ارتباط تصنيف الفقه بالعقيدة والسلوك
وآثاره في المنظومة القانونية
أ. يوسف بلمهدي(*)(
إنَّ
ما فعله المتأخرون من المالكية ابتداء من العلامة ابن أبي زيد القيرواني في تأليف الفقه على ثلاث شعب [عقيدة – وأحكام – سلوك] هو منهج أصيل، تظهر فيه مسحة الجلال والجمال والمال لأنه كلام الله الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [فصلت/ 42]
يقول الإمام الرازي: »اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ببعضها البعض، أعني علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص، والمقصود من ذكر القصص إما تقرير التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف، وهذا هو الطريق الأحسن« ... (1)، ولا يخفى ما في القصص القرآني من تقرير لمبادئ الأخلاق السامية، والسلوكات الراقية كالحياء الوارد في قصة ابنتي شعيب عليه السلام والتواضع وعدم الخيلاء في وصايا لقمان لابنه، وغير ذلك مما يشكل للمجتمع نسيجه المتماسك.
ولعل هذه الطائفة من الأمثلة المختارة ردء ذلك وتصديقه، ورفد ما ذكرنا وتحقيقه، غير أني أعرضت عن ذكر الآيات التي تتناول أحكام العبادات بوجه خاص، لأنه يظهر فيها معنى التعبد وطلب الآخرة والإيمان بالغيب بما لا يحتاج إلى سوق أدلة.
وقصرت الأمثلة على بعض الجوانب في الأحكام الشرعية تجمع الحكم العملي ضميما إلى الإيمان والاعتقاد، آخذا بالخلق في سلك نضيد ونغم غريد.
1-القرآن الكريم مثلا :
(أ) أحكام العقوبات:
01-الزنا: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [النور/02].
02- العفو في القصاص: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } [البقرة/ 178].(1/1)
إن هذه الآية الأخيرة وحدها جماع الخير الكثير ومعقد الفضل النمير، رغم أنها في باب القصاص والجنايات، فتأمل كم جمعت من دلالات الأخلاق والتوجيهات السلوكية وأعمال البر ما ينتزع منك التسبيح انتزاعا، والسجود بين يدي الله خشوعا واتباعا، انظر إلى الكلمات التالية: ( العفو- الأخوة -المعروف- الأداء- الإحسان- التخفيف- الرحمة).
(بـ) المعاملة المالية:
1- المداينة: { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته، وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم } [البقرة/283].
وما ذكرناه ههنا في هذه الآيات مفرقة، يقال في السورة المدنية الجامعة لأحكام كثيرة كسورة، الطلاق، والحجرات، وغيرها بحيث نجد هذه الثلاثية بادية المعالم، واضحة التقاسيم.
2- السنة النبوية الشريفة: إنه لما كانت السنة النبوية الشريفة هي الوحي الثاني –غير المتلو– فإنها أيضا جعلت نظامها التشريعي مركوزا على العقيدة والأحكام والسلوك، كما في حديث : ((إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، ... ، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))[متفق عليه]
إن هذا الربط العجيب منه صلى الله عليه وسلم بين المعاملات المادية والقلب، لمن أكبر الدلالات على أن التشريع لا يمكن أن يكون في معزل عن تربية النفس وتزكيتها بالأخلاق، لأن التشريع الذي يعنى بالظاهر في الغالب هو في الحقيقة عاكس ومرآة لما في الباطن ((ألا إن في الجسد مضغة)) بل لا صلاح لمجتمع يحكم ظواهره قوانين رادعة، بينما تصفر القلب في خواء لا نبت فيه لمعتقد، ولا ظل فيه لخلق.(1/2)
2- الأسس العملية: إضافة إلى المرجعية الأولى التي اعتمدها المتأخرون من المالكية في تصنيفهم للفقه استنادا إلى منهج القرآن والسنة في تقرير الأحكام فإنهم تعاملوا مع التشريع والنفس البشرية بواقعية تراعي فطرة الدين وفطرة الخلق وسنعالج ذلك فيما يلي:
ا- الفقه والواقع:
1- إن ماهية الفقه في اللغة هو الفهم الدقيق بينما اصطلح علماء الأصول على تعريفه بقولهم: (معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد)(2) حيث جعلوا الأحكام المستقاة والمتلقاة من الأدلة كالقرآن الكريم والسنة سواء كانت بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع جعلوها فقها(3). ومنذ ظهور هذا المصطلح ودوائر الفقه تضمر وتجمد في مصطلحات ضيقة، وتقلبت بين الاختصار والاعتصار حتى غدت شبيهة بالألغاز والمعميات بعيدة نوعاً ما عن روح المتفقهين والمكلفين، بل وروح الواقع والنص أحيانا، وأكثر ما يذكر من تقصي التفريعات الظاهرة والأحكام الخلافية تعد من الأغاليط والتنطع(4) وقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي ما طرأ على هذا المصطلح من تحريف أضاع رواءه وطمس بهاءه(5).
لقد كان مفهوم الفقه في الصدر الأول مجموع أحكام الدين كما في الحديث ((من يرد به الله خيرا يفقهه في الدين))، وقد شرح معنى الدين حديث جبريل في ثلاثية تشريعية متكاملة تجمع العقيدة والأحكام والأخلاق حيث كانت الأسئلة عن الإسلام والإيمان والإحسان،(1/3)
بل إن السلف كانوا يعنون بفقه القلوب قبل فقه الأبدان وبالأصول قبل الفروع ولذلك عندما وضع الإمام أبو حنيفة ورقات في العقيدة سماها [الفقه الأكبر] ويقول ابن عابدين: »المراد بالفقهاء العالمون بأحكام الله تعالى اعتقادا وعملا لأن تسمية علم الفروع فقها حادثة«(6) وفي عبارة أوضح وأشمل وأجمل يقول الغزالي: »لقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب يدلك عليه قوله عز وجل: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ، وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة... « إلى أن يقول: »بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه«(7).
بهذا المفهوم الشامل للفقه تناول ابن أبي زيد القيرواني تأليف الرسالة، وهو أول طبقات المتأخرين من المالكية، وقيل عنه: »ما قبله سلف وما بعده خلف« بهذه النظرة السلفية القريبة من عهد النبوة تناول الفقه وتابعه في ذلك المالكية.
- ومن جهة أخرى فإن الفقه بهذا المفهوم الواسع مرتبط بأحوال الناس وواقعهم، وحاجة الناس إلى روح الأحكام أكثر من حاجتهم إلى الحكم ذاته، وتشوفهم إلى تذوق طعم الإيمان أرغب إلى نفوسهم من قيل وقال وكثرة السؤال، ولذلك ربط فقهاؤنا في دراستهم بين ما ذكرنا ربطا محكما لا تضيع معه حلقة من حلقات الدين الذي جاء ليهذب سلوك المجتمع.
ثم إن إقامة الحكم الشرعي بوجه يسقط الكلفة، ويبرئ الذمة دون مراعاة مقصد الحكم من قبول، ومعراج، ووصول، جعل الناس تنسلخ من الدين وجوهره، وإن تمسكوا بشكله ومظهره، وهذا لعمري قاصمة الظهر، وداهية الدواهي.(1/4)
وكلنا يعلم أهل النفاق الذين نبتوا في مجتمع المدينة نبت الشوك في حدائق الورد، حيث يقوم الصحابة بأعمالهم، ويقوم أولئك بأعمالهم، ولكن شتان بين كسلان ونشيط، وبين راض وكاره، وبين مستسلم ومتضمر، وبين متشوق محب وساخط خب { هل يستويان مثلا الحمد لله }
إن هذا التناقض المقيت الظاهر والباطن، وبين النظري والتطبيق، هو الذي أتى على روح الشريعة فأزهقها وتلها للجبين،
ب- طرق تجسيد هذه النظرية الثلاثية:
التعليم والتدريس:
إن أركان التعليم والتدريس هي المعلم والمتعلم ومنهج التعليم ومادة العلم، ولا شك أن هذه الأركان متظافرة تصنع أثر العلم وتولده، وتشيع نور المعرفة وتجدده، وتزيل ظلام الجهل وتبدده، وإن الإخلال بأحد هذه الأركان هو إخلال جسيم، فكم من متعلم عصامي لم يدرس على شيخ وقع في مهالك، لم تثبت له قدم، ولم يستقم له قلم، كما قيل عن الإمام ابن حزم وهو من هو على جلالته وسعة علمه واطلاعه في أنه لم يلازم الأخذ على أهل العلم ولا تأدب بأدآبهم(8)، ولا تسلم هذه التهمة من رد، وذكر القاضي عياض في ترجمة الذاودي [402هـ]، أنه أنكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وإقامتهم بين ظهرانيهم، فقالوا له: (أسكت لا شيخ لك)(9)، ولا يخفى أن المشيخة ليست محض تدريس وتعليم ولكنها تربية أيضا وتسليك، وهذا ما عمد إليه المالكية في التأليف استنانا بقول أم مالك لمالك: (خذ من أدب شيخك قبل علمه).وكثيرا ما كان العالم يرجع إلى تفحص أحوال المتعلمين لكي يكون في كلامه البلاغ، وتعليمه النجح والنصح، وكلما تغيرت أخلاق المتعلم من قوة عزم وعلو همة، وكلما تدرج المرء في الطلب بين الضعف والنشاط كلما رأى العلماء هذا التحول تنزلا وعلوا، صعودا وهبوطا، حتى يؤدوا أمانة العلم كما أمر الله.(1/5)
وفي ذلك يقول الإمام أبو الحسن في شرحه على الرسالة: (لما رأيت الناس قد زهدوا في العلم ورغبوا عن تعلمه، وقد أمرنا بنشر العلم بحسب الإمكان، قصدت إلى تجديد عيون ما تقدم إذ الواجب على المكلف أن يحفظ عين ما كلف به ويعمل على الجزم فيما خوطب به وقد كان صلى الله عليه وسلم يسلك بالصحابة سبيلا، فإذا رأى منهم مللا سلك بهم مسلكا آخر تنشيطا لهم وإذهابا للكسل)(10).(1/6)
ثم إن التأليف الحسن، والصنعة الماهرة، والتنويع والتبويب والتقسيم يزيد من عمر الكتاب، ويطيل أمد الانتفاع به، بل إنه وسيلة من وسائل الإغراء للإقبال عليه والعكوف على درسه، وما فعله مسلم بن الحجاج في صحيحه أغرى المغاربة ففضلوه على صحيح البخاري، حتى قالوا: (وفاز بحسن الصنعة مسلم)، فالأفضلية لمسلم على البخاري محمولة على حسن الوضع وجودة الترتيب، وذكر ابن شاس أن الكثير من المالكية مالوا عن مذهبهم إلى المذهب الشافعي في زمانه، أنهم درسوا كتاب الوجيز لابي حامد الغزالي، والذي حمره وخضره وأدخل عليه الألوان فكان سهل المنال، قريب البلغة، بخلاف غيره، من التواليف، فأراد أن يصنع للمالكية كتابا على نهج الغزالي، فكتب (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة).ورحم الله ابن جزي الذي جاء بكتاب القوانين على أتقن ما تكون التآليف رغم اختصاره فإنه آية في التقسيم والتبويب، بحيث يسهل تشجير مسائله وحفظها وتناولها، كما أنه جعل الأبواب والشعب الثلاثة المذكورة في الرسالة من عقيدة وفقه وأخلاق في الكتاب الشامل الجامع. وقد جرى على هذه الطريقة في التأليف الكثير من أئمة المذهب حتى تآليفهم في الفتاوى والنوازل، كما فعل الونشريسي في الكتاب الجامع من (المعيار المعرب)، والقرافي في (الذخيرة)، حيث نجد أسئلة في الجمع حول التفسير وعلوم القرآن والعقيدة والسيرة وغيرها، يقول القرافي في الكتاب الجامع: »وهذا يختص بمذهب مالك لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب، وهو من محاسن التأليف ... وهي ثلاثة أجناس ما يتعلق بالعقيدة وما يتعلق بالأقوال وما يتعلق بالأفعال«(11).(1/7)
وقد قال ابن جزي في القوانين عن الكتاب الجامع الشامل للعلم والعمل: »إن العمل منه ما يتعلق بالألسنة وهي الأقوال، وما يتعلق بالأبدان، وبالقلوب وبالأموال، وفي كل قسم مأمورات ومنهيات، ومنها ما هو في خاصة الإنسان، وفيما بينه وبين الناس«(12)،بل اعتبر الإمام الصاوي أن ما ذكره الدرديري في كتاب الجامع (من مهمات الدين)(13).(1/8)
النظريات والقواعد الفقهية: إن الدارس للفقه والتشريع الإسلامي ليكبر جهود أهل العلم في تقنين الأحكام وتقعيدها، على شكل قواعد كلية، ونظريات أغلبية، تجمع شتاتاً من الفروع، حتى غدت هذه القواعد شبيهة بمواد القانون المعروفة في مجلة الأحكام العدلية وغيرها، ولعل قائلا يقول بأن قواعد المذهب المالكي لم تساير ما ذكرناه من الجمع بين الشعب الثلاث في ثنايا هذه القواعد، والتي قد لا تطاوع الفقيه في موادها إلا أن تكون على نحو جامد لا روح فيه أشبه بمواد القانون الجافة التي لا تخرج عن (افعل أو لا تفعل) مع ترتيب الجزء العقابي على المخالف، ولك وقفة عجلى على بعض كتب القواعد الفقهية المالكية تجعلك تحكم بخلاف هذا، إذ أن المقري مثلا اعتمد منهج أسلافه في الوقوف على أسرار الأحكام ومقاصدها المبنية على الكتاب والسنة حيث يقول(14) في القاعدة: (224):»يكره تكثير الفروع النادرة والاشتغال عن حفظ نصوص الكتاب والسنة، والتفقه فيهما بحفظ آراء الرجال والاستنباط منهما والبناء عليها ... فالمهم المقدم«، ويقول في شرحه لهذه القاعدة كلاما شبيها بكلام ابن عجيبة في شرح الحكم العطائية التي تسيل حكمة ونورا، وتترنح في أثواب جليلة من الشوق والذوق، يقول: »وما أضعف حجة من يرد يوم القيامة وقد أنفق عمرا طويلا في العلم فيسأل عما علم من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد عنده آثاره من ذلك بل يوجد قد ضيع فرضا كثيرا من فروض العين من العلم بإقبال على حفظ فروع اللعان ... وسائر الأبواب النادرة الوقوع، وتتبع سائر كتب الفقه مقتصرا في ذلك على القيل والقال معرضا عن الدليل والاستدلال«(15).(1/9)
وفي إشارة منه إلى وجوب الوقوف على مقاصد الأحكام وغايتها يضيف: »بل الواجب الاشتغال بحفظ الكتاب والسنة وفمهما، والتفقه بهما والاعتناء بكل ما يتوقف عليه المقصود منهما«(16)، فما فائدة إقامة الحكم الشرعي بعيدا عن تحقيق أسراره من تخلية وتحلية وتجلية، وهذا ما جاء في قاعدة مثيلة رقم (145): (الأحكام مقاصد، وهي المفضية إليها)(17) وهنا بعض الأمثلة من قواعد المالكية والتي تخدم ما نحن بصدده.
قاعدة في الكفر والعياذ بالله:
القاعدة (204)(18) (الكفر جحد أمر علم أنه من الدين ضرورة) وهذه متعلقة بباب الإيمان، وهو من صميم الاعتقاد.
قاعدة في الدعاء: (وهو خلق مع الله وتأدب بين يديه)
وقاعدة(19) في الآداب العامة: قاعدة 177: (حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن) ومن القواعد التي تكره التعمق والتنطع، يقول المازري: »تقدير خوارق العادات ليس من دأب الفقهاء« في القاعدة 223(20).
في الجانب القضائي والعملي:
لا يخفى على أحد مدى أهمية نظم ابن عاصم في قواعد العمل والقضاء على مذهب الإمام مالك، والملاحظ أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل شعبة من الشعب المذكورة عن الأجزاء الأخرى لأن التشريع وحدة متكاملة.
فإذا جئنا إلى شروط القاضي ذكرنا الإسلام والعدالة، والأولى مسألة اعتقادية والثانية سلوكية، على اعتبار أن العدالة كما عرفها أهل الفن فهي (اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر) وذلك لنأمن فسوق القاضي وانحرافه عن الأخلاق السوية. وفي باب الشهادة وأحكام الشهود يذكر ابن عاصم شرط العدالة(21).
ولا يفارق هذا الوصف أحكام اليمين وأغلب أقضية الخصوم تقوم على اليمين والشاهد خاصة في غياب البينات والدلائل، وقد يطول المجال بذكر أمثلة أخرى مثل أحكام الردة في الميراث وغيره أو مسائل المتهتك المجاهر في مجال التعزير وضابط ذلك هو إما أصول الدين أو الآداب والسنن.
3- أثر هذه الطريقة في المنظومات القانونية والتشريعية اليوم:(1/10)
لقد اجتهد الإنسان منذ أن عرف ضرورة الحياة في الاجتماع، وإقامة العلاقات مع محيطه في سن القوانين على اختلاف الفلسفات والرؤى للحياة والرفاه، حتى يستمر العمران، وتقوم الحياة، لكنه عندما أخطأ البصيرة، وعمي عن الوحي ضل وأضل، في أغلب الأحيان. وما أشبه الكثير من القوانين المسنونة بقوانين الغاب، كما فعل "هيكل" الذي كان يرى أن الحياة خالصة للأقوى، غير أنه بعد وصول الفكر الغربي إلى طريق مسدود وإعلانه الجازم أن القانون وحده لا يصنع المجتمع، بل ينبغي اصطحاب الثلاثية التي أشرنا إليها في طريقة المالكية في الكتابة والتأليف في مجالات التشريع. وهذا ما أعلنه القاضي البريطاني(22) "دينينج" عندما اطلع على فضائح أحد الوزراء السابقين "جون بروفيمو" حيث قدم تقريرا في 850 صفحة إلى البرلمان قائلا: »بدون دين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون« والمقصود بالدين هنا: العقيدة، والأخلاق السلوك والقانون التشريع، كأنه وقع على ثمرة الغراب وأنفذ كبد الحقيقة وأصاب.(1/11)
وقال الفيلسوف الألماني "فيخته" في الرد على من زعم بأنه يمكن للمجتمع أن يؤسس منظومة قانونية بعيدة عن العقيدة، وكما يسميه البعض "إحياء الضمير" أو الضمير الحي فيقول: »إن الأخلاق من غير دين عبث«(23) فلا بد إذا من تكامل هذه النظرة الإسلامية الشاملة في المنظومات القانونية اليوم. لقد اعتبر فقهاء الإسلام أن النظام الأخلاقي يتصف بصفة الإلزام التي قصرها الفكر القانوني على القاعدة القانونية فحسب، حيث رتب عليها الجزاء، أما القاعدة الأخلاقية، فاعتبروها مجرد التماس ورجاء، لا يمكن تقنينها، فيقول د.دراز في هذا الشأن: »إن فكرة الالتزام هي القاعدة الأساسية، والعنصر الجوهري الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، فإذا لم يعد هناك التزام فلن يكون هناك مسؤولية، وإذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تسود العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام وتعم الهمجية«(24).
فلهذا السبب وغيره كان النظام السلوكي والأخلاقي رديفا في التأليف الفقهي الإلزامي، إذ ميزة القرآن التي لا تجارى أنه ارتفع بالأخلاق إلى الواجب الذي يتحتم الالتزام به لذاته، فهو نظام مرتبط بالعقيدة، وأي اهتزاز فيه. فالأخلاق إذا صمام العقيدة وغيرها من الأحكام كما قال شلتوت(25).(1/12)
وفي هذا الرد كل الرد على الذين يزعمون بأن الأخلاق غاية مثالية وهي السمو نحو الكمال، أما غاية القانون فهي واقعية نفعية تحقق مجتمع الأمان والسلامة والاستقرار، ولأمر ما أدرجها فقهاؤنا ضمن المنظومة التشريعية. وهو الأمر الذي ترك علماء القانون في هذا العصر يطالبون بترقية القاعدة الخلقية إلى مصاف القواعد الملزمة، وهو ما نشأ عنه ما يسمى اليوم بـ "أخلاقيات المهنة"، والتي تخصصت بعد عموم، فظهرت أخلاقيات مهنة الطب، أخلاقيات المحاماة، أخلاقيات الصحافة، وهكذا. وأصبح المخالف لهذه الأخلاق ملزما أو معاقبا ولا يختلف الحال في بلاد المسلمين عنه في بلاد الغرب. إن تماسك منظومة التشريع الإسلامي جعلت كثيرا من علماء الغرب يذعنون لسموه، ويخضعون لجلاله، يقول ول ديورانت: »كانت مبادئ المسلمين الأخلاقية وشريعتهم وحكومتهم قائمة كلها على أساس الدين، والإسلام أبسط الأديان كلها وأوضحها، وأساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله«(26).ويؤيد هذا التماسك المقصود، والتكاتف المنضود بين أحكام الشرع وما ذكره فيليب حتي "الإسلام منهج الحياة ... يتألف من ثلاثة جوانب أساسية: الجانب الديني والجانب السياسي والجانب الثقافي، هذه الجوانب الثلاثة تتشابك وتتفاعل وربما انقلب بعضها إلى بعض مرة بعد مرة من غير أن نلاحظ ذلك" ثم إننا لو درسنا ما وصل إليه الفكر القانوني اليوم فيما يتعلق بحقوق الإنسان نجده قد تحول من الحديث عن كيان الإنسان إلى كرامة الإنسان. والكرامة لا يمكن فهمها إلا في ضوء الأخلاق والمبادئ السلوكية الراقية.(1/13)
يقول محرر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الأستاذRENE GASSIN معرفا هذه الحقوق: »الذي يتولى دراسة العلاقة الإنسانية التي تتمحور حول كرامة الإنسان«(27). ومن ثم ظهرت بعض الدراسات العلمية شرح هذا المصطلح، وإضفاء صبغة الواقعية عليه كما فعلت الأستاذة بياتريس مورير في دراسة بعنوان "مبدأ احترام الكرامة الإنسانية والاتفاقيات الأوربية لحقوق الإنسان" في أطروحة الدكتوراه سنة 1999 مما يدل على أهمية هذا المبدأ.على أن الفقه الإسلامي قد راعى هذه القيمة وأعطاها ما تستحق من الدراسة والبيان، حتى إنه قد جعل الحديث عنها بنفس القوة التي يتحدث فيها عن الجانب التشريعي إذ لا كرامة للإنسان دون عقيدة وأخلاق. بل قد صان هذه الكرامة حتى مع الأعداء ولكن برباط الأخلاق والرقابة الإلهية النابعة من عقيدة التوحيد: { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } [المائدة/8]، وفي مجال المعاهدات الدولية: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون } [النحل/91].
الهوامش
(1) تفسير الرازي: ج4/ص2.
(2) إتمام الدراية لقراء النقابة للسيوطي: ص77 هامش مفتاح العلوم للسكاكي.
(3) انظر مقدمة ابن خلدون (1/65)
(4) القرضاوي العبادة في الإسلام (300-301)
(5) الإحياء ج1 ص 32
(6) انظر : سليمان الأشقر تاريخ الفقه الإسلام ص (11)
(7) الإحياء ج1 ص 32
(8) محمد عوامة: صفحات في أدب الرأي ص 116
(9) ترتيب المدارك ج2 ص 623
(10) شرح أبي الحسن على الرسالة ج2 ص 365
(11) الذخيرة للقرافي ج 13 ص 231
(12) القوانين الفقهية ص 323
(13) الصاوي على الدردير ج2 ص 481
(14) القواعد للمقري ج2، ص 467
(15) القواعد للمقري ج2، ص 467
(16) القواعد للمقري ج2، ص 467
(17) القواعد للمقري ج2، ص 393
(18) القواعد للمقري ج2، ص 449
(19) القواعد للمقري ج2، ص 423
(20) القواعد للمقري ج2، ص 465(1/14)
(21) تحفة الحكام ج1 ص5
(22) الإيمان والحياة. د.القرضاوي ص 209
(23) المرجع نفسه.
(24) د.دراز دستور الأخلاق في القرآن، الرسالة 1973 ط1 ص21
(25) الإسلام عقيدة وشريعة ص 463
(26) قصة الحضارة 13-116
(27) k.UASAK. (PIX) les demensions internationales des droits de lhomme destine a lenseignement universitaire Ed.UNESCO 1978.(1/15)