا اغتاب أحداً بلسانه، وهكذا إذا توكل على غير الله .. وهكذا إذا خاف من غير الله وعز وجل، خوفاً لا يصلح إلا لله؛ فإنه يعاقب. وهكذا إذا انعدم الإيمان في قلبه، أو انخرم، وكذلك إذا نقص من إيمانه الواجب، فإنه يعذب .
كما أن الإنسان يعذب على الأعمال القلبية السيئة: كالعشق المحرم، والمحبة المحرمة، ويعذب على الشرك الذي يقع في قلبه، وسوء الظن بالله عز وجل، أو بإخوانه المؤمنين..وهكذا على سائر الأعمال القلبية المحرمة .
إذًا: العمل القلبي يتعلق به الثواب والعقاب، ومن أراد أن يعرف تفصيل ذلك فعليه بكتاب:'زاد المعاد في هدي خير العباد 5/203' .(1/31)
ثامناً:أهمية الأعمال القلبية، والمفاضلة بينها وبين أعمال الجوارح [انظر رسالة:الإرجاء للدكتور سفر الحوالي 2 / 541] : وذلك من وجوه متعددة:
أولها: أن اختلال العبادات القلبية لربما هدم العبادات التي تتعلق بالجوارح: ومن أمثلة ذلك:
· الإخلاص:وهو عمل قلبي، فإذا زال الإخلاص من قلب العبد، فوقع في الشرك، أو إذا وقع في النفاق الأكبر؛ فإن إيمانه يضمحل، وإذا وقع في الرياء؛ فإن إيمانه يختل، وذلك العمل الذي خالطه الرياء يكون باطلاً؛ فالله طيب لا يقبل طيباً كما قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] رواه مسلم.
فالله لا يقبل هذه الأعمال التي يخالطها الإشراك: سواء كان ذلك في أول العمل من أوله، أو كان في أثنائه واسترسل العبد معه، فإن ذلك يبطل العمل في هاتين الصورتين، فصارت عبادة العبد الظاهرة: كالركوع، والسجود، أو الصلاة، أو الصيام، أو غير ذلك صار ليس له منها إلا التعب، ثم يعاقب عليها؛ لأنه صرفها لغير الله عز وجل .
· مثال آخر من الأعمال القلبية:التواضع: وهو عمل قلبي يظهر أثره على الجوارح، ما الذي يبطله ويفسده؟ الكبر، والكبر هو تعاظم في القلب يظهر أثره على جوارح الإنسان، فهذا يدل على اختلال عبادة التواضع- وهي عبادة قلبية- لداء الكبر، ومعلوم أن الكبر مانع من دخول الجنة .
· مثال ثالث:الحسد: داء قلبي، وعلة من علل القلوب تفسد القلب، وهو يُذْهِبُ ما يجب على المؤمن من صفاء قلبه لإخوانه المسلمين، فهذا الإنسان الحسود يتمنى أن تزول النعمة عنهم، سواء وصلت إليه أم لم تصل إليه، فهذا الحسود لا يحب قطعاً لإخوانه ما يحب لنفسه، وإلا لِمَ يحسدهم؟! فهذا يدل على اختلال في العمل القلبي الواجب من محبة الخير للمسلمين كما يحب لنفسه، وهي عبادة قلبية، فالحسد يذهب الحسنات .(1/32)
ثانياً:الأعمال القلبية أساس النجاة من النار والفوز بالجنة: كالتوحيد فهو عبادة قلبية محضة، وسلامة الصدر للمسلمين عبادة قلبية، وتعرفون جميعاً حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ - يعني إذا حصلت له انتباهه ذكر الله، لم ير قيام ليل، ولا صيام نهار، ولا كثرة ذكر، ولا كثرة تلاوة للقرآن- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/33)
يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَار: [ٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ- ولاحظوا إخلاص السلف رضي الله عنهم، ما قال:إني صاحب أعمال كثيرة، وصعب أن أحصيها لك الآن، ولا أريد أن أظهر عملي، ليظهر كأن عنده بعض الأعمال العظيمة - قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. ليس في قلبه غل على أحد، ولا حسد لأحد من المسلمين، فماذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص- وهو من علماء الصحابة وعبادهم، كان يصوم الدهر حتى نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم وما زال به حتى أقره أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يختم القرآن في صلاة الليل في كل ليلة لما سمعه عبد الله بن عمرو بن العاص ماذا قال ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ' رواه أحمد .(1/34)
تأملوا في هذه الجملة وقفوا عندها طويلاً:' هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ' من قالها ؟ إنسان عالم،عابد، من أعبد الناس، زوجه أبوه امرأة من أشراف قريش يقول فجاء عمرو بن العاص بعد سبعة أيام إلى زوجة عبد الله بن عمرو فسأل عنه فقالت:' نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ'. ما قربها وما لمسها يقوم طول الليل، إذا غربت الشمس بدأ في ورده، وإذا صلى العشاء بدأ القيام إلى الفجر، ثم هو صائم، فلم يعجب ذلك أباه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكاه، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ... الخ القصة المعروفة. رواها البخاري ومسلم .
شاب يتوقد حيوية، وليس به علة ما هو مريض، ولا ضعيف، ولا عاجز مشغول، ومع ذلك يقول لهذا الرجل:' هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ' فهذا يدل على أي شيء؟ يدل على عظم هذا المعنى، وأنه يبلغ بالإنسان أعلى الدرجات وإن لم يكن له عمل كثير، ويدل على أنه من أصعب الأشياء، صفاء القلب للمسلمين، ونقاء القلب لإخواننا هذا أمر صعب، قد يكون الإنسان عنده علم كثير، وعبادة كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أن يسيطر على قلبه، لكن بالمجاهدة مع كثرة الدعاء والإلحاح على الله عز وجل وكما علمنا الله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[34] ([سورة فصلت] .
وإسقاط حظوظ النفس، إذا خرجت من بيتك اجعل حظ النفس خلف ظهرك، لا ترى لأحد عليك حقاً فتشره على هذا، وتعتب على هذا، وهذا لم يقدرني، وهذا ما قام حينما سلم عليّ وقام لفلان، وهذا لم يزرني حين مرضت، وهذا لم يعزيني في فلان، وما إلى ذلك .. دع عنك هؤلاء وارتبط بالله عز وجل، فالعبادات القلبية أساس النجاة والفوز بالجنة.(1/35)
ثالثاً:أنها سبب المراتب العالية في الجنة: فالحب في الله عبادة قلبية محضة، وقد صح من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ لله جُلَسَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ وَكِلْتَا يَدَي الله يَمِينٌ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ وُجُوهُهُمْ مِنْ نُورٍ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ وَلَا صِدِّيقِينَ] قِيلَ يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمْ قَالَ: [ هُمْ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى] رواه الطبراني في الكبير12/134 وقال الهيثمي في 'المجمع' 10/277 بعد عزوه له:' ورجاله وثقوا '.
وهكذا أيضاً الأخلاق الحسنة: الحياء، والصبر، وما إلى ذلك من الأخلاق الطيبة الكاملة، فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ] رواه أبوداود وأحمد الترمذي وقال:حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا...] رواه الترمذي رقم 2108 وقال: حَسَنٌ غَرِيبٌ.(1/36)
رابعاً:أن العبادات القلبية أشق من عبادات الجوارح: ويكفي المثال الذي ذكرناه قبل قليل في تصفية القلب وتنقيته من الغل للمسلمين، يقول يونس بن عبيد رحمه الله - وقد كتب إليه أحد إخوانه يسأله عن مسائل فقال يونس- :'أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه - أرسل إليه رسالة يقول ما عملك ؟ - فيقول:أخبرك بأني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره للناس ما تكره لها، فإذا هي عن ذلك بعيدة - يقول ما استطعت هذا، هذا من؟ هذا يونس بن عبيد العابد - يقول:ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير لا أذكرهم لا أتكلم بهم بسوء - بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر بطريقة مغلفة - يقول:فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك - فهذا يدل على أي شيء ؟ يدل على أن الإنسان له لذة جامحة في الكلام في أعراض المسلمين، فهذا يدل على أن الإنسان يحتاج إلى كبح قوي لهذه النفس، ولهذه الرغبة الجامعة المسيطرة على النفس، وما يفسد علينا أمرنا في هذا الباب إلا كثرة التأويلات، هذه المرة المقصود كذا والمقصود كذا، ثم نقع فيما حرم الله عز وجل من الغيبة - يقول:هذا أمري يا أخي والسلام' [نزهة الفضلاء1/539]. يقول: أنا في مكابدة، وهذا يدل على أن العبادات القلبية شاقة .
خامساً: أن العبادات القلبية أجمل أثراً من عبادات الجوارح بل هي مُجَمِّلَةٌ لعبادات الجوارح: فعبادات الجوارح على غاية الأهمية وهذا أمر لا ينازع فيه، لكن عبادات القلب أحلى وأوقع وأجمل أثراً، وهذا ما يجده الإنسان في نفسه-إن كان قلبه موصولاً بالله عز وجل- كان بعض السلف يقول:'مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا:وما أطيب ما فيها؟ قال:محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه' [تهذيب مدارج السالكين ص 245] .(1/37)
سادساً: أن العبادات القلبية أعظم من عبادات الجوارح أجراً عند الله عز وجل ومثوبة: وقد كان كثير من السلف يفضلون عبادات القلب على الإكثار من عبادة الجوارح، مع عدم إهمالهم لعبادات الجوارح، كان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يقول: 'تفكر ساعة خير من قيام ليلة'[نزهة الفضلاء1/160 ] . و قيل لأم الدرداء رضي الله عنها: أي عبادة أبي الدرداء أكثر ؟ قالت:' التفكر والاعتبار' .[ السابق] أن يكون الإنسان دائم الفكرة، ووصف لسعيد بن مسيب رحمه الله عبادة قوم أنهم يصلون بعد الظهر إلى العصر قال:'إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله' . وهو لا يقصد أن يزهد في صلاة النافلة، وإنما أراد أن يلفت أنظارهم إلى عبادة يغفلون كثيراً عنها وهي: التفكر .
سابعاً:أن العبادات القلبية محركة ودافعة للجوارح: إذ كلما عظم الإيمان، والتوحيد، ومحبة الله في القلب؛ كلما كان ذلك دافعاً للجوارح للعبادة .. يقول عتبة الغلام:'من عرف الله؛ أحبه، ومن أحبه؛ أطاعه' . فإذا وجد الإقبال والمحبة في قلب العبد؛ أقبلت جوارح العبد، وهان عليها التعب في الطاعة والعبادة .
ثامناً:أن العبادات القلبية تعظم عبادات الجوارح: ومعلوم أن الواحد قد يعمل عملاً من الأعمال، ويعمله آخر كما عمله هذا -من حيث الظاهر-:
· فهذا تصدق بمائة، وهذا تصدق بمائة، وبينهما كما بين السماء والأرض، فقد يتصدق الإنسان وهو يعد هذه الصدقة مغرماً، ولربما أخرجها كارهاً محرجاً، وآخر: أخرجها رغبة لكنه أخرجها وفي نفسه أنه مدل على ربه، وثالث: أخرجها وفي قلبه الحياء من الله والخوف منه, والإشفاق ألا تقبل، وأن هذا قليل من كثير مما أعطاه الله عز وجل، وأن الله هو الذي وفقه وهداه وسدده إلى هذه الصدقة والعمل الصالح، وأنه بحاجة للمزيد من العبودية ليشكر الله على هذا الإنعام أولاً وآخراً.. فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض !(1/38)
· النية في طلب العلم: قد يطلب الإنسان العلم لدنيا، وقد يطلبه ليعرف ربه ومعبوده، ويقترب إليه، فتكون له نية صحيحة، فكم بينهما من الفرق، والمجلس واحد، هما في مجلس واحد، في مكان واحد، ومع ذلك كم من الفرق بين هذا وهذا إنما كان ذلك بسبب النية .. يقول ابن المبارك رحمه الله:'رُبَّ عمل صغير تكثره النية، ورُبَّ عمل كثير تصغره النية' .
· وهذا كما يقال في الطاعات يقال في المعاصي: قد يعمل رجلان معصية واحدة لكن هذا عملها وهو مستهتر، مستخف، متبجح، يتباهى بعملها، ويجاهر في ذلك، وكأنه ذباب جاء على وجهه فقال به هكذا .. وآخر يعمل معصية وهو خائف من الله، مُسْتَحٍ منه، يستشعر أن الله يراه ويراقبه، لكنه غلب بفترة ضعفت نفسه فيها، ثم لا يلبث أن يراجع.. فشتان بين هذا وهذا .
هذا العمل الذي عمله الأول- مع أن الثاني كان نظيراً له من حيث الظاهر إلا أن الأول- يهوي به عمله في الدركات -إن لم يتداركه الله عز وجل بلطفه ورحمته- والآخر معصيته تصغر وتتضاءل بسبب ما قام في قلبه من الخوف والحياء من الله لا يتبجح، ولا يمكن أن يطلع أحدًا على ذلك، فهو في غاية الوجل، وإذا تذكرها خاف وأشفق منها.. فكم من الفرق بين هذا وهذا !
تاسعاً:أن العبادات القلبية قد تكون في بعض الأحيان معوضة للعبد عن عبادات الجوارح: ولنأخذ مثالاً على ذلك:
· الجهاد في سبيل الله عز وجل: يأتي رجال للنبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم فيقول:لا أجد ما أحملكم عليه فيتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، فهؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ] رواه مسلم وابن ماجة وأحمد .(1/39)
لماذا؟ لأن العذر قد حبسهم، فالإنسان قد لا يستطيع أن يعمل بعض الأعمال، ولكنه يبلغ مبلغ العاملين لها بنيته، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : [ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ] رواه مسلم.
فدل على أن الإنسان إن لم يقم بالغزو ببدنه وجوارحه؛ فعليه أن يستحضر النية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: [ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ] رواه البخاري ومسلم. فالنية لربما تكون معوضة عن عمل قد يعجز عنه الإنسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] رواه مسلم .
عاشراً:أن أعمال الجوارح كما ذكر ابن القيم رحمه الله- في مدارج السالكين - لها حد معلوم وأما أعمال القلوب لا حد لها بل تضاعف أضعافاً: وذلك لأن أعمال الجوارح مهما كثرت وعظمت لها وقت معلوم، الصلاة لها وقت، والصيام له وقت، والحج له وقت وله حد محدود. أما العبادات إذا كانت متعلقة بالقلب-العبادات القلبية- فإنها تكون حالاً ملازمة للعبد في صحوه ونومه، وصحته ومرضه، وصفائه وكدره، وفي جميع أموره .
· ولنأخذ مثالاً على ذلك:المحبة: محبة الله عز وجل هل تفارق العبد؟ هل تفارق قلب العبد وهو قائم، أو قاعد، أو يمشي، أو مسافر، أو مقيم، وهو يأكل، أو يتعبد أو غير ذلك؟ هي ملازمة له.
· التعظيم.
· الإخلاص.
· الشوق إلى لقاء الله عز وجل .
فإذا تمكنت هذه الأمور من قلب العبد، واستحكمت؛ فإنها تكون حالاً ملازمة لهذا العبد، فلا تفارقه. وهذا يدل على شرف الأعمال القلبية على أعمال الجوارح فهي تنقطع وتنقضى .
الحادي عشر:أن العبادات القلبية يستمر بعضها في أحوال تنقطع فيها عبادات الجوارح أو تقل:(1/40)
· فمثلاً: إذا مات الإنسان انقطع عمله الذي يباشره بنفسه هو، ويبقى ما ورثه من الولد الصالح...إلخ . لكن الأعمال التي يعملها هو من صلاة وصيام ...إلخ تنقضي، ولكن الأمور القلبية:التوحيد: يسأله الملكان فيجيب، يسألانه عن الإيمان، وفي الجنة، وفي جميع أحوال العبد إذا كان لديه إدراك، فإن قلبه متعلق بمولاه .. هذا المؤمن، فأهل الجنة يحبون الله، ويعظمونه، ويجلونه، ويقدسونه، وهذا عمل قلبي، ولكنهم لا يصلون في الجنة، ولا يصومون في الجنة؛ فليست الجنة محلاً لهذه التكاليف، أما الأمور القلبية فهي تستمر، أو يستمر كثير منها، أما التسبيح فإن أهل الجنة يلهمونه إلهاماً كما يلهمون النفس فلا يرد على هذا .الثاني عشر:أن العبادات القلبية هي الأصل وأن أعمال الجوارح فرع عنها: ومعلوم من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح. فالقلب يصدق، واللسان يشهد، والقلب يعمل عمله من توكل، ومحبة، وإخبات.. وما إلى ذلك. واللسان يعمل: ذكراًَ، وقراءة للقرآن، وقولاً للحق، والجوارح: تسجد وتركع، وتعمل الصالحات التي تقرب إلى الله عز وجل.
فعمل القلب هو الأصل، فلو انتفى التصديق الانقيادي، والإقرار من القلب ماذا يحصل؟ لا يقبل عمل من أعمال الإنسان البتة، يقول ابن القيم رحمه الله:'أعمال القلوب هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تبعاً، ومكملة، ومتممة' يقول:' وأما النية فبمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح كمواتها، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية، فحركة عابث، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عنها'[بدائع الفوائد 3/224].(1/41)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً يشبه هذا: [انظر الفتاوي 10/5-6و15، 355، شرح حديث: [ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي] ص 45]، وكذا ذكره ابن القيم في مواضع من كتبه: [انظر بدائع الفوائد 3/230 الصلاة ص 54، المدارج 1/101] . لأن أصل الدين هو الأمور الباطنة، ويكفي هذا في بيان المعنى.
تاسعاً: لزوم العناية بأعمال القلوب وأعمال الجوارح وأحوال الناس في ذلك :
بيان أهمية أعمال القلوب، وأنها أشرف من أعمال الجوارح لا يعنى أن نهمل أعمال الجوارح، وقد ذكر العلماء ومنهم الشيخ تقي الدين الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم: [انظر الفوائد ص 142 - 143، إغاثة اللهفان ص 118، بدائع الفوائد 3/710] أحوال الناس في ذلك فهم على ثلاث أحوال:
· منهم: من اشتغل بالأمور القلبية، وإصلاح القلب، ومراقبة الخطرات، وَتَرَكَ الأعمال الظاهرة وأهملها .
· وطائفة: اشتغلوا بالأعمال الظاهرة: كالصيام، والصلاة، وما إلى ذلك، وتركوا إصلاح القلوب؛ فعششت الأحقاد في قلوبهم، والتنافس على الرئاسات، وقست قلوبهم، وصار فيها من تعظيم المخلوقين، أو الخوف منهم ما لا يقدر قدره .
·الطائفة الثالثة-وهي التوسط-: أن يعتني بالأمور القلبية، وأن تُعْطَى حقها، وأن يعتنى بأعمال الجوارح، فهذا سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، كانوا يعنون بأمور القلب كما يعنون بأمور الجوارح .(1/42)
فلذلك نقول: إن التربية الصحيحة هي التي تعنى بقلب الإنسان كما تعنى بجوارحه، هرقل لما سأل أبا سفيان ومن معه هل يرجع أحد منهم سخطة عن دينه بعد دخوله ؟ يسأل عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له:لا قال:وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإن أصحابه لا يرجعون عنه. وقد ذكر شيخ الإسلام من خصائص أهل السنة والجماعة الأخلاقية، قال: وأن الواحد منهم لا يرجع عن دينه، ولو مشط بأمشاط من حديد، وشيخ الإسلام يقول: ولا نعرف قط أن أحداً منهم رجع عن دينه، والحق الذي اعتقده بترغيب، أو بترهيب .
فيجب أن نربي الناس على العناية بقلوبهم، هذا الشاب الذي تراه معك يذهب ويجيء بنشاط في أعمال صالحة هذا طيب لكنه قد يسافر، فينحرف..قد يفقد هذه المجموعة، فينحرف، وقد يُسْتَغْرَبُ لماذا ينحرف؟! لأنه انشغل بعمل ظاهر دون أن تخالط قلبه بشاشة الإيمان، المفروض: أن نغرس فيهم حب الله، والإقبال على الله عز وجل، والخوف منه ومراقبته، وما إلى ذلك.
هذا ما يتعلق بهذه المقدمة بين يدي الحديث عن الأعمال القلبية، وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا شاهداً لنا لا شاهداً علينا، وأن ينفعنا وإياكم به.
( الإخلاص )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد
حديثنا عن موضوع الإخلاص وهذا الحديث سيكون متضمناً لإحدى عشرة نقطة وهى:
أولًا: معنى الإخلاص وحقيقته .
ثانيًا: الفرق بينه وبين النصح والصدق .
ثالثًا: منزلة الإخلاص من الدين وأهميته .
رابعًا: ذكر الإخلاص في الكتاب والسنة .
خامسًا: مراتب الإخلاص .
سادسًا: صعوبة الإخلاص .
سابعًا: ثمراته وآثاره السلوكية .
ثامنًا: الآثار العكسية للمقاصد السيئة .
تاسعًا: كيف ننمى الإخلاص في قلوبنا .
عاشرًا: أمور تنافي الإخلاص .
الحادي عشر: السلف رضوان الله تعالى عليهم والإخلاص .
أولًا : ما يتعلق بمعنى الإخلاص وحقيقته:(1/43)
· الإخلاص مأخوذ من الخلاص، وتقول: خلص، فهو خالص إذا صفى وزال عنه ما يشوبه، يقول ابن فارس رحمة الله:' الخاء واللام والصاد أصل واحد مضطرد، وهو تنقية الشيء وتهذيبه ' [المقاييس في اللغة 2/208] . فإذا أخلص الدين لله: أي قصد وجهه وترك الرياء، بمعنى أمحض الدين لله ونقاه، والمُخلِص هو الذي وحد الله خالصاً، والمُخلَص هو الذي اختصه الله أي: جعله مختاراً من الدنس.
وكلمة الإخلاص هي كلمة التوحيد، والإخلاص في العبادة والطاعة، وترك الرياء، هذا معنى هذه اللفظة في كلام العرب، تدور حول تنقية الشيء مما يشوبه من الشوائب، وتخليصه من الأكدار ومما يداخله.
· وأما الإخلاص في معناه الشرعي: فعبارات العلماء فيه متقاربة، كقولهم:' هو إفراد الحق سبحانه بالقصد والطاعة'. وكقول بعضهم:' أن يكون العمل لله سبحانه لا نصيب لغير الله فيه' ، أو هو:' نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق يعني بالقصد' ، أو هو:' استواء عمل الظاهر والباطن' .. وعلى كل حال يمكن أن نقول بأن:
الإخلاص هو: تصفية العمل من كل شائبة، بحيث لا يمازج هذا العمل شيء من الشوائب في الإدارات، وأعنى بذلك إرادات النفس، إما بطلب التزين في قلوب الخلق، وإما بطلب مدحهم، والهرب من ذمهم، أو بطلب تعظيمهم، أو بطلب أموالهم، أو خدمتهم، أو محبتهم، أو أن يقضوا له حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب والإرادات السيئة التي تجتمع على شيء واحد، وهو: إرادة ما سوى الله عز وجل بهذا العمل، وعليه: فالإخلاص هو توحيد الإرادة والقصد، أن تفرد الله عز وجل بقصدك وإرادتك فلا تلتفت إلى شيء مع الله تبارك وتعالى. [انظر:مدارج السالكين 2/92].
ثانياً : ما الفرق بين الإخلاص وبين الصدق والنصح ؟
· بعض أهل العلم يقولون: إن الفرق بين الإخلاص والصدق: أن الصدق هو الأصل، والإخلاص متفرع عنه.[انظر:التعريفات للجرجاني] .(1/44)
· وبعضهم يقول: بأن الإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل، وأما الصدق فيكون بالنية قبل الدخول فيه.
· وابن القيم رحمة الله يذكر فرقاً آخر [المدارج 2/91-92] وهو: أن الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وأما الصدق فهو التنقي من مطالعة النفس، فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له، ثم يذكر أن هذه الأمور بينها تلازم ولا انفكاك لأحدها عن الآخر .[المدارج 2/91-92].
· ويمكن أن نعبر عن الفرق بينهما بعبارة واضحة وهو أن يقال: إن الإخلاص هو أن تفرد الله عز وجل بقصدك، وأما الصدق: فهو الموافقة بين الظاهر والباطن هذا في الأعمال وفي الأحوال.
في الأعمال: بحيث أن الإنسان لا يُظهر أعمالاً صالحة وقلبه ينطوي على غير ذلك.
وفي الأحوال: بحيث إن الإنسان لا يُظهر خشوعاً، أو صلاحاً، وقلبه ينطوي على خلاف ذلك، فهذا غير صادق وكذلك في الأقوال: الصدق فيها بموافقة القول لما في القلب، فمن قال قولاً، ولو كان مطابقاً للواقع، ولكنه يخالف ما في مكنونه؛ فإنه يعتبر كاذباً بذلك، فلو سئل عن فلان أين هو؟ فقال: فلان مسافر، وهو يعتقد أنه موجود ولكن صادف أن قوله وقع على الحقيقة بحيث أن فلاناً قد سافر فعلاً وهو لم يعلم، فقال: إنه مسافر، وهو يظن أنه موجود؛ فإنه يكون بذلك كاذباً مع أن قوله طابق الواقع.(1/45)
وكذلك أيضاً إذا خالف ما في الواقع، وإن لم يقصد ذلك كما هو استعمال السلف كثيراً، وهو استعمال عربي معروف لكلمة:' كذب' التي تقابل الصدق، فإذا قال مثلاً فلان مسافر وهو يعتقد أنه مسافر، فتطابق قوله مع ما في مكنونه ولكنه أخطأ ذلك وتبين أن فلاناً لم يسافر، فالسلف كانوا يقولون عن ذلك بأنه كذب، ويعدونه من الكذب لا الكذب المذموم الذي يعاقب عليه صاحبه، وإنما يطلقون ذلك على كل ما خالف الواقع والحقيقة، ولهذا تجد في أقوال الصحابة رضى الله تعالى عنهم:'كذب فلان' من الصحابة، عائشة رضي الله عنها تقول:'كذب فلان' ماذا تقصد بذلك؟ لا تقصد التهمة، إنما تقصد معنى آخر وهو أنه أخطأ.
· إذًا الحصيلة من هذا: أن الصدق يكون بموافقة الظاهر للباطن في الأقوال والأحوال، ويكون أيضا عند المتقدمين بموافقة القول للواقع.. هذا هو الصدق.وخلافه الكذب، وهو قسمان:
كذب يؤاخذ عليه الإنسان ويلحقه الذنب: إن قصد أن يقول شيئاً يخالف به الحقيقة والواقع، فهذا يؤاخذ عليه ويكون مذموماً آثماً.
وأما الصنف الثاني: وهو ما لا يؤاخذ عليه: فيما لو وقع منه ذلك على سبيل الغلط، فيسمى ذلك بالكذب، ولكن صاحبه لا يلحقه ذنب .
هذا الفرق بين الإخلاص والصدق،، وقد يعبر بالصدق، ويراد به الإخلاص، فيقال: فلان يعامل ربه بصدق يعني: بإخلاص.
· وأما الفرق بين الإخلاص والنصح: فيمكن أن يقال في عبارة مختصرة: إن الإخلاص- كما سبق- إفراد الله عز وجل بالقصد، أما النصح: فهو استفراغ الوسع، وبذل الجهد في أداء العمل [انظر:الفوائد لابن القيم ص186]، فتقول: فلان ناصح في عمله، فلان ناصح لتلامذته، فلان ناصح في صحبته، فلان ناصح لفلان، وليس المراد أن يقدم له نصائح إنما المراد أن يستفرغ جهده في إيصال النفع له بكل وجه مستطاع.(1/46)
· ولربما عُبر بالإخلاص عن النصح، فقيل: فلان يعمل بإخلاص في كذا وكذا، أي: أنه يعمل بنصح، وإن كان المراد أنه يعمل يريد وجه الله فقط، فيكون ذلك من باب توحيد القصد والإرادة، يعمل بإخلاص أي: يريد وجه الله لا يريد شيئاً آخر. ويمكن أن نقول: فلان يعمل بإخلاص أي: أنه يبذل طاقته ووسعه وجهده ولا يتوانى في القيام بالمهمة التي وُكلت إليه، وبهذا نعرف الفرق بين الإخلاص والنصح وبينه وبين الصدق .
ثالثًا: منزلة الإخلاص من الدين وأهميته : وهذا يتبين من وجوه مختلفة:
أولًا: أن الإخلاص هو روح العمل: فعمل لا إخلاص فيه كجسد لا روح فيه، فهو بمنزلة الروح من الجسد، يقول ابن القيم رحمه الله:'ومِلاَك ذلك كله: الإخلاص والصدق، فلا يتعب الصادق المخلص، فقد أُقيم على الصراط المستقيم فيُسَار به وهو راقد، ولا يتعب من حُرم الصدق والإخلاص فقد قُطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بُعداً، وبالجملة: فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة' [الروح ص227] .
وما أجمل وما أحلى عبارة ابن الجوزي رحمه الله، حيث قال في كتاب له لطيف اسمه:'اللطف في الوعظ':' الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسكِ القلب - أي: أنه محفوظ في هذا الوعاء الذي هو القلب - ينُبئ ريحه على حامله، العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل - في الحج - لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف' .(1/47)
وهو بهذا يريد أن يقول: إن منزلة الإخلاص من الأعمال كمنزلة الوقوف بعرفة من أعمال الحج، ولو أن الإنسان ذهب إلى منى، ومزدلفة، وطاف بالبيت الحرام، وما إلى ذلك من الأعمال التي يعملها الحجاج، ولم يقف بعرفة، هل يكون ذلك الإنسان حاجاً؟ الجواب: لا، يقول : لو قَطَعتَ سائر المنازل لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف . وصدق رحمه الله، وتأمل قوله قبله:'الإخلاص مِسْك مَصُون في مَسك القلب يُنبيء ريحهُ على حامله' فالإخلاص لا يحتاج منك إلى إظهار، ولا يحتاج منك إلى إعلام للناس أنك مخلص، وإنما يظهر ذلك في حركات الإنسان، وسكناته، وتظهر آثاره على العبد . وأما الذي يتصنع للناس، ويسعى لإعلامهم بعمله، وصلاح قلبه، وما إلى ذلك، فالواقع أنه يُحطم الإخلاص في قلبه، ولا يزيده ذلك إلا شَيناً في قلوب الخلق، والله المستعان.
فبهذا نعلم: أن الإخلاص هو عمود العمل، وهو سنامه؛ لأن العامل بدون إخلاص كادح متعب نفسه، لا أجر له، فالله عز وجل يقول:( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[23] ([سورة الفرقان] . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المشهور: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] رواه البخاري ومسلم. والله يقول جل جلاله:(...لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7] ([سورة هود]. ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملًا، فليست العبرة بالكثرة إنما العبرة بالصواب مع حسن القصد:(1/48)
· قال الفضيل بن عياض رحمه الله - تعليقاً على هذه الآية في بيان معنى:( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (قال:' أخلصه وأصوبه' قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال:' إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة، ثم قرأ:( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110] ([سورة الكهف] '.
· ويقول ابن القيم رحمه الله:' العمل بغير إخلاص ولا إقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه' . فهو ليس له من هذا الجراب وهذا الحمل إلا التعب، فمن حمل التراب على ظهره، فإن ذلك لا ينفعه؛ لأنه لا نفع فيه.
· ويقول ابن حزم- مبيناً هذا المعنى- :'النية: سر العبودية، وهى من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه؛ إذ هو بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، وهو جسد خراب'.
· وهذا الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى يقول في حكمة بليغة:' رأس الأدب آلة المنطق، لا خير في قول بلا فعل، ولا في منظر بلا مخبر، ولا في مال بلا جود، ولا في صديق بلا وفاء، ولا في فقه بلا ورع، ولا في صدقة بلا نية'. وإن شئت فقل: ولا عمل بلا نية .
ثانيًا: أنه لا سبيل إلى الخلاص والانفكاك من التبعات إلا بالإخلاص: فالإنسان يحاسَب على أعماله، ويحاسَب على نياته وإراداته، وإذا نُصبت الموازين، ووضعت الصحف؛ أبصر العبد بعد ذلك عمله، وعرف حاله ومنزلته عند الله عز وجل، يقول شمس الدين ابن القيم رحمه الله:' ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ وكَيْفَ ؟؟ أي: لم فعلت، وكيف فعلت ؟(1/49)
فالأول: سؤال عن علة الفعل، وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا من حب المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل ؟! أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه ؟! ومحل هذا السؤال أنه: هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك ؟
والثاني:سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد: أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟
فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما، وطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع، فهذه حقيقة سلامة القلب التي ضمنت له النجاة والسعادة'[إغاثة اللهفان 1/8].
ولهذا كان معروف الكرخي رحمه الله يحث نفسه دائما، ويردد عليها:' يا نفس أخلصي تتخلصي.. يا نفس أخلصي تتخلصي' .
ثالثًا: من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص، وعظيم منزلته: أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام: كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية رحمه الله، فقال:' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا...[29] ([سورة الزمر] . يقول: فمن لم يستسلم لله؛ فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره؛ فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر' [مجموع الفتاوى 10/14].(1/50)
رابعًا: مما يدل على أهميته أنه الفطرة التي فطر الله الناس عليها وبه قوام الأمة[انظر:درء التعارض8/374 ]: فالله ما فطر الناس على الرياء، وعلى المقاصد السيئة، وعلى الشرك بالله عز وجل، إنما فطرهم على التوحيد، ولا شك أن الإخلاص هو التوحيد، مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على معاذ بن جبل فسأله:' ما قوام هذه الأمة؟' فقل معاذ:' ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص: وهو الفطرة ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...[30] ([سورة الروم]. والصلاة: وهى الملة. والطاعة: وهى العصمة' فقال عمر رضى الله عنه:' صدقت' .
ومن هنا نعلم شأن الإرادات والمقاصد والنيات، وخطرها، وعظيم أثرها وشأنها، ولهذا قال يحي أن أبي كثير رحمه الله تعالى:' تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل' . وذلك لأنها تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه عمله- كما سيأتي إن شاء الله-ويقول ابن أبي جمرة- وهو أحد شراح الصحيح- :' وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد في تدريس أعمال النيات ليس إلا؛ فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك'.
رابعًا: الإخلاص في الكتاب والسنة:
· الإخلاص يذكر في كتاب الله عز وجل كثيراً:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[65]( [سورة غافر].
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[5] ( [سورة البينة].
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:( إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ[40]أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ[41]فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ[42]فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ[43] ( [سورة الصافات].(1/51)
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:( إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[40] ([سورة الحجر] . بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين، ويستهويهم بوساوسه وخواطره، وإضلاله وتزيينه.
· وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ - يعني يريد الأجر من الله عز وجل، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد - مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ] رواه النسائي، وهو حديث حسن الإسناد .
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] رواه مسلم . فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله، ويريد ما عند المخلوقين؛ هذه الله غني عنها، ولا يعبأ بها، ولا يقيم لها وزنًا.(1/52)
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد، وهو محل الإخلاص، والقصد والنية، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ]رواه مسلم.
وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] رواه البخاري ومسلم. شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص، ومنزلته، وعظيم أثره؛ لما كفى لاستيعابها هذا المجلس بل ولا مجالس، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق .
خامسا: مراتب الإخلاص : يمكن أن نقول بأن العمل الذي يكون خالصاً مقبولاً على مرتبتين إحداهما أعلى من الأخرى:
المرتبة الأولى: أن يتمحض القصد لإرادة وجه الله عز وجل، وما عنده من الثواب والجزاء، ولا يلتفت العبد إلى شيء آخر- وإن كان مباحاً-:
· فهو يجاهد يريد ما عند الله فقط لا يريد غنيمة، فضلاً عن المقاصد السيئة كالرياء والسمعة.
· وهو يصوم يريد ما عند الله عز وجل، ولا يلتفت لأمر يجوز الالتفات إليه كتخفيف الوزن، أو تحسين صحة البدن، أو الحمية، أو ما إلى ذلك.
· وكالذي يمشي إلى المسجد ليكثر الخطى التي يتقرب بها إلى مولاه لا يلتفت لمعنى آخر، وهو أن ينشط بدنه، ويتقوى هذا البدن، وإنما يلتفت إلى المعنى الأول فقط فهذا أعلى المراتب.
المرتبة الثانية :العمل يكون مقبولاً إلا أنه دون الأول، وهو أن يقصد العبد وجه الله عز وجل بالعمل، ولكنه يلتفت إلى معنى يجوز الالتفات إليه:(1/53)
· كالذي يحج يريد وجه الله عز وجل، ويريد أيضاً التجارة، فهذا لا مانع منه، والله عز وجل يقول:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ...[198] ([سورة البقرة]. والمعنى: أن تبتغوا فضلاً من ربكم أي بالتجارة في مواسم الحج .
· وكالذي يحج لأنه يحمل معه جموعاً من الحجاج يأخذ منهم أجرة على ذلك، فهذا يريد وجه الله عز وجل، ويريد هذا المغنم العاجل، فحجه صحيح، ولكن مرتبته دون الأول، دون الذي ذهب إلى الحج لا يريد إلا ما عند الله .
· وكالذي يصوم لله عز وجل، وهو يستحضر في نفسه معنى آخر، وهو أن يصح بدنه.
· وكالذي يحضر لصلاة الجماعة تلبيةً لأمر الله عز وجل، وطاعة وعبودية له، ويلتفت لأمر آخر يجوز الالتفات إليه أن تثبت عدالته، وأن تقبل شهادته؛ لأن الذي لا يحضر مع الجماعة لا تثبت له عدالة، ولا تقبل له شهادة، ولا شك أن المسلم مطالب بتحصيل الأمور التي تثبت بها عدالته، وهذا غير الرياء والسمعة، هذا أمر يجوز الالتفات إليه، ولكن من نظر إلى هذا المعنى فهو دون الأول.
إذًا هما مرتبتان: أن يتمحض القصد لله عز وجل، الثانية: أن يريد وجه الله، ويلتفت إلى معنى آخر يجوز الالتفات إليه، هذه مراتب ودرجات المخلصين، الذين يقبل الله عز وجل أعمالهم، ولا تتكدر بشيء من الإشراك .
سادسًا: صعوبة الإخلاص: الإخلاص أمر عسير شاق على النفس، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل- كما سيأتي- يقول أويس القرني رحمه الله:'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .(1/54)
أويس القرني هذا هو الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يطلب منه أن يدعو له، وأخبره أنه يأتي في أمداد اليمن، وذكر له صفته، فكان عمر يترقب ويتحرى حتى عثر عليه، فكلمه وسأله حتى استيقن أنه هو، وطلب منه أن يدعو له، ثم بعدها اختفى أويس فلم يعرف له أثر بعد ذلك، اختفى لشدة إخلاصه لما انكشف أمره خشي أن يتعلق الناس به، وأن يثنوا عليه ويطروه، وأن يتتبعوا آثاره يطلبون منه الدعاء، أو يطلبون منه أن يستغفر لهم، وما إلى ذلك، فاختفى في أجناد المسلمين، وخرج غازياً في سبيل الله عز وجل، ولم يوقف عليه بعدها، ومع ذلك يقول:'لن تعالج شيئاً أشد عليك منها' أي: النية .
ويقول يوسف ابن أسباط رحمه الله:' تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد' . قد يستطيع العبد أن يجاهد سنوات متواصلة، ولكنه قد يعجز كثيراً، أو يتعب كثيراً بمراقبة خطراته، وما يرد عليه من المقاصد والنيات، والواردات التي تقع في هذا القلب. قد يستطيع الإنسان أن يركع ويسجد ليلاً طويلاً، وأن يصوم النهار، ولكنه يصعب عليه أن يضبط قصده، وأن يتمحض هذا القصد لوجه الله عز وجل، وقد يسأل بعضكم لماذا كانت هذه الصعوبة؟ ولماذا كانت هذه المشقة في إكسير العبادة، وفي سر القبول، وهو الإخلاص؟ لماذا كان بهذه المشقة؟
ولماذا احتاج إلى هذه المجاهدة الكبيرة الطويلة حتى آخر اللحظات حينما يفارق الإنسان هذه الحياة ؟!!
أقول ذلك لأمور:(1/55)
أولها: أن الإخلاص لا نصيب للنفس فيه، كثير من الأمور التي للنفس فيها حظ عاجل قد لا تضطرب على الإنسان فيه نيته، وإنما يُحصل بغيته بمجرد تعاطيها من ألوان اللذات، أما الإخلاص فالإنسان يجرد نفسه، ويجرد قصده من كل إرادة والتفات، فلا يلتفت إلى حظ عاجل يرجع إلى هذه النفس، ولا يريد من الناس أن يُقربوه، أو يُكرموه، أو يُعظموه، أو يسمعوا عن عمله الصالح، فيطروه على هذا العمل، هو لا يريد هذا،، فلاحظ للنفس فيه، وبالتالي كان ذلك عسيراً عليها.
أمر ثان سَبَّب صعوبة الإخلاص: وهو أن الخواطر التي ترد على القلب لا تتوقف، وكما ذكرت- سابقًا- : أن القلب يقال له: الفؤاد لكثرة تفؤده، أي لكثرة توقده بالواردات، وكذلك قيل له: القلب لكثرة تقلبه فهو كثير التقلب على صاحبه، فَأَمرٌ بهذه المثابة؛ يصعب على العبد أن يلاحقه، وأن يضبطه في كل لحظة من لحظاته، وفي كل حركة من حركاته، ولهذا يقول الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله تعالى- وهُوَ مَنْ هُوَ في العبادة والإخلاص يقول- :'ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي إنها تقلب علي' . ويقول يوسف بن الحسين رحمه الله:'كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي على لون آخر' . يقول: أجاهدها من هذه الناحية، وأسد هذا الباب، فينبت لي من ناحية أخرى، فقد يثني عليه بعض الناس ثم يقول من أنا ؟! ما مني شيء ؟! وليس لي شيء ! أنا المُكَدَّى وابن المُكَدَّى، ثم يقوم يتكلم وهو يحتقر النفس، وينقدح في قلبه إبراز جانب التواضع والإخبات، وعدم الالتفات للنفس، وأنه ليس من أهل العجب.(1/56)
قد يتكلم العبد ويقول: البارحة في ساعة متأخرة من السحر سمعت كذا وكذا، ثم يقول: لكنى لم أكن في قيام، وإنما قمت لحاجة، هذا يطرد الرياء كما قال الصحابي لما قال: من رأى منكم الكوكب البارحة فقال: أنا، أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، هذا قالها خالصاً من قلبه، ولكن الإنسان قد يقولها خالصاً فينقدح له وهو يقولها معنى، وهو أنه يريد أن يظهر نزاهته عن الرياء ليقول للناس: لست من المرائين، فأمرٌ بهذه المثابة كيف نستطيع أن نضبطه في كل لحظة من لحظاتنا، وفي كل حركة من حركاتنا ؟
فالإنسان قد يذكر أشياء من جهود طيبة، ومشاريع خيرة والمقام قد يفهم منه السامع أنه هو الذي قام بها، ثم يستدرك ويقول:عِلماً بأن هذه الأمور ليس لي منها شيء، ولم أصنع منها شيئاً . هذا كلام جيد ليدفع عن النفس الرياء، لكن قد ينقدح في نفسه وهو يقول هذا الكلام أمرٌ آخر يفسد عليه، وهو أنه يبرهن على صحة قصده، ولا أعني بذلك إطلاقاً أن من قال ذلك، أنه متهم، لكني أريد أن أقول: إن شأن الإخلاص شأن كبير يحتاج إلى معاناة طويلة مدتها العمر بكامله، وهذه المجاهدة لا ينفك عنها العبد بحال من الأحوال، فيحتاج إلى بصر نافذ في خطراته وحركاته وسكناته.
سابعاً : ثمرات الإخلاص وآثاره السلوكية : هذه الآثار على قسمين:
آثار تحصل للعبد عن قريب، فتعجل له في دنياه.
وآثارٌ تؤجل فيجد ذلك في آخرته.
الآثار المعجلة للإخلاص: وهي كثيرة جداً منها:(1/57)
· أولاً: وهو أَجَلّها وأعظمها: أن الإخلاص إكسير الأعمال الذي إذا وُضع على أي عمل- ولو كان من المباحات والعادات- حوله إلى عبادة وقربة، فإذا قام العبد بشيء من الأمور المباحة: كالنوم، أو الأكل، أو الشرب، أو المشي، أو غير ذلك، يريد به التقرب إلى الله عز وجل كأن يقوي بدنه ليجاهد في سبيل الله، وكأن ينام في النهار من أجل أن يقوم الليل، وكأن يأكل ليتقوى على الطاعة، فكل ذلك يكون عبادة في حقه؛ ولهذا كان السلف كما قال زبيد اليامي رحمه الله:'إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب' .
· ثانيًا: من ثمرات الإخلاص العاجلة: أن العمل به يكثر ويتعاظم: ولو كان العمل بالجوارح قليلاً إذا وُجد معه الإخلاص؛ فإن العمل يعظم، ويكون رابحاً؛ لأن الله عز وجل ينميه للعبد، ويجازى عبده المخلص بتكثير فعله حتى إنه ليجد ذلك العمل يوم القيامة فوق ما يحتسب، ويبارك في هذا العمل، تجد بعض الناس له أعمال محدودة ومشاريع لربما كانت صغيرة في عين أصحاب الهمم العالية، ثم إذا نظرت بعد حين تجد أن الله عز وجل أوقع فيه ألوان البركات بسبب هذه الأعمال القليلة التي يعملها بحركة بطيئة، عمل قليل لكن وُجد فيه النية، فنفع الله عز وجل به، وصار له من الآثار الحميدة مالا يقدر قدره، ولهذا يقول ابن المبارك رحمة الله: ' رُبَّ عمل صغير تكثره النية، وَرُبَّ عمل كثير تصغره النية '.
لربما قام الإنسان بمشروع صغير بنية صحيحة، فينفع الله عز وجل به، ولربما قام آخر بمشروع كبير، وصرف عليه أموالاً طائلة، ولكن الله عز وجل لم يبارك فيه لم يكد أحدٌ ينتفع بهذا العمل، ولهذا كان بعض السلف يوصي إخوانه بهذا الإخلاص وتصحيح النيات، يقول أحدهم لصاحبه: ' أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل '.(1/58)
والله عز وجل قد أخبرنا عن المجاهدين الصادقين قال:( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ...[120] ([سورة التوبة] . فأعمال المجاهدين لا يكتب منها ما زاولوه عند مواجهة العدو فقط، وإنما يكتب لهم كل عمل عملوه بمجرد الخروج من بيوتهم بل يكتب للمجاهد إعداده لطعامه وشرابه، ويكتب له نومه، ويكتب له مشيه، ويكتب له كل شيء زاولهُ وعمله، ولو لم يلق عدواً، ولو لم يشهر سلاحاً في وجه عدو، كل ذلك يكتب له عند الله عز وجل، جوعهم يكتب لهم، وعطشهم يكتب لهم، وجراحهم تكتب لهم، ونفقاتهم في الطريق وفي غير الطريق تكتب لهم، كل ذلك يسجل في رصيد حسناتهم، وهكذا من خرج في طاعة لله عز وجل، ومن خرج حاجاً أو معتمراً، فكل نفقة أنفقها منذ أن خرج، وكل خطوة خطاها تكتب له في ميزان أعماله، وهكذا من سار في الدعوة إلى الله عز وجل ليقيم درساً، توجه ليعلم الناس العلم الشرعي الصحيح المبنيَ على الكتاب والسنة بعيداً عن البدع والأهواء، توجه ليدعو إلى التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا توجه إلى مسجده، أو إلى مدرسته، أو إلي أي مكان للدعوة إلى الله عز وجل؛ فإنه يؤجر على ذلك، ويكتب له ممشاه، تكتب له خطواته، ونفقاته التي أنفقها.(1/59)
ويبين ذلك - وهو أمرٌ إذا استشعره العبد؛ هان عليه الكثير من الأتعاب، وهانّ عليه كثير من النفقات التي ينفقها - قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة: [مَنْ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه البخاري . هذا الفرس إذا ارتوى، وإذا شبع، وإذا أخرج روثاً، وإذا بال، بل حتى الخطوات التي يخطوها الفرس وهو يجول؛ تكتب لصاحبه وهو في بلده؛ لأنه قصد في هذا الفرس ليس المباهاة، وليس العبث، وإنما قصد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولهذا قال داود الطائي رحمه الله:' رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن القصد، وكفاك به خيراً وإن لم تصنعه' .(1/60)
· ثالثاً: من ثمرات الإخلاص العاجلة: أنه الطريق إلى محبة الله عز وجل ونصره ورعايته: فالله عز وجل يقول عن أهل بيعة الرضوان:( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18] ([سورة الفتح] . قال:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ( فرتب على علمه بما في القلوب: وهو الإخلاص والصدق، وصدق العزيمة والإرادة، وصحة القصد، علم ذلك؛ فرتب على هذا العلم قال: ( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ( ومعلوم أن الحكم المرتب على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فكلما زاد إخلاص العبد؛ كلما ازدادت هذه الأمور التي تتنزل عليه من نصر الله عز وجل، وطمأنينة القلب وسكينة النفس، وكل ذلك يكون بحسب قصده وإخلاصه:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ { والتعقيب بالفاء بعد قوله:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( حيث قال:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( يدل على أن سبب نزول السكينة عليهم، وسبب إثابتهم لهذا الفتح القريب هو علمه ما في قلوبهم من إخلاص، دل ذلك على أن الإخلاص سبب للانتصار، وأن الإخلاص سبب لنزول السكينة في قلوب المؤمنين في القتال، وعند مواجهة الأعداء، وعندما يرجف بهم الناس من كل جانب، ويخوفون بالذين من دون الله عز وجل فيثبتون .
كل ذلك بسبب الإخلاص، ولهذا ينبغي للمجاهدين أن يخبتوا لله عز وجل، وأن يراقبوا مقاصدهم ولا يصدر منهم قولٌ ولا فعل يخالف ذلك؛ لأنهم قد يهزمون بسبب هذه المقاصد والإرادات السيئة، فإياك أن يشتد بأسك على العدو، أو يشتد وعيدك وتهديدك من أجل معنى فاسد في نفسك، إياك أن تهرول في وجه العدو وتعرض نفسك للموت وأنت تريد معنىً فاسد .(1/61)
· رابعاً:من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة: أن صاحبه يُسدد وتنبع الحكمة في قلبه، وتصدر على لسانه: كما قال أحد علماء التابعين رحمة الله تعالى:'ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه' . وقد قال سفيان بن عيينة رحمه الله نحواً من هذا، وزاد عليه:'وبصَّره عيوبَ الدنيا: داءَها ودواءَها' .
فإذا صدق العبد مع الله عز وجل؛ فإن الله يسدده، ويوفقه، ويرشده إلى كل خير، وإذا نزلت الفتن واختلط الحق بالباطل، والتبس ذلك على كثير من الناس؛ فإن أهل الصدق يهدديهم ربهم بإيمانهم، ويوفقهم للصواب ،ويظهره على أبيديهم، وتنطق به ألسنتهم، وإذا كان العبد سيئ القصد؛ فإنه يخذل أحوج ما يكون إلى النصرة، فإذا وقعت الفتن- نسأل الله العافية- تخبط في موضع الفتن، وتمرغ فيه، وانغمس في ألوان من الضلالات، وصدر عنه أمور عجيبة مع سعة علمه، وفرط ذكائه إلا أن الذكاء وحده لا ينفع إن لم يكن معه إخلاص، والعلم وحده لا ينقذ إن لم يكن معه إخلاص، إن لم يكن القلب عامراً بتقوى الله عز وجل وإرادته دون إرادة الدنيا، ولذلك تجد كثيراً من الناس إذا وقعت الفتن، واشتبكت الأحوال وكثر الخلاف بين الناس فهذا يقول كذا، وآخر يرى أن ذلك من أعظم الإفساد في الأرض، تجد أهل الإخلاص يتبينون الحق ولا يبقى ملتبساً عليهم، فالله عز وجل يسددهم، ويهديهم، ويرشدهم، نسأل الله عز وجل أن يسددنا وإياكم .
· خامساً: من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة:أن صاحب الإخلاص يكفيه الله عز وجل من وجوه عدة: ومن هذه الكفايات التي تحصل للمخلصين:(1/62)
أولها: أن الله عز وجل يكفى هذا العبد المخلص شأن الناس، ما بينه وبين الخلق، فلا يصله شيء يكرهه من جهتهم، وبالتالى لا يعيش تُؤَرَّقه الهموم؛ لأن هؤلاء يقعون في عرضه، ويظلمونه، ويعتدون عليه، فالله عز وجل يكفيه ذلك كما قال الله عز وجل:( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ... [36] ([سورة الزمر] .
'عَبْدَ' مفرد أضيف إلى معرفة وهو الضمير:'الهاء' :( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ( والمفرد إذا أضيف إلى معرفة أكسبه العموم، والمعنى: أليس الله بكاف عباده، وهي قراءة أخرى متواترة في الآية: :( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عِبْادَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ... [36] ([سورة الزمر] . الله يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار بإخلاصهم. والمعنى الثاني:} أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ( أي: نبيه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود: أن الله عز وجل عبر بالعبودية هنا التي أضافها إلى نفسه، ما قال: أليس الله بكافٍ خلقه، أليس الله بكافٍ محمداً، وإنما قال:( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ( ليدل ذلك على أن سر الكفاية هو تحقيق العبودية، وهل يمكن أن تتحقق العبودية بغير الإخلاص؟ لا يمكن ذلك؛ لأنه سرها، ولهذا فإن الله عز وجل يكفى العبد كما أخبره، ويجعل له ألوان الكفاية بقدر ما عنده من تحقيق العبودية؛ لأن الحكم - وهو الكفاية هنا - المرتب على وصف - وهو: العبودية: ( عَبْدَهُ( -، يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فكلما ازدادت عبودية العبد لله؛ كلما ازدادت كفاية الله عز وجل له، فازدد عبودية يزدك الله عز وجل كفاية وحفظاً .(1/63)
يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: ' من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ' . يقول ابن القيم معلقاً عليه في كتابه البديع 'إعلام الموقعين':'هذا شقيق كلام النبوة' . يقول: هذا نظير لكلام النبوة، يشبه كلام النبوة، 'وهو جدير بأن يَخرُج من مِشكَاةِ المُحَدَّث المُلهَم' عمر من المُحَدَّثين من المُلهمين للصواب، يقول ابن القيم:'وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومَن أَحسَن الإنفاق منهما؛ نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع، فأما الكلمة الأولى، وهى قوله:'من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس'
يقول ابن القيم:'فهى منبع الخير وأصله' والثانية: وهي قوله:'من تزين بما ليس فيه شانه الله' يقول:' والثانية أصل الشر وفصله، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى، وكان قصده وهمه، وعمله لوجهه سبحانه؛ كان الله معه، فإنه سبحانه:( مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128] ([سورة النحل] . ورأس التقوى والإحسان: خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه، فمن ذا الذي يغلبه، أو يناله بسوء، فإن كان الله مع العبد، فمن يخاف وإن لم يكن معه، فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده . فإذا قام العبد بالحق على غيره، وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله ولله؛ لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال؛ لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجاً ومخرجاَ.(1/64)
وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل؛ لم يُنصر، وإن نُصر نصراً عارضاً، فلا عاقبة له، فينصر مؤقتاً فترة زمنية ثم لا تكن له العاقبة، ينهزم بعد ذلك وينكسر، يقوم وهو مهزوم مخذول. وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة فإن الله ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه فإنه ليس من المتقين، ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقاً؛ كان منصوراً له العاقبة ' ا.هـ [إعلام الموقعين 2/178] .
ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: 'إنما الله يريد منك نيتك وإرادتك، ومن أصلح ما بينه وبين الله؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسّر أحد سريرة إلاّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص ' . فالناس لا تعبأ بهم، ولا تلتفت إليهم، ولا تتجمل لهم بعملك الصالح، الله يكفيك شأن الناس:( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ( إنما عليك أن تصلح ما بينك وبين الله جل جلاله .
( اليقين )
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فحديثنا عن موضوع اليقين، وهذا الحديث يضمُ نقاطاً عدة:
أولًا: بيان معنى اليقين وحقيقته.
ثانيًا: ما الفرق بين العلم واليقين؟ وبين الصدق وبين اليقين؟ وبين الثقة وبين اليقين؟
ثالثاً: بيان منزلة اليقين من الدين.(1/65)
رابعاً: اليقين في كتاب عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
خامساً: بيان مراتبه .
سادساً: بيان مراتب أهل اليقين .
سابعاً: اختبار اليقين.
ثامناً: بيان الطريق الموصل إليه .
تاسعاً: بيان الثمرات التي يجنيها من تحقق باليقين واتصف به وحصّله .
عاشراً: بيان ما ينافي اليقين ويضاده .
وأخيراً: السلف واليقين .
أولًا: معنى اليقين : اليقين ضد الريب والشك، فهو يتضمن سكون الفهم مع ثبات الحكم [انظر مجموع الفتاوى 5/570، المفردات للراغب [مادة: يقن] - ص552] . بحيث لا يحصل لصاحبه ترددٌ وتشككٌ وريبة وقلقّ في داخله، وإنما يكون ساكناً إلى هذا الاعتقاد، أو إلى مبدئه، أو إلى عقيدته ودينه، والأمور التي تيقنها، ولهذا قال من قال كالجُنيد: 'اليقين هو استقرار العلم الذي لا يحولُ ولا ينقلب ولا يتغير في القلب' [بصائر ذوى التمييز 5/397].فهو شئ ثابت راسخٌ فيه، وهو بهذا الاعتبار يكون بمعنى طمأنينة القلب وثبات واستقرار العلم فيه [انظر مجموع الفتاوى 3/329].
* ثم هذا اليقين ينتظمُ أمرين:
أحدهما: علم القلب .
والثاني: عمل القلب، كما فصل ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيميه -رحمه الله تعالى-[انظر مجموع الفتاوى 3/329].(1/66)
فالعبد قد يعلم علماً جازماً بأمر من الأمور، ومع هذا يكون في قلبه شئٌ من الحركة والاختلاج، بحيث إن هذا العلم لا يحمله على العمل الذي يقتضيه العلم في الأصل، حيث إن هذا العلم كان الواجب أن يثمر ويؤثر فيه تأثيراً عملياً سواء كان ذلك في قلبه، أو كان ذلك في جوارحه، فقد يوجد العلم في قلب الإنسان إلا أن صاحبه لا يصل به إلى مرتبة العمل بعد العلم . فالعبد -مثلاً- يعلم أن الله رب كل شئ ومليكه، وأنه لا خالق غيره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله تعالى، والتوكل عليه، وقد لا يصحبه العمل بذلك: إما لغفلة القلب عن هذا العلم- والغفلة لاشك أنها من أضداد العلم، وأعنى بالعلم الذي تضاده الغفلة هو: العلم التام الذي يوجب الاستحضار الدائم المستمر- فيستسلم صاحب هذه الغفلة للخواطر إذا غفل عن الحقائق التي علمها واستقرت في قلبه، فإذا وقعت له غفلة؛ فإن الخواطر تجد طريقها إلى قلبه وإلى اعتقاده، وإلى ما يدين الله عز وجل به، وقد يلتفت العبد إليها.
وهكذا إذا قلنا إن العلم هو: طمأنينة القلب، وسكون القلب إلى هذا المعلوم؛ فإن هذا يكون في سائر الأبواب، فعلى سبيل المثال: إذا قلنا: 'اليقين بأمر الآخرة' إذا كان العبد يتيقن البعث والجزاء، والنشور، وما يكون في يوم القيامة، فإن هذا العبد إذا تيقن هذه الحقائق يقيناً تاماً؛ صار قلبه بمنزلة المشاهد لها كأنه يُعاينها.
وهذه حقيقة اليقين التي وصف الله تعالى بها أهل الإيمان في قوله تعالى:( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4]([سورة البقرة] .
فلا يحصل الإيمان بالآخرة - كما قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله- حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر الله سبحانه به عنها، طمأنينته إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب، فهذا المؤمن هو المؤمن حقاً باليوم الآخر[الروح /221].(1/67)
وهو الذي أثنى الله عز وجل عليه، ولهذا قال بعضهم: اليقين مشاهدة الإيمان بالغيب، فكما أن العين تشاهد الحقائق الماثلة أمامها في العالم المشهود عالم الشهادة؛ فإن اليقين هو مشاهدة الغيب بالقلب، فإذا وصل القلب إلى هذه المرتبة، وإلى هذا المستوى؛ فإنه يكون قد تيقن، وارتقى العبد بإيمانه، وصار بمنزلة عالية قد توصله عند الله عز وجل إلى أعلى المنازل.
ثانياً: ما الفرق بين العلم وبين اليقين؟ [انظر: بصائر ذوى التمييز [5/397]
لعله يتبين لكم مما سبق شئ من ذلك: فالعلم قد لا يحمل صاحبه على العمل والامتثال، وقد لا يصير العبد بهذا العلم بمنزلة المشاهِد للحقائق الغيبية، فقد يعلم باليوم الآخر، ولكن هذا العلم قد يضعف في قلبه، وقد تعتريه في بعض الأحيان بعض الشكوك، وبعض الشبهات، فتؤثر عليه. وأما إذا كان اليقين مستقراً في القلب، فلا طريق للشُبه، ولا طريق للأمور المشككة، وإنما هو اعتقاد جازم راسخ، لا يقبل التشكيك بحال من الأحوال، ولهذا يقولون:'العلم يعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه'.
ونحن نعلم في الجملة: أن العلم يتفاوت كما أن الإيمان يتفاوت، فعلمك بخبر المُخْبِر أن فلاناً قد قدم من سفره إذا كان هذا المُخْبِر ثقة، فإن هذا يورث علماً في القلب، فإذا جاءك آخر ممن تثق به وأخبرك أن فلاناً قد قدم من السفر، فإن هذا العلم قد ازداد مع أن العلم حصل من أول مرة، ثم إذا صادفت العشرات وأخبروك أن فلاناً قد قدم من السفر، فإن ذلك يصير راسخاً قد لا يقبل التشكيك بحال من الأحوال. أما خبر المُخبر الأول -مع أنه ثقة- فإنه قد يقبل التشكيك، فلو جاءك إنسان آخر وقال: أنا أعلم أنه لم يأتِ، وأن الخبر الذي وصلك بمجيئه لا حقيقة له؛ فإن هذا يزعزع هذا المعلوم، أما إذا وصل هذا العلم في قلبك إلى مرتبة اليقين فإنه لا يقبل التشكيك...فهذا فرق بين العلم واليقين.(1/68)
ومُحَصِّلَتُه: أن العلم على درجات، فمن أعلى درجات العلم، ومن أكملها، وأرفعها، وأقواها، وأثبتها درجة اليقين، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، أعني: أن العلم يتفاوت كما أن الإيمان يتفاوت.
* الفرق بين التصديق، وبين اليقين: إن التصديق في حقيقته يُبنى على معلوم الإنسان، سواء كان هذا المعلوم لديه من قبيل الحق أو كان من قبيل الباطل، إلا أن الفرق بينهما: أن التصديق أمر اختياري، وأما اليقين: فهو أمر ضروري، بمعنى أن اليقين شئ يوجد في نفس الإنسان إذا وُجد مُوجِبُه من غير اختيار الإنسان، كالشِبَع إذا أكل الإنسان وجد الشِبَع، ولو أن الإنسان يريد أن يأكل كثيراً ولا يشبع؛ لجودة الطعام، أو لحاجته إليه، أو لأنه يستخسر إلقاءه وإهداره، فهو يريد أن يأكل ولا يشبع من هذا الطعام؛ فإنه لا يستطيع ذلك. وهكذا لو أنه شرب فإنه بهذا الشرب يرتوي ولابد إذا وصل إلى حدٍ معين، وهذا الرِّى الذي يقع للإنسان هو أمر غير اختياري، فالشرب اختياري، ولكن الرِّى ليس اختيارياً.
وهكذا اليقين إذا حصلت موجباته؛ فإنه يوجد في القلب، ويرسخ فيه، ويثبت من غير اختيار؛ ولهذا فإن الكفار بل عتاة الكافرين مع تمردهم، وعتوهم على الله عز وجل، وعلى رسله، فإن الله عز وجل يقول:( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...[14]( [سورة النمل]. أي : أنهم جحدوا بها ظلماً وعلواً مع وجود اليقين في نفوسهم، ولهذا نقول: إن التصديق أمر اختياري باعتبار أن الإنسان يُقرُّ به ويُظهره ويصدق، فيكون مؤمناً، وقد لا يصدق فيجحد: :( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ...[14]( [سورة النمل]. فاليقين يكون في القلب، والتصديق يكون أمراً اختيارياً، وهو إظهار مقتضى العلم، فهو يُقر بذلك، ويثبته، ويعترف بهذه الحقائق التي عُرضت أمامه، فيعترف برسالة الرسول صلى الله عليه وسلمأو بوجدانية الله عز وجل وما إلى ذلك.(1/69)
فمن جئت له بالأدلة المتنوعة المختلفة لتقرره بأمر من الأمور، ولم يكن له حجه إطلاقاً، فبينت له الحق بياناً واضحاً لا لبس فيه؛ فإنه بذلك قد يحصل له اليقين ولكنه قد لا يُصدقك، قد لا يُظهر الاعتراف والإقرار والإذعان، ولهذا فإن أولئك الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلموتنزل القرآن بين أظهرهم، تنزل عليهم، ومع ذلك كثير منهم لم يصدقوا مع استقرار مقتضى هذه الحقائق في نفوسهم، فهي أمور ثابتة لكنهم لم يظهروا مقتضاها، فكانوا بذلك مكذبين.
وبهذا يتبين الفرق بين اليقين وبين التصديق، فقد يكون الإنسان مصدقاً مع حصول اليقين في قلبه، وقد يكون الإنسان متيقناً من أمر من الأمور إلا أنه مكابرٌ جاحدٌ، لا يقرُّ ولا يُذعن بالحقيقة.
ما الفرق بين اليقين وبين الثقة؟[ انظر: مدارج السالكين] :
الثقة في حقيقتها: هي أمن العبد من فَوت المقدور، وانتقاض المسطور، فيظفر بِرَوْح الرضا، أو بعين اليقين، أو يلجأ إلى الصبر كما قال ذلك شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:'وذلك: أن من تحقق بمعرفة الله، وأن ما قضاه الله، فلا مرد له البتة؛ أَمِنَ من فَوْت نصيبه الذي قسمه الله له، وأَمِنَ أيضاً من نقصان ما كتبه الله وسطره في الكتاب المسطور، فيظفر بِرَوْح الرضا، أي: براحته، ولذته، ونعيمه؛ لأن صاحب الرضا في راحة ولذة وسرور'- إلى أن يقول-:'فإن لم يقدر العبد على رَوْح الرضا؛ ظفر بعين اليقين، وهو قوة الإيمان ومباشرته للقلب، فيكون التسليم لأحكامه الشرعية وأحكامه الكونية'.(1/70)
وخلاصة ذلك أن يقال: الفرق بين الثقة وبين اليقين: أن اليقين إذا وُجد في القلب؛ وُجدت الثقة فيه، فإذا تيقن العبد أن هذه الشريعة مثلاً من عند الله عز وجل؛ فإنه يطمئن إلى أحكامها، وأنه لاحيف فيها، ولا نقص ولا هضم لحق أحد، إذا علمت المرأة أن هذه الشريعة من عند الله عز وجل؛ فهي تعلم أن إعطائها نصف الميراث أنه حق، وأنه كمال العدل والإنصاف، وأنه لا ظلم فيه ولا غلط ولا شطط؛ فوُجدت الثقة، فيثق العبد بأحكام الله عز وجل الشرعية، وإذا وُجد اليقين في قلب العبد؛ وُجدت الثقة أيضاً في قلبه في أحكام الله عز وجل الكونية والقدرية، فإذا رأى مبتلى فإنه لا يقول: فلان ما يستاهل، فلان ما يستحق هذا البلاء الذي نزل به . لا يقول: لماذا أنا يا رب؟ لماذا تقع المصائب والكوارث والمحن على أهل الإيمان، والكفار ينعمون بهذه النعم التي تُغْدَق عليهم صباح ومساء؟ وإنما يثق بأن الله عز وجل حكمٌ عدلٌ، وأنه تبارك وتعالى يُعطى ويمنع لحكمة بالغة يعلمها جل جلاله، فالثقة توجد إذا وُجِدَ اليقين في القلب، ولذلك لا ثقة من غير يقين.(1/71)
ثالثاً: منزلة اليقين: جاء عن بعض السلف:'الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله'[ مجموع الفتاوى، ورسالة اليقين لابن أبي الدنيا]. وهذا صحيح؛ لأن الصبر فوقه درجة ومرتبة وهي اليقين، لن الإنسان قد يصبر ولكن قلبه يتحرك بالخواطر والإرادات، وتَرِدُ عليه أنواع الواردات، فهو يموج بصاحبه، إلا أن صاحبه يتحمل، ويصبر ويُثَبِّتُ نفسه مع مقاساته لألم المصيبة، وأما صاحب اليقين، فإنه في مرتبة فوق ذلك -كما سيأتي- فهو يعد البلاء نعمة أصلاً، ويفرح بالبلاء كما يفرح غيره بالعافية، ويركن إلى الله عز وجل، ويطمئن بما قسم الله عز وجل في هذا القضاء، فلا يتبرم ولا يتمنى عطاء غيره، فتطمئن نفسه، ويطمئن قلبه، فكان اليقين بهذا نصف الإيمان، وهو فوق الصبر -كما سيتبين بعد قليل- وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه قال:'الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ' رواه البخاري تعليقا مجزوما به.
بل قال ابن القيم رحمه الله:'اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم'[ مدارج السالكين 2/397] . ولهذا قال أبو بكر الوراق رحمه الله:'اليقين ملاك القلب، وبه كمال الإيمان، وباليقين عُرف الله، وبالعقل عُقل عن الله'.
رابعاً: اليقين في الكتاب والسنة: الله تبارك وتعالى يذكر اليقين في مواضع متعددة:
* فتارة: يذكره من أوصاف أهل الإيمان: فيقول:( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4]( [سورة البقرة].(1/72)
وتارة: يذكر بعض حِكَمِه في بعض أفعاله، وليصل بعبدٍ من عباده إلى مرتبة اليقين: فيقول:( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ[75] ([سورة الأنعام].
وتارة: يذم من لا يقين عنده: فيقول:( أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ[82]([سورة النمل].
? وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلمعددٌ كثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي يذكر فيها فضل اليقين ومنزلته وشرفه: كما في حديث أبي هريرة قال: كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا...الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلملما بحثوا عنه؛ وجدوه في حائط، وكان أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أول من وجده فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلمنعله، وقال له: [اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ] رواه مسلم. ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بِلَالٌ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه النسائي وأحمد . فدل ذلك على أن اليقين سبب لدخول الجنة، والأحاديث في هذا كثيرة، وتتبع ذلك أمر يطول.(1/73)
خامساً: مراتب اليقين[انظر: كتاب الزهد والورع والعبادة، ص77، التبيان في أقسام القرآن، ص119 - 120، مفتاح دار السعادة 1/149]: كما أن العلم يتفاوت- واليقين هو من جملة مراتب العلم- فكذلك اليقين يتفاوت، فهو على ثلاث مراتب بعضها فوق بعض، فأدنى مراتب اليقين هي مرتبة:'علم اليقين'، والمرتبة التي فوقها هي مرتبة:'عين اليقين'، وأعلى المراتب هي مرتبة:'حق اليقين'، والله عز وجل يقول:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ[5]( [سورة التكاثر] . فذكر العلم: علم اليقين.
( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ[6]ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ[7]([سورة التكاثر] . فذكر في هذه الآيات مرتبتين من مراتبه:
فعلم اليقين: هو التصديق الكامل الجازم، الذي لا تردد فيه، بحيث لا يعرض له شك، ولا شبهة، ولا ريب بحالٍ من الأحوال، فينكشف بذلك المعلوم للقلب، فيصير بمنزلة المُشَاهِد له، فلا يشك فيه كما يشك الرائي بعينه في مرئيه ومُشَاهَدِه، فيكون علم اليقين بالنسبة للقلب كالمرئي بالعين بالنسبة للبصر، وذلك كعلمنا بالجنة: بوجودها ونعيمها كما أخبرنا الله عز وجل، فنعلم أنها دار المتقين، وأنها مقر المؤمنين، فهذه مرتبة علم اليقين، إذا كان ذلك راسخاً في قلب الإنسان وتيقنه.
ثم إذا كان اليوم الآخر، ورأينا الجنة بأعيننا، فإن هذه المرتبة هي مرتبة عين اليقين. والفرق بين هذه المرتبة والتي قبلها هو كالفرق بين العلم وبين المشاهدة، وقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ]رواه أحمد . فموسى صلى الله عليه وسلمأخبره الله عز وجل -وهو أصدق من يقول- أن قومه قد عبدوا العجل فما ألقى الألواح، فلما قدم ورأى قومه يعبدون العجل بعينه؛ ألقى الألواح، وغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ] رواه أحمد.(1/74)
وهذه المرتبة: مرتبة عين اليقين هي التي سألها إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه قال:(...رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى...[260] ([سورة البقرة] . فإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان كامل الإيمان، راسخ اليقين، لا تردد عنده، ولا اشتباه ولا ريب، ولكنه أراد أن ينتقل من مرتبة من مراتب الكمال إلى مرتبة أعلى منها، أراد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، فيرى ذلك بأم عينه، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المسافة التي بين علم اليقين، وبين عين اليقين سماها:'شكاً' لعله من باب التجوز، فقال صلى الله عليه وسلم: [نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ...] رواه البخاري ومسلم.
وأما المرتبة الثالثة فهي: مرتبة حق اليقين: وهي مباشرة الشيء بالإحساس فعلاً، أن تكون في بحبوحة الشيء، أن تكون ملابساً له، وذلك أن أهل الجنة إذا كانوا في وسط الجنة، فهم في هذا الحال قد بلغوا مرتبة حق اليقين، وهكذا حينما يخبرك مُخبر أن لديه عسلاٌ وتثق بخبره، فإنك تكون في هذه الحال متيقناً لهذا الخبر، فإذا أحضره أمامك فإن ذلك يكون عين اليقين، فهذه أعلى اجتمع فيها العلم والمشاهدة، فإذا ذقته فهذا هو حق اليقين، والمثال الأول الذي ذكرته في الجنة حيث أخبرنا الصادق المصدوق عنها، فهي في قلوبنا نتيقنها ونعلمها ونُقرّ بذلك، فهذا هو علم اليقين، فإذا شاهدنا الجنة قبل دخولها، فهذه مرتبة عين اليقين، فإذا دخلنا فيها فإن ذلك يكون حق اليقين .
وهكذا إذا أخبرك مُخبر أن بهذا الوادي ماء، فهذا إن كان المُخبر ثقة؛ فإنه يحصل لك بمقتضى هذا الخبر علم اليقين، فإذا شاهدت الماء كان ذلك عين اليقين، فإذا بلغت الماء، واغترفت منه، وشربت، أو اغتسلت؛ فإن ذلك يكون حق اليقين- وهذه الأمثلة يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما يذكرها تلميذه ابن القيم- وإذا كان اليقين يتفاوت في نفسه، فإن هذا أيضاً يقتضى أن أهله يتفاوتون فيه.(1/75)
مراتب الناس في اليقين[انظر: مجموع الفتاوى 7/270، الفوائد ص4]: أهل هذه المرتبة يتفاوتون فيها فمنهم من يكتمل يقينه ويصير المعلوم بالنسبة إلى قلبه كالمشاهد الذي يشاهده بعينه سواء بسواء، وقد يصل العبد إلى منزلة اليقين، ولكنه لا يصل إلى هذه المرتبة، ولذلك فإن الناس يتفاوتون بسبب هذا في عملهم وجدهم، وهمتهم ونشاطهم، وسعيهم للدار الآخرة، والعمل في مرضاة الله تبارك وتعالى، فَعِلْمُ اليقين على مراتب:
تارة: يعلم العبد الحقيقة علماً جازماً لثقته بالمُخبِر.
وتارة: يعلم صدقه، ويتيقن ذلك، وتقوم الدلائل في قلبه حتى يصير ذلك كالمشاهَد بعينه، فهذه مرتبة أعلى. وعين اليقين من أهل العلم من يقول إنه نوعان:
نوع يحصل لقلب المؤمن في الحياة الدنيا: وهذا إذا ارتقى إيمان العبد ورسخ اليقين في قلبه، واستقر وصار كأن حقائق الآخرة ماثلة بين يديه، وكأنه يشاهد عرش الرحمن، يحف به الملائكة، وصار كأنه يرى الجنة والنار، فهذه بعض أهل العلم يعدونها من عين اليقين بالنسبة للقلب، يقولون: هذا في الدنيا.
وأما في الآخرة: فيكون ذلك بمشاهدتها بالعين الباصرة.(1/76)
وهذا التفاوت الذي يتفاوته أهل اليقين كذلك يوجد دونهم ممن ينتسب إلى الإيمان، ويقر التصديق في قلبه دون هؤلاء مراتب ودرجات من المؤمنين، فكثير ممن ينتسب إلى الإيمان، ويصدق الرسول صلى الله عليه وسلمبما جاء به لا يصل به ذلك إلى درجة اليقين الكامل في القلب، وإنما يكون ذلك معلوم له، ولو جاءه مشكك لربما حركه، ولربما دفعه عن الإيمان، وأوقع الشبهات في قلبه، فيتزعزع ويتضعضع إيمانه، ولربما انتكس رأساً على عقب، وهذا حال كثير ممن ينتسب إلى الإيمان، فهم يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم إيماناً مجملاً، فهذا الإيمان يكفيهم وينجيهم عند الله عز وجل، ولكنه لم يصل بهم إلى درجة لا تقبل التشكيك، ولا تقبل المحرك الذي يكون بسبب الشبهات؛ لهذا قال بعضهم:' حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضا، وحظهم من الرضا على قدر رغبتهم في الله'[ مدارج السالكين 2/222].
والناس يتفاوتون في هذا، ومن الناس من إذا تتابعت عليه النعم واسترسل عليه عطاء الله عز وجل مما يحب، فإنه يرضي ويطمئن ويسكن إلى ذلك، وإذا أصابته البلايا والمحن، وفُتن؛ تزعزع وتضعضع، ولربما نكص على عقبيه كما قال الله عز وجل:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ...[11]( [سورة الحج].
سابعاً: اختبار اليقين : كيف يُختبر اليقين؟ ما هو المحك الذي يتبين به رسوخ الإيمان، وثباته في قلب الإنسان؟ هناك مواقف يتبين العبد حاله فيها ومرتبته في هذا الباب، ومن هذه المواقف والمواطن:(1/77)
* الموقف الأول: موقف التوبة: فالعبد الذي قد كمل اليقين في قلبه؛ لا يتردد إذا وقع منه تقصير، أو ذنب، أو زلة- وكل إنسان مُعرَّض لذلك- فإنه يبادر إلى التوبة من غير تردد، ويرجع إلى الله عز وجل، وينيب إليه؛ لأنه يعلم أن ثمة يوماً سيحاسب فيه على القليل والكثير، والدقيق والجليل، وسيؤاخذ بجرمه، فلا تردد عنده في التوبة.
وأما من ضعف يقينه، فيحتاج إلى تحريك القلب بعرض ألوان من المواعظ والعبر، والأمور المُرقِّقة لقسوة قلبه، والأمور التي تزيل عن هذا القلب الغشاوة والغفلة، فيتحرك قلبه ويلين ويرق للتوبة، فيكون ذلك مُوَطِّئَا لها، ولربما احتاج إلى إقناع، ولربما احتاج إلى مُسَايَسَة ومُداراة وطول صحبة؛ من أجل أن تصلح حاله، ويتوب ولربما وعد بالتوبة ثم بعد ذلك يتراجع ويتردد ويحسب بزعمه الخسائر والأرباح، إذا تاب سيخسر هؤلاء الأصدقاء، سيخسر هذه الوظيفة، سيخسر كذا من أطماعه وشهواته، ثم يبقى متردداً متذبذباً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وما ذلك إلا لضعف يقينه.
ولو اكتمل اليقين عند العبد فإنه لا يبالي بشيء، وإنما همته وطِلْبَتُه هو رضا الله جل جلاله فلا يحتاج إلى إقناع، ولا يحتاج إلى مُسَايَسَة، ولا يحتاج إلى كثير ملاطفة، ولا يحتاج إلى طول صحبة؛ من أجل أن يتأثر، ومن أجل أن ينتقل من بيئة سيئة إلى بيئة أخرى، ولربما جئت بإنسان صاحب معصية، لربما جئت بمغنى من المغنين، لربما جئت بصاحب باطل ممن له في باطلة رزق ومعيشة، وكسب وشهرة، وما إلى ذلك، فحدثته وبينت له الأدلة على حرمة هذا الفعل، ولربما أقر لك بذلك وقال: أنا أُقر بهذا، لكن: من أين لي أن آكل؟ من أين لي أن أستقطب الأضواء؟ من أين لي بالجماهير التي تصفق حينما أظهر على خشبة المسرح؟(1/78)
فيحتاج هذا إلى إقناع بتذكيره بما عند الله عز وجل في الدار الآخرة والنعيم، وأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وكأن الله عز وجل هو المحتاج إليه، وكأنه يُدِلُّ على ربه تبارك وتعالى بتوبته واستقامته، وتركه لهذه الذنوب والمعاصي التي فارقها، لماذا نتردد بالتوبة إلى الله عز وجل والأوبة إليه؟ لماذا يعضنا يحتاج إلى كثير من الملاطفة والمُسَايَسَة؟ ولربما احتاج العبد إلى شئ من المال من أجل أن يُتألف على الإيمان، إنما ذلك لقلة يقينه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى أقواماً ويترك آخرين، وحينما يُكلَّم في ذلك ويُذَكَّر بهولاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يجيب عن هذا بأنه يَكِلُ أقواماً إلى إيمانهم، وأنه لربما أعطى الرجل مع أن غيره أحب إليه منه، فمثل هؤلاء لماذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأن يقينهم مزعزع؛ لأنه ضعيف؛ لأن إيمانهم لم يصل إلى مرتبة اليقين الثابت، فأولئك يُتركون ليقينهم، ولإيمانهم الراسخ، فلا خوف عليهم؛ لأنه لا تردد عندهم في هذا الإيمان الذي دخلوا فيه، أما هذا فيحتاج إلى مداراة، ويحتاج إلى الأخذ بخاطره- كما يقال-، يحتاج إلى أن يتنازل الإنسان عن بعض حقه معه من أجل أن لا ينكص على عقبيه، فهذه حقيقة يحتاج الإنسان أن يتأملها مع نفسه هو، وأن يتأملها مع غيره. هذا الموقف الأول الذي يُختبر فيه اليقين .(1/79)
الموقف الثاني: هو موقف المصيبة: فكثير من الناس يحسن الكلام عن الصبر، وعن الثبات، وعن الإيمان، وعن الجزاء الذي يعطيه الله عز وجل للصابرين في الدار الآخرة، وما أعد لهم من النعيم المقيم، ولكنه إذا وقعت المصيبة؛ اضطرب وتحرك قلبه، فجزع، ولم يثبت ولم يصبر، وإنما كان متسخطاً على ربه تبارك وتعالى معترضاً على أقداره، والله عز وجل يقول:(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[155]الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[156]( [سورة البقرة].
فمن كان متحققاً باليقين؛ فإنه عند المصيبة يكون رابط الجأش، ثابتاً، صابراً، حابساً للسانه عن التسخط، ولجوارحه عن فعل ما لا يليق من شق جيبٍ، أو لطم خدٍ، أو نحو ذلك مما يفعله من لا يقين عندهم، فهذه أمور قد لا تتبين في حال الرخاء، وإنما تتبين في حال الشدة والمصائب. ولربما أبتُلي العبد المؤمن، فسخط على ربه أن ابتلاه بهذا البلاء، والله عز وجل ابتلاه ليمحصه ولم يُبتل ليهلك . ابتلاك الله عز وجل ليرفعك من درجة إلى درجة، ومن منزلة إلى منزلة، وتُبّلَّغ بهذا البلاء منازل عند الله عز وجل في الجنة لا تبلغها بعملك، فإذا نزلت بالعبد المصيبة التي تهيئه لذلك المقام في الجنة:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فسرعان ما ينتكس العبد، ويتبرم، ويتسخط على ربه، ويعترض على أقدار الله تبارك وتعالى، فهذه أمور تظهر في حال الشدائد..ولربما دعا إلى الله عز وجل، ولربما جاهد في سبيله، ولربما بذل ماله، ثم يبتلى فيتسخط، ولربما عاهد الشيطان بأن يتوب إليه توبة نصوحاً عن فعل الخير، وعن صحبة الأخيار والصالحين، وأن يقطع ذلك أجمع؛ لئلا يقع به مثل هذا المكروه الذي ناله، فهذا ليس له نصيب من اليقين.(1/80)
الموقف الثالث: في حال الحاجة: فإذا احتاج العبد وافتقر إلى المخلوقين، إلى مَالِهِم في فقره في دنياه، أو احتاج إليهم في شئ من الأشياء في دنياهم، فإنه بذلك يختبر يقينه، فإذا كان قلبه يتلفت إلى المخلوقين، ويتطلع إليهم، ويتعلق بهم لينال ما عندهم؛ فإن قلبه لم يتحقق باليقين بَعْدُ. وأما إذا كان قلبه متوجهاً إلى الله وحده لا شريك له، لا يلتفت إلى أحد من المخلوقين، ولا يتعلق بهم؛ فإن هذا اليقين هو اليقين الكامل.
الموقف الرابع: في حال الغنى: فمن الناس من لا يصبر إذا أغناه الله عز وجل، فيصل به ذلك إلى الكفر، لربما قال العبد: إنما أوتيته على علم عندي، وينسى أن الله عز وجل هو الذي أعطاه وأولاه، وأن الله عز وجل هو مالك الملك وأن العطاء بيده، وأن الكون ملكه بما فيه، ينسى هذا ويقول: إنما أوتيته على علم، إنما حصلته بجدي واجتهادي وجهدي، وتحصيلي وذكائي وعلمي بوجوه المكاسب، ولربما قال: حصلته وورثته كابراً عن كابر، ولربما قال غير ذلك مما يكون فيه نسيان المنعم، والذهول عن مقام استشعار إنعامه وإفضاله على العبد، فيكون بذلك كافراً لنعمة ربه جل جلاله.
وعلى كل حال: إذا أردت أن تكون متحققاً باليقين، وأن تعرف ذلك من نفسك؛ فلا تُمْسِ ولا تُصْبِح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، وإذا أردت أن تتحقق باليقين، وأن يكون ذلك وصفاً راسخاً ثابتاً في قلبك؛ فلا يكن أحد من المخلوقين أخوف عندك من الله . وبالتالي فإن صاحب اليقين لا يتعلق بأحد من الخلق لعطاء أعطاه، أو لجمال صورته، أو لغير ذلك، لا يتعلق قلبه به، ويلتفت إليه ليرجو ما عنده، ولا يخاف أحداً من المخلوقين، فيترك ما أمره الله عز وجل به، أو يتردد في التمسك بحبل الله جل جلاله من أجل الخوف من هذا المخلوق، فيكون صاحب اليقين ثابتاً، مرتبطاً بالله عز وجل في كل أحواله، فهو يرجو الله، ويؤمله، ويحبه، وهو أحب شئ إليه، كما أنه يخاف الله عز وجل ولا يرقب أحداً سواه .(1/81)
ثامناً: الطريق إلى اليقين:كيف نصل بأنفسنا إلى اليقين؟ كيف نتربى على اليقين؟.. كيف نرتقي بإيماننا إلى هذه المرتبة؟
أعظم ذلك: أن نعلم أن التوفيق بيد الله عز وجل، وأن المواهب بيده، فما على العبد إلاّ أن يلتجأ إليه، وأن يصدق في الإقبال عليه، فيسأل ربه قائماً، قاعداً أن يرزقه الإيمان الكامل، واليقين الجازم الراسخ الذي لا يتزعزع. [انظر: مدارج السالكين 2/302] . ومع ذلك أيضاً يبذل الأسباب التي توصله إلى هذه المرتبة، ومن هذه الأسباب:
* الأول: وهو أول درجات اليقين: العلم: فهو يستعمله، فأن تعمل بمقتضى هذا العلم، واليقين يحملك كما قال بعض السلف:'العلم يستعملك -فتعمل بمقتضاه- واليقين يجملك'[مفتاح دار السعادة 1/154]. فيندفع العبد للعمل، ويُقدم، وينفق ماله الذي يكون حبيباً إلى قلبه؛ لأنه يتيقن بالجزاء، ويعلم أن من أعلى المراتب والمنازل عند الله عز وجل مرتبة الشهداء، فيبذل نفسه رخيصة في سبيل الله تبارك وتعالى- والنفس هي أحب الأشياء إلى الإنسان- :
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُقفر والإقدام قَتَّالُ
فالمال حبيب إلى النفوس، والنفوس أيضاً عزيزة على أصحابها، فالعبد يعلم أن بذل المال سبيل إلى التقرب إلى الله عز وجل، وأن الله يُربِّي الصدقة، ويعلم أيضاً: أن الشهيد يُغفر له من أول قطرة من دمه، ويشفع في سبعين من أهله، وما إلى ذلك من فضائله، يعلم هذه الأشياء، فالعلم يستعمله، ولكنه قد لا يُقدم على هذه الأمور التي تحتاج إلى تضحيات كبيرة، لا يقدم عليها؛ لأنه لم يتيقن، ولم يصل إلى مرتبة اليقين.(1/82)
وأما صاحب اليقين، فإنه يُحْمَلُ على ذلك حملاً، فلا يقف إلى حد العلم فيكون ذلك معلوماً له فحسب، بل إن يقينه يحمله على الامتثال والإقدام والعمل، ولو كان ذلك في سبيل إزهاق نفسه، وإتلاف ماله، وإنفاقه أجمع، فله يقين راسخ أنها مخلوفة، وأنها معوضة، وأنه سيلقى عائدة ذلك في يوم هو أحوج ما يكون إليه، وأن الإنسان ليس له إلا موتة واحدة، فيقول: يا نفس هل لك موتتان؟ ولهذا فإن العلم إذا رسخ؛ أثمر اليقين الذي هو أعظم حياة القلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه[انظر:مفتاح دار السعادة 1/154] .
وهذا العلم الذي يحتاج إليه العبد ليصل إلى مرتبة اليقين يشمل: العلم بالله عز وجل، ويشمل العلم بالله عز وجل: علمه بأنه المألوه المعبود وحده لا شريك له، وأنه لا يستحق العبادة أحد سواه، فلا يلتفت قلبه إلى أحد من الخلق، ولا يتعلق بهم، وهو يعلم أيضاً ربوبية الله عز وجل للكائنات، وأن أَزِمَّة الأمور بيده، وأنه مدبر هذا الكون ومُصَرِّفه، وأن الخلق عبيده يربهم ويتصرف بهم، إذا علم العبد ذلك اطمأن إلى رزقه؛ لأن الأرزاق بيد الله، فهذا من معاني ربوبية الله عز وجل، وإذا علم العبد ذلك اطمأن إلى أجله؛ لأن الآجال بيد الله عز وجل، وإذا علم العبد ربوبية الله عز وجل؛ اطمأن إلى أقداره، وإلى عطاءه ومنعه، فلا يعترض على الله، ولا يقترح، ويتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يسيء الأدب معه.(1/83)
والعلم بالله يشمل أيضاً: العلم بأسمائه وصفاته، فيعلم أن الله هو العظيم الأعظم، فلا يعظم أحد في عينه عظمة لا تصلح إلا الله، ويعلم أن الله عز وجل هو الجبار القاهر، القادر القوى المتين، فلا يهاب المخلوقين، وإنما يعظم الخوف من الله عز وجل في نفسه، ويعلم أن الله هو الرقيب، فلا تمتد عينه إلى الحرام، ولا تمتد يده إلى الحرام، ولا تخطو رجله إلى الحرام؛ لأن يقينه راسخ بأن الله هو الرقيب، وأن ما يخفى على المخلوقين لا يخفى على الله جل جلاله؛ فتسكن جوارحه، وتلتزم طاعة ربها ومليكها، فلا يصدر منه شئ ينافي هذا الإيمان، وهذا اليقين الذي وقر في قلبه بمعرفته بأوصاف الله عز وجل الكاملة، وإذا عرف أن ربه قوي؛ عرف أن ربه قادر على أن يمنعه من كل المخاوف، وأن الله قادر على حفظه، فهو يلجأ إلى ركن قوى، فيفوض أموره إليه، فيكون بذلك متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذاته، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على أبيه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذاته، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على أبيه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على ذكائه، ويكون متوكلاً على الله لا متوكلاً على سوقه ومتجره ومصنعه.
إذا عرف العبد ربه معرفةً صحيحة بأسمائه وصفاته؛ فإن قلبه ينشرح بذلك، ويطمئن إلى ربه أنه كامل من كل وجه، وأن كل افتقار ينبغي أن يوجه من العبد إلى الرب، فيجد من ربه الإغناء والعطاء، والدفع والمنع، ويجد كل مطلوب له، وإذا عرف العبد هذه الحقائق؛ فإنه يرضى بالله عز وجل رباً، ويذوق حلاوة الإيمان بهذا الرضا: [ ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا...] رواه مسلم . ويؤمن بقضاء الله وقدره، فتمر به الآلام والمصائب، والأمور المكروهة. وهو ساكن مطمئن لا يتزعزع ولا يصدر منه ما يصدر من السفهاء الذين لم يعرفوا الله عز وجل المعرفة اللائقة به،(1/84)
وهذا العلم أيضاً كما أنه علم بالرب المعبود أيضاً هو علم بالنفس وبالخلق: فيعلم قدر نفسه وضعفه وعجزه، فلا يركن إلى نفسه، ولا يركن إلى المخلوقين؛ لعلمه أنهم مربوبون، وأن الله عز وجل يصرّفهم ويدبّرهم، وأنه بيده ملكوت كل شئ، فالمخلوق ضعيف عاجز لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فكيف يملك لغيره؟! ومن ثم فلا يمتد طمعه إلى أحد من هؤلاء الضعفاء العاجزين، وإنما يكون ملتفتاً إلى الله عز وجل، ولهذا قال بعض أهل العلم:'إذا أردت اليقين فكن أفقر الخلق إلى الله' مع أن الله أغنى ما يكون عنك .
* الثاني: مما يقوى اليقين في نفس الإنسان: دفع الواردات والخواطر والأمور المنافية له: ولهذا كان جهاد الشيطان على مرتبتين اثنتين: جهاده فيما يُلقيه من الشبهات والوساوس والخواطر المزعزعة لليقين، فهذا لا يسلم منه إلا إذا دفعه العبد، وجاهد هذا الشيطان بدفع هذه الخواطر والوساوس والشُبه، فلا يقرأ في كتب الشُبه، ولا يناقش أهل الشُبه، ولا يسمع منهم، ولا يجعل قلبه عرضة لكل آسرٍ وكاسرٍ وقاطع طريق، فلا يدخل في المنتديات في شبكة الإنترنت التي تُلقى الشُبه من قِبَل زنادقة، ومن قِبَل ضُلال ممن ينتسبون إلى الإسلام، أو ينتسبون إلى غيره، فلا يجعل قلبه عرضة لسهام هؤلاء، فقد يدخل فيه شئ ولا يخرج منه؛ ولذلك فإن من الأمور المهمة التي تُعين العبد على الوصول لمرتبة اليقين هو أن يدفع الخواطر والوساوس، وأسباب الشكوك والشبهات، فإذا دفع العبد الشُبه عن قلبه، والشكوك والوساوس؛ فإن ذلك يورثه يقيناً، كما أنه إذا جاهد الشيطان في باب الشهوات؛ فإن ذلك يُورثه صبراً كما قال شمس الدين ابن القيم -رحمه الله-[ زاد المعاد 3/10] . ولهذا كانت الإمامة في الدين تُنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.(1/85)
* الأمر الثالث: من الأمور الموصلة لليقين: العزم الجازم الذي لا تردد فيه في العمل بمرضاة الله عز وجل: فيُقدم العبد على ذلك من غير نظرٍ في الحسابات، فالذي يجلس قبل أن يتوب، وقبل أن يُصحح العمل، أو قبل أن يتصدق، أو قبل أن يصوم يوماً في سبيل الله عز وجل يحسب الأرباح والخسائر؛ قد لا يعمل، وقد لا يتوب، وقد تفوته فرصة الحياة، وهو لم يتقرب إلى الله عز وجل كثيراً، وإنما العبد بحاجة إلى الإقدام والجزم، ولهذا قال بعض أهل العلم:' الاهتمام بالعمل يورث الفكرة، والفكرة تورث العبرة، والعبرة تورث الحزم، والحزم يورث العزم، والعزم يورث اليقين، واليقين يورث الغنى -فلا يلتفت ولا يفتقر إلى أحد سوى الله عز وجل- والغنى يورث الحب، والحب يورث اللقاء'.
* وأمر رابع: من الأمور التي يُحصل بها اليقين: مفارقة الشهوات والحظوظ النفسانية: فإذا كان العبد منغمساً في شهواته، فأني له باليقين؟ وقد قال ابن القيم -رحمه الله- في هذا المعنى: أصل التقوى مباينة النهي، وهو مباينة النفس، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.
* والأمر الأخير: مما يورث اليقين في قلوبنا، ويكون سباً إلى تحصيله: التفكر في الأدلة التي توصل إلى اليقين: فكلما تواردت البراهين المسموعة، والمعقولة، والمشاهدة على قلب الإنسان؛ كلما كان ذلك زيادة في يقينه وإيمانه، وهذا شئٌ مشاهد، فكثير من الأشياء التي في حياتنا والتي نعايشها، وكثير من الأمور التي شاهدناها، أو التي لم نشاهدها: كيف تيقناها؟ كيف حصل فيها هذا اليقين؟ والله عز وجل قد أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، فكيف حصّلنا اليقين فيها؟(1/86)
حصّلنا هذا اليقين: إما بالمشاهدة بعد أن كان ذلك معلوماً، أو بالمشاهدة ابتداءً، أو أننا حصلنا اليقين بتوارد الأدلة، فنعلم أن هذا الأمر حق لا يقبل الجدل، وأنه شئٌ ثابتٌ راسخ لا يقبل التشكيك. مع أن هذا الأمر قد يكون في نفسه باطلاً، وقد يكون لا حقيقة له، ومع ذلك تجد الإنسان متيقناً له، وعلى سبيل المثال ما ذكرته في أول مجلس من هذه الدورة أين عقل الإنسان؟! كثير من الناس عنده يقين أن عقله في دماغه مع أن الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن العقل في القلب، فكيف وُجد هذا اليقين عند كثير من الناس؟ كيف وُجد عندهم هذا اليقين في قضية غير حقيقية، وليست بصحيحة أصلاً؟ بتوارد ما توهموه أنه أدلة، حتى صار ذلك عندهم لا يقبل التشكيك، ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يستغرب كل الاستغراب، ويستنكر سماع ما يخالف هذه الحقيقة التي رسخت في نفسه.
النقطة التاسعة ثمرات اليقين: والأمور التي يؤثرها في سلوك الإنسان، وفي قلبه، وفي سائر تصرفاته وأعماله:(1/87)
* أولاً: أن اليقين إذا وصل إلى قلب الإنسان؛ امتلأ قلبه نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه أضداد ذلك من الشكوك والريب والشبهات التي تقلقه: فيكون القلب مستريحاً مطمئناً، فيرتفع عنه السخط والهم والغم الذي يجلبه الشك والريب، فيمتلأ قلبه محبة لله، وخوفاً منه، ورضاً به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات، والحامل لها، كما قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 1/398]. بخلاف الريب والشك والتردد، فإنه يورث قلقاً في القلب، وضجراً وألماً، والشاك المرتاب يحصل له من ألم القلب ما الله به عليم، حتى يحصل له العلم واليقين، ولهذا كان الشك يوجب له حرارة، وأما اليقين فيوجد له برداً في قلبه ولهذا يقال:' ثَلَجَ صدرُه..وحصل له برد اليقين' [انظر: بإغاثة اللهفان 1/19-20]. فتزول عنه هذه الأمور التي تعصر القلب، وتؤلمه، وتعصف به، يقول ابن القيم [الوابل الصيب ص 69-70] رحمه الله تعالى، واصفاً مثالاً واقعياً شاهده على سكون صاحب اليقين، وعلى طمأنينته، وعلى رضاه الكامل، وعلى انشراح صدره وسروره وتنعمه -وهذا المثال هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- يقول ابن القيم: سمعته قدس الله روحه يقول:'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة'. يقول ابن القيم: وقال لي مرة:'ما يصنع أعدائي بي؟! إن جنتي وبستاني في صدري أنَّى رحتُ، فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خَلْوَة، وقتلى شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة'. وكان يقول في محبسه في القلعة:'لو بَذَلْتُ ملئ هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: 'ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا'. -نعمة السجن- التي أورثته خلوة بربه، فحصل له من الأمور التي تورثه اليقين ما الله به عليم. وكان يقول في سجوده وهو محبوس:'اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك'. كان يردد ذلك.(1/88)
وقال لابن القيم مرة:'المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه'. هذه حقيقة الأسر، فإذا كان الإنسان مأسور البدن إلا أن قلبه طليق مرتبط بالله عز وجل، فأي أسر مع هذا الاستشعار؟! قلبه مرتبط بيد الله، فهو يعلم أن هؤلاء الذين أسروه أمرهم بيد الله، وأنهم خلق ضعفاء، وإنما ابتلاه الله عز وجل بهم؛ لينقله إلى مراتب في الجنة لا يبلغها بعمله، ولهذا يتمنى أهل البلاء في الدار الآخرة أن لو قرّضوا بالمقاريض؛ لما يرون من الجزاء على هذا البلاء، فهو يشاهد هذه الحقائق... نعم قد أسره عدوه، ولكنه يعلم أن حركات هذا العدو وسكناته، وأن هذه القيود التي توضع في يده ورجليه أن الله عز وجل قد قدر ذلك، وأنه لا يَدَ لَهُ هو في دفعه ورفعه عن نفسه، فهو يتقلب في مرضاة الله عز وجل، ويسكن عند ذلك، ويعلم أن الله عز وجل ما فعل به ذلك ليهلكه، وإنما فعل به ذلك ليرفعه، وليعلى درجته، وأن هذا من جهاده ومن تمام عمله، وأن أجره يجرى عليه بلا توقف، فإذا استشعر العبد هذه الأمور لربما تمنى دوامها مع دفع بعض الأمور العارضة التي قد لا يرتضيها إذا كان الذي أسره أحد من الكافرين لئلا يكون للكافر عليه سبيل.(1/89)
يقول ابن القيم رحمه الله يصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لما دخل إلى القلعة -سجن القلعة- وصار داخل سورها نظر إليه- ماذا قال؟ هل جزع؟ هل قال: أنا مستعد للمساومة؟ أنا مستعد لتراجع عن هذه العقيدة التي أعلنتها أمام الناس ودعوت الناس إليها؟ أبداً- نظر إلى السور، وقال:( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] ([سورة الحديد]. لاحظ هذا الاستشعار حينما أُدخل في سجن القلعة، فنظر إلى سورها لم يَخَفْ، وما قال: يا لهف نفسي ما الذي فعلته بنفسي؟ وماذا فعل بي أعدائي؟ما جزع، وإنما قال لما نظر إلى السور: :( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[13] ([سورة الحديد]. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله، واصفاً له:' وعَلِمَ الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه'. يقول:'وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوةً، ويقيناً، وطمأنينةً، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها، ونسميها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وإذا وصل العبد إلى مرتبة اليقين اندفعت عنه الشكوك والريب، ولهذا قال أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله- وهو واعظ دمشق-:'يسير اليقين يُخرج كل شك من القلب' [نزهة الفضلاء [955]].(1/90)
كما أنه يجعل صاحبه يُفرّق بين الحق، وبين ما يُلبسه الشيطان على الجُهال من العُبّاد وغيرهم: ولهذا كان بعض المُتقدمين يُصلى ويختم كل ليلة في مسجده، وكان على مرتبة عظيمة من العبادة: من صلاة، وتهجد، وصيام، وقراءة القرآن، فرأى ليلة نوراً قد خرج من حائط المسجد وقال:تَمَلاَّ من وجهي فأنا ربك .- ومعلوم أن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا- فماذا فعل هذا الرجل- وهو أحمد بن تزار القيرواني؟- فبصق في وجهه وقال: اذهب يا ملعون. فانطفأ النور الذي في الحائط. فهذا الشيطان تمثل، وأراد أن يخدعه، وأن يضله، فجاءه بهذه الصورة، فلما كان هذا راسخ الإيمان، ثابت اليقين لم يلتفت إلى هذا العارض، وما صرفه عن طاعة الله عز وجل، وما عرف عن ربه تبارك وتعالى.
* الأمر الثاني مما يورثه اليقين: هو الهدى والفلاح في الدنيا والآخرة[زاد المعاد 4/215]: ومعلوم أن الفلاح هو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، ولهذا قال الله عز وجل عن المؤمنين:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4]أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[5]( [سورة البقرة]. وقد جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه-مرفوعا- فيما أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والبخاري في الأدب المفرد- قال: [سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَ الْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَافِيَةِ].
يقول ابن القيم رحمه الله في 'زاد المعاد': لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه'[ انظر: مدارج السالكين 2/397] .(1/91)
ويقول شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مبيناً لطيفة تتعلق بآية من كتاب الله عز وجل، فالله عز وجل يقول: ( الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ[22]عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ[23]تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ[24]يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ[25]خِتَامُهُ مِسْكٌ [26] ([سورة المطففين]. أي أن آخره يكون بطعم المسك، وقال:( وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ[27]عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ[28]( [سورة المطففين]. فالتسنيم هي عين يشرب بها المقربون من عباد الله عز وجل في الجنة، وأولئك الأبرار يشربون من شرابٍ من خمرٍ ممزوجة مخلوطة بالتسنيم، وليست تسنيماً صافياً خالصاً، يقول شيخ الإسلام:'وذكر سبحانه أن شراب الأبرار يُمزج من شراب عباده المقربين؛ لأنهم مزجوا أعمالهم..، ويشربه المقربون صِرْفاً خالصاً كما أخلصوا أعمالهم، وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته؛ لما حصل لقلوبهم، ووصل إليها في الدنيا، مع ما في ذلك من مقابلته للسعير- ويشير إلى قوله تبارك وتعالى: ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا[5]( [سورة الإنسان]. فالجزاء من جنس العمل، فلما حصل لهم برد اليقين حصل لهم أيضاً برد هذا الشراب من الكافور في الجنة' [دقائق التفسير 3/22].(1/92)
* الثالث: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك الإنسان: أنه يورثه الزهد في الدنيا وقصر الأمل: فلا تتعلق نفسه بها، ولا يتشبث بُحطامها، وإنما يكون زاهداً فيها؛ لأنه يعلم أنها ليست موطناً له، ولأنه يعلم أنها دار ابتلاء، وأنه فيها كالمسافر يحتاج إلى مثل زاد الراكب، ثم بعد ذلك يجتاز ويعبر إلى دار المقام، فهو بحاجة إلى أن يشمر إليها، وأن يعمل لها، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [ قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ: [نَعَمْ] قَالَ: بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
فما الذي جعل هذا الإنسان يعد هذه اللحظات- التي لربما لا تتجاوز الدقائق القليلة يعدها- حياة طويلة؟! وما الذي جعل الإنسان الآخر لربما عاش مائة سنة ومع ذلك هو متمسك بالدنيا، وبالحياة بيديه ورجليه؟ ما الذي يجعل هذا بهذه المثابة، والآخر بتلك المثابة؟! يقول بلال بن سعد رحمه الله:'عباد الرحمن اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار، ولأيام طوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزن ونصب لدار نعيم وخلد، ومن لم يعمل على اليقين، فلا يغتر؛ لأن المصير حتماً سيقع إما إلى الجنة وإما إلى النار'. وكان يقول:'كأنّا قومُُ لا يعقلون، وكأنّا قوم لاُ يوقنون'.(1/93)
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الذي يجعل الإنسان يتشبث بهذه الحياة الدنيا هو ما غُرس في قلبه من محبتها، وما زُيِّن في نفسه من شأنها، وكذلك ما يتعلق بها من محبة الإنسان للثناء والحمد . يقول:'ما تأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء، وثناء الناس عليه، ونفرته من ذمهم، فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها'[ مدارج السالكين 2/302] .
وهذا يعنى: أنه يُشمر في أمر الآخرة، ولهذا فإنه لا ينتهي بهذه الدنيا، ويتكاثر فيها مع من يتكاثر، ويتكالب على حطامها إلا من كانت الغفلة غالبة على قلبه، وكان اليقين مُترحِّلاً عنه، ولهذا يقول الله عز وجل:(...كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[136]( [سورة الأعراف] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا] رواه البخاري ومسلم. وما وجد هذا التكاثر والإلهاء عما هو أولى بالخلق منه من العمل للآخرة، والسعي لتحصيل دار الكرامة إلا لاختلال اليقين في النفوس [مجموع الفتاوى 16/517 - 518].
وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات التي لا يُشك ولا يُمارى في صحتها وثبوتها، ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وبشاشته؛ لما ألهاه عن موجبه، وترتب أثره عليه، فإن مجرد العلم بقبح الشيء، وسوء عواقبه قد لا يكفى في تركه، فإذا صار له علم اليقين؛ كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد، فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شيء، وفي هذا المعنى قال حسان رضى الله عنه فيمن قُتل من أهل بدر من المشركين:
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهُمُ لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
هكذا قال ابن القيم رحمه الله في كتاب 'عدة الصابرين'[ عدة الصابرين ص 156 - 157] .(1/94)
وهذا المثال يبين أثر اليقين في سلوك العبد، حيث يزهده فيما في أيدي الخلق: دخل هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي الكعبة، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم، فقال له:'سلنى حاجة -فرصة ثمينة الخليفة يعرض عليه أن يسأله ما شاء، اطلب، فماذا قال؟- قال:'إني لأستحي من الله أن أسال في بيته غيره'. فلما خرجوا قال له:' فالآن سلني حاجتك، فقال سالم: من حوائج الدنيا أم حوائج الآخرة؟- طبعاً حوائج الآخرة لا سبيل إليها، لا سبيل إلى تحصيلها من قِبَل المخلوقين، هم لا يستطيعون أن يعطوك شيئاً من أمور الآخرة- قال:' بل من حوائج الدنيا' قال:' والله ما سألت الدنيا من يملكها -يعنى الله، يقول: أنا ما دعوت قط ربي أن يعطيني شيئاً من حُطام الدنيا- ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسأل من لا يملكها!'.
لاحظتم.. اليقين كيف يؤثر؟ هذه فرصة ثمينة لا تعوض عند كثير من الناس، يعرض عليه الخليفة، أو الملك أن يطلب ما شاء، فهذا يأبى أن يسأل حاجة من هذا المخلوق، ولذلك قيل:'أنفع اليقين ما عَظَّم الحق في عينك -
أن تُعظّم الله عز وجل، وتُعظّم أمر الله جل جلاله- وصغّر ما دونه عندك- فمن الخلق؟ وما غنى الخلق؟ ماذا عندهم إزاء غنى الله عز وجل؟ - وثبّت الرجاء والخوف في قلبك' .(1/95)
* أمر رابع مما يثمره اليقين: الانتفاع بالآيات والبراهين[انظر: مدراج السالكين 2/397]: فالله عز وجل يقول:( وَفِي الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ[20] ([سورةالذريات] نحن نشاهد الإنسان الذي عنده يقين راسخ إذا مر بآية من الآيات الكونية، أو مر بآية من الآيات الأرضية، إذا شاهد مكاناً للمعذبين؛ فإنه يرق قلبه، وتتمالكه مشاعر كثيرة لا يستطيع أن يُعبر عنها، ولربما دمعت عينه وبكى، وأما الآخر: فهو ينظر إلى هذه الأشياء، وقد علق كاميرا في عنقه، يضحك ملء فيه، ولا يُحرك ذلك في قلبه ساكناً، فالآيات إنما تُؤثر وتُحرك نفوس أصحاب اليقين، أما أهل الغفلة، فإنهم لا ينتفعون بها؛ ولهذا يقول الله عز وجل: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[105] ( [سورة يوسف] .
الخامس: مما يؤثره اليقين: الصبر: ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له، ويتنعم به، ويغتذي به وهو اليقين [الاستقامة 2/261]. والعبد إذا كان فارغ القلب؛ لم يصبر، وإنما إذا كان له شئ يتنعم به، ويتلذذ به، ويركن إليه؛ فإنه يركن، ويصبر، ويسكن، فلا يصدر منه شئ يخالف مقتضى الصبر.(1/96)
وعلى حسب يقين العبد بالمشروع؛ يكون صبره على المقدور، كما قال الله عز وجل: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[60] ([سورةالروم] فأمره أن يصبر، وأن لا يتشبه بالذين لا يقين عندهم لعدم الصبر، فإنهم كما قال ابن القيم رحمه الله:'لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم، وخفوا واستخفوا قومهم، ولو حصل لهم اليقين والحق؛ لصبروا، وما خفوا ولا استخفوا، فمن قل يقينه؛ قل صبره ومن قل صبره؛ خف واستخف، فالموقن الصابر رزين لأنه ذو لب، وعقل، ومن لا يقين له، ولا صبر عنده؛ خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف'[ التبيان في أقسام القرآن ص 55]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنِّي آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَتَهَافَتُونَ تَهَافُتَ الْفَرَاشِ]رواه البخاري ومسلم -بنحوه- . شبههم بالفراش لخفتها، وسرعة حركتها وانتشارها، وهي صغيرة النفس، جاهلة بمصالحها، تتهافت في النار؛ لأنها تنجذب إلى النور، وإلى الضياء، ويكون سبباً لإحراقها، يقول ابن القيم رحمه الله:'ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. وقال الله عن فرعون بأنه:( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ...[54] ( [سورة الزخرف]. والخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت'[ الفوائد 211 - 212] .(1/97)
ويقول في موضع آخر:'لذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوى اليقين، وباشر القلب؛ آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب'[ الفوائد ص201] . ولهذا قال بعض الزهاد العبّاد من المتقدمين:'تَرِدُ عليّ الأثقال -يعنى من المصائب والآلام- التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض وأقول -مُثَبِّتاً لنفسه-(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[5]إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[6]( [سورة الشرح] . ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني'[ نزهة الفضلاء [1575]] .
والعبد يجب عليه أن يروّض نفسه على الحد الأدنى وهو الصبر؛ لأنه ليس دون الصبر إلا الجزع والسخط، فيذهب الأجر، ولا يُسترد المفقود، ما ذهب لا يرجع، ما فات فإنه لا يمكن أن يعود، وبالتالي ليس على العبد إلا أن يصبر؛ ليؤجر على هذه المصيبة. وأما إذا تسخط، فإنه يأثم، ويفوته الأجر، والنهاية أنه يسلو سلو البهائم من غير احتساب ولا صبر، ولهذا قال بعض خلفاء بني العباس -وهي كلمة حق- يقول:'أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدبر' يعني: ما قدره الله كائن لا محالة، ولا سبيل إلى دفعه، فعليك أن تستقبله بالرضى والتسليم.. يقول:'وإذا أدبر أن يُقبل'.
فإذا مات لك حبيب، فلا يمكن أن يرجع من جديد إلى هذه الحياة الدنيا، فليس عليك إلا الصبر. وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول:'اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مُصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يُصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به'.(1/98)
إذا وُجد عند العبد اليقين أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلم وحكمة، وأن الإنسان كُتب له رزقه وهو في بطن أمه، فالرزق لا يجلبه حرص حريص؛ فإنه لا يتهافت على الدنيا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [...اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ...]رواه ابن ماجة. فما قُسم لك من هذا الرزق؛ سيأتي إليك، ولو اجتمع من بأقطارها على أن يمنعوا منك شيئاً من هذا الرزق الذي كتبه الله عز وجل لك، لا يمكن أن يمنعوه، فلماذا التهافت على الدنيا؟ ولماذا الحرص الذي يُخرج الإنسان عن الاقتصاد في الطلب، وعن التزام أخذ الحلال دون غيره مما حرم الله تبارك وتعالى؟!
* السادس: مما يورثه اليقين- وهو مرتبه فوق الصبر-: الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم: فاليقين هو أفضل مواهب الله عز وجل على العبد، ولا يمكن أن تثبت قدم الرضا إلا على قاعدة اليقين ودرجته، فمن لا يقين عنده لا يمكن أن يصبر، فضلاً أن يرتقى إلى درجة الرضا بما قدر الله عز وجل عليه من الآلام والمصائب والمحن والبلايا، وما قدر الله عليه من الفقر والمرض، وما أشبه ذلك، الله يقول:( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ...[11]( [سورة التغابن]. يقول ابن مسعود:'هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى ويُسلّم'. ولهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا باليقين .[ مفتاح دار السعادة 1/154] .وهذا الرضا يكون بقضاء الله عز وجل.(1/99)
وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن على رضى الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضى الله عنه كان يقول:'الفقر أحب إلىّ من الغنى، والسقم -يعنى المرض- أحب إلىّ من الصحة' فلما بلغ ذلك الحسن بن على رضى الله عنه قال:'رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنَّ شيئاً'. وهو حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء، فلا يتمنى أن هذا الأمر من الأمور التي يحُبها من عاجل الدنيا ونعيمها وقع له، ولا يتمنى أيضاً أن هذه المصيبة والألم لم يقع له، وإنما هو راضٍ بما قسم الله عز وجل له، ولهذا يقول: سفيان الثوري رحمه الله - وقد قال له الربيع بن خُثيم:' لو تداويت' أصابه مرض فقال له: لو تداويت، مع أن العلاج والتداوي مباح- فقال:' ذكرت عاداً، وثموداً، وأصحاب الرس، وقروناً بين ذلك كثيراً، كان فيهم أوجاع، وكانت لهم أطباء، فما بقى لا المداوي ولا المداوي' . كلهم قد أفناهم الله عز وجل، فيرضى العبد بما قضى الله عز وجل عليه من ذلك كله.
وهذا سعيد بن جُبير رحمه الله، إمام من أئمة التابعين لدغته عقرب، فأصرت أمه عليه أن يسترقي، ومعلومٌ أن من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عقاب، الذين لا يسترقون: لا يطلبون الرقية، فلما أصرت أمه، أراد أن يُطيّب خاطرها، فأعطى الراقي يده الأخرى التي لم تُصب بلدغة هذا العقرب، وترك اليد الأخرى، فعل ذلك؛ إرضاءً لأمه، وجبراً لخاطرها، وتطييباً لنفسها، ولم يفعل الأمر الذي كان يتنافى عنده مع كمال التوكل .(1/100)
وهذا يونس بن عُبيد كتب إلى ميمون بن مهران، عالم، عابد، بعد طاعون كان ببلادهم يسأله عن أهله، فكتب إليه ميمون بن مهران يقول:' بلغني كتابك، وإنه مات من أهلي، وخاصتي سبعة عشر إنساناً بهذا الطاعون، وأني أكره البلاء إذا أقبل، فإذا أدبر لم يُسرني أنه لم يكن'. يقول: أنا راضٍ بما قسم الله عز وجل، وهكذا يرضى العبد الموقن بما قسم الله عز وجل له من الرزق، ولهذا يقول أبو حازم رحمه الله:' وجدت الدنيا شيئين: فشيء هو لى، وشيء لغيري، فلو طلبته بحيلة السموات والأرض؛ لم أصل إليه'. يعنى: الذي كُتب لغيري من الرزق لو طلبته بحيلة السموات والأرض لم أصل إليه، فيُمنع رزق غيري مني كما يُمنع رزقي من غيري . يقول: ما كتب لي لابد أن يأتي، ولو اجتمع من بأقطارها ليمنعوه. وما كان مكتوباً لغيري لا يمكن أن يصل إليّ.
فلا حاجة للعبد أن يتسخط، ويتذمر على بيعةٍ باعها، فندم عليها، فيأكله الندم طوال حياته، ولربما حدّث أبناءه وأحفاده بهذه الأرض التي باعها قبل خمسين سنة ببيعةٍ زهيدة، هي لم تُكتب لك، فلا حاجة للتحسر، هي مكتوبة لفلان فلا يمكن أن تصل إليك، هذا فضلاً عن الحرام، فالإنسان قد يخرج من العمل في ساعات العمل، وقد يغيب ويسجل له مدير المدرسة، أو المديرة تسجل لهذه المعلمة أنها حضرت هذه الأيام وتُعطى من الراتب، هذا المال الذي وصل إليها سيصل، فإن صبرت؛ سيصلها عن طريق الحلال، فإن لم تصبر؛ فإنها تأخذه عن طريق الحرام، وما لم يُكتب، فإنه لا يصل بحالٍ من الأحوال، فعلى العبد أن يتقى ربه ويُجمل في الطلب.
* السابع: من ثمرات اليقين: أن البلاء يصير عند من استكمل اليقين نعمة، والمحنة منحة:قال سفيان بن عيينة:'من لم يَعُدّ البلاء نعمة فليس بفقيه'[مفتاح دار السعادة 1/154] .(1/101)
* الثامن: مما يثمره اليقين: التوكل على الله عز وجل: ولهذا قرن الله بينه وبين الهدى، فقال:( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا...[12]([سورة إبراهيم] . وقال:( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ[79]([سورة النمل] . والحق هنا هو اليقين- كما قال ابن القيم رحمه الله [مدارج السالكين 2/398].
* التاسع من ثمراته: أنه يحمل صاحبه على مباشرة الأهوال، وركوب الأخطار: وهو يأمر بالإقدام دائماً، فإن لم يقارنه العلم؛ فربما حمل على المعاطب، والعلم من غير اليقين قد يحمل صاحبه على التأخر والنظر في حسابات كثيرة من نواحٍ متعددة، فتفوت صاحبه الفرص.[بصائر ذوي التمييز 5/400]. فإذا قارنه اليقين؛ فذاك الكمال، وقد قال الجنيد: 'قد مشى رجال باليقين على الماء' . ولما أراد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أن يعبر دجلة إلى المدائن، وقطع الفُرْسُ عليه الجسر، وحازوا السفن؛ نظر سعد في جيشه، فلما اطمأن إلى حالهم، اقتحم الماء، فخاض الناس معه، وعبروا النهر فما غرق منهم أحد، ولا ذهب لهم متاع، فعامت بهم الخيل وسعد يقول:' حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصُرَّنَ الله وليَّه، وليُظْهِرَنَّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه؛ إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات'[تاريخ الطبري2/462]. ولما نزل خالد بن الوليد رضى الله عنه الحيرة، فقيل له: احذر السم لا تسقك الأعاجم، فقال:' ائتوني به، فأُتي به، فالتهمه، واستفه، وقال: بسم الله، فما ضره'. قال الذهبي رحمه الله:' هذه والله الكرامة وهذه الشجاعة' [سير أعلام النبلاء1/376].(1/102)
فانظر إلى هذه الأمور: لو أن العبد أقدم عليها من غير حاجة، ومن غير بصر ونظر في حاله، وتوكله على الله عز وجل، وصلاح أموره، وعلاقته مع ربه؛ فإن ذلك قد يورثه الهلكة، ولو أن عبداً قَلَّ يقينه، وإيمانه، وكثرت ذنوبه، فأراد أن يُغِير على عدوه، فاقتحم الماء، ماذا تكون النتيجة المتوقعة؟ النتيجة هي: الغرق والموت والهلاك، ولكن سعدًا رضي الله عنه زمَّ هذا اليقين بالعلم، فأمر بالنظر في أحوال الجيش، فلما وجدهم على حال من التقى، وخاف أن يفوت المسلمين ذلك المقصود الكبير- وهو تلك الغنائم الهائلة العظيمة في المدائن وهي عاصمة فارس- ولم يجد شيئاً يركبه إليهم، فخشي إذا تأخر أن يذهب عنه ذلك؛ أجمع، فركب الماء، وسلمه الله عز وجل.(1/103)
وانظر إلى حال علاء الدين خوارزم شاه- وهو من قادة المسلمين الكبار- كان عالماً بالفقه والأصول، محباً للعلماء، من أهل العبادة والزهد، وكان يحب أهل الدين، يقول عنه الذهبي:' أباد ملوكًا، واستولى على عدة أقاليم، وخضعت له الرقاب'. ووصفه ابن الأثير في 'الكامل' بقوله:' كان صبورا على التعب وإدمان السير، غير متنعم ولا متلذذ'. وقال عنه: إنه كان يبقى أربعة أيام على ظهر فرسٍ لا ينزل، إنما ينتقل من فرس إلى فرس- الفرس يتعب! وهو لا ينزل أربعة أيام، فإذا تعب فرس انتقل منه مباشرة إلى ظهر الفرس الآخر- وكان يطوى البلاد، ويهجم على المدينة بنفر يسير، ثم يُصَبِّحهم من عسكره عشرة آلاف، هؤلاء العشرة آلاف هم الذين سبقوا الجيش ممن يكونون من أهل النشاط والجَلَد والصبر.. يهجم على المدينة في المساء، ثم يُصَبِّحهم من جيشه عشرة آلاف، ويمُسِّيه عشرون ألفا، هؤلاء هم الذين سبقوا، ثم يأتي بقية الجيش بعد ذلك. يقول: وإنما أخذ البلاد بالرعب، والهيبة، وكان عدد جيشه سبعمائة ألف. ما الذي جعله يفعل ذلك جميعاً؟ ما الذي جعله يركب الأهوال والأخطار، ويلقى هؤلاء الكفار في وقت قصير لا يتوقعونه، وليس معه من الجيش إلا اليسير؟!(1/104)
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناظرته المشهورة للبطائحية، وهم طائفة من الصوفية كانوا يطلون أجسامهم بطلاء معين، ثم يدخلون في النار ولا يحترفون، فأضلوا طائفة من المسلمين، ولبَّسوا عليهم حيث زعموا أن هذا من الكرامات، وأن هذا يدل على أن ما هم عليه من الباطل هو الحق، وأن الله يؤيدهم على ذلك بهذه الكرامات، فماذا صنع شيخ الإسلام رحمه الله؟! استخار ربه، واستعانه، واستنصره، واستهداه يقول:' فسلكت سبيل عباد الله في هذه المسالك حتى أُلقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأنها تحرق أشباه الصابئة'. ولما حضر شيخ الإسلام معهم أمام السلطان، وجلس شيوخهم بين يديه، قال للسلطان:' هؤلاء يزعمون أن لهم أحوالا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة- يعني: العلماء والفقهاء- لا يقدرون على ذلك، ويقولون: لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشَرع، وليس لهم أن يعترضوا علينا، بل ينبغي أن يُسَلِّمُوا لنا ما نحن فيه، سواء وافق الشرع أو خالفه'. يقول شيخ الإسلام للسلطان:' وأنا استخرت الله سبحانه أن أدخل النار إذا دخلوها، ومن احترق منا ومنهم؛ فعليه لعنة الله، وكان مغلوباً'. فاستعظم الأمير هجوم شيخ الإسلام على النار، وقبوله الدخول فيها، فقال له: أتفعل ذلك؟ يقول، فقلت:' نعم قد استخرت الله في ذلك، وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين له باطناً وظاهراً، لحجة أو حاجة'. شيخ الإسلام يقول: نحن لا نرى أن المؤمن يقتحم على مثل هذه الأمور التي تهلك عادة من غير مبرر شرعي. إنما يقتحم فيها في أحد حالين: إما لإقامة الحجة أنه على الحق، وإما لحاجة كما فعل سعد بن أبي وقّاص رضى الله عنه حينما ركب على الماء، يقول شيخ الإسلام:' إن هؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه(1/105)
إشاراتهم، وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه؛ وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونقوم بنصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا، وجسومنا، وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات'.
فانظر إلى شيخ الإسلام رحمه الله: جاء إلى السلطان، وتحداهم أن يدخل معهم في النار، فلما رأوا جزمه على ذلك أبوا، واقتنعوا، وقال كبيرهم: بل نطلب المصالحة، فطلب منهم شيخ الإسلام أن يتركوا هذه الأفعال التي تخالف الشريعة، والتي تُلَبِّس على عوام المسلمين؛ فأقروا بذلك عند الأمير، وهذا مقام لا يفعله أحد من الناس إلا من اكتمل يقينه، وكان هذا اليقين مزموماً بالعلم.
* وأمر عاشر مما يثمره اليقين: أن اليقين إذا تزوج بالصبر فإنه يولد بينهما الإمامة في الدين: والله عز وجلّ يقول:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24]( [سورة السجدة]. فالصبر هو لقاح اليقين .[مدارج السالكين 2/196 ، الفوائد ص 199].(1/106)
* والأمر الحادي عشر مما يورثه اليقين: هو أنه يحمل صاحبه على الجد في طاعة الله عز وجلّ والتشمير والمسارعة والمسابقة في الخيرات: ولذلك فإن أصحابه يمتطون العزائم، ويهجرون اللذات، وكما قيل:' وما ليل المحب بنائم' . فعلموا طول الطريق، وقلة المقام في منزل التزود؛ فسارعوا في الجهاز، وجدّ بهم السير إلى منزل الأحباب، فقطعوا المراحل، وطووا المفاوز- كما يقول ابن القيم رحمه الله [مفتاح دار السعادة 1/149] - . وهذا كله من ثمرات اليقين فإن القلب إذا استيقن ما أمامه من كرامة الله، وما أعدّ لأوليائه بحيث كأنه ينظر إليه من وراء حجاب الدنيا، ويعلم أنه إذا زال الحجاب، رأى ذلك عياناً؛ زالت عنه الوحشة التي يجدها المتخلفون، ولان له ما استوعره المترفون؛ ولذلك ما الذي يجعل هذا الإنسان يقدم نفائس الأموال التي تعب في جمعها وتحصيلها، ويجعل الآخر إذا أراد أن يتصدق بصدقة- ولو قلّت- يفكر ويحسب الحسابات؟ ما الذي يجعل هذه المرأة إذا أرادت أن تتصدق تُقَلِّب هذه الثياب والملابس والأثاث، فترفع هذا بحجة أنه يمكن الاستفادة منه، وترفع الآخر بحجة أنه جيد مستحسن، وترفع الثالث باعتبار أنه لم يَبْلَ بعد، وترفع الرابع باعتبار أنه جديد لم يستعمل إلا قليلاً، ما الذي يجعلها كذلك؟! ويجعل الآخر يبحث عن الأشياء الجيدة، فيتصدق بها؟ والله عز وجل يقول:( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...[92]( [سورة آل عمران]. الذي يجعل الناس يتفاوتون هذا التفاوت هو اليقين.(1/107)
الآن انظر إلى ما يُدعى إليه الناس في هذه الدنيا من ألوان التجارات، فربما استشرفتهم الأرباح العالية التي يُدعون إليها، وكم تبلغ هذه الأرباح؟ هي في جميع الأحوال لا تكاد تبلغ الضعف، وإنما هي تتراوح بين نِسَب قد لا تصل إلى خمسين بالمائة، فما الذي يجعل هؤلاء الناس يبيعون بيوتهم، ويجعل بعض الناس يُصَفُّون مؤسساتهم، وما الذي يجعل بعضهم يقترضون، ويشترون سيارات بالأقساط، ثم يبيعونها بخسارة من أجل أن يساهموا في الشركة الفلانية؟! الذي يجعلهم يفعلون ذلك- لا أقول هو اليقين بهذا الطمع القليل- إنما هو ظنٌ غالب عندهم أنهم يربحون، مع أنه يحتمل أن رءوس الأموال تذهب برمتها، ولا يبقى لهم لا ربح، ولا رأس مال، وإنما تكون لهم الخيبة والخسارة محققة!!
ومع ذلك رأيناهم يبيعون سياراتهم، ويبيعون أثاثهم، ويبيعون ممتلكاتهم! ورأينا من يقترض من أجل أن يساهم هنا أو هناك، ما الذي جعلهم يفعلون ذلك؟ هو ظن غالب، وما الذي يجعل العبد يحسب ألف حساب إذا أراد أن يتصدق؟ ما الذي يجعل كثيراً من النساء يسألن أهل العلم ذلك السؤال الذي يتكرر دائماً: هل يجب عليّ أن أُزكى الذهب المستعمل وأنا أتصدق أثناء السنة، أم ذلك يجزئ عنه؟
هل يجب عليّ أن أُخرج زكاة مالي، أو أنه يكفي أن أُسقط الديون المتعثرة المتعذر تحصيلها على فلان وفلان؟ هو يريد أن يخرج الزكاة بواسطة أشياء وديون معجوز عنها، فجعل حق الله عز وجل هو الآخِر، وهو الأقل في اهتماماته، ما الذي يجعل هذا الإنسان يبخل على الله عز وجل بركعة يضحي بها بلذة نومه؟ بل ما الذي يجعل هذا الموظف، أو هذا الطالب يوقت الساعة قبل وقت الدوام، ثم بعد ذلك ينام عن الصلاة، ويفرط فيها؟ وإذا احتُج عليه بهذا قال: ليس مع النوم تفريط! ما الذي يجعل المعلمة تنام ملء جفنيها، ولكنها لا يمكن أن تتأخر عن مدرستها حتى لا توقع تحت الخط الأحمر؟!(1/108)
السبب هو ضعف اليقين، لو أن أحداً من هؤلاء الموظفين، أو هؤلاء المعلمات يذهب دائماً الساعة التاسعة إلى عمله، وعمله يبدأ في الساعة السابعة ماذا يقال عنه؟ يقال: إنه إنسان لا يبالى، مستهتر، فما الذي يجعل بعض المسلمين لا يحضر مع المصلين في صلاة الفجر، ولا يعرف المسجد في صلاة الفجر إلا في رمضان؟
أقول: ما الذي يجعل الناس يتأخرون عن طاعة الله عز وجلّ، ولا يتأخرون عن الدنيا؟ لماذا يتردد الإنسان عن الصيام تقرباً لله عز وجلّ وتطوعاً- وهو من أَجَلّ القربات- ثم إذا كان ذلك بنصيحة من الطبيب، وأن عافيته تتوقف على ذلك؛ فإنه يترك هذا الطعام والشراب، ويترك أنواع الطيبات، ويبقى في حال يرثى له بها عدوه، حيث منع نفسه أشياء كثيرة جدًّا، وصار لا يأكل إلا بعض الأمور التي يصعب تحصيلها، ما الذي يجعله يفعل ذلك؟ هو صحة متوقعة، وعافية مرجوة ليست متيقنة، فما الذي يمنع العبد من المسارعة في أمور أخبر الله عز وجلّ عنها، وخبره صدق وحق:( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[87]( .[سورة النساء] . (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[122]([سورة النساء].(1/109)
فلذلك يقول بلال بن سعد رحمه الله:' عباد الرحمن: أمَّا ما وكَّلَكُم الله به فتضيعونه، وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين، أَذَوُواْ عقول في طلب الدنيا، وبُلْهٍ عما خُلقتُم له؟! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدونه من طاعة الله عز وجل، فكذلك أشفقوا من عذاب الله مما تنتهكون من معاصى الله عز وجلّ'[صفة الصفوة 4/219 ، الحلية5/231]. ويقول الحسن البصرى:'ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه من شك لا يقين فيه من أمرنا هذا'. يعني: أننا نوقن بالموت، وبالجزاء والحساب، ولا نعمل لذلك، ولا نستعد له، نوقن بالنار، ولا نرى حَذِراً خائفا منها، وإنما نهجم على معاصى الله عز وجلّ ومساخطه. ويقول سفيان الثورى رحمه الله- مبيناً هذا المعنى: وهو أثر اليقين في قلب العبد بالتشمير في طاعة الله جلّ جلاله-:' لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي؛ لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار'[الحلية 7/17].
* الثاني عشر: من الأمور التي يثمرها اليقين في سلوك العبد: أنه يجعل صاحبه ثابتاً على الحق الذي اتبعه وعرفه: ولهذا فإن أهل الحق هم أكثر الناس ثباتاً، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في جملة الخصائص السلوكية لأهل السنة والجماعة:وتجد أن أصحاب الرأى من المتكلمين، وأصحاب العقائد الفاسدة، والجدل الباطل؛ هم أكثر الناس تنقلاً من قول إلى قول، ومن مذهب إلى مذهب، وتجد الواحد منهم يحكم بكفر القول، أو بكفر قائله، وتجده بعد مدة يقرر هذا القول في بعض كتبه، يقول قولاً، ثم يقول نقيضه تماماً بعد مدة وجيزة أو طويلة، بخلاف حال المؤمن الثابت، الذي رزقه الله عز وجلّ اليقين؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قال: لا، قال: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ.(1/110)
يقول شيخ الإسلام:'وأما أهل السنة، فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم؛ رجع قط عن قوله، أو اعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتُحنواْ بأنواع المحن، وفُتنواْ بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود، ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء'[مجموع الفتاوى 4/50].
* الثالث عشر: من الأمور التي يورثها اليقين: الثبات أمام الأعداء حتى النصر أو الشهادة: وأخبار أهل اليقين في هذه الأمة كثيرة جدًّا، وهكذا أهل اليقين الذين كانواْ من قبلنا، وتعرفون جميعاً خبر الغلام مع الملك وثباته العظيم الذي ثبته، وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حينما ثبت أمامهم، وقد توعدوه بالإحراق، بل وأوقدواْ ناراً عظيمة أمامه وطالبوه أن يرجع عن دينه، فلما أبى؛ ألقوه فيها، وهو لم يتردد إطلاقاً، ولا طرفة عين، وهكذا موسى صلى الله عليه وسلم، ثبت أمام فرعون ثباتاً عظيماً مع أنه معروف بطغيانه واستعباده للناس، وكان يقول لهم:( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[24] ( [سورة النازعات]. وكان موسى صلى الله عليه وسلم، يقول له:( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[102] ([سورة الإسراء]. فلما أمره الله عز وجلّ بالانطلاق في بني إسرائيل، ولم يجد إلا البحر أمامه، وتردد من تردد ممن كان معه، وقالوا: ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61] ([سورة الشعراء]. قال بكل ثبات:( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62]([سورة الشعراء] . فأمره الله عز وجلّ بأن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفلق، فكان كل فوق كالطود العظيم.(1/111)
ومن أخبار القادة المسلمين الذين كانوا يتحلون باليقين، وكان لهم عجائب، وغرائب بسبب ذلك: القائد المجاهد، الزاهد، أبو عبد الله مردنيش، قَاتَل الكفار من الرومان، واستطاع أن يُحرز غنائم هائلة، ثم بعد ذلك كان مع طائفة من أصحابه لا يزيدون عن ثلاثمائة، وهو قائد كبير، فأحاط به من الرومان أكثر من ألف، فلما نظر إليهم قال لأصحابه: ما ترون؟ قالواْ نترك الغنيمة، وننطلق فينشغلواْ بها عنا، فقال: ولكن القائل يقول:( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...[65] ([سورة الأنفال] . ألم يقل القائل ذلك؟؟-وظنوا أنه لم يعرف من قال ذلك- فقال بعضهم: هذا قاله الله عز وجلّ! فقال: إذا كان الله قال ذلك، فكيف تقعدون عن لقائهم؟! فثبتواْ أمامهم، فهو يعرف القائل، ولكنه كان يريد أن يختبرهم، وقاتلوهم حتى هزموهم، وفروا من مواجهتهم .[نزهة الفضلاء 1545].(1/112)
وانظر خبر شيخ الإسلام رحمه الله وهو خبر مشهور مع التتار: فإن التتار لما زحفوا من المشرق، أغاروا على بخارى، وسمرقند، وخراسان ثم قتلواْ في بغداد أكثر من مليوني إنسان من المسلمين، وما تركوا إلا أهل الذمة من اليهود والنصارى، وقتلوا في خراسان، وسمرقند، وبخارى، وغيرها من تلك الأمصار خلقاً عظيماً، بل ربما حصدوا جيشاً بكامله، وضعواْ لهم كميناً وعددهم يقارب السبعين ألفاً؛ فحصدوهم في مكان واحد، وكانواْ يدخلون البلد يُخرجون النساء على حِدَة، والأطفال على حِدة، والرجال على حِدَة، ثم بعد ذلك يقتلونهم واحداً بعد الآخر، ولما قدمواْ بغداد فعلوا فيها الأفاعيل مما يندي له الجبين، فلما زحفوا إلى الشام، أصاب الناس رعبٌ شديدٌ منهم حتى إنهم كانوا في بغداد يدخل الرجل منهم في سرداب، ويكون فيه زهاء مائة نفس، فيقتلهم واحداً بعد الآخر لا يمد إنسان منهم يده إليه! بل وربما جاء فارس منهم ووجد عشرات المسلمين وليس معه سيف ولا سلاح، فقال لهم: مكانكم حتى يذهب، ويأتي بالسيف، ولم يتحرك أحد منهم من مكانه! بل وربما وضع رأس رجل على حجر وليس معه شئ يقتله به، ثم ينطلق ويأتي بسكين وهذا الرجل لم يحرك رأسه من الحجر لشدة الخوف والهلع الذي أصاب الناس.(1/113)
فلما زحف على أرض الشام، وقبل أن يصلها؛ فرّ منها الفقراء، وتهيأ التجار للفرار إلى أرض مصر، فكاتب شيخ الإسلام السلاطين في مصر، وحثهم على الجهاد، وحرّض أهل الشام، وحثهم على البقاء، وصَفَّ الصفوف، وعبأ الجيش أمام هؤلاء التتر، والناس أصابهم رعب شديد منهم، ولمّا رأى شيخ الإسلام حال الناس، وثقتهم بالله عز وجلّ؛ أقسم لهم أيماناً أنهم سينتصرون في هذه المعركة، فكان الرجل يقول له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون. وكان ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله أنهم انتصروا في هذه المعركة، فكان ذلك سبباً لانكسار التتر، فَهُزِمُوا بعدها في وقائع، ودخل طوائف الإسلام، فصاروا يجاهدون في سبيل الله عز وجلّ، وذهب شيخ الإسلام إلى كبيرهم، وأغلظ له القول، وتهدده، وتوعده، وزجره، ورماه بالكفر، وأنه على دين جده من الوثنين والكفار، ونهاه عن أموال المسلمين، وعن دمائهم، وتكلم له بكلام غريب، حتى إن الوفد من الفقهاء والقضاة الذين ذهبوا مع شيخ الإسلام كانوا يُشمِّرون ثيابهم لا يصيبهم دم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما كانواْ يشكون أن رأسه سيطير أمامهم؛ لأن هؤلاء التتر كان فيهم من البطش، والكبرياء، والصلف شئ لا يقادر قدره، فلما انصرفوا من عنده؛ قالوا لشيخ الإسلام: ماذا صنعت؟ كدت تذهب بنفوسنا معك، ثم قالوا والله لا نصحبك بعد اليوم، فذهبوا من طريق آخر، وذهب من طريق، فتعرض لهم بعض قطاع الطرق؛ فسرقوا كل ما معهم من متاع، وقد لبسوا أحسن الثياب، فسُرِقت، وسُرِقت دوابهم، حتى جُرِّدُواْ من ملابسهم، ورجعوا إلى البلد بهذه الحال.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فتبعه الأمراء من التتر، وكثير من الجنود، وما دخل البلد إلا ومعه موكب حافل من القادة والجند، يطلبون منه الدعاء، ويتبركون بدعائه رحمه الله، فانظر كيف صنع اليقين لشيخ الإسلام رحمه الله.(1/114)
* الرابع عشر: مما يورث اليقين: أن صاحبه لا يعرف اليأس مهما طال ليل الظالمين ومهما امتد الظلام: فإن بعد الليل انفلاق الفجر ولا محالة، فالليل مهما طالت ساعاته ومهما اشتدت ظلمته فإنه يزول وينفلق عن بياض الصبح، فأهل اليقين لا يعرفون اليأس، وبالتالي فمهما وقع على الأمة من مصائب، وبلايا، ومحن ونكبات، وتسلط الأعداء؛ فإن أهل اليقين تختلف مواقفهم عن غيرهم من الناس، فمنَ ضَعُف يقينهم؛ يرضون بالأمر الواقع، ويدعون إلى التسليم، والاعتراف بالأمر الواقع بزعمهم، والانخدال للعدو، والاستسلام له.
وأما أهل اليقين: فيصبرون، ويثبتون، ويفعلون ما في وسعهم، وطاقتهم، والله عز وجلّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ثم بعد ذلك إذ أقدرهم الله عز وجلّ، ومكنهم من رقاب عدوهم؛ استعملوا معه ألوان العزائم التي أمرهم الله عز وجلّ بها، وشرعها لهم، فلسان حال الواحد منهم، وقد أخذ العدو بلده يقول:
يا درُ مجدُك لن يضيع فأّمّا خيرا ولا تَستَرسِلي بُكاء
فالحاقدون سَيُغْلَبُون وإن همُ حشدوا جُيوشَ البغي والإفناء
أم ألَّبوا قوماً على قوم ولم يَدَعُوا سبيل المين والإلهاء
فلتصبري الثبر الجميل فـ إنه تاج اليقين وحلية العظماء
فيصبرون، ويثبتون على مبادئهم، ولا يعرفون شيئاً اسمه الأمر الواقع، أو التسليم بالأمر الواقع، وهؤلاء هم الذين يغير الله على أيديهم وإن طال الزمان.
* الخامس عشر: مما يورثه اليقين: أن أعمال أهله الصالحة تكون راجحة في الموازين عند الله تبارك وتعالى: ولهذا جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال:' ولمثقال ذرة بر من صاحب تقوى، ويقين؛ أفضل، وأرجح، وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين'.
فصاحب اليقين إذا صلى ركعتين لله عز وجلّ؛ فهي تساوى الكثير مما يركعه غيره ممن قّلَّ يقينه، وإذا تصدق صاحب اليقين بريال واحد؛ فإنه يساوي الآلاف، أو يزيد عليها، من التي يتصدق بها ذلك الإنسان المهزوز، الذي قل يقينه واحتسابه.(1/115)
والمقصود: أن اليقين يورث صاحبه أموراً جليلة عظيمة، ويؤثر في سلوكه فوائد جمة: فهو يزيد العبد المسلم قربة من الله عز وجلّ، وحبًّا، ورضاً بما قدره وقضاه، وهو لُبُّ الدين، ومقصده الأعظم، ويزيد صاحبه استكانة وخضوعاً لربه وخالقه جل جلاله، كما أنه يكسبه رفعة، وعزة، ويبعده عن مواطن الذل والضعة، وهو أيضا:ً باليقين يتبع النور، والحق المبين، ويسلك طريق السلامة المحققة، فلا يحيد عنها بضعف يقينه؛ رغبة أو رهبة، كما أنه يحمل صاحبه دائماً على الإخلاص والصدق، وتحري ذلك في كل أعماله، كما أنه أيضاً: يضبط العلاقة بين العبد وبين الرب، ويجعل العبد يلتزم الإخلاص، والصدق، والمراقبة، وفعل ما يليق، وترك ما لا يليق في تعامله مع ربه؛ لأنه يعلم أن ذلك يوصله إلى دار الأمان، ولا سبيل إلى الوصول إلا بسلوك هذه الطريق.. هذا ما يتعلق بالأمور التي يورثها اليقين.
عاشراً: الأمور التي تنافي اليقين: وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه، ولهذا قال بعض السلف:' حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ، وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شئ مما يكرهه الله جل جلاله' [روضة المحبين ص439].
وهكذا الشكوك، والريب، والأمور التي تجلب ذلك: بسماع الشبه، وسماع كلام المخذلين، والمثبطين الذين يثبطون عزائم المؤمنين، ويوهنونهم، ويحثونهم على القعود عن التزام صراط الله عز وجلّ المستقيم، فهؤلاء الذين قَلَّ يقينهم إذا استمع العبد منهم؛ فربما سببوا له شيئاً من ضعف اليقين، حين ذلك يورثه قلقاً، وانزعاجاً، واضطراباً، وهذا يخالف اليقين؛ لأن اليقين طمأنينة، وثبات واستقرار، كما قال ابن القيم رحمه الله:' الشك مبدأ الريب كما أن العلم مبدأ اليقين'[بدائع الفوائد 4/913].(1/116)
الحادي عشر: أخبار السلف رضى الله عنهم في هذا الباب: وهي كثيرة، وقد ذكرت طائفة منها عند الكلام على بعض جزئيات هذا الموضوع، وأذكر شيئاً يسيراً ومن ذلك:
ما قاله عامر بن عبد القيس رحمه الله مبيناً الدرجة التي وصل إليها في هذا الباب يقول:' لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً'. عنى بلغ في اليقين غايته يقول: لو رأيت الجنة والنار ما ازددت يقيناً.
ويقول الآخر:' رأيت الجنة والنار حقيقة'. فقيل له: كيف رأيتها حقيقة؟ قال:' رأيتها بعينى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينه آثر عندي من رؤيتي لها بعيني؛ فإن بصري قد يطغى ويزيع بخلاف بصره صلى الله عليه وسلم' . فهذا يعتبر ما أخبر عنه الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، آكد في نفسه، وأعظم ثقة من الأشياء التي شاهدها بأم عينه.
ومما يذكر في هذا الباب من أخبارهم: أن عالماً من العلماء المتقدمين ألف كتاباً في التفسير، فلم يجد سعة، ومالاً من أجل أن يستنسخ الكتاب، كانت هذه الكتب تستنسخ عند الورّاقين، ولربما كلفهم ذلك مبالغ إذا كان الكتاب كبيراً لا يستطيعون دفعها، فركب هذا العالم سفينة، وسار على النهر ليذهب إلى رجل من أهل الغنى والثراء؛ ليعرض عليه هذا الكتاب من أجل أن يتبرع لنسخه، فبينما هو بالسفينة إذ مرّ برجل يمشى على قدميه يريد الركوب، فطلب من صاحب السفينة أن يحمل هذا الرجل ويحسن إليه، فتوقفت فحملوا بها هذا الرجل فسأل الرجل العالم: من أنت؟ فأخبره باسمه، فقال: أنت العالم المفسر؟ قال: نعم، قال: وأين تريد؟ قال: أريد أن أذهب إلى فلان علّه أن يتبرع بنسخ هذا الكتاب، فقال هذا الرجل للعالم: وكيف فسرت قوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5]( [سورة الفاتحة] ؟ فأخبره عمَّا قال وتفطن لمقصده! ثم قال لصاحب السفينة: ارجع بي إلى حيث حملتني، ورجع إلى بيته، وبقى فيه.(1/117)
فلم يمتد نظره إلى المخلوق، فيتعلق قلبه به، ولو في هذا الأمر الذي يعم نفعه، وهو نسخ هذا الكتاب، وبعد مدة ليست بالبعيدة، وإذا برجل يطرق الباب، ومعه رسول فعرّفه بنفسه، وقال: إنه مرسل من قبل فلان الرجل الذي كان يريد أن يذهب إليه، وقال: إنه قد بلغه أنك قد كتبت كتاباً في التفسير، فهو يريد أن يطلع عليه، فبعث إليه بجزءٍ من أجزاء هذا الكتاب، فلما نظر إليه أمر أن يوزن له بالذهب، فَوُزِن فبعث به إلى هذا العالم. فانظر كيف يؤثر اليقين، وكيف كانت حالهم معه!
وهذا الإمام البخاري لما ابتُلى، وأوذي إيذاءً كثيراً -في القصة المعروفة- ماذا كان يُردد، ويقول؟ كان يردد ليلاً ونهاراً يقول:(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]( [سورة آل عمران].[نزهة الفضلاء 1019]. فلم يذهب إلى أحد المخلوقين، فيشكو له فلاناً، أو فلاناً، ويطلب النصرة منه، وإنما كان يردد هذه الآية، وكان إذا قيل له: يقولون عنك كذا، وكذا؛ لا يزيد أن يقرأ آية من القرآن:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]( [سورة آل عمران]. يقولون: إنهم يكيدون لك كذا وكذا، فيقرأ:(...وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ...[43]( [سورة فاطر]. في جميع جواباته على ما ينقل إليه من أقوال، وأفعال خصومه.(1/118)
* اجتمع حذيفة المرعشي، وسليمان الخوّاص، ويوسف بن أسباط، وهم من الزهاد، فتذاكروا الفقر والغنى، وسليمان الخواص ساكت، فقال بعضهم: الغني من كان له بين يكنه . ما هو معنى الغني؟ ما ميزان الغني عندهم؟ الغني من كان له بين يكنه، وثوب يستره، وسداد عيش يكّفه عن فضول الدنيا، وقال الآخر: الغني من لم يحتج إلى الناس وسليمان ساكت، فقيل له: ما تقول أنت أبا أيوب؟ فبكى ثم قال: رأيت جوامع الغنى في التوكل، ورأيت جوامع الشر من القنوط، والغنيّ حق الغنى من أسكن الله قلبه من غناه يقيناً، ومن معرفته توكلاً، ومن عطاياه وقسمه رضاً، فذاك الغني حق الغنى، وإن أمسى طاوياً، وأصبح معوزاً، فبكى القوم جميعاً من كلامه.
* وهذه المرأة الصحابية من بنى عبد الدار من الأنصار رضى الله عنهم لما أُخبرت باستشهاد زوجها، وأخيها، وأبيها، ولم يبق لديها أحد، قالت: ماذا صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هو بخير، فقالت: كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل . يعني: أنها سهلة يسيرة، فقدت زوجها، وأباها، وأخاها، وتقول ذلك في حرارة المصيبة.
* وأيضاً: من عجائب أخبارهم ما جاء عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله عز وجلّ من الجزاء والعوض.(1/119)
* وهذه الخنساء، ومعروف خبرها: لما مات أخوها صخر، فكانت تبكى وترثيه، وتقول: ومن بكى حولاً كاملاً فقد اعتذر. وكانت تقول:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وقالت فيه شعرها المشهور المعروف، فلما دخلت في الإسلام، وقُتل أبناؤها الأربعة في وقعة واحدة، ماذا قالت؟ قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. فانظر كيف قلب اليقين حالها، فغيرها هذا التغيير!!
* وكذلك أم حارثة التي قُتل ابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: [ وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ] رواه البخاري . فسكتت، وما بكت، وما جزعت، وما تحرك لها ساكن. فما الذي يجعل الإنسان يفعل هذه الأمور، ويصبر هذا الصبر الذي كان عليه السلف الصالح رضى الله عنهم؟ هو قوة اليقين بالله .
ونحن حينما نطرح هذه الأشياء لا نطرح الأشياء الغريبة جدًّا التي تنبو عن السمع، فلا يصدقها أحد ممن قلَّ يقينه، فهذه أمور لا أُحدثكم بها، وكما قيل: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلى كان لبعضهم فتنة، وإنما أُحدث بأمور معقولة عند أهل اليقين، ونحن نشاهد في عصرنا هذا من أخبار أقوام قد كمل يقينهم، نشاهد عندهم أشياء عجيبة، وبعضهم يكون من العوام، ونشاهد أشياء عند بعض أهل العلم تدل على قلة اليقين، وقلة التوكل على الله عز وجلّ، والخوف على الأجل والرزق، وما أشبه ذلك، فإن لم نستطع أن نصل إلى المراتب العليا في هذا الباب؛ فلا أقل من أن هذه الموضوعات تحرك لنا شيئاً في النفوس.(1/120)
موضوع الإخلاص، واليقين، والتوكل- وما سيأتي من الكلام عن الرضا، والصبر، وأشباه ذلك- أن نحرك القلوب وأن نعمل على رفعها. في كثير من الأحيان يتوهم الإنسان أنه قد بلغ الغاية والكمال، والناس لربما توهموا فيه خيراً كثيراً، وظنوا أنه من عباد الله المتقين الصالحين، ولربما كان لديه ضعف في الأعمال القلبية، فيحتاج الإنسان إلى أن يعرف حقيقة حاله قبل أن يُقبل على الله عز وجلّ، ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم، هذا ما يتعلق بموضوع اليقين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
الخشوع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،
فالكلام في هذا الموضوع ينتظم إحدى عشرة نقطة، وهي:
الأولى: في بيان معناه وحقيقته .
الثانية: الفرق بينه وبين الإخبات، وبينه وبين الخضوع، وبينه وبين الضراعة .
الثالثة: أهميته .
الرابعة: الخشوع في الكتاب والسنة .
الخامسة: درجاته .
السادسة: تفاوت الناس فيه .
السابعة: أنواعه .
الثامنة: الطريق إليه .
التاسعة: ثمراته السلوكية .
العاشرة: ما ينافيه و يضاده .
الحادية عشر: أحوال السلف رضي الله عنهم في هذا الباب .
أما الأولى: وهي معنى الخشوع:
فهو يدور في كلام العرب على معنى واحد تدور عليه جميع استعلامات هذه الكلمة، وهو التطامن [انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الخاء، باب الخاء والشين وما يثلثهما] . ولذلك نجد أن بعضهم يعبرون عنه بقولهم: ' الخاشع المستكين والراكع '. وبعضهم يقول: ' المتضرع'[ انظر: المفردات للراغب، 'مادة: خشع '] وبعضهم يقول: ' المختشع: هو الذي طأطأ رأسه وتواضع '، وبعضهم يقول كلاماً يقارب هذا، وهو يدور في لغة العرب على ما ذكرت .
فالتخشع لله عز وجل هو: الإخبات والتذلل له جل جلاله .
وأما معنى الخشوع في الاصطلاح: فعبارات العلماء فيه متقاربة[انظر: المدارج 1/ 521 - 524]:
فمن قائل هو: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل.(1/121)
ومن قائل هو: الانقياد للحق- والواقع أن الانقياد للحق هو من موجبات الخشوع-.
ومن قائل هو: تذلل القلوب لعلام الغيوب .
وابن القيم رحمه الله يقول: إن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار.
والحافظ بن حجر رحمه الله ينقل عن بعضهم تعريف الخشوع بأنه: تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون - سكون الأعضاء والجوارح - وقد قيل: لابد من اعتبار الأمرين حتى يكون ذلك من قبيل الخشوع المعتبر.
وبعضهم يقول: هو معنى يقوم في النفس، ويظهر عنه سكون الأطراف يلائم مقصود العبادة .
وابن رجب له كلام جيد في بيان معناه يقول[الخشوع في الصلاة]:' أصله لين القلب ورقته، وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له' كما قال صلى الله عليه وسلم: [... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ... ] رواه البخاري ومسلم. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: [...خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي...] رواه مسلم أ.هـ . فهو يرى: أن خضوع الجوارح هو ثمرة لخضوع القلب ولينه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى أن الخشوع يتضمن معنيين: أولهما: التواضع والتذلل .
والثاني: السكون والطمأنينة، يقول:'وذلك مستلزم للين القلب ومنافي للقسوة، فخشوع القلب يتضمن عبوديته لله وطمأنينته أيضًا, ولهذا كان الخشوع في الصلاة يتضمن هذا وهذا: التواضع والسكون'[ مجموع الفتاوى 7/ 28 -30].(1/122)
فشيخ الإسلام يرى أن لين القلب هو نتيجة وأثر ولازم من لوازم الخشوع، وأن الخشوع هو التواضع والتذلل والسكون والطمأنينة، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه:'الخشوع في القلب: أن تلين كنفك للرجل المسلم وألا تلتفت في الصلاة' وجاء عنه أن:' الخشوع في القلب' . وهكذا جاء عن إبراهيم النخعي أيضاً وطائفة من السلف، وكان ابن سيرين يقول:' كانوا يقولون في معنى الخشوع:'لا يجاوز بصره مصلاه' . وسئل الأوزاعي عن الخشوع، فقال:'غض البصر، وخفض الجناح، ولين القلب وهو الحزن والخوف' . وكان الأوزاعي رحمه الله- كما وُصف-: كأنه أعمى من الخشوع -يعني أن ذلك أثر أيضاً على بصره ونظره .
والخلاصة: أن الخشوع معنى ينتظم خضوع القلب وذله وانكساره وعبوديته، وسكونه وتواضعه، وطمأنينته مع التعظيم والمحبة والخشية لله تعالى، ويظهر أثره على الجوارح بسكونها والتواضع للخلق، فيكون القلب عامرًا بالسكون والطمأنينة، والتذلل والمحبة والتعظيم، مع خضوع الجوارح، وتواضع العبد، وسكون الجسم، وسكون الطرف والنظر .
ثانياً: الفرو قات:
الفرق بين الخشوع والإخبات: الله عز وجل يقول:} ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ[34]{ [سورة الحج] وقال: }الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[35]{ [سورة الحج] . وقال أيضاً: }إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [23]{ [سورة هود] .(1/123)
والخَبتُ أصلة في كلام العرب: هو المكان المنخفض من الأرض، وابن عباس رضي الله عنه يفسر:}وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ{ بالمتواضعين، ومجاهد رحمه الله -من التابعين- يقول: المخبت:' المطمئن إلى الله جل جلاله'. ويقول الأخفش: المخبتون:' الخاشعون' ويفسره إبراهيم النخعي رحمه الله:' بالمصلين المخلصين' وفسره الكلبي:' بالرقيقة قلوبهم' وفسره عمر بن أوس:' بالذين لا يظلمون وإذا ظُلموا لم ينتصروا ' . وهذه الأقوال جميعًا- كما يقول الحافظ بن ابن القيم رحمه الله- تدور على معنيين: التواضع والسكون لله عز وجل... وبهذا نعرف أن الإخبات مقارب للخشوع، لكن الخشوع يصحبه ذل القلب وانكساره، ويؤثر لين القلب مع المحبة والتعظيم .
أما:الفرق بين الخشوع وبين الخضوع: فبينهما تقارب أيضاًَ، وقد قيل:
أن الخضوع: بالبدن، يقال:فلان خضع لفلان، وإن كان قلبه لم يخضع له، فالخضوع في البدن وهو الإقرار بالاستخذاء، فيستسلم لمن خضع له.
وأما الخشوع: فيكون في القلب، والبدن، والصوت، والبصر، فيظهر هذا على بصره وجوارحه، فأصل الخضوع: هو الذل والانقياد، فإذا قيل خضوع القلب فهو:ذل القلب، وإذا قيل 'خضوع البدن ' فهو انقياده واستسلامه .
وأما: الفرق بين الخشوع وبين الضراعة: فكذلك بينهما تقارب،وقد قيل: أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح في الظاهر، وإن كان أيضاً يرتبط بالقلب بلا شك، وأما الضراعة: فأكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب،
وأصل الضراعة في كلام العرب: الذل والخضوع . وبهذا نعرف أنها معان متقاربة .
ثالثًا: فيما يتعلق بأهمية الخشوع ومنزلته: فهو بلا شك في غاية الأهمية، ومن فقده؛ فقد واجباً من واجبات الإيمان، ومما يدل على أهميته:(1/124)
1- أنه واجب من واجبات الصلاة: على قول طائفة من أهل العلم، وممن اختار هذا القول: القرطبي صاحب التفسير، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله [انظر: مجموع القتاوى 22/553-557]. والحافظ ابن القيم [انظر الوابل الصيب ص24]. وطائفة من السلف والخلف . وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيميه على أن الخشوع واجب من واجبات الصلاة بأدلة متعددة منها:
الدليل الأول: أن الله عز وجل قال:} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . يقول مبيناً وجه هذا الاستدلال:'وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . فغير الخاشع تكون كبيرة عليه، فمعنى ذلك أنه مذموم، لأن الله قال:} وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...[143]{ [سورة البقرة] . فهؤلاء الذين يكبر عليهم التحول من بيت المقدس إلى الكعبة، فهؤلاء فقدوا أساسًا وأمراً عظيماً، حيث إنهم خرجوا عن هذا الوصف: } وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ...[143]{ [سورة البقرة] . والله عز وجل يقول:} ...كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ...[13]{ [سورة الشورى] . يقول شيخ الإسلام:' من مجموع هذه الآيات، دل كتاب الله عز وجل على أن من كبر عليه ما يحبه الله أنه مذموم بذلك، وأن ذلك مسخوط منه، والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب، أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع، فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قولة تعالى:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] لا بد أن يتضمن ذلك الخشوع في الصلاة، فإنه لو كان(1/125)
المراد الخشوع خارج الصلاة؛ لفسد المعنى، إذ لو قيل: إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها، كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها، وقد انتفى مدلول الآية، فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة '.
الدليل الثاني- الذي استدل به رحمه الله-: قوله تعالى:} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ[3]وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ[4]{ [سورة المؤمنون] - إلى أن قال بعد أن سرد جملة من الأمور الواجبة- :} أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ[10]الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[11]{ [سورة المؤمنون] . يقول شيخ الإسلام بن تيمية:' فأخبر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم، وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات، ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب ' أ. هـ(1/126)
الدليل الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد تاركيه، كالذي يرفع بصره في السماء، فإن حركته ورفعه ضد حال الخاشع، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ] فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: [ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ] رواه البخاري . وكذلك حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ]رواه مسلم . فاستدل به على أن الخشوع واجب، وبهذا استدل أيضاً الحافظ العراقي [انظر طرح التثريب 2/372].
كما أن الله عز وجل ذم قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضع من كتابه كما قال:}...ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً...[74]{ [سورة البقرة] . قال الزجاج:'قست: بمعنى غلظت ويبست، وعسيت، فقسوة القلب: هي ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه، والقلب القاسي و العاسي: هو الشديد الصلابة '.
ويقول ابن قتيبة رحمه الله:'وقوة القلب المحمودة غير قسوته المذمومة، فإنه ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف، وهذا كاليد فإنها قوية لينه، بخلاف مايقسو من العقب فإنه يابس لا لين فيه وإن كان فيه قوة'[انظر:مجموع الفتاوى 7/ 28 -30].(1/127)
الدليل الرابع: أن الصلاة _ يعني: صلاة الظهر - يشرع تأخيرها عن أول الوقت إلى حد الإبراد, مع أن الصلاة في أول الوقت محبوبة إلى الله عز وجل وهي أفضل العمل: [ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]رواه البخاري ومسلم . ومع ذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم الإبراد بالصلاة، وحكمة هذا التأخير كما ذكره الحافظ ابن القيم:' أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع وحضور القلب والتأثر بها'[الوابل الصيب ص24] .
2- أن العبادة التي يصاحبها الخشوع تفضل العبادة التي لا خشوع فيها: وشتان بين اثنين أحدهما يصلي وهو خاشع، والآخر يصلي وهو أبعد ما يكون من الخشوع . يقول حسان بن عطية رحمه الله:'إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وإن بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض'.
3- هو أول ما يفقد من هذه الأمة: كما قال حذيفة رضي الله عنه:' أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه خاشعاً'. وقد قال نحوه أبو يزيد المدني.(1/128)
4- أن الله أستبطأ المؤمنين في تحقيق هذا الوصف: فقال:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ[16]{ [سورة الحديد]. يقول شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله:' فدعاهم إلى خشوع القلب في ذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وهؤلاء هم الذين } إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [2]{ [سورة الأنفال]. وكذلك قال في الآية الأخرى:} اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[23]{ [سورة الزمر] يقول: [ والذين يخشون ربهم هم الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم، فإن قيل: فخشوع القلب لذكر الله وما نزل من الحق واجب؟ قيل: نعم ' [مجموع الفتاوى 7/28-30]. هذا ما يتعلق بأهمية الخشوع .
رابعاً: الخشوع في الكتاب والسنة:
تكرر الخشوع في كتاب الله عز وجل، وجاء في معان متعددة: منها الذل، وسكون الجوارح، والخوف، والتواضع، وهذه أربعة معان، ويمكن أن يضاف إليها معنى خامس: وهو الجمود واليبس:
فأما المعنى الأول: وهو مجيء الخشوع بمعنى الذل: فكما قال الله عز وجل:} وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا[108]{ [سورة طه] أي: ذلت، ويقول الله تعالى:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا[21]{ [سورة الحشر] أي: ذليل، وقال:} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ[2]{ [سورة الغاشية] .
وأما الخشوع بمعنى سكون الجوارح: فكما قال الله عز وجل:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] .(1/129)
قال الحسن:' كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا لذلك الجناح' .
وقال مجاهد رضي الله عنه:' هو السكون' .
وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه:' إذا قاموا في الصلاة أقبلوا على صلاتهم، وخفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، وعلموا أن الله يقبل عليهم فلا يلتفتون يمينًا وشمالًا' .
وقال ابن عباس في تفسيرها: ' أي خائفون ساكنون ' وبه قال طائفة من السلف كمجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري، وإبراهيم النخعي .
وجاء عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: ' يعني متواضعين، لا يعرف من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل '. هذا معنى من قام لله خاشعًا: }الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] فهو ساكن الجوارح، منكسر القلب لا يرفع بصره، ولا ينظر عن يمينه ولاعن شماله . وقد ذكر شيخ الإسلام في عدد من كتبه هذه المعاني [السابق 7/28-30، 22/ 553-557] وذكر غيرها…
كقول الضحاك:'الخشوع هو الرهبة لله عز وجل' أي: هذا الخشوع الذي ذكره الله جل جلاله.(1/130)
ونقل عن أبي سنان أنه قال في هذه الآية:' الخشوع في القلب، وأن يلين كنفه للمرء المسلم، وألا تلتفت في صلاتك'. ونقل عن قتادة قال:'الخشوع في القلب، والخوف، وغض البصر في الصلاة ] وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى :}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون]. يقول:' ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه، يعني أنه مضاد لتقليبه في الجهات، كقوله تعالى:} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ[6]خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ[7]مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ[8]{ [سورة القمر] .} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ{ أي: أنها ساكنة ذليلة، ثم ذكر الآية الأخرى وهي قوله تعالى:} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[43]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ[44]{ [سورة المعارج] وفي القراءة الأخرى:}خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ { يقول:'وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة، حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصارهم، بخلاف آية الصلاة وهي:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون]. فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين -يعنى البصر والبدن - وصفهم بكليتهم أنهم حققوا الخشوع فقال:}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ وقال:}وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . لم يقل إلا على الخاشعين في أبصارهم بينما في المحشر قال:} خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ...[7]{ [سورة القمر] .مع أنهم يسرعون في مشيتهم، ويقول شيخ الإسلام:'ومن ذلك خشوع الأصوات كقولة:} وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ...[108]{ [سورة طه] وهو انخفاضها وسكونها' أ. هـ بتصرف .(1/131)
ومما يدخل في هذا المعنى- وهو الثاني: السكون- قوله تعالى: }وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]{ [سورة البقرة] حيث قال مجاهد:'من القنوت: الركون والخشوع وغض البصر، وخفض الصوت، والرهبة لله ' .
والمعنى الثالث من معاني الخشوع في القرآن: الخوف: كما قال قتادة:'الخشوع في القلب: هو الخوف، وغض البصر في الصلاة' كما قال الله عز وجل:} وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[90]{ [سورة الأنبياء] قال الحسن:'هو الخوف الدائم في القلب' . وقال تعالى:} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ...[45]{ [سورة الشورى] . وقال الله تعالى:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ[16]{ [سورة الحديد].
والمعنى الرابع في القرآن: هو التواضع: ومن ذلك قولة تعالى:} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{ [سورة البقرة] . وقال:} وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ...[199]{ [سورة آل عمران] . وقال:} وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا[109]{ [سورة الإسراء] . وقال:} إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ...[35]{ [سورة الأحزاب] . وكذا قوله:} سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...[92]{ [سورة الفتح] . قال مجاهد:'هو الخشوع والتواضع'.(1/132)
والمعنى الخامس: هو اليبس والجمود: كما في قوله تبارك وتعالى: } وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً...[39]{ [سورة فصلت] يعني: هامدة يابسة لا نبات فيها .
وأما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد جاء في عدد من الأحاديث:
منها: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].
ومن ذلك: حديث أبي هريرة عند النسائي بإسناد صحيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْخَاشِعِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ] رواه النسائي . هذا يدل على منزلة من حقق الخشوع .
ومن ذلك أيضًا: حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَعَصَبِي...].
والخامس منها وهو درجات الخشوع : لا شك أن هذا المعنى يتفاوت ولا يكون الناس فيه أيضاً على وتيرة واحدة . وابن القيم رحمه الله يجعل الخشوع من هذه الحيثية -أي من جهة مراقيه- يجعله ثلاث مراتب:
الأولى: وهي التذلل لأمر الله عز وجل مع الاستسلام لحكمه، مع التواضع لنظر الله عز وجل له، هذه هي المرتبة الأولى .(1/133)
فالتذلل لأمر الله تبارك وتعالى: أن نتلقاه بذلة من غير استنكاف، ومن غير نفرة، ومن غير تعال عليه, و إنما يخضع العبد لأمر ربه ومولاه جل جلاله، فيتقبل هذا الأمر وينقاد إليه، ويتمثل هذا التوجيه الرباني مع موافقته الباطن لظاهره، مع إظهار الضعف والافتقار لهداية الله عز وجل . فهو منقاد لأمر ربه بقلبه وجوارحه متواضع لله جل جلاله .
وأما الاستسلام لحكم الله عز وجل: فهذا يشمل الحكم بنوعيه: الحكم الشرعي، فلا يعترض على شرائع الدين، وأحكام الله عز وجل الدينية فيقول: يا رب لماذا تشرع هذا. ولا يعترض على أحكام الله القدرية الكونية، فإذا نزل به مصيبة أو بمن يحب، فإنه يتلقى ذلك بالصبر والرضى دون أن يتسخط، ودون أن يعترض على الأقدار، فهو لا يعارض أمر الله الشرعي بشهوة ولا برأي ولا يعارض قدر الله بتسخط، أو تذمر، وامتعاض.
وأما ما يتعلق بالتواضع لنظر الله عز وجل: فهو أن يتواضع القلب والجوارح لله عز وجل، فينكسر قلبه، وينكسر العبد أيضاً لاستشعاره أن الله ينظر إليه ويراه، وأن الله مطلع عليه، يعلم تفاصيل أحواله، هذه هي المرتبة الأولى .
أن تستسلم لربك ومولاك ظاهراً وباطناً وأن تخضع لأحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأن تتطامن وتتواضع لربك ومليكك جل جلاله.(1/134)
وأما المرتبة الثانية: هي الرجوع إلى النفس باستشعار نقصها وضعفها وعجزها، أن يستشعر العبد أنه مقصر ومذنب، فيورثه ذلك أيضاً تواضعاً . وأما في نظره إلى الخلق فإنه يرى فضائلهم ومحاسنهم، فنظره إلى النفس بأن لا يلتفت إلى محاسنها، ومن ثم فلا يطالب الناس بحقوقه عليهم، ولا يطلب الناس أن يقدموا له شيئا من الإكرام والإجلال، أو يتشوق إلى رد المعروف الذي استشعره عليهم لكنه في المقابل إذا نظر إلى الناس فإنه ينظر إلى أفضالهم و إحسانهم، وينظر إلى مناقبهم ومحاسنهم، فيثني عليهم ويشكر معروفهم، ويحفظ صنائعهم، فلا تضيع ولا تنسى، وهذا لا شك أنه من أكمل الكمالات، وأن العبد ينظر إلى نفسه بعين النقص، وينظر إلى غيرة بالنظر إلى فضائلهم ومحاسنهم، ومن ثم فإنه لا يتعالى على الخلق، ولا يجد له عليهم معروفاً وصنيعاً.
أما المرتبة الثالثة: فهي أن يصفي قلبه من النظر إلى المخلوقين، فلا يلتفت إليهم بعمله الصالح، فلا يعمل أعمال صالحة، وقلبه يتشبث بهم ويتطلع إليهم، هذا مع إخفاء أحواله عن المخلوقين، فلا يعرفون أحواله مع الله عز وجل من عبادة وخشوع و إخلاص وغير ذلك مما قد يظهره العبد للناس، فهذا شي بينه وبين الله تعالى، فصارت مراتبه ثلاثاً.
سادساً:و أما مراتب الناس في الخشوع:
فأقول: كما أن الخشوع يتفاوت في نفسه وليس على مرتبه واحدة؛ فكذلك الناس يتفاوتون فيه بحسب ما يقع في قلوبهم من معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفات عظمته وجلاله، واستشعار مراقبته، وكذلك ما يكون في قلوبهم من معرفة النفس ونقائصها وعيوبها، وكذلك بحسب فهمهم وتدبرهم لمعان القرآن، فيتفاوت الناس في ذلك تفاوتًا كبيرًا، ويكون بين الواحد ومن بجانبه في الصلاة مثلاً كما بين المشرق والمغرب، مع صرف النظر عن مادة هذا الخشوع والسبب الموصل إليه بالنسبة لهذا أو ذاك .(1/135)
فمن الناس من يتحقق له هذا الخشوع لقوة مطالعته بقرب الله عز وجل من عبده وإطلاعه على سره وضميره و مكنوناته، فيستحي من الله ويراقب ربه في حركاته و سكناته، ومنهم من يجعل له الخشوع لمطالعته لكمال الله وجماله المقتضي الاستغراق في محبته والشوق إلى لقائه، وبعضهم يخشع حين يستشعر قوة الله عز وجل وجبروته وبطشه، وشدة أخذه، و نكاله للظالمين المجرمين الخارجين عن حدوده وطاعته. فهؤلاء يحصل لهم الخشوع مع صرف النظر عن الأمر الذي أوجب لهم هذا الخشوع . وهم كذلك أيضاً في هذا الباب بين ظالم لنفسه، وبين مقتصد، وبين سابق بالخيرات بإذن الله [انظر مجموع الفتاوى 7/28-30] ؛ لأن مراتب السالكين إلى الله جل جلاله في العبودية لا تخرج عن هذه المراتب الثلاث كما قال الله عز وجل:} ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ[32]{ [سورة فاطر] . فالظالم لنفسه هو المقصر في الواجبات، المرتكب للمحظورات، والمقتصد: هو من اقتصر على الأمر الواجب دون زيادة أو نقص، وترك المحرم. والسابق بالخيرات:هو من جاء بالواجب ، وفارق المحرم، مع مجانبته للمكروه، وفعله المستحبات، فالخشوع عمل من أعمال القلب التي تظهر على الوجه والجوارح . فالناس يتفاوتون فيه وهم فيه على هذه المراتب ... فالسابقون في هذا الباب هم أعلى المراتب، ثم يلي ذلك من هو مقتصد، ثم يلي ذلك الظالم لنفسه، والظالم لنفسه متوعد بالعقوبة... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بربه [مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا]رواه مسلم. والشاهد فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بربه من القلوب التي لا محل للخشوع فيها فدل على أن تحقيق الخشوع و تحصيله من الواجبات في الحد(1/136)
الذي لا يرخص للمكلف في تركه والتقصير فيه .
وهكذا أحوال العباد في صلاتهم من جهة الخشوع فهم على مراتب، وقد جعلهم ابن القيم -رحمة الله- في بعض كتبه على خمس مراتب:
الأول: الظالم لنفسه الذي تنقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها، ولا شك أن هذه الأمور تؤثر في خشوع العبد، بل إن الإمام يتأثر في خشوعه و إدراكه في صلاته بسبب إخلال بعض المأمومين في طهارتهم، أو في إقامة صلاتهم .
والثاني: رجل يحافظ على المواقيت والأركان الظاهرة والوضوء، ولكنه يضيع مجاهدة النفس في الوسوسة، فهذا مؤاخذ يأتي بالصلاة مستوفية للأركان والشروط، ولكنه في صلاته مستغرق في وساوسه، وأفكاره وخواطره، فهذا ليس له من صلاته إلا ماعقل، وغاية ما في الأمر أن تكون هذه الصلاة مجزئة، أي مسقطة للمطالبة، ولكنه قد لا يثاب عليها، أو أنه لا يثاب إلا على القدر الذي عقله فحسب .
وأما الثالث: وهو من حافظ على حدودها و أركانها، وجاهد نفسه بدفع الوساوس، فهذا مشغول بين صلاة وجهاد، يحاول أن يستحضر ويجاهد الخواطر، فهذا مأجور على مجاهدته، مأجور على صلاته، ولكنه ليس في المرتبة العالية . وأما الرابع: وهو فوقه، وهو من قام إليها، فأكمل حقوقها، و أركانها، واستغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه، فهذا لا تشغله الوساوس، ولا ينشغل بمجاهدة النفس، و إنما شغله في التكميل.
وأما الخامس: وهو أعلى هذه المراتب، وأرفع درجات الخاشعين في الصلاة، وهو إضافة إلى ما سبق من تحقيق الشروط والواجبات والأركان، وحضور القلب، إضافة إلى ذلك فإنه قد امتلأ قلبه محبة لله وعظمة، وإجلالاً له تعالى، يصلي كأن الله يراه، وكأنه يرى ربه جل جلاله؛ فتندفع عنه تلك الوساوس التي عند الآخرين والخطرات، ولا تأتي إليه أصلاً، ولا تجد طريقاً إلى قلبه .
فالأول معاقب، والثاني محاسب، والثالث مكفر عنه لمجاهدته،والرابع مثاب، والخامس قريب إلى ربه في أعلى المنازل والدرجات .
سابعاً: أنواع الخشوع:(1/137)
الخشوع ليس له نوع واحد، وإن كان في صورته الظاهرة يخرج المرء، أو العبد مع غيره فيه بهيئة متحدة، إلا أن ذلك يفترق في حقيقة الأمر بسبب ما يقوم في القلب من الحقائق والدواعي، فهناك خشوع حقيقي، وهذا هو القسم الأول، وخشوع مزيف وهو خشوع النفاق، وهو خشوع الظاهر دون مواطئة الباطن، فالباطن الذي هو محل للخشوع أصلاً قد صار فارغاً من هذا الخشوع، فظهر ذلك مرتسماً على وجه صاحبه، وظاهراً على جوارحه، ولكن قلبه قد فرغ منه، وهذا لا فائدة فيه، وهو خشوع النفاق .
ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه و أطرافه مع فراغ قلبه منه فإن ذلك يكون من قبيل خشوع النفاق [انظر الخشوع في الصلاة لابن رجب] إلا في حالة واحدة: وهي أن يكون العبد يفعل ذلك من أجل الوصول إلى الخشوع، كصاحب المجاهدة الذي حدثتكم عنه، بشرط أن لا يظهر ذلك أمام الناس بحيث يكون الإنسان بعيداً عن نظر الناس لا يلتفت إليهم بقلبه، ولا يحضر مجامعهم بهذا الفعل الذي يتصنع فيه الخشوع، فهو يتظاهر، أو يتصنع، أو يحاول أن يبكي، وأن يخشع، وإن لم يكن قلبه خاشعاً من أجل أن يحصل الخشوع، فهذا لا يكون مذموماً . وأما المذموم أن يكون ذلك على سبيل النظر إلى الخلق، وتصنع الخشوع من أجل تحصيل محمدتهم . وقد كان جماعة من السلف يستعيذون من هذا النوع وهو خشوع النفاق ... وكان بعضهم يقول:' استعيذوا بالله من خشوع النفاق' فقيل له: وما خشوع النفاق ..؟ فقال:' أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع' وكان الفضيل بن عياض رحمه الله وهو من كبار الخاشعين يقول:' كان يكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه'. يعني أن يظهر في ظاهره أعظم مما قام في باطنه ..وقد ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً طأطأ رقبته في الصلاة، فقال:' يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ' إنما الخشوع في القلوب .(1/138)
ولما ذكر شمس الدين ابن القيم رحمه الله أنواع البكاء في كتابه:'زاد المعاد' قال:' والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس، فيظهر صاحبه الخشوع، وهو من أقسى الناس قلباً ، وقد رأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن فقال: يا فلان الخشوع هاهنا !! وأشار إلى قلبه، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه'[انظر المدارج 1/521-524] . وذكر أن عائشة رضي الله عنها رأت أناساً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فسألت عن هؤلاء، فقيل لها: نُسَّاك أي:أن هؤلاء عباد. فقالت:' كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا مشى أسرع، و إذا قال أسمع، و إذا ضرب أوجع، و إذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقاً'[السابق] . وقد فرق ابن القيم رحمه الله بين خشوع النفاق، وخشوع الإيمان في كتابه:[الروح ص232] فقال عن خشوع الإيمان بأنه: خشوع القلوب لله بالتعظيم والإجلال، والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل، والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح، و أما خشوع النفاق: فيبدو على الجوارح تصنعاً وتكلفاً، والقلب غير خاشع إلى أن قال: فالخاشع لله عبد قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره؛ فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة؛ فماتت شهوات النفس للخوف و الوقار الذي خُشي به، وخمدت الجوارح، وتوقر القلب واطمأن إلى الله وذِكْرِه بالسكينة التي نزلت عليه من ربه، فصار مخبتاً له، والمخبت: المطمئن، فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء ... فكذلك القلب المخبت قد خشع و اطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستشعر فيها، وعلامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالاً وذلاً وانكسارًا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه.(1/139)
وأما القلب المتكبر فإنه قد أهتز بتكبره وربى، فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليها الماء... فهذا خشوع الإيمان، و أما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعاً ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات و إيرادات, فهو يخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة ' أ. هـ أي أن جوارحه لم تواطيء قلبه في هذا الخشوع ' هذا الفرق بين الخشوعين وشتان ما بينهما '
وأما ثامناً:الطريق إلى الخشوع: كيف نحصل الخشوع في قلوبنا؟! كيف نكون من الخاشعين؟! نقول:
أول ذلك: أن تستحضر نظر الله تعالى إليك في حركاتك، و سكناتك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي قيامك وقعودك، فالخشوع لا يختص بالصلاة، و إنما هو عبادة قلبية يظهر أثرها على الجوارح في كل أحوال العبد، فهذا سبب أساسي في تحصيل الخشوع، استحضار نظر الرب جل جلاله إليك، وكلما كان العبد أكثر استحضاراً لهذا المعنى؛ كلما زاد الخشوع في قلبه، و إنما يفارق الخشوع قلبك إذا حصلت الغفلة عن استشعار نظر الله عز وجل ومراقبته، قال ابن القيم رحمه الله:'الخشوع هو الاستسلام للحُكْمين الديني والشرعي، بعدم معارضته برأي أو شهوة . والقدري بعدم تلقيه بالتسخط والكراهية والاعتراض، والاتضاع لنظر الحق، وهو اتٌضَاعُ القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها، واطلاعه على تفاصيل ما في القلب والجوارح، وخوف العبد الحاصل من هذا يوجب له خشوع القلب لا محالة . وكلما كان أشد استحضاراً له؛ كان أشد خشوعاً، وإنما يفارق الخشوع القلب إذا غفل عن اطلاع الله عليه ونظره إليه ' أ. هـ(1/140)
هذا على بن حسين زين العابدين كان إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه ولا يخطر بها . يعني ما يقول بيده إذا مشى هكذا يُحركها، ولا يقول بها هكذا وهو يمشي كأنه قد زهى بنفسه، فهو يمشي بشيء من الإعجاب والغرور والتعاظم. و إنما صفة مشية المتواضع أن يجعل يديه إلى فخذيه دون أن يخطر بها هكذا، فإن هذا يذهب الوقار والخشوع: الحركة الكثيرة . وكذلك لا يجافي بين يديه وبين منكبيه وفخذيه، فيظهر بصورة المتعاظم المتكبر المتغطرس وهو يمشي هكذا وإنما يلصق يده بجنبيه وفخذيه... هذا على بن حسين زين العابدين .
وكان إذا قام إلى الصلاة اضطرب وارتعد، فقيل له - سُئل عن هذا- فقال:' تدرون بين يدي من أقوم و أناجي؟' وكان إذا توضأ للصلاة؛ اصفر لونه من شدة الوجل والحياء، والخوف واستشعار عظمة الله، والنظر إليه، فيقدم على صلاةٍ يناجي فيها ربه، فيظهر ذلك صفرة في وجهه كمن أراد أن يلاقي عظيما من العظماء، فقد يظهر ذلك الوجل على قسمات وجهه، وعلى حركاته و سكناته، حتى أن بعضهم كان إذا قام إلى الصلاة ووقع ذباب على وجهه لا يقول بيده هكذا، ولا يحرك رأسه لطرد الذباب لغلبه الخشوع عليه، فهذا خلف بن أيوب كان لا يطرد الذباب عن وجهه في الصلاة، فقيل له: كيف تصبر؟! قال:' بلغني أن الفساق يتصبرون تحت السياط ليقال: فلان صبور!!' يعني الفساق إذا جلدوا وضربوا الحدود، أو إذا جلدوا تعزيراً، فإن الواحد منهم يتجلد لا يتحرك وهو يجلد ليظهر للآخرين أنه لا يبالي، ولربما فعل ذلك بعض الطلاب في المدارس إذا أراد المعلم أن يعاقب بعض الطلبة فلربما أظهر تجلداً فقال بيده هكذا ولم يحركها فربما ضُرب ضرباً يكسر العظم وهو لا يتحرك ليظهر التجلد . فهذا كان يستشعر هذا المعنى - وهو خلف أبن أيوب - فيقول: إذا كان هؤلاء يتجلدون للسياط، فكيف لا نتجلد أمام رب الأرباب، نتجلد عن دفع هذا الذباب يقول: أنا بين يدي ربي أفلا أصبر على ذباب يقع عليٌ؟!(1/141)
أما الأمر الثاني مما يكسب الخشوع، و يؤثر الخشوع: فهو ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل: -وقد تحدثت عن هذا القضية قبل قليل ونقلت فيها كلام ابن القيم رحمه الله -ارجع إلى نفسك وانظر إلى عيوبها، فإن ذلك يورثك انكساراً، وأما إلى الخلق فلا تنظر إلى عيوبهم، بل انظر إلى محاسنهم، فيورثك ذلك شعورا بأنك أقل من هؤلاء جميعاً، وأنك المقصر المذنب، تحتاج إلى عفو ربك و مسامحته، وإلى التشمير بالتقرب منه وطاعته.
وأما الأمر الثالث: فهو معرفته الرب جل جلالة معرفة صحيحة تورث التعظيم: وقد أشرت إلى هذا قبل قليل وذكرت فيه كلاماً لبعض أهل العلم - وهو الحافظ ابن رجب رحمه الله - فالمقصود أيها الإخوان أن العبد كلما كان بالله أعرف كلما كان له أخوف، وكلما كان أكثر تعظيماً لله جل جلاله ..ولهذا قال الله تعالى:} إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ...[28]{ [سورة فاطر] فإذا عرف العبد صفات الكمال التي اتصف الله بها، واستشعرها؛ فإنه ينكسر، ويخضع، ويتواضع، ويخشع قلبه أمام الله جل جلاله.
وأمر رابع نحتاج إليه في الصلاة لنستحضر الخشوع فيها وهو:أن تضع في قلبك إذا قمت إلى الصلاة وتهيأت لها أنها الصلاة الأخيرة: صل صلاة مودع، فقد لا تصلي بعدها، فإذا قيل للعبد هذه هي الصلاة الأخيرة، كيف يصلي؟ فإنه يفرغ قلبه من كل شاغل من شواغل الدنيا، ويحضر قلبه في هذه الصلاة، خطب علي ابن أرطاة على منبر المدائن فجعل يعظ الناس حتى بكي وأبكى، فقال: كونوا كرجل قال لابنه وهو يعظه:' يا بني أوصيك لا تصلي صلاة إلا وظننت أنك لا تصلي بعدها حتى تموت' .(1/142)
وأمر خامس: أن تستشعر وتستحضر أنك على الصراط فوق جهنم: وكأنك تشاهد الجنة والنار أمام عينك، وكأنك قمت بين يدي الله عز وجل في موقف الحساب، كان بعض السلف إذا سمعوا الأذان تغيرت ألوانهم، وفاضت عيونهم، كانوا يرون أنه يذكرهم بالنداء يوم العرض الأكبر . كانوا يستشعرون هذه المعاني في كل شيء حولهم، إذا سمعوا المؤذن يؤذن فاضت أعينهم لأنه يذكرهم بالنداء في ذلك الموقف الرهيب . وهذا رجل من العلماء كان يخشع في صلاته فسُئل عن ذلك كيف يحصل لك هذا الخشوع العظيم؟ فقال:' أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي'.
وهذا الرجل من العلماء، العباد، وهو سعيد بن عبد العزيز كان يبكي إذا صلى، وكان إذا صلى على الحصير يسمع من بجانبه وقع الدموع على الحصير تتقاطر، وكان قد سُئل: ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة، قال: ' يا ابن أخي: وما سؤالك عن ذلك؟' فقال السائل: رجاء أن ينفعني الله بذلك . فقال:' ما قمت إلى صلاة إلا مُثلت لي جهنم' . كأنه يرى جهنم مسعرة، وأهلها يصطرخون فيها:} وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[37]{ [سورة فاطر] .. فكان ذلك يورثه خشوعاً وبكاء في صلاته .(1/143)
ومن استشعر هذه المعاني في الصلاة فإن ذلك لا يفترق بالنسبة إليه في صلاة نافلة، أو صلاة فريضة، كما لا يفترق بالنسبة إليه في الصلاة الجهرية، أو الصلاة السرية .. وأنت تعجب حين تسمع بعض الناس يستغربون ممن يخشع في الصلاة السرية كيف يخشع في الصلاة السرية؟ وكيف لا يخشع؟ وهو يقف بين يدي الله، ويستحضر الجنة والنار، وأن الله يراه وينظر إليه, ويناجيه؟ كيف لا يخشع؟ ولكن الغفلة التي غلبت على قلوبنا أورثتنا بعداً عن هذه المعاني . يقول بعض السلف:' لو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العلمين؛ فانخلع قلبه، وذهل عقله' تخيل هذا .. الناس في صفوفهم للصلاة يقفون صفوفاً فتذكر واستشعر الوقوف بين يدي الرب جل جلاله؛ فيخشع الإنسان، وينكسر قلبه، وكان منصور بن صفية يبكي في كل صلاة، وكانوا يرون أنه يذكر الموت والقيامة في صلاته فيبكي هذا البكاء .(1/144)
الأمر السادس: فهو أن تفرغ قلبك لها، وأن تؤثرها على ما سواها مع مجانبة الصوارف و الشواغل التي تؤثر في القلب: وقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في[ تفسيره 5/456] حيث قال: 'والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، حينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ]' وكان محمد بن المنكدر رحمه الله:' يقول أني لأدخل في الليل، فيهولني، فينقضي، وما قضيت منه أربي ' يقول: أدخل في الليل لأصلي صلاة الليل، فأشرع فيها، فينقضي الليل بأجمعه ولم أشبع، ولم أقض نهمة نفسي، وذلك لاستغراقه في هذه الصلاة، وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه:' فيّ ثلاث خصال لو كنت في سائر الأحوال أكون فيهن لكنت أنا أنا: إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، و إذا سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في قلبي ريب فيه، وإذا كنت في جنازة لا أحدث نفسي بغير ما تقول أو يقال لها' . يعني من الحساب .(1/145)
وقد قالوا لعامر بن عبد القيس، أتحدث نفسك في الصلاة؟ قال:' أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟' قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة !! قال: أبالجنة والحور؟ قالوا: لا، بأهلينا وأموالنا . فقال:' لئن تختلف الأسنة فيّ أحب إلي' أي من أن أحدث نفسي، يعني بشيء من حطام الدنيا وأنا في هذه الصلاة !! وهذا عامر بن عبد القيس قيل له: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أو حديث أحب إلى من القرآن أنشغل فيه؟ هيهات .. مناجاة الحبيب تستغرق الإحساس. بعضنا ربما يكون إماماً ويسجد للسهو في اليوم مراراً !! وقد اشتكى بعض الناس من إمام لهم يسهو في اليوم الواحد في ثلاثة فروض هذه التي يسجد فيها للسهو!! فأين القلب؟ هذا قلبه مشغول.(1/146)
فينبغي للعبد أن يفرغ قلبه .. فالمرأة- مثلاً- إذا جاءت إلى الصلاة لا تجعل شيئاً على النار تحتاج إلى مراقبته عن قريب، و إذا كان لديها طفل، فإنها تشغله في مكان آمن لئلا ينشغل قلبها عليه، ولا تحتاج أن تتجوز في صلاتها من أجل ملاحظة هذا الطفل، كما أنها لا تجعله بجانبها لكي لا يشوش عليها .. وكذلك من كان في انتظار مكالمة مهمة أو نحو ذلك، أو عنده بعض المكالمات، وهو يريد أن يصلي الليل مثلاً، أو يتطوع، فإنه ينتهي من هذه المكالمات، وهكذا في الفريضة يُبكر قبل الأذان، ويقضي حوائجه، ويفرغ من هذه الأمور المقلقة له، ثم يدخل في الصلاة وهو فارغ القلب لا يحدث نفسه بشيء سواها .. وهذا الحسن رحمه الله يقول: إذا قمت إلى الصلاة قانتاً فقم كما أمرك الله، و إياك والسهو والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره،وتسأل ربك الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك، الله ينظر إليك، ولربما كنت تفكر في بعض الأمور المحرمة، ولربما نظر الله إليك وأنت تفكر في أمور حقيرة، فربما كان الواحد يصلح شيئاً تافهاً في بيته، لربما كان يصلح مسلاة لصبي، ثم يقوم يصلي وقلبه مشغول بإصلاحها، والله ينظر إليه ويطلع عليه، فهذا لا يليق في أي حال من الأحوال، فينبغي التفطن لهذه المعاني.(1/147)
وللأسف نحن عندما كنا نعيش بعيدا عن هذه الأحوال أصبحنا نستغرب منها، ولقد حدثني جماعة من الناس عن رجل من المعاصرين- وهو من العوام وليس من طلبة العلم ولا من العلماء- أنه إذا قام يصلي فإن أهله أو من بجانبه يحتاجون إلى تنبيهه إذا قرب وقت الأذان من أجل أن يوجز في صلاته؛ لأنه يستغرق في صلاته، وينسى كل شيء . كان هذا الرجل يتطوع بعد صلاة العشاء في المسجد النبوي، وكان بعض الحراس يعرفونه، وهو رجل يسكن المدينة من عشرات السنين، فكان إذا قرب وقت إغلاق الأبواب بعد صلاة العشاء بمدة معلومة يأتون إليه قبل ذلك بنحو عشر دقائق وينبهونه من أجل أن يتفطن، من أجل أن يُجوٌز في صلاته. و امرأته كانت تأتيه قبيل الأذان الأول وهو يصلي فتنبهه من أجل أن يجوز فيخرج إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تفتح أبوابه من الأذان الأول .. حدثني عن هذا بعض جيرانه، وبعض من عرفه منذ زمن طويل، وحدثني عن هذا ابنه بعد أن مات -رحمه الله - . هذا مثال واقعي ' رجل من العوام يحصل له هذا الاستغراق والخشوع '(1/148)
والأمر السابع مما يورث الخشوع هو تدبر القرآن: يقول ابن جرير الطبري رحمه الله: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه كيف يتلذذ بقراءته؟ وجرب هذا في نفسك، اقرأ تفسير بعض الآيات، ثم اسمعها في الصلاة كيف تجد الفرق؟ بل وربما تكلم الإمام أو تكلم غيره في صلاة التراويح عن تفسير بعض الآيات فإذا قرئت؛ رأيت فرقاً شاسعاً بينها وبين غيرها من الآيات التي لم تُفسر، وهذا شيء مشاهد . فمعرفة معاني القرآن تجعل القلب يستغرق في تدبره والتفكر في معانية، حتى أن القلب يخشع عند ذلك، بل لربما خشع الإنسان عند تسميع القرآن، يسمع لغيره قد لا يتحمل، وكان أبو بكر رضي الله عنه قريب الدمعة، كثير البكاء، لا يتمالك نفسه إذا صلى، ولذلك لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أن يصلى أبو بكر بالناس اعتذرت عنه عائشة رضي الله عنها بأنه رجل رقيق لا يتمالك إذا صلى وقرأ القرآن فإنه يبكي.(1/149)
فأقول: معرفة معاني القرآن؛ طريق للتدبر. والتدبر طريق للفهم والاتعاظ والاعتبار والخشوع؛ لذلك كان السلف رضي الله عنهم يقرأ الواحد منهم آية واحدة، ويقوم يرددها إلى الفجر يبكي . هذا مالك بن دينار رحمه الله كان يقرأ قول الله عز وجل:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{ [سورة الحشر] ثم يقول: ' أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صُدع قلبه' . ويقول ابن مسعود: ' إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم' وهم الخوارج . هذه صفة قبيحة ينبغي للمؤمن أن يتباعد عنها لئلا يكون متصفاً بصفة هؤلاء الذين ذمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال أبو عمران الجوني رحمه الله:' والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرف إلى الجبال لمحاها ' وكان الحسن يقول:' يا ابن أدم إذا وسوس لك الشيطان في خطيئة، أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله في كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت . أما سمعته يقول:} لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... [21]{ [سورة الحشر]' .(1/150)
الأمر الثامن:مما يورث الخشوع: وهو ترك التكلف في كل شأن من الشؤون: ولذلك أقول: من الأحسن أن يصلي الإنسان في كل مكان لا يتكلف لأحد فيه، وأن يصلي في مكان لا يكون بجانبه أحد قد يجد نفسه تشده لأن يتكلف لهذا الإنسان، يجعل الله أمام ناظره ولا يلتفت . وهناك أمر يذهب الخشوع على الإمام، وعلى المأمومين، وهو التكلف في الدعاء، حينما يتكلف الإنسان أن يأتي بالدعاء على غير سجيته المعهودة فيه كما لو كان من عادة الإنسان أنه يلحن، فصار يحاول أن يأتي بالدعاء موزوناً معرباً، فإن ذلك يكون مدعاة لذهاب الخشوع وليس هذا دعوة للحن، و إنما أقول: ينبغي في الدعاء أن يحرص الإنسان أن يدعو على سجيته، ولهذا فإن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله لفت النظر إلى هذا المعنى, وكان يقول: إن الله يسمع دعاء الداعين سواء كان مسجوعاً، أو ملحوناً، سواء كان معرباً أو غير معرب بمعنى أنه إذا تكلف الإنسان السجع في الدعاء، فإن ذلك يذهب عليه الخشوع، وكذلك إذا كان العبد يتكلف الإعراب فيه، يعني أن يأتي به على وزان لغة العرب فإن ذلك يذهب الخشوع . يقول شيخ الإسلام: بل ينبغي للداعي إذا لم تكن عادته الإعراب أن لا يتكلف الإعراب، وقد قال بعض السلف إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع، يقول شيخ الإسلام: ' وهذا كما يكره تكلف السجع في الدعاء فإذا وقع بغير تكلف فلا بأس به، فإن أصل الدعاء في القلب واللسان تابع للقلب ' . فإذا كانت العناية بإصلاح اللسان فإن ذلك يؤثر في القلب ولا بد . يقول: ومن جعل همته في الدعاء تقويم لسانه أضعف توجه قلبه, ولهذا يدعو المضطر بقلبه دعاء يفتح عليه لا يحضره قبل ذلك، وهذا أمر يجده كل مؤمن في قلبه' ولهذا يقول شيخ الإسلام: أن الدعاء يجوز بالعربية وبغير العربية، والله يعلم مقصد الداعي ومراده وإن لم يُقوم لسانه، فإنه يعلم ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات '[مجموع الفتاوى 22/488-489] .(1/151)
وهذا أمر مهم قل من يفطن له، بل حتى الموعظة إذا كان هم الملقي هو توقي اللحن في الخطبة، أو في الموعظة، أو في المحاضرة، فإن ذلك يؤثر في وقعها على القلوب، قد يكون الكلام الذي يقال في ذاته من الكلام المؤثر، ولكن لما كان شُغل الملقي بإصلاح لسانه وتقويمه مخافة اللحن- ولا شك أن اللحن قبيح فاللحن في الكلام كالجدري في الوجه- ولهذا السبب قل التأثير، وهذا شيء مشاهد، تسمع الناس يتأثرون كثيراً ببعض المواعظ والخطب، والمحاضرات ويبكون عند حضورها، ويتأثرون غاية التأثر، وإذا سمعتها تجد قلبك حاضراً، وقد يكون من الأسباب عدم تكلف صاحبه في إلقاء الكلام عند محاضرته، فتجد لحناً فجاً فاحشاً لا يستطيع أن يسمعه من أجاد العربية، بل ينفر من أول جملة يسمعها فيه، بينما تجد الآخرين الذين لا ينظرون إلى هذه الجوانب يستهويهم هذا الكلام، ويعجبهم ويتأثرون به غاية التأثر، ولربما تبرعوا بمئات الألوف من هذا الشريط الذي يسمعه الآخر الذي يعرف لحن الكلام، ولا يستطيع أن يواصل جملة واحدة فيه لركاكته وضعفه وكثرة اللحن فيه، بينما هؤلاء يتأثرون به ويعجبهم غاية الإعجاب، ما السبب في هذا؟ السبب هو أن هذا يتكلم من غير تكلف، ولم تكن عنايته بإصلاح منطقه ولسانه، و إنما كانت هذه المعاني في قلبه، فتكلم بكلمات صادقه من قلب خاشع؛ فأثر ذلك في سامعيه، والقلوب بينها إشارات وأمور لا يدركها حس الإنسان فالقلب يدرك بعض المعاني المعبرة عن الحب، وبعض المعاني المعبرة عن الانقباض، فتجد قلبه ينقبض لفلان وفلان ولا يلقاه إلا تكلفاً, كما أن القلب يتأثر حينما يسمع نصيحة يدرك أن هذا الكلام صدر من قلب مشفق، فيتأثر، وكذلك أيضاً تجد هذا الإنسان يتأثر بالموعظة إذا خرجت من قلب عامر بالخشوع والخضوع، وأما إذا كانت المواعظ تلقى على الناس من قلب صلب لا يتأثر أو يقرأ القرآن، صاحب قلب قاس، فأنى للناس أن يتأثروا ؟ هذه الآية يقرؤها هذا الإمام، ويقرؤها آخر، هذا(1/152)
يتأثر ويتأثر من حوله، ومن يسمع قراءته غاية التأثر، والآخر يمر على مئات الآيات من أمثالها ولا يحرك فيه ساكناً، ولا يحرك فيمن معه، ما السبب ؟ السبب هو هذا المعنى، والله تعالى أعلم
تاسعاً:ثمرات الخشوع:
1- أول هذه الثمرات والآثار السلوكية: هو أن الخشوع يطرد الشيطان، لأن الشيطان لا يجتمع مع الخشوع إطلاقاً، فالخواطر والوساوس تشغل القلب، والخشوع حضور القلب بكليته، وصاحب القلب الخاشع لا يجد الشيطان طريقاً في وساوسه، وخواطره إلى قلبه، ولذلك قال من قال من أهل العلم:' من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان'[ انظر المدارج].
2- الرفعة وعلو المنزلة: 'ومن تخشع لله تواضعًا-كما قال ابن مسعود- رفعه الله يوم القيامة'[ الزهد لوكيع] .
3- وأما الأمر الثالث: فهو بلوغ المرام وتحصيل المطلوب: الله عز وجل يقول:} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]{ [سورة المؤمنون] فذكر ذلك في أول صفاتهم وهي الفلاح الذي قد حكم الله به بطريقة محققة بالتعبير بقد :} قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]{ [سورة المؤمنون] وهو تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، قال رجل للحسن: أوصني، قال:' رطب لسانك بذكر الله، وند جفونك بالدموع من خشية الله، فقل من طلبت لديه خيراً فلم تدركه'[ الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا] . فمن كان بهذه المثابة حصل له مطلوبه من ربه تبارك وتعالى، فأكرمه وقربه .(1/153)
4- والأمر الرابع هو: أن الخشوع يورث صاحبة أخلاقاً محمودة: وذلك أن الخشوع أصل من أصول الأخلاق، وأساس من أسسها كما قال ابن القيم رحمه الله:' فالكبر والمهابة والدناءة أصل الأخلاق المذمومة، والكبر يقابل الخشوع، والخشوع يقابله الصلف و التعالي، والجفاء والرعونة والدناءة، وأما الخشوع فهو عكس ذلك، فهو أصل الأخلاق الفاضلة، كالصبر والشجاعة، والعدل والمروءة، والعفة والسيادة، والجود والحلم، والعفو والصفح، والاشتمال والإيثار، وعزة النفس عن الدناءات، والتواضع والقناعة، والصدق والأخلاق، والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل، والتغافل عن زلات الناس، وترك الانشغال بما لا يعنيه، وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك، فكلها ناشئة من الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء؛ فتهتز وتربوا، وتأخذ زينتها وبهجتها، فكذلك المخلوق منها إذا أصاب حظه من التوفيق-إلى أن قال-: فمن علت همته، وخشعت نفسه؛ اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكل خلق ردي'[الفوائد ص143-144 -بتصرف-] .(1/154)
5- الخامس: أن الخشوع يرد العبد إلى حكم العبودية: والكبر يرفعه عن هذا المقام، ولذلك كان الكبر لا يتناسب إطلاقاً مع عبودية القلب، ومع عبودية العبد، فالكبر كمال لله عز وجل، أما المخلوق فكماله في الخشوع والتواضع و الإخبات، فالعبد لو ترك مع نفسه فإن فيه صفات مذمومة قبيحة تدعو إليها النفس من التعالي على الخلق، والأشر؛ فيخرج عن طوره أصله الذي خُلق له، ويثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة، فينازع ربه ذلك، وقد أمر العبد بالسجود- كما قال ابن القيم رحمه الله- خضوعاً لعظمة ربه وفاطره، وخشوعاً له، وتذللاً بين يديه وانكسارًا له، فيكون هذا الخشوع والخضوع، والتذلل رداً له إلى حكم العبودية، فيتدارك بذلك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض، الذي خرج به عن أصله، فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعاً بين يدي ربه الأعلى، وخشوعاً له، وتذللاً لعظمته، و استكانة لعزته مردداً: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، يقول ابن القيم رحمه الله :' وهذه غاية الخشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوط بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أمه وأبوه، وأصله وفصله، فضمته حياً على ظهرها، وميتاً في بطنها، وجعلت له طهوراً و مسجدًا، فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، فيعفر وجهه في التراب؛ استكانة وتواضعاً وخضوعاً، وإلقاء باليدين، ويقول مسروق لسعيد بن جبير: ' ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب لله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بشيء قصدًا بل إذا اتفق له ذلك فعله، ولذلك سجد في الماء والطين كما جاء في الصحيحين[كتاب الصلاة لابن القيم ص210 -بتصرف-] .(1/155)
لم يكن يتكلف شيئاً دون جهته ووجهه، إذا صلى صلى على التراب، فلم يكن يضع رداءه صلى الله عليه وسلم دون وجهه، وإذا صلى على الحصير لم يتكلف وضع وجهه على الأرض مباشرة من دون حصير
6- أما الأمر السادس والأخير من آثار الخشوع: هو ما يحصل به من تفاضل الأعمال وتفاوتها: فكم من الفرق بين اثنين كل منهما قائم في الصف يصلي، هذا خاشع وهذا لم يخشع؟ فلا شك أن هذه الصلاة التي حصل بها هذا الخشوع أنها في غاية الكمال، ويؤجر عليها غاية الأجر، هذه سورة قل هو الله أحد، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن، وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: أن هذه السورة مع ما فيها من الثواب والأجر والمنزلة إلا أن العبد قد يقرأ آية سواها ويخشع فيها، فيكون ذلك أعظم من قراءته هذه السورة، بل يقول: إن العبد قد يقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، مع حضور القلب واتصافه بمعانيها فيكون ذلك أفضل في حقه من قراءة سورة قل هو الله أحد مع الجهل والغفلة، ويقول: والناس متفاضلون في فهم هذه السورة وما اشتملت عليه كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن.
عاشراً:الأمور التي تنافي الخشوع:(1/156)
أولها: كثرة الحركة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة: كما قلت لكم في الذي يمشي ويخطر بيديه هكذا في مشيته، فهو كثير الحركة، فهذا أبعد ما يكون عن الخشوع والوقار، وقلة الحركة تنبئ عن سكينة وتؤدة ووقار وخشوع، وكذلك في الصلاة، والله عز وجل يقول}وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]{ [سورة البقرة] والمراد به أن يكون العبد ساكناً مع طول القيام فيها، لا يلتفت، ولا يرفع بصره، ولا يتحرك، ولا ينشغل بشيء من جوارحه، أو ببصره عن ما هو بصدده، ' لأن الخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعاً؛ ولهذا نقل عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال:' لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه' يعني: سكنت وخضعت . والله يقول:} وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ...[39]{ [سورة فصلت] . فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز، والاهتزاز حركة، وتربو، والربو: الارتفاع ، فُعلم أن الخشوع فيه سكون و انخفاض، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حال ركوعه: : [اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَعَصَبِي...]رواه مسلم . فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع ' [ما بين الأقواس من كلام الشيخ ابن تيمية].(1/157)
الأمر الثاني: هو رفع البصر: وهو منهي عنه في الصلاة لكونه مما ينافي الخشوع، والله عز وجل قد ذكر خشوع أهل الموقف فقال:} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ[6]خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ ...[7]{ [سورة القمر] .وقال :} يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[43]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ...[44]{ [سورة المعارج] وقال: :} وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ...[45]{ [سورة الشورى] . أي: أنهم لا يحركون أبصارهم يمنة ويسرة، وينظرون إلى أعلى، ولا يحركون جوارحهم، وإنما ينظرون من طرف خفي يُسارقون فيه النظر مسارقة. هذا ذكره بمعناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في 'تعارض العقل والنقل' وذكر نحو ذلك أيضاً في الفتاوى.[ درء التعارض 7/ 24، الفتاوى 6/ 578].
الحادي عشر:السلف والخشوع:(1/158)
هذا إمامنا و قائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، وقد غفر ما تقدم من ذنبه، وصفه عبد الله بن الشخير كما أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح قال:'رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنْ الْبُكَاءِ'. ويقول ابن مسعود: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ] آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ: [فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي] فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ }فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا[41]{ [سورة النساء] قَالَ: [أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ]رواه البخاري ومسلم . وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ' مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ 'رواه مسلم. فأنت ! كم يمضي عليك و أنت تسمع القرآن، وتشهد مع الناس الصلاة، وقلبك لا يتحرك؟!(1/159)
وكان ابن عمر إذا تلا هذه الآية:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] قال:' بلى يارب 'ويبكي حتى تبل الدموع لحيته[الدر المنثور]. وقد قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ' كما كانت هذه الآية سبباً في توبة الفضيل بن عياض، وعبد الله بن مبارك، وقد سئل عبد الله بن مبارك عن بدء زهده و توبته فقال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل، ونمنا وكنت مولعاً بضرب العود والطبول، فقمت في بعض الليل، فضربت بصوت عال يقال له: راشين السحَر، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود في يدي لا يجيبني إلى ما أريد فإذا به ينطق كما ينطق الإنسان يقول:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...[16]{ [سورة الحديد] فقلت: بلى والله . فكسرت العود وصرفت ما كان عندي من الناس والأصحاب، فكان هذا أول زهدي وتشميري . وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق امرأة فواعدته ليلاً، فجاء يرتقي الجدران، وبينما هو يتسور ليصل إليها سمع قارئا يقرأ:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...[16]{ [سورة الحديد] فرجع وهو يقول: بلى والله قد آن . فأواه الليل إلى خربة وبها جماعة من السابلة من المسافرين وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، وهم لم يشعروا بمكانه، فقال: أوّاه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام . وفي بعض الروايات أنه قال: لهؤلاء القوم: أنا الفضيل جوزوا، يعني:امضوا في طريقكم وسفركم، والله لأجتهدن ألا أعصي الله أبداً، فرجع عن ذلك .(1/160)
وأما ابن المبارك الذي عرفتم توبته فكان يوصف خشوعه بأوصاف عجيبة، كان إذا قرأ في كتابه الزهد والرقائق كأنه بقرة منحورة من كثرة البكاء، وكذا كان الفضيل في خشوعه . جاء ناس إلى الفضيل بن عياض، واستأذنوا عليه عند بابه، فلم يؤذن لهم، فقال قائل: إنه لا يخرج إليك إلا إذا سمع القرآن، فكان معهم رجل مؤذن حسن الصوت، فقال له اقرأ:} أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ[1]{ [سورة التكاثر] فقرأ ورفع بها صوته، فأشرف عليهم الفضيل، وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع، ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه ويقول:
بلغت الثمانين أو جُزتها فماذا أُؤمل أو أنتظر
أتاني ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما يُنتظر
علتني السنين فأبلينني
ثم انقطع وخنقته العبرة، فقال لهم رجل أنا أكمل لكم البيت:
علتني السنون فأبلينني فَرقت عظامي وكل البصر(1/161)
:} أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...[16]{ [سورة الحديد] يقول الحسن البصري رحمه الله:'إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وخشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأى عين- يعني: للجنة والنار- فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، وما أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر؛ فصدقوا به، فنعتهم الله في القرآن بأحسن نعت فقال:} وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63] { [سورة الفرقان]. قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جُهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهاراً بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال:} وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[64]{ [سورة الفرقان] تجري دموعهم على خدودهم؛ خوفاً من ربهم. فقال:'لأمر ما سهروا ليلهم، لأمر ما خشعوا نهارهم . ثم قرأ:} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[65]{ [سورة الفرقان] . قال: كل شيء يصيب ابن آدم، ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السماوات والأرض قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو، فعلموا وأنتم تمنون، فإياكم وهذه الأماني؛ فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيراً قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول:' يالها من موعظة لو وافقت من القلب حياة '.
فتية يُعرف التخشع فيهم كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلدهم التهجد حتى عاد جلداً مصفراً وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخوف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرة ونحيب ويظلون بالنهار صياما
يقرؤون القرآن لا ريب فيه ويبيتون سجداً وقياما(1/162)
قرأ ابن عمر رضي الله عنه بـ:} وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ[1]{ فلما بلغ:} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[6]{ [سورة المطففين] . بكى حتى خر وامتنع عن قراءة ما بعدها [الزهد لوكيع]. وبات رجل عند الربيع بن خثيم ذات ليلة، فقام الربيع يصلي، فمر بهذه الآية:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا...[21]{ [سورة الجاثية] . فمكث ليلة حتى أصبح يبكي بكاء شديداً لا يجاوز هذه الآية .
لهم دموع من خشوع نفوسهم ودموعها فوق الخدود غزارُ
يقول مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلة حتى أصبح، أو كاد يقرأ آية، ويرددها ويبكي:} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا...[21]{ [سورة الجاثية] .
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا جمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن شي عليها يسجدونا
وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى:} إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ[1]{ [سورة الانشقاق] اضطرب حتى تضطرب أوصالة . واشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرئ عينيك . قال: ما هي؟ قال: لا تبك . قال:'وما خير في عين لا تبك' [الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا].
نزف البكاء دموع عينك فأستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تُعارُ(1/163)
وكان عبد الله بن الزبير يسجد، فيأتي المنجنيق، فيصيب ثوبه، ولربما أصاب طرف ثوبه، وهو لا يتحرك في صلاته، ولا يرفع رأسه، ولا يلتفت . ودخل عليه رجل بيته، فإذا به يصلي، فسقطت حية على ابنه هاشم، فصاحوا: الحية! الحية! ثم قتلوها، وما قطع صلاته، ولما سئل بعد الصلاة قال:' ما شعرت بشيء من ذلك'. ويقول ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبه منصوبة لا تتحرك. ووصفة بعضهم إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد، فلربما نزل الطير على ظهره تحسبه الطيور جذع حائط . وصلى يوماً في الحجر، فجاء حجر من المنجنيق، فضرب ثوبه فما انفتل، وما تحرك وما التفت . وذلك في حصار الحجاج للكعبة.
وكان مسلمة بن بشار في المسجد فانهدمت طائفة من المسجد، فقام الناس ولم يشعر أن أسطوانة المسجد قد انهدمت !! وهذا يعقوب الحضرمي لم يُر في زمانه مثله، بلغ من زهده أنه سُرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، ورُد إليه ولم يشعر.
محي الليل صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإنشغاق منسجمِ
مسبحاً لك جنح الليل محتملاً ضراً من السهد أو ضراً من الورمِ
رضية نفسه لا تشتكي سأما وما على الحب إن أخلصت من سأمِ(1/164)
وهذا محمد بن إسماعيل البخاري ذُكر في قصته وترجمته أنه خرج مع قوم إلى حائط مزرعة، فقام يصلي بالناس الظهر، فلما فرغ قام يتطوع، فلما فرغ من تطوعه رفع ثوبه وقال لبعض من معه: انظروا هل ترون تحت قميصي شيئاً؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر، أو سبعة عشر موضعاً، وتورم ذلك من جسده، فقال له بعض القوم:كيف لم تخرج من الصلاة في أول ذلك؟.قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها . وهذا محمد بن يعقوب الأخرم يقول: ما رأينا أحسن صلاة من صلاة محمد بن نصر- يعني المروزي- كان الذباب يقع على بدنه - يعني الزنبور - ولا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره، فينتصب كأنه خشبه مسنودة. ووصفه آخر يقول: رأيت محمد بن نصر ما رأيت أحسن صلاة منه، ولقد بلغني أن زنبوراً قعد على جبهته، فسال الدم على وجهه، ولم يتحرك .
وكان كرز بن وبرة إذا دخل في الصلاة لا يرفع طرفه يمنة ولا يسرة، وكان من المخبتين، وربما كُلم خارج الصلاة فلا يُجيب إلا بعد مدة من شدة استغراقه في التفكير . يقول الذهبي رحمة الله -معلقاً على ذلك-: هكذا كان زهاد السلف، وعبادهم، أصحاب خوف وخشوع وتعبد . ووقع حريق في بيت على بن الحسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون: يا ابن رسول الله النار..النار، فما رفع رأسه حتى أطفأت، فقيل له في ذلك فقال:' ألهتني عنها النار الأخرى ' . وكان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته:'تحدثوا فلست أسمع حديثكم'.(1/165)
هذه نماذج من رجال السلف، وحينما أذكر أشياء من ذلك إنما أذكر ما قرب منه، وأما الأمور التي قد تنبو عنها الأسماع، ولا تدركها كثير من العقول؛ فإني أتجاوز ذلك أجمع، ومع ذلك كثير منا يظن أن هذه الأمثلة والنماذج سواء في الخشوع، أو في الإخلاص، أو في التوكل، أو في التفكر، أو ما سيأتي في الورع، وما سبق في اليقين، وغير ذلك أن هذه من الأمور التي لا يمكن الوصول إليها، وأنها بعيدة المنال !! وليس الأمر كذلك بل هي أمور تحصل للعبد بالمجاهدة، ولهذا يقول محمد بن المنكدر' كابدت الصلاة عشرين سنة وتلذذت بها عشرين سنة ' هذا آخر الكلام عن الخشوع.(1/166)