|
بقلم: علي بن نايف الشحود
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
احذروا اليأس فإنه قتال
بقلم
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين
أما بعد :
فقد أصاب الناس شيء كبير من الإحباط واليأس عندما سقطت بغداد ، وكذلك لما يرون من تسلط الأعداء على هذه الأمة ، وهي تتلقى الضربة تلو الأخرى ، فيزداد الناس يأسا وقنوطا من رحمة الله تعالى ، وذلك لعدم تحملهم لما يجري ،أو لعدم تعرفهم على أسباب ما يجري .
وفي هذه العجالة سوف نتعرض لهذا الموضوع العقدي الخطير(( فهو حقا داء قتال ))
يا صاحب الكرب إن الكرب منفرج **** أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه **** لا تيأسن فإن الكافي الله
الله يحدث بعد الكرب ميسرة **** لا تجزعن فإن الكاشف الله
إذا بليت فثق بالله وارضَ به **** إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله مالك غير الله من أحدٍ **** فحسبك الله , في كلٍ لك الله
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
4 ربيع الأول 1424 هـ الموافق 5 /5 /2003 م
? تعريف اليأس من القاموس
اليَأْس: القُنوط، وقيل: اليَأْس نقيض الرجاء، يَئِسَ من الشيء يَيْأَس و يَيْئِس؛ نادر عن سيبويه
و اليَأْسُ: ضد الرَّجاء، وهو في الحديث اسم نكرة مفتوح بلا النافية
و اليَأْسُ من السِّلِّ لأَن صاحبه مَيْؤُوسٌ منه.
(1/1)
وفي التنزيل العزيز: أَفَلَمْ يَيْأَس الذين آمنوا أَن لو يَشاء الله لَهَدى الناسَ جميعاً أَي أَفَلَمْ يَيْأَس الذين آمنوا أَن لو يَشاء الله لَهَدى الناسَ جميعاً أَي أَفَلم يَعْلَم، وقال أَهل اللغة: معناه أَفلم يعلم الذين آمنوا علماً يَئِسوا معه أَن يكون غير ما علموه؟ وقيل معناه: أَفلم يَيْأَس الذين آمنوا من إِيمان هؤُلاء الذين وصفهم الله بأَنهم لا يؤمنون؟ قال أَبو عبيد: كان ابن عباس يقرأُ: أَفلم يتبين الذين آمنوا أَن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً 00 لسان العرب ج: 6 ص: 259
? أنواع اليأس : والياس نوعان :
1. اليأس المطلوب :
هناك يأس مطلوب للمرء أن يفعله ، بل واجب عليه في كثير من الأحوال ، كتمني القصيرة أن تصبح طويلة ، والقبيح أن يكون جميلا ، والبطال أن يكون أغنى الناس ، واليأس مما سوى الله تعالى من خلقه ولا سيما مما في أيديهم مما أعطاهم الله تعالى من نعم لم يعطها له فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ قَالَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ وَأَجْمِعْ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ أخرجه ابن ماجة
2. اليأس المحرم :
هو القنوط من رحمة الله ، أو من تغيير وضعه ، أو يأسه من زوال ما ألم به ، أو يأسه من النصر وهكذا
وفي الموسوعة الفقهية :
الْإِيَاسُ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ الرَّجَاءِ - الْإِيَاسُ مِنْ حُصُولِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ . بَلْ اسْتِحْضَارُ الْإِيَاسِ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْبَعِيدَةِ الْحُصُولِ قَدْ يَكُونُ رَاحَةً لِلنَّفْسِ مِنْ تَطَلُّبِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ { أَجْمَعُ الْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ } .
(1/2)
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْإِيَاسُ مِنْ الرِّزْقِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْوَلَدِ , أَوْ وُجُودِ الْمَفْقُودِ , أَوْ يَأْسِ الْمَرِيضِ مِنْ الْعَافِيَةِ , أَوْ يَأْسِ الْمُذْنِبِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ .
وَالْإِيَاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَقَدْ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الْكَبَائِرِ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ : عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ ; لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } , وقوله تعالى : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ } .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ , وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ , وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ , وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ } قِيلَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا , وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ .
(1/3)
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَإِنَّمَا كَانَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ . ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ , وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ , وَهَذَا هُوَ الْقُنُوطُ , بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ : { وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ عَدَمَ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ يَرَى أَنَّهُ سَيُشَدِّدُ عَذَابَهُ كَالْكُفَّارِ . وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ الرِّزْقِ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَبَّةٍ وَسَوَاءٍ ابْنَيْ خَالِدِ { لَا تَيْأَسَا مِنْ الرِّزْقِ مَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا } .
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْقَنُوطِ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ أَوْ حُلُولِ الْمُصِيبَةِ فِي مِثْلِ قوله تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فِي قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ , فَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ .
(1/4)
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَالْإِنَابَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَطْلُوبَةٌ , وَبَابُ التَّوْبَةِ إلَيْهِ مِنْ الذُّنُوبِ جَمِيعًا مَفْتُوحٌ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ , أَيْ حِينَ يَيْأَسُ مِنْ الْحَيَاةِ . فَتَوْبَةُ الْيَائِسِ - وَهِيَ تَوْبَةُ مَنْ يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ كَالْمُحْتَضَرِ - الْمَشْهُورُ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , كَإِيمَانِ الْيَائِسِ . وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْيَائِسِ وَإِيمَانِ الْيَائِسِ , فَقَالُوا بِقَبُولِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ( ر : احْتِضَارٌ . تَوْبَةٌ ) .
أَمَّا مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْيَائِسُ حَقًّا مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ , لقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } , بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُرْجَى لَهُ .
وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر :
قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } .
(1/5)
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ , كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ , فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ , وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا , وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ . عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك , يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابَةِ الْأَرْضِ - بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا - خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } .
(1/6)
وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي , فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ } . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ : مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا . فَيَقُولُ : لِمَ ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك , فَيَقُولُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي } .
وَالشَّيْخَانِ : { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي } الْحَدِيثَ . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - }
. وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ ; { قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ , وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } .
(1/7)
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَمَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنًا , فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رُدُّوهُ , أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } . وَالْبَغَوِيُّ : { إنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - , يَقُولُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي } . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا ذُكِرَ , بَلْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ , بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ .
? وجوب التسليم لله تعالى بما يحدث في هذا الكون
لا بد للمؤمن أن يسلم لله تعالى بقضائه وقدره وبكل ما يجري في هذا الكون دون أدنى شك قال تعالى { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {26} تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {27} آل عمران
نداء خاشع . .
في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة :
(1/8)
حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!
{ قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء } . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو { مالك الملك } بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه .
يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : { بيدك الخير } . . { إنك على كل شيء قدير } . .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي؛ وترزق من تشاء بغير حساب } . .
(1/9)
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى ألقى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . .
أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل .
(1/10)
وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير!
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً ، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال : { وترزق من تشاء بغير حساب } . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال . (الظلال)
*****************
? لماذا يصل الإنسان إلى اليأس ؟
هناك أسباب كثيرة جدا ولكن أهمها :
1. إخفاقه في شيء في حياته (زواج ، تجارة ، علاقة مع صديق خانه في النهاية ، 0000) وهذا يجب عليه البحث عن أسباب الفشل والإخفاق
? وقد يكون سوء الاختيار ، وهذا يؤدي إلى الطلاق وغيره ،
? وقد تكون العلاقة بينه وبين صديقه قائمة على الدنيا وعلى المطامع فلما زالت أسبابها تحولت لعداوة
(1/11)
? وقد يكون سبب الفشل والإخفاق الإهمال في العمل ،
? أو عدم الأخذ بالأسباب المشروعة ، أوالثقة العمياء بالناس ،
? أو المال الحرام أو المشبوه ، أو المعاصي التي يرتكبها وما أكثرها
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ } أخرجه ابن ماجة
? أو يكون نوعا من الاختبار والابتلاء فتظهر حقيقته عند الابتلاء
قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {11} يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ {12} يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ {13} الحج
وقال تعالى { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} الفجر
(1/12)
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال ، ومن بسط وقبض ، ومن توسعة وتقدير . . يبتليه بالنعمة والإكرام . بالمال أو المقام . فلا يدرك أنه الابتلاء ، تمهيداً للجزاء . إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلاً على استحقاقه عند الله للأكرام ، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره . فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة او الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء!
غير أن الإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناساً يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع أناساً ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض . (الظلال)
? أو أنه يطلب الابتلاء من الله فلا يتحمله
(1/13)
فعَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَانَ كَاتِبًا لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَرَأْتُهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا قَالَ { أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِم } أخرجه البخاري ، وكثير من المغرورين بأنفسهم يطلبون من الله البلاء وعندما ياتيهم لا يستطيعون تحمله فيسقطون على الطريق وقكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قصة ذاك الرجل العابد الذي سال الله أن يبتليه (( وقال كل في حبك يهون ) فابتلاه الله بحصر البول فصار يوزع الجوز على الصبيان ويقول لهم ادعوا لعمكم المجنون أن يفرج الله عنه ْقصة ذاك الصوفي مهما فعلت بي فلا أبالي
(1/14)
و عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ قَالَ نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ أَفَلَا قُلْتَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالَ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ حَدَّثَنَاه عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ و حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ وَقَدْ صَارَ كَالْفَرْخِ بِمَعْنَى حَدِيثِ حُمَيْدٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ } أخرجه مسلم
? عدم تحقق النصر للمسلمين
فعدم تحقق النصر للمسلمين في هذا العصر الظالم أهله يجعل كثيرا من الناس ييأسون من رحمة الله وقد يكفر بعضهم ويشك في دينه أو يرتد عن دينه ، فلا بد من البحث عن أسباب هزيمة المسلمين
*****************
لماذا يهزم المسلمون ؟
يهزم المسلمون لأسباب كثيرة :
? إما بسبب خطأ ارتكبوه أثناء المعركة
(
(1/15)
مخالفة الأوامر ) كما حدث مع المسلمين في غزوة أحد فبعد انتصار المسلمين على قريش ظن الرماة أن المعركة قد انتهت فتركوا مواقعهم وذهبوا لجمع الغنائم فصار ما صار فنزلت آيات كثيرة تقيم ما حدث وتبين للمسلمين الدروس والعبر قال تعالى { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {143} وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ {144} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ {145} وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا
(1/16)
اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} آل عمران
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة ، إنما هو حادث عابر ، وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها:حكمة تمييز الصفوف ، وتمحيص القلوب ، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ! ثم في النهاية محق الكافرين ، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين - إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .
(1/17)
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا ، وكسرت رباعية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشج وجهه ، وأرهقه المشركون ، وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: أنى هذا ؟ وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ؟!
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف ، والأمور لا تمضي جزافا ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ؛ بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي:
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال ، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح ، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك ، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا ، وأهدى منهم طريقا ومنهجا ، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين .
قد خلت من قبلكم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . .
(1/18)
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها ، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى ، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ؛ فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها ، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ؛ ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية ، إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية ، وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
قد خلت من قبلكم سنن . .
وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
فسيروا في الأرض . .
فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
(1/19)
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . .
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض ، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:
هذا بيان للناس ، وهدى وموعظة للمتقين . .
هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة ، وتنتفع به وتصل على هداه . . طائفة "المتقين" . .
(1/20)
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه . . والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ، ومن هدى ، ومن نور ، ومن موعظة ، ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر ، وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون ، وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة ، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين . .
(1/21)
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
(1/22)
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا . .
إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !
(1/23)
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين:
ويتخذ منكم شهداء . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
(1/24)
ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . .
ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
ويتخذ منكم شهداء . . . .
(1/25)
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
والله لا يحب الظالمين . .
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن: إن الشرك لظلم عظيم . . وفي الصحيحين عن ابن مسعود:أنه قال:قلت:يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين:
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب ، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها ، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ، لا تظهر إلا بمثير !
(1/26)
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية ، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص ، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد ، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها ، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:
ويمحق الكافرين . .
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات ، وفي النصر والهزيمة ، وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين . ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
(1/27)
إنما هي التجربة الواقعية ، والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ، ثم الصبر على تكاليف الجهاد ، وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم . . ويعلم الصابرين . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ، ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:في النفس وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . . والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . .
(1/28)
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم ، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية ، والجهاد الحقيقي ، والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى ، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين ، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . . ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة ، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ؛ وبكل شهواتها ونزواتها ؛ وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ، ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .
(1/29)
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ، الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب "الإنسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض ! وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ، بشتى الأسباب والوسائل ، وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ، فتستبشر ، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر ، وتصبر على نشوته ، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء ، وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله ، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية ، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل ، بما عندها من الحق المجرد ؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ، ومداخل شهواتها ، ومزالق أقدامها ؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين . (الظلال)
***************
? إذا خالفوا سنة الله تعالى تخلى عنهم وأصابتهم الهزيمة مهما كان عددهم وعددهم
(1/30)
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ {150} سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ {151} وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {152} إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {153} آل عمران
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية ، ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي ، وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة ، فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ؛ وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها ، وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها . . من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس ، البانية للتصور الصحيح .
(1/31)
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها ، وهذه الحقائق كلها ، في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب ، وطاقات الأداء ، وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ، ويعانون أسرار الأداء !
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ، ليثبطوا عزائمهم ، ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ، ويصوروا لهم مخاوف القتال ، وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب ، وخلخلة الصفوف ، وإشاعة عدم الثقة في القيادة ؛ والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ؛ وتزيين الانسحاب منها ، ومسالمة المنتصرين فيها ! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية ؛ وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ، ثم لهدم كيان العقيدة ، ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين !
(1/32)
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة ، وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ، ويكافح الباطل والمبطلين ، وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين ، محافظا على موقفه ، ومحتفظا بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة ، وتحت وطأة الجرح والقرح ، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم ، وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه ! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الإمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء ، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ، لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين ، والاستماع إليهم ، والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته ، وأن يستمع إلى وسوستهم ، وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية ، والارتداد على عقبيه إلى الكفر ، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته ، وفي قيادته ، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته . فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . .
حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ، ينبه الله المؤمنين لها ، ويحذرهم إياها ، وهو يناديهم باسم الإيمان: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . .
(1/33)
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب ، من الإيمان إلى الكفر ؟ وأي ربح يتحققق بعد خسارة الإيمان ؟
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم ، فهو وهم ، يضرب السياق صفحا عنه ، ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:
بل الله مولاكم ، وهو خير الناصرين .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ، ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه ، فما حاجته بولاية أحد من خلقه ؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد ؟
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ، ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين:
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . ومأواهم النار ، وبئس مثوى الظالمين . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر ، بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، كفيل بنهاية المعركة ، وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ، ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده ، والثقة المطلقة بهذه الولاية ، والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون ، وأن الله غالب على أمره ، وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
والتعامل مع وعد الله هذا ، مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه ، فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم !
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها ، لأن الله لم يمنحها سلطانا .
(1/34)
والتعبير: ما لم ينزل به سلطانا ذو معنى عميق ، وهو يصادفنا في القرآن كثيرا . مرة توصف به الآلهة المدعاة ، ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة ، أو عقيدة ، أو شخصية ، أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من "الحق" أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ، ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية ، مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش !
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها ؛ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم ؛ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم . . ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه ، وواحدة منها !
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون ؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد ؛ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ؛ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ؛ ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل ، فهو زائف باطل ، مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واه هزيل ، لا يحمل قوة ولا سلطانا ، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ؛ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة !
(1/35)
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ؛ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء ، وهم أبدا خوارون ضعفاء ؛ وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ، ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود ! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ؛ ولو كانت له الحشود ، وكان للحق القلة ، تصديقا لوعد الله الصادق:
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين ! . .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة:
(1/36)
ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل:إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب:
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه . .
(1/37)
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد قال لهم: لكم النصر ما صبرتم فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين:فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . .
(1/38)
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة:
ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
ولقد عفا عنكم . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته:
والله ذو فضل على المؤمنين . .
(1/39)
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل ، ومقدماته التي نشأ عنها ، من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا ، في اضطراب ورعب ودهش ، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوهم ، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح:إن محمدا قد قتل ، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بفرارهم ، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم ، وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم ، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم ، وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض ، وكل ما يصيبهم من مشقة:
فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . .
والله المطلع على الخفايا ، يعلم حقيقة أعمالكم ، ودوافع حركاتكم:
والله خبير بما تعملون . .
(1/40)
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها ، وهرجها ومرجها ، سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم ، وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم ، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم . .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ؛ فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ، ولو لحظة واحدة ، يفعل في كيانهم فعل السحر ، ويردهم خلقا جديدا ، ويسكب في قلوبهم الطمأنينة ، كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال:" رفعت رأسي يوم أحد ، وجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس " .
وفي رواية أخرى عن أبي طلحة:" غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه " . .
أما الطائفة الأخرى ؛ فهم ذوو الإيمان المزعزع ، الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ، ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ، ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ، ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص ، وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ، ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل:
وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ؟ . .
(1/41)
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء ، فهم كلهم لله ؛ وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ، ويتحركون له ، ويقاتلون له ، بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد ، وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره ، فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم ، كائنا هذا القدر ما يكون .
فأما الذين تهمهم أنفسهم ، وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ، ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم ، فهم في قلق وفي أرجحة ، يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ، ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ؛ وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ، ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته ، فهم يظنون بالله غير الحق ، كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة ، التي ليس لهم من أمرها شيء ، وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا ، والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ؛ إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ، ويتساءلون:
هل لنا من الأمر من شيء ؟ .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ؛ ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ، ويرد على قولتهم: هل لنا من الأمر من شيء ؟ .
قل:إن الأمر كله لله . .
(1/42)
فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ليس لك من الأمر شيء . فأمر هذا الدين ، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض ، وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله ، وليس للبشر فيها من شيء ، إلا أن يؤدوا واجبهم ، ويفوا ببيعتهم ، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم:
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . .
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس ، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ؛ وسؤالهم: هل لنا من الأمر من شيء . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة ، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة ، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة ، وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء:
قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . .
(1/43)
قل لو كنتم في بيوتكم ؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة ، وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل ، سعى صاحبه بقدميه إليه ، وجاء إلى مضجعه برجليه ، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !
ويا للتعبير العجيب . . "إلى مضاجعهم" . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب ، وأهدأ للنفس ، وأريح للضمير !
إنه قدر الله . ووراءه حكمته:
وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ، ويصهر ما في القلوب ، فينفي عنها الزيف والرياء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ، ليظهر على حقيقته ، وهو التطهير والتصفية للقلوب ، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل:
والله عليم بذات الصدور .
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور ، المختبئة فيها ، المصاحبة لها ، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ، ويكشفها لأصحابها أنفسهم ، فقد لا يعلمونها من أنفسهم ، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم !
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها ، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ ، واستزلهم فزلوا وسقطوا:
(1/44)
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه ، وهو الذي استزلهم الشيطان به . .
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة ، فتفقد ثقتها في قوتها ، ويضعف بالله ارتباطها ، ويختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس ، فيقودها إلى الزلة بعد الزلة ، وهي بعيدة عن الحمى الآمن ، والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله ، ويقوي صلتهم به ، ويعفي قلوبهم من الأرجحة ، ويطرد عنهم الوساوس ، ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ، ثغرة الانقطاع عن الله ، والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة ، حتى ينقطع بهم في التيه ، بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم ، فلم يدع الشيطان ينقطع بهم ، فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه ، والاتصال به ؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات:
(1/45)
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى -:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
(1/46)
إن قول الكافرين: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها:سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في "لو" و "لولا" و "يا ليت" و "وا أسفاه" !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد:
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . .
(1/47)
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .
ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين:
والله يحيي ويميت . .
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر:
والله بما تعملون بصير . . . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ؛ فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى ، واعتبارات أرقى في ميزان الله:
ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . .
(1/48)
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد ، وبهذا الاعتبار - خير من الحياة ، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار:من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ، ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق ، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .
وكلهم مرجوعون إلى الله ، محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض ، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة:موت أو قتل في الموعد المحتوم ، والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة ، أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال !
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة ، وما وراء الابتلاء من جزاء . .
وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة ، وفيما صاحبها من ملابسات (الظلال)
*****************
? أو الغرور بالعَدد أو العُدد كما حصل مع المسلمين في غزوة حنين حيث قال بعضهم لن نهزم من قوة:
(1/49)
قال تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْتُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {26} التوبة
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . . المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء ! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم .
(1/50)
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ [ صلى الله عليه وسلم ] من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين ؛ فسار بهم إلى العدو ؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له "حنين" فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول: إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله ويقول في تلك الحال: أنا النبي لا كذب .
(1/51)
أنا ابن عبدالمطلب وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون ؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته:يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم:يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة:يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون:يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله [صلى الله عليه وسلم ] - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمرهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية:
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . .
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .
(1/52)
ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين . .
وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدئ الإنفعالات الثائرة .
وأنزل جنودا لم تروها . .
فلا نعلم ماهيتها وطبيعتها . . وما يعلم جنود ربك إلا هو . .
وعذب الذين كفروا . بالقتل والأسر والسلب والهزيمة:
وذلك جزاء الكافرين . .
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم . .
فباب المغفرة دائما مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب .
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الإنشغال عن الله ، والإعتماد على قوة غير قوته ، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية . حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة . إن الكثرة العددية ليست بشئ ، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة . وإن الكثرة لتكون أحيانا سببا في الهزيمة ، لأن بعض الداخلين فيها ، التائهين في غمارها ، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها ، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة ؛ فيشيعون الإضطراب والهزيمة في الصفوف ، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في ثوثيق صلتهم بالله ، إنشغالا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة .
لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة ، لا بالزبد الذي يذهب جفاء ، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح ! (الظلال)
********************
? أو حب الدنيا وحطامها كما حدث مع المسلمين في معارك عدة :
ولكن أهم هذه المعارك معركة بلاط الشهداء ((114هـ)) فقد انتصر المسلمون في البداية انتصارات ساحقة على عدوهم ولكن العدو ترك لهم كثيرا من الغنائم والأسلاب فطمعوا بها وصار همهم المحافظة على الغنائم وليس سبيل الله تعالى فهزموا النهاية شر هزيمة لأن الغايات اختلفت والنوايا تبدلت ولا يمكن أن يفعل هذا من كان يرجو الله واليوم الآخر
? إصابة المسلمين بالوهن :
(1/53)
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ } أخرجه أبو داود
الوهن وباء خطير ومرض قاتل
يتعرض الفرد والمجتمع والأمة دائما وباستمرار إلى عوارض متعددة، وظروف طارئة، وتطورات كثيرة، وأمراض مختلفة، ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر الجديد، وبنيان الفرد والمجتمع، والعوامل المساعدة، وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض، ويزول بسرعة دون أن يترك أثرا ما، وقد يصاب الفرد بمرض معين، فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع، ولا تحس به الأمة، وقد يتحول المرض من الفرد إلى المجتمع، فيصبح مرضا قاتلا، ووباء فتاكا، ويكون أثره إزهاق الفرد، وإبادة الأمة وسحق المجتمع.
وإن أمراض الإنسان كثيرة، منها عضوية، ومنها نفسية ومنها اجتماعية، وهي في معظمها أمراض عامة لا تخص فردا أو مجتمعا أو أمة، فإذا حلت في فرد أو مجتمع أو أمة فلا بد أن تظهر أعراضها، وينتشر خطرها، ويحس بآلامها المصاب وغيره، وقد تفتك بالمريض، وتؤدي إلى العدوى، لتفتك بالمجموع.
(1/54)
ومن هنا تقوم الديانات السماوية، والمفكرون في كل أمة، والمصلحون في كل مجتمع، بمجابهة هذه الأمراض، ووصف الأدوية لها، بل يسارعون إلى التحذير منها لأخذ الوقاية والمناعة قبل أن تحل وتستشري بين الناس، لأن الوقاية خير من العلاج، وبذلك ينقذون أمتهم ومجتمعهم من الأخطار المحدقة، ويجنبون الأفراد ويلات تحيق بهم، وتهدد وجودهم.
ومن هذه الأمراض الفتاكة التي يشترك فيها الفرد والمجتمع، وتنذر الأمة بالويل والدمار مرض الوهن الذي بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعراضه وأسبابه، وحذر منه.
والوهن في اللغة العربية الضعف، سواء أكان ماديا أم معنويا، وسواء أكان في الفرد أم في المجتمع، من وهن يهن وهنا أي ضعف، ويقال وهن عظمه، واسم التفضيل أوهن، ويقال: وهن الرجل أي جبن عن لقاء عدوه، وهذا داخل في الضعف، وقد استعمل القرآن الكريم هذا المعنى في عدة آيات، فقال تعالى: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا} مريم/ 4، وقال تعالى: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} آل عمران / 146، وقال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} النساء/ 104 أي لا تجبنوا، وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} آل عمران / 139، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} لقمان / 14، وقال عز وجل: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} العنكبوت /41.
(1/55)
ولكن الوهن المقصود في هذا المقال هو مرض عضال، ووباء عام بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة وثوبان قالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قيل: يا رسول الله: فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير،ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
وهكذا يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الوهن الذي يبدأ من الفرد، وينتهي بالمجتمع، هذا المرض الذي يصيب الأمم والشعوب فيقضي عل كيانها، ويهدم وجودها، ويسقط هيبتها، ويمحو أثرها، ويزلزل أركانها، ويحطم دعائمها، فتهوى من عليائها وكرامتها واستعلائها إلى أن تركع أمام الأمم الأخرى، وتستخذل أمام الشعوب المجاورة، وتصبح لقمة سائغة للطامعين فيها، بل يكثر الأكلة حولها، ويجتمعون على اقتسامها والقضاء عليها، كما يجتمع الجياع حول الطعام ليتناولوه، ويأخذوه، ويقتسموه، فلا يرفعون أيديهم عنه، وفي القصعة أثر لوجوده.
(1/56)
هذا المرض بأعراضه وأسبابه يصيب الدول في القديم والحديث، ويؤدي إلى سقوطها وانهيارها، وهو اليوم مقيم بين المسلمين، وقد حط بكلكله عليهم، ونزل بهم الوهن منذ أمد، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر بعين الغيب (الذي يطلعه عليه الوحي) ويصور حال المسلمين، وقد تداعت عليهم الأمم الاستعمارية، والشعوب المعادية وتكالبت على أرضهم وبلادهم، وجزأت أوطانهم وديارهم، وسلبت نصيبا كبيرا وعزيزا من مقدساتهم، وتآمرت، ولا تزال تتآمر، عليهم في كل قطر وجانب، وتحيك لهم المؤامرة تلو المؤامرة للإطاحة بهم، وفرض الاستسلام عليهم، وضمان الاستذلال والاستسلام لهم، وتنوع عليهم أساليب الاستغلال والابتزاز لثرواتهم واقتصادهم، وتفرض عليهم الأفكار الخبيثة، والمبادئ البراقة، والقيم الدخيلة، والقوانين الوضعية، وتغزوهم فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا في عقر دارهم، وتتقاسمهم النفوذ ومناطق السيطرة، وتتقاذفهم ذات اليمين وذات اليسار، وتحفر لهم الحفر ليسقطوا فيها، وترى القطر الواحد يوما مع الشرق ويوما مع الغرب، وتارة يستورد أفكاره وقيمه ومواده وأسلحته من هنا، وتارة من هناك، والمسلمون اليوم في ضياع وتمزق، وتردد واضطراب، لا يعرفون ذاتا لأنفسهم، ولا يعلمون هوية لشخصيتهم، ويجهلون السفينة التي تحملهم، وهم نائمون عن الرياح التي تتقاذفهم، وقد تكسرت السواري، وسقطت الراية، وهم في بحر لجي، في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجوا أصابعهم لا يكادون يرونها من الحجب الكثيفة، والنظارات السوداء التي أحكم العدو ربطها على أعينهم، وشدد الخناق فيها على رقابهم، لكن أعدادهم كثيرة، وثرواتهم ضخمة، ومركزهم استراتيجي، وهم ملايين وملايين، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، لا قيمة له، ولا يثبت على حال، ويقذفه السيل إلى الحضيض، ولذلك فقدوا هيبتهم، وطمع بهم القريب والبعيد، والقوى والضعيف، وسامهم الذل والهوان على أيدي عصابات صهيون، وجنود المرتزقة، وتسلط العملاء.
(1/57)
حب الدنيا وكراهية الموت:
وقد شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فبين أنه الوهن، ثم شرح أعراضه الظاهرة وأسبابه القريبة والبعيدة، وهي حب الدنيا، والتعلق بها، والافتتان بزينتها، والسعي وراءها، والطمع فيها، وقصور الآمال عليها، واعتبارها المبدأ والمنتهى، والظن بالخلود فيها، وحب الاستزادة من البقاء فيها، وبالتالي كراهية الموت، لأنه يقطع هذه ا لآمال والأماني وكأن لسان حال القوم يردد سخافات الجاهلية من الدهريين وغيرهم، حين يقولون: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} المؤمنون/37، {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} الأنعام/ 29، {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} الجاثية / 24 .
إن المرض واحد، ولكن له وجهان متقابلان، وصفتان متلازمتان، وعرضان متحدان، وهما حب الدنيا وكراهية الموت، وهذان العرضان نشيطان ومؤثران، ويتركان الآثار العظيمة، والنتائج الخطيرة، ويدفعان إلى أعمال جمة.
فمن آثار حب الدنيا أن تبدأ من الفرد لتصل إلى المجتمع، فتصبغه بها، وينتشر الحرص على جمع المال، والانكباب على كسبه بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ويظهر التقاتل والتخاصم، والشح والبخل، والجشع والطمع، واللف والدوران في التعامل، والتحايل والتهرب، والسرقة والغصب، ثم يعقب ذلك التخاذل والجبن والخوف والاضطراب، والقلق الشديد من المستقبل.
ومن آثار كراهية الموت أن يعب الإنسان من طيبات الحياة ما استطاع إلى ذ لك سبيلا، وألا يعد للموت عدته، ولا يقدم شيئا أمامه، ويسرف في الملذات، ويسعى لإشباع الشهوات، وينقاد وراء الغرائز، ولو قتل نفسه بنفسه، ثم يهلك ذاته بيده.
(1/58)
ويشرح القرآن الكريم هذا المرض بشقيه، مبينا أثره وخطره وعاقبته، فيقول تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} التكاثر.
حقيقة الدنيا:
وإن حب الدنيا وكراهية الموت يعني أن الإنسان يجهل حقيقة الدنيا، ويغتر بمظاهرها، ويفتتن بمغرياتها، وأن صاحبها قصير النظر، كليل البصر، ينظر بين رجليه، ولا يستعد لأبعد من ذلك، ولا يهيء نفسه لمستقبل أيامه، ولا يدخر سلاحه وقوته لوقت حاجته، لذلك حرص القرآن الكريم على أن يكشف للمسلم حقيقة الدنيا، ويميط له اللثام عن مفاتنها، ويحذره من الاغترار فيها، وذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} الحديد/ 20. وقال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} آل عمران/ 14، ويبين القرآن حقيقة الحياة، ويحذر من فتنتها، فيقول تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} فاطر/ 5، كما يقرر القرآن الكريم أشياء كثيرة من زينة الحياة الدنيا، ثم يدعو الناس إلى عدم الوقوف عندها، ويطلب منهم تجاوزها إلى ما هو خير وأشمل، وأحسن وأدوم وأثمن وأبقى، فيقول تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} الكهف/46.
(1/59)
فالدنيا جميلة، وفيها من المسليات والملاهي الشيء الكثير، ولكن ذلك إلى زوال، وأن الحياة الحقيقية، والسعادة الحقة هي في الدار الآخرة، فيقول تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} العنكبوت/ 64، ثم يحذر الرسول الكريم من مفاتن الدنيا، والانشغال بمالها وخيراتها، والتنافس فيها، والغفلة عن الله والآخرة، فيقول عليه الصلاة والسلام في حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الدنيا، وهوانها عند الله تعالى، وأنه لا قدر لها إذ ا قصدت لذاتها، وإنما تظهر قيمتها إذا جعلت طريقا إلى الآخرة، ومزرعة للأعمال، فقال عليه الصلاة و السلام - فيما رواه الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء "، وحذر الرسول الكريم المؤمنين من استعباد الدنيا وزينتها لهم، فالعاقل لا يكون عبدا للدرهم والدينار، وإلا استحق السخط والغضب، يروي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، وهذه الآيات والأحاديث، وغيرها كثير، تحذير للمسلمين من الفتنة بالدنيا، والتعلق بها، والاغترار بزينتها، وليكون ذ لك وقاية لهم من الانغماس فيها، ولكن ذ لك لا يعني التخلي عن الدنيا وترك ما
(1/60)
فيها، واعتبارها نجسا كما يحلو لأتباع بعض الديانات المحرفة، بل الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الدنيا ميراث وتركة للمؤمن، ينفقها في سبيل الآخرة، ويشترى بها الدرجات العليا في الجنة، روى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة اذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك".
الاستعداد للموت:
(1/61)
وهذه النظرة الحقيقية للدنيا، وعدم التعلق بها، وسيلة تربوية حتى يكون المال وغيره في يد المؤمن والعاقل، وليس في قلبه، فلا يستأسره ويسيطر عليه، وإنما يستخدمه لنفع العباد والبلاد، ويسخر ما في يده من خير ليكون أمامه يوم الدين والحساب، وليبقى ذكرا له، وعملا نافعا، وأجرا دائما بعد وفاته، وأن الادخار والبخل، والاكتناز والشح لا يعود عليه بشيء، ولن يخلد في الدنيا، وسوف ينقل إلى القبر، ويدفن تحت التراب، ويبقى المال لغيره، ويكشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحقيقة، مبينا حظ الإنسان من ماله، فيما يرويه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت" ولذلك يستعد العاقل للموت، - ويهيئ له الأسباب المحمودة، فإن جاءه الموت كان عل خير حال، دون أن يغفل عن هذه الحقيقة التي تلازم البشرية، وأن الدنيا ليست مقرا ولا مستقرا، ولم يخلد فيها إنسان، والموت حق يقيني، ومهما جمع الإنسان في هذه الحياة، فإن متطلباته منها محدودة، وحصيلته مقررة، وانتفاعه محصور، والزائد عنه سيبقى لغيره من الأحياء، ويروح المرء إلى مصيره المحتوم شاء أم أبى، وإن أنفق ماله في الشر والإيذاء فسوف يحاسب عليه، وإن كان رشيدا أنفقه في الخير، واستعد لما بعد الموت، لما روي الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكيس (وفي رواية العاقل) من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"، وقد خلق الله الحياة ابتلاء للإنسان واختبارا له، ليستعد إلى لقاء ربه، ويغتنم الفرصة في حياته، لما رواه الإمام أحمد والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل
(1/62)
هرمك، وغناك قبل فقرك". وكان اليهود يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فوضعهم الله على المحك الحقيقي،وطلب منهم تمني الموت إن كانوا صادقين في لقاء الله، فقال تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} الجمعة/ 6.
وفي هذا التوجيه، والتربية الإسلامية يكون الإنسان سويا وقويا، ويضمن لنفسه العزة والكرامة، ويحقق لأمته النصر والحياة العزيزة، ويغرس في نفسه المناعة والوقاية من الوهن، ويطلب الموت لتوهب له الحياة، وينزع من قلبه حب الدنيا، ويضع الموت نصب عينيه ليحاسب نفسه قبل أن تحاسب، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وردنا إلى دينه ردا جميلا، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور/ محمد الزحيلي
? كراهية الموت كما حدث مع بني إسرائيل :
قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً {77} أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا {78} مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا {79} النساء
(1/63)
والعبرة الكلية التي تبرز من القصة كلها هي أن هذه الانتفاضة - انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف ، ومن تخلي القوم عنها فوجا بعد فوج في مراحل الطريق - على الرغم من هذا كله فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبني إسرائيل نتائج ضخمة جدا . . فقد كان فيها النصر والعز والتمكين ، بعد الهزيمة المنكرة ، والمهانة الفاضحة ، والتشريد الطويل والذي تحت أقدام المتسلطين . ولقد جاءت لهم بملك داود ، ثم ملك سليمان - وهذه أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض ، وهي عهدهم الذهبي الذي يتحدثون عنه ؛ والذي لم يبلغوه من قبل في عهد النبوة الكبرى . . وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لانتفاضة العقيدة من تحت الركام ؛ وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت !
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ؛ كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين:
(1/64)
من ذلك . . أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها . فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة . . فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل - من ذوي الرأي والمكانة فيهم - إلى نبيهم في ذلك الزمان ، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم ، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال ، وقال لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ! استنكروا عليه هذا القول ، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ؟ . . ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها ، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ؛ وكما يقول السياق بالإجمال: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم . . ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد ، والنكوص عن الوعد ، والتفرق في منتصف الطريق . . إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال ، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب . . وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل . . فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل .
(1/65)
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول . . فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم . ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها . وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة ، ووقوع علامة الله باختياره لهم ، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة . . . ! ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى . وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: فلما فصل طالوت بالجنود قال:إن الله مبتليكم بنهر:فمن شرب منه فليس مني . ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده - فشربوا منه إلا قليلا منهم . . وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية . فأمام الهول الحي ، أمام كثرة الأعداء وقوتهم ، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . . وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة . . اعتصمت بالله ووثقت ، وقالت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين . . وهذه هي التي رجحت الكفة ، وتلقت النصر ، واستحقت العز والتمكين .
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة . . وكلها واضحة في قيادة طالوت . تبرز منها خبرته بالنفوس ؛ وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة ، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى ، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة ، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه . . ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ؛ ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة . فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص ، ووعد الله الصادق للمؤمنين .
(1/66)
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة . . أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل ، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود . فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر ، كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . . ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف . إنما حكمت حكما آخر ، فقالت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين . . ثم اتجهت لربها تدعوه: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين ، إنما هو في يد الله وحده . فطلبت منه النصر ، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه . . وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا ، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح . وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون !
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة . فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة - تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ؛ وبقدر حاجته الظاهرة فيه . ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب ، في شتى المواقف ، على قدر مقسوم . . ( الظلال)
**************
? إيثار الفاني على الباقي :
قال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24} التوبة
(1/67)
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا ؛ فإما تجرد لها ، وإما انسلاخ منها . وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ؛ ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . .
كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة ، وهي المحركة والدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ؛ على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ؛ وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض . فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ؛ ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ؛ ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده ، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - . . وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب ، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة . وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في الله . فلله الولاية الأولى ، وفيها ترتبط البشرية جميعا ، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك ، والحبل مقطوع والعروة منقوضة .
ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . .
و الظالمون هنا تعني المشركين . فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان .
(1/68)
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ؛ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى:الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة [ وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج ] والأموال والتجارة [ مطمع الفطرة ورغبتها ] والمساكن المريحة [ متاع الحياة ولذتها ] . . وفي الكفة الأخرى:حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله . الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته . الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب ، وما يتبعه من تضييق وحرمان ، وما يتبعه من ألم وتضحية ، وما يتبعه من جراح واستشهاد . . وهو - بعد هذا كله - "الجهاد في سبيل الله" مجردا من الصيت والذكر
والظهور . مجردا من المباهاة ، والفخر والخيلاء . مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه . وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب . .
قل:إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها ، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره . . .
ألا إنها لشاقة . ألا وإنها لكبيرة . ولكنها هي ذاك . . وإلا:
فتربصوا حتى يأتي الله بأمره .
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين:
والله لا يهدي القوم الفاسقين . .
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، إنما تطالب به الجماعة المسلمة ، والدولة المسلمة . فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله .
(1/69)
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف ، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال ؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها . . لذة الشعور بالاتصال بالله ، ولذة الرجاء في رضوان الله ، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط ، والخلاص من ثقلة اللحم والدم ، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء . فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك . (الظلال)
***************
? التثاقل إلى الأرض والرضا بالدون:
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} التوبة
إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: اثاقلتم . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه: اثاقلتم إلى الأرض . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .
(1/70)
إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ صلى الله عليه وسلم ] - من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .
ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد:
إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، واللّه على كل شيء قدير . .
والخطاب لقوم معينين في موقف معين . ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في اللّه . والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده ، فهو كذلك عذاب الدنيا . عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح ، والغلبة عليهم للأعداء ، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين ؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد ؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء . وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل ، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء . . ويستبدل قوماً غيركم . .
يقومون على العقيدة ، ويؤدون ثمن العزة ، ويستعلون على أعداء اللّه:
ولا تضروه شيئاً . .
ولا يقام لكم وزن ، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب !
(1/71)
واللّه على كل شيء قدير . . لا يعجزه أن يذهب بكم ، ويستبدل قوماً غيركم ، ويغفلكم من التقدير والحساب !
إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس ، إثبات للوجود الإنساني الكريم . فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة:وإن التثاقل إلى الأرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم . فهو فناء في ميزان اللّه وفي حساب الروح المميزة للإنسان . ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء: (الظلال)
****************
? تخليهم عن دينهم وتفرقهم وتماسك أعدائهم وقوتهم:
فقد تخلى المسلمون عن دينهم في عصرنا هذا فلم يعد الدين هو المهيمن على الحياة وإنما يهيمن على الحياة هو الكفر والفسوق والعصيان ، فعلى أي أساس سينصرنا الله ؟ وقد تخلينا عن مصدر عزتنا ورفعتنا وقوتنا و قيمتنا ؟
فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ أَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَأَخَذَ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ , فَقَالُوا لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , تَلْقَاك الْجُنُودُ وَبِطَارِقَةِ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ , قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ , فَلَنْ نَلْتَمِسُ الْعِزَّ بِغَيْرِهِ . أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم
(1/72)
وفي قصة السعدين مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب عندما أراد أن يعطي بعض القبائل جزء من ثمار المدينة حتى يتركوا القتال فقَدْ صَالَحَ صلى الله عليه وسلم عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَغَيْرَهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى نِصْفِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ , حَتَّى لَمَّا شَاوَرَ الْأَنْصَارَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهُوَ أَمْرٌ أَمَرَك اللَّهُ بِهِ أَمْ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا بَلْ هُوَ رَأْيٌ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهُمْ عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ مَا فَقَالَ السَّعْدَانِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهَا مِنَّا إلَّا قِرًى وَشِرًى وَنَحْنُ كُفَّارٌ , فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ؟ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَشَقَاءَ الصَّحِيفَةِ }
(1/73)
وقال تعالى واصفا المسلمين الصادقين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {57} المائدة
وقال تعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {29}الفتح
وقد كان حال المسلمين يوم القادسية هكذا
ففي تاريخ الطبري ج: 2 ص: 400 فما بعد
(1/74)
كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال لما نزل رستم على العتيق وبات به أصبح غاديا على التصفح والحزر فساير العتيق نحو خفان حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل القوم حتى أتى على شيء يشرف منه عليهم فلما وقف على القنطرة راسل زهرة فخرج إليه حتى واقفه فأراده أن يصالحهم ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول فيما يقول أنتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جوارهم ونكف الأذى عنهم ونوليهم المرافق الكثيرة نحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم من التجارة في شيء من أرضنا وقد كان لهم في ذلك معاش يعرض لهم بالصلح وإنما يخبره بصنيعهم والصلح يريد ولا يصرح فقال له زهرة صدقت قد كان ما تذكر وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولا فدعانا إلى ربه فأجبناه فقال لنبيه إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فأنا منتقم بهم منهم وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ولا يعتصم به أحد إلا عز فقال له رستم وما هو قال أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء من عند الله تعالى قال ما أحسن هذا وأي شيء أيضا قال وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى قال حسن وأي شيء أيضا قال والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم قال ما أحسن هذا ثم قال له رستم أرأيت لو أني
(1/75)
401 ... رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون قال إي والله ثم لا نقرب بلادكم أبدا إلا في تجارة أو حاجة قال صدقتني والله أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم فقال له زهرة نحن خير الناس للناس فلا نستطيع أن نكون كما تقولون نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا فقال أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبننا فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة فكان إسلامي وكنت له عديدا وفرض لي فرائض أهل القادسية كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله قالوا وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الواثلي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي وكان من دهاة العرب فقال إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم فما عندكم قالوا جميعا نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به فقال سعد هذا فعل الحزمة اذهبوا فتهيؤوا فقال ربعي بن عامر إن الأعاجم لهم آراء وآداب ومتى نأتهم جميعا يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل فمالؤوه جميعا على ذلك فقال فسرحوني فسرحه فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره فاحتبسه الذين على القنظرة وأرسل إلى رستم لمجيئه فاستشار عظماء أهل فارس فقال ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون فأظهروا الزبرج وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئا ووضع لرستم سرير الذهب وألبس زينته من الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب وأقبل ربعي يسير على فرس له زباء قصيرة معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق ورمحه معلوب بقد معه حجفة من جلود البقر على وجهها
(1/76)
أديم أحمر مثل الرغيف ومعه قوسه ونبله فلما غشي الملك وانتهى إليه وإلى أدنى البسط قيل له انزل فحملها على البساط فلما استوت عليه نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم أدخل الحبل فيهما فلم يستطيعوا أن ينهوه وإنما أروه التهاون وعرف ما أرادوا فأراد استحراجهم وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره قد جابها وتدرعها وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته وكان أكثر العرب شعرة ومعجرته نسعة بعيره ولرأسه أربع ضفائر قد قمن قياما كأنهن قرون الوعلة فقالوا ضع سلاحك فقال إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت فأخبروا رستم فقال ائذنوا له هل هو إلا رجل واحد فأقبل يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه منهتكا مخرقا فلما دنا من رستم تعلق به الحرس وجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط فقالوا ما حملك على هذا قال إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه فقال ما جاء بكم قال الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله قال وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه
(1/77)
402 ... وتنظروا قال نعم كم أحب إليكم أيوما أو يومين قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا وأراد مقاربته ومدافعته فقال إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئتمنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى قال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم فخلص رستم برؤساء أهل فارس فقال ما ترون هل رأيتم كلاما قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل قالوا معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب أما ترى إلى ثيابه فقال ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه فقال لهم هل لكم إلى أن تروني فأريكم فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار فقال القوم اغمده فغمده ثم رمى ترسا ورموا حجفته فخرق ترسهم وسلمت حجفته فقال يا أهل فارس إنك عظمتم الطعام واللباس والشراب وإنا صغرناهن ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن فأقبل في نحو من ذلك الزي حتى إذا كان على أدنى البساط قيل له انزل قال ذلك لو جئتكم في حاجتي فقوولا لملككم أله الحاجة أم لي فإن قال لي فقد كذب ورجعت وتركتكم فإن قال له لم آتكم إلا على ما أحب فقال دعوه فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره فقال انزل قال لا أفعل فلما أبى سأله ما بالك جئت ولم يجئ
(1/78)
صاحبنا بالأمس قال إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي قال ما جاء بكم قال إن الله عز وجل من علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليها قبلناها الإسلام وننصرف عنكم أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك أو المنابذة فقال أو الموادعة إلى يوم ما فقال نعم ثلاثا من أمس فلما الم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه فقال ويحكم ألا ترون إلى ما أرى جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به فهو في يمن الطائر ذهب بأرضنا وما فيها إليهم مع فضل عقله وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا فهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا حتى أغضبهم وأغضبوه فلما كان من الغد أرسل ابعثوا إلينا رجلا فبعثوا إليهم المغيرة بن شعبة كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان النهدي قال لما جاء المغيرة إلى القنطرة فعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستم في إجازته ولم يغيروا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليهم غلوة وأقبل المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره ووسادته فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه فقال كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من
(1/79)
403 ... الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ولم آتكم ولكن دعوتموني اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول فقالت السفلة صدق والله العربي وقالت الدهاقين والله لقدرمى بكلام بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع وقال له يا عربي إن الحاشية قد تصنع ما لا يوافق الملك فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك فالأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق ما هذه المغازل التي معك قال ما ضر الجمرة ألا تكون طويلة ثم راماهم وقال ما بال سيفك رثا قال رث الكسوة حديد المضربة ثم عاطاه سيفه ثم قال له رستم تكلم أم أتكلم فقال المغيرة أنت الذي بعثت إلينا فتكلم فأقام الترجمان بينهما وتكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وطوله وقال لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافا في الأمم فليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين أو الشهر والشهرين للذنوب فإذا انتقم الله فرضي رد إلينا عزنا وجمعنا لعدونا شر يوم هو آت عليهم ثم إنه لم يكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ولا نعدكم وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استغثتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بالسيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل رجل منكم بوقر تمر وبثوبين وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم فتكلم المغيرة بن شعبة فحمد الله وأثنى عليه وقال إن الله خالق كل شيء ورازقه فمن صنع شيئا فإنما هو الذي يصنعه هو له وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على ا لأعداء والتمكن في
(1/80)
البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولسنا ننكره فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه ولسنا ننكره والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ولم يزل أهل رخائها يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر كان شكركم يقصر عما أوتيتم وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه أو كنتم تعرفوننا به إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا ثم ذكر مثل الكلام الأول حتى انتهى إلى قوله وإن احتجت إلينا أن نمنعك فكن لنا عبدا تؤدي الجزية عن يد وأنت صاغر وإلا فالسيف إن أبيت فنخر نخرة واستشاط غضبا ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غدا حتى أقتلكم أجمعين فانصرف المغيرة وخلص رستم تألفا بأهل فارس وقال أين هؤلاء منكم ما بعد هذا ألم يأتكم الأولان فحسراكم واستحرجاكم ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن كان بلغ من إربهم وصونهم لسرهم ألا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم لئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا وقال والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رئاء فازداودا لجاجة
(1/81)
404 ... كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال فأرسل مع المغيرة رجلا وقال له إذا قطع القنطرة ووصل إلى أصحابه فناد إن الملك كان منجما قد حسب لك ونظر في أمرك فقال إنك غدا تفقأ عينك ففعل الرسول فقال المغيرة بشرتني بخير وأجر ولولا أن أجاهد بعد اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت أيضا فرآهم يضحكون من مقالته ويتعجبون من بصيرته فرجع إلى الملك بذلك فقال أطيعوني يا أهل فارس وإني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم وكانت خيولهم تلتقي على القنطرة لا تلتقي إلا عليها فلا يزالون يبدؤون المسلمين والمسلمون كافون عنهم الثلاثة الأيام لا يبدؤونهم فإذا كان ذلك منهم صدوهم وردعوهم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال كان ترجمان رستم عن أهل الحيرة يدعى عبود كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن مجالد عن الشعبي وسعيد بن المرزبان قالا دعا رستم بالمغيرة فجاء حتى جلس على سريره ودعا رستم ترجمانه وكان عربيا من أهل الحيرة يدعى عبود فقال له المغيرة ويحك يا عبود أنت رجل عربي فأبلغه عني إذا أنا تكلمت كما تبلغني عنه فقال له رستم مثل مقالته وقال له المغيرة مثل مقالته إلى إحدى ثلاث خلال إلى الإسلام ولكم فيه ما لنا وعليكم فيه ما علينا ليس فيه تفاضل بيننا أو الجزية عن يد وأنتم صاغرون قال ما صاغرون قال أن يقوم الرجل منكم على رأس أحدنا بالجزية يحمده أن يقبلها منه إلى آخر الحديث والإسلام أحب إلينا منهما كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن عبيدة عن شقيق قال شهدت القادسية غلاما بعد ما احتلمت فقدم سعد القادسية في اثني عشر ألفا وبها أهل الأيام قدمت علينا مقدمات رستم ثم زحف إلينا في ستين ألفا فلما أشرف رستم على العسكر قال يا معشر العرب ابعثوا إلينا رجلا يكلمنا ونكلمه فبعث إليه المغيرة بن شعبة ونفرا فلما أتوا رستم جلس المغيرة على السرير فنخر أخو رستم
(1/82)
فقال المغيرة لا تنخر فما زادني هذا شرفا ولا نقص أخاك فقال رستم يا مغيرة كنتم أهل شقاء حتى بلغ وإن كان لكم أمر سوى ذلك فأخبرونا ثم أخذ رستم سهما من كنانته وقال لا تروا أن هذه المغازل تغني عنكم شيئا فقال المغيرة مجيبا له فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال فكان مما رزقنا الله على يديه حبة تنب في أرضكم هذه فلما أذقناها عيالنا قالوا لا صبر لنا عنها فجئنا لنطعمهم أو نموت فقال رستم إذا تموتون أو تقتلون فقال المغيرة إذا يدخل من قتل منا الجنة ويدخل من قتلنا منكم النار ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم فنحن نخيرك بين ثلاث خلال إلى آخر الحديث فقال رستم لا صلح بيننا وبينكم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وزياد قالوا أرسل إليهم سعد بقية ذوي الرأي جميعا وحبس الثلاثة فخرجوا حتى أتوه ليعظموا عليه استقباحا فقالوا له إن أميرنا يقول لك إن الجوار يحفظ الولاة وإني أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك العافية أن تقبل ما دعاك الله إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض إلا أن داركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم واتق الله يا رستم ولا يكونن هلاك قومك على يديك فإنه ليس بينك وبين أن تغبط به إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك فقال إني قد كلمت منكم
(1/83)
405 ... نفرا ولو أنهم فهموا عني رجوت أن تكونوا قد فهمتم وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم تبصروا إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة وقشف في الهيئة لا تمتنعون ولا تنتصفون فلم نسئ جواركم ولم ندع مواساتكم تقحمون المرة بعد المرة فنميركم ثم نردكم وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم فلما تطاعمتم بطعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم لقومكم فدعوتموهم ثم أتيتمونا بهم وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال وما ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعن عليه سد عليهن صاحب الكرم الجحر الذي كن يدخلن منه فقتلهن وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع والجهد فارجعوا عنا عامكم هذا وامتاروا حاجتكم ولكم العود كلما احتجتم فإني لا أشتهي أن أقتلكم كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن عمارة بن القعقاع الضبي عن رجل من يربوع شهدها قال وقال وقد أصاب أناس كثير منكم من أرضنا ما أرادوا ثم كان مصيرهم القتل والهرب ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم وخرج مما كان أصاب ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الجرة ثقب فدخل الأول فأقام فيها وجعل الأخر ينقلن منها ويرجعن ويكلمنه في الرجوع فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله فضاق عليه الحجر ولم يطق الخروج فشكا القلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقلن له ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل فكف وجوع نفسه وبقي في الخوف حتى إذا عاد كما كان قبل أن يدخلها أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا ولا يكونن هذا لكم مثلا كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن النضر عن ابن الرفيل عن أبيه قال وقال لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ولا أضر ما خلاكم يا معشر العرب ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع وسأضرب لكم مثلكم إن الذباب إذا رأى العسل طار وقال من
(1/84)
يوصلني إليه وله درهما حتى يدخله لا ينهنهه أحد إلا عصاه فإذا دخله غرق ونشب وقال من يخرجني وله أربعة دراهم وقال أيضا إنما مثلكم مثل ثعلب دخل جحرا وهو مهزول ضعيف إلى كرم فكان فيه يأكل ما شاء الله فرآه صاحب الكرم ورأى ما به فرحمه فلما طال مكثه في الكرم وسمن وصلحت حاله وذهب ما كان به من الهزال أشر فجعل يعبث بالكرم ويفسد أكثر مما يأكل فاشتد على صاحب الكرم فقال لا أصبر على هذا من أمر هذا فأخذ له خشبة واستعان عليه غلمانه فطلبوه وجعل يراوغهم في الكرم فلما رأى أنهم غير مقلعين عنه ذهب ليخرج من الجحر الذي دخل منه فنشب اتسع عليه وهو مهزول وضاق عليه وهو سمين فجاءه وهو على تلك الحال صاحب الكرم فلم يزل يضربه حتى قتله وقد جئتم وأنتم مهازيل وقد سمنتم شيئا من سمن فانظروا كيف تخرجون وقال أيضا إن رجلا وضع سلا وجعل طعامه فيه فأتى الجرذان فخرقوا سله فدخلوا فيه فأراد سده فقيل له لا تفعل إذا يخرقنه ولكن انقب بحياله ثم اجعل فيها قصبة مجوفة فإذا جاءت الجرذان دخلن من القصبة وخرجن منها فكلما طلع عليكم جرذ قتلتموه وقد سددت عليكم فإياكم أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحد إلا قتل وما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عددا ولا عدة كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة بإسنادهما وزياد معهما قالوا فتكلم القوم
(1/85)
406 ... فقالوا أما ما ذكرتم من سوء حالنا فيما مضى وانتشار أمرنا فلما تبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ويبقى الباقي منا في بؤس فبينا نحن في أسوإ ذلك بعث الله فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن رحمة رحم بها من أراد رحمته ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته فبدأ بنا قبيلة قبيلة فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنارا لما جاء به ولا أجهد على قتله ورد الذي جاء به من قومه ثم الذين يولنهم حتى طابقناه على ذلك كلنا فنصبنا له جميعا وهووحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطي الظفر علينا فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتانا به من الآيات المعجزة وكان مما أتانا به من عند ربنا جهاد الأدنى فالأدنى فسرنا بذلك فيما بيننا نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا يخرم عنه ولا ينقض حتى اجتمعت العرب على هذا وكانوا من اختلاف الرأي فيما لا يطيق الخلائق تأليفهم ثم أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ لأمره وننتجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وحكمه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا نصيحتنا فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب من صلحكم وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن أداتنا الطاعة وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنك مضربتم للرجال والأمور الجسام وللجد الهزل ولكنا سنضرب مثلكم إنما مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب وفي الجنان بمثل ذلك فأطال نظرتهم فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولا لهؤلاء يملكونهم
(1/86)
ولا يملكون عليهم فيسومونهم الخسف أبدا ووالله أن لو لم يكن ما نقول لك حقا ولم يكن إلا الدنيا لما كان لنا عما ضرينا به من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم من صبر ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه فقال رستم أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا فخرجوا من عنده عشيا وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فأرسل إليهم لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم تكلفوا معبرا غير القناطر فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم يوم أرماث كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد عن عبيدالله عن نافع وعن الحكم قالا لما أراد رستم العبور أمر بسكر العتيق بحيال قادس وهو يومئذ أسفل منها اليوم مما يلي عين الشمس فباتوا ليلتهم حتى الصباح يسكرون العتيق بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقا واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن ممد وطلحة وزياد بإسنادهم قالوا ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء فاستيقظ مهموما محزونا فدعا خاصته فقصها عليهم وقال إن الله ليعظنا لو أن فارس تركوني أتعظ أما ترون النصر قد رفع
(1/87)
407 ... عنا وترون الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق ثم هم يريدون مغالبة بالجبرية فعبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن الأعمش قال لما كان يوم السكر لبس رستم درعين ومغفرا وأخذ سلاحه وأمر بفرسه فأسرج فأتي به فوثب فإذا هو عليه لم يمسه ولم يضع رجله في الركاب ثم قال غدا ندقهم دقا فقال له رجل إن شاء الله فقال وإن لم يشأ كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم قالوا قال رستم إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد يذكرهم موت كسرى ثم قال لأصحابه قد خشيت أن تكون هذه سنة القرود ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم وجلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال وفي المجنبيتن ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال وأقام الجالنوس بينه وبين ميمنته والبيرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان يزدجرد وضع رجلا على باب إيوانه إذ سرح رستم وأمره بلزومه وإخباره وآخر حيث يسمعه من الدار وآخر خارج الدار وكذلك على كل دعوة رجلا فلما نزل رستم قال الذي بساباط قد نزل فقاله الآخر حتى قاله الذي على باب الإيوان وجعل بين كل مرحلتين على كل دعوة رجلا فكلما نزل وارتحل أو حدث أمر قاله فقاله الذي يليه حتى يقوله الذي يلي باب الإيوان فنظم ما بين العتيق والمدائن رجالا وترك البرد وكان ذلك هو الشأن وأخذ المسلمون مصافهم وجعل زهرة وعاصم بين عبدالله وشرحبيل ووكل صاحب الطلائع بالطراد وخلط بين الناس في القلب والمجنبات ونادى مناديه ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله يا أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس به حبون فإنما هو على وجهه في صدره وسادة هو مكب عليها مشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل
(1/88)
منه وكان الصف إلى جنب القصر وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن القاسم بن الوليد الهمداني عن أبيه عن أبي نمران قال لما عبر رستم تحول زهرة والجالنوس فجعل سعد زهرة مكان ابن السمط وجعل رستم الجالنوس مكان الهرمزان وكان بسعد عرق النسا ودماميل وكان إنما هو مكب واستخلف خالد بن عرفطة على الناس فاختلف عليه الناس فقال احملوني وأشرفوا بي على الناس فارتقو به فأكب مطلعا عليهم والصف في أصل حائط قديس يأمر خالدا فيأمر خالد الناس وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس فهم بهم سعد وشتمهم وقال أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم فحبسهم ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر وقال جرير أما إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدا حبشيا وقال سعد والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سنت به سنة يؤخذ بها من بعدي
فهل حالنا كذلك ؟
وهذه رسالة ملك الصين يرد بها على رسالة يزدجرد :
(1/89)
قالوا ولما عبر خاقان النهر وعبرت معه حاشية آل كسرى أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعث إلى ملك الصين وأهدي إليه معه هدايا ومعه جواب كتابه من ملك الصين فسألوه عما وراءه فقال لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون وأراهم هديته وأجاب يزدجرد فكتب إليه بهذا الكتاب بعد ما كان قال لي قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإنني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم فقلت سلني عما أحببت فقال أيوفون بالعهد قلت نعم قال وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم قلت يدعوننا إلى واحدة من ثلاث إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم أو الجزية والمنعة أو المنابذة قال فكيف طاعتهم أمراءهم قلت أطوع قوم لمرشدهم قال فما يحلون وما يحرمون فأخبرته فقال أيحرمون ما حلل لهم أو يحلون ما حرم عليهم قلت لا قال فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم ثم قال أخبرني عن لباسهم فأخبرته وعن مطاياهم فقلت الخيل العراب ووصفتها فقال نعمت الحصون هذه ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها فقال هذه صفة دواب طوال الأعناق وكتب معه إلى يزدجرد كتابا إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلي سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ولا تهجهم ما لم يهيجوك
وهذه رسالة قتيبة بن مسلم إلى ملك الصين :
ففي البداية والنهاية ج: 9 ص: 140
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
(1/90)
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَاشْغَرَ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ، سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَبَعَثَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ رُسُلًا يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ، وَيَخْتِمَ مُلُوكَهُمْ وَأَشْرَافَهُمْ، وَيَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ فِيهَا وَهُوَ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ يُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهَا تِسْعِينَ بَابًا فِي سُورِهَا الْمُحِيطِ بِهَا يُقَالُ لَهَا: خَانُ بَالِقَ. مِنْ أَعْظَمِ الْمُدُنِ، وَأَكْثَرِهَا رَيْعًا، وَمُعَامَلَاتٍ وَأَمْوَالًا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ بِلَادَ الْهِنْدِ مَعَ اتِّسَاعِهَا كَالشَّامَةِ فِي مُلْكِ الصِّينِ. وَالصِّينُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَافِرُوا فِي مُلْكِ غَيْرِهِمْ; لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ; لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَسَائِرُ مُلُوكِ تِلْكَ الْبِلَادِ تُؤَدِّي إِلَى مَلِكِ الصِّينَ الْخَرَاجَ; لِقَهْرِهِ وَكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَعُدَدِهِ.
(1/91)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى مَلِكِ الصِّينِ وَجَدُوا مَمْلَكَةً عَظِيمَةً، وَجُنْدًا كَثِيرًا، وَمَدِينَةً حَصِينَةً ذَاتَ أَنْهَارٍ وَأَسْوَاقٍ، وَحُسْنٍ وَبَهَاءٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي قَلْعَةٍ عَظِيمَةٍ حَصِينَةٍ، بِقَدْرِ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُ الصِّينِ: مَا أَنْتُمْ؟ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَسُولٍ عَلَيْهِمْ هُبَيْرَةُ فَقَالَ الْمَلِكُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ وَمَا تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدْعُوكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَالْحَرْبُ. فَغَضِبَ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ بِهِمْ إِلَى دَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي عِبَادَةِ إِلَهِكُمْ؟ فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا رَكَعُوا وَسَجَدُوا ضَحِكَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؟ فَلَبِسُوا ثِيَابَ مِهَنِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَدْخُلُونَ عَلَى مُلُوكِكُمْ؟ فَلَبِسُوا الْوَشْيَ وَالْعَمَائِمَ وَالْمَطَارِفَ، وَدَخَلُوا عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا. فَرَجَعُوا فَقَالَ الْمَلِكُ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أَشْبَهُ بِهَيْئَةِ الرِّجَالِ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُمْ أُولَئِكَ.
(1/92)
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ ؟ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ سِلَاحَهُمْ وَلَبِسُوا الْمَغَافِرَ وَالْبَيْضَ، وَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ، وَتَنْكَبُّوا الْقِسِيَّ، وَأَخَذُوا الرِّمَاحَ، وَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَمَضَوْ ا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الصِّينِ فَرَأَى أَمْثَالَ الْجِبَالِ مُقْبِلَةً، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: ارْجِعُوا وَذَلِكَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَ أَهْلِ الصِّينِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ فَانْصَرَفُوا فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ، وَاخْتَلَجُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ سَاقُوا خُيُولَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ بِهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ تَرَوْنَهُمْ ؟ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ قَطُّ.
(1/93)
فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ إِلَيْهِمْ الْمَلِكُ; أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ زَعِيمَكُمْ وَأَفْضَلَكُمْ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي وَأَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي، وَأَنَا سَائِلُكُ عَنْ أَمْرٍ فَإِنْ لَمْ تَصْدُقْنِي قَتَلْتُكَ. فَقَالَ: سَلْ. فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ مِنْ زِيٍّ أَوَّلَ يَوْمٍ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ؟ فَقَالَ: أَمَّا زِيُّنَا أَوَّلَ يَوْمٍ فَهُوَ لِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا وَنِسَائِنَا، وَطِيبُنَا عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا فَعَلْنَا ثَانِيَ يَوْمٍ فَهُوَ زِيُّنَا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مُلُوكِنَا، وَأَمَّا زِيُّنَا ثَالِثَ يَوْمٍ فَهُوَ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: مَا أَحْسَنَ مَا دَبَّرْتُمْ دَهْرَكُمْ! انْصَرِفُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ يَعْنِي قُتَيْبَةَ وَقُولُوا لَهُ: يَنْصَرِفُ رَاجِعًا عَنْ بِلَادِي; فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حِرْصَهُ وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ يُهْلِكُكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ. فَقَالَ لَهُ هُبَيْرَةُ: تَقُولُ لِقُتَيْبَةَ هَذَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟! وَكَيْفَ يَكُونُ حَرِيصًا مَنْ خَلَّفَ الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَيْهَا، وَغَزَاكَ فِي بِلَادِكَ؟! وَأَمَّا تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا بِالْقَتْلِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا أَجَلًا إِذَا حَضَرَ، فَأَكْرَمُهَا عِنْدَنَا الْقَتْلُ فَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نَخَافُهُ.
(1/94)
فَقَالَ الْمَلِكُ: فَمَا الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكَ، وَيَخْتِمَ مُلُوكَكَ، وَيَجْبِيَ الْجِزْيَةَ مِنْ بِلَادِكَ. فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَبِرُّ يَمِينَهُ وَأُخْرِجُهُ مِنْهَا; أُرْسِلُ إِلَيْهِ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، وَأَرْبَعِ غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ذَهَبًا كَثِيرًا، وَحَرِيرًا وَثِيَابًا صِينِيَّةً لَا تُقَوَّمُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ قَدْرَهَا، ثُمَّ جَرَتْ لَهُمْ مَعَهُ مُقَاوَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ شَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَتَهَدَّدُوهُ، وَيَتَوَعَّدَهُمْ فَتَوَعَّدُوهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ بَعَثَ صِحَافًا مَنْ ذَهَبٍ مُتَّسِعَةً، فِيهَا تُرَابٌ مِنْ أَرْضِهِ لِيَطَأَهُ قُتَيْبَةُ، وَبَعَثَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ لِيَخْتِمَ رِقَابَهُمْ، وَبَعَثَ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِيَبِرَّ بِيَمِينِ قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قُتَيْبَةَ مَا أَرْسَلَهُ مَلِكُ الصِّينِ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ;
وقال الطبري في حوادث سنة ست وتسعين
(1/95)
قال ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفا من سليمان فلما عبر النهر استعمل رجلا من مواليه يقال له الخوارزمي على مقطع النهر وقال لا يجوزن أحد إلا بجواز ومضى إلى فرغانة وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة قال فأخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس قال قال إياس بن زهير لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك وبني الأكابر معي ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز وليس عندهم من يقوم بأمرهم فإن رأيت أن تكتب لي كتابا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي فكتب فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر فألويت بيدي فجاء قوم في سفينة فقالوا من أنت أين جوازك فأخبرتهم فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل فأخبروه قال ثم رجعوا إلى فحملوني فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع فرميت بنفسي فسألني عن الأمر وأنا آكل لا أجيبه فقال هذا أعرابي قد مات من الجوع ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو فحملت أمي ورجعت أريد العسكر وجاءنا موت الوليد فانصرفت إلى مرو وقال
وأخبرنا أبو مخنف عن أبيه قال بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاشغر فسبى منها سبيا فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة ثم رجع قتيبة وجاءهم موت الوليد
(1/96)
قال وأخبرنا يحيى بن زكرياء الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان والحكم بن عثمان قال حدثني شيخ من أهل خراسان قال وغل قتيبة حتى قرب من الصين قال فكتب إلى ملك الصين أن ابعث إلينا رجل من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسائله عن دينكم فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشر رجلا وقال بعضهم عشرة من أفناء القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه فكلمهم قتيبة وفاطنهم فرأى عقولا وجمالا فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم ودواب يركبونها قال وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوها بسيط اللسان فقال يا هبيرة كيف أنت صانع قال أصلح الله الأمير قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به قال سيروا على بركة الله وبالله التوفيق لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم قال فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم فدخلوا الحمام ثم خرجوا فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل ثم مسوا الغالية وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته فجلسوا فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا فقال الملك لمن حضره كيف رأيتم هؤلاء قالوا رأينا قوما ما هم إلا نساء ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده قال فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه فلما دخلوا عليه قيل لهم ارجعوا فقال لأصحابه كيف رأيتم هذه الهيئة قالوا هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك
(1/97)
32 ... الأولى وهم أولئك فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وتقلدوا السيوف وأخذوا الرماح وتنكبوا القسي وركبوا خيولهم وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة فلما دنوا ركزوا رماحهم ثم أقبلوا نحوهم مشمرين فقيل لهم قبل أن يدخلوا ارجعوا لما دخل قلوبهم من خوفهم قال فانصرفوا فركبوا خيولهم واختلجوا رماحهم ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها فقال الملك لأصحابه كيف ترونهم قالوا ما رأينا مثل هؤلاء قط فلما أمسى أرسل إليهم الملك أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلا فبعثوا إليه هبيرة فقال له حين دخل عليه قد رأيتم عظيم ملكي وإنه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في بلادي وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم قال سل قال لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث قال أما زينا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا قال ما أحسن ما دبرتم دهركم فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه قال له كيف يكون قليل الأصحاب من خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه قال فما الذي يرضي صاحبك قال إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية قال فإنا نخرجه من يمينه نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها قال فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ثم أجازهم فأحسن جوائزهم فساروا فقدموا بما بعث به فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمة وردهم ووطىء التراب
(1/98)
فقال سوادة بن عبد الله السلولي
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم للصين إن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم ورهائن دفعت بحمل سمرج
أدى رسالتك التي استرعيته وأتاك من حنث اليمين بمخرج
*************
? التمحيص :
فلا بد من التمحيص حتى لا يدخل أي واحد في هذا الدين قال تعالى { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3} أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ {4} مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {5} وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {6} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ {7} العنكبوت
وقال تعالى مخاطبا الصحابة بعد أحد { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {143}آل عمران
(1/99)
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس:آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب . هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت ، وسنة جارية ، في ميزان الله سبحانه:
ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . .
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ؛ ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله ، مغيب عن علم البشر ؛ فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب ، وعدل من جانب ، وتربية للناس من جانب ، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره ، وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه ! .
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .
(1/100)
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة ، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى .
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش غريب طريد .
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة ، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها ، متحضرة في حياتها ، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية ، وهي مشاقة لله !
(1/101)
وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض ، وثقلة اللحم والدم ، والرغبة في المتاع والسلطان ، أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه ، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس ، وفي ملابسات الحياة ، وفي منطق البيئة ، وفي تصورات أهل الزمان !
فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان .
وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء ، وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ؛ وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام ، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه ، وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ؛ وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات ، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ؛ وأقواها طبيعة ، وأشدها اتصالا بالله ، وثقة فيما عنده من الحسنيين:النصر أو الأجر ، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .
(1/102)
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ؛ وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ؛ وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه ، ومن راحته واطمئنانه ، ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ؛ يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ؛ فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء: جاء في الصحيح: أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء . . ( الظلال)
****************
? عدم تحمله مصيبة ألمت به وذلك لضعف إيمانه بالله تعالى وقلة يقينه:
انظر إليه عندما يصاب بمصيبة قال تعالى { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً {11} الإسراء
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان!
(1/103)
وقد يلجأ بعض الناس الذين لا يتحملون المصائب إلى الانتحار وهو من أكبر الكبائر قال تعالى { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {29} وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا {30} النساء
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .
. { وكان ذلك على الله يسيراً } فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه عن الوقوع!
**************
ومن هنا فقد أمرنا الإسلام بالصبر عند الوهلة الأولى للمصيبة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى ». قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّى فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى ». أخرجه البخاري
وقال تعالى مبينا ان الابتلاء لا بد منه وأنه الصبر هو الواجب في مثل هذه الأحوال
{
(1/104)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} البقرة
لا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . . لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب .
(1/105)
وأهم من هذا كله ، أو القاعدة لهذا كله . . الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها ، وتتوارى الأوهام وهي شتى ، ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سنداً إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتتفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح . .
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :
{ وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون } . .
إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجهاً لوجه بالحقيقة الوحيدة ، وبالتصور الصحيح .
هؤلاء هم الصابرون . . الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل . .
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل :
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون } . .
صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
وكل أمر من هذه هائل عظيم . .
وبعد . . فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي . التعبئة في مواجهة المشقة والجهد ، والاستشهاد والقتل ، والجوع والخوف ، ونقص الأموال والأنفس والثمرات . التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف .
إن الله يضع هذا كله في كفة . ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً . . صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . .
(1/106)
إنه لا يعدهم هنا نصراً ، ولا يعدهم هنا تمكيناً ولا يعدهم هنا مغانم ، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته . . لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها . فكان من ثم يجردها من كل غاية ، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .
. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . . هذا هو الهدف ، وهذه هي الغاية ، وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم ، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها .إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء . جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات . وجزاء على الخوف والجوع والشدة وجزاء على القتل والشهادة . .
إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء . أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور . .
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب ، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين . (الظلال)
***************
? تمني الموت ؟
لا يجوز تمني الموت بسبب ضر ألم بالإنسان عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى ». أخرجه مسلم
(1/107)
ولكن إذا افتتن في دينه وهو لا يتحمل البلاء فليدع بالموت عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضى الله عنه قَالَ احْتُبِسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَجَوَّزَ فِى صَلاَتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ قَالَ لَنَا « عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ ». ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا ثُمَّ قَالَ « أَمَا إِنِّى سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِى عَنْكُمُ الْغَدَاةَ إِنِّى قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِى فَنَعَسْتُ فِى صَلاَتِى حَتَّى اسْتَثْقَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ لَبَّيْكَ رَبِّ. قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ لاَ أَدْرِى. قَالَهَا ثَلاَثًا قَالَ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَىَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَىَّ فَتَجَلَّى لِى كُلُّ شَىْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ لَبَّيْكَ رَبِّ قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ فِى الْكَفَّارَاتِ قَالَ مَا هُنَّ قُلْتُ مَشْىُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِى الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِى الْمَكْرُوهَاتِ. قَالَ فِيمَ قُلْتُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلاَمِ وَالصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ سَلْ.
(1/108)
قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِى وَتَرْحَمَنِى وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِى غَيْرَ مَفْتُونٍ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا ». قَالَ ( قال الترمذي) أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم الشديد على هداية الناس وهم لا يستجيبون وق جاءت آيات عديدة تبين القاعدة العامة الواجب اتباعها في هذا الأمر الخطير فالرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى هداية كل الناس ويستاء جدا لصلفهم وعدم اهتدائهم فهو يدعوهم على الجنة وهو يدعونه على النار
قال تعالى { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6} إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {7} وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا {8} الكهف
وقال تعالى { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {8} فاطر
(1/109)
إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير . ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين . هو هذا الغرور . هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فلا يرى مخاطر الطريق . ولا يحسن عملاً لأنه مطمئن إلى حسن عمله وهو سوء . ولا يصلح خطأ لأنه واثق أنه لا يخطىء ! ولا يصلح فاسداً لأنه مستيقن أنه لا يفسد ! ولا يقف عند حد لأنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلاح !
إنه باب الشر . ونافذة السوء . ومفتاح الضلال الأخير . .
ويدع السؤال بلا جواب . . أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ؟ . . ليشمل كل جواب . كأن يقال:أفهذا يرجى له صلاح ومتاب ؟ أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب الله ؟ أفهذا يستوي مع المتواضعين الأتقياء ؟ . . . إلى آخر صور الإجابة على مثل هذا السؤال . وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .
وتجيب الآية بأحد هذه الأجوبة من بعيد:
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات :
وكأنما يقول:إن مثل هذا قد كتب الله عليه الضلالة ؛ مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ؛ وبما فتح عليه هذا الباب الذي لا يعود منه ضال !
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ؛ بما تقتضيه طبيعة الضلال في ذلك وطبيعة الهدى في هذا . طبيعة الضلال برؤية العمل حسنا وهو سوء . وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . . وهو مفرق الطريق الحاسم بين الهدى والضلال .
وما دام الأمر كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . .
(1/110)
إن هذا الشأن . شأن الهدى والضلال . ليس من أمر بشر . ولو كان هو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إنما هو من أمر الله . والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن . وهو مقلب القلوب والأبصار . . والله - سبحانه - يعزي رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له . حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضلالهم ، ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلال . وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم ، ومن رؤية الحق الذي جاء به معروفاً بينهم ! وهو حرص بشري معروف . يرفق الله سبحانه برسوله من وقعه في حسه ، فيبين له أن هذا ليس من أمره ، إنما هو من أمر الله .
وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم ، وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير . ورأوا الناس في الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ؛ ولا يرون ما فيها من الخير والجمال . ولا يستمتعون بما فيها من الحق والكمال . وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها الله - سبحانه - رسوله . فيبلغوا دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد . ثم لا يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له الله الصلاح والفلاح .
إن الله عليم بما يصنعون . .
وهو يقسم لهم الهدى أو الضلال وفق علمه بحقيقة صنعهم . والله يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ؛ ويعلمها بعد أن تكون . وهو يقسم لهم وفق علمه الأزلي . ولكنه لا يحاسبهم على ما يكون منهم إلا بعد أن يكون . (الظلال)
و قال تعالى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ {128} وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {129} آل عمران
(1/111)
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها:طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء ، وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: ليس لك من الأمر شيء فسيرد في السياق قول بعضهم: هل لنا من الأمر من شيء ؟ . . وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم:إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ويختم هذا التذكير ببدر ، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور ، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير:وهو أن الأمر لله في الكون كله ، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء:
ولله ما في السماوات وما في الأرض . يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم
فهي المشيئة المطلقة ، المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد ، بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد ، في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل ، وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة:
والله غفور رحيم . .
(1/112)
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته ، بالعودة إليه ، ورد الأمر كله له ، وأداء الواجب المفروض ، وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
وفي الظلال :
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم ، يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ، ويرد على قولتهم: هل لنا من الأمر من شيء ؟ . قل:إن الأمر كله لله . .
فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] ليس لك من الأمر شيء . فأمر هذا الدين ، والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض ، وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله ، وليس للبشر فيها من شيء ، إلا أن يؤدوا واجبهم ، ويفوا ببيعتهم ، ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم:
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . .
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس ، حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ؛ وسؤالهم: هل لنا من الأمر من شيء . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة ، وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة ، حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة ، وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ؛ وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ؛ وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ؛ وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة ، وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث ، ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !
(1/113)
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء:
قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . .
قل لو كنتم في بيوتكم ؛ ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة ، وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل ، سعى صاحبه بقدميه إليه ، وجاء إلى مضجعه برجليه ، لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ، ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !
ويا للتعبير العجيب . . "إلى مضاجعهم" . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب ، وتسكن فيه الخطى ، وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه ، إنما هو يدركهم ويملكهم ؛ ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب ، وأهدأ للنفس ، وأريح للضمير !
إنه قدر الله . ووراءه حكمته:
وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ، ويصهر ما في القلوب ، فينفي عنها الزيف والرياء ، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ، ليظهر على حقيقته ، وهو التطهير والتصفية للقلوب ، فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ؛ فلا يبقى فيه غبش ولا خلل:
والله عليم بذات الصدور .
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور ، المختبئة فيها ،المصاحبة لها ، التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس ، ويكشفها لأصحابها أنفسهم ، فقد لا يعلمونها من أنفسهم ، حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم !
*************
(1/114)
? تهديد الله للبشراليائسين نصره
قال تعالى { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ {15} الحج
يقول السيد رحمه الله :
فمن مسه الضر في فتنة من الفتن ، وفي ابتلاء من الابتلاءات ، فليثبت ولا يتزعزع ، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه ، وقدرته على كشف الضراء ، وعلى العوض والجزاء .
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة ؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة . فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ وليذهب بنفسه كل مذهب ، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء:
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ !
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس ، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه ، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله .
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة ، وكل نسمة رخية ، وكل رجاء في الفرج ، ويستبد به الضيق ، ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء .
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق . ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق . . ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه !
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله . ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله . ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله . وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ، ومضاعفة الشعور به ، والعجز عن دفعه بغير عون الله . . فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله .
*****************
(1/115)
? اليأس من إصلاح الناس :
قال تعالى { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} يوسف
يقول السيد رحمه الله:
إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كذبوا ؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ؟ . . . ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا:
جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمرا ماحقا لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
(1/116)
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا . فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدعوها ، فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون ؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة !
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل ؛ إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة ! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعةوالاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل ! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود ! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات ! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا . وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا .
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا .
(1/117)
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية ، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
*******************
علاج اليأس :
1. بالإيمان الكامل :
فلا بد من الإيمان الكامل حتى لا يقع الإنسان في اليأس عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ». أخرجه مسلم
و أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ ». أخرجه مسلم
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لِكُلِّ شَىْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ». أخرجه أحمد
(1/118)
و قَالَ الْحُمَيْدِىُّ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُؤْمِنَ الرَّجُلُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَلاَ يَنْفَعُ قَوْلٌ إِلاَّ بِعَمَلٍ وَلاَ عَمَلٌ وَقَوْلٌ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَلاَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلاَّ بِسُنَّةٍ وَالتَّرَحُّمُ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) فَلَنْ يُؤْمِنَ إِلاَّ بِالاِسْتِغْفَارِ لَهُمْ ، فَمَنْ سَبَّهُمْ أَوْ تَنَقَّصَهُمْ أَوْ أَحَدًا مِنْهُمْ فَلَيْسَ عَلَى السُّنَّةِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِى الْفَىْءِ حَقٌّ.
2. وجوب حسن الظن بالله تعالى :
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ ». أخرجه أبو داود
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ». أخرجه البخاري
(1/119)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى فَلْيَظُنَّ بِى مَا شَاءَ ».أخرجه الدارمي
بدأ الحديث بدعوة العبد إلى أن يحسن الظن بربه في جميع الأحوال ، فبَيَّن جل وعلا أنه عند ظن عبده به ، أي أنه يعامله على حسب ظنه به ، ويفعل به ما يتوقعه منه من خير أو شر ، فكلما كان العبد حسن الظن بالله ، حسن الرجاء فيما عنده ، فإن الله لا يخيب أمله ولا يضيع عمله ، فإذا دعا الله عز وجل ظن أن الله سيجيب دعاءه ، وإذا أذنب وتاب واستغفر ظن أن الله سيقبل توبته ويقيل عثرته ويغفر ذنبه ، وإذا عمل صالحاً ظن أن الله سيقبل عمله ويجازيه عليه أحسن الجزاء ، كل ذلك من إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - ( ادعوا الله تعالى وأنتم موقنون بالإجابة ) رواه الترمذي ، وهكذا يظل العبد متعلقا بجميل الظن بربه ، وحسن الرجاء فيما عنده ، كما قال الأول :
وإني لأدعو الله حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
وبذلك يكون حسن الظن بالله من مقتضيات التوحيد لأنه مبنيٌ على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وحسن التوكل عليه ، فإذا تم العلم بذلك أثمر حسن الظن .
وقد ذم الله في كتابه طائفة من الناس أساءت الظن به سبحانه ، وجعل سوء ظنهم من أبرز علامات نفاقهم وسوء طويتهم ، فقال عن المنافقين حين تركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في غزوة أحد : {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية }(آل عمران 154) ، وقال عن المنافقين والمشركين : {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء }( الفتح 6) .
(1/120)
والمراد من الحديث تغليب جانب الرجاء ، فإن كل عاقل يسمع بهذه الدعوة من الله تبارك وتعالى ، لا يمكن أن يختار لنفسه ظن إيقاع الوعيد ، بل سيختار الظن الحسن وهو ظن الثواب والعفو والمغفرة وإيقاع الوعد وهذا هو الرجاء ، وخصوصاً في حال الضعف والافتقار كحال المحتضر فإنه أولى من غيره بإحسان الظن بالله جل وعلا ولذلك جاء في الحديث ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) أخرجه مسلم عن جابر رضي الله عنه .
فينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن ظن أن الله لا يقبله ، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب , ومن مات على ذلك وُكِل إلى ظنه ، ولذا جاء في بعض طرق الحديث السابق حديث الباب ( فليظن بي ما شاء ) رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح .
بين اليأس والغرور
ومما ينبغي أن يُعْلم في هذا الباب أن حسن الظن بالله يعنى حسن العمل ، ولا يعني أبداً القعود والركون إلى الأماني والاغترار بعفو الله ، ولذا فإن على العبد أن يتجنب محذورين في هذه القضية : المحذور الأول هو اليأس والقنوط من رحمة الله ، والمحذور الثاني هو الأمن من مكر الله ، فلا يركن إلى الرجاء وحده وحسن الظن بالله من غير إحسان العمل ، فإن هذا من السفه ومن أمن مكر الله ، وفي المقابل أيضاً لا يغلِّب جانب الخوف بحيث يصل به إلى إساءة الظن بربه فيقع في اليأس والقنوط من رحمة الله ، وكلا الأمرين مذموم ، بل الواجب عليه أن يحسن الظن مع إحسان العمل ، قال بعض السلف : " رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق " .
جزاء الذاكرين
ثم أتبع ذلك ببيان فضل الذكر وجزاء الذاكرين ، فذكر الله عز وجل أنه مع عبده حين يذكره ، وهذه المعية هي معية خاصة وهي معية الحفظ والتثبيت والتسديد كقوله سبحانه لموسى وهارون :{إنني معكما أسمع وأرى }(طه 46) .
(1/121)
وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان وتدبر الذاكر معانيه ، وأعظمه ذكر الله عند الأمر والنهي وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي .
جزاء القرب من الله
ثم بين سبحانه سعة فضله وعظيم كرمه وقربه من عبده ، وأن العبد كلما قرب من ربه جل وعلا ازداد الله منه قرباً ، وقد أخبر سبحانه في كتابه أنه قريب من عبده فقال :{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }( البقرة 186) ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) رواه مسلم ، ففي هذه الجمل الثلاث في هذا الحديث وهي قوله تعالى : ( وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) ما يدل على هذا المعنى العظيم ، وهو أن عطاء الله وثوابه أكثر من عمل العبد وكدحه ، ولذلك فإنه يعطي العبد أكثر مما فعله من أجله ، فسبحانه ما أعظم كرمه وأجَلَّ إحسانه
***********
إن حسن الظن بالله عبادة قلبية جليلة لا يتم إيمان العبد إلا به لأنه من صميم التوحيد وواجباته ، حسن الظن بالله هو ظنّ ما يليق بالله تعالى واعتقاد ما يحق بجلاله وما تقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا مما يؤثر في حياة المؤمن على الوجه الذي يرضي الله تعالى ، تحسين الظن بالله تعالى أن يظن العبد أن الله تعالى راحمه وفارج همه وكاشف غمه وذلك بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله وعفوه وما وعد به أهل التوحيد ، حقا .. إنه مسلك دقيق ومنهج وسط بين نقيضين لا يسلكه إلا من وفقه الله وجعل قلبه خالصاً له سبحانه ، لذلك ينبغي أن يكون سمة لازمة يتجلى في حياة المؤمن وعند احتضاره وقرب موته .
[ أنا عند ظن عبدي بي ] قال العلماء :
ـ قال ابن حجر رحمه الله في الفتح " أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به " [ 17 / 397 ]
(1/122)
ـ قال النووي في شرح صحيح مسلم " قال العلماء : معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه " [ 14 / 210 ]
ـ قال النووي " قال القاضي : قيل معناه بالغفران له إذا استغفر ، والقبول إذا تاب ، والإجابة إذا دعا ، والكفاية إذا طلب ، وقيل : المراد به الرجاء وتأميل العفو وهو أصح " [ شرح صحيح مسلم 14 / 2 ]
وعموما فحسن الظن بالله عز وجل ظن ما يليق بالله سبحانه وتعالى من ظن الإجابة والقبول والمغفرة والمجازاة وإنفاذ الوعد وكل ما تقتضيه أسماؤه وصفاته جل وعلا .
لماذا نحسن الظن بالله ..؟
1. لأن فيه امتثالا واستجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم " يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " [ الأنفال : 24 ]
2. له ارتباط وثيق بنواحي عقدية متعددة ومن ذلك مثلا :
أ . التوكل على الله تعالى والثقة به ، قال بن القيم رحمه الله : " الدرجة الخامسة [ أي من درجات التوكل ] حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه " [ تهذيب مدارج السالكين ص 240 ] .
ب . الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه سبحانه ، قال بعض الصالحين " استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل في كشفها ؛ فإن ذلك أقرب إلى الفرج "
ج . الخوف منه سبحانه وتعالى ، يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله " من حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع " [حسن الظن بالله ص 40 ]
3. لأن العبد من خلاله يرجوا رحمة الله ورجائه ويخاف غضبه وعقابه ، يقول بن القيم رحمه الله "ويكون الراجي دائماً راغباً راهباً مؤملاً لفضل ربه حسن الظن به " [ زاد المعاد ص ]
4. حثت عليه النصوص النبوية ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " " أنا عند ظن عبدي بي " " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " .
(1/123)
5. معرفة واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله ، يقول بن القيم رحمه الله " فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء ؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحق ، ونفسه تشهد عليه لذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته ، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً " [ زاد المعاد 3 / 235 ]
6. لأن مَنْ أحسن الظن بربه عز وجل فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين ، اجتهد في العمل لهذا الدين العظيم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بماله ونفسه .
7. أثره الإيجابي على نفس المؤمن في حياته وبعد مماته ، فمن أحسن الظن بربه وتوكل عليه حق توكله جعل الله له في كل أمره يسراً ومن كل كرب فرجاً ومخرجاً ، فاطمأن قلبه وانشرحت ونفسه وغمرته السعادة والرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه جلا وعلا .
8. المبادرة إلى طلب عفو الله ورحمته ورجائه ومغفرته ليطرق بعد ذلك العبد باب ربه منطرحاً بين يديه راجياً مغفرته تائبا من معصيته " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " [ رواه مسلم ] .
(1/124)
9. فيه النجاة والفوز بالجنان ورضى الرحمن " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " روى أبو بكر بن أبي الدنيا عن إبراهيم قال : كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه عز وجل "
10. يعين على التدبر والتفكر في أسماء الله وصفاته وما تقتضيه من معاني العبودية والإخلاص ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى " والأسماء الحسنى ، والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ؛ فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها ، أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح " [ مفتاح دار السعادة ص 424 ]
السلف وحسن الظن بالله .
1. كان سعيد بن جبير يدعوا ربه فيقول " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك "
2. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عز وجل ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه ؛ ذلك بأن الخير في يده "
3. وسفيان الثوري رحمه الله كان يقول : ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي ؛ فربي خير لي من والدي "
4. وكان يقول عند قوله تعالى " وَأََحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ " أحسنوا بالله الظن .
5. وعن عمار بن يوسف قال : رأيت حسن بن صالح في منامي فقلت : قد كنت متمنياً للقائك ؛ فماذا عندك فتخبرنا به ؟ فقال : أبشر! فلم أرَ مثل حسن الظن بالله عز وجل شيئاً "
المعاصي وحسن الظن بالله .
(1/125)
حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه ، فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن ، فكلما حسن ظنه بربه حسن عمله ، لكن كثيرا من خلق الله تعالى قد تعلق بنصوص الرجاء واتكل عليها ، فترى الواحد منهم إذا ما عوتب على وقوعه في الخطأ أو الزلل سرد لك ما يحفظ من أدلة في مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وكرمه وأن رحمته سبقت غضبه ، وكأن حال لسانه :
وكثّر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
أو كقول الآخر : التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله ، قال ابن القيم رحمه الله " ولا ريب أن حسن الظن بالله إنما يكون مع الإحسان ، فإن المحسن حسن الظن بربه ، أنه يجازيه على إحسانه ، ولا يخلف وعده ، ويقبل توبته ، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه ... وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة ، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن "
سوء الظن بالله تعالى .
(1/126)
لقد ذم الله تعالى من أساء الظن به ، فأخبر عن المشركين أنهم يظنون به ظن السوء ، قال تعالى " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا " [ الفتح : ] ووصف المنافقين بأنهم يظنون به غير الحق فقال تعالى " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شئ قل إن الأمر كله لله " [ آل عمران : ] قال الألوسي رحمه الله : أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أن الله عز وجل لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد به : ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره " [ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 9 / 95 ] وهذا الظن مما لا يليق بالله تعالى وحكمته ووعده الصادق ، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار .
صور من إساءة الظن بالله تعالى .
1. من قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء .
2. من ظن به أن يترك خلقه سُدى ، معطلين عن الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء .
3. من ظن أنه لا سمع له ولا بصر ، ولا علم له ولا إرادة ، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً ، وأنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه أي بلا كيف وكما وصف الله به نفسه فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
4. من ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظن به ظن السوء .
(1/127)
5. من ظن أن له ولداً أو شريكاً أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم كخوفه فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
6. من ظن بالله تعالى أن يخيب من تضرع إليه وسأله رغبة ورهبة واستعان به وتوكل عليه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السوء ، وظن به خلاف ما هو أهله .
7. من ظن به سبحانه وتعالى أن يسلط على رسوله محمد أعدائه دائماً في حياته وبعد مماته ، وأنه ابتلاه بهم لا يفارقونه ، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه ، وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً من غير ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه ولا ينصرهم ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير مشيئته ولا قدرته ، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه [ زاد المعاد 3 / 922 ]
حسن الظن بالمؤمنين .
(1/128)
حسن الظن خلق فريد وأمر حض عليه الإسلام ، وهو من أبرز أسباب التماسك الاجتماعي على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع ، حسن الظن راحة للفؤاد وطمأنينة للنفس وسلامة من أذى الخواطر المقلقة التي تفني الجسد ، وتهدم الروح ، وتطرد السعادة ، وتكدر العيش ، بفقده وتلاشيه تتقطع حبال القربى وتزرع بذور الشر وتلصق التهم والمفاسد بالمسلمين الأبرياء ، لذلك كان أصلاً من أصول أخلاق الإسلام ، وعليه فلا يجوز لإنسان أن يسيء الظن بالآخرين لمجرد التهمة أو التحليل لموقف ، فإن هذا عين الكذب " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " [ رواه البخاري ] وقد نهى الرب جلا وعلا عباده المؤمنين من إساءة الظن بإخوانهم فقال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " وما ذاك إلا لأن الظن سيئة كبيرة موقعة لكثير من المنكرات العظيمة إذ هو ذريعة للتجسس ، كما أنه دافع إلى الوقوع في الغيبية المحرمة " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا " فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم لتدوم بيننا المحبة والوئام ، وتصفوا القلوب والصدور ، وتزول الشحناء والبغضاء ، ورحم الله القائل :
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
******************
3. وجوب التسليم لله بما يجري في هذا الكون سواء جرى وفق ما نحب أو وفق ما نكره :
قال تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا {36} الأحزاب
(1/129)
و عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ قَالَ وَقَعَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَىَّ دِينِى وَأَمْرِى فَأَتَيْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَلْتُ أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِى قَلْبِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِى وَأَمْرِى فَحَدِّثْنِى مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِى بِهِ. فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ تُنْفِقُهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ وَلاَ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِىَ أَخِى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ. فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَىٌّ وَقَالَ لِى وَلاَ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِىَ حُذَيْفَةَ. فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالاَ وَقَالَ ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ.
(1/130)
فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ». أخرجه ابن ماجة
و عَنْ أَبِى حَفْصَةَ قَالَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ». يَا بُنَىَّ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى ». أخرجه أبو داود
(1/131)
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ». أخرجه مسلم
فهذا المقوّم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقراراً حقيقياً؛ واستيقنته أنفسهم ، وتكيفت به مشاعرهم . هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء؛ وليس لهم من أمرهم شيء . إنما هم وما ملكت أيديهم لله . يصرفهم كيف يشاء ، ويختار لهم ما يريد . وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام . وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم .
وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح؛ وإن هم إلا أجراء ، لهم أجرهم على العمل ، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله . أسلموها بكل ما فيها؛ فلم يعد لهم منها شيء . وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها ، لا تحاول أن تخرج عنها ، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله .
(1/132)
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله ، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء ، وكل أحد ، وكل حادث ، وكل حالة . واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة .
وشيئاً فشيئاً لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم ، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر . إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه ، معروف في ضميره ، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمراً هم يريدون قضاءه ، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أرباً يستعجلون تحقيقه ، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله ، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي ، وهم راضون مستروحون ، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق ، وفي غير من ولا غرور ، وفي غير حسرة ولا أسف . وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون ، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم .
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم ، وتصرف حركاتهم؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم ، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين ، سائرون معها في بساطة ويسر ولين .
وهم مع هذا يعملون ما يقدرون عليه ويبذلون ما يملكون كله ، ولا يضيعون وقتاً ولا جهداً ، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة . ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون ، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص ، ومن ضعف وقوة؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون .
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة ، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون . .
(1/133)
هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة ، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك .
وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك ، وخطوات الزمان ، ولا تحتك بها أو تصطدم ، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام . وهو الذي بارك تلك الجهود ، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان .
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود ، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود . . كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات ، والكواكب والأفلاك؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص .
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن . . حيث يقول الله تبارك وتعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } أو يقول : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } أو يقول : { إن الهدى هدى الله } فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع . هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود .
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه . ( الظلال)
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في المدارج :
فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى :
(1/134)
رضى العامة وهو الرضى بالله ربا وتسخط عبادة ما دونه وهذا قطب رحى الإسلام وهو يطهر من الشرك الأكبر الرضى بالله ربا : أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى : ^ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ^ [ الأنعام : 164 ] قال ابن عباس رضى الله عنهما : سيدا وإلها يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء وقال في أول السورة : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض [ الأنعام : 14 ] يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها : ^ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ^ [ الأنعام : 114 ] أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد : أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما وتفسير الرضى بالله ربا : أن يسخط عبادة ما دونه هذا هو الرضى بالله إلها وهو من تمام
(1/135)
الرضى بالله ربا فمن أعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا لأن الرضى بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية وقوله : وهو قطب رحى الإسلام يعنى أن مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره وقد تقدم أن العبادة هي الحب مع الذل فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له وقوله : وهو يطهر من الشرك الأكبر يعني أن الشرك نوعان : أكبر وأصغر فهذا الرضى يطهر صاحبه من الأكبر وأما الأصغر : فيطهر منه نزوله منزلة إياك نعبد وإياك نستعين
فصل قال : وهو يصح بثلاثة شروط :
أن يكون الله عز وجل أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة يعني أن هذا النوع من الرضى إنما يصح بثلاثة أشياء أيضا أحدها : أن يكون الله عز وجل أحب شيء إلى العبد وهذه تعرف بثلاثة أشياء أيضا أحدها : أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها الثاني : أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته الثالث : أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول وغيره محبوبا تبعا لحبه كما يطاع تبعا لطاعته فهو في الحقيقة المطاع المحبوب وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضا فالحاصل : أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه : فهو متكبر عليه ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه : فهو مشرك ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال : الدرجة الثانية : الرضى عن الله
(1/136)
وبهذا نطقت آيات التنزيل وهو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها ووجه قوله : أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام وأما هذه الدرجة : فمن معاملات القلوب وهي لأهل الخصوص وهي الرضى عنه في أحكامه وأقضيته وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس والذي هو طريق أهل الخصوص فمقدمته بداية سلوكهم لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ووقوفه مع مراد الله عز وجل لا مع مراد نفسه هذا تقرير كلامه وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله والذى ينبغي : أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا فإنها مختصة وهذه الدرجة مشتركة فإن الرضى بالقضاء يصح من المؤمن والكافر وغايته التسليم لقضاء الله وقدره فأين هذا من الرضى به ربا وإلها ومعبودا وأيضا فالرضى به ربا فرض بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة فمن لم يرض به ربا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال وأما الرضى بقضائه : فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب وقيل : بل هو واجب وهما قولان في مذهب أحمد فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب وفي الحديث الإلهي الصحيح : يقول الله عز وجل : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل وأيضا : فإن الرضى به ربا يتضمن الرضى عنه ويستلزمه فإن الرضى بربوبيته : هو رضى العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه وإن كان راضيا به ربا من بعضها فالرضى به ربا من كل وجه : يستلزم الرضى عنه ويتضمنه بلا ريب وأيضا : فالرضى به ربا متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة فهو
(1/137)
الرضى به خالقا ومدبرا وآمرا وناهيا وملكا ومعطيا ومانعا وحكما ووكيلا ووليا وناصرا ومعينا وكافيا وحسيبا ورقيبا ومبتليا ومعافيا وقابضا وباسطا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته وأما الرضى عنه : فهو رضى العبد بما يفعله به ويعطيه إياه ولهذا إنما يجىء إلا في الثواب والجزاء كقوله تعالى ^ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ^ [ الفجر : 2728 ] فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته كقوله تعالى : ^ خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ^ [ البينة : 8 ] والرضى به : أصل الرضى عنه والرضى عنه : ثمرة الرضى به وسر المسألة : أن الرضى به متعلق بأسمائه وصفاته والرضى عنه : متعلق بثوابه وجزائه وأيضا : فإن النبي( صلى الله عليه وسلم ) علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا ولم يعلقه بمن رضي عنه كما قال : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فجعل الرضى به قرين الرضى بدينه ونبيه وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه والشكر على نعمه يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا وإن ساء عبده فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضى بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرضى بالإسلام دينا : يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله فجمعت هذه الثلاثة الدين كله وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه واتخاذه وليا ومعبودا وإبطال عبادة كل ما سواه وقد قال تعالى لرسوله : ^ أفغير الله أبتغي حكما ^ [ الأنعام : 114 ] وقال : ^ أغير الله اتخذ وليا ^ [ الأنعام : 14 ] وقال : ^ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ^ [ الأنعام : 164 ] فهذا هو عين الرضى به ربا وأيضا : فإنه جعل حقيقة الرضى به ربا : أن يسخط عبادة
(1/138)
ما دونه فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة حبا وخوفا ورجاء وتعظيما وإجلالا فقد تحقق بالرضى به ربا الذي هو قطب رحى الإسلام وإنما كان قطب رحى الدين : لأن جميع العقائد والأعمال والأحوال : إنما تنبني على توحيد الله عز وجل في العبادة وسخط عبادة ما سواه فمن لم يكن له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى ودارت على ذلك القطب فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم وأيضا : فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضى موقوفا على كون المرضى به ربا سبحانه أحب إلى العبد من كل شيء وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية وينتظم فروعها وشعبها ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر وهذا الميل يلازم الإيمان بل هو روح الإيمان ولبه فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كمان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربا وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله ولما كان هذا الحب التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه : كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان وثمرة الرضى : ذوق طعم الإيمان فهذا وجد حلاوة وذلك ذوق طعم والله المستعان وإنما ترتب هذا وهذا على الرضى به وحده ربا والبراءة من
(1/139)
عبودية ما سواه وميل القلب بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضى به فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يرض به ربا وبنبيه رسولا وبالإسلام دينا فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها ولهذا إنما ضمن رضي العبد يوم القيامة لمن رضى به ربا كما قال النبي( صلى الله عليه وسلم ) : من قال كل يوم : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة
*************
4. الذي وقع فيه كل الخير :
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيراً {19} النساء
وقال تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {216} البقرة
يقول السيد رحمه الله :
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
(1/140)
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
(1/141)
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء . وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟!
(1/142)
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
(1/143)
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال:أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
***************
5. لا بد من الرجاء والخوف :
(1/144)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ إذَا مَاتَ فَأَحْرِقُوهُ , ثُمَّ أَذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ , قَالَ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ , وَالْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ , ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ , قَالَ فَغَفَرَ لَهُ } وَلِأَحْمَدَ { لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إلَّا التَّوْحِيدَ }أخرجه ألبخاري
بعض فوائد هذا الحديث من طرح التثريب :
{
(1/145)
السَّادِسَةُ } إنْ قُلْت ظَاهِرُ حَالِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كَبِيرَةٍ وَهُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَانَ هَذَا خَاتِمَةُ أَمْرِهِ فَكَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ سَبَبَ الْمَغْفِرَةِ لَهُ ؟ قُلْت إنْ صَرَفْنَا اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ يُحْمَلُ قَدَرَ عَلَى قَضَى أَوْ ضَيَّقَ فَلَيْسَ فِيهِ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَرْجُو الرَّحْمَةَ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ أَوْ لَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ أَخَذْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ اصْطَلَمَتْهُ وَأَذْهَلَتْهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ فَنَفَعَهُ خَوْفُهُ وَنَجَّاهُ مَعَ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَضُرَّهُ يَأْسُهُ ; لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ حَالَةٌ انْقَطَعَ عَنْهُ فِيهَا التَّكْلِيفُ وَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى حَالَةٍ أَخْرَجَتْهُ عَنْ حَيِّزِ الْمُكَلَّفِينَ فَالْخَوْفُ الْحَاصِلُ لَهُ كَفَّرَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بَلْ كَفَّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَرْتَكِبُهَا طُولَ عُمْرِهِ , وَقَدْ يَشْتَمِلُ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ عَلَى طَاعَةٍ مِنْ وَجْهٍ وَمَعْصِيَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَرُبَّمَا غَلَبَتْ الطَّاعَةُ فَكَفَّرَتْ الْمَعْصِيَةَ وَرُبَّمَا غَلَبَتْ الْمَعْصِيَةُ فَأَحْبَطَتْ ثَوَابَ الطَّاعَةِ , وَفِي هَذَا الْمَحِلِّ غَلَبَتْ الطَّاعَةُ فَكَفَّرَتْ الْمَعْصِيَةَ وَعَنْ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ سَمِعَ بِآلَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَأَحْدَثَتْ لَهُ أَحْوَالًا صَالِحَةً يَحْصُلُ لَهُ اسْمُ السَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ وَثَوَابُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنْ غَلَبَ الثَّوَابُ رَبِحَ وَإِنْ غَلَبَ الْإِثْمُ
(1/146)
خَسِرَ وَإِنْ اسْتَوَيَا تَكَافَأَ هَذَا مَعْنَاهُ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ فَعَلْت كَذَا , وَكَذَا قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلْت فَقَالَ بَلَى قَدْ فَعَلْت , وَلَكِنْ غُفِرَ لَك بِالْإِخْلَاصِ } وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم . {
(1/147)
السَّابِعَةُ } إنْ قُلْت فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } وَهَذَا قَدْ ظَنَّ بِرَبِّهِ تَعْذِيبَهُ وَعَدَمَ الْمَغْفِرَةِ لَهُ فَكَيْفَ غُفِرَ لَهُ ؟ قُلْت قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّجَاءُ وَتَأْمِيلُ الْعَفْوِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ بِالْغُفْرَانِ لَهُ إذَا اسْتَغْفَرَ وَالْقَبُولِ لَهُ إذَا تَابَ وَالْإِجَابَةِ إذَا دَعَا وَالْكَفَّارِيَّةِ إذَا طَلَبَ الْكَفَّارِيَّةَ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ ; لِأَنَّ هَذَا قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ وَلَوْلَا نَدَمُهُ لَمَا أَمَرَ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَكَانَ تَائِبًا فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَغُفِرَ لَهُ وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قِيلَ إنَّمَا وَصَّى بِذَلِكَ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ وَعُقُوبَةً لَهَا لِعِصْيَانِهَا وَإِسْرَافِهَا رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ حِينَئِذٍ قَدْ رَجَا الْعَفْوَ وَأَمَلَهُ فَكَانَ اللَّهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ فَعَفَا عَنْهُ وَهَذَا بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ { إنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ } إنْ لَمْ يُؤَوِّلْهُ بِمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
**************
وفي بريقة محمودية :
(
(1/148)
وَأَمَّا أَوْلَوِيَّةُ غَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ أَوْ الْعَكْسُ ) ظَاهِرُهُ أَرَادَ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ الرِّيَاءِ . وَالظَّاهِرُ عُمُومُهُ سَوَاءٌ بِخَوْفِ الرِّيَاءِ أَوْ لَا وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ بَحْثِ حَالِ الرَّجَاءِ أَيْضًا ( فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ فِيهَا ) أَيْ الْأَوْلَوِيَّةِ . ( قَالَ بَعْضُهُمْ ) قِيلَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ خِلَافُهُ حَيْثُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْخَوْفِ فَيَعْلَمُ أَوَّلًا الطَّرِيقَ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ يَخْلُصُ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخَافُ وَيَحْذَرُ مِنْ الْآفَاتِ , ثُمَّ قَالَ : وَلَقَدْ صَدَقَ ذُو النُّونِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعُلَمَاءَ , وَالْعُلَمَاءُ نِيَامٌ إلَّا الْعَامِلُونَ وَالْعَامِلُونَ مُغْتَرُّونَ إلَّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ , ثُمَّ قَالَ الْعَجَبُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَقَالَ رَابِعُهَا مِنْ مُخْلِصٍ غَيْرِ خَائِفٍ أَمَا يَنْظُرُ فِي مُعَامَلَاتِهِ تَعَالَى مَعَ أَصْفِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَخِدْمَتِهِ الدَّالَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حَتَّى يَقُولَ لِأَكْرَمِ الْخَلْقِ - { وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك } - الْآيَاتِ حَتَّى { كَانَ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُودٍ } انْتَهَى مُلَخَّصًا . (
(1/149)
يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِبَ الرَّجَاءُ ) عَلَى الْخَوْفِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْعَابِدَ الْمَذْكُورَ ( اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ دَخَلَ ) فِي الْعَمَلِ ( بِإِخْلَاصٍ ) كَمَا هُوَ الْكَلَامُ فِيهِ ( وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ ) بِعُرُوضِ نَحْوِ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ ( فَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ) الشَّرْعُ نَفْسُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَوَاعِدِ لِلْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ , فَالْمُرَادُ مِنْ قَوَاعِدِ أَهْلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ الْقَوَاعِدِ اللَّازِمَةِ لِنَفْسِ الشَّرْعِ أَوْ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ ( أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ) .
(1/150)
قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ مَبْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنَهُ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } ثُمَّ فَصَّلَ فِي تَوْضِيحِهِ كَلَامًا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَقَامُ وَأَيْضًا الْأَصْلُ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ; لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْيَقِينُ فِي الِابْتِدَاءِ فَهُوَ بَاقٍ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا بِيَقِينٍ ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْيَقِينِ وَأَيْضًا مَنْ شَكَّ هَلْ فَعَلَ أَوْ لَا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَيُعْتَبَرُ عَدَمُ الرِّيَاءِ فِي مَسْأَلَتِنَا , لَكِنْ يَرِدُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا كُلِّيَّةً حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْ أَفْرَادِ مَوْضُوعِهَا كَصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ وَإِلَّا فَلَا يَقَعُ الْأَمْنُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَهُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ لِعَدَمِ جَرَيَانِهَا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَمَنْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ هَلْ أَتَى بِهَا أَوْ لَا أَوْ أَحْدَثَ أَوْ لَا أَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ أَوْ لَا وَكَانَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ وَمَنْ وَجَدَ فَأْرَةً مَيْتَةً وَلَمْ يَدْرِ مَتَى وَقَعَتْ وَقَدْ تَوَضَّأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَمَنْ وَجَدَ بَلَلًا وَشَكَّ فِي أَنَّهُ مَنِيٌّ أَوْ مَذْيٌ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ وَمَنْ أَصَابَ ثَوْبَهُ نَجَاسَةٌ وَلَا يَدْرِي أَيَّ مَوْضِعٍ أَصَابَتْهُ غَسَلَ الْكُلَّ , وَإِنْ فِيهِ خِلَافًا وَتَمَامُهُ فِي الْأَشْبَاهِ
(1/151)
إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ قَطْعِيَّاتٌ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَأَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ إنَّمَا يُنَافِي الْقَطْعَ لَا الظَّنَّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلَبُ ظَنِّيًّا .
(1/152)
وَقَالَ الْمَوْلَى حَسَنٌ جَلَبِيٌّ فِي حَاشِيَةِ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ عَنْ إبْكَارِ الْأَفْكَارِ إنَّ الْكُبْرَى الْأَكْثَرِيَّةَ الَّتِي لَا تَكُونُ كُلِّيَّةً مُنْتِجَةً فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَطْلَبِ ظَنِّيًّا وَأَنَّ الْمُخْرَجَ وَإِنْ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَاقِي فَالْفَرْدُ يَلْحَقُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَغْلَبِ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ثُمَّ يَشْكُلُ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَتَأَمَّلْ بَقِيَ أَنَّ الشَّكَّ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ وَالظَّنَّ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ وَالْوَهْمَ رُجْحَانُ جِهَةِ الْخَطَإِ وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ , وَغَالِبُ الظَّنِّ الرَّاجِحُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْقَلْبُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَمُطْلَقُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ هُوَ الشَّكُّ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا , فَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ عَلَى ظَنِّي لَا يَلْزَمُهُ ; لِأَنَّهُ لِلشَّكِّ وَغَالِبُ الظَّنِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِالْيَقِينِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ أَيْضًا ( فَبِذَلِكَ ) بِغَلَبَةِ رَجَاءِ الْقَبُولِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِهِ لَعَلَّ الْأُولَى وَبِغَلَبَةِ بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ ( تَعَظُّمٌ لِذَاتِهِ فِي الْمُنَاجَاةِ ) لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ ( وَالطَّاعَاتِ ) إذْ عَدَمُ قَبُولِ الْعَمَلِ يُوجِبُ الْفُتُورَ وَالْكَسْلَانَ , وَاعْتِقَادُ قَبُولِهِ يُوجِبُ النَّشَاطَ وَالِانْبِسَاطَ وَأَنَّ إطْلَاقَاتِ الْعُمُومَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تُرَجِّحُ ذَلِكَ الْجَانِبَ , وَأَنَّهُ حَسَنُ الظَّنِّ
(1/153)
بِاَللَّهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } , وَظَنُّ رَجَاءِ الْقَبُولِ مُوجِبٌ لِلْقَبُولِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ } ( وَخَوْفُهُ ) مِنْ زَوَالِ الْإِخْلَاصِ ( لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ ) يَمْحُوَ ( خَاطِرَ الرِّيَاءِ إنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ عَنْهُ ) بِأَنْ عَرَضَ لَهُ ( وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ ) لِكَوْنِهِ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ لَعَلَّ مُنَاسَبَةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِجَانِبِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَظْهَرُ مِنْ مُنَاسَبَتِهَا هُنَا إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا بَيَانُ وَجْهِ جَانِبِ الْمَغْلُوبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ وَجْهُ جَانِبِ الْغَالِبِيَّةِ إذْ الْمَطْلُوبُ مُرَكَّبٌ لَا بَسِيطٌ ( وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ ) عَلَى الرَّجَاءِ قِيلَ هُنَا قَالَ عليه الصلاة والسلام { مَنْ لَمْ يَخَفْ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَخَاتِمَتَهُ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ يَخَافُ عَلَى فَوْتِ دِينِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى } وَرُوِيَ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى } كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَالسَّنُوسِيِّ .
(1/154)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِيهَا مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ إذْ الْخَوْفُ هُنَا خَوْفُ الرِّيَاءِ وَالْخَوْفُ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ( حَتَّى نُقِلَ عَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ ) لَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي عَدِيٍّ قَبِيلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه ( حِينَ قِيلَ لَهَا بِمَ تَرْتَجِينَ ) بِأَيِّ شَيْءٍ تَطْلُبِينَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى وَرِضَاهُ ( أَنَّهَا قَالَتْ بِإِيَاسِي ) مِنْ الْيَأْسِ ( مِنْ جُلِّ عَمَلِي ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ عَظِيمِ عَمَلِي فَعَدَمُ تَعْظِيمِ الْعَمَلِ إنَّمَا يَكُونُ بِغَلَبَةِ جَانِبِ الْخَوْفِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَوْفُ مِنْ الرِّيَاءِ سِيَّمَا الْخَفِيُّ كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَلَالَةِ الْعَمَلِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ عَلَى الرَّجَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ جَلَالَةِ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْيَأْسَ مِنْ مُطْلَقِ الْعَمَلِ الْمُسْتَلْزِمِ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ ثُمَّ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ وَقَالَ ( وَاَلَّذِي عِنْدِي ) فَإِنْ قِيلَ الْمُصَنِّفُ لَيْسَ مِنْ أَرْبَابِ الِاجْتِهَادِ وَلَا مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ كَالطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ عَلَى مَا قَالُوا فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ عَنْ رَأْيِ جُمْهُورِ الْمَشَايِخِ قُلْنَا لَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَطَالِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بَلْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لِلْعُلَمَاءِ الْعَامِّيَّةِ فِيهَا حَظٌّ إذْ حَاصِلُهُ هُوَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ
(1/155)
بِمُنْقَرِضٍ عِنْدَ مُثْبِتِيهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِجَالِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ نَعَمْ الْأَصَحُّ عَدَمُ تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ ( اخْتِلَافُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ ) فَفِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ وَفِي بَعْضِهَا غَلَبَةُ خَوْفِهَا وَفِي شَخْصٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيَغْلِبُ الْخَوْفُ فِي بَعْضٍ آخَرَ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ , وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } ; إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ كُلَّ كَيِّسٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حَقِيرَةً ذَلِيلَةً , وَالْعَاجِزُ يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ وَيَرْجُو الثَّوَابَ فَأَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى تَفْسِيرِ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ { مَنْ دَانَ نَفْسَهُ } أَيْ حَاسَبَهَا وَاسْتَعْبَدَهَا وَأَذَلَّهَا وَقَهَرَهَا يَعْنِي يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُطِيعَةً لِأَوَامِرِ رَبِّهَا وَيَدُومُ بِهَا وَقَوْلُهُ { وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } مِنْ الْأُمْنِيَةِ أَيْ مَعَ تَقْصِيرِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَعْتَذِرُ وَلَا يَرْجِعُ بَلْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْعَفْوَ وَالْجَنَّةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ وَقِيلَ وَقِيلَ ( فَإِنَّ الْمُبْتَدِئَ ) فِي السُّلُوكِ ( وَمَنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنْ آثَارِ الْعُجْبِ وَالْأَمْنِ ) أَثَرُ الْأَمْنِ لَيْسَ نَفْسَ الْأَمْنِ فَلَا مَحْذُورَ ( وَالْغُرُورِ ) بِمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ فِيهِ ( وَالْبَطَالَةِ ) عَنْ الْعَمَلِ ( يَنْبَغِي لَهُمَا ) أَيْ لِلْمُبْتَدِئِ وَلِمَنْ فِيهِ تِلْكَ
(1/156)
الْأُمُورُ لَكِنْ الْغَالِبُ أَنَّ سَبَبَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْمُبْتَدِئِيَّةُ فَجَعْلُهَا مُغَايِرًا لَهُ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَإِنَّ مَنْ بَقِيَ فِيهِ تِلْكَ الْأُمُورُ لَا يَخْرُجُ عَنْ رُتْبَةِ الْمُبْتَدِئِيَّةِ وَلَوْ طَالَ زَمَانُهُ وَكَثُرَ أَوَانُهُ فِي السُّلُوكِ وَالطَّاعَاتِ ( غَلَبَةُ الْخَوْفِ وَلِغَيْرِهِمَا ) مِمَّنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ السُّلُوكِ وَرَقِيَ إلَى جَانِبِ سَيِّدِ الْمُلُوكِ بِقَطْعِ عَقَبَاتِ النَّفْسِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالرِّيَاضَةِ ( غَلَبَةُ الرَّجَاءِ أَوْ الْمُسَاوَاةُ ) بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُزَادَ نَحْوُ قَوْلِهِ وَأَنَّ شَخْصًا وَاحِدًا قَدْ يَعْرِضُ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَالَاتٌ تُرَجِّحُ جَانِبَ الْخَوْفِ وَفِي بَعْضٍ آخَرَ حَالَاتٌ أُخْرَى تُرَجِّحُ جَانِبَ الرَّجَاءِ وَفِي بَعْضِهَا الْمُسَاوَاةُ , لَعَلَّهُ اكْتَفَى بِمَا ذَكَرَ اعْتِمَادًا عَلَى الْمُقَايَسَةِ وَاسْتِظْهَارًا مِمَّا ذَكَرَ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُلَائِمُ لِمَنْ نَظَرَ مِنْ الْخَارِجِ وَالْكَلَامُ فِي نَفْسِ الْعَابِدِ فَكُلُّ عَابِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصُرَ عَمَلَهُ بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبُ ازْدَادَ الْخَوْفُ وَلِهَذَا تَرَى أَخْوَفَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءَ عليهم الصلاة والسلام ثُمَّ الْأَوْلِيَاءَ ثُمَّ وَثُمَّ وَأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا بِأَنَّهُ يَنْبَغِي غَلَبَةُ جَانِبِ الْخَوْفِ فِي الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءِ فِي الْمَرَضِ وَلَعَلَّ لِتَعَارُضِ مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ ( وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ) .
(1/157)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } نَعَمْ قِيلَ هُنَا الْمَشْهُورُ يَنْبَغِي اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ لِلصِّحَّةِ وَغَلَبَةِ الرَّجَاءِ فِي الْمَرَضِ لِلْحَدِيثِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ . وَعَنْ مَنَاهِجِ الْأَخْلَاقِ الْأَفْضَلُ عِنْدَ طَائِفَةٍ التَّسْوِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَعِنْدَ أُخْرَى غَلَبَةُ الْخَوْفِ وَفِي الْمَرَضِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ مُطْلَقًا . وَعَنْ الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْخَوْفِ إذْ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ تُفْسِدُ الْقُلُوبَ وَعَنْ الْوَاسِطِيِّ هُمَا زِمَامَا نُفُوسٍ لِئَلَّا تَخْرُجَ إلَى رَعُونَاتِهَا وَعَنْ حَدَائِقِ الْحَقَائِقِ لَا يَتَحَقَّقُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الرَّجَاءَ بِلَا خَوْفِ أَمْنٍ وَالْخَوْفُ بِدُونِ الرَّجَاءِ قُنُوطٌ وَالْأَكْثَرُ هُمَا كَجَنَاحَيْ الطَّيْرِ فَإِنْ اعْتَدَلَا طَارَ وَإِلَّا فَإِمَّا يَخْتَلُّ طَيَرَانُهُ أَوْ لَا يَطِيرُ أَصْلًا فَصَارَ كَالْمَذْبُوحِ ثُمَّ قِيلَ وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي بِلُطْفِ رَبِّي تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّجَاءِ لِحَدِيثِ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } .
(1/158)
وَقَدْ كَانَ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ قوله تعالى - { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَأَنَا أَقُولُ وَأَيْضًا { غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ تَعَالَى عَلَى غَضَبِهِ وَسَبَقَتْهَا عَلَيْهِ } كَمَا فِي أَحَادِيثَ مُفَصَّلَةٍ لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ صَرْفِ حِجَجِ جَانِبِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ ظَوَاهِرِهَا بِقَوَاعِدَ شَرْعِيَّةٍ أَوْ تَرْجِيحِ أَدِلَّةِ جَانِبِ الْوَاقِفِينَ بِتَرْجِيحَاتٍ أُصُولِيَّةٍ عَلَى نَهْجٍ مَقْبُولٍ كَيْفَ وَظَاهِرُ نَحْوِ قوله تعالى - { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } - وَنَحْوِ حَدِيثِ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَلِجَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ } وَحَدِيثِ { لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا } . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } وَمَدَحَ الْخَائِفِينَ بِقَوْلِهِ { : يَخَافُونَ رَبَّهُمْ } يُرَجَّحُ جَانِبُ الْخَوْفِ فَافْهَمْ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(يا عبادي كلكم جائع )
(1/159)
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ , وَكُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } فَيَقْتَضِي أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ : أَحَدُهُمَا . وُجُوبُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي الرِّزْقِ الْمُتَضَمِّنِ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ , كَالطَّعَامِ , وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ كَاللِّبَاسِ , وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ قُدْرَةً مُطْلَقَةً . وَإِنَّمَا الْقُدْرَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِبَعْضِ الْعِبَادِ تَكُونُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ ذَلِكَ , وَلِهَذَا قَالَ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَقَالَ : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } . فَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَقْدُورُ لِلْعِبَادِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } . وَقَوْلُهُ : { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } . وَقَوْلُهُ : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } . وَقَالَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } . فَذَمَّ مَنْ يَتْرُكُ الْمَأْمُورَ بِهِ اكْتِفَاءً بِمَا يَجْرِي بِهِ الْقَدَرُ . وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَأْمُورَ بِهِ , أَوْ الْمُبَاحَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي وُجُودِ السَّبَبِ , بَلْ الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ إلَى اللَّهِ ثَابِتَةٌ مَعَ فِعْلِ السَّبَبِ .
(1/160)
إذْ لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ وَحْدَهُ سَبَبٌ تَامٌّ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ . وَلِهَذَا لَا يَجِبُ أَنْ تَقْتَرِنَ الْحَوَادِثُ بِمَا قَدْ يُجْعَلُ سَبَبًا إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى , فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ , وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَمَنْ ظَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ بِالسَّبَبِ عَنْ التَّوَكُّلِ فَقَدْ تَرَكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ , وَأَخَلَّ بِوَاجِبِ التَّوْحِيدِ , وَلِهَذَا يُخْذَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إذَا اعْتَمَدُوا عَلَى الْأَسْبَابِ , فَمَنْ رَجَا نَصْرًا أَوْ رِزْقًا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ خَذَلَهُ اللَّهُ , كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ , وَلَا يَخَافَنَّ إلَّا ذَنْبَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَمْسَسْك اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْك بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } . وَقَالَ : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ أَخَذَ يَدْخُلُ فِي التَّوَكُّلِ تَارِكًا لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهُوَ أَيْضًا جَاهِلٌ ظَالِمٌ عَاصٍ لِلَّهِ يَتْرُكُ مَا أَمَرَهُ , فَإِنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } .
(1/161)
وَقَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَقَالَ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . وَقَالَ شُعَيْبٌ عليه السلام : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وَقَالَ : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وَقَالَ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك وَمَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْك تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْك أَنَبْنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ } . فَلَيْسَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا أُمِرَ بِهِ , وَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ بِأَعْظَمَ ذَنْبًا مِمَّنْ فَعَلَ تَوَكُّلًا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّبَبِ , إذْ كِلَاهُمَا مُخِلٌّ بِبَعْضِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ , وَهُمَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جِنْسِ الذَّنْبِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَلْوَمَ . وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرُ , مَعَ أَنَّ التَّوَكُّلَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ .
(1/162)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ , { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ , فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ , لَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ , فَإِنْ غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ , وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ , احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ , فَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا , وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ , فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } . فَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ } . أَمْرٌ بِالتَّسَبُّبِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْحِرْصُ عَلَى الْمَنَافِعِ , وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالتَّوَكُّلِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ , فَمَنْ اكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا فَقَدْ عَصَى أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ , وَنَهَى عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكَيْسِ , كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ , وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الشَّامِيِّ : { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ , وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ } .
(1/163)
فَالْعَاجِزُ فِي الْحَدِيثِ مُقَابِلُ الْكَيِّسِ , وَمَنْ قَالَ : الْعَاجِزُ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ الْبَرِّ , فَقَدْ حَرَّفَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ } . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ , يَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا سَأَلُوا النَّاسَ , فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } . فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّزَوُّدِ فَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ مِنْهُ إلَى مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا , كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ , بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ مُلْتَفِتًا إلَى أَزْوَادِ الْحَجِيجِ كَلًّا عَلَى النَّاسِ , وَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا قَلْبُهُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إلَى مُعِينٍ , فَهُوَ مُلْتَفِتٌ إلَى الْجُمْلَةِ , لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُتَزَوِّدُ غَيْرَ قَائِمٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَمُوَاسَاةِ الْمُحْتَاجِ , فَقَدْ يَكُونُ فِي تَرْكِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ , مِنْ جِنْسِ هَذَا التَّارِكِ لِلتَّزَوُّدِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
(1/164)
وَفِي هَذِهِ النُّصُوصِ بَيَانُ غَلَطِ طَوَائِفَ : فَطَائِفَةٌ تُضَعِّفُ أَمْرَ السَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَتَعُدُّهُ نَقْصًا , وَقَدْحًا فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ , وَأَنَّ تَرْكَهُ مِنْ كَمَالِ التَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ , وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ , وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِالْغَلَطِ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي إخْلَادِ النَّفْسِ إلَى الْبَطَالَةِ , وَلِهَذَا تَجِدُ عَامَّةَ هَذَا الضَّرْبِ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ يَتَعَلَّقُونَ بِأَسْبَابٍ دُونَ ذَلِكَ . فَإِمَّا أَنْ يُعَلِّقُوا قُلُوبَهُمْ بِالْخَلْقِ رَغْبَةً وَرَهْبَةً , وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكُوا لِأَجْلِ مَا تَبَتَّلُوا لَهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّوَكُّلِ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ , كَمَنْ يَصْرِفُ هِمَّتَهُ فِي تَوَكُّلِهِ إلَى شِفَاءِ مَرَضِهِ بِلَا دَوَاءٍ , أَوْ نَيْلِ رِزْقِهِ بِلَا سَعْيٍ , فَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ , لَكِنْ كَانَ مُبَاشَرَةُ الدَّوَاءِ الْخَفِيفِ وَالسَّعْيِ الْيَسِيرِ , وَصَرْفُ تِلْكَ الْهِمَّةِ , وَالتَّوَجُّهُ فِي عِلْمٍ صَالِحٍ أَنْفَعَ لَهُ , بَلْ قَدْ يَكُونُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَبَتُّلِهِ لِهَذَا الْأَمْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي قَدْرُهُ دِرْهَمٌ , أَوْ نَحْوُهُ , وَفَوْقَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ أَيْضًا نَقْصًا وَانْقِطَاعًا عَنْ الْخَاصَّةِ , ظَنًّا أَنَّ مُلَاحَظَةَ مَا فُرِّعَ مِنْهُ فِي الْقَدْرِ هُوَ حَالُ الْخَاصَّةِ . وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ } . وَقَالَ : { فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ , أَوْ غَيْرِهِ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
(1/165)
قَالَ : { لِيَسْأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ } . وَهَذَا قَدْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ أَيْضًا اسْتِهْدَاءَ اللَّهِ وَعَمَلَهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُمْ يُوجِبُ دَفْعَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُطْلَقًا , بَلْ دَفْعُ الْمَخْلُوقِ وَالْمَأْمُورِ . وَإِنَّمَا غَلِطُوا مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا سَبْقَ التَّقْدِيرِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بِالسَّبَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ , كَمَنْ يَتَزَنْدَقُ فَيَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ قَدْ سَبَقَ بِأَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ , وَلَمْ يَعْلَمْ : أَنَّ الْقَدَرَ سَبَقَ بِالْأُمُورِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَمَنْ قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ يَتَيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ , وَمَنْ قَدَّرَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ كَانَ مِمَّا قَدَّرَهُ أَنَّهُ يُيَسِّرُهُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ , كَمَا قَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , وَسُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَبِي خُزَامَةَ , عَنْ أَبِيهِ , { قَالَ : سَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا , وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا , وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا , تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ . فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } .
(1/166)
وَطَائِفَةٌ تَظُنُّ أَنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصَّةِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ , كَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَتَوَابِعِهَا كَالْحُبِّ , وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ , وَالشُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ , بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ الْأُمُورِ فُرُوضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ , وَمَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُنَافِقٌ , لَكِنَّ النَّاسَ هُمْ فِيهَا كَمَا هُمْ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ , فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ , وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ , وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ , وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ طَافِحَةٌ بِذَلِكَ , وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِأَقَلَّ لَوْمًا مِنْ التَّارِكِينَ لِمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ مَعَ تَلَبُّسِهِمْ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ , بَلْ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ مِنْ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ , إنْ كَانَتْ الْأُمُورُ الْبَاطِنَةُ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ وَأُصُولَهَا , وَالْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ كَمَالَهَا وَفُرُوعَهَا الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَا
***************
6. العدالة في توزيع المواهب والطاقات والنعم بين الناس :
(1/167)
فقد أعطى الله تعالى كل واحد منا نعما كثيرة فلينظر الإنسان إليها ولا ينظر على ما أعطى الله غيره من نعم أخرى قال تعالى { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا {18} وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا {19} كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا {20} الإسراء
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ». قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ « عَلَيْكُمْ ». أخرجه مسلم
****************
أمثلة هامة
? معركة بدر التي لم يخطط لها حيث خرج المسلمون للاستيلاء على القافلة التجارية :
ولم يخرجوا لمعركة ولكن الله أراد ما هو خير من ذلك فلو استولى المسلمون على القافلة (( وهي جزء من حقهم المسلوب )) لصدق الناس دعاية قريش بأن المسلمين قطاع طرق فانظر على الفرق بين النتيجتين قال تعالى { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ {5} يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ {6} وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ {7} لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ {8} الأنفال
(1/168)
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ ، وما كرهوا من أجله القتال ، حتى ليقول عنهم القرآن الكريم : { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } . . وذلك بعد ما تبين الحق ، وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما ما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى ، وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم . كانت ما كانت . كانت العير أو كانت النفير . كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة .
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر؛ ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغم من الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع؛ فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة؛ ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق ، وتواجه الخطر فعلاً ، وتنتصر على الهزة الأولى! . . لقد كان هؤلاء هم أهل بدر ، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم » . وهذا يكفي . .
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها :
{ وإذ يعدكم الله إحد الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } . .
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك . أما ما أراده الله لهم ، وبهم ، فكان أمراً آخر :
{ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ، ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ، ولو كره المجرمون } .
(1/169)
وقال تعالى { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {42} إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {43} وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ {44} الأنفال
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى ، وهي توقف هؤلاء هنا ، وهؤلاء هناك ، والقافلة من بعيد! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر ، وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد ، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية ، وبهذه الحركة المرئية ، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير!
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص ، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
(1/170)
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } . .
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع ، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه ، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به!
إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد ، وتدل دلالة لا تنكر ، على تدبير وراء تدبير البشر ، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا ، وأنه لو كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم .
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال : « فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة »! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين ، وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة!
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } . . ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر :
(1/171)
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه في عالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى؛ كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ، ويخذل الطغاة .
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن ، فينبئ أصحابه برؤياه ، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة . . ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً . فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً ، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه ، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال ، ولضعفوا عن لقاء عدوهم؛ وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم : فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم . . وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً!
{ ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور } . .
ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً ، ولم يرهم إياه كثيراً . .
(1/172)
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية . فقد رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلاً . . وهم كثير عددهم ، ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة ، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع ، والإيمان الدافع ، والزاد النافع . . وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة . والله عليم بسرائرهم ، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم ، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم ، من ضعف عن المواجهة؛ وتنازع على الالتحام أو الإحجام . وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور .
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه ، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة ، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به؛ عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها .
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ، ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور } . .
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة . . والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً - لأنهم يرونهم بعين الحقيقة! - والمشركون يرونهم قليلاً - وهم يرونهم بعين الظاهر - ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها ، تحققت غاية التدبير الإلهي؛ ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه .
{ وإلى الله ترجع الأمور } . .
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء . . فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده ، يصرفها بسلطانه ، ويوقعها بإرادته ، ولا تند عن قدرته وحكمه . ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره .
وإذ إن الأمر كذلك . . التدبير تدبير الله . والنصر من عند الله . والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر . والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة . .
( الظلال)
? وفي صلح الحديبية كذلك
(1/173)
فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِى خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ ». فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِى يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ. فَأَلَحَّتْ فَقَالُوا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « مَا خَلأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ».
(1/174)
ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَطَشُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّىِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِىُّ فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ إِنِّى تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَىٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَىٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِى وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِى هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ ». فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ.
(1/175)
قَالَ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلاً فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لاَ حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَىْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْىِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ. قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى. قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ قَالُوا بَلَى. قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِى. قَالُوا لاَ. قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّى اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ فَلَمَّا بَلَّحُوا عَلَىَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِى وَوَلَدِى وَمَنْ أَطَاعَنِى قَالُوا بَلَى. قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا وَدَعُونِى آتِهِ. قَالُوا ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنِّى وَاللَّهِ لأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّى لأَرَى أَوْشَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ. قَالَ أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِى لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لأَجَبْتُكَ.
(1/176)
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. فَقَالَ أَىْ غُدَرُ أَلَسْتُ أَسْعَى فِى غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَّا الإِسْلاَمَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِى شَىْءٍ ». ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَيْنَيْهِ.
(1/177)
قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَىْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِىِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِى كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى كِنَانَةَ دَعُونِى آتِهِ. فَقَالُوا ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « هَذَا فُلاَنٌ وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ ». فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ.
(1/178)
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ. فَقَالَ دَعُونِى آتِهِ. فَقَالُوا ائْتِهِ. فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ ». فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ». قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ». قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا هُوَ وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لاَ نَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ». ثُمَّ قَالَ « هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ». فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَاللَّهِ إِنِّى لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِى. اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ». قَالَ الزُّهْرِىُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ « لاَ يَسْأَلُونِى خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا ».
(1/179)
فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ ». فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لاَ تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا. قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِى قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَىَّ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ ». قَالَ فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَىْءٍ أَبَدًا. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « فَأَجِزْهُ لِى ». قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ. قَالَ « بَلَى فَافْعَلْ ». قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ. قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَىْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِى اللَّهِ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ « بَلَى ». قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ « بَلَى ».
(1/180)
قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ « إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهْوَ نَاصِرِى ». قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ « بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ ». قَالَ قُلْتُ لاَ. قَالَ « فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ». قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِىَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى. قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى. قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا إِذًا قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ وَهْوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِى الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لاَ. قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ « قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا ». قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِىَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ.
(1/181)
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) حَتَّى بَلَغَ ( بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِى الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ وَالأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ثُمَّ رَجَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ - رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَهْوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِى طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِى جَعَلْتَ لَنَا. فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلاَنُ جَيِّدًا. فَاسْتَلَّهُ الآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ. فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ وَفَرَّ الآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُ « لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا ».
(1/182)
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِى وَإِنِّى لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِى إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِى اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ ». فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ. قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلاَّ لَحِقَ بِأَبِى بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلاَّ اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهْوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حَتَّى بَلَغَ (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِىُّ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. أخرجه البخاري
(1/183)
واعتبره القرآن الكريم فتحا مبينا بالرغم مما حدث في بعض بنود الصلح قال تعالى { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا {2} وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا {3} هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {4} لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا {5} الفتح
هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة . الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إلهام ربه ، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق؛ ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة ، لا يستفزه عنه مستفز ، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية . ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم ، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق؛ كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر ، شأن الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم بقيت على اطمئنانها دائماً ، ولم تفارقها الطمأنينة أبداً .
ومن ثم جاء افتتاح السورة بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرح لها قلبه الكبير فرحاً عميقاً : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما . وينصرك الله نصراً عزيزا } .
(1/184)
تفتتح السورة بهذا الفيض الإلهي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - : فتح مبين . ومغفرة شاملة . ونعمة تامة . وهداية ثابتة . ونصر عزيز . . إنها جزاء الطمأنينة التامة لإلهام الله وتوجيهه . والاستسلام الراضي لإيحائه وإشارته . والتجرد المطلق من كل إرادة ذاتية . والثقة العميقة بالرعاية الحانية . . يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها . وتبرك الناقة ، ويتصايح الناس : خلأت القصواء . فيقول : « ما خلأت . وما هو لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها » . ويسأله عمر بن الخطاب في حمية : فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فيجيبه : « أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني » . ذلك وحين يشاع أن عثمان قتل يقول - صلى الله عليه وسلم - : « لا نبرح حتى نناجز القوم » . ويدعو الناس إلى البيعة ، فتكون بيعة الرضوان التي فاض منها الخير على الذين فازوا بها وسعدوا .
وكان هذا هو الفتح؛ إلى جانب الفتح الآخر الذي تمثل في صلح الحديبية ، وما أعقبه من فتوح شتى في صور متعددة :
كان فتحاً في الدعوة . يقول الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه . إنما كان القتال حيث التقى الناس . فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا ، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه . ولقد دخل في تينك السنتين ( بين صلح الحديبية وفتح مكة ) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر .
قال ابن هشام : والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله .
ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف .
وكان ممن أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
(1/185)
وكان فتحاً في الأرض . فقد أمن المسلمون شر قريش ، فاتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تخليص الجزيرة من بقايا الخطر اليهودي - بعد التخلص من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة - وكان هذا الخطر يتمثل في حصون خيبر القوية التي تهدد طريق الشام . وقد فتحها الله على المسلمين ، وغنموا منها غنائم ضخمة ، جعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن حضر الحديبية دون سواهم .
وكان فتحاً في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها . يقول الأستاذ محمد عزة دروزة بحق في كتابه : « سيرة الرسول . صور مقتبسة من القرآن الكريم » :
« ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق . بل إنه ليصح أن يعد من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية ، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده ، أو بالأحرى من أعظمها . فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما ، واعتبرت النبي والمسلمين أنداداً لها ، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن ، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين ، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم ، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلتهم إزاء الغزاة . ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب ، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة ، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر . وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة ، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون . بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبعد مداه .
(1/186)
» ولقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل ، وأيده في القرآن ، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه . إذ قووا في عيون القبائل ، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار ، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتاً وشأنهم ضآلة ، وإذ صار العرب يفدون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنحاء قاصية ، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام ، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء ، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها ، وكان في ذلك النهاية الحاسمة ، { إذ جاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً } ونحن نعود فنؤكد أنه كان هناك - إلى جانب هذا كله - فتح آخر .
فتح في النفوس والقلوب ، تصوره بيعة الرضوان ، التي رضي عنها الله وعن أصحابها ذلك الرضى الذي وصفه القرآن . ورسم لهم على ضوئه تلك الصورة الوضيئة الكريمة في نهاية السورة : { محمد رسول الله . والذين معه . . . } فهذا فتح في تاريخ الدعوات له حسابه ، وله دلالته ، وله آثاره بعد ذلك في التاريخ .
(1/187)
ولقد فرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه السورة . فرح قلبه الكبير بهذا الفيض الرباني عليه وعلى المؤمنين معه . فرح بالفتح المبين . وفرح بالمغفرة الشاملة ، وفرح بالنعمة التامة ، وفرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم . وفرح بالنصر العزيز الكريم . وفرح برضى الله عن المؤمنين ووصفهم ذلك الوصف الجميل . وقال - في رواية - : « نزل عليّ البارحة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها » . وفي رواية : « لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس » . وفاضت نفسه الطيبة بالشكر لربه على ما أولاه من نعمته . فاضت بالشكر في صورة صلاة طويلة مديدة ، تقول عنها عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى قام حتى تنفر رجلاه ، فقالت له عائشة - رضي الله عنها - يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « يا عائشة ، أفلا أكون عبداً شكوراً؟ » .
ذلك الافتتاح كان نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة؛ ثم مضى السياق يصف نعمة الله على المؤمنين بهذا الفتح ، ومس يده لقلوبهم بالسكينة ، وما ادخره لهم في الآخرة من غفران وفوز ونعيم :
{ هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ولله جنود السماوات والأرض ، وكان الله عليماً حكيماً . ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } . .
والسكينة لفظ معبر مصور ذو ظلال؛ والسكينة حين ينزلها الله في قلب ، تكون طمأنينة وراحة ، ويقيناً وثقة ، ووقاراً وثباتاً ، واستسلاماً ورضى .
(1/188)
ولقد كانت قلوب المؤمنين في هذه الواقعة تجيش بمشاعر شتى ، وتفور بانفعالات متنوعة . كان فيها الانتظار والتطلع إلى تصديق رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخول المسجد الحرام؛ ثم مواجهة موقف قريش وقبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجوع عن البيت فى هذا العام ، بعد الإحرام ، وبعد إشعار الهدي وتقليده . كان هذا أمراً شاقاً على نفوسهم ما في ذلك ريب . وقد روي « عن عمر - رضي الله عنه - أنه جاء أبا بكر وهو مهتاج ، فكان مما قال له » - غير ما أثبتناه في صلب رواية الحادث - :
« أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال أبو بكر - » الموصول القلب بقلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ينبض قلبه على دقات قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بلى . أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال : لا . قال : فإنك تأتيه وتطوف به . فتركه عمر - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له فيما قال : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال - صلى الله عليه وسلم : » بلى . أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ « . قال : لا . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فإنك آتيه ومطوف به » . فهذه صورة مما كان يجيش في القلوب . .
وكان المؤمنون ضيقي الصدور بشروط قريش الأخرى ، من رد من يسلم ويأتي محمداً بغير إذن وليه . ومن حميتهم الجاهلية في رد اسم الرحمن الرحيم . وفي رد صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي أن علياً - رضي الله عنه - أبى أن يمحو هذه الصفة كما طلب سهيل بن عمرو بعد كتابتها ، فمحاها رسول الله بنفسه وهو يقول : « اللهم إنك تعلم أني رسولك »
(1/189)
وكانت حميتهم لدينهم وحماستهم للقاء المشركين بالغة ، يبدو هذا في بيعتهم الإجماعية؛ ثم انتهى الأمر إلى المصالحة والمهادنة والرجوع . فلم يكن هيناً على نفوسهم أن تنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه . يبدو هذا في تباطئهم في النحر والحلق ، حتى قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً . وهم من هم طاعة لأمر رسول الله وامتثالاً . كالذي حكاه عنهم لقريش عروة ابن مسعود الثقفي . ولم ينحروا ويحلقوا أو يقصروا إلا حين رأوا رسول الله يفعل هذا بنفسه ، فهزتهم هذه الحركة العملية ما لم يهزهم القول ، وثابوا إلى الطاعة كالذي كان فى دهشة المأخوذ!
وهم كانوا قد خرجوا من المدينة بنية العمرة ، لا ينوون قتالاً ، ولم يستعدوا له نفسياً ولا عملياً . ثم فوجئوا بموقف قريش ، وبما شاع من قتلها لعثمان ، وبإرسال النفر الذين رموا فى عسكر المسلمين بالنبل والحجارة . فلما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المناجزة وطلب البيعة أعطوها له عن بكرة أبيهم . ولكن هذا لا ينفي موقف المفاجأة على غير ما كانت نفوسهم قد خرجت له . وهو بعض ما كان يجيش في قلوبهم من انفعالات وتأثرات . وهم ألف وأربعمائة وقريش في دارها ، ومن خلفهم الأعراب والمشركون .
وحين يسترجع الإنسان هذه الصور يدرك معنى قوله تعالى : { هو الذى أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } . . ويذوق طعم اللفظ وطعم العبارة ، ويتصور الموقف يومئذ ويعيش فيه مع هذه النصوص ، ويحس برد السكينة وسلامها في تلك القلوب .
ولما كان الله يعلم من قلوب المؤمنين يومئذ ، أن ما جاش فيها جاش عن الإيمان ، والحمية الإيمانية لا لأنفسهم ، ولا لجاهلية فيهم . فقد تفضل عليهم بهذه السكينة : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } والطمأنينة درجة بعد الحمية والحماسة ، فيها الثقة التي لا تقلق ، وفيها الرضى المطمئن باليقين .
(1/190)
ومن ثم يلّوح بأن النصر والغلب لم يكن عسيراً ولا بعيداً ، بل كان هيناً يسيراً على الله لو اقتضت حكمته يومئذ أن يكون الأمر كما أراده المؤمنون ، فإن لله جنوداً لا تحصى ولا تغلب ، تدرك النصر وتحقق الغلب وقتما يشاء : { ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيما } . . فهي حكمته وهو علمه ، تسير الأمور وفقهما كما يريد .
وعن العلم والحكمة : { أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } . ليحقق لهم ما قدره من فوز ونعيم :
{ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ويكفر عنهم سيئاتهم ، وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً } . .
وإذا كان هذا في حساب الله فوزاً عظيماً ، فهو فوز عظيم! فوز عظيم في حقيقته ، وفوز عظيم في نفوس من ينالونه من عند الله مقدراً بتقديره ، موزوناً بميزانه . . ولقد فرح المؤمنون يومها بما كتب الله لهم؛ وكانوا قد تطلعوا بعدما سمعوا افتتاح السورة ، وعلموا منه ما أفاض الله على رسوله . تطلعوا إلى نصيبهم هم ، وسألوا عنه ، فلما سمعوا وعلموا فاضت نفوسهم بالرضى والفرح واليقين . ( الظلال)
? وفي حياة الناس العملية قصص كثيرة من هذا القبيل :
فقد كان عندنا رجل لا يملك سوى فرسا تحمل أثقاله ويفلح عليها وفي يوم من الأيام ماتت فبكى عليها بكاء مرا و كان يقول : يا رب ليس لي إلا هذه الفرس فكيف تأخذها ؟ وبعد سنين رزقه الله الأموال الوفيرة والسيارات وغير ذلك ومثل هذه كثير جدا
? يأس الكفار من رحمة الله :
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ {13} الممتحنة
قال العلامة الطاهر بت عاشور رحمه الله :
(1/191)
بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين ، جاء في خاتمتها الإِرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود ، فالمراد بهم غير المشركين إذ شُبه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار ، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه .
وقد نعتهم الله بأنهم قوم غَضب الله عليهم ، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم . فتكون هذه الآية مثلَ قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء } في سورة [ العقود : 57 ] .
ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذٍ بجوار المسلمين من أهل المدينة . وذكر الواحدي في أسباب النزول } : أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم ، وربما أخبروا اليهودَ بأحوال المسلمين عن غفلة وقِلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم .
واليَأس : عدم توقع الشيء فإذا علق بذاتتٍ كان دالاً على عدم توقع وجودها . وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتمِلاً أن يراد به الإِعراضُ عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسُون منها ، وهذا في معنى قوله تعالى في شأنهم : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } في سورة [ البقرة : 86 ] .
وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإِعراض وعدم التفكر في الأمر ، شُبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعثثِ وفيه تشنيع المشبه ، ومِن أصحاب القبور } على هذا الوجه متعلق ب { يئسوا } . و { الكفار } : المشركون .
(1/192)
ويجوز أن يكون { من أصحاب القبور } بياناً للكفار ، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظّ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة ، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة . والمعنى كيأس الكفار الأمواتتِ ، أي يأساً من الآخرة .
والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسوس بالمعقول .
وفي استعارة اليأس للإِعراض ضرب من المشاكلة أيضاً .
ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة . فالمعنى : قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى : { والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي } في سورة [ العنكبوت : 23 ] .
ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] فالقوم الذين غَضَب الله عليهم هم المشركون فإنهم وُصفوا بالعدوِّ لله والعدوُّ مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس . وجعل يأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث .
وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار ، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون { مِن } بيانية صفة للكفار ، وليست متعلقة بفعل { يئس } فليس في لفظ { الكفار } إظهار في مقام الإِضمار وإلاّ لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم .
*************
? -الشعراء يحذرون من اليأس
لعمرُكَ لليأسُ غيرُ المري * ثِ (المريث) خيرٌ من الطمعِ الكاذبِ
-وللريثُ تحفزهُ بالنجا * حِ (بالنجاح) خيرٌ من الأملِ الخائبِ
-يرى الحاضرُ الشاهدُ المطمئن * من الأمرِ ما لا يرى الغائبُ
خويلد بن مطحل
وما نالَ مثلَ اليأسِ طالبُ حاجةٍ * إِذا لم يكنْ فيها نجاحٌ لطالبِ
ابن هرمة
لا تيأسنَّ من انفراجِ شديدةٍ * قد تنجلي الغمراتُ وهي شدائدُ
(1/193)
-كم كربةٍ أقسمتُ ألا تنقضيْ * زالت وفرجَها الجليلُ الواحدُ
صالح عبد القدوس
قد يدركُ المرء بعد اليأسِ حاجتَه * وقد يبلُ بعد القلةِ العددا
أسامة البجلي
إِذا ما أجلتَ الفكرَ في مطلبٍ فلم * تجدْ حيلةً منه فذروهُ بحالهِ
-فلليأس عن إِدراكِ ما عزَّ نيلهُ * على القلبِ بردٌ مثلُ برد منالهِ
ابن خاتمة الأندلسي
وفي اليأسِ خيرٌ للتقى وراحةٌ * من الأمرِ قد ولىَّ فلا المرءُ نائلهْ
أبو الأسود
وفي اليأسِ للنفسِ راحةٌ * إِذا النفسُ رامتْ خطةً لا تنالهُا
قيس بن ذريح
شرُ العواقبِ يأسٌ قلبه أملٌ * وأعضلُ الداءِ نكسٌ بعد إِبلالِ
-المرءُ طاعةُ أيام تنقلُه * تنقلَ الظل من حالٍ إِلى حالِ
البحتري
إِذا اشتملتْ على اليأسِ القلوبُ * وضاقَ لما به الصدرُ الرحيبُ
-وأوطنتِ المكارهُ واستقرتْ * وأرستْ في أماكنِها الخطوبُ
-ولم ترَ لانكشافِ الضُّرِّ وجهاً * ولا أغنى بحيلتهِ الأريبُ
-أتاكَ على قُنوطٍ منك غوثٌ * يمنُّ به اللَّطيفُ المستجيبُ
-وكُلُّ الحاثاتِ إِذا تناهَتْ * فموصولٌ بها فَرَجٌ قريبُ
علي بن أبي طالب
فلا تشعرنَّ النفسَ يأساً فإِنما * يعيشُ بجدٍ حازمٌ وبليدُ
ظالم الدؤلي
ما طالَ عهدُ اليأسِ في قلبِ امرئٍ * إِلا استبانَ على الجبينِ خطوطُ
-مهما طما بحرٌ به هو سابحٌ * فلهُ على الجنباتِ منه شطوطُ
-إِنا بعصرٍ لاحياةَ بأرضهِ * إِلا لمن هو في الحياةِ نشيطُ
-وإِذا تقدمتِ الشعوبُ حضارةً * تزدادُ فيها للحياةِ شروطُ
جميل صدقي الزهاوي
إِذا أنتَ لم تأخذْ من اليأسِ عصمةً * تشدُّ بها في راحتيكَ الأصابعُ
-شربتَ بطرقِ الماءِ حيث لقيتهُ * على رَنَقٍ واستعبدتْكَ المطامعُ
-وفي اليأسِ عن بعض المطامعِ راحةٌ * ويا ربَّ خيرٍ أدركتْهُ المطامعً
ابن هرمة
أرى اليأسَ أدنى للرشادِ وإِنما * دنا العيُّ للإِنسانِ من حيث يطمعُ
-فدعْ أكثرَ الأطماعِ عنك فإِنها * تضرُّ وأن اليأسَ لا يزالَ ينفعُ
الفطامي
(1/194)
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً * ولكن لا حياةَ لمن تنادي
-ولو ناراً لانفختَ بها أضاءتْ * ولكن أنتَ تنفخُ في رمادِ
عمرو بن معد يكرب
وفي اليأسِ من أن تسأل الناسَ راحةٌ * تميتُ بها عسراً وتُحْيي بها يسرا
خلف الأقطع
وغِرَّةُ مرة من فعلِ غِرٍ * وغِرَّةُ مرتينِ فِعالُ موُق
-فلا تفرحْ بأمرٍ قد تَدَنَّى * ولا تيأسْ من الأمرِ السحيقِ
-فإِن القربَ يبعدُ بعد قربٍ * ويدنو البعدُ بالقدرِ المسوق
-ومن لم يتقِ الضحضاحَ زلتْ * به قدماهُ في البحرِ العميقِ
-وما اكسبَ المحامدَ طالبوها * بمثل البشرِ والوجهِ الطليقِ
شاعر
لا تيأسنْ من روح ربك وارجهُ * في كل حالٍ فهو أكرمُ من رُجي
-وإِذا عَرَتْكَ من الليالي شدةٌ * فاعلمْ بأنَ مآلها لتفرُّجِ
-فانظرْ بعين هُداكَ لا عين السَّوى * وبنورِ عقلِكَ فاستضئْ واستسرجِ
-وإِذا لهجتَ من الأمورِ بمأربٍ * فيما يؤدي للسلامةِ فالهجِ
حازم القرطاجني
لم يَبْقَ شيءٌ من الدنيا بأيدينا * إِلا بقيةُ دَمْعٍ في مآقينا
-كنا قلادةَ جيدِ الدهرِ فانفرطتْ * وفي يمينِ العُلا كنا رياحينا
-كانت منازلُنا في العزِّ شامخةً * لا تشرقُ الشمس إِلا في مَغانينا
-فلم نزلْ وصروفُ الدهرِ ترمقُنا * شزراً وتخدعُنا الدنيا وتلهينا
-حتى غدونا ولا جاهٌ ولا نَسَبٌ * ولا صديقٌ ولا خِلٌ يُواسِنا
حافظ إِبراهيم
**************
وأخيرا فلا يجوز للمسلم أن ييأس أو يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى
(1/195)
فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ « كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ». أخرجه البخاري
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ». وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ. أخرجه أحمد
(1/196)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنَّا قُعُوداً فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حَدِيثَهُ فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىُّ فَقَالَ يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الأُمَرَاءِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ. فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ». أخرجه أحمد
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى وَسُئِلَ أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ. قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَاباً . قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةَُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً ». يَعْنِى قُسْطَنْطِينِيَّةَ. أخرجه أحمد
(1/197)
وقال تعالى { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {52} غافر
يقول السيد رحمه الله :
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب . .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى ، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ، وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين ، الذين يكل إليهم رايته ، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ، والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم: متى نصر الله ؟ ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف ، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب ، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله ؟ . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله ، ويجيء النصر من الله:
ألا إن نصر الله قريب . .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ، فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله ، لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
(1/198)
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ، مستحقين لها ، جديرين بها ، بعد الجهاد والامتحان ، والصبر والثبات ، والتجرد لله وحده ، والشعور به وحده ، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ، ويرفعها على ذواتها ، ويطهرها في بوتقة الألم ، فيصفو عنصرها ويضيء ، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع ، وكما يقع في كل قضية حق ، يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق ، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها ، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة ، والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها ، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون ، والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى ، وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
ويقول :
(1/199)
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ؛ وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه [ صلى الله عليه وسلم ] وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ؛ وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة ، وهو يقول:"هذا أمر قد توجه" . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت ، فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال ، ومن ذوي المكانة فيهم ، مضطرة إلى التظاهر بالإسلام ، والانضمام إلى المجتمع المسلم ، بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ؛ وتتربص بهم الدوائر ؛ وتتلمس الثغرات في الصف ؛ وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم ، ليظهروا كوامن صدورهم ، أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود ، الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين ، وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة ؛ وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج ، بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر ، وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة ، وانطلقوا بكل ما يمكلون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي ، وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين ، ونشر الشبهات والشكوك ، في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !
(1/200)
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما كان بين اليهود والنبي [صلى الله عليه وسلم ] من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر ، يحسبون ألف حساب لانتصار محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ومعسكر المدينة ، وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيآن لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات ، ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها ، وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع ، وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ؛ ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف ، مؤثرة في مقاديره . [ كما يتجلى ذلك في أحداث غزوة أحد عند استعراض النصوص الخاصة بها في السورة ] .
(1/201)
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة ، وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ] .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين ، غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة ، لتأخذ بعد ذلك طريقها .
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق ! أليسوا بالمسلمين ؟ أليس أعداؤهم بالكافرين ؟ وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !
(1/202)
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة ، فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس ، وتكوين الصفوف ، وإعداد العدة ، واتباع المنهج ، والتزام الطاعة والنظام ، واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في "غزوة أحد" على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا ، وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ؛ وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنة ، ويسقط في الحفرة ، ويغوص حلق المغفر في وجنته [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !
ويسبق استعراض "غزوة أحد" وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ؛ ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة ، والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب ، سواء منها ما هو ناشىء من انحرافاتهم هم في معتقداتهم ، وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة .
*******************
اليأس والأمل
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:
(1/203)
عباد الله: حياة الإنسان مليئة بالأكدار والمشاكل التي تنغص الحياة وتجعلها جحيماً بعدما كانت نعيماً.. والناس تجاه تلك المشاكل العامة: إما مؤمل بالخير والفرج وإما يائس من حصول الخير.. ولكل حكمه في شريعة الله.. وعندما نتدبر كتاب ربنا نجد أنه يدعو دائماً إلى التفاؤل، وحسن الظن، وانتظار الفرج.. أمل مع صبر, دون جزع ولا فزع.. وهذا الدين العظيم دائماً ما يدعو العبد إلى أن يكون مستبشراً بالخير، مطمئناً بما قدره الله عليه، منتظراً الفرج من مقدر الأمور وقاضيها -عز وجل-.. وقد نهى الله عن اليأس والقنوط مهما كانت الظروف والمصائب.
فإذا ما عمل العبد معصية أو معاصي كثيرة فلا ييأس من مغفرتها ومحوها وفتح صفحة جديدة بيضاء.. واليأس من رحمة الله ومغفرة الله جريمة في حق العبد؛ لأن الله –تعالى- رحيم بعباده، يرحم من استغفره وتاب وأقلع عن السيئات... وهو يحب العبد الذي يعود إليه ويندم على ما قصر وفرط في جنب الله، ولهذا يقول الله:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر .
إن كثيراً من الناس عندما يعملون الجرائم العظام، والموبقات والمهلكات من السيئات، يدب إلى قلوبهم اليأس ويرون أن تلك الأمور تهلكهم، ولا يرون للتوبة باباً ولا منفذاً، ويقول الواحد منهم: كم عملت! وكم عصيت! وكم أسأت!.. لا يغفر الله لي!! لا يمكن أن تمحى تلك الذنوب بسهولة!! وهذا جرم في حق النفس وفي جنب الله. لأن الله يقبل توبة عبده إذا تاب، فلا يحل لمن وقع في الخطيئة أن يوسوس له الشيطان، ويبعده عن الرحمن.. وليتب إلى الله قبل فوات الأوان...
(1/204)
عباد الله: هذا يعقوب -عليه السلام- يربي أبناءه – وهو النبي الكريم ابن الكريم- ويقول لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (87) سورة يوسف إن اليأس من رحمة الله كفر بالله؛ لأن في ذلك عدم تعظيم لله, وعدم معرفة سعة رحمة الله، أو إنكار لها واتكال على الأمور الظاهرة المحضة، دون لجوء إلى القادر الذي لا نراه ولكننا نرى آثاره الهائلة الكبيرة!
عباد الله: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلن إعلاناً عاماً للبشرية كلها ويقول: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)) رواه مسلم.
ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم، وحب للقوة والشجاعة، وترك للفتور والخور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، في مجابهة الأمور، في المخالطة والعزلة، في كل شؤونه، يعد مؤمناً ذكياً قوياً يستطيع – بعون الله- أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات.. لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان -مع أن فيهم خيراً- من تبرير الفشل والكسل والعجز بمسوغات إنما هي خروج عن حقيقة الأمور.. إن المؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دوماً لا يخاف دون الله أحداً.. ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة.. لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل..
الله أكبر! ما أعظمها من كلمات لو تدبرهن عاقل.. إنه تفويض للأمور وإرجاع لها إلى باريها..
(1/205)
يا معشر الدعاة.. يا معشر المربين.. ويا معشر العاملين في ساحة الإسلام: الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ليس إلا سحابة سوداء سوف تنجلي عن قريب.. واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور وخور وترك مسايرة الركب والسبق به، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب.. فصححوا المفاهيم وأمِّلوا الأمة بالخير... أخي المسلم: لا تيأس فالنصر قادم أما تؤمن بقول الله –تعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة ويقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: ((.. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).. رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: ليس اليأس ولا التطير ولا التشاؤم من طبع المؤمن؛ لأن المؤمن يحسن الظن بالله -عز وجل- ويتوكل عليه، ويؤمن بقضائه وقدره، وقد ورد في الصحيح: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب) ثم بينهم فقال: ( هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) متفق عليه. والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتفاءل ولا يتطير ويعجبه الاسم الحسن) كما روى ذلك الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ييأس من شيء، بل كان دائم التفاؤل والاستبشار بتوفيق الله -عز وجل-.. حين يتعامل المؤمن مع الأحداث الهائلة التي تحصل له بمثل هذه الروح الزكية القوية، فإن الشدائد تتصاغر في حسه مهما عظمت، ويتولد في نفسه نوع من اللقاح الذي يعينه على مواجهة الشدائد والصعاب، ويوجهه للتعامل معها بواقعية بحيث يضع الأمور في نصابها، من دون تهويل ولا مبالغة.
(1/206)
أيها المسلمون: من العلل والأمراض النفسية المتفشية في كثير من الناس اليأس والجزع والحزن عند المصيبة، والفرح والبطر عند إقبال الدنيا! ويعود السبب إلى أن معظم البشر لا يضعون الأمور في نصابها، بل يميلون إلى التهويل والمبالغة في التعامل مع المشكلات، وقد صور القرن الكريم هذه الحالة في عدد من الآيات، منها قوله –تعالى-:{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا } (83) سورة الإسراء. وقوله -تعالى-: {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} (49) سورة فصلت. وقوله –تعالى-:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} ( 9-10) سورة هود.
ومن رحمة الله -تعالى- بعباده المؤمنين أنه منَّ عليهم فشفاهم من هذه العلة، ووهبهم ما يعينهم على وضع الأمور في نصابها وأن تكون نظرتهم للحياة معتدلة من غير إفراط ولا تفريط، وقد صور القرآن الكريم حال المؤمنين هذه في أ عقاب الآيات المتقدمة من سورة هود بقوله –تعالى-:{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (11) سورة هود.
فاليأس لا يجوز في حياة المسلم؛ لأنه من صفات الكفار والذين لا يعرفون حقيقة دين الله –تعالى-.
اللهم إنا نعوذ بك من القنوط من رحمتك, ومن اليأس من الخير والفرج، يا رب العالمين.. هذا واستغفروا الله إن الله كان غفوراً رحيماً.
الخطبة الثانية:
(1/207)
الحمد لله القادر على كل شيء، مفرج الكروب، وغافر الذنوب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي المحبوب، الذي بعث إلى الناس جميعاً، لإخراجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان والعلم والسعادة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: لا نتصور مؤمناً بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووقعت في طريقه العقبات، إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال، قال –تعالى-:{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} (56) سورة الحجر
وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل، ونظاماً ربانياً لا يتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. إن الأيام دول بين الناس، وإن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر.. والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة.. ولكنها أدوار وأطوار، تعترض الأمم والشعوب، كما تعترض الآحاد والأفراد..{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (140) سورة آل عمران. وإن حكمة الله في ذلك أن يبلو المؤمنين، ويختبر الصادقين، ويميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، ويؤجر الصادقون الثابتون.. نصراً وتأييداً في الدنيا، ومثوبة ومغفرة في الآخرة..{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} (31) سورة محمد.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) سورة آل عمران
{
(1/208)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف.
ولم تتخلف هذه القاعدة الربانية -وهي أن النصر لا يأتي إلا إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر – حتى في الأمم السالفة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود، وتحركت بعد خمود، وكم من أمة بطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود..!! وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
قال –تعالى-: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}... إلى قوله-تعالى-:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (6) سورة الإسراء.
وقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (4)-(6) سورة القصص.
عباد الله:
(1/209)
إن القرآن ليمد الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوة لا تفيض إلا من رحمة الله وقدرته، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين، وما يعلم جنود ربك إلا هو...
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (173)-(175) سورة آل عمران.
{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (23) سورة المائدة.
وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصابرين أنهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليسر، أو تتحقق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكن الله العليَّ يدني لهم ما بعد، ويهون عليهم ما صعب، ويوافيهم بالنصر من حيث لا يحتسبون..
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} (2)-(3) سورة الحشر.
{
(1/210)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (25) سورة الأحزاب.
فيا أيها المؤمنون بهذا الكتاب الكريم:
أيليق بكم أن يقول قائل: ماذا نصنع أمام هذه الطامات ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء؟ أو يجمل بأحدكم أن يتخلف وفي صدره هذ الأمل الواسع، ومن ورائه هذا التأييد الإلهي الشامل!! اللهم.. لا..
فأمِّلوا خيراً، واطلبوا العلو دائماً، وإياكم والارتماء في مستنقع الذل والهزيمة النفسية واليأس في كافة مجالات الحياة..
اللهم إنا نسألك عزاً للإسلام والمسلمين اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين..
والله أعلم.
****************
وهناك بعض الإخوة الذين كتبوا شيئا مفيدا في هذا الموضوع أنقل خلاصة ما كتبوا ليكمل هذا الموشوع الجلل
رسالة حول البشائر بنصر الإسلام :
المقدمة :
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنه لا يخفى على أحد واقع المجتمع الإسلامي اليوم، وبُعْدَه عمّا أراده الله منه شرعاً وديناً. وهذا أمر ليس بحاجة إلى بيان أو إثبات فإنه لا يخفى على أحد.
وتجاه هذا الواقع فإنّ بعض الغيورين قد يصيبه اليأس من عودة المجتمع إلى المسار الصحيح؛ لما يرى من جهود الأعداء في محاربة الإسلام ومواجهة دعاته من جهة.
وما يراه من جهة أخرى من بعد الناس عن دين الله، وموت الإحساس لدى الكثير منهم.
ومن جهة ثالثة فهو يرى يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون، لاستعادة ما فقدوه من مجدٍ وماضٍ تليد.
(1/211)
وهذا الشعور ولو لم يكن له أثر في الواقع العملي فهو جدير بإزالته؛ لأنه مخالف لما قرره الكتاب والسنة، كيف وهو يكون داعياً الكثير للاستسلام والخمول، ومثبطاً عن بذل أي جهد للمجتمع والتعاون مع من يسعى للإصلاح والتغيير.
من هنا كان علينا لزاماً أن نخاطب هذه الفئة المتشائمة، ونقول لها إنّه مهما ساء واقع الأمة وامتد كيد الأعداء فإن المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه، فكانت هذه الرسالة؛ لبيان ما ورد من الكتاب والسنة من نصوص تبشر بأن المستقبل للإسلام والعزة لدين الله.
هذا والله أسأل أن ينفع بهذا البحث من قرأه أو سمعه، وأن يجعله في موازين حسناتنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أولاً: بشائر القرآن
1- الإشارة إلى غلبة الدين وظهوره:
قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))(التوبة:33). وقال: ((يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))(الصف:8-9). وقال: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا))(الفتح:28).
2- وعد المؤمنين بالنصر:
(1/212)
قال تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ))(الحج:39-40). وقال: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ))(الروم:47). وقال: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))(محمد:7). وقال تعالى: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ))(الصافات:171).
في هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة وهي أن النصر لمن ينصر دين الله.
3- وعد المؤمنين بالتمكين في الأرض:
(1/213)
قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))(النور:55). فقد وعد الله في هذه الآية وهو الذين لا يخلف الميعاد، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم، وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل، وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق؟
4- الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم:
إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يُكاد لهم ويُراد بدينهم، ويرى ثمرات هذا الكيد تتابع، حينئذ يظنّ أن أي محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، وأن الأعداء على اختلاف أصنافهم لن يغضّوا الطرف عن أي تحرك وصحوة للمسلمين اقرأ معي هذه الآيات وتمعن فيها.
((وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))(النمل:48-52).
(1/214)
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ))(الأنفال:36). وقوله: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا))(الطارق:15-17). ((ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ))(الأنفال:18).
فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته فالله لهم بالمرصاد. وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين، كما قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ))(الممتحنة:1). فبدأ بوصفهم بأنهم أعداؤه. وقال لنبيه: ((فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))(الأنعام:33).
ثانياً: بشائر السنة النبوية
تلك بعض البشائر الواردة في القرآن الكريم، أما السنة النبوية فيمكن أن نقسم ما ورد فيها من بشائر إلى قسمين:
القسم الأول: التبشير المطلق بنصر الإسلام :
(1/215)
1- ومن هذه المبشرات : عن تميم الداري -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام وذُلاً يذل الله به الكفر"(أخرجه أحمد 4/103، والحاكم 4/430، بمعناه وابن منده في الإيمان 1085، والطبراني كما في المجمع 6/14، وقال "رجاله رجال الصحيح" وقال الحاكم على شرط الشيخين ونقل الألباني في تحذير الساجد 173 عن الحافظ عبدالغني المقدسي أنه قال حسن صحيح. وقال وهو على شرط مسلم. وله شاهد من حديث المقداد. أخرجه أحمد 6/4وابن منده 1084، والطبراني كما في المجمع 6/14، وقال رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني هو على شرط مسلم).
2- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى" فقلت يا رسول الله: إن كنت لأظن حين أنزل الله ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))(التوبة:33). أنَّ ذلك تامّاً، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فتوفي كلّ من في قلبه مثال حبّة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيهم فيرجعون إلى دين آبائهم"(رواه مسلم 2907). والشاهد من الحديث قوله "تامّاً" أي أن وعد الله بظهور هذا الدين على سائر الأديان سوف يتحقق لا محالة.
(1/216)
3- عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريّاً، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"(أخرجه الطيالسي 438، وأحمد 4/273، وقال في مجمع الزوائد 6/188، رجاله ثقات. وصححه العراقي).
4- أحاديث الطائفة المنصورة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، منهم أبو هريرة وزيد بن أرقم ومُرَّة بن كعب البهزي وعمر بن الخطاب وسلمة بن نفيل الكندي وأبو أمامة، وعمران بن حصين، وقرة بن إياس، وجابر بن عبدالله، وثوبان، والمغيرة، وجابر بن سمرة، ومعاوية، وعقبة بن عامر، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم وبعضها في الصحيحين. وقد ورد في حديث سعد عند مسلم "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". وإن المسلم حين يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة، وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته. فتتحول هذه الأمنية وقوداً يشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.
5- أحاديث خيرية هذه الأمة، ومنها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مثل أُمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره"(رواه أحمد 3/130، والترمذي 2833، وابن حبان 2307، وأبو يعلى 6/491، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 2302، وله شاهد عند أحمد 4/319 من حديث عمار).
(1/217)
6- قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب"(أخرجه أحمد وابنه في زوائد المسند 5/134، وابن حبان 2501، والحاكم 4/318، كلهم من حديث أبي وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأقره المنذري وقال الألباني إن إسناد عبدالله صحيح على شرط البخاري. انظر أحكام الجنائز 52).
7- حديث المجدد، وهو ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"(أخرجه أبو داود 4291، والحاكم 4/522، وغيرهما وصححه الحاكم والبيهقي والعراقي وابن حجر، وقال السيوطي: "اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح").
القسم الثاني: أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة :
1- حديث قتال اليهود:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود"(أخرجه البخاري 2926، ومسلم 2922، وكذا ورد من حديث ابن عمر وهو عند البخاري 2925، ومسلم 2921، والترمذي 2237).
2- أحاديث قتال الروم وفتح القسطنطينية وروما:
(1/218)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم : خلّوا بيننا وبين الذي سُبُوا منا نقالتهم، فيقول المسلمون: لا والله، كيف نخلي بينكم وبين إخواننا؟ فيقاتلونهم؛ فينهزم ثلث لا يتوب الله عليه أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث فلا يفتنون أبداً، فيفتحون القسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهاليكم؛ فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال يسوون صفوفهم إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح- فيريهم دمه في حربته"(رواه مسلم 2897).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟" قالوا نعم يا رسول الله، قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم قالوا : لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جوانبها -قال ثوبان بن يزيد لا أعلمه إلا قال الذي في البحر- ثم يقول الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج فيدخلونها فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ، فقال إن الدّجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون"(مسلم 2920).
(1/219)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أولاً". يعني القسطنطينية. (رواه أحمد2/167، والدارمي وابن أبي شيبة وحسنه المقدسي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الألباني وهو كما قال. "السلسلة الصحيحة"1/8).
3- أحاديث المهدي:
وهو خليفة صالح يغير الله به حال الناس من الظلم والجور إلى العدل والقسط والصلاح. وقد نص على تواتر الأحاديث الواردة فيه جماعة من المحدثين منهم الخطابي، وابن حبان، والعقيلي، والقاضي عياض، وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وأبو الحسن الأبري، والبرزنجي، والسفاريني، والشوكاني، وصديق حسن خان، والكتاني.. وغيرهم. وقد أفرده بعض العلماء والأئمة بمؤلفات ورسائل خاصة تزيد على أحد عشر مؤلفاً.
ومما ورد فيه على سبيل المثال لا الحصر ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً مني يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً"(رواه أبو داود4282، والترمذي2231، وأشار إلى صحته شيخ الإسلام في منهاج السنة وابن القيم في المنار المنيف. وأخرجه أبو داود4283، من حديث علي).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهديِ منيّ أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين"(رواه أبو داود4285، والحاكم4/557، وجود إسناده ابن القيم في المنار المنيف ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير).
ثالثاً: بشائر أخرى
وهي البشائر التي تعرف من طبيعة الدين وفطرة الله وسنته في خلقه ومن ذلك:
(1/220)
1- أن الدين الإسلامي هو الدين الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة؟ فالأديان السماوية قد نسخت وحرّف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر. قال سيد قطب -يرحمه الله-: "فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه أراد أعداؤه أم لم يريدوا"(المستقبل لهذا الدين ص93).
ويقول: "ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين بهذا الاعتبار. باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقومات كلها مترابط غير منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني"(المستقبل هذا الدين ص5).
2- أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت الإنسان، وقضت على كل جوانب الخير لديه. ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية هذه الأيام بما يسمى (البروستاريكا) وكان آخر الرموز طاغية رومانيا تشاوسيسكو. وهذا العالم يتطلع اليوم إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك ولا منقذ إلا الإسلام.
3- أن من سنة الله في خلقه أن من عمل وسعى واستفرغ جهده وبذل طاقته في تحصيل مقصد أو هدف وصل إليه، ما لم تقم بعض الموانع والأسباب الحائلة دون ذلك. كما نهضت هذه الأمم التي لها الصدارة الآن بعد أن كانت على هامش الأحداث، فالمسلمون حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية، ويعملون على إقصاء الموانع من طريقهم وإبعادها تحق عليهم السنة نفسها،وهم مع ذلك يملكون العون من الله والتوفيق لأنهم حملة دينه وحماة شريعته.
(1/221)
4- ما نشاهده اليوم في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة إسلامية مباركة، وعودة صادقة إلى دين الله تزداد ولله الحمد يوماً بعد يوم، مما يدلّ دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب على الالتزام بحقيقة دينها والنهوض بأمتها، ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله عز وجل هذا كله مع أن الجهود المبذولة للدعوة أقل بكثير من طاقة الأمة ومما ينبغي عليها بذله.
5- أن الأمة الإسلامية قد مرت بها أزمنة عاشت فيها ركاماً من التخلف العقدي والبعد عن الشريعة، فما أن تحلولك الظلمة وتزداد الغمة حتى تدرك رحمة الله هذه الأمة فيقيض لها من ينتشلها من كبوتها ويجدد لها أمر دينها، ومن أقرب الشواهد على ذلك ما كانت تعيشه الديار النجدية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكيف تحول الناس من الشرك إلى التوحيد، ومن الضلالة إلى الهدى، بفضل الله، ثم بفضل هذه الدعوة المباركة، التي لم يقتصر أثرها داخل الجزيرة العربية، بل تجاوز ذلك إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي.
* وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال وهو الذي لا يخلف الميعاد: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ))(الروم:47). ومن أصدق من الله قيلاً؟
* ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً، أم بعد سنوات؟
(1/222)
يقول الأستاذ محمد قطب: "في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين، سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر؛ لأنها مبينة على السنة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس. وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر، أو أجيال؟ ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث، سيحدث بمشيئة الله ما لم يقدر الله للبشرية الفناء، وحين يجيء ذلك اليوم، وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين ليعقدوا الجسر فوق الهوة الحالية بين الكفر الملحد وبين الإسلام، لا شيء.. تضحيات مضمونة في السماء والأرض"(هل نحن مسلمون ص216).
ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر ويُمكن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر؟ لنقرأ الإجابة في القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا))(يوسف:110).
إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير. لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبائه، وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))(البقرة:214). ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ))(آل عمران:142).
(1/223)
عن خباب -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت يا رسول الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله" زاد بيان "والذئب على غنمه"(رواه البخاري3852، وأبو داود2649، والنسائي5320، مختصرا).
وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم، لقي ما لقي من الأذى وخرج إلى الطائف على قدميه ثم عاد، عاد مهموماً لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب -كما حدث عن نفسه (أخرجه البخاري( ) ومسلم1795).
عاد ليدخل مكة بجوار وهو من أسيادها وأشرافها، ووصف بأبشع الألقاب وهو الصادق الأمين.
وتمالأ عليه قومه حتى أخرجوه ليبقى حبيس الغار ثلاثة أيام.
ولقي في المدينة ما لقي من الكفار والمنافقين واليهود.
وكذلك صحابته واجهوا أشد أنواع التعذيب والمشقة، ومع ذلك قام الإسلام وانتصر وعلت كلمة الله وصدقهم الله وعده.
(1/224)
وإذا عرف المسلم ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، من الأذى وما بذله من الجهد في سبيل نشر هذه الدعوة، أدرك ضرورة الجدية في هذا الأمر، وأن التأسي به صلى الله عليه وسلم، يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية لنشر الخير والدعوة، وأن نسعى للمحافظة على هذا المجتمع وإصلاح ما نراه فيه مما لا يوافق ما شرعه الله سبحانه وتعالى، مهما كلفنا ذلك. ومهما بذل الإنسان من جهد فإنه قليل إذا قارنه بما بذله الأنبياء وعلى رأسهم محمد صلوات الله وسلامه عليه. وانظر إلى ذلك الرجل الذي ليس بنبي ((وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ))(يس:20). انظر إليه وقد جاء ماشياً لا راكباً. جاء من أقصى المدينة ليقول كلمة الحق، بل انظر إليه كيف كان يحمل هم الدعوة وإصلاح الناس حتى بعد موته؟ ((قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ))(يس:26-27).
من حكمه جعل طريق الدعوة شاقاً وقد يسأل سائل فيقول ولم يبتلي الله عباده ويعذبهم؟
لم يجعل طريق الدعوة صعباً وشائكاً؟ لم يفعل ذلك وهو على كل شيء قدير وهو أرحم الراحمين؟
نقول نعم إن من رحمة الله أن جعل ذلك كذلك، ومن حكمته وعلمه وهو الذي لا يسأل عما يفعل.
وقد وردت في كتاب الله الإشارة إلى بعض هذه الحكم نذكر منها ما يلي بإيجاز:
1- تمييز الصادق من غيره:
(1/225)
قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ))(آل عمران:142). ويقول: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))(آل عمران:179). وهذه من أعظم الحكم وأجلّها إذ لو كان طريق الدعوة سهلاً ليناً لسلكه كل دعي وضعيف النفس، فليعلم الكسالى والذين يحبون الراحة والدعة أنه لا مكان لهم في هذا الصف فليتنحوا عنه من الآن. وإلا فإن الأحداث كفيلة بتطهير الصف منهم.
2- اتخاذ الشهداء:
وفي ذلك يقول تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ))(آل عمران:140). ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ))(محمد:4).
3- أنه سبب لدخول الجنة:
قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ))(التوبة:111). وقال: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))(البقرة:214).
4- الأجر والمثوبة من عند الله:
(1/226)
قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))(التوبة:120).
5- تكفير السيئات والتوبة:
قال تعالى: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))(التوبة:117). وقال: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ))(آل عمران:195).
6- الهداية والتوفيق للحق:
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))(العنكبوت:69). وقال: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ))(محمد:4). على قراءة البناء للفاعل(هي قراءة الجمهور غير حفص وأبي عمرو انظر تحبير التيسير ص1818، والنشر2/374).
أُثر معرفة أن المستقبل للإسلام :
(1/227)
* إن فائدة معرفة هذا الأمر فائدة عظيمة وإلا لما أخبرنا القرآن الكريم والسنة عنه بهذه الاستفاضة والكثرة في النصوص. ومن فوائد ذلك أن يكون دافعاً للإنسان للعمل والبذل لدينه لأنه إذا علم أن الحق سينتصر فإنه سوف يبذل جهده وحياته ليحصل له الشرف في أن يكون ممن يتحقق النصر على يديه.
* وينبغي للداعية ألا يفارقه هذا الشعور أبداً وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال للمسلمين في مكة وهم يعذبون: "والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه"(سبق تخريجه انظر ص34). وها هنا أمران يجب أن يضعهما الداعية في حسابه:
الأمر الأول:
أنه ليس شرطاً أن يرى الداعية النصر بعينه، فقد تكون نهايته كنهاية أصحاب الأخدود لحكمة يعلمها الله، لكن جزاءه لن يذهب سُدىً فهو محفوظ عند الله.
هذا من ناحية زمنية أو مرحلية. أما من الناحية العامة فإن الدين لا بد أن ينتصر، ودعوة الله لا بد أن تعلو والمسألة مسألة وقت.
الأمر الثاني:
أنه لا ينبغي للداعية أن يتصور أنه نصر الإسلام وأعز الدين، فإنه إن لم يقم بذلك قام به غيره لكن حين يعمل الإنسان فإنه يعمل لنفسه والله غني عنه ((وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))(العنكبوت:6). ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))(محمد:4).
وفي الختام قد يسال سائل ويقول كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ وقد سلطوا عذابهم ونيرانهم على طلائع البعث الإسلامي والدعاة إلى الله!!
كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزل من السلاح؟!
(1/228)
* إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا جهدهم ولا قوتهم. ((قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ))(التوبة:14). فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته. ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))(الأنفال:17).
* وينسى هذا السائل أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم وسجونهم ومعتقلاتهم.
* وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون. ((وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ))(القمر:50).
* وينسى أن الأعداء وصلوا إلى هذا المستوى الهائل من القوة والتمكين بجهدهم البشري وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف، فالمسلمون قادرون على أن يسيروا في طريق التقدم العلمي والمادي مع المحافظة على الأصول الإسلامية، بل يمكن أن يبدأوا من حيث انتهى غيرهم.
فمهما كادوا للإسلام واجتمعوا لحربه. ومهما حاربوا دعاته وعذبوهم فإن الله نصار دينه ومعلي كلمته، وإن الإسلام الذي انتصر على الرغم من كيد قريش واليهود ومشركي العرب، وبالرغم من كيد فارس والروم، والصليبيين والمغول. هو الذي تواجهه الآن قوى الشرق والغرب، ويواجهه أعداؤه الذين هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))(المجادلة:21). وصدق الله وعده وإن غداً لناظره قريب. ((وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))(هود:121-123).
******************
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى :
(1/229)
فَصْل في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } .
فَصْل
في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } الآية [ يوسف : 110 ] قراءتان في هذه الآية : بالتخفيف والتثقيل . وكانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقرأ بالتثقيل وتنكر التخفيف، كما في الصحيح عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة، قالت له ـ وهو يسألها عن قوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة قالت : معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذا النصر ـ { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } بمن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك، لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن .
وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن ابن جُرَيجٍ سمعت ابن أبي مُلَيكَةَ يقول : قال ابن عباس : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } ، خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ } [ البقرة : 214 ] ، فلقيت عروة فذكرت ذلك له، فقال : قالت عائشة : معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى ظنوا خافوا أن يكون من معهم يكذبهم فكانت تقرؤها : ( وظنوا أنهم قد كذِّبوا ) مثقلة .
فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار للمكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم، ولكن القراءة الأخري ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه، والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر، وهو قولهم : { مَتَى نَصْرُ اللّهِ } ، فإن هذه كلمة تبطيء لطلب التعجيل .
(1/230)
وقوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قد يكون مثل قوله : { إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] ، والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون الاعتقاد المرجوح وهمًا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ) ، وقد قال تعالى : { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [ يونس : 36 ] .
/ فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم، وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل ) ، وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا : يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحَّرق حتى يصير حُمَمَة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . قال : ( أو قد وجدتموه ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان ) ، وفي حديث آخر : إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به . قال : ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) .
فهذه الأمور التي هي تُعْرض ثلاثة أقسام : منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان، وإن كان لا يزيله، واليقين في القلب له مراتب، ومنه ما هو عفو يعفي عن صاحبه، ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان .
(1/231)
ونظير هذا : ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثْتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ، وقد ترك البخاري ذكر قوله : ( بالشك ) لما خاف فيها من توهم بعض الناس [ ذكر الإمام ابن تيمية أن البخاري ترك لفظة ( بالشك ) ، ولكن بالرجوع إلى صحيح البخاري وجد في أكثر من موضع إثبات لفظة ـ بالشك ] .
ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى } ولكن طلب طمأنينة قلبه . كما قال : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكا لذلك بإحياء الموتي، كذلك الوعد بالنصر في الدنيا يكون الشخص مؤمنًا بذلك، ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن ، فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب، فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء ـ عليهم السلام ـ معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث .
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } [ الأحزاب : 21 ] .
(1/232)
/ وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت؛ ليتأسي بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 43 ] . . . [ بياض بالأصل ] ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن؛ ولهذا قال : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] ، وقال : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 34 ] وقال : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ الأحقاف : 35 ] ، { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] .
وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب، والثقة بوعد الله،وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصومًا مطلقًا . فيقول التابع : أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر الذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتي به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة، بخلاف ما إذا قيل : إن ذلك مجبور بالتوبة، فإنه تصح معه المتابعة، كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم .
/ والله ـ تعالى ـ قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب، وأما ما ذكره ـ سبحانه ـ أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها، ولم يتوبوا منها، فهذا هو المشروع . فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم، وإن كان ما أمروا به أبيح لهم، ثم نسخ، تنقطع فيه المتابعة، فما لم يؤمروا به أحري وأولي .
(1/233)
وأيضًا، فقوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قد يكونوا ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فهذا جائز عليهم كما سنبينه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه .
فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون، وسنوضح ذلك ـ إن شاء الله تعالي .
ومما ينبغي أن يعلم أنه ـ سبحانه ـ ذكر هنا شيئين : أحدهما : استيئاس الرسل . والثاني : ظن أنهم كذبوا . وقد ذكرنا لفظ : ( الظن ) ،فأما لفظ : ( استيأسوا ) ، فإنه قال سبحانه : { حّتَّي " إذّا \سًتّيأّسّ برٍَسٍل } ولم يقل : يئس الرسل، ولا ذكر ما استيأسوا منه، وهذا اللفظ قد ذكره في هذه السورة : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يوسف : 80 ] .
وقد يقال : الاستيئاس ليس هو الإياس؛ لوجوه :
أحدها : أن إخوة يوسف لم ييأسوا منه بالكلية، فإن قول كبيرهم : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دليل على أنه يرجو أن يحكم الله له . وحكمه هنا لابد أن يتضمن تخليصنا ليوسف منهم، وإلا فحكمه له بغير ذلك لا يناسب قعوده في مصر لأجل ذلك .
(1/234)
وأيضا، فـ ( اليأس ) : يكون في الشيء الذي لا يكون، ولم يجئ ما يقتضي ذلك، فإنهم قالوا : { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ } [ يوسف : 78، 79 ] فامتنع من تسليمه إليهم . ومن المعلوم أن هذا لا يوجب القطع بأنه لا يسلم إليهم، فإنه يتغير عزمه ونيته، وما أكثر تقليب القلوب، وقد يتبدل الأمر بغيره حتى يصير الحكم إلى غيره، وقد يتخلص بغير اختياره، والعادات قد جرت بهذا على مثل من عنده من قال لا يعطيه، فقد /يعطيه، وقد يخرج من يده بغير اختياره، وقد يموت عنه فيخرج، والعالم مملوء من هذا .
الوجه الثاني : قال لهم يعقوب : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] فنهاهم عن اليأس من روح الله ، ولم ينههم عن الاستيئاس، وهو الذي كان منهم . وأخبر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
ومن المعلوم أنهم لم يكونوا كافرين فهذا هو الوجه الثالث ـ أيضًا : وهو أنه أخبر أنه : { لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله،وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين،وأن الفرح جاءهم بعد ذلك؛ لئلا ييأس المؤمن؛ولهذا فيها : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] فذكر استيئاس الإخوة من أخي يوسف،وذكر استيئاس الرسل،يصلح أن يدخل فيه ما ذكره ابن عباس، وما ذكرته عائشة جميعًا .
(1/235)
الوجه الرابع : أن الاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال / يقع على وجوه : يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية، يقال : استخرجت المال من غيري، وكذلك استفهمت، ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس، فإن أحدا لا يطلب اليأس ويستدعيه؛ ولأن استيأس : فعل لازم لا متعد .
ويكون الاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره ، وهذا يكون في الأفعال اللازمة كقولهم : استحجر الطين، أي : صار كالحجر . واستنوق الفحل ، أي : صار كالناقة . وأما النظر فيما استيأسوا منه ، فإن الله ـ تعإلى ـ ذكر ذلك في قصة إخوة يوسف حيث قال : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ } .
وأما الرسل فلم يذكر ما استيأسوا منه، بل أطلق وصفهم بالاستيئاس، فليس لأحد أن يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به، وأخبروا بكونه، ولا ذكر ابن عباس ذلك .
وثبت أن قوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } لا يدل على ظاهره، فضلا عن باطنه : أنه حصل في قلوبهم مثل تساوي الطرفين فيما أخبروا به، فإن لفظ الظن في اللغة لايقتضي ذلك، بل يسمي ظنًا ما هو من أكذب الحديث عن الظان؛ لكونه أمرا مرجوحا في نفسه . واسم / اليقين والريب والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله وتصديقه، وعدم تصديقه وسكينته وعدم سكينته، ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط، كما يحسب ذلك بعض الناس، كما نبهنا عليه في غير هذا الموضع؛إذ المقصود هنا الكلام على قوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } .
(1/236)
فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقًا، فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق ـ كما هو غالب إخباراته ـ لم يقيد زمانه ولا مكانه، ولا سنته، ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخري لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخري، كما اعتقد طائفة من الصحابة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام، ويطوفون به، أن ذلك يكون عام الحديبية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا، ورجا أن يدخل مكة ذلك العام، ويطوف ويسعي . فلما استيأسوا من دخوله مكة ذلك العام ـ لما صدهم المشركون، حتى قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح المشهور ـ بقي في قلب بعضهم شيء، حتى قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا ندخل البيت ونطوف ؟ قال : ( بلي . فأخبرتك أنك تدخله هذا العام ؟ ) قال : لا . قال : ( فإنك داخله ومطوف ) وكذلك قال له أبو بكر .
وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أكثر علمًا وإيمانًا من عمر، حتى تاب / عمر مما صدر منه، وإن كان عمر ـ رضي الله عنه ـ محدثًا كما جاء في الحديث الصحيح، أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتى أحد فعمر ) فهو ـ رضي الله عنه ـ المحدث الملهم، الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ، ولكن مزية التصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول، وعلمًا وإيمانًا بما جاء به، درجته فوق درجته؛ فلهذا كان الصديق أفضل الأمة، صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو مُعَلِّمٌ لعمر، ومُؤَدِّبٌ للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب، كما كان أبو بكر مُعَلِّمًا لعمر ومؤدبًا له حيث قال له : فأخبرك أنك تدخله هذا العام ؟ قال : لا، قال : إنك آتيه ومطوف .
(1/237)
فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعي في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به؛ فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون، بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صادق لابد أن يقع ما أخبر به ويتحقق .
/ وكذلك ظن النبي كما قال في تأبير النخل : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله ) ، فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك هو استيئاس مما ظنوه موعودًا به، ولم يكن موعودًا به .
ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه فقد يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد، لا من تعيين الوعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت أن أبا جهل قد أسلم، فلما أسلم خالد ظنوه هو، فلما أسلم عكرمة علم أنه هو ) .
(1/238)
وروي مسلم في صحيحه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال : ( لو لم تفعلوا هذا لصلح ) . قال : فخرج شيصًا [ في المطبوعة : ( سبتا ) ، والمثبت من مسلم ] فمر بهم فقال : ( ما لنخلكم [ في المطبوعة : ( لفحلكم ) ، والمثبت من مسلم ] ؟ ) قالوا : قلت : كذا وكذا . قال : ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) [ والشيصُ : التمر الذي لايشتد نواه ويقوي، وقد لا يكون له نوي أصلا ] . وروي ـ أيضا ـ عن موسي بن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال : ( ما يصنع هؤلاء ؟ ) فقال : يلَقِّحُونه يجعلون الذكر في الأنثي فَتَلْقَحُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أظن يغني ذلك شيئًا ) فأخبروا بذلك فتركوه . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنني / ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حَدَّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ) .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا حدثنا بشيء عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله، فهو أتقانا للّه، وأعلمنا بما يتقي، وهو أحق أن يكون آخذًا بما يحدثنا عن اللّه، فإذا أخبره اللّه بوعد كان علينا أن نصدق به، وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا، ولم يكن لنا أن نشك فيه، وهو ـ بأبي ـ أولي وأحري ألا يشك فيه، لكن قد يظن ظنًَا، كقوله : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ) ، وإن كان أخبره به مطلقًا فمستنده ظنون، كقوله ـ في حديث ذي اليدين ـ : ( ما قصرت الصلاة ولا نسيت ) .
وقد يظن الشيء ثم يبين الله الأمر على جليته، كما وقع مثل ذلك في أمور، كقوله تعالى : { إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الحجرات : 6 ] ، نزلت في الوليد بن عقبة لما استعمله النبي صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم لما ظن صدقه، حتى أنزل الله هذه الآية .
(1/239)
وكذلك في قصة بني أبيرق التي أنزل الله فيها : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء : 105 ] وذلك لما جاء قوم تركوا السارق الذي كان يسرق ، وأخرجوا البريء ؛ / فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدقهم،حتى تبين الأمر بعد ذلك . وقال في حديث قصر الصلاة : ( لم أنس ولم تقصر ) ، فقالوا : بلي قد نسيت . وكان قد نسي ، فأخبر عن موجب ظنه واعتقاده ، حتى تبين الأمر بعد ذلك . وروي عنه أنه قال : ( إني لأنسي [ في المطبوعة : ( لا أنسي ) ، والمثبت من مالك ] لأَسُنَّ ) ، وأيضًا،فقوله في القرآن : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته،حيث قال في صدر الآيات : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الآيتين [ البقرة : 285 ، 286 ] .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عيسي الأنصاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نَقِيضًا من فوقه، فرفع رأسه . فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملك . فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فَسَلَّمَ وقال : أبشر بنورين أُوتِيتَهُما لم يؤْتَهُما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة . لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته .
(1/240)
وفي صحيح مسلم عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } ، دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل مثله، فقال النبي / صلى الله عليه وسلم : ( قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ) ، قال : فألقي الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الآيات إلى قوله : { أَوْ أَخْطَأْنَا } ، قال : قد فعلت، إلى آخر السورة [ البقرة : 286 ] ، قال : قد فعلت .
وفي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } [ البقرة : 284 ] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله عز وجل في أثرها : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } إلى قوله : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] ، فلما فعلوا ذلك نسخها ـ سبحانه ـ فأنزل الله : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى قوله : { قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] قال : نعم : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : نعم . إلى آخر السورة . قال : نعم .
(1/241)
والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في / الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر ؟ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنكم تختصمون إلي،ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع،فأحسب أنه صادق،فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ) فنفس ما يعد الله به الأنبياء والمؤمنين حقًا لا يمترون فيه،كما قال تعالى في قصة نوح : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } إلى آخر الآية [ هود : 45 ] . ومثل هذا الظن قد يكون من إلقاء الشيطان المذكور في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلى قوله : { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 52ـ 54 ] وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع .
وللناس فيها قولان مشهوران؛ بعد اتفاقهم على أن التمني هو التلاوة والقرآن، كما عليه المفسرون من السلف كما في قوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] وأما من أَوَّل النهي على تمني القلب، فذاك فيه كلام آخر، وإن قيل : إن الآية تَعُمُّ النوعين لكن الأول هو المعروف المشهور في التفسير، وهو ظاهر القرآن ومراد الآية قطعًا؛ لقوله بعد ذلك : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ الحج : 52، 53 ] . وهذا كله لا يكون في مجرد القلب إذا / لم يتكلم به النبي، لكن قد يكون في ظنه الذي يتكلم به بعضه النخل ونحوها، وهو يوافق ما ذكرناه .
وإذا كان التمني لا بد أن يدخل فيه القول ففيه قولان :
(1/242)
الأول : أن الإلقاء هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول، وهذا قول من تأول الآية بمنع جواز الإلقاء في كلامه .
والثاني ـ وهو الذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم : أن الإلقاء في نفس التلاوة، كما دلت عليه الآية وسياقها من غير وجه، كما وردت به الآثار المتعددة، ولا محذور في ذلك إلا إذا أقر عليه، فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في ذلك، وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة، إلا إذا أقر عليه .
ولا ريب أنه معصوم في تبليغ الرسالة أن يقر على خطأ، كما قال : ( فإذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ) ، ولولا ذلك لما قامت الحجة به،فإن كونه رسول الله يقتضي أنه صادق فيما يخبر به عن الله،والصدق يتضمن نفي الكذب ونفي الخطأ فيه . فلو جاز عليه الخطأ فيما يخبر به عن الله وأقر عليه لم يكن كل ما يخبر به عن الله .
والذين منعوا أن يقع الإلقاء في تبليغه فروا من هذا، وقصدوا / خيرًا، وأحسنوا في ذلك، لكن يقال لهم : ألقي ثم أحكم، فلا محذور في ذلك . فإن هذا يشبه النسخ لمن بلغه الأمر والنهي من بعض الوجوه، فإنه إذًا موقن مصدق برفع قول سبق لسانه به ليس أعظم من إخباره برفعه .
ولهذا قال في النسخ : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ } [ البقرة : 143 ] ، فظنهم أنهم قد كذبوا هو يتبع ما يظنونه من معنى الوعد، وهذا جائز لا محذور فيه، إذا لم يقروا عليه . وهذا وجه حسن،وهو موافق لظاهر الآية ولسائر الأصول من الآيات والأحاديث، والذي يحقق ذلك أن باب الوعد والوعيد ليس بأعظم من باب الأمر والنهي .
(1/243)
فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم بخلافه، فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولي والأحري، حتى إن باب الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب، لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر في نفسه، فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب إذا نفوه قبل الخطاب، كان ذلك اعتقادًا مطابقًا للأمر في نفسه، وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون انتفاءه، كما ظن الخليل جواز المغفرة لأبيه حتى استغفر له، ونهينا عن الاقتداء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) ، وحتى استأذن ربه في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له / في ذلك،وحتى صلى على المنافقين قبل أن ينهي عن ذلك وكان يرجو لهم المغفرة، حتى أنزل الله ـ عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 113،114 ] ، وقال عن المنافقين : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا } الآية [ التوبة : 84 ] ، وقال : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] فإذا كان صلى على المنافقين واستغفر لهم راجيا أن يغفر لهم قبل أن يعلم ذلك .
ولهذا سوغ العلماء أن يروي في باب الوعد والوعيد من الأحاديث ما لم يعلم أنه كذب، وإن كان ضعيف الإسناد، بخلاف باب الأمر والنهي فإنه لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت أنه صدق؛ لأن باب الوعد والوعيد إذا أمكن أن يكون الخبر صدقا وأمكن أن يوجد الخبر كذبا لم يجز نفيه، لا سيما بلا علم، كما لم يجز الجزم بثبوته بلا علم، إذ لا محذور فيه . منابت الناس اللفظ تعيين الوعد والوعيد، فلا يجوز منع ذلك بمنع الحديث إذا أمكن أن يكون صدقا؛ لأن في ذلك إبطال لما هو حق، وذلك لا يجوز .
(1/244)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حدثوا عن بني إسرائيل / ولا حرج ) ، وهذا الباب وهو : ( باب الوعد والوعيد ) ، هو في الكتاب بأسماء مطلقة للمؤمنين، والصابرين، والمجاهدين، والمحسنين، فما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد، ويكون اللفظ في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في نفسه .
وهذا كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] ، وقوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الآيتين [ الصافات : 171،172 ] ، فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر، وإن جند الله الغالبون، ويكون الأمر بخلاف ذلك .
وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به ، فالظن المخطئ، فهم ذلك كثير جدا أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك، وهذا مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله ـ تعإلى ـ وهذا عام لجميع الآدميين، لكن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ لا يقرون، بل يتبين لهم، وغير الأنبياء قد لا يتبين له ذلك في الدنيا .
ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتصديق الوعد / والإيمان، وما يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت، ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد، كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الآية [ غافر : 77 ] . والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة . والله ـ تعالى ـ أعلم .
وقال الجصاص حول المذنب لا يجوز له أن ييأس :
(1/245)
وقوله تعالى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وَالِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْرِفَةٍ ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ , وَالِاعْتِرَافُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ تَذَكُّرَ قُبْحِ الذَّنْبِ أَدْعَى إلَى إخْلَاصِ التَّوْبَةِ مِنْهُ وَأَبْعَدُ مِنْ حَالِ مَنْ يُدْعَى إلَى التَّوْبَةِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُ مَوْقِعَهُ مِنْ الضَّرَرِ , فَأَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوْبَةِ أَنْ تَقَع مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمَا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } وَإِنَّمَا قَالَ : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } لِيَكُونُوا بَيْنَ الطَّمَعِ , وَالْإِشْفَاقِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ مِنْ الِاتِّكَالِ , وَالْإِهْمَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ : " عَسَى " مِنْ اللَّهِ وَاجِبٌ .
(1/246)
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْيَأْسُ مِنْ التَّوْبَةِ , وَإِنَّمَا يَعْرُضُ مَا دَامَ يَعْمَلُ مَعَ الشَّرِّ خَيْرًا لقوله تعالى : { خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا } وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمُذْنِبِ رُجُوعٌ إلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ , وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الذَّنْبِ أَنَّهُ مَرْجُوُّ الصَّلَاحِ مَأْمُونُ خَيْرِ الْعَاقِبَةِ , وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَالْعَبْدُ , وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْ الْخَيْرِ يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مَا بَقِيَ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ , فَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ مَظَالِمُهُ وَمُوبِقَاتُهُ فَأَعْرَضَ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { كَلًّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ : رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ : أَمَّا مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ : بَلَى , وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك مُعَاوِيَةُ فِي دُنْيَاك قَدْ قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ : { خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وَلَكِنَّك
(1/247)
أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ : { كَلًّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ , فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ . وَقِيلَ : كَانُوا سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ .
وفي الفصول في الأصول :
(1/248)
بَابٌ فِي إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الظَّاهِرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ . فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْحُكْمُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا فَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَى الْخُصُوصِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِيهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَأَبَتْ طَائِفَةٌ هَذَا الْقَوْلَ , وَاخْتَلَفَتْ فِيمَا بَيْنَهَا . فَقَالَ : ( مِنْهُمْ ) قَائِلُونَ بِالْخُصُوصِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ جَمِيعًا وَحَكَمُوا فِيهَا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ . وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ كَذَلِكَ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعُمُومِ وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ . قَالُوا : وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُحْتَمِلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ , وَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ , وَالْخُصُوصُ مُتَيَقَّنٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ , وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ . وَقَالَ مِنْهُمْ آخَرُونَ : بِالْوَقْفِ فِيهِمَا جَمِيعًا . لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَاحْتِمَالِهِ لِلْآخَرِ , وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ . فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ .
(1/249)
وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ ( فَوَقَفَتْ فِي الْأَخْبَارِ وَحَكَمَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَوَامِرِ , وَطَائِفَةٌ وَقَفَتْ فِي عُمُومِ الْأَوَامِرِ ) وَقَالَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا وَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) رحمه الله يَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا , وَجَمِيعُ مِنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ شُيُوخِنَا وَاحْتِجَاجُهُمْ لِمَسَائِلِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مُجَرَّدَةٌ مِنْ دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ إلَيْهِ فِي إيجَابِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَذَاهِبَهُمْ . ( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : وَحَكَى لَنَا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : إنِّي أَقِفُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ , وَأَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَقُلْت لِأَبِي الطَّيِّبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ مَذْهَبَهُ كَانَ الْوَقْفَ فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ . فَقَالَ لِي : هَكَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ . وَحَكَى لِي أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَقِفُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَفِي الْأَخْبَارِ جَمِيعًا . وَأَبُو الطَّيِّبِ هَذَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ عِنْدِي فِيمَا يَحْكِيهِ , وَقَدْ جَالَسَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ وَشُيُوخَنَا الْمُتَقَدِّمِينَ . وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَا أَبَا الْحَسَنِ رحمه الله يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَقُولُ بِالْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
(1/250)
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ , وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ , لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ . وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ; لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْآيَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ إنَّمَا عَنَى بِهَا الْكُفَّارَ لِآيَاتٍ أَوْجَبَتْ خُصُوصَهَا فِيهِمْ . نَحْوِ قوله تعالى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } . وقوله تعالى { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } . وقوله تعالى { وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } ( وَقَوْلِهِ { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ) . وقوله تعالى { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } وَإِنَّمَا جَعَلَ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ مَقْصُورًا عَلَى الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ ( أَبُو مُوسَى ) عِيسَى بْنُ أَبَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَخْبَارِ . وَقَالَ إنَّا إنَّمَا وَقَفْنَا فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ آيَ الْوَعِيدِ بِإِزَائِهَا .
(1/251)
هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْتهَا مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا دُخُولَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِيهَا فَجَوَّزْنَا لَهُمْ الْغُفْرَانَ بِهَا وَجَوَّزْنَا التَّعْذِيبَ بِالْآيِ الْأُخَرِ وَأَرْجَيْنَا أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , فَلَمْ نَقْطَعْ فِيهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ بِعُمُومِ الْأَخْبَارِ أَيْضًا . وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ ذَلِكَ . فَدَلَّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا . .
وفي المجموع للنووي :
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى ( وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى , لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى } " ) .
(1/252)
الشَّرْحُ ) حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ , وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , وَمَعْنَى يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْحَمُهُ , وَيَرْجُو ذَلِكَ , وَيَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي كَرَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ أَهْلَ التَّوْحِيدِ , وَمَا يَنْشُرُهُ مِنْ الرَّحْمَةِ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } " هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ , وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَشَذَّ الْخَطَّابِيُّ فَذَكَرَ مَعَهُ تَأْوِيلًا آخَرَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْسِنُوا أَعْمَالَكُمْ حَتَّى يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِرَبِّكُمْ , فَمَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ حَسُنَ ظَنُّهُ وَمَنْ سَاءَ عَمَلُهُ سَاءَ ظَنُّهُ , وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَاطِلٌ نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ .
(1/253)
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَتْهُ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَمُعَانَاتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى , بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ , رَاجِيًا رَحْمَتَهُ , وَأَمَّا فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا ( أَحَدُهُمَا ) يَكُونُ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ سَوَاءً ( وَالثَّانِي ) يَكُونُ خَوْفُهُ أَرْجَحَ , قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ( وَالْأَظْهَرُ ) أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ , وَدَلِيلُهُ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ , فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ ذِكْرُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَقْرُونَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ) . ( { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ , وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } ) . ( { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ) . ( { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } ) وَنَظَائِرُهُ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ " { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } " وَقَالَ " { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . وَقَدْ تَتَبَّعْت الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ , وَجَمَعْتُهَا فِي كِتَابِ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ , فَوَجَدْت أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ أَضْعَافَ الْخَوْفِ , مَعَ ظُهُورِ الرَّجَاءِ فِيهَا , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
(1/254)
وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاضِرِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُطْمِعَهُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى , وَيَحُثَّهُ عَلَى تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , وَأَنْ يَذْكُرَ لَهُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ فِي الرَّجَاءِ وَيُنَشِّطَهُ لِذَلِكَ , وَدَلَائِلُ مَا ذَكَرْته كَثِيرَةٌ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ , وَقَدْ ذَكَرْت مِنْهَا جُمْلَةً فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنْ كِتَابِ الْأَذْكَارِ , وَفَعَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم عِنْدَ احْتِضَارِهِ , وَبِعَائِشَةَ أَيْضًا , وَفَعَلَهُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِأَبِيهِ وَكُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ .
***************
وفي فتاوى السبكي :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم فِيمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مِنْ كِتَابِ الْمُنَجِّيَّاتِ مِنْ إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ نَقْلًا عَنْ مَكْحُولٍ الدِّمَشْقِيِّ رضي الله عنه مَنْ عَبَدَ اللَّه تَعَالَى بِالْخَوْفِ فَهُوَ حَرُورِيٌّ وَمَنْ عَبَدَ اللَّه تَعَالَى بِالرَّجَاءِ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَ اللَّه تَعَالَى بِالْمَحَبَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ مَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مُفَسَّرًا أَثَابَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ :
(
(1/255)
الْجَوَابُ ) مَكْحُولٌ رضي الله عنه تَابِعِيٌّ فَقِيهٌ عَالِمٌ جَمَعَ عِلْمَ مِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَاسْتَوْطَنَ دِمَشْقَ فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ : فَقِيهُ الشَّامِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّه بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَالْخَوْفُ يَقْبِضُهُ وَالرَّجَاءُ يَبْسُطُهُ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ الْأَوْلَى اسْتِوَاءُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ أَوْ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْأَوْلَى اسْتِوَاؤُهُمَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْأَوْلَى فِي زَمَنِ الصِّحَّةِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ لِيَحْجِزَهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَفِي حَالَةِ الْمَرَضِ غَلَبَةُ الرَّجَاءِ حَذَرًا مِنْ الْقُنُوطِ وَلِيَمُوتَ وَهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ .
(1/256)
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَهُمَا جَنَاحَانِ كَجَنَاحَيْ الطَّائِرِ فَكَمَا أَنَّ الطَّائِرَ لَا يَطِيرُ إلَّا بِجَنَاحَيْهِ كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُهُ إلَّا بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ , وَقَالَ مَنْ يَرَى اسْتِوَاءَهُمَا : لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ , وَالْقَائِلُ بِفَضْلِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا لَا يَعْنِي بِهِ غَلَبَتَهُ بِحَيْثُ يَنْغَمِرُ جَانِبُ الرَّجَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ مُلَاحَظَتِهِمَا وَاعْتِبَارِهِمَا وَحُضُورِهِمَا فِي الْقَلْبِ فِي كُلِّ حَالٍ وَهُمَا حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ الْقَلْبِ نَاشِئَانِ عَنْ مَعْرِفَةِ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَالْخَوْفُ يَنْشَأُ مِنْ صِفَةِ الْقَهْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَالرَّجَاءُ يَنْشَأُ مِنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَالْمَعَارِفُ فِي الْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيَاهِ وَمَوَادِّ الْأَرَاضِي لِلْأَشْجَارِ , وَالْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْأَغْصَانِ وَالْأَزْهَارِ , وَالْأَعْمَالُ الَّتِي فِي ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِمَنْزِلَةِ الثِّمَارِ .
(1/257)
وَقَوْلُ الصُّوفِيَّةِ : فُلَانٌ صَاحِبُ حَالٍ يُشِيرُونَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ فَعَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْحَالُ وَعَلَى قَدْرِ الْحَالِ يَكُونُ الْعَمَلُ وَصَلَاحُ الْقَلْبِ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَصَلَاحُ الْبَدَنِ بِالْأَعْمَالِ وَمَقَامُ كُلِّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالُهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ , وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا وَلَا أَحَدَ أَجْمَعُ لَهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ بَعْدَهُ عَلَى مَقَامَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ الْمُكْثِرُ مِنْهَا وَمِنْهُمْ الْمُقِلُّ , وَالْخَوْفُ وَاجِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَالرَّجَاءُ وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ ضِدُّ الْيَأْسِ وَالْيَأْسُ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ } وَلِأَنَّ فِي الرَّجَاءِ التَّصْدِيقَ بِوَعْدِ اللَّهِ فَقَدْ تَظَاهَرَتْ آيَاتُ الْوَعْدِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا تَظَاهَرَتْ آيَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ .
(1/258)
وَالتَّصْدِيقُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَاجِبٌ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رَجَاءٌ أَلْبَتَّةَ أَوْ كَانَ جَانِبُ الرَّجَاءِ عِنْدَهُ مَغْمُورًا لَا وَزْنَ لَهُ مَعَ الْخَوْفِ اقْتَضَى لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمَ عَلَى الْعَاصِي بِالِانْسِلَاخِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الدِّينِ وَهَذَا رَأْيُ الْحَرُورِيَّةِ وَهُمْ أَوَّلُ طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ خَرَجُوا عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ أَوْ حِينِ فُرْقَةٍ كَمَا أَخْبَرَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُمْ ذُو الثُّدَيَّةِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقُتِلَ بِسُيُوفِ عَلِيٍّ رضي الله عنه , وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ مِنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ مَا اُتُّفِقَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَكْفِيرًا وَلَا تَفْسِيقًا وَإِنَّمَا هُوَ كَالِاخْتِلَافِ فِي سَائِرِ الْفُرُوعِ جَرَّ قِتَالًا لِأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ - أَنْكَرَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْخَبِيثَةُ مَا اتَّفَقَ مِنْ التَّحْكِيمِ وَغَيْرِهِ وَكَفَّرَتْ الصَّحَابَةَ . وَمِنْ اعْتِقَادِهِمْ التَّكْفِيرُ بِالذَّنْبِ , وَيُسَمَّوْنَ خَوَارِجَ لِخُرُوجِهِمْ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَيُسَمَّوْنَ حَرُورِيَّةَ لِنُزُولِهِمْ أَرْضًا يُقَالُ لَهَا : حَرُورَاءُ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافِ نَفْسٍ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَنَاظَرَهُمْ يَوْمًا كَامِلًا فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَمِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الَّذِي قَتَلَ عَلِيًّا رضي الله عنه , وَأَخْبَارُهُمْ طَوِيلَةٌ وَلَا خِلَافَ فِي فِسْقِهِمْ .
(1/259)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُفْرِهِمْ وَالْأَقْرَبُ كُفْرُهُمْ وَهُمْ مُتَنَطِّعُونَ فِي الدِّينِ غَالُونَ فِيهِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ وَاثْنَانِ هَالِكَانِ مُفَرِّطٌ وَمُفَرِّطٌ فَهَؤُلَاءِ هَلَكُوا بِالْإِفْرَاطِ كَمَا هَلَكَ غَيْرُهُمْ بِالتَّفْرِيطِ . وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ جَرَّدُوا الْخَوْفَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُرْدِي صَاحِبَهَا وَلَمْ يَرْجُوا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ عَفْوًا وَلَا مَغْفِرَةً وَلَا رَحْمَةً فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى مُجَرَّدِ الْخَوْفِ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِهَؤُلَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجُو رَحْمَةً وَمَغْفِرَةً لِلْعَاصِي الْمُذْنِبِ , وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ يَرْجُوهُمَا مَحْضَ الْخَوْفِ فَأَرَادَ مَكْحُولٌ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تَجْرِيدَ الْخَوْفِ يُوجِدُ الِالْتِحَاقَ بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ .
(1/260)
وَقَوْلُهُ وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ فَهُوَ مُرْجِئٌ يَعْنِي إذَا عَبَدَ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَحْصُلْ عِنْدَهُ خَوْفٌ أَوْ حَصَلَ وَلَكِنَّهُ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ الرَّجَاءِ فَهَذَا لَا يَخَافُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَيُشْبِهُ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ سَيِّئَةٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ , فَقَاسُوا قِيَاسًا فَاسِدًا وَقَالُوا : كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا فَعَلَ مَا شَاءَ مِنْ الْحَسَنَاتِ لَا يَنْفَعُهُ وَيَخْلُدُ فِي النَّارِ لقوله تعالى { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إذَا ارْتَكَبَ أَنْوَاعَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ كَبَائِرَهَا وَصَغَائِرَهَا لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ مَعَ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عِقَابٍ , وَرُبَّمَا تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلَّا تَخْوِيفًا } وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا تَجْرِيدُهُمْ الرَّجَاءَ لِلْمُؤْمِنِ وَأَنَّهُ بِإِيمَانِهِ قَدْ اسْتَحَقَّ ثَوَابَ اللَّهِ وَالْأَمْنَ مِنْ عَذَابِهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَا صَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذِهِ فِرْقَةٌ مِنْ فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ حَدَثَتْ بَعْدَ الْفِرْقَةِ الْأُولَى . وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ : هَذِهِ الطَّائِفَةُ وَطَائِفَةُ أُخْرَى لَهُمْ اعْتِقَادٌ آخَرُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ فَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ مَكْحُولٌ رضي الله عنه هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ وَالْحَامِلُ لَهُمْ بِمَحْضِ الرَّجَاءِ فَلِذَلِكَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ شَابَهُ هَؤُلَاءِ .
(1/261)
وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ أَيْضًا مُنَابِذَةٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ تَعَالَى { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَالَ تَعَالَى { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } - الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَارَبِينَ { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فَشَرَطَ الْمَشِيئَةَ وَالْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ثَوَابِ فَاعِلِ الْحَسَنَاتِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ فَتَبًّا لِهَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ الْحَرُورِيَّةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ الرَّجَاءِ وَالْمُرْجِئَةِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ الْخَوْفِ وَسَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَقُولُ : إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدَّكُمْ لَهُ خَشْيَةً .
(1/262)
وَهَا هُنَا نُكْتَتَانِ يَنْبَغِي أَنْ يُتَفَطَّنَ لَهُمَا : ( إحْدَاهُمَا ) أَنَّ الَّذِي يَتَجَرَّدُ فِيهِ الرَّجَاءُ عَنْ الْخَوْفِ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا تَصِحُّ طَاعَاتُهُ وَمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ , وَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِيَّةِ شَرْطٌ فِي ذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ الْمَفْرُوضَةُ إلَّا بِهَا , وَالْفَرْضُ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ أَوْ الَّذِي يُعَاقَبُ تَارِكُهُ أَوْ الَّذِي يَخَافُ مِنْ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا قِيلَ فِي حُدُودِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِذَا فُرِضَ انْتِفَاءُ الْخَوْفِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ انْتَفَى اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةُ عَلَى الْحَدِّ الثَّالِثِ وَكَذَا عَلَى الْحَدِّ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْعِقَابَ خَافَ وَكَذَا عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الذَّمَّ يُخَافُ مِنْهُ كَمَا يُخَافُ مِنْ الْعِقَابِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِفَاءَ الْخَوْفِ لَا يَصِحُّ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ وَكَفَى بِهَذَا بَلِيَّةً . ( النُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ ) كَانَتْ فِي نَفْسِي وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ الْأُولَى فَلَمَّا اشْتَغَلْت بِكِتَابَةِ الْأُولَى نَسِيتُهَا فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَتْحٍ بِتَذَكُّرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ تَذَكَّرْتُهَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَهِيَ قَوْلُ عُمَرَ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ , قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْخَوْفِ وَهَذَا يُنَافِي مَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الْخَوْفُ كَانَ مُرْجِئًا .
(1/263)
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَمْ نَقُلْ : إذَا انْتَفَى الْخَوْفُ يَكُونُ مُرْجِئًا مُطْلَقًا بَلْ قُلْنَا : إنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ كَانَ مُرْجِئًا وَإِنَّ تَجْرِيدَ الرَّجَاءِ يُوجِبُ الْجُرْأَةَ وَالْإِقْدَامَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ , وَانْتِفَاءُ الْخَوْفِ أَعَمُّ مِنْ تَجْرِيدِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ انْتِفَاءِ الْخَوْفِ حَالَةٌ أُخْرَى وَهِيَ الْحَيَاءُ بِمَنْعٍ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَذَاكَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَعْبُدُ بِالْحَيَاءِ لَا بِمُجَرَّدِ الرَّجَاءِ . فَإِنْ قُلْت : فَهَذَا الْأَثَرُ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ يَقْدَحُ فِيمَا قُلْتُمْ مِنْ فَسَادِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْخَوْفِ . قُلْت : الْجَوَابُ تَخْصِيصُ الْكَلَامِ بِالْخَوْفِ مِنْ الْعِقَابِ الْأُخْرَوِيِّ لِمَا قُلْنَاهُ : إنَّ الذَّمَّ يُخَافُ وَهُوَ لَازِمٌ لِلْوُجُوبِ اللَّازِمِ لِلْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ التَّرْكِ وَعَدَمِ الْمَعْصِيَةِ بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ . فَإِنْ قُلْت : مَا الْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا ؟ . قُلْت : تَمَسُّكُهُمْ بِهَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِمُرَادِهَا وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ مَا يُرْسِلُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا تَخْوِيفًا لِلنَّاسِ لِيُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَاهَا فَأَيُّ دَلِيلٍ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ . وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَزِدْنَا فِي تَقْرِيرِ فَسَادِ الطَّائِفَتَيْنِ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ خَذَلَهُمْ اللَّهُ .
(1/264)
وَقَوْلُ مَكْحُولٍ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْمَحَبَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ فَمَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ خَوْفًا مِنْهُ وَلَا رَجَاءً وَلَا لِصِفَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَحَبَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ انْتَفَى اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَصَارَ كَمَنْ يَعْمَلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ عَمَلًا لِأَجْلِ مَحَبَّتِهِ لَهُ لَا لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ وَمَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ وَإِظْهَارُهُ لِلْإِيمَانِ بِلِسَانِهِ وَبِطَاعَاتِهِ الظَّاهِرَةِ فَقَطْ مِثْلُ إظْهَارِ الزِّنْدِيقِ الْإِسْلَامَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِسْرَارِهِ الْكُفْرَ فَلِهَذَا شَبَّهَهُ بِالزِّنْدِيقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اعْتِقَادَهُ كُفْرٌ وَعَمَلُهُ عَمَلُ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ جَاءَ عَنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّرِيقِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ مَا عَبَدْنَاك خَوْفًا مِنْ نَارِك وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِك وَهَذَا مِنْ ذَاكَ الْقَبِيلِ أَفَتَقُولُونَ : إنَّ هَذَا كُفْرٌ ؟ . قُلْت : لَيْسَ هَذَا مِنْ ذَاكَ الْقَبِيلِ , وَالْقَدْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا بِدُونِهِ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الْعِبَادَةَ عَلَى عِبَادِهِ سَوَاءً أَمْ عَذَّبَهُمْ فَهُوَ لِذَاتِهِ تَعَالَى مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى ذَاتِهِ اسْتَحَقَّ أَنَّهُ مَهْمَا أَمَرَ بِهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَحَرُمَتْ مَعْصِيَتُهُ ثُمَّ إنَّهُ بِفَضْلِهِ تَعَالَى وَعَدَ الطَّائِعِينَ وَتَوَعَّدَ الْعَاصِينَ .
(1/265)
وَالْعَامِلُونَ عَلَى أَصْنَافٍ صِنْفٌ عَبَدُوهُ لِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَخْلُقْ جَنَّةً وَلَا نَارًا فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مَا عَبَدْنَاك خَوْفًا مِنْ نَارِك وَلَا طَمَعًا فِي جَنَّتِك أَيْ بَلْ عَبَدْنَاك لِاسْتِحْقَاقِك ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَائِلُ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَيَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ جَهْلٌ فَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَالنَّجَاةَ مِنْ النَّارِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ , وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْقَائِلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ النَّارِ , وَقَالَ : مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { : حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ } . فَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَمَنْ اعْتَقَدَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ خَتَّالٌ . وَمِنْ آدَابِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا : الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالِافْتِقَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِاَللَّهِ وَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَمَاتِ . كَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ وَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ .
(1/266)
وَصِنْفٌ عَبَدُوهُ خَوْفًا مِنْ نَارِهِ وَطَمَعًا فِي جَنَّتِهِ , وَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ هُوَ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَكِلَا الصِّنْفَيْنِ يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الطَّاعَةِ وَاسْتِحْقَاقَهَا خَاضِعُونَ تَحْتَ قَهْرِ الرُّبُوبِيَّةِ مُنْقَادُونَ تَحْتَ أَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مُسَخَّرُونَ تَحْتَ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْيَهُودُ { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } بَلَى نَحْنُ عَبِيدُهُ نَوَاصِينَا بِيَدِهِ مَاضٍ فِينَا حُكْمُهُ عَدْلٌ فِينَا قَضَاؤُهُ وَمَعَ ذَلِكَ نُحِبُّهُ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُحِبَّنَا .
(1/267)
وَأَمَّا هَذَا الشَّخْصُ الَّذِي جَرَّدَ وَصْفَ الْمَحَبَّةِ وَعَبَدَ اللَّهَ بِهَا وَحْدَهَا فَقَدْ رَبَا بِجَهْلِهِ عَلَى هَذَا وَاعْتَقَدَ أَنَّ لَهُ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ رَفَعَتْهُ عَنْ حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ وَضَآلَتِهَا وَحَقَارَةِ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةِ وَذِلَّتِهَا إلَى أَوْجِ الْمَحَبَّةِ كَأَنَّهُ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وَآخِذٌ عَهْدًا مِنْ رَبِّهِ أَنَّهُ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ كَلًّا بَلْ هُوَ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ سُلُوكُ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ وَتَضَاؤُلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاحْتِقَارُهُ نَفْسَهُ وَاسْتِصْغَارُهُ إيَّاهَا وَالْخَوْفُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعَدَمُ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَرَجَاءُ فَضْلِ اللَّهِ وَاسْتِعَانَتُهُ بِهِ وَاسْتِعَانَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ , وَيَقُولُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ : مَا عَبَدْنَاك حَقَّ عِبَادَتِك وَيَعْتَرِفُ بِالتَّقْصِيرِ وَيَسْتَغْفِرُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ إشَارَةً إلَى مَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ وَفِي الْأَسْحَارِ إشَارَةً إلَى مَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ التَّقْصِيرِ وَقَدْ قَامَ طُولَ اللَّيْلِ فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَقُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا وَعَنْ وَالِدِينَا وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَيَرْحَمَنَا بِفَضْلِهِ إنَّهُ لَا عَمَلَ لَنَا وَلَا سَبَبَ نَدِلُّ بِهِ عِنْدَهُ إلَّا فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ الْقَدِيمُ , اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْفِرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ لِوَالِدَتِي الْمِسْكِينَةِ وَوَالِدِي الْمِسْكِينِ وَتَرْحَمَهُمَا بِفَضْلِك وَمَنِّكَ يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إلَى رَبِّي
(1/268)
فِي قَضَاءِ حَاجَتِي هَذِهِ اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وفي أسنى المطالب :
( وَشَرْطُ الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ) أَيْ كُلٌّ مِنْهَا ( وَعَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ) وَلَوْ عَلَى نَوْعٍ كَمَا سَيَأْتِي وَفَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْكَبِيرَةَ بِأَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ( فَعَدُّوا مِنْ الْكَبَائِرِ الْقَتْلَ ) أَيْ عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ بِخِلَافِ الْخَطَأِ ( وَالزِّنَا ) بِالزَّايِ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَصْدِيقَهَا { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ . .
(1/269)
} الْآيَةَ ( وَاللِّوَاطَ ) لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ لِمَاءِ النَّسْلِ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ كَالزِّنَا زَادَ الْبَغَوِيّ وَإِتْيَانَ الْبَهَائِمِ ( وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَإِنْ قَلَّ ) وَلَمْ يُسْكِرْ وَالْمُسْكِرُ وَلَوْ بِغَيْرِ الْخَمْرِ { قَالَ صلى الله عليه وسلم إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ قَالَ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَمَّا شُرْبُ مَا لَا يُسْكِرُ لِقِلَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ فَصَغِيرَةٌ ( وَالسَّرِقَةَ ) قَالَ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } نَعَمْ سَرِقَةُ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ صَغِيرَةٌ قَالَ الْحَلِيمِيُّ إلَّا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِسْكِينًا لَا غِنَى بِهِ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَبِيرَةً ( وَالْقَذْفَ ) زَادَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ الْبَاطِلَ قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ نَعَمْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ قَذْفُ الصَّغِيرَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَالْحُرَّةِ الْمُتَهَتِّكَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ الْإِيذَاءَ فِي قَذْفِهِنَّ دُونَهُ فِي الْحُرَّةِ الْكَبِيرَةِ الْمُسْتَتِرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَذْفُ الْمُحْصَنِ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَفَظَةُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ أَمَّا قَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ فَمُبَاحٌ وَكَذَا جَرْحُ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ بِالزِّنَا إذَا عُلِمَ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ ( وَشَهَادَةَ الزُّورِ ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهَا فِي خَبَرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفِي خَبَرٍ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
(1/270)
رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ ( وَغَصْبَ الْمَالِ ) لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ رُبْعَ مِثْقَالٍ كَمَا يُقْطَعُ بِهِ فِي السَّرِقَةِ وَخَرَجَ بِغَصْبِ الْمَالِ غَصْبُ غَيْرِهِ كَغَصْبِ كَلْبٍ فَصَغِيرَةٌ . (
(1/271)
وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُ مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ أَيْ الْمُهْلِكَاتِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ نَعَمْ يَجِبُ إذَا زَادَ الْعَدُوُّ عَلَى مِثْلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ لِانْتِفَاءِ إعْزَازِ الدِّينِ بِثُبُوتِهِ ( وَأَكْلَ الرِّبَا ) لِآيَةِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُ مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ ( وَ ) أَكْلَ ( مَالِ الْيَتِيمِ ) قَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى } الْآيَةَ وَقَدْ عَدَّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ ( وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُ فِي خَبَرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفِي آخَرَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ وَأَمَّا خَبَرُهُمَا { الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ } وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ { عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ } فَلَا بُدَّ لِأَنَّ عَلَى أَنَّهُمَا كَالْوَالِدَيْنِ فِي الْعُقُوقِ ( وَالْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْدًا ) الْخَبَرُ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَمَّا الْكَذِبُ عَلَى غَيْرِهِ فَصَغِيرَةٌ ( وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ ) قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } بِخِلَافِهِ بِعُذْرٍ ( وَالْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ عُدْوَانًا ) لِأَنَّ صَوْمَهُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَفِطْرُهُ يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهِ بِالدِّينِ بِخِلَافِ الْإِفْطَارِ فِيهِ بِعُذْرٍ (
(1/272)
وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } وَخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } ( وَقَطْعَ الرَّحِمِ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ } قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَةٍ يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ ( وَالْخِيَانَةَ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ ) لِغَيْرِ الشَّيْءِ التَّافِهِ قَالَ تَعَالَى { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } الْآيَةَ وَالْكَيْلُ يَشْمَلُ الذَّرْعَ عُرْفًا أَمَّا لِلتَّافِهِ فَصَغِيرَةٌ ( وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْ وَقْتِهَا بِلَا عُذْرٍ ) لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } وَأَوْلَى بِذَلِكَ تَرْكُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ بِعُذْرٍ كَسَفَرٍ ( وَضَرْبَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ) لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ } إلَى آخِرِهِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَفِي التَّقْيِيدِ بِالْمُسْلِمِ نَظَرٌ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ لِلْمَضْرُوبِ رَحِمٌ وَقَرَابَةٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ لَهُ ذِمَّةٌ أَوْ عَهْدٌ مُعْتَبَرٌ قَالَ وَأَطْلَقَ الْحَلِيمِيُّ أَنَّ الْخَدْشَةَ وَالضَّرْبَةَ وَالضَّرْبَتَيْنِ مِنْ الصَّغَائِرِ وَقَدْ يُفْصَلُ بَيْنَ مَضْرُوبٍ وَمَضْرُوبٍ مِنْ
(1/273)
حَيْثُ الْقُوَّةِ وَضِدِّهَا وَالشَّرَفِ وَالدَّنَاءَةِ . ( وَسَبَّ الصَّحَابَةِ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ } إلَى آخِرِهِ الْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ السَّابِّينَ نَزَّلَهُمْ لِسَبِّهِمْ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِمْ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِمْ حَيْثُ عَلَّلَ بِمَا ذَكَرَهُ أَمَّا سَبُّ غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَصَغِيرَةٌ وَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ } مَعْنَاهُ تَكْرَارُ السَّبِّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى طَاعَاتِهِ ( وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ ) لِمَا مَرَّ فِي بَابِ آدَابِ الْقَضَاءِ ( وَالدِّيَاثَةَ ) بِالْمُثَلَّثَةِ لِخَبَرِ { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ وَالدَّيُّوثُ وَرَجْلَةُ النِّسَاءِ } رَوَاهُ الذَّهَبِيُّ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ ( وَالْقِيَادَةَ ) قِيَاسٌ عَلَى الدِّيَاثَةِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي الطَّلَاقِ ( وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ ) وَهِيَ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ لِيَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ فِي غَيْرِهِ بِمَا يُؤْذِيهِ بِهِ وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ خَبَرُ السَّاعِي مُثَلِّثٌ أَيْ مُهْلِكٌ بِسِعَايَتِهِ نَفْسَهُ وَالْمَسْعَى بِهِ وَإِلَيْهِ . (
(1/274)
وَمَنْعَ الزَّكَاةِ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفِحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ } إلَى آخِرِهِ ( وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ ) عَلَيْهِمَا لِآيَةِ { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد } وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمُنْكَرِ بِالْكَبِيرَةِ ( وَالسِّحْرَ ) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُ مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ ( وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ ) لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ { عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا } قَالَ فِي الرَّوْضَةِ لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ ( وَإِحْرَاقَ حَيَوَانٍ ) إذْ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا خَالِقُهَا ( وَامْتِنَاعَهَا ) أَيْ الْمَرْأَةِ ( مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { إذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ } ( وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ( وَأَمْنُ مَكْرِهِ ) تَعَالَى بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَعَاصِي وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْعَفْوِ قَالَ تَعَالَى { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ( وَالظِّهَارَ ) قَالَ تَعَالَى فِيهِ { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } أَيْ حَيْثُ شَبَّهُوا
(1/275)
الزَّوْجَةَ بِالْأُمِّ فِي التَّحْرِيمِ ( وَأَكْلَ لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَمَيْتَةٍ بِلَا عُذْرٍ ) قَالَ تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةَ . ( وَنَمِيمَةً ) وَهِيَ نَقْلُ بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ } أَمَّا نَقْلُ الْكَلَامِ نَصِيحَةً لِلْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَوَاجِبٌ كَمَا فِي قوله تعالى حِكَايَةِ { يَا مُوسَى إنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِك لِيَقْتُلُوكَ } ( وَالْوَقْعَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ ) لِشِدَّةِ احْتِرَامِهِمْ وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِمْ الْغَيْبَةُ صَغِيرَةٌ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ كَقَطْعِ الرَّحِمِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى إطْلَاقِهِمْ وَنِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَإِحْرَاقِ الْحَيَوَانِ وَقَدْ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ إلَى مِثْلِ هَذَا التَّوَقُّفِ انْتَهَى وَلَيْسَتْ الْكَبَائِرُ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذُكِرَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي أَوَّلِهَا وَأَمَّا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ زَادَ الْبُخَارِيُّ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَمُسْلِمٌ بَدَّلَهَا وَقَوْلُ الزُّورِ } وَخَبَرُهُمَا { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فَمَحْمُولَانِ عَلَى بَيَانِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ .
(1/276)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا ( وَقِيلَ إنَّ الْكَبِيرَةَ هِيَ الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمْيَلُ وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ ) أَيْ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا الرِّبَا وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا حَدَّ فِيهَا وَقَالَ الْإِمَامُ هِيَ كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَالْمُرَادُ بِهَا بِقَرِينَةِ التَّعَارِيفِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ الْكَبَائِرِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَعُ فَإِنَّ الرَّاجِحَ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِهَا مَا لَمْ نُكَفِّرْهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ ( وَمِنْ الصَّغَائِرِ ) جَمْعُ صَغِيرَةٍ وَهِيَ كُلُّ ذَنْبٍ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ . (
(1/277)
النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ وَغَيْبَةٌ ) لِلْمُسِرِّ فِسْقَهُ ( وَاسْتِمَاعُهَا ) بِخِلَافِ الْمُعْلِنِ لَا تَحْرُمُ غَيْبَتُهُ بِمَا أَعْلَنَ بِهِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْفَاسِقِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ غَيْبَتُهُ كَبِيرَةً وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ كَأَصْلِهِ فِي الْوُقُوعِ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ كَمَا مَرَّ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَهَذَا التَّفْصِيلُ أَحْسَنُ مِنْ إطْلَاقِ صَاحِبِ الْعُدَّةِ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَإِنْ نَقَلَهُ الْأَصْلُ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَقَوْلُهُ وَاسْتِمَاعُهَا أَخَصُّ مِنْ قَوْلِ الْأَصْلِ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَعْلَمُهَا وَلَا يَسْمَعُهَا ( وَكَذِبٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ ) وَقَدْ لَا يَكُونُ صَغِيرَةً كَإِنْ كَذَبَ فِي شِعْرِهِ بِمَدْحٍ وَإِطْرَاءٍ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّاعِرِ إظْهَارُ الصَّنْعَةِ لَا التَّحْقِيقُ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ وَخَرَجَ بِنَفْيِ الْحَدِّ وَالضَّرَرِ مَا لَوْ وُجِدَا أَوْ أَحَدُهُمَا مَعَ الْكَذِبِ فَيَصِيرُ كَبِيرَةً لَكِنَّهُ مَعَ الضَّرَرِ لَيْسَ كَبِيرَةً مُطْلَقًا بَلْ قَدْ يَكُونُ كَبِيرَةً كَالْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلْ الْمُوَافِقُ لِتَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ أَنَّهُ لَيْسَ كَبِيرَةً مُطْلَقًا ( وَإِشْرَافٌ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ وَهَجْرُ مُسْلِمٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ ) مِنْ الْأَيَّامِ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ
(1/278)
الشِّقَاقِ . وَأَفْهَمَ كَلَامُهُمْ جَوَازَهُ فِي الثَّلَاثِ بِلَا سَبَبٍ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ ( وَكَثْرَةُ خُصُومَاتٍ ) وَإِنْ كَانَ مُكْثِرُهَا مُحِقًّا ( لَا إنْ رَاعَى حَقَّ الشَّرْعِ ) فِيهَا فَلَيْسَتْ صَغِيرَةً ( وَضَحِكٌ فِي الصَّلَاةِ وَنِيَاحَةٌ وَشَقُّ جَيْبٍ لِمُصِيبَةٍ وَتَبَخْتُرٌ ) فِي الْمَشْيِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَلَمْ أَرَ عَدَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ إلَّا لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ ( وَجُلُوسٌ بَيْنَ فُسَّاقٍ إينَاسًا لَهُمْ وَإِدْخَالُ مَجَانِينَ وَنَجَاسَةٍ وَكَذَا إدْخَالُ صِبْيَانَ يَغْلِبُ تَنْجِيسُهُمْ الْمَسْجِدَ وَإِلَّا ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ تَنْجِيسُ الصِّبْيَانِ لَهُ ( كُرِهَ ) وَمِثْلُهُمْ فِي هَذَا الْمَجَانِينُ وَعَلَى عَدَمِ الْغَلَبَةِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ الْمَجْمُوعِ الْكَرَاهَةَ فِي إدْخَالِهِمَا الْمَسْجِدَ وَلَا يُنَافِي تَحْرِيمُ إدْخَالِهِمَا إيَّاهُ مَا مَرَّ مِنْ جَوَازِ إدْخَالِهِمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِيُحْرِمَ عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَيَطُوفُوا بِهِمْ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ الْإِدْخَالِ لِحَاجَةِ الْعِبَادَةِ الْجَوَازُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ( وَإِمَامَةُ مَنْ ) أَيْ قَوْمٍ ( يَكْرَهُونَهُ لِعَيْبٍ فِيهِ ) تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ ( وَاسْتِعْمَالُ نَجَسٍ فِي بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ) كَمَا مَرَّ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَالثَّوْبُ ذَكَرَهُ الْأَصْلُ ثُمَّ وَالْمُصَنِّفُ هُنَا كَمَا مَرَّ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ثُمَّ ( وَالتَّغَوُّطُ مُسْتَقْبِلًا ) الْقِبْلَةَ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ فِي بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ ( وَ ) التَّغَوُّطُ ( فِي الطَّرِيقِ ) تَقَدَّمَ ثُمَّ إنَّهُ
(1/279)
مَكْرُوهٌ مَعَ مَا فِيهِ ( وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ حَتَّى كَشْفُ الْعَوْرَةِ ) وَلَوْ ( فِي خَلْوَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ) وَمِنْ ذَلِكَ الْقُبْلَةُ لِلصَّائِمِ الَّتِي تَحْرُمُ شَهْوَتُهُ وَالْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ وَالِاسْتِمْنَاءُ وَمُبَاشَرَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْلُ هُنَا أَمْثِلَةً كَثِيرَةً وَبِالْجُمْلَةِ ( فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغَائِرِ وَلَوْ عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا يُسْقِطُ الشَّهَادَةَ ) بِشَرْطٍ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ . ( قَالَ الْجُمْهُورُ مَنْ غَلَبَتْ طَاعَتُهُ مَعَاصِيَهُ كَانَ عَدْلًا وَعَكْسُهُ ) وَهُوَ مَنْ غَلَبَتْ مَعَاصِيهِ طَاعَتَهُ فَاسِقٌ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمِثْلُهُ مَا إذَا اسْتَوَيَا
(
(1/280)
قَوْلُهُ وَشَرْطُ الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ إلَخْ ) هَذَا نَفْسُ الْعَدَالَةِ لَا شَرْطٌ فِيهَا ( قَوْلُهُ وَعَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ) لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى رَدِّهَا فِي سَائِرِ الْكَبَائِرِ وَفِي مَعْنَاهَا الْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغَائِرِ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالتَّهَاوُنِ بِأَمْرِ الدِّيَانَةِ وَمِثْلُهُ لَا يَخَافُ وُقُوعَ الْكَذِبِ مِنْهُ وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرَةِ بِحَدِيثِ أَنَسٍ إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ إنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا الْمُوبِقَاتُ ( قَوْلُهُ وَفَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْكَبِيرَةَ بِأَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ إلَخْ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهِيَ أَمْثَلُ قَالَا وَهُوَ مَا يُوجَدُ لِأَكْثَرِهِمْ وَهُوَ الْأَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ ( تَنْبِيهٌ ) أَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا { مَا مِنَّا إلَّا مَنْ عَصَى أَوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ إلَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فِي مُسْنَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا } فَلَا يُغْتَرَّ بِذِكْرِ أَصْحَابِنَا لَهُ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ لِمَاءِ النَّسْلِ ) وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ
(1/281)
قَوْمَ لُوطٍ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ بِسَبَبِهِ ( قَوْلُهُ قَالَ الْحَلِيمِيُّ إلَّا إذَا كَانَ إلَخْ ) ضَعِيفٌ . ( قَوْلُهُ وَالْقَذْفَ ) لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً بِزِنَا الْمَقْذُوفِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ أَوْ حَلَفَ الْقَاذِفُ لِنُكُولِهِ أَوْ لَاعَنَ زَوْجَتَهُ لِقَذْفِهَا لَمْ يَفْسُقْ إنْ لَمْ تُلَاعِنْ وَإِلَّا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ ( قَوْلُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَذْفُ الْمُحْصَنِ فِي خَلْوَةٍ إلَخْ ) قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ إذَا كَانَ صَادِقًا فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَفِيهِ نَظَرٌ لِلْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْفُجُورِ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْحَدِّ فِطَامًا عَنْ جِنْسِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَالظَّاهِرُ قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَهَذَا رَمْيٌ لِمُحْصَنَةٍ ( قَوْلُهُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ ) وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ الْمُتَجَاهِرِ بِذَلِكَ فِي وَجْهِ الْمَقْذُوفِ أَوْ مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ يُعَاقَبُ عِقَابَ الْكَاذِبِينَ غَيْرِ الْمُصِرِّينَ قُلْت وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فِي الْخَلْوَةِ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِصِدْقِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْذُوفَ الْقَذْفُ الَّذِي جَهَرَ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ مَعَ انْتِفَاءِ مَفْسَدَةِ التَّأَذِّي وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَذْفِ فِي الْخَلْوَةِ إلَى أَنْ قَالَ وَأَمَّا قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَبَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ . ا هـ . (
(1/282)
قَوْلُهُ وَغَصْبَ الْمَالِ ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ أَيْ الْغَصْبَ مُسْتَحِلًّا وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ كَانَ فَاسِقًا وَغَصْبُ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقِيلَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ رُبْعَ دِينَارٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَحَكَى عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ وَفِي ثُبُوتِهَا نَظَرٌ . (
(1/283)
قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّهُ مِنْ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ ) وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ } وَلِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ { دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ ابْنُ آدَمَ أَشَدُّ عِنْدَ اللَّهِ إثْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } وَلِخَبَرِ الْحَاكِمُ { الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } ( قَوْلُهُ وَقَطْعَ الرَّحِمِ ) الرَّحِمُ كُلُّ قَرَابَةٍ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا وَقِيلَ كُلُّ قَرَابَةٍ إلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ جِدًّا وَقِيلَ كُلُّ قَرَابَةٍ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَهَلْ تَخْتَصُّ الْقَطِيعَةُ بِالْإِسَاءَةِ أَوْ تَتَعَدَّى إلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ ( قَوْلُهُ وَسَبَّ الصَّحَابَةِ ) كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ صَحَابِيٍّ عِنْدَ وَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام ( قَوْلُهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي } إلَخْ ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْيَأْسُ مِنْ بُلُوغِ مَنْ بَعْدَهُمْ مَرْتَبَةَ أَحَدِهِمْ فِي الْفَضْلِ فَإِنَّ هَذَا الْمَفْرُوضَ مِنْ مِلْكِ الْإِنْسَانِ ذَهَبًا بِقَدْرِ أُحُدٍ مُحَالٌ فِي الْعَادَةِ لَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ وَإِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ لَا يَبْلُغُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ إذَا تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مُدٍّ وَلَوْ مِنْ شَعِيرٍ وَذَلِكَ بِالتَّقْرِيبِ رُبْعُ قَدَحٍ مِصْرِيٍّ وَذَلِكَ إذَا طُحِنَ وَعُجِنَ لَا يَبْلُغُ رَغِيفًا عَلَى الْمُعْتَادِ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ
(1/284)
لَمْ يَجِدْ فِي مَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ أَبْلَغَ مِنْهُ ( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمُنْكَرِ بِالْكَبِيرَةِ ) أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ وَكَتَبَ عَلَيْهِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَيُقَالُ إنْ كَانَ كَبِيرَةً فَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهِ كَبِيرَةٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرَةً فَالسُّكُوتُ صَغِيرَةٌ وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَفَاوَتُ وَالظَّاهِرُ تَفَاوُتُهَا وَقَوْلُهُ فَيُقَالُ إنْ كَانَ إلَخْ أَشَارَ إلَى تَصْحِيحِهِ ( قَوْلُهُ وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ ) مَحِلُّهُ إذَا كَانَ نِسْيَانُهُ تَهَاوُنًا وَتَكَاسُلًا ع ( قَوْلُهُ وَإِحْرَاقَ حَيَوَانٍ ) وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ كَالْبَقِّ وَالْبُرْغُوثِ ( فَرْعٌ ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْهَوَامِّ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْذٍ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ { امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا } وَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا وَكَذَلِكَ التَّصْوِيرُ وَغَيْرُهُ مِمَّا ثَبَتَ لَعْنُ فَاعِلِهِ قَوْلُهُ فَمَحْمُولَانِ ) أَيْ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ الْكَبَائِرُ الْحَاضِرَةُ وَخَبَرُهُمَا اجْتَنِبُوا إلَى آخِرِهِ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ الْكَبِيرَةُ إلَخْ ) قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَقَدْ رَأَيْت لِشَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ جُزْءًا عَدَّ فِيهِ الْكَبَائِرَ وَأَحْسَبُهُ بَلَغَ فِيهَا إلَى نَحْوِ الْأَرْبَعِمِائَةِ أَوْ دُونَهَا أَوْ فَوْقَهَا وَأَنَا بَعِيدُ الْعَهْدِ بِهِ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ الْكَبَائِرُ كُلُّهَا لَا تُعْرَفُ أَيْ لَا تَنْحَصِرُ ( قَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِ وَهَذَا أَمْيَلُ )
(1/285)
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ أَمْثَلُ . ( قَوْلُهُ وَقَالَ الْإِمَامُ كُلُّ جَرِيمَةٍ إلَخْ ) هَذَا بِظَاهِرِهِ يَتَنَاوَلُ صَغِيرَةَ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِثَمَرَةٍ وَالْإِمَامُ إنَّمَا ضَبَطَ بِهِ مَا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ الْمَعَاصِي الشَّامِلَ لِتِلْكَ الْكَبِيرَةِ فَقَطْ نَعَمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَقَالَ الْبَارِزِيُّ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ أَوْ أَشْعَرَ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهِ فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ ( قَوْلُهُ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ ) أَيْ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ ( قَوْلُهُ وَمِنْ الصَّغَائِرِ إلَخْ ) قَالَ شَيْخُنَا صَرَّحَ فِي الْأَنْوَارِ بِأَنَّ لُبْسَ الرَّجُلِ لِلْحَرِيرِ صَغِيرَةٌ ( قَوْلُهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ صَغِيرَةً إلَخْ ) وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَأَمْثِلَتُهُ وَاضِحَةٌ ( قَوْلُهُ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ ) لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ هَذِهِ فِي كَرَاهَةِ كُلِّهِمْ وَتِلْكَ فِي كَرَاهَةِ أَكْثَرِهِمْ وَكَتَبَ أَيْضًا تَقَدَّمَ ثُمَّ إنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي تِلْكَ لِلتَّنْزِيهِ وَفِي هَذِهِ لِلتَّحْرِيمِ ( قَوْلُهُ وَمُبَاشَرَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ ) أَيْ وَالشُّرْبُ مِنْ إنَاءٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ وَلُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْجُلُوسُ لِلرِّجَالِ وَسَمَاعُ الْأَوْتَارِ وَالْمَعَازِفِ
(1/286)
وَالْمِزْمَارِ الْعِرَاقِيِّ قَوْلُهُ وَمِثْلُهُ مَا إذَا اسْتَوَيَا ) كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْأَصْلِ فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الصَّغَائِرِ إذْ غَلَبَتْ الطَّاعَاتُ . ا هـ . وَلَا يَضُرُّ أَيْضًا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى أَنْوَاعٍ إذَا غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ مَعَاصِيَهُ وَالْمُرَادُ الرُّجُوعُ فِي الْغَلَبَةِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مُدَّةَ الْعُمُرِ فَالْمُسْتَقْبَلُ لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا ذَهَبَ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا
******************
وفي الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي :
( وَسُئِلَ ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخَيْرَ وَيُوَفِّقُهُ لَهُ أَوْ يَحْصُلُ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ مُجَرَّدُ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُ فَلَوْ ظَنَّ لَمَّا رَأَى أَحْوَالَهُ مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُنْتَظِمَةٍ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِي إلَّا كَذَا وَكَذَا فَهَلْ هَذَا مِنْ عَدَمِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا وَمَا مُؤَدَّاهُ الْحَقِيقِيُّ إذَا أُطْلِقَ ؟
(
(1/287)
فَأَجَابَ ) بِقَوْلِهِ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الزَّوَاجِرِ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } وَقَالَ تَعَالَى عَزَّ قَائِلًا { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ } . ( تَنْبِيهٌ ) عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ التَّلَازُمِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَفِي مَعْنَى الْآيِسِ الْقَنُوطُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ لِلتَّرَقِّي إلَيْهِ فِي قوله تعالى { وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } ا هـ وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ وَزِيَادَةُ التَّجْوِيزِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ لَا تَلِيقُ بِكَرَمِهِ وُجُودِهِ .
(1/288)
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ وَقُلْت قَبْلَ ذَلِكَ الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
(1/289)
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْت لَك يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ - أَيْ بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا خَطَايَا - ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُك قَالَ أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ } . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ : هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا , فَيَقُولُ : لِمَ , فَيَقُولُونَ : رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك , فَيَقُولُ اللَّهُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي } وَالشَّيْخَانِ { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي } الْحَدِيثَ .
(1/290)
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ { قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } وَالْبَيْهَقِيُّ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي } . (
(1/291)
تَنْبِيهٌ ) عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا ذُكِرَ بَلْ فِي التَّصْرِيحِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ ا هـ مَا فِي الزَّوَاجِرِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ خَبَرَ مُسْلِمٍ السَّابِقِ { لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى } بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ قَالُوا وَيُنْدَبُ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يُحْسِنُوا ظَنَّ الْمُحْتَضِرِ وَيُطْمِعُوهُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ وُجُوبَهُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَوْا مِنْهُ أَمَارَاتِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْإِرْشَادِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ قِيلَ وَالْأَوْلَى لِلصَّحِيحِ تَغْلِيبُ خَوْفِهِ عَلَى رَجَائِهِ وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَجْمُوعِ اسْتِوَاؤُهُمَا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَعًا .
(1/292)
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إنْ أَمِنَ دَاءَ الْقُنُوطِ فَالرَّجَاءُ أَوْلَى أَوْ أَمِنَ الْمَكْرَ فَالْخَوْفُ أَوْلَى أَيْ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اسْتَوَيَا وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْ الْإِرْشَادِ كَأَصْلِهِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَيْسَ بِمُحْتَضِرٍ كَالصَّحِيحِ وَالْأَوْجَهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرَ الْمُحْتَضِرِ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَتْهُ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَبِهَا مَعَ مَا سَبَقَ عَنْ الزَّوَاجِرِ يُعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا شَخْصٌ يَجُوزُ وُقُوعُ الرَّحْمَةِ لَهُ وَالْعَذَابُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ الْفُقَهَاءُ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا نُدِبَ لَهُ تَغْلِيبُ جَانِبِ الرَّجَاءِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا رَأَيْتَ . ثَانِيهِمَا فِي شَخْصٍ آيِسٍ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إسْلَامِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَلَامُ الزَّوَاجِرِ فِيهِ فَهَذَا الْيَأْسُ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا .
(1/293)
ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ تَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ أَشَدُّ مِنْهُ فِي التَّصْمِيمِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ بِحَسْبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ فَهُوَ يَئُوسٌ قَنُوطٌ وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ رَحْمَتِهِ لَهُ يُشَدِّدُ عَذَابَهُ كَالْكُفَّارِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته عَنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْسَانِ الظَّنِّ الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُ وَمِنْ الرَّحْمَةِ أَنَّ اللَّهَ يُوَفِّقُهُ لِلْخَيْرِ وَأَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسْأَلُ مِنْهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى أَحْوَالَهُ غَيْرَ جَارِيَةٍ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَاشْتَدَّ الْخَوْفُ عِنْدَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَخَشِيَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى قَبَائِحِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنْهُ وَيَغْفِرُ لَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بَلْ هُوَ مِنْ الْحَالَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم { أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ } .
(1/294)
وَوَرَدَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَقِيَّةِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ مَا يُفَتِّتُ الْكَبِدَ وَيُذِيبُ الْجِلْدَ وَلِذَلِكَ جَرَى جَمَاعَةٌ أَجِلَّاءُ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْخَوْفِ عَلَى جَانِبِ الرَّجَاءِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَا دَامَ تَرْجِيحُهُ بَاقِيًا كَانَ حَامِلًا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ غَالِبًا يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى اقْتِرَافِ النَّقَائِصِ خَلَّصَنَا اللَّهُ مِنْهَا وَوَفَّقَنَا لِطَاعَتِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَأَدَامَ عَلَيْنَا رِضَاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى أَنْ نَلْقَاهُ آمِينَ .
وفي الزواجر له :
وَمِنْهَا : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ , وَلَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ .
(1/295)
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } نَعَمْ . يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْمُ يُونُسَ لقوله تعالى : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ , وَأَنَّ إيمَانَهُمْ كَانَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ , وَهُوَ قَوْلٌ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ , وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ اسْتِثْنَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَرَامَةً وَخُصُوصِيَّةً لِنَبِيِّهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا .
(1/296)
أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم قَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حَتَّى آمَنَا بِهِ , كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ , وَابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ حَافِظُ الشَّامِ وَغَيْرُهُمَا فَنَفَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُصُوصِيَّاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا , وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي خَبَرِ إحْيَاءِ أَبَوَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا رَدَدْته عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى , وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ تَزَلْ فَضَائِلُهُ صلى الله عليه وسلم وَخَصَائِصُهُ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ , فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ , وَلَيْسَ إحْيَاؤُهُمَا , وَإِيمَانُهُمَا بِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا , وَلَا سَمْعًا فَقَدْ أَحْيَا قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ , وَكَانَ عِيسَى عليه السلام يُحْيِي الْمَوْتَى , وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمَوْتَى , وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إحْيَائِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ , وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الشَّمْسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْعَصْرَ , فَكَمَا أُكْرِمَ بِعَوْدِ الشَّمْسِ وَالْوَقْتِ بَعْدَ فَوَاتِهِ , فَكَذَلِكَ أُكْرِمَ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ وَوَقْتِ الْإِيمَانِ بَعْدَ فَوَاتِهِ إكْرَامًا لَهُ أَيْضًا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
(1/297)
} نَزَلَتْ فِي أَبَوَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْنِي سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ , وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَوْلَا كَرَامَتُك . وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { أَبِي وَأَبُوك فِي النَّارِ } . إمَّا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَوْ قَالَهُ تَطْمِينًا , وَإِرْشَادًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ , فَإِنَّهُ تَغَيَّرَ لَمَّا قَالَ أَبُوك فِي النَّارِ , وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمُجْتَهِدُوهَا الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمُعَوَّلُ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } إجْمَاعَهُمْ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ , وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ عليه السلام مِنْ طَرِيقَيْنِ وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَفِي الْأُخْرَى حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا } .
(1/298)
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَزَّ قَائِلًا : { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَهُوَ لَا يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ قوله تعالى عَقِبَ ذَلِكَ : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِيمَانَ مَرَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى فَتْحِ أَنَّ وَثَلَاثًا بِنَاءً عَلَى كَسْرِهَا أَنَّهُ إنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ , وَالْإِيمَانُ حِينَئِذٍ غَيْرُ نَافِعٍ لِمَا تَقَرَّرَ , وَأَيْضًا فَإِيمَانُهُ إنَّمَا كَانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } فَكَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ , وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ لِلْعَالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ فَآمَنَ بِهِ , وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصَّانِعِ , وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَبِيثِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ لَا يَزُولُ بِتَقْيِيدٍ مَحْضٍ , بَلْ لَا بُدَّ فِي مُزِيلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الدَّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ كَانَ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ أَنْ يُقِرَّ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَفَرَ بِهِ , فَلَوْ قَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُ مُسْلِمًا كَمَا مَرَّ وَفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلَانِ مَا كَانَ كَفَرَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الصَّانِعِ , وَإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ ,
(1/299)
وَقَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لَا يُدْرَى مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ , فَإِذَا صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي " آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ " بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ لِاحْتِمَالِهِ فَكَذَا فِيمَا قَالَهُ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ , فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا هُوَ لَمْ يُؤْمِنُ بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم , وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ نَافِعًا , أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ أُلُوفًا مِنْ الْمَرَّاتِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَإِنْ قُلْت : السَّحَرَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي إيمَانِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِمُوسَى وَمَعَ ذَلِكَ قُبِلَ إيمَانُهُمْ . قُلْت : مَمْنُوعٌ بَلْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ حِينَئِذٍ إيمَانٌ بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَهِيَ الْعَصَا الَّتِي تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا , وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ فَهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى صَرِيحًا بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ صَرِيحًا , وَلَا إشَارَةً , بَلْ ذِكْرُهُ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ مُوسَى مَعَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ الْعَارِفُ بِالْإِلَهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَالْهَادِي إلَى طَرِيقِهِ فِيهِ إشَارَةٌ مَا إلَى بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ .
(1/300)
فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَبْدُ الصَّمَدِ الْحَنَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ , وَلَوْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوَائِلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ , وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ رَأْسُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ , وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ ذَلِكَ , فَكَيْفَ سَاغَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ؟ . قُلْت : لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا , وَلَمْ يَخْتَلَّ بِهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ , لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَحَسْبُ , بَلْ لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا , وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى أَصْلًا فَلَا يَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
(1/301)
فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ الْمُحَقِّقُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي فُتُوحَاتِهِ الْمَكِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ , وَأَنَّ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ , فَإِنَّهُ قَالَ : مَا حَاصِلُهُ لَمَّا حَالَ الْغَرَقُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ أَطْمَاعِهِ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَإِلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ , فَقَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ , كَمَا قَالَتْ السَّحَرَةُ لَمَّا آمَنَتْ : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لِرَفْعِ الِارْتِيَابِ , وَإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَخَاطَبَهُ بِلِسَانِ الْعَتْبِ آلْآنَ أَظْهَرْتَ مَا كُنْتَ قَبْلُ عَلِمْتَهُ { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } فِي اتِّبَاعِك { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } فَبَشَّرَهُ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَك آيَةً } أَيْ لِتَكُونَ النَّجَاةُ عَلَامَةً لَهُ إذَا قَالَ مَا قُلْتَهُ كَانَتْ لَهُ النَّجَاةُ مِثْلَ مَا كَانَتْ لَك إذْ الْعَذَابُ مَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِظَاهِرِك , وَقَدْ أَرَيْتُ الْخَلْقَ نَجَاتَهُ مِنْ الْعَذَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْغَرَقِ عَذَابًا وَصَارَ الْمَوْتُ فِيهِ شَهَادَةً خَالِصَةً , كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ .
(1/302)
وَأَمَّا قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } فَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ فَإِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ فَمَا نَفَعَهُمْ إلَّا اللَّهُ , وقوله تعالى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } يَعْنِي الْإِيمَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْيَأْسِ , وَإِنَّمَا قَبَضَ فِرْعَوْنَ , وَلَمْ يُؤَخِّرْ فِي أَجَلِهِ فِي حَالِ إيمَانِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى . وَأَمَّا قوله تعالى : { فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ } فَمَا فِيهِ نَصٌّ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا مَعَهُمْ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ } , وَلَمْ يَقُلْ أَدْخِلُوا فِرْعَوْنَ , وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ حَيْثُ أَنْ لَا يَقْبَلَ إيمَانَ الْمُضْطَرِّ , وَأَيُّ اضْطِرَارٍ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِ فِرْعَوْنَ فِي حَالِ الْغَرَقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذَا دَعَاهُ الْإِجَابَةَ وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْغَرَقِ فِي الْمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ . فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ أَوْ مَرْدُودٌ فَمَا وَجْهُ رَدِّهِ ؟ قُلْت : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرًا , وَإِنْ كُنَّا نَعْتَقِدُ جَلَالَةَ قَائِلِهِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ إلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ .
(1/303)
, وَلَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ فِي النَّارِ , , وَإِذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ إمَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَيُعْرَضُ عَمَّا خَالَفَهَا , بَلْ قَدْ مَرَّ لَك أَنَّ الْآيَةَ وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ الصَّحِيحَ صَرِيحَانِ فِي بُطْلَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } بِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ , وَأَيْضًا فَمِمَّا يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى أَسْبَابِهَا . فَإِذَا قِيلَ : لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ , وَأَيُّ مَعْنًى مُسَوِّغٍ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْعَ اللَّهِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ وُقُوعِ الْعَذَابِ مَعَ النَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَقْتٍ , وَلَوْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ لَمَا اسْتَأْصَلَهُمْ بِالْعَذَابِ .
(1/304)
وقوله تعالى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } أَنَّهُمْ بَاقُونَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ , وَكَفَى بِتَفْسِيرِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , فَمَنْ بَعْدَهُمْ الْمُوَافِقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَيْنِ الْآيَةَ بِمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ , وَإِذَا ثَبَتَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُ الْيَأْسِ ثَبَتَ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ , عَلَى أَنَّنَا قَدَّمْنَا أَنَّنَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إيمَانِ الْيَأْسِ , فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ إيمَانِهِ بِمُوسَى وَهَارُونَ صلى الله عليهما وسلم بِخِلَافِ السَّحَرَةِ , وَمَنْ تَأَمَّلَ صِيغَةَ إيمَانِهِمْ الْمَحْكِيَّتَيْنِ عَنْهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلِمَ اتِّضَاحَ مَا بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ فَلَا يَصْغَ إلَى قِيَاسِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَجَأَ إلَى مَا أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ عَجِيبٌ , وَأَيُّ ذِلَّةٍ وَافْتِقَارٍ كَانَ عَلَيْهِمَا بَاطِنُهُ وَهُوَ يُنْكِرُ رُبُوبِيَّةَ رَبِّ الْأَرْبَابِ , وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِلَهَ الْمُطْلَقَ وَالرَّبَّ الْأَكْبَرَ يُؤْذِي مُوسَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُعَانِدُهُ , فَهَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ إلَّا كَأَبِي جَهْلٍ .
(1/305)
وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ بَاطِنَهُ كَانَ عَلَيْهِمَا فَأَيُّ نَفْعٍ لَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَحَمْلُ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } عَلَى الْعَتْبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إذْ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ , وَإِيمَانُهُ لَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْفَضْلِ الَّذِي طَمَحَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّيْخِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : الْآنَ نَقْبَلُك وَنُكْرِمُك لِاسْتِلْزَامِ صِحَّةِ إيمَانِهِ رِضَا الْحَقِّ عَنْهُ . وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الرِّضَا الْأَكْبَرُ لَا يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ رِعَايَةِ مَقَامِ الْفَضْلِ جَوَابًا لِإِيمَانِهِ الصَّحِيحِ { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى رَوِيَّةٍ وَسَلِيقَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ لَا الْمَرْضِيُّ عَنْهُ , وَتَخْصِيصُ { وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } بِمَا مَرَّ يَأْبَاهُ هَذَا الْبَيَانُ الَّذِي تَقَرَّرَ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إيمَانُهُ مُحِيَ عَنْهُ مَا عَصَاهُ وَأَفْسَدَهُ فِي أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ , فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ الْمَحْوِ الْعَظِيمِ يُعَاقَبُ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ التَّأْنِيبِ الْمَحْضِ وَالتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ وَالتَّوْبِيخِ الْحَقِّ , فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إلَّا لِإِقَامَةِ أَعْظَمِ نَوَامِيسِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ , وَتَذْكِيرِهِ بِقَبَائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا , وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي مَنَعَتْهُ عَنْ النُّطْقِ بِالْإِيمَانِ إلَى آخِرِ رَمَقٍ مِنْهُ فَلَمْ يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا حِينَئِذٍ .
(1/306)
سِيَّمَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِرَسُولِهِ وَعِنَادِهِ لِآيَاتِهِ , وَإِعْرَاضِهِ عَنْ جَنَابِهِ , وَتَخْصِيصُ النَّجَاةِ , بِالْبَدَنِ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهَا إلَّا مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ , وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِغَرَقِهِ سِيَّمَا مَعَ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ , وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ فَأُلْقِيَ بِنَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ , وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ لِيُعْرَفَ بِهَا , وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْبَدَنَ عَلَى الدِّرْعِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُعْرَفُ بِهَا , وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ بِأَبْدَانِك أَيْ دُرُوعِك , لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كَثِيرًا مِنْهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ أَوْ أَنَّهُ بَدَنٌ بِلَا رُوحٍ , وَلَا تُنَافِيهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لِأَنَّهُ عَلَيْهَا جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَنًا عَلَى حَدِّ : شَابَتْ مَفَارِقُهُ . وَقُرِئَ شَاذًّا أَيْضًا نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيك بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ .
(1/307)
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : رَمَاهُ إلَى جَانِبِ الْبَحْرِ كَالثَّوْرِ لِيَكُونَ لِمَنْ خَلْفَهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُقْصَمَ وَيُؤْخَذَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ , لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ طَرِيقَتِهِ مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ قَوْمِهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ , ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا الْمَقَامَ عَزَّ قَائِلًا : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } زَجْرًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . وَمِنْهَا : دَلَّتْ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي جَهَنَّمَ دَائِمٌ مُؤَبَّدٌ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ , فَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَاءَ رَبُّك إنَّ رَبَّك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَظَاهِرُهُ أَنَّ مُدَّةَ عِقَابِهِمْ مُسَاوِيَةٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُونَ فِيهِ خَالِدِينَ فِيهَا , وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ وَجْهًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَبَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ .
(1/308)
فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا ; إذْ السَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاك , وَالْأَرْضُ كُلُّ مَا اسْتَقْرَيْتَ عَلَيْهِ , وَكَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَهُمَا سَمَاءٌ وَأَرْضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , فَانْدَفَعَ التَّنْظِيرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَمَوَاتِ الدُّنْيَا وَأَرْضِهَا , وَأُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ دَوَامِ الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ كَقَوْلِهِمْ : لَا آتِيك مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ , أَوْ مَا جَنَّ لَيْلٌ وَسَالَ سَيْلٌ , أَوْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ , أَوْ مَا طَمَا الْبَحْرُ , أَوْ مَا قَامَ الْجَبَلُ , لِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ .
(1/309)
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ , وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إلَى النُّورِ الَّذِي خُلِقَا مِنْهُ وَهُمَا دَائِمَانِ أَبَدًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ , ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا , وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي النَّارِ بَاقِيًا , وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ , وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ , وَنَظِيرُهُ أَنَّك إذَا قُلْت : إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ , ثُمَّ قُلْت : لَكِنَّهُ إنْسَانٌ , أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ , أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ عَقِيمٌ , فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا : مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ , ثُمَّ قُلْنَا : لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ . أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ . لَا يُقَالُ : إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا .
(1/310)
لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ , فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ لَا ؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ . وَمِنْ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ , وَإِلَى شُرْبِ الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ , فَإِنَّهَا , وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ يَعْقِلُ كَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شُمُولِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ , وَإِلَّا بِمَعْنَى سِوَى : أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ , وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا } .
(1/311)
لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ , نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَأَنَسٍ . وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ , وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى . وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ . قَالَ الْعُلَمَاءُ , قَالَ ثَابِتٌ : سَأَلْت الْحَسَنَ عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ , وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ . وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ . أَمَّا مَوَاضِعُ الْكُفَّارِ فَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ بِهِمْ لَا يُخْرَجُونَ عَنْهَا أَبَدًا , كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ , وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ . قَالَ قَوْمٌ : إنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعٌ , وَلَهُ نِهَايَةٌ , وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَبِ { لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وَبِأَنَّ مَعْصِيَةَ الظُّلْمِ مُتَنَاهِيَةٌ , فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى ظُلْمٌ انْتَهَى .
(1/312)
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَرَّ وقوله تعالى : { أَحْقَابًا } لَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ نِهَايَةً لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ بِهِ وَبِنَحْوِهِ عَنْ الدَّوَامِ , وَلَا ظُلْمَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ حَيًّا فَعُوقِبَ دَائِمًا فَهُوَ لَمْ يُعَاقَبْ بِالدَّائِمِ إلَّا عَلَى دَائِمٍ , فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ إلَّا جَزَاءً وِفَاقًا . وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا ظَاهِرَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لقوله تعالى : { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } فَيُؤَوَّلُ بِنَظِيرِ مَا مَرَّ , وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا إذَا جَعَلْنَاهَا بِمَعْنًى مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ وَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوهَا إلَّا بَعْدُ , قَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أَيْ مَقْطُوعٍ , وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ . [ خَاتِمَةٌ ] أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْكَعْبَةِ { مَا أَطْيَبَك وَأَطْيَبَ رِيحَك , مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك , وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْك مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا } . وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَتَّقِي الْكَبَائِرَ فَإِنَّ لَهُ الْجَنَّةَ , قَالُوا : وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ } الْحَدِيثَ .
(1/313)
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ . وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - أَيْ أَسْفَلِهَا - وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا , وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ } . وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ مَاتَ وَاَللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ } . وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ , وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا } . وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُقْبَلُ إيمَانٌ بِلَا عَمَلٍ , وَلَا عَمَلٌ بِلَا إيمَانٍ } .
(1/314)
وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُك وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ , إنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أُمَّتِك كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ , وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ , فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ , وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ , وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ , مَنْ أَجَابَك دَخَلَ الْإِسْلَامَ , وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا } . وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْمُوَحِّدِينَ فِي جَهَنَّمَ بِقَدْرِ نُقْصَانِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يَرُدُّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ خُلُودًا دَائِمًا أَبَدًا بِإِيمَانِهِمْ } . وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : { طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّيَالِسِيِّ : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { أَفْلَحَ مَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ } . وَمُسْلِمٌ : { أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا , وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ : الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ )
(1/315)
قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } . وَفِي الْحَدِيثِ : { إنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ , كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ , فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ , وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا , وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ . عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك , يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابَةِ الْأَرْضِ - بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا - خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } .
(1/316)
وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي , فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ } . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ : مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا . فَيَقُولُ : لِمَ ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك , فَيَقُولُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي } . وَالشَّيْخَانِ : { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي } الْحَدِيثَ . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } . وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - } . وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ ; { قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ , وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } .
(1/317)
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَمَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنًا , فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رُدُّوهُ , أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } . وَالْبَغَوِيُّ : { إنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - , يَقُولُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي } . تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ , لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا ذُكِرَ , بَلْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ , بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ .
***************
وفي بريقة محمودية :
( وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ) كُفْرٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
( وَالْأَمْنُ مِنْ عَذَابِهِ وَسَخَطِهِ ) أَيْ غَضَبِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ .
(
(1/318)
الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ ) ( الْيَأْسُ ) أَيْ قَطْعُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ ( مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَذَكُّرُ فَوَاتِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ ) لِغَلَبَةِ ذَنْبِهِ وَمُبَالَغَةِ فُرُطَاتِهِ ( وَقَطْعِ الْقَلْبِ عَنْ ذَلِكَ ) بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ قَلْبِهِ رَجَاءُ الرَّحْمَةِ ( وَهُوَ كُفْرٌ ) يُرِيدُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ جَعْلِ قَسِيمِ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ إذْ الْكُفْرُ ذُكِرَ مُقَدَّمًا وَإِنْ اُعْتُبِرَ مَا يُقَالُ إنَّهُ إذَا قُوبِلَ الْخَاصُّ بِالْعَامِ يُرَادُ مِنْ الْعَامِ مَا عَدَا الْخَاصِّ فَبَعْدَهُ تَسْلِيمُ صِحَّتِهِ هُنَا بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْكَثِيرَةِ يُوجَدُ الْكُفْرُ أَيْضًا فِي ضِمْنِ أَكْثَرِ الْأَقْسَامِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ كَوْنِهِ تَضَمُّنًا وَمُطَابَقَةً لَكِنْ الْمُنَاسِبُ بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ فَافْهَمْ ( كَالْأَمْنِ وَضِدُّهُ الرَّجَاءُ وَهُوَ ابْتِهَاجٌ ) سُرُورٌ ( فِي الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِرْوَاحُهُ ) طَلَبُ رَاحَتِهِ ( إلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ ) أَيْ إلَى رَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } { وَأَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ عَلَى غَضَبِي } وَفِي الْخَبَرِ { إذَا قَالَ الْعَبْدُ يَا كَرِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا عَبْدِي مَاذَا رَأَيْت مِنْ كَرَمِي وَأَنْتَ فِي السِّجْنِ اصْبِرْ حَتَّى تَرَى كَرَمِي فِي الْجَنَّةِ } .
(1/319)
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إنَّ إبْلِيسَ لَيَرْفَعَ رَأْسَهُ لِمَا يَرَى مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ وَفِي الْمَشَارِق عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه { لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِي إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى } وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَوْهِينَ أَمْرِ الْعَمَلِ بَلْ نَفْيَ الِاغْتِرَارِ بِهِ ( وَسَبَبُهُ ذِكْرُ سَوَابِقِ فَضْلِهِ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِ أَمَلٍ وَلَا شَفِيعٍ ) لَعَلَّهَا نَحْوُ نِعْمَةِ الْوُجُودِ وَالْعَقْلِ وَسَائِرِ الْحَوَاسِّ وَالصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ النِّعَمِ الْخَارِجِيَّةِ بَلْ نَحْوُ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ ( وَمَا وَعَدَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ ) مِنْ الْجِنَانِ وَالرِّضْوَانِ وَرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ ( دُونَ اسْتِحْقَاقِنَا إيَّاهُ ) كَمَا هُوَ مُعْتَقَدُنَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ كَمَا سَبَقَ ( وَمَا وَعَدَ مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } .
(1/320)
وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي تَفْسِيرِ الْمَقَامِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم قَالَ { إنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى إلَى رَاهِبٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ قَالَ لَا فَقَتَلَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ رَجُلٌ ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نِصْفَ الطَّرِيقِ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ فَأَوْحَى إلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ } وَأَيْضًا فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بِطَرِيقٍ آخَرَ ( قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ ) بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الْإِسْرَافُ الْإِفْرَاطُ فِي الْجِنَايَةِ وَعَنْ الرَّاغِبِ هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي فِعْلٍ يُجَبُّ وَالذَّنْبُ عَامٌ فِيهِ وَفِي التَّقْصِيرِ ( { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } ) لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أَيْ مَغْفِرَةِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ ( { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ) .
(1/321)
عَنْ مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ الْكَبِيرِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَقِّ وَحْشِيٍّ حَيْثُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما { أَنَّ وَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ رضي الله تعالى عنه كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنِّي أُرِيدُ الْإِسْلَامَ لَكِنْ مَنَعَنِي قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } - فَنَزَلَ قوله تعالى { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } الْآيَةَ فَكَتَبَهَا إلَى وَحْشِيٍّ فَكَتَبَ وَحْشِيٌّ وَلَا أَدْرِي هَلْ أَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَنَزَلَ قوله تعالى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } - فَكَتَبَهَا إلَى وَحْشِيٍّ فَكَتَبَ وَحْشِيٌّ أَيْضًا إنَّ فِيهَا شَرْطًا لَا أَدْرِي هَلْ يَشَاءُ مَغْفِرَتِي أَوْ لَا فَنَزَلَ قوله تعالى { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ } الْآيَةَ } انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ إلَّا مِنْ سِعَةِ رَحْمَتِهِ وَأَنَّهَا أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ ( { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ) فَإِنَّهُ الَّذِي يَهَبُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً بِإِيمَانِ سَاعَةٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } كَسَحَرَةِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إلَى أَنْ حَلَفُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ فَبِقَوْلِهِمْ مَرَّةً آمَنَّا عَنْ اعْتِقَادٍ وَهَبَ لَهُمْ جَمِيعَ فُرُطَاتِهِ إلَى أَنْ جَعَلَهُمْ رُءُوسَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا حَالُ مَنْ وَجَدَهُ سَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ
(1/322)
فَكَيْفَ حَالُ مَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ فِي تَوْحِيدِهِ لَا يَرَى لَهُ أَهْلًا غَيْرَهُ تَعَالَى فِي الدَّارَيْنِ أَمَا تَرَى أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ طُولَ أَعْمَارِهِمْ فَبِقَوْلِهِمْ { رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَبِلَهُمْ وَأَعَزَّهُمْ إلَى أَنْ قَالَ { وَنُقَلِّبُهُمْ } وَأَعْظَمَ لَهُمْ الْحُرْمَةَ وَالْمَهَابَةَ حَتَّى قَالَ لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ { لَوْ اطَّلَعْت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْت مِنْهُمْ فِرَارًا } الْآيَةَ بَلْ كَيْفَ أَكْرَمَ كَلْبًا تَبِعَهُمْ حَتَّى ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى مِرَارًا وَأَدْخَلَهُ فِي جَنَّتِهِ فَهَذَا فَضْلُهُ لِكَلْبٍ خَطَا خُطُوَاتٍ مَعَ قَوْمٍ عَرَفُوهُ أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ عِبَادَةٍ فَكَيْفَ فَضْلُ الْمُؤْمِنِ خَدَمَهُ سَبْعِينَ سَنَةً وَلَوْ عَاشَ سَبْعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَقْصِدُ الْعُبُودِيَّةَ أَمَا سَمِعْت عِتَابَهُ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ فِي دُعَائِهِ عَلَى الْمُجْرِمِينَ بِالْهَلَاكِ وَعَاتَبَ مُوسَى فِي أَمْرِ قَارُونَ فَقَالَ اسْتَغَاثَ بِك قَارُونُ فَلَمْ تُغِثْهُ فَوَعِزَّتِي لَوْ اسْتَغَاثَ بِي لَعَفَوْت عَنْهُ ثُمَّ كَيْفَ عَاتَبَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُ { دَخَلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَرَأَى قَوْمًا يَضْحَكُونَ فَقَالَ لِمَ تَضْحَكُونَ لَا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ حَتَّى إذَا كَانَ عِنْدَ الْحَجَرِ رَجَعَ إلَيْهِمْ الْقَهْقَرَى فَقَالَ جَاءَنِي جَبْرَائِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَك لَا تُقَنِّطْ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ { لَلَّهُ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْوَالِدَةِ الشَّفِيقَةِ بِوَلَدِهَا } ( دُنْيَا .
(1/323)
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { لَيَغْفِرَنَّ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْفِرَةً } ) عَظِيمَةً أَوْ كَثِيرَةً ( { مَا خَطَرَتْ قَطُّ عَلَى قَلْبِ أَحَدٍ } ) لِغَايَةِ الْكَثْرَةِ وَنِهَايَةِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَصْحَابِ الْإِجْرَامِ وَالْقَبَائِحِ ( { حَتَّى إنَّ إبْلِيسَ } ) مَعَ غَايَتِهِ فِي الْجِنَايَةِ وَعِرْفَانِهِ بِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ مِنْ الرَّحْمَةِ أَبَدَ الْآبِدِينَ ( { لَيَتَطَاوَلُ } ) أَيْ يَمُدُّ عُنُقَهُ وَيُخْرِجُ رَأْسَهُ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ ( { رَجَاءَ أَنْ تُصِيبَهُ } ) قِيلَ السِّرُّ الْمَخْفِيُّ فِي قوله تعالى - { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } - { أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِحَبِيبِهِ وَهَبْتُك ثُلُثَ أُمَّتِك فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى تَرَى رَحْمَتِي بِعِبَادِي وَأَهَبُ لَك الثُّلُثَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَرَى أَهْلُ الْمَحْشَرَةِ مَنْزِلَتَك عِنْدِي } ( خ .
(1/324)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم { إنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ } ) أَيْ خَلَقَ ( { كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ } ) أَيْ أَثْبَت فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ قَالَ الْقَاضِي يَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ حَكَمَ حُكْمًا جَازِمًا وَوَعَدَ وَعْدًا لَازِمًا لَا خُلْفَ فِيهِ فَشَبَّهَ الْحُكْمَ الْجَازِمَ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ نَسْخٌ وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَغْيِيرٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إذَا اقْتَضَى أَمْرًا وَأَرَادَ إحْكَامَهُ عَقَدَ عَلَيْهِ سِجِلًّا وَحَفِظَهُ لِيَكُونَ حُجَّةً بَاقِيَةً مَحْفُوظَةً مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ ( { إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي } وَفِي رِوَايَةٍ { تَغْلِبُ غَضَبِي } ) أَيْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ آثَارِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قِسْطَ الْخَلْقِ مِنْ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِمْ مِنْ الْغَضَبِ لِنَيْلِهِمْ إيَّاهَا بِلَا اسْتِحْقَاقٍ وَإِنَّ قَلَمَ التَّكْلِيفِ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ إلَى الْبُلُوغِ وَلَا يُعَجِّلُ لَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ إذَا عَصَوْا بَلْ يَرْزُقُهُمْ وَيَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَمَا تَعَلَّقَ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَضَبِ وَيُرْوَى أَنَّهُ { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَ اللَّهُ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فِيهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَتْ النَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيُخْرِجُ مِثْلِيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ } . وَيُرْوَى { فَيَقْبِضُ قَبْضَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ } ( خ م .
(1/325)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ قَالَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم يَقُولُ جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا } ) قِيلَ التَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ تَعْظِيمًا لِرَحْمَتِهِ تَعَالَى ( فَمِنْ ) أَجْلِ ( { ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ } ) أَوْ تَرَاحُمُ جَمِيعِ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَنْشَأُ مِنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَمَحَبَّةُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ لِأَوْلَادِهِمَا مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ( { حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ } ) كَالْفَرَسِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ ( { حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ } ) بِحَافِرِهَا فَيَتَوَجَّعَ . قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ إذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ إلَّا كَدَارِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِهِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْجَزَاءِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ وَلَا يَخْفِي أَنَّ فِيهِ إشَارَةً إلَى مَا فِي شَرْحِ الْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَعْمَالِ لِأَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ .
(1/326)
وَأَمَّا الرَّجَاءُ بِلَا عَمَلٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعَاصِي فَلَيْسَ بِرَجَاءٍ بَلْ أَمْنِيَّةٌ وَاغْتِرَارٌ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } كَمَا قَالَ الْكَرْخِيُّ رَجَاءُ الْجَنَّةِ بِلَا عَمَلٍ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ وَرَجَاءُ الشَّفَاعَةِ بِلَا سَبَبٍ نَوْعٌ مِنْ الْغُرُورِ وَرَجَاءُ رَحْمَةِ مَنْ لَا يُطَاعُ جَهْلٌ وَحُمْقٌ قَالُوا الرَّجَاءُ مَعَ الْإِصْرَارِ كَطَلَبِ النَّارِ مِنْ الْجَمْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ } وَقَالَ الْحَسَنُ إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا بِلَا حَسَنَةٍ بِاعْتِقَادِ حُسْنِ الظَّنِّ وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ فَلَوْ صَادِقًا لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَتَلَا قوله تعالى { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } كَتَبَ أَبُو عُمَرَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك قَدْ أَصْبَحْت تَأْمُلُ بِطُولِ عُمْرِك وَتَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَمَانِيَ بِسُوءِ فِعْلِك وَإِنَّمَا تَضْرِبُ حَدِيدًا بَارِدًا . (
(1/327)
وَ ) زَادَ ( فِي رِوَايَةٍ م { وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ) وَالْمُرَادُ بِمِثْلِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ لِيُفْهَمَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِسْطَيْنِ مِنْ الرَّحْمَةِ لِأَهْلِ الدَّارَيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ السَّالِكَ الْعَارِفَ لَا يَغْتَرُّ بِظَاهِرِ مِثْلِ هَذِهِ النُّصُوصِ بَلْ لَا يَتْرُكُ الْعَمَلَ كَمَا فِي قوله تعالى - { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا } - ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْآخَرِ لِأَنَّ الرَّجَاءَ بِلَا خَوْفٍ أَمْنٌ وَالْخَوْفَ بِلَا رَجَاءٍ قُنُوطٌ قَالُوا هُمَا كَزَوِّجِي الْمِقْرَاضِ وَجَنَاحَيِّ الطَّيْرِ إذَا اعْتَدَلَا طَارَ وَإِذَا زَادَ أَحَدُهُمَا يَطِيرُ تَامًّا وَإِذَا ذَهَبَا بِالْكُلِّيَّةِ صَارَ كَالْمَيِّتِ وَقَالَ صلى الله تعالى عليه وسلم { إنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَرْجُوهَا وَإِنَّمَا يَنْجُو مِنْ النَّارِ مَنْ يَخَافُهَا } ( م .
(1/328)
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله تعالى عنه حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَوْتَهُ لَيْسَ بِالشَّهَادَةِ كَمَا قِيلَ إنَّهُ اُسْتُشْهِدَ فِي نَاحِيَةِ إسْلَامْبُولَ فِي مَعْرَكَةٍ حِينَ جَاءَ مَعَ يَزِيدَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ رضي الله تعالى عنه فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ مَبْطُونًا فِي ذَلِكَ الْعَسْكَرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ ( أَنَّهُ قَالَ كُنْت كَتَمْت عَنْكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ ) أَيْ أُخْبِركُمُوهُ وَأَصْلُ سَوْفَ لِاسْتِقْبَالِ الْبَعِيدِ وَالْوَقْتُ هُنَا ضَيِّقٌ فَلِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ كَمَا قِيلَ لَعَلَّ وَجْهَ الْكَتْمِ وَهْمُ اغْتِرَارِ الْعَوَّام بِظَاهِرِهِ فَيَضْعُفُوا فِي الْعَمَلِ وَوَجْهَ الْإِخْبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْوَهْمَ قَدْ زَالَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَوْ مَنْ أَخْبَرَهُمْ هُمْ الْخَوَاصُّ أَوْ قَدْ خَرَجَ مِنْ خَاطِرِهِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ عِنْدَ دَوَاعِي هَوْلِ الْمَوْتِ بِمُلَاحَظَةِ دَوَاعِي الرَّحْمَةِ ( وَقَدْ أُحْبِطَ بِنَفْسِي ) بِمَجِيءِ الْمَوْتِ ( سَمِعْته يَقُولُ { لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ } ) أَيْ أَذَهَبَكُمْ ( { وَخَلَقَ خَلْقًا يُذْنِبُونَ } ) لِيَتَحَقَّقَ مَظْهَرُ صِفَةِ الْغُفْرَانِ ( { فَيَغْفِرُ لَهُمْ } ) قَالَ فِي الْمَبَارِقِ لَيْسَ هَذَا تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ صُدُورُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ وَإِزَالَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْخَوْفَ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّ بَعْضُهُمْ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ لِلْعِبَادَةِ وَبَعْضُهُمْ اعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَبَعْضُهُمْ النَّوْمَ وَفِي
(1/329)
الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى رَجَاءِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَتَحْقِيقُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْعَاصِي فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ عَاصٍ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْصِيهِ فَيَغْفِرُ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { قَالَ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَوْ عَلِمَ عَبْدِي أَنِّي لَذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْت لَهُ وَلَا أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا } انْتَهَى قَوْلُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَإِلَّا فَلَا كَذِبَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام .
(1/330)
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُذْنِبِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَبَرِهِ يَجْعَلُ تَخَلُّفَهُ مُحَالًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ مُحَالًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ فَافْهَمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالْغَضَبِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا أَنَّ انْتِظَارَ الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا يُسَمَّى رَجَاءً إذَا تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ بَثِّ بَذْرِ الْإِيمَانِ وَسَقْيِهِ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ شَوْكِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَانْتَظِرْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا ذُكِرَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُحْسِنَ إلَى الْمُحْسِنِ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ الْمُسِيءِ .
(
(1/331)
التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ ) ( الدَّلَالَةُ ) بِاللِّسَانِ ( عَلَى الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ لِمَنْ يُرِيدُ الْمَعْصِيَةَ ) ( فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ ) لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ وَأَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ ( لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ) قِيلَ هُنَا خَبَرُ الدَّيْلَمِيِّ { الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فِي النَّارِ } ( وَفِي الْخُلَاصَةِ ) ( ذِمِّيٌّ سَأَلَ مُسْلِمًا عَنْ طَرِيقِ الْبَيْعَةِ ) ( لَا يَنْبَغِي لَهُ ) أَيْ لَا يَجُوزُ ( أَنْ يَدُلَّهُ عَلَيْهَا انْتَهَى ) لَكِنْ قَالُوا لَا ضَمَانَ بِالدَّلَالَةِ وَإِنْ قَالُوا بِهِ بِالْغَمْزِ وَالسِّعَايَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ طَاعَةَ الْكَافِرِ مَعْصِيَةٌ وَبِهِ يَضْمَحِلُّ مَا يُقَالُ إنَّ حَسَنَاتِ الْكُفَّارِ تُؤَثِّرُ فِي تَخْفِيفِ عَذَابِهِمْ فَافْهَمْ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا لِيَدْحَضَ } أَيْ يُبْطِلَ { بِبَاطِلِهِ } بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْبَاطِلِ { حَقًّا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةُ رَسُولِهِ } عَهْدُهُ وَأَمَانُهُ وَفِيهِ أَيْضًا { مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ } أَيْ يُقْلِعَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ كَوْنَهُ كَبِيرَةً وَلِذَلِكَ عَدَّهُ الذَّهَبِيُّ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفِيهِ أَيْضًا { مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ } كَمَا فِي قوله تعالى { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } - وَفِيهِ أَيْضًا { مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ
(1/332)
اللَّهِ } , وَ { لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
*******************
وفي حاشية العدوي :
( وَالتَّوْبَةُ ) لُغَةً الرُّجُوعُ مِنْ أَفْعَالٍ مَذْمُومَةٍ شَرْعًا إلَى أَفْعَالٍ مَحْمُودَةٍ شَرْعًا ( فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ) .
ظَاهِرُهُ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَغَفَرَ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ , وَلَهَا شُرُوطُ كَمَالٍ تَأْتِي وَشُرُوطُ صِحَّةٍ وَهِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ فِي الْحَالِ وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ . وَقَوْلُهُ : ( مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ ) زَائِدٍ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَفْعِ الْإِصْرَارِ ( وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ ( عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادِ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَمِنْ التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ ) أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَوَاجِبَانِ فِي التَّوْبَةِ وَلَيْسَا بِشَرْطَيْنِ فِي صِحَّتِهَا . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَحَدُ شُرُوطِ الصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَشُرُوطُ الْكَمَالِ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ : ( وَلْيَسْتَغْفِرْ رَبَّهُ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ وَيَتَذَكَّرُ نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ ) أَيْ عَلَيْهِ ( وَيَشْكُرُ فَضْلَهُ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ وَتَرْكِ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ أَوْ قَوْلُهُ ) أَمَّا الِاسْتِغْفَارُ فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : " { مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَنَدِمَ عَلَيْهِ غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ } .
(1/333)
الْحَلِيمِيُّ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَعَ النَّدَمِ لِتَتِمَّ التَّوْبَةُ , وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَهُوَ الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَصِحُّ إلَّا مَعَ حُسْنِ الطَّاعَةِ . وَأَمَّا الْخَوْفُ فَهُوَ تَأَلُّمُ الْقَلْبِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَهُوَ التَّفْكِيرُ فِي نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ حَيْثُ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ . وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِذِكْرِ إحْسَانِهِ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ خُضُوعًا وَبِاللِّسَانِ ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا , وَبِالْجَوَارِحِ طَاعَةً وَانْقِيَادًا ( وَيَتَقَرَّبُ ) التَّائِبُ ( إلَيْهِ ) أَيْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ( بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ) فِعْلُهُ وَإِنْ قَلَّ ( مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ ) كَالصَّلَاةِ لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ : " { وَمَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } " الْحَدِيثُ . (
(1/334)
وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ ) التَّائِبُ ( مِنْ فَرَائِضِهِ ) الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا ( فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ ) وُجُوبًا عَلَى الْفَوْرِ مَا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ , فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ قَضَى مَا اسْتَطَاعَ مَعَ شُغْلِهِ , وَإِنْ لَمْ يَحْصُرْ مَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ مَثَلًا تَحَرَّى وَاحْتَاطَ لِدِينِهِ بِلَا وَسْوَسَةٍ ( وَ ) إذَا فَعَلَ التَّائِبُ مَا ضَيَّعَهُ مِنْ الْفَرَائِضِ ( فَلْيَرْغَبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَقَبُّلِهِ ) مِنْهُ وَيَخَافُ ( وَيَتُوبُ إلَيْهِ ) مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ ( مِنْ تَضْيِيعِهِ ) لِلْفَرَائِضِ ( وَلْيَلْجَأْ ) أَيْ يَتَضَرَّعُ ( إلَى اللَّهِ ) تَعَالَى ( فِيمَا عَسُرَ عَلَيْهِ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ ) إلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُيَسِّرُ وَالْمُسَهِّلُ بِيَدِهِ التَّوْفِيقُ وَالتَّسْهِيلُ , وَلْيَكُنْ مِنْ دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ مَلِّكْنَا أَنْفُسَنَا وَلَا تُسَلِّطُهَا عَلَيْنَا ( وَ ) يَتَضَرَّعُ إلَيْهِ فِيهِ ( مُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ ) أَيْ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ فِي حَالِهِ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ رُشْدُهُ وَلَا غَيُّهُ .
(1/335)
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِ ( مُوقِنًا ) أَيْ مُصَدِّقًا ( أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ ) أَيْ حَالِهِ ( وَ ) الْمَالِكُ ( لِتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ ) هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ ( لَا يُفَارِقُ ذَلِكَ ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ اللَّجَأِ وَالْيَقِينِ ( عَلَى مَا فِيهِ ) أَيْ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ هُوَ فِيهَا ( مِنْ حَسَنٍ ) وَهُوَ الطَّاعَةُ ( أَوْ قَبِيحٍ ) وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ , وَلَا يَمْنَعُهُ الذَّنْبُ مِنْ ذَلِكَ لقوله تعالى : " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } " وَالتَّوَّابُ هُوَ الَّذِي كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ ( وَلَا يَيْأَسُ ) أَيْ لَا يَقْنَطُ الْعَبْدُ ( مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ السُّوءِ لقوله تعالى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ( وَالْفِكْرَةُ ) أَيْ التَّفَكُّرُ ( فِي أَمْرِ اللَّهِ ) تَعَالَى أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ ( مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ وَاسْتَعِنْ ) عَلَى نَفْسِك ( بِذِكْرِ الْمَوْتِ ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " { أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ قَصُرَ أَمَلُهُ وَكَثُرَ عَمَلُهُ وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ كَثُرَ أَمَلُهُ وَقَلَّ عَمَلُهُ } " . (
(1/336)
وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا ( بِالْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ كَحَزْقَةِ الْقَبْرِ ( وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالْفِكْرَةِ ( فِي نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك ) ; لِأَنَّك إذَا تَفَكَّرْت فِي نِعَمِهِ عَلَيْك اسْتَحْيَيْت أَنْ تُبَارِزَهُ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ يُنْعِمُ عَلَيْك ( وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالْفِكْرَةِ ( فِي إمْهَالِهِ لَك ) وَأَنْتَ تَعْصِيهِ ( وَ ) فِي ( أَخْذِهِ لِغَيْرِك ) مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ( بِذَنْبِهِ ) فِي الْحَالِ ( وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ ( فِي ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ( سَالِفِ ذَنْبِك ) وَخَفْ الْأَخْذَ بِهِ ( وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ فِي ( عَاقِبَةِ أَمْرِك ) إذْ لَا تَدْرِي بِمَاذَا يَخْتِمُ اللَّهُ لَك ( وَ ) اسْتَعِنْ عَلَيْهَا أَيْضًا بِالتَّفَكُّرِ فِي ( مُبَادَرَةِ ) أَيْ مُسَارَعَةِ ( مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك ) هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَوْ أَقَلُّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَهِّلُ الطَّاعَةَ وَيُقِلُّ الْأَمَلَ وَالْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا , وَلِأَنَّهُ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ أَتَاهُ وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَإِلَّا أَتَاهُ بَغْتَةً فَيَنْدَمُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ , فَيَا لَطِيفُ اُلْطُفْ بِنَا فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا إلَّا بِك وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
[
(1/337)
قَوْلُهُ : لُغَةً الرُّجُوعُ مِنْ أَفْعَالٍ . . . إلَخْ ] فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ هَذَا مَعْنَاهَا الشَّرْعِيَّ , وَأَمَّا مَعْنَاهَا لُغَةً فَهُوَ مُطْلَقُ الرُّجُوعِ أَفَادَهُ تت . وَالتَّحْقِيقُ وَقَوْلُهُ : أَفْعَالٍ مَذْمُومَةٍ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ وَبِدْعَةٍ فَحِينَئِذٍ نَقُولُ : وَالتَّوْبَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَوْبَةٌ مِنْ الْكُفْرِ إلَى الْإِيمَانِ , وَتَوْبَةٌ مِنْ الْمَعَاصِي إلَى الطَّاعَةِ , وَتَوْبَةٌ مِنْ الْبِدْعَةِ إلَى السُّنَّةِ . وَلَا يَخْفَى أَنَّهَا أَقْسَامٌ التَّوْبَةُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي عَرَّفَهَا الشَّارِحُ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالشُّبُهَاتِ وَهِيَ تَوْبَةُ الزُّهَّادِ , وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ مِنْ الْغَفْلَةِ إلَى الْيَقِظَةِ وَهِيَ تَوْبَةُ الْمُحِبِّينَ [ قَوْلُهُ : إلَى أَفْعَالٍ مَحْمُودَةٍ ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يَزْنِي مَثَلًا , ثُمَّ أَنَّهُ تَرَكَ الزِّنَا عَازِمًا عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ نَادِمًا عَلَى مَا فَعَلَهُ فَهَذِهِ تَوْبَةُ رُجُوعٍ مِنْ فِعْلٍ مَذْمُومٍ شَرْعًا إلَى فِعْلٍ مَمْدُوحٍ شَرْعًا الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ , وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَقَوْلُ أَفْعَالٍ أَرَادَ الْجِنْسَ , أَوْ بِالنَّظَرِ لِتَعَدُّدِ الْأَفْرَادِ وَظَهَرَ أَنَّ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِ أَفْعَالٌ قَلْبِيَّةٌ ; لِأَنَّهُ اللَّازِمُ .
(1/338)
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْجَوَارِحِيَّةُ فَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي كُلِّ تَوْبَةٍ [ قَوْلُهُ : ظَاهِرُهُ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا ] هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالَهُ شَارِحُ مَنَاسِكِ خَلِيلٍ مِنْ أَنَّ الْمَعْرُوفَ وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ . وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ , وَحَكَى الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ , وَكَلَامُ ابْنِ شَاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ ضَعِيفٌ . وَخُلَاصَةُ الْحَالِ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْخِلَافِ , وَالصَّغِيرَةَ تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ قَالَهُ عج إلَّا أَنَّ الذَّنْبَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَفْصِيلًا , وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ إجْمَالًا , وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ يُغَرْغِرَ , وَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي مَقْبُولَةٌ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا وَتُقْبَلُ , وَلَوْ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ , وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا بِخِلَافِ الْكَافِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِصِبَاهُ , أَوْ جُنُونِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إسْلَامُهُ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ عج . [ قَوْلُهُ : وَهِيَ النَّدَمُ . . .
(1/339)
إلَخْ ] لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْأَوَّلَ يَتَضَمَّنُ الشَّرْطَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ , وَإِذَا تَأَمَّلْت تَجِدُهَا أَرْكَانًا لَهَا لَا تَتَحَقَّقُ مَاهِيَّتُهَا , إلَّا بِهَا فَجَعْلُهَا شُرُوطًا تَسَامُحٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّرْطَ خَارِجٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ [ قَوْلُهُ : وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الذَّنْبِ ] أَيْ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالذَّنْبِ يُقْلِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ حَالًا , وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ إنَّمَا يَكُونُ فِي شَخْصٍ تَابَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي حَالِ تَعَاطِيهِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْفِعْلِ . [ قَوْلُهُ : فِي الْحَالِ ] أَيْ فِي الزَّمَنِ الْحَالِ . [ قَوْلُهُ : لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَفْعِ الْإِصْرَارِ ] أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا الْإِقْلَاعَ عَنْ الذَّنْبِ فِي الْحَالِ وَالنِّيَّةَ أَنْ لَا يَعُودَ اللَّذَيْنِ مِنْ أَرْكَانِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَاهِيَّتُه إلَّا بِهِمَا , أَيْ وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ تَتَحَقَّقُ بِدُونِهِمَا وَذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالتَّوْبَةَ فَرِيضَةٌ فِي حَالِ كَوْنِهَا خَالِيَةً عَنْ إصْرَارٍ فَيُفِيدُ أَنَّ لَهَا وُجُودًا وَتَحَقُّقًا بِدُونِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . [ قَوْلُهُ : بِضَمِّ الْمِيمِ ] وَأَمَّا بِفَتْحِ الْمِيمِ فَهُوَ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ . وَقَوْلُهُ : وَاعْتِقَادُ . . .
(1/340)
إلَخْ قَالَ تت : يَحْتَمِلُ أَنَّ الْوَاوَ عَلَى بَابِهَا فَهُمَا شَيْئَانِ , وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا بِمَعْنَى , أَوْ فَيَكُونُ الْإِصْرَارُ حَاصِلًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِ زَائِدٍ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَوْرًا وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّوْبَةَ فَرِيضَةٌ فِي حَالِ كَوْنِهَا غَيْرَ مُجَامِعَةٍ لِإِصْرَارٍ احْتِرَازًا مِنْ تَوْبَةٍ مُجَامِعَةٍ لِإِصْرَارٍ أَيْ مِنْ حَيْثُ نِيَّتِهَا التَّوْبَةُ يُقْصَدُ حُصُولُهَا فِي الْغَدِ بِأَرْكَانِهَا الثَّلَاثَةِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الذَّنْبِ قَبْلَ الْغَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى التَّرَاخِي . [ قَوْلُهُ : رَدُّ الْمَظَالِمِ ] إلَى أَهْلِهَا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ إنْ كَانَتْ أَمْوَالًا , وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ , أَوْ يَرُدَّهَا لِوَارِثِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ وَلَا وَجَدَ وَارِثَهُ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَظْلُومِ , وَإِذَا كَانَتْ أَعْرَاضًا كَقَذْفٍ , أَوْ غِيبَةٍ اسْتَحَلَّ الْمَقْذُوفَ , أَوْ الْمُغْتَابَ إنْ وَجَدَهُ , فَإِنْ وَجَدَهُ مَاتَ فَيُكْثِرَ مِنْ الْحَسَنَاتِ لِيُعْطِيَ مِنْهَا الْمَظْلُومَ , وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ قَوْلِهِ : اللَّهُمَّ مَنْ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ فَاغْفِرْ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ ذَكَرَهُ فِي التَّحْقِيقِ . [ قَوْلُهُ : أَمَّا الْأَوَّلَانِ ] شُرُوعٌ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا شَرَطَ صِحَّةً إلَّا الْأَخِيرُ هَذَا مُرَادُهُ . [ قَوْلُهُ : فَوَاجِبَانِ فِي التَّوْبَةِ ] أَيْ وَاجِبَانِ فِي حَالِ التَّوْبَةِ أَيْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِ التَّوْبَةِ أَنْ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ . . .
(1/341)
إلَخْ [ قَوْلُهُ : وَلَيْسَا بِشَرْطَيْنِ فِي صِحَّتِهَا ] مُسَلَّمٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوَّلِ وَلَا يُسَلَّمُ بِالنِّسْبَةِ لِقَوْلِهِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِهَا الْإِقْلَاعَ فِي الْحَالِ , وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الشَّارِحَ فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَحَارِمِ أَيْ مَا عَدَا الْمَتُوبَ عَنْهُ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ , وَلَكِنْ لَا دَاعِيَ لِذَلِكَ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ . [ قَوْلُهُ : وَلْيَسْتَغْفِرْ ] أَيْ نَدْبًا أَيْ يَطْلُبُ مِنْ مَوْلَاهُ أَنْ يَسْتُرَ مَا سَلَفَ مِنْهُ , وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ مَا يَحِلُّ عَقْدُ الْإِصْرَارِ وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجِنَانِ بِأَنْ يُوَافِقَ مَا فِي قَلْبِهِ لِسَانَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّشَدُّقِ بِاللِّسَانِ , فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْوِجٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَصَغِيرَةٌ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ [ قَوْلُهُ : وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ ] أَيْ نَدْبًا بِأَنْ يَطْمَعَ فِي حُصُولِهَا مَعَ أَخْذِهِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . [ قَوْلُهُ : وَيَخَافُ عَذَابَهُ ] أَيْ وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخَافَ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا . [ قَوْلُهُ : وَيَتَذَكَّرُ نِعْمَتَهُ ] أَيْ وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى الطَّاعَةِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ , أَيْ وَلْيَتَذَكَّرْ إنْعَامَهُ عَلَيْهِ . [ قَوْلُهُ : فَضْلَهُ عَلَيْهِ ] أَيْ إحْسَانَهُ عَلَيْهِ . [
(1/342)
قَوْلُهُ : وَتَرْكُ مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ ] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ أَيْ فَالشُّكْرُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ . وَقَوْلُهُ : مَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ , أَوْ قَوْلُهُ أَيْ عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ التَّنْزِيهِ فَمَكْرُوهُ الْفِعْلِ الصَّلَوَاتُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ , وَمَكْرُوهُ الْقَوْلِ كَالتَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَعْنِي وَالْمُحَرَّمُ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ ظَاهِرَانِ . [ قَوْلُهُ : أَمَّا الِاسْتِغْفَارُ ] أَيْ أَمَّا كَوْنُ الِاسْتِغْفَارِ شَرْطَ كَمَالٍ . . . إلَخْ أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ غَايَةَ مَا يُفِيدُهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةٍ . وَأَمَّا كَوْنُهُ يُطْلَبُ عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ نَعَمْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ مَطْلُوبٌ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ . [ قَوْلُهُ : وَأَمَّا الرَّجَاءُ . . . إلَخْ ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سُنَنِ مَا قَبْلَهُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ ذَكَرَهُ مِنْ حَيْثُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَمِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ . [ قَوْلُهُ : فَهُوَ الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ ] لَا يَخْفَى أَنَّ الرَّجَاءَ إذَا كَانَ هَذَا تَعْرِيفَهُ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ : وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ تَجْرِيدٌ . [ قَوْلُهُ : فِي رَحْمَةِ اللَّهِ ] أَيْ فِي إنْعَامِ اللَّهِ [ قَوْلُهُ : وَلَا يَصِحُّ ] أَيْ هَذَا الطَّمَعُ أَيْ لَا يَحْسُنُ . [
(1/343)
قَوْلُهُ : إلَّا مَعَ حُسْنِ الطَّاعَةِ ] أَيْ وَالطَّاعَةُ الْحَسَنَةُ وَالْوَصْفُ كَاشِفٌ أَيْ وَأَمَّا الطَّمَعُ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِ طَاعَةٍ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ بَلْ مَذْمُومٌ , وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُفَادَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الرَّجَاءَ هُوَ الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ مُطْلَقًا كَانَ مَعَ طَاعَةٍ أَمْ لَا وَلَكِنَّ هَذَا الطَّمَعَ , أَوْ الرَّجَاءَ لَا يَحْسُنُ إلَّا مَعَ الطَّاعَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ الرَّجَاءُ هُوَ الطَّمَعُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ بِقَيْدِ أَنْ يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَسْبَابِ أَيْ بِقَيْدِ الطَّاعَةِ قَالَ تت : وَلَا يَكُونُ الرَّجَاءُ إلَّا مَعَ الْعَمَلِ وَإِلَّا فَهُوَ تَمَنٍّ . [ قَوْلُهُ : وَأَمَّا الْخَوْفُ . . . إلَخْ ] فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّجْرِيدِ [ قَوْلُهُ : بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ ] أَيْ وَمِنْ مَا صَدَقَاتِ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ عَذَابُ الرَّبِّ . [ قَوْلُهُ : فَهُوَ التَّفَكُّرُ . . . إلَخْ ] فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّجْرِيدِ [ قَوْلُهُ : حَيْثُ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ ] أَيْ ; لِيَكُونَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى الشُّكْرِ , وَالْوَاضِحُ أَنْ يَقُولَ : التَّفَكُّرُ فِي نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَهِيَ التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ نِعْمَتَهُ غَيْرُ التَّوْفِيقِ لِلتَّوْبَةِ , أَوْ عَيْنُ التَّوْبَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ , أَوْ الْمُنْعَمُ بِهِ . [ قَوْلُهُ : وَأَمَّا الشُّكْرُ ] فِيهِ مَا تَقَدَّمَ . [
(1/344)
قَوْلُهُ : بِذِكْرِ إحْسَانِهِ ] مُتَعَلِّقٌ بِالثَّنَاءِ أَيْ الثَّنَاءِ بِذِكْرِ إحْسَانِهِ , وَالْأَوْلَى حَذْفُ ذِكْرِ وَتُجْعَلُ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ بَيَانًا لِمُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ حَتَّى يَكُونَ قَاصِرًا عَلَى الْفِعْلِ اللِّسَانِيِّ مَعَ أَنَّ مَوْرِدَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ عَامٌّ فِي فِعْلِ اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ , وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ خَاصٌّ وَهُوَ الْإِنْعَامُ وَمَوْرِدُهُ عَامٌّ . وَأَمَّا الشُّكْرُ الِاصْطِلَاحِيُّ فَهُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ . . . إلَخْ . وَقَوْلُهُ : وَيَكُونُ . . . إلَخْ رَاجِعًا لِلثَّنَاءِ أَيْ أَنَّ الثَّنَاءَ فِي حَالِ كَوْنِهِ بِالْقَلْبِ يُسَمَّى خُضُوعًا كَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَرِيمٌ مَثَلًا اعْتِقَادًا جَازِمًا , أَوْ رَاجِحًا , وَلَوْ غَيْرَ ثَابِتٍ , وَفِي حَالِ كَوْنِهِ قَائِمًا بِاللِّسَانِ يُقَالُ لَهُ : ثَنَاءٌ وَاعْتِرَافٌ , وَفِي حَالِ كَوْنِهِ قَائِمًا بِالْجَوَارِحِ طَاعَةٌ , ثُمَّ إنَّ فِي عِبَارَتِهِ تَنَافِيًا وَذَلِكَ ; لِأَنَّ أَوَّلَهَا يَقْضِي أَنَّ الثَّنَاءَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ اعْتِقَادًا بِالْجِنَانِ , أَوْ قَوْلًا بِاللِّسَانِ أَوْ فِعْلًا بِالْجَوَارِحِ , وَلَيْسَ قَاصِرًا عَلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ خِلَافًا لِمَنْ قَصَرَهُ عَلَيْهِ .
(1/345)
وَقَوْلُهُ : بَعْدُ وَبِاللِّسَانِ ثَنَاءً يَقْتَضِي قَصْرَهُ عَلَى اللِّسَانِ وَالْأَوَّلُ هُوَ التَّحْقِيقُ , وَمُفَادُهُ أَنَّ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ لَا يُسَمَّى طَاعَةً كَمَا أَنَّ مَا قَامَ بِالْجَوَارِحِ لَا يُسَمَّى خُضُوعًا وَمَا قَامَ بِاللِّسَانِ لَا يُسَمَّى خُضُوعًا وَلَا طَاعَةً وَلَا مَانِعَ مِنْ تَسْمِيَةِ مَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ طَاعَةً بَلْ مِنْ أَفْرَادِ الطَّاعَةِ قَطْعًا , وَيُسْتَفَادُ مِنْ الصِّحَاحِ إطْلَاقُ الْخُضُوعِ عَلَى مَا بِالْجَوَارِحِ , وَعَطْفُ الِاعْتِرَافِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ , وَعَطْفُ الِانْقِيَادِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ . [ قَوْلُهُ : بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ] أَيْ بِشَيْءٍ تَيَسَّرَ لَهُ . وَقَوْلُهُ : فِعْلُهُ الْإِضَافَةُ فِيهِ لِلْبَيَانِ أَيْ فِعْلٌ هُوَ مَا بِمَعْنَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُكَلَّفُ بِهِ وَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِالتَّيَسُّرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ , فَإِذَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ مَا عَلَى الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ وَالْفِعْلِ الْمُضَافُ لِضَمِيرِهَا عَلَى الْمَصْدَرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ أَمْرٌ غَيْرُ الْمُتَيَسِّرِ مَعَ أَنَّ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ هُوَ نَفْسُ الْمُتَيَسِّرِ فَتَدَبَّرْ . [ قَوْلُهُ : مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ ] إضَافَةُ النَّوَافِلِ إلَى الْخَيْرِ مِنْ إضَافَةِ الْجُزْئِيِّ إلَى كُلِّيِّهِ ; لِأَنَّ الْخَيْرَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوَافِلَ وَفَرَائِضَ . [ قَوْلُهُ : كَالصَّلَاةِ ] أُدْخِلَ تَحْتَ الْكَافِ الصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ كَمَا يُفِيدُهُ التَّحْقِيقُ [ قَوْلُهُ : عَنْ اللَّهِ ] أَيْ نَاقِلًا عَنْ اللَّهِ [ قَوْلُهُ : الْحَدِيثَ . . .
(1/346)
إلَخْ ] تَمَامُ الْحَدِيثِ : " { فَإِنْ أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا , وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ , وَإِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } " [ قَوْلُهُ : وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ التَّائِبُ ] أَيْ قَبْلَ تَوْبَتِهِ [ قَوْلُهُ : الَّتِي أَوْجَبَهَا ] أَيْ فَضَمِيرُ فَرَائِضِهِ عَلَى التَّائِبِ . وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَإِضَافَتُهَا لَهُ مِنْ أَجْلِ كَوْنِ اللَّهِ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ . [ قَوْلُهُ : عَلَى الْفَوْرِ ] مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ الْآنَ أَيْ فَيَفْعَلُهُ , وَلَوْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَيْثُ تَحَقَّقَ تَرْكَهَا وَإِلَّا تَوَقَّى أَوْقَاتَ النَّهْيِ . [ قَوْلُهُ : مَعَ شُغْلِهِ ] أَيْ فَلَا يُوَسَّعُ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ إلَّا زَمَنَ اشْتِغَالِهِ فِي نَوْمِهِ , أَوْ ضَرُورِيَّاتِهِ , أَوْ حُضُورِ عِلْمٍ مُتَعَيِّنٍ , وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّوَافِلُ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَرْضِ سِوَى الْمُؤَكَّدِ كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْفَجْرِ . [ قَوْلُهُ : مَثَلًا ] أُدْخِلَ تَحْتَ مَثَلًا الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ . [ قَوْلُهُ : وَيَتُوبُ إلَيْهِ . . .
(1/347)
إلَخْ ] أَيْ لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَرَائِضِ عَنْ أَوْقَاتِهَا مِنْ الْكَبَائِرِ [ قَوْلُهُ : لِلْفَرَائِضِ ] أَيْ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ , وَيُحْتَمَلُ إضَافَتُهُ لِلْمَفْعُولِ فَإِنْ قُلْت : إنَّ هَذَا لَا حَاجَةَ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ فِي التَّائِبِ قُلْت : يُحْمَلُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى إنْسَانٍ ارْتَكَبَ مَعَاصِيَ فَتَسَبَّبَ عَنْهَا تَرْكُ الْفَرَائِضِ فَتَابَ مِنْ تِلْكَ الْمَعَاصِي , فَنَبَّهَ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا عَلَى أَنَّ هَذَا التَّائِبَ مِنْ الْمَعَاصِي الْمَذْكُورَةِ يَفْعَلُ مَا ضَيَّعَ مِنْ الْفَرَائِضِ وَيَتُوبُ مِنْ ذَلِكَ التَّضْيِيعِ . [ قَوْلُهُ : مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ ] الْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ . قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ : قَادَ الرَّجُلُ الْفَرَسَ قَوْدًا مِنْ بَابِ قَالَ وَقِيَادًا وَقِيَادَةً انْتَهَى . أَيْ كُلُّ مَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ يَقُودُ نَفْسَهُ لِلطَّاعَةِ أَيْ يُمِيلُهَا إلَيْهَا فَيَلْجَأُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُذَلِّلَهَا وَيَجْعَلَ الطَّاعَةَ سَهْلَةً عَلَيْهَا فَشَبَّهَ الْمُصَنِّفُ النَّفْسَ مِنْ حَيْثُ الْإِبَايَةِ بِفَرَسٍ أَبِيَّةٍ عَنْ مَقْصُودِ رَاكِبِهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ [ قَوْلُهُ : وَالْمُسَهِّلُ ] مُرَادِفٌ [ قَوْلُهُ : بِيَدِهِ التَّوْفِيقُ وَالتَّسْهِيلُ ] كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ التَّيْسِيرُ وَالتَّسْهِيلُ لِمُوَافَقَتِهِ لِلَّذِي قَبْلَهُ , وَكَانَ نُكْتَةُ الْعُدُولِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ التَّيْسِيرَ هُوَ التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَالتَّسْهِيلُ فَقَدْ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يُسْأَلُ عَنْ نُكْتَتِهِ . [
(1/348)
قَوْلُهُ : أَيْ فِيمَا يُشْكِلُ ] حَاصِلُ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُحَاوَلَةَ مَصْدَرُ حَاوَلَهُ أَيْ رَامَهُ وَطَلَبَهُ إلَّا أَنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ , وَالتَّقْدِيرُ فِي أَمْرِهِ الْمُحَاوَلِ أَيْ الْمَطْلُوبِ الْوُقُوفُ عَلَى صِفَتِهِ هَلْ هِيَ الرُّشْدُ , أَوْ الْغَيُّ , وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فَيَكُونَ تَفْسِيرُ الشَّارِحِ تَفْسِيرًا بِاللَّازِمِ , وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ . [ قَوْلُهُ : مُوقِنًا . . . إلَخْ ] قَالَ فِي التَّحْقِيقِ : وَالتَّضَرُّعُ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ كَلَا شَيْءَ . [ قَوْلُهُ : وَالْمَالِكُ . . . إلَخْ ] لَازِمٌ لِمَا قَبْلَهُ . وَقَوْلُهُ : لِتَوْفِيقِهِ . . . إلَخْ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ , أَوْ الْعَكْسُ . [ قَوْلُهُ : وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ ] أَيْ أَنَّ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الطَّاعَةِ هَذَا مَعْنَاهُ وَفِيهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ وَصْفُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِوَصْفِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِقَامَةُ , وَيُجَابُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ أَيْ سَبَبِ الِاسْتِقَامَةِ . [ قَوْلُهُ : أَيْ مَا ذُكِرَ ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ مَا يُقَالُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ مُتَعَدِّدٌ فَكَيْفَ يُشَارُ لَهُ بِإِشَارَةِ الْمُفْرَدِ . [
(1/349)
قَوْلُهُ : هُوَ فِيهَا ] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعَائِدَ عَلَى مَا ضَمِيرٌ فِيهِ وَمَا وَاقِعَةٌ عَلَى حَالَةٍ وَصَدْرُ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّ الظَّرْفَ لَمَّا كَانَ يَسْتَقِلُّ بِالْوَصْلِ لَمْ يَبْقَ عَلَى إرَادَةِ الْمَحْذُوفِ دَلِيلٌ . [ قَوْلُهُ : وَلَا يَمْنَعُهُ الذَّنْبُ ] أَيْ الْمُتَجَدِّدُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّائِبِ . [ قَوْلُهُ : مِنْ ذَلِكَ ] أَيْ اللَّجَأِ وَالْيَقِينِ . وَقَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ عِلَّةً لِمَحْذُوفٍ أَيْ وَلَا يَمْنَعُهُ الذَّنْبُ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْهُ فَيَتُوبَ مِنْهُ لقوله تعالى إنَّ اللَّهَ . . . إلَخْ [ قَوْلُهُ : { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } ] صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ تَقْتَضِي مَحَبَّةَ الرَّجَاءِ الْعَائِدِ لِلتَّوْبَةِ [ قَوْلُهُ : أَيْ لَا يَقْنَطُ ] قَنِطَ يَقْنَطُ مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَتَعِبَ فَهُوَ قَانِطٌ قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ , وَالْمُرَادُ بِالْقُنُوطِ اسْتِبْعَادُ الْعَفْوِ عَنْ الذُّنُوبِ لِاسْتِعْظَامِهَا لَا إنْكَارُ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ كُفْرٌ . [ قَوْلُهُ : عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ] أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ [ قَوْلُهُ : السُّوءِ ] هُوَ الْمَعْصِيَةُ [ قَوْلُهُ : لقوله تعالى . . . إلَخْ ] لَا يَخْفَى أَنَّ الْإِيَاسَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ كُفْرٌ لَا كَبِيرَةٌ , فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ الْمُرَادُ بِكُفْرَانِهَا تَرْكُ شُكْرِهَا فَلَا يُوجَدُ شُكْرٌ عَلَيْهَا إلَّا بِالْقَلْبِ وَلَا بِاللِّسَانِ إذْ لَوْ وُجِدَ بِالْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ تَرْكِ الشُّكْرِ بِهَا كُفْرًا وَرَوْحُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ . [
(1/350)
قَوْلُهُ : أَيْ التَّفَكُّرُ . . . إلَخْ ] أَيْ النَّظَرُ , وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِكْرَةَ اسْمٌ لِلتَّفَكُّرِ . [ قَوْلُهُ : أَيْ مَخْلُوقَاتِهِ ] أَيْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ ضِدُّ النَّهْيِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ فِعْلُهُ أَيْ مَفْعُولُهُ ; لِأَنَّ الْمُتَفَكِّرَ إذَا تَفَكَّرَ وَنَظَرَ فِي مَصْنُوعَاتِ خَالِقِهِ عَلِمَ وُجُوبَ وُجُودِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَحَقِيقَةَ رُبُوبِيَّتِهِ فَيَجِدُّ فِي عِبَادَتِهِ , وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنْ لَا يَتَفَكَّرَ فِي ذَاتِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى إدْرَاكِهَا وَدَخَلَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَفْسُ الشَّخْصِ فَيُسْتَدَلُّ بِالنَّظَرِ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ صَانِعِهِ . [ قَوْلُهُ : هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ] بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ قَاطِعِ , وَبِالْمُهْمَلَةِ مِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ وَالْمُرَادُ الْمَوْتُ وَهُوَ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ إمَّا ; لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُزَهِّدُ فِيهَا , أَوْ ; لِأَنَّهُ إذَا حَلَّ مَا يُبْقِي مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا شَيْئًا ذَكَرَهُ السِّنْدِيُّ شَارِحُ الْحَدِيثِ . [ قَوْلُهُ : أَمَلُهُ ] يُقَالُ أَمَلْته أَمَلًا تَرَقَّبْته كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ فَالْمَعْنَى قَصُرَ تَرَقُّبُهُ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ . [
(1/351)
قَوْلُهُ : وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ ] مِنْ بَابِ قَعَدَ [ قَوْلُهُ : كَحَزْقَةِ الْقَبْرِ ] أَيْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ , وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَضْلَاعُ لَا ضَمَّةُ الْقَبْرِ الَّتِي هِيَ كَضَمَّةِ الْوَالِدَةِ الشَّفُوقَةِ لِوَلَدِهَا , وَأُدْخِلَ تَحْتَ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ : كَحَزْقَةِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ وَالْحَشْرُ وَالنَّشْرُ وَالْحِسَابُ وَالْعِقَابُ وَالنَّارُ أَفَادَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَفِي كَوْنِ كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ أَشَدَّ مِنْ الْمَوْتِ نَظَرٌ فَتَدَبَّرْ . [ قَوْلُهُ : أَنْ تُبَارِزَهُ بِالْمَعَاصِي ] أَيْ تُقَابِلَهُ بِالْمَعَاصِي [ قَوْلُهُ : فِي إمْهَالِهِ لَك ] أَيْ تَأْخِيرِهِ لَك تَارِكًا عُقُوبَتَك [ قَوْلُهُ : مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ] مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ وَصَالِحٍ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ إذَا رَأَيْت رَبَّك يُوَالِي عَلَيْك نِعَمَهُ فَاحْذَرْهُ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ . [
(1/352)
قَوْلُهُ : إذْ لَا تَدْرِي ] وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ : يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ فَيَحْمِلُك ذَلِكَ عَلَى هَضْمِ النَّفْسِ وَتَرْكِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَمَحَبَّةِ الْغَيْرِ وَعَلَى عَدَمِ الْعَظَمَةِ عَلَى الْإِخْوَانِ [ قَوْلُهُ : مِنْ أَجَلِك ] بَيَانٌ لِمَا أَيْ مُسَارَعَةُ أَجَلِك الَّذِي عَسَى الْأَجَلُ أَيْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَرُبَ فَافْتَعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ , وَقَوْلُ الشَّارِحِ هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَيْ هَلْ هُوَ نِهَايَةُ يَوْمٍ يَأْتِي , أَوْ نِهَايَةُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ مُسَارَعَةٍ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ تَفَكَّرْ هَلْ هُوَ أَيْ الْأَجَلُ نِهَايَةُ يَوْمٍ , أَوْ أَقَلُّ , وَلَمْ يَقُلْ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ مَا يُقْصَرُ [ قَوْلُهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ ] أَيْ التَّفَكُّرَ فِي الْمُبَادَرَةِ يَسْهُلُ [ قَوْلُهُ : بَغْتَةً ] أَيْ إتْيَانُ بَغْتَةٍ .
وفي حاشية العطار :
( وَيَأْسُ الرَّحْمَةِ ) قَالَ تَعَالَى { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ( وَأَمْنُ الْمَكْرِ ) بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَعَاصِي وَالِاتِّكَالِ عَلَى الْعَفْوِ قَالَ تَعَالَى { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } .
(
(1/353)
قَوْلُهُ : وَيَأْسُ الرَّحْمَةِ ) اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ بِمَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ كُفْرٌ , وَفِي عَقَائِدِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِيَاسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ , وَأَنَّ الْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَكْفَرُ فَإِنْ أَرَادُوا الْإِيَاسَ لِإِنْكَارِ سَعَةِ الرَّحْمَةِ الذُّنُوبَ وَبِالْأَمْنِ اعْتِقَادَ أَنْ لَا مَكْرَ فَكُلٌّ مِنْهُمَا كُفْرٌ وِفَاقًا ; لِأَنَّهُ رَدُّ الْقُرْآنِ , وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ مَنْ اسْتَعْظَمَ ذُنُوبَهُ فَاسْتَبْعَدَ الْعَفْوَ عَنْهَا اسْتِبْعَادًا يَدْخُلُ فِي حَدِّ الْيَأْسِ أَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ مَا دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْأَمْنِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَبِيرَةٌ لَا كُفْرٌ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَعَاصِي جَرَى عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ الْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ يَسْتَرْسِلُ فِي الْمَعَاصِي غَالِبًا لِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ , وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ , وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِغَيْرِ الْأَمْنِ .
(
(1/354)
وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ ) النَّفْسُ ( الْأَمَّارَةُ ) بِالسُّوءِ عَلَى اجْتِنَابِ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ لِحُبِّهَا بِالطَّبْعِ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَبْدُو لَهَا شَهْوَةٌ إلَّا اتَّبَعَتْهَا ( فَجَاهِدْهَا ) وُجُوبًا لِتُطِيعَك فِي الِاجْتِنَابِ كَمَا تُجَاهِدُ مَنْ يَقْصِدُ اغْتِيَالَكَ بَلْ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ بِاسْتِدْرَاجِهَا لَكَ مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى أُخْرَى حَتَّى تُوقِعَكَ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ ( فَإِنْ فَعَلْتَ ) الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ لِغَلَبَةِ الْأَمَّارَةِ عَلَيْكَ ( فَتُبْ ) عَلَى الْفَوْرِ وُجُوبًا لِيَرْتَفِعَ عَنْكَ إثْمُ فِعْلِهِ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِقَبُولِهَا فَضْلًا مِنْهُ وَمِمَّا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِقْلَاعُ كَمَا سَيَأْتِي ( فَإِنْ لَمْ تُقْلِعْ ) عَنْ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ ( لِاسْتِلْذَاذٍ ) بِهِ ( أَوْ كَسَلٍ ) عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ ( فَتَذَكَّرْ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ وَفَجْأَةَ الْفَوَاتِ ) أَيْ تَذَكَّرْ الْمَوْتَ وَفَجْأَتَهُ الْمُفَوِّتَةَ لِلتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ تَذَكُّرَ ذَلِكَ بَاعِثٌ شَدِيدٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا تَسْتَلِذُّ بِهِ أَوْ الْكَسَلِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم { أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ زَادَ ابْنُ حِبَّانَ { فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إلَّا وَسَّعَهُ وَلَا ذَكَرَهُ فِي سَعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ } وَهَاذِمٌ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَاطِعٌ ( أَوْ ) لَمْ تُقْلِعْ ( لِقُنُوطٍ ) مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوِهِ عَمَّا فَعَلَتْ لِشِدَّتِهِ أَوْ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ( فَخَفْ مَقْتَ
(1/355)
رَبِّكَ ) أَيْ شِدَّةَ عِقَابِ مَالِكِكَ الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي عَبْدِهِ مَا يَشَاءُ حَيْثُ أَضَفْتَ إلَى الذَّنْبِ الْيَأْسَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ } أَيْ رَحْمَتِهِ { إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ( وَاذْكُرْ سَعَةَ رَحْمَتِهِ ) الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إلَّا هُوَ أَيْ اسْتَحْضِرْهَا لِتَرْجِعَ عَنْ قُنُوطِكَ وَكَيْفَ تَقْنَطُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أَيْ غَيْرَ الشِّرْكِ لقوله تعالى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ( وَاعْرِضْ ) عَلَى نَفْسِكَ ( التَّوْبَةَ وَمَحَاسِنَهَا ) أَيْ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ مِنْ الْمَحَاسِنِ حَيْثُ ذَكَرْتَ سَعَةَ الرَّحْمَةِ لِتَتُوبَ عَمَّا فَعَلْتَ فَتَقْبَلُ وَيُعْفِي عَنْكَ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى ( وَهِيَ ) أَيْ التَّوْبَةُ ( النَّدَمُ ) عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْصِيَةٌ فَالنَّدَمُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِإِضْرَارِهِ بِالْبَدَنِ لَيْسَ بِتَوْبَةٍ ( وَتَتَحَقَّقُ بِالْإِقْلَاعِ ) عَنْ الْمَعْصِيَةِ ( وَعَزْمٍ أَنْ لَا يَعُودَ ) إلَيْهَا ( وَتَدَارُكِ مُمْكِنَ التَّدَارُكِ ) مِنْ الْحَقِّ النَّاشِئِ عَنْهَا كَحَقِّ الْقَذْفِ فَتَدَارُكُهُ بِتَمْكِينِ مُسْتَحِقِّهِ مِنْ الْمَقْذُوفِ أَوْ وَارِثَهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يُبْرِئَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُ الْحَقِّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقُّهُ مَوْجُودًا
(1/356)
سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ كَمَا يَسْقُطُ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ لَا يَنْشَأُ عَنْهَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَكَذَا يَسْقُطُ شَرْطُ الْإِقْلَاعِ فِي تَوْبَةِ مَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَالْمُرَادُ بِتَحَقُّقِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِيمَا تَتَحَقَّقُ بِهِ عَنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ تَوْبَةٍ , وَفِي نُسْخَةٍ وَالِاسْتِغْفَارُ عَقِبَ قَوْلِهِ بِالْإِقْلَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ مَا ذَكَرَ ( وَتَصِحُّ ) التَّوْبَةُ ( وَلَوْ بَعْدَ نَقْضِهَا عَنْ ذَنْبٍ وَلَوْ ) كَانَ ( صَغِيرًا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى ) ذَنْبٍ ( آخَرَ وَلَوْ ) كَانَ ( كَبِيرًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ) وَقِيلَ لَا تَصِحُّ بَعْدَ نَقْضِهَا بِأَنْ عَادَ إلَى الْمَتُوبِ عَنْهُ وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ صَغِيرٍ لِتَكْفِيرِهِ بِاجْتِنَابِ الْكَبِيرِ وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى كَبِيرٍ .
(
(1/357)
قَوْلُهُ : وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ ) ضَمَّنَهُ مَعْنَى تُوَافِقُكَ فَعَدَّاهُ بِعَلَى حَيْثُ قَالَ عَلَى اجْتِنَابِ ( قَوْلُهُ : فَجَاهِدْهَا وُجُوبًا ) قَدْ يُقَالُ هَلَّا قَالَ أَوْ نَدْبًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَاطِرَ الْمَذْكُورَ قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى وَكَانَ وَجْهُ التَّقْيِيدِ بِالْوُجُوبِ أَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَغْفُورَانِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ إنَّمَا يُنَاسِبُ الْوَاجِبَاتِ إذْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّعْمِيمُ فِي الْغُفْرَانِ وَالْمُؤَاخَذَاتِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ . سم .
(1/358)
ثُمَّ إنَّ أَصْلَ الْمُجَاهَدَةِ وَمِلَاكَهَا وَظُلْمَ النَّفْسِ عَلَى الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلَهَا عَلَى خِلَافِ هَوَاهَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ انْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ فَإِذَا جَمَحَتْ عِنْدَ رُكُوبِ الْهَوَى يَجِبُ أَنْ يُلْجِمَهَا بِلِجَامِ التَّقْوَى وَإِنْ حَرَنَتْ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْمُوَافَقَاتِ يَجِبُ سَوْقُهَا عَلَى خِلَافِ الْهَوَى وَمِنْ غَوَامِضِ آفَاتِهَا رُكُونُهَا إلَى اسْتِحْلَاءِ الْمَدْحِ وَأَشَدُّ إحْكَامِهَا وَأَصْعَبُهَا تَوَهُّمُهَا أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا حَسَنٌ وَأَنَّ لَهَا اسْتِحْقَاقَ قَدْرٍ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْخَيْرِيُّ لَا يَرَى أَحَدٌ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ مَنْ يَتَّهِمُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ قَالَ رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ فَقُلْت كَيْفَ أُحِبُّكَ فَقَالَ فَارِقْ نَفْسَكَ وَتَعَالَ وَفِي مُخْتَصَرِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ أَنْ يَعْمَلَ بِهَذِهِ التِّسْعَةِ أُمُورٍ حَتَّى يَجِدَ الشَّيْخَ وَهِيَ الْجُوعُ وَالسَّهَرُ وَالصَّمْتُ وَالْعُزْلَةُ وَالصِّدْقُ وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّلُ وَالْعَزِيمَةُ وَالْيَقِينُ , وَإِنَّمَا كَانَتْ تِسْعَةً لِأَنَّ بَسَائِطَ الْأَعْدَادِ وَالْأَفْلَاكِ أَيْضًا تِسْعَةٌ وَلَهَا حِكْمَةٌ إلَهِيَّةٌ يَعْرِفُهَا أَهْلُ اللَّهِ . (
(1/359)
قَوْلُهُ : فَتُبْ عَلَى الْفَوْرِ ) فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَفِي الْحَدِيثِ { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ } قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ : إنَّ الْعَبْدَ إذَا تَفَكَّرَ فِي قَلْبِهِ سُوءَ مَا يَصْنَعُهُ وَأَبْصَرَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيحِ الْأَفْعَالِ سَنَحَ فِي قَلْبِهِ إرَادَةُ التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ قَبِيحِ الْمُعَامَلَةِ فَيَمُدُّهُ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِتَصْحِيحِ الْعَزِيمَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِأَسْبَابِ التَّوْبَةِ قَالَ الْجُنَيْدُ دَخَلَ عَلَيَّ السَّرِيُّ يَوْمًا فَرَأَيْتُهُ مُتَغَيِّرًا فَقُلْت لَهُ مَا لَك فَقَالَ دَخَلْتُ عَلَى شَابٍّ فَسَأَلَنِي عَنْ التَّوْبَةِ فَقُلْتُ لَهُ أَنْ لَا تَنْسَى ذَنْبَكَ فَعَارَضَنِي وَقَالَ بَلْ التَّوْبَةُ أَنْ تَنْسَى ذَنْبَكَ , فَقُلْتُ لَهُ إنَّ الْأَمْرَ عِنْدِي مَا قَالَهُ الشَّابُّ فَقَالَ لِمَ ؟ فَقُلْتُ إذَا كُنْتُ فِي حَالِ الْجَفَا فَنَقَلَنِي إلَى حَالِ الْوَفَا فَذِكْرُ الْجَافِي حَالَ الصَّفَا جَفَا فَسَكَتَ . ( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تُقْلِعْ عَنْ فِعْلِ الْخَاطِرِ ) وَمِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ كَفُّ النَّفْسِ وَهُوَ فِعْلٌ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : فَتَذَكَّرْ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ ) ذَكَرَهُ فِي عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلِاسْتِلْذَاذِ وَالْكَسَلِ وَذَكَرَ فِي عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلْقُنُوطِ خَوْفَ الْمَقْتِ لِنَوْعِ مُنَاسَبَةٍ وَإِلَّا فَيَصِحُّ الْعَكْسُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ( قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ إلَخْ ) يُفَسَّرُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ مَا ذُكِرَ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا كَثَّرَهُ وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَلِ إلَّا قَلَّلَهُ . (
(1/360)
قَوْلُهُ : أَيْ شِدَّةَ عِقَابِ مَالِكَ ) فِي التَّعْبِيرِ بِالْمَالِكِ وَالْعَبْدِ بَدَلُ الضَّمِيرِ فِيهِمَا مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ لَهُ مِنْ حُسْنِ الصَّنِيعِ مَا لَا يَخْفَى فَإِنَّ فِيهِ مَعَ صِنَاعَةِ الطِّبَاقِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ الْعَاصِيَ لَا تُخْرِجُهُ مَعْصِيَتُهُ الَّتِي سَوَّلَتْهَا رُعُونَةُ النَّفْسِ عَنْ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنْ أَبَقَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى سَيِّدِهِ وَرُجُوعُ الْعَاصِي بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعُ وَلِيِّ اللَّهِ فَالتَّوْبَةُ مِنْ اللَّهِ إلَى اللَّهِ بِاَللَّهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا رَوَى الْقُشَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ قَالَ تَابَ بَعْضُ الْمُرِيدِينَ ثُمَّ وَقَعَتْ لَهُ فَتْرَةٌ وَكَانَ يُفَكِّرُ وَقْتًا لَوْ عَادَ إلَى التَّوْبَةِ كَيْفَ حُكْمُهُ فَهَتَفَ بِهِ هَاتِفٌ يَا أَبَا فُلَانٍ أَطَعْتَنَا فَشَكَرْنَاكَ ثُمَّ تَرَكْتَنَا فَأَهْمَلْنَاكَ فَإِنْ عُدْتَ إلَيْنَا قَبِلْنَاكَ ا هـ .
(1/361)
وَمِنْ لَطَائِفِ التَّنْزِيلِ { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّك بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فَإِنَّ فِيهِ إيمَاءً إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ كَرَّمَهُ وَلَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الْجَلَالِ كَالْقَهَّارِ لَذَابَ الْعَبْدُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ وَتَلَاشَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَمَاسَكَ إلَى الْجَوَابِ وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي قوله تعالى { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا } إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ الْغُفْرَانِ وَغَلَبَةِ الرَّحْمَةِ قَدْ يُشِيرُ كَلَامُ الشَّارِحِ إلَى مَعْنًى آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ تَوْبِيخُ الْعَاصِي بِأَنَّ ارْتِكَابَهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ لَائِقٍ بِهِ فَإِنَّ شَأْنَ الْعَبْدِ عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْمَالِكِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَمَالِ بَاشَا فِي شَرْحِ فَوَائِدِهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قوله تعالى { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الْآيَةَ ظَاهِرُهُ تَعْلِيلٌ وَبَيَانٌ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ الْعَذَابَ حَيْثُ كَانُوا عِبَادًا لِلَّهِ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ وَبَاطِنُهُ اسْتِعْطَافٌ لَهُمْ وَطَلَبُ رَأْفَةٍ بِهِمْ وقوله تعالى { فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } يَعْنِي لَا شَيْنَ لِشَأْنِكَ فِي عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِالْعَذَابِ لِأَنَّكَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَظِنَّةِ الْعَجْزِ وَالْقُصُورِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ مَغْفِرَةَ الْكَافِرِينَ لَا تُنَافِي الْحِكْمَةَ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ نَفْيَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّينَ ا هـ . (
(1/362)
قَوْلُهُ : أَيْ غَيْرَ الشِّرْكِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرَ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ( قَوْلُهُ : فَيَغْفِرُ لَهُمْ ) أَيْ لِيَتَحَقَّقَ كَوْنُهُ غَفُورًا وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يُذْنِبُوا لَتَعَطَّلَ كَوْنُهُ غَفُورًا وَهُوَ مِنْ بَابِ تَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الْعَفْوِ لَا الْحَمْلِ عَلَى إيقَاعِ الذُّنُوبِ يُحْكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ كُنْتُ أَنْتَظِرُ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ خُلُوَّ الْمَطَافِ فَكَانَتْ لَيْلَةٌ ظَلْمَاءُ بِهَا مَطَرٌ شَدِيدٌ فَخَلَا الطَّوَافُ فَدَخَلْتُ الطَّوَافَ وَكُنْت أَقُولُ اللَّهُمَّ أَعْصِمْنِي فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ يَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ أَنْتَ سَأَلْتَنِي الْعِصْمَةَ وَكُلُّ النَّاسِ يَسْأَلُونِي الْعِصْمَةَ فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ فَمَنْ أَرْحَمُ وَعَلَى مَنْ أَتَكَرَّمُ ؟ .
(1/363)
وَرَأَى أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سُرَيْجٍ فِي مَنَامِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَإِذَا الْجَبَّارُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ أَيْنَ الْعُلَمَاءُ قَالَ فَجَاءُوا ثُمَّ قَالَ مَاذَا عَمِلْتُمْ فِيمَا عَلِمْتُمْ قَالَ فَقُلْنَا يَا رَبِّ قَصَّرْنَا وَأَسَأْنَا قَالَ فَأَعَادَ السُّؤَالَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَأَرَادَ جَوَابًا آخَرَ فَقُلْتُ أَمَّا أَنَا فَلَيْسَ فِي صَحِيفَتِي الشِّرْكُ وَقَدْ وَعَدْتُ أَنْ تَغْفِرَ مَا دُونَهُ فَقَالَ اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَذَا رَوَى الْقُشَيْرِيُّ وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى هَذِهِ الْحِكَايَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ قَالَ لَنَا يَوْمًا أَحْسَبُ أَنَّ الْمَنِيَّةَ قَدْ قَرُبَتْ فَقُلْنَا وَكَيْفَ قَالَ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَالنَّاسُ قَدْ حُشِرُوا وَكَانَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِمَ أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ فَقُلْتُ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَالَ مَا سُئِلْتُمْ عَنْ الْأَقْوَالِ بَلْ سُئِلْتُمْ عَنْ الْأَعْمَالِ فَقُلْتُ أَمَّا الْكَبَائِرُ فَقَدْ اجْتَنَبْنَاهَا وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَعَوَّلْنَا فِيهَا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ا هـ .
(1/364)
وَيُعْجِبُنِي قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ : يَا رَبِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقَدْ عَلِمْتَ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ إنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إلَّا مُحْسِنٌ فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ مَالِي إلَيْكَ وَسِيلَةٌ إلَّا الرَّجَا وَعَظِيمُ عَفْوِكَ ثُمَّ إنِّي مُسْلِمُ ثُمَّ إنَّ الرَّجَا عَلَى ثَلَاثَةٍ رَجُلٌ عَمِلَ حَسَنَةً فَهُوَ يَرْجُو قَبُولَهَا وَرَجُلٌ عَمِلَ سَيِّئَةً ثُمَّ تَابَ فَهُوَ يَرْجُو الْمَغْفِرَةَ وَالثَّالِثُ الرَّجَا الْكَاذِبُ وَصَاحِبُهُ يَتَمَادَى فِي الذُّنُوبِ وَيَقُولُ أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْإِسَاءَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ غَالِبًا فَالْعَبْدُ يَكُونُ دَائِمًا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَقَدْ يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَفِي الطَّبَقَاتِ لِلْمُصَنَّفِ مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَافُكَ مِنْ قِبَلِي وَلَا أَخَافُك مِنْ قِبَلِك أَوْ أَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِكَ وَلَا أَرْجُوك مِنْ قِبَلِي قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالنَّاسُ يَسْتَحْسِنُونَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ قِبَلِي لِمَا اقْتَرَفْتُهُ مِنْ الذُّنُوبِ لَا مِنْ قِبَلِكَ فَإِنَّكَ عَادِلٌ لَا تَظْلِمُ فَلَوْلَا الذُّنُوبُ لَمَا كَانَ لِلْخَوْفِ مَعْنًى وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَمِنْ قِبَلِكَ لِأَنَّكَ مُتَفَضِّلٌ لَا مِنْ قِبَلِي لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَحَاسِنِ مَا أَرْتَجِيكَ بِهَا وَالشِّقُّ الثَّانِي عِنْدَنَا صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّا نَقُولُ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يُخَافُ مِنْ قِبَلِهِ كَمَا يُخَافُ مِنْ قِبَلِنَا لِأَنَّهُ الْمَلِكُ الْقَهَّارُ يَخَافُهُ
(1/365)
الطَّائِعُونَ وَالْعُصَاةُ وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ ا هـ . ( قَوْلُهُ : وَاعْرِضْ ) بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ مِنْ عَرَضَ لِأَنَّهُ الْمُتَعَدِّي لَا مِنْ أَعْرَضَ اللَّازِمِ وَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْفِعْلُ وَمِثْلُهُ كَيْفِيَّةُ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ الْمَبْدُوءَ بِالْهَمْزَةِ لَازِمٌ وَبِدُونِهَا مُتَعَدٍّ ( قَوْلُهُ : التَّوْبَةُ ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ فَهِيَ رُجُوعٌ عَنْ الْمَذْمُومِ شَرْعًا قِيلَ وَهِيَ أَوَّلُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ وَأَوَّلُ مَقَامٍ مِنْ مَقَامِ الطَّالِبِينَ ( قَوْلُهُ : وَهِيَ النَّدَمُ ) قَالَ صلى الله عليه وسلم { النَّدَمُ تَوْبَةٌ } أَيْ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا كَمَا يُقَالُ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } وَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا النَّدَمَ لِأَنَّهُ يَسْتَتْبِعُ الْبَقِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَادِمًا عَلَى مَا هُوَ مُصِرٌّ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ عَازِمٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ( قَوْلُهُ : وَتَتَحَقَّقُ ) أَيْ التَّوْبَةُ وَتَحَقُّقُهَا بِمَا ذَكَرَهُ مَحَلُّهُ فِي التَّوْبَةِ بَاطِنًا أَمَّا فِي الظَّاهِرِ لِتُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَتَعُودُ وَلَايَتُهُ فَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهَا مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَعْصِيَةِ الْقَوْلِيَّةِ مِنْ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ فِي الْقَذْفِ قَذْفٌ بَاطِلٌ وَأَنَا نَادِمٌ عَلَيْهِ وَلَا أَعُودُ إلَيْهِ وَفِي الْفِعْلِيَّةِ كَالزِّنَا وَفِي شَهَادَةِ الزُّورِ وَقَذْفِ الْإِيذَاءِ مِنْ اسْتِبْرَاءِ سَنَةٍ . ا هـ . زَكَرِيَّا . (
(1/366)
قَوْلُهُ : وَتَدَارُكِ مُمْكِنَ التَّدَارُكِ ) أَفَادَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي التَّوْبَةِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا وَخَالَفَ فِيهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ وَالْآمِدِيُّ فَقَالُوا لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِيهَا بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِرَأْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَأَتَى بِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ا هـ . زَكَرِيَّا . ( قَوْلُهُ : أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ فِيمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ ) مَا وَاقِعَةٌ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْبَةِ أَيْ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ الْكُلِّ صَادِقٌ بِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ ( قَوْلُهُ : عَنْ ذَنْبٍ ) فِي التَّنْكِيرِ إشَارَةٌ إلَى صِحَّةِ التَّوْبَةِ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضٍ فَالتَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ مَعَ الْإِصْرَارِ لِلتَّوْضِيحِ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ لَا تَصِحُّ عَنْ صَغِيرٍ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَعْبِيرُهُ بِلَا يَصِحُّ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي التَّوْبَةِ عَنْ الصَّغِيرِ فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ تَغْلِيبًا لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِهَا وَعَدَمِهِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَعْلِيلِهِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ لِتَكْفِيرِهِ بِاجْتِنَابِ الْكَبِيرِ .
(1/367)
وَتَوَقَّفَ السُّبْكِيُّ فِي وُجُوبِهَا مِنْ الصَّغِيرَةِ عَيْنًا لِتَكْفِيرِهَا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ لَهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَخَالَفَهُ ابْنُهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ : الَّذِي أَرَاهُ وُجُوبُ التَّوْبَةِ لَهَا عَيْنًا عَلَى الْفَوْرِ نَعَمْ إنْ فُرِضَ عَدَمُ التَّوْبَةِ عَنْهَا حَتَّى اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ كُفِّرَتْ وَمَا أَرَاهُ يَرْجِعُ إلَى مَا رَجَّحَهُ الْجُمْهُورُ ا هـ . زَكَرِيَّا ( قَوْلُهُ : لِتَكْفِيرِهِ ) فَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَلَى هَذَا عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ .
وفي شرح النيل :
( رَجَاءً ) لَا جَزْمًا , لِأَنَّ الْمُؤَلِّفَ رحمه الله خَائِفٌ رَاجٍ وَلَوْ فِيمَا لَا يَعْرِضُ فِيهِ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ , وَهُوَ مَا عَدَا أُمُورَ الْآخِرَةِ وَأَعْمَالَهَا وَأَعْمَالَ الْعِقَابِ , فَإِنَّ مَا عَدَاهَا لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ فِيهِ بِعَدَمِ اسْتِحْضَارِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ , وقوله تعالى : { لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }.
(1/368)
وَلَوْ كَانَ وَارِدًا عَقِبَ ذِكْرِ الْإِيَاسِ مِنْ أَمْرٍ غَيْرِ الْجَنَّةِ وَغَيْرِ رِضَى اللَّهِ , لَكِنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فِي غَيْرِ أَمْرِ الْآخِرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْكُفْرُ لَيْسَ مِنْ سَبَبِ الْإِيَاسِ مِنْ أَمْرٍ غَيْرِ الْآخِرَةِ , بَلْ إنَّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ يَدْعُوهُ طَبْعُهُ إلَى الْإِيَاسِ مُطْلَقًا لِقِلَّةِ ثِقَتِهِ بِاَللَّهِ , وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله تعالى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ } وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِيَاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ أَيْضًا إنْ أَيِسَ مِنْ اللَّهِ , وَلَوْ قِيلَ بِهِ لَصَحَّ , ثُمَّ ظَهَرَ لِي الْجَزْمُ بِأَنَّ الْإِيَاسَ مِنْ اللَّهِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا كُفْرٌ أَيْضًا , وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ , وَأَمَّا الْإِيَاسُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِنْ جَانِبِ الْخَلْقِ فَلَا يَأْسَ بِهِ , بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ , وَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْأَخِيرِ تَبْيِينُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ , .
بَابٌ فِي وُجُوبِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ :
(1/369)
الْخَوْفُ هُنَا الْإِشْفَاقُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَضِدُّهُ الْأَمْنُ , وَالرَّجَاءُ الطَّمَعُ وَضِدُّهُ الْيَأْسُ , وَهُمَا يَثْبُتَانِ فِي الْقَلْبِ بِعَدَمِ الْأَمْنِ فِيهِ وَالْخَوْفُ زَاجِرٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لِلْعِقَابِ عَلَيْهَا , وَالرَّجَاءُ دَاعٍ إلَى الطَّاعَةِ لِلثَّوَابِ عَلَيْهَا , وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ : أَنَّ الْخَوْفَ رِعْدَةٌ تَحْدُثُ فِي الْقَلْبِ عَنْ ظَنِّ الْمَكْرُوهِ يَنَالُهُ وَالْخَشْيَةُ نَحْوُهُ , لَكِنْ تَقْتَضِي ضَرْبًا مِنْ الِاسْتِعْظَامِ وَالْمَهَابَةِ , وَضِدُّ الْخَوْفِ : الْجُرْأَةُ وَلَكِنْ قَدْ يُقَابَلُ بِالْأَمْنِ لِأَنَّ الْآمِنَ يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمُقَدِّمَاتُ الْخَوْفِ أَرْبَعٌ : الْأُولَى : ذِكْرُ الذُّنُوبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي سَبَقَتْ وَكَثْرَةِ الْخُصُومِ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَيْكَ مَظَالِمُ وَأَنْتَ مُرْتَهَنٌ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ الْخَلَاصُ .
(1/370)
وَالثَّانِيَةُ : ذِكْرُ شِدَّةِ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا طَاقَةَ لَكَ بِهَا وَالثَّالِثَةُ : ذِكْرُ ضَعْفِ نَفْسِكَ عَنْ احْتِمَالِهَا وَالرَّابِعَةُ : ذِكْرُ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ , وَالرَّجَاءُ : ابْتِهَاجُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِرَاحَتُهُ إلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَاطِرِ غَيْرُ مَعْذُورٍ لِلْعَبْدِ ; وَرَجَاءٌ هُوَ مَعْذُورٌ وَهُوَ تَذَكُّرُ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ , وَالْمُرَادُ التَّذَكُّرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرْوَاحِ وَضِدُّهُ الْإِيَاسُ وَهُوَ تَذَكُّرُ فَوَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ وَقَطْعِ الْقَلْبِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ , وَهَذَا الرَّجَاءُ فَرْضٌ إذْ لَا سَبِيلَ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِيَاسِ إلَّا هُوَ , وَكَذَا الْخَوْفُ فَرْضٌ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَمْنِ إلَّا هُوَ وَمُقَدِّمَاتُ الرَّجَاءِ أَرْبَعٌ : الْأُولَى : ذِكْرُ سَوَابِقِ فَضْلِهِ إلَيْكَ مِنْ غَيْرِ قَدَمٍ أَوْ شَفِيعٍ .
(1/371)
وَالثَّانِيَةُ : ذِكْرُ مَا وَعَدَ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ وَعَظِيمِ كَرَامَتِهِ بِحَسَبِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ دُونَ اسْتِحْقَاقٍ بِالْفِعْلِ , إذْ لَوْ كَانَ عَلَى حَسَبِ الْفِعْلِ لَكَانَ أَقَلَّ شَيْءٍ وَأَصْغَرَ أَمْرٍ الثَّالِثَةُ : تَذَكُّرُ أَنَّهُ يُعْطِي عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا الرَّابِعَةُ : ذِكْرُ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَسَبَقَهُ لِغَضَبِهِ وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ( لَزِمَ الْمُكَلَّفَ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ ) الْخَوْفُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ وَالرَّجَاءُ لِرِضَى اللَّهِ وَثَوَابِهِ ( بِلَا حَدٍّ ) يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ فَيَزُولُ عَنْهُ الْخَوْفُ فَيَكُونُ فِي أَمْنٍ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ , أَوْ يَزُولُ عَنْهُ الرَّجَاءُ فَيَيْأَسُ مِنْ رِضَاهُ وَثَوَابِهِ . (
(1/372)
وَ ) لَهُمَا حَدٌّ ( يَعْلَمُهُ اللَّهُ ) إذَا وَصَلَهُ الْمُكَلَّفُ بِكَسْبِهِ كَانَ فِي أَمْنٍ أَوْ فِي إيَاسٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ طِبْقٌ لِمَا عَلِمَهُ مِنْهُ فِي الْأَزَلِ لَا يُخَالِفُهُ , فَبِاعْتِبَارِ الْأَزَلِ السَّعِيدُ فِي الْأَمْنِ وَالشَّقِيُّ فِي الْإِيَاسِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ فَهُوَ وَاجِبٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ وَصَلَ الْحَدَّ ؟ وَأَخْفَى ذَلِكَ لِيَجْتَهِدُوا كَمَا أُخْفِيَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَسَاعَةُ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمُعَةِ , وَقِيلَ : السَّاعَةُ الْأَخِيرَةُ , وَالْمَوْتُ وَقِيَامُ السَّاعَةِ وَالذَّنْبُ الَّذِي يَسْخَطُ بِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحَيسَنَةُ الَّتِي يَرْضَى بِهَا عَنْهُ لِيَجْتَهِدُوا فِي تَرْكِ مَا يُتْرَكُ كُلُّهُ , وَفِعْلِ الطَّاعَةِ , وَكَذَلِكَ أَخْفَى أَيْضًا حَدَّ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَلَوْ رَضِيَا عَنْهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَرْضَيَا عَنْهُ قَبْلَ بُلُوغِ حَدِّهِ , وَكَذَلِكَ أَخْفَى حَدَّ التَّوْبَةِ وَأَخْفَى حَدَّ الْوَزْنِ , وَأَوَّلَ الْبُلُوغِ , وَأَوَّلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ , وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَبَّأَ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثٍ : . رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ , فَلَا تَحْقِرُوا مِنْهَا شَيْئًا فَلَعَلَّ رِضَاهُ فِيهِ , وَغَضَبَهُ فِي مَعَاصِيهِ فَلَا تَحْقِرُوا مِنْهَا شَيْئًا فَلَعَلَّ غَضَبَهُ فِيهِ , وَخَبَّأَ وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلَا تَحْقِرُوا مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَعَلَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ .
(1/373)
وَكَذَلِكَ أَخْفَى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى , وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ , وَقِيَامَ السَّاعَةِ , وَوَقْتَ الْمَوْتِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى بِلَا غَايَةٍ يَبْلُغُهَا الْمُكَلَّفُ فِي خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ فَيَكُونُ قَدْ بَلَغَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِمَا , وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا حَدًّا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ لِيَجْتَهِدَ فِي الطَّاعَةِ وَيَنْزَجِرَ عَنْ الْمَعَاصِي أَبَدًا فَذَلِكَ أَصْلَحُ لَهُ وَأَوْفَرُ فِي ثَوَابِهِ وَنَجَاتِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ يَذْكُرُ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ عَمَّا فِي الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا يَكْفِي لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْخَوْفِ لَتُوُهِّمَ الْخَوْفُ الْغَالِبُ أَوْ الْإِيَاسُ إذْ قَدْ يَتَيَقَّنُ الْإِنْسَانُ بِمُكْرَهٍ فَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَرِهَهُ , وَتَوَقَّعَ حُضُورَهُ , وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الرَّجَاءِ لَتُوُهِّمَ الرَّجَاءُ الْغَالِبُ أَوْ الْأَمْنُ إذْ قَدْ يَتَيَقَّنُ الْإِنْسَانُ مَحْبُوبًا فَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الرَّجَاءَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَتَمَنَّى وُقُوعَهُ , وَإِلَّا فَالْخَوْفُ فِيهِ طَرَفٌ مِنْ الرَّجَاءِ , وَالرَّجَاءُ فِيهِ طَرَفٌ مِنْ الْخَوْفِ , فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ بِقَطْعِ هَذِهِ الْعَقَبَةِ فِي تَمَامِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ وَجَدِّ الرِّعَايَةِ فَإِنَّهَا عَقَبَةٌ دَقِيقَةُ الْمَسَالِكِ خَطِرَةُ الطَّرِيقِ , وَذَلِكَ أَنَّ طَرِيقَهَا بَيْنَ طَرِيقِينَ مَخُوفَيْنِ مُهْلِكَيْنِ , طَرِيقُ الْأَمْنِ وَطَرِيقُ الْإِيَاسِ .
(1/374)
وَطَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ هُوَ طَرِيقُ الْعَدْلِ بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ الْجَائِرَيْنِ , فَإِنْ غَلَبَ الرَّجَاءُ عَلَيْكَ حَتَّى فَقَدْتَ الْخَوْفَ أَلْبَتَّةَ وَقَعْتَ فِي طَرِيقِ الْأَمْنِ : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَإِنْ غَلَبَ الْخَوْفُ حَتَّى فَقَدْتَ الرَّجَاءَ وَقَعْتَ فِي طَرِيقِ الْإِيَاسِ : { لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَإِنْ رَكِبْتَ طَرِيقًا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْعَدْلُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } .
(1/375)
فَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ : طَرِيقُ الْأَمْنِ وَالْجُرْأَةِ , وَطَرِيقُ الْإِيَاسِ وَالْقُنُوطِ , وَطَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مُمْتَدٌّ بَيْنَهُمَا , فَإِنْ مِلْتَ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا بِقَدَمٍ وَقَعْتَ فِي الْهَلَاكِ وَهَلَكْتَ مَعَ الْهَالِكِينَ , فَلَا تَنْظُرْ إلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ فَقَطْ فَتَأْمَنْ , وَلَا إلَى عِظَمِ الْهَيْبَةِ وَالْمُنَاقَشَةِ فَتَقْنَطْ , بَلْ خُذْ مِنْهُمَا مَعًا فَتَرْكَبْ طَرِيقَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } الْآيَةَ وَلَا يَتَأَتَّى سُلُوكُ هَذِهِ الطَّرِيقِ بِاجْتِنَابِ الْمَحْبُوبِ عِنْدَ النَّفْسِ وَاكْتِسَابِ الطَّاعَةِ الثَّقِيلَةِ إلَّا بِالتَّحَفُّظِ بِثَلَاثَةِ أُصُولٍ : الْأَوَّلُ : ذِكْرُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ , وَالثَّانِي : ذِكْرُ أَفْعَالِهِ فِي الْعَفْوِ وَالْأَخْذِ , وَالثَّالِثُ : ذِكْرُ جَزَائِهِ فِي الْمَعَادِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ .
(1/376)
فَالتَّرْهِيبُ وَالتَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ : { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } الْآيَةَ , { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } , { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } - { وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } - { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } الْآيَةَ , وقوله تعالى : { لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } الْآيَةَ , { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ } { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } - { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ } - { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } - الْآيَةَ - { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } - { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ تَخْوِيفًا فِي تَأْمِينٍ وَتَحْرِيكًا فِي تَسْكِينٍ , فَتَكُونُ الطَّرِيقُ عَدْلًا فَلَا يَذْهَبُ الْقَلْبُ فِي أَمْنٍ أَوْ إيَاسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } - { إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } - { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ } - { وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاَللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } - { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ } فَلَمْ يَقُلْ الْجَبَّارَ أَوْ الْمُنْتَقِمَ , وَأَمَّا أَفْعَالُهُ مَعَ الْخَلْقِ فَكَمَا رُوِيَ أَنَّ { إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَمَانِينَ أَلْفَ عَامٍ وَلَمْ يَتْرُكْ قِيلَ : مَوْضِعَ قَدَمٍ إلَّا
(1/377)
وَسَجَدَ فِيهِ لِلَّهِ سَجْدَةً ثُمَّ تَرَكَ لَهُ أَمْرًا وَاحِدًا فَطَرْدَهُ مِنْ بَابِهِ وَضَرَبَ وَجْهَهُ بِعِبَادَةِ ثَمَانِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَلَعَنَهُ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابَ أَبَدِ الْآبِدِينَ وَكَمَا طَرَدَ آدَمَ عليه السلام صَفِيَّهُ وَنَبِيَّهُ الَّذِي خَلَقَهُ بِيَدِهِ أَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ إلَى جِوَارِهِ فَأَكَلَ أَكْلَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهَا فَنُودِيَ أَنْ لَا يُجَاوِرَنِي مَنْ عَصَانِي وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ حَمَلُوا سَرِيرَهُ أَنْ يَزْجُرُوهُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتَّى أَوْقَعُوهُ إلَى الْأَرْضِ } . وَكَمَا أَنَّ نُوحًا لَمْ يَقُلْ إلَّا كَلِمَةً وَاحِدَةً عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا { رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } فَنُودِيَ { فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } وَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , وَكَمَا أَنَّ بلعام كَانَ بِحَيْثُ إذَا نَظَرَ رَأَى الْعَرْشَ وَمَالَ إلَى الدُّنْيَا مَيْلَةً وَاحِدَةً فَسُلِبَ الْمَعْرِفَةَ وَجُعِلَ كَالْكَلْبِ الْمَطْرُودِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي } إلَخْ .
(1/378)
وَكَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَكُونُ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ أَلْفَ مِحْبَرَةٍ لِلْمُتَعَلِّمِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ , وَكَمَا أَنَّ يُونُسَ عليه السلام غَضِبَ غَضْبَةً وَاحِدَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَسَجَنَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهُوَ يُنَادِي : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَهُ وَقَالَتْ : إلَهَنَا وَسَيِّدَنَا صَوْتٌ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعٍ مَجْهُولٍ , فَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ فَتَشَفَّعَتْ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ غَيَّرَ اسْمَهُ فَقَالَ : { وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : { لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } وَقَالَ : { لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَكَمَا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { شَيَّبَتْنِي هَوْدٌ وَأَخَوَاتُهَا } .
(1/379)
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } إلَى أَنْ مَنَّ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ بِالْغُفْرَانِ فَقَالَ : { وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ } وَقَالَ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } الْآيَةَ , { وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهُ فَيَقُولُونَ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ فَقَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا } وَذَلِكَ مِنْ جَانِبِ التَّرْهِيبِ , وَأَمَّا الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ لَا أَحَدَ يَعْرِفُ غَايَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ يُحْسِنُ وَصْفَهَا , فَإِنَّهُ الَّذِي يُذْهِبُ كُفْرَ سَبْعِينَ سُنَّةٍ بِإِيمَانِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَانْظُرْ إلَى سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ قَالُوا : آمَنَا عَنْ صِدْقِ قُلُوبِهِمْ فَقَبِلَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ , وَإِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ : { فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
(1/380)
فَأَكْرَمَهُمْ حَتَّى أَكْرَمَ كَلْبًا تَبِعَهُمْ , وَذَكَرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَيَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا , وَإِلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لِمُوسَى عليه السلام فِي قَارُونَ اسْتَغَاثَ بِكَ وَلَمْ تُغِثْهُ فَوَعِزَّتِي لَوْ اسْتَغَاثَ بِي لَأَغَثْتُهُ وَلَعَفَوْتُ عَنْهُ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْوَالِدَةِ الشَّفِيقَةِ بِوَلَدِهَا } وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم { : إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَوَاحِدَةٌ قَسَمَهَا بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فِيهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ , وَأَخَّرَ مِنْهَا تِسْعًا وَتِسْعِينَ لِنَفْسِهِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا } فَمَنْ أَعْطَانَا النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْوَاحِدَةِ وَبَدَأَنَا بِالْإِحْسَانِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتِمَّ الْإِحْسَانَ فَيَجْعَلَ لَنَا مِنْ التِّسْعِ وَالتِّسْعِينَ الْحَظَّ الْوَافِرَ , نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُخَيِّبَ آمَالَنَا . وَأَمَّا الْمَعَادُ فَكَمَا قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةُ : دَخَلْتُ مَعَ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَرِيضٍ نَعُودُهُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ : اُرْفُقْ بِهِ , فَتَكَلَّمَ الْمَرِيضُ فَقَالَ : إنْ تُلَقِّنِّي أَوْ لَا تُلَقِّنِّي فَإِنِّي لَا أَدَعُهَا , ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّى صَاحِبَهَا .
(1/381)
وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ الْفُضَيْلَ دَخَلَ عَلَى تِلْمِيذٍ لَهُ مُحْتَضِرٌ وَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَرَأَ سُورَةَ ( يس ) فَقَالَ : يَا أُسْتَاذُ لَا تَقْرَأْ هَذِهِ , فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَقَالَ : لَا أَقُولُهَا إنِّي مِنْهَا بَرِيءٌ , وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ , فَدَخَلَ الْفُضَيْلُ بَيْتَهُ يَبْكِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَيْتِ , ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يُسْحَبُ إلَى جَهَنَّمَ , فَقَالَ لَهُ : بِأَيِّ شَيْءٍ نَزَعَ اللَّهُ مِنْكَ الْمَعْرِفَةَ وَكُنْتَ أَعْلَمَ تَلَامِيذِي ؟ فَقَالَ : بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ أَصْحَابِي , وَبِحَسَدِي لَهُمْ , وَبِالْخَمْرِ كَانَتْ لِي عِلَّةٌ فَجِئْتُ إلَى الطَّبِيبِ وَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ : اشْرَبْ كُلَّ سَنَةٍ قَدَحًا مِنْ خَمْرٍ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ تَقُمْ بِكَ الْعِلَّةُ , فَكُنْتُ أَشْرَبُهُ ( وَقَدْ يَتَفَاضَلُ الْعِبَادُ فِيهِمَا ) بَعْضُ الْخَلْقِ أَعْظَمُ خَوْفًا مِنْ بَعْضٍ , وَالْمَلَائِكَةُ أَشَدُّ خَوْفًا وَبَعْدَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ , وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَاضُلِ أَنْ يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ أَعْظَمَ مِنْ خَوْفِ غَيْرِهِ وَرَجَائِهِ , وَإِلَّا فَكَوْنُ الْخَوْفِ أَوْ الرَّجَاءِ أَعْظَمَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ , إلَّا إنْ جَازَ كَوْنُ خَوْفِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمَ , وَلَيْسَ الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ خَوْفًا بِأَشَدَّ خَوْفًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ وَلَا بِأَشَدَّ خَوْفًا , وَلَكِنْ قَوَّى اللَّهُ قُلُوبَ الْأَنْبِيَاءِ وَخَوْفُهُمْ خَوْفُ عِقَابٍ .
(1/382)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ عليه السلام : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } وَرَجَاؤُهُمْ رَجَاءُ ثَوَابٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } - إلَى أَنْ قَالَ : { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ عِبَادَةٌ تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهَا الْمُكَلَّفِينَ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلَزِمَا الْمُكَلَّفَ , وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا , وَلِكَوْنِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ عِبَادَةً كَالصَّلَاةِ كُلِّفَ بِهَا مَنْ عُلِمَ مَصِيرُهُ كَالْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضِ الصَّحَابَةِ , وَالْمُنَاسِبُ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ خَوْفُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِهِمْ خَوْفَ إجْلَالٍ , وَقَدْ قِيلَ : خَوْفُهُمْ خَوْفُ إجْلَالٍ وَرَجَاءِ رَحْمَةٍ .
(1/383)
وَقِيلَ : خَوْفُ مَلَامَةٍ وَطُولِ حِسَابٍ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَوَّلًا خَائِفِينَ خَوْفَ عِقَابٍ ثُمَّ إذَا وَصَلُوا الْحَدَّ الْمَعْلُومَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَخَافُونَ بَعْدَ ذَلِكَ خَوْفَ إجْلَالٍ , وَلَعَلَّ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ : وَلَا يَعْمَلُونَ فِيهِمَا إلَّا الْوَاجِبَ , أَنَّ الْعِبَادَ وَلَوْ تَفَاضَلُوا فِي الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَبَلَغَ أَحَدٌ فِيهِمَا مَا بَلَغَ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ عَلَيْهِ مَا دَامَ حَيًّا , وَلَا يَظْهَرُ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ فَهُمَا أَبَدًا فِي الْوُجُوبِ , وَذَلِكَ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى اللَّامِ , وَأَمَّا بِتَأْخِيرِهَا فَلَعَلَّ الْأَصْلَ لَا يَعْلَمُونَ فِيهِمَا حَدَّ الْوَاجِبِ فَحَرَّفَهُ نَاسِخٌ . (
(1/384)
وَبِلَا مِيلٍ لَا يَأْسٍ أَوْ أَمْنٍ ) قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ الْعَقَبَاتُ : لَقَدْ قِيلَ إنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ صَارَ مُرْجِيًا , وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ صَارَ حَرُورِيًّا , وَلَعَلَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَرَادَ بِالْحَرُورِيِّ : أَهْلَ حَرُورَاءَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ الصِّفْرِيَّةِ لَا أَصْحَابِنَا رضي الله عنهم , لِأَنَّا لَا نَقُولُ : كُلُّ ذَنْبٍ أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ شِرْكٌ كَمَا تَقُولُهُ الصِّفْرِيَّةُ , قَالَ : وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ الْمُكَلَّفُ بِأَحَدِهِمَا وَإِلَّا فَإِنَّ الرَّجَاءَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْخَوْفِ الْحَقِيقِيِّ , وَالْخَوْفُ الْحَقِيقِيُّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرَّجَاءِ الْحَقِيقِيِّ , وَلِذَلِكَ قِيلَ : الرَّجَاءُ كُلُّهُ لِأَهْلِ الْخَوْفِ إلَّا الْأَمْنَ , وَالْخَوْفُ كُلُّهُ لِأَهْلِ الرَّجَاءِ إلَّا الْإِيَاسَ .
(1/385)
وَاَلَّذِي يَجْرِي فِي النَّفْسِ خَمْسُ مَرَاتِبَ : مَرْتَبَةُ الْهَاجِسِ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِي النَّفْسِ , ثُمَّ الْخَاطِرِ وَهُوَ مَا يَجُولُ فِيهَا بَعْدَ إلْقَائِهِ , ثُمَّ حَدِيثِ النَّفْسِ وَهُوَ تَرَدُّدُهَا بَيْنَ فِعْلِ الْخَاطِرِ وَتَرْكِهِ , ثُمَّ الْهَمِّ أَيْ قَصْدِ الْفِعْلِ , ثُمَّ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ جَازِمًا وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ دُونَ الْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } قَالَ بَعْضُهُمْ مَرَاتِبُ الْقَصْدِ خَمْسٌ هَاجِسٌ ذَكَرُوا فَخَاطِرٌ فَحَدِيثُ النَّفْسِ فَاسْتَمَعَا يَلِيهِ هَمٌّ وَعَزْمٌ كُلُّهَا رُفِعَتْ سِوَى الْأَخِيرِ فَفِيهِ الْإِثْمُ قَدْ وَقَعَا وَقَالَ بَعْضٌ : هَاجِسٌ خَاطِرٌ حَدِيثٌ لِنَفْسِ ثُمَّ هَمٌّ لَا إثْمَ إلَّا بِعَزْمِ ( وَإِنْ لَمْ تُطِعْكَ ) النَّفْسُ ( الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ ) عَلَى اجْتِنَابِ فِعْلِ الْخَاطِرِ لِلْجِهَادِ بِالطَّبْعِ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَبْدُو لَهَا شَهْوَةٌ إلَّا اتَّبَعَتْهَا ( فَجَاهِدْهَا وُجُوبًا ) لِتُطِيعَك فِي الِاجْتِنَابِ , كَمَا تُجَاهِدُ مَنْ يَقْصِدُ اغْتِيَالَك , بَلْ أَعْظَمُ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِكَ الْهَلَاكَ الْأَبَدِيَّ بِاسْتِدْرَاجِهَا لَك مِنْ مَعْصِيَةٍ إلَى أُخْرَى حَتَّى تُوقِعَك فِيمَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ ( فَإِنْ فَعَلْتَ ) بِفَتْحِ التَّاءِ ذَلِكَ الْخَاطِرَ لِغَلَبَةِ أَمَّارَتِك بِالسُّوءِ عَلَيْك ( فَتُبْ عَلَى الْفَوْرِ ) وُجُوبًا بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ بِلَا مُهْلَةٍ لِيَرْتَفِعَ عَنْك
(1/386)
الْإِثْمُ لِوَعْدِ اللَّهِ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَضْلًا مِنْهُ , وَالْفِعْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَشْمَلُ الْقَوْلَ وَالِاعْتِقَادَ وَالنُّطْقَ وَيَشْمَلُ التَّرْكَ , فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ كَسْبٌ لِلْمَعْصِيَةِ . ( فَإِنْ لَمْ تُقْلِعْ ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ تَنْكَفَّ عَنْ فِعْلِ الْخَاطِرِ الْمَذْكُورِ ( لِاسْتِلْذَاذٍ ) بِهِ ( أَوْ كَسَلٍ ) عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ أَوْ عَنْ النُّهُوضِ إلَى الْوَاجِبِ ( فَتَذَكَّرْ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ ) وَهُوَ الْمَوْتُ , وَالْهَاذِمُ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ بِمَعْنَى قَاطِعٍ ( وَفَجْأَةَ الْفَوَاتِ ) بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الْفَجْأَةَ بِهِ مُفَوِّتَةٌ لِلتَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ تَذَكُّرَ ذَلِكَ بَاعِثٌ شَدِيدٌ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَسْتَلِذُّ بِهِ أَوْ يَكْسَلُ عَنْ الْخُرُوجِ , قَالَ صلى الله عليه وسلم : { أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , زَادَ ابْنُ حِبَّانَ : { فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ إلَّا وَسَّعَهُ , وَلَا ذَكَرَهُ فِي سِعَةٍ إلَّا ضَيَّقَهَا عَلَيْهِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَا ذُكِرَ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا كَثَّرَهُ وَلَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَلِ إلَّا قَلَّلَهُ } ( أَوْ ) إنْ لَمْ تُقْلِعْ ( لِقُنُوطٍ ) مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ عَمَّا فَعَلْت لِشِدَّتِهِ أَوْ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ( فَخِفْتَ مَقْتَ رَبِّكَ ) أَيْ شِدَّةَ عِقَابِ مَالِكِك الَّذِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي عَبْدِهِ مَا يَشَاءُ حَيْثُ أَضَفْت إلَى الذَّنْبِ الْإِيَاسَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( { لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ) فَإِنَّ الْإِيَاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
(1/387)
لِذَنْبٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ شِرْكًا , فَالْإِيَاسُ مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ مِنْ زَلَّةِ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِنْ الشِّرْكِ , قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ " : ذِكْرُ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ وَفَجْأَةِ الْفَوَاتِ فِي عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلِالْتِذَاذِ وَالْكَسَلِ , وَذِكْرُ عَدَمِ الْإِقْلَاعِ لِلْقُنُوطِ خَوْفَ الْمَقْتِ كَأَنَّهُ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي كُلٍّ أَنْسَبُ بِهِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ الْعَكْسُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلْيَتَأَمَّلْ ا هـ . وَفِي التَّعْبِيرِ بِالرَّبِّ إشَارَةٌ إلَى مَزِيدِ قُدْرَتِهِ عَلَيْك , وَفِي قَوْلِنَا : يَشُدُّ , إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الْعَفْوِ وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ قَدْ تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الرَّبِّ , ( وَاذْكُرْ سِعَةَ رَحْمَتِهِ ) وَهِيَ سِعَةٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إلَّا هُوَ فَاسْتَحْضِرْهَا لِتَرْجِعَ عَنْ قُنُوطِك , وَكَيْفَ تَقْنَطُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ , وَلَيْسَ هَذَا تَخْصِيصًا عَلَى الذُّنُوبِ وَلَا مُسَاهَلَةً بِهَا بَلْ تَحْضِيضًا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عَقِبِ الذَّنْبِ وَتَقْوِيَةً لِلْحَثِّ عَلَى الرَّجَاءِ فِي عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ ( وَاعْرِضْ ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ عَرَضَ الثُّلَاثِيِّ ( عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى نَفْسِك .
************
الفهرس العام
(1/388)
?تعريف اليأس من القاموس ... 3
? ... أنواع اليأس : والياس نوعان : ... 3
1. ... اليأس المطلوب : ... 3
... 3
2. ... اليأس المحرم : ... 4
? ... وجوب التسليم لله تعالى بما يحدث في هذا الكون ... 7
? ... لماذا يصل الإنسان إلى اليأس ؟ ... 11
لماذا يهزم المسلمون ؟ ... 14
يهزم المسلمون لأسباب كثيرة : ... 14
? ... إما بسبب خطأ ارتكبوه أثناء المعركة ... 14
? ... إذا خالفوا سنة الله تعالى تخلى عنهم وأصابتهم الهزيمة مهما كان عددهم وعددهم ... 27
? ... أو الغرور بالعَدد أو العُدد كما حصل مع المسلمين في غزوة حنين حيث قال بعضهم لن نهزم من قوة: ... 44
? ... أو حب الدنيا وحطامها كما حدث مع المسلمين في معارك عدة : ... 47
? ... إصابة المسلمين بالوهن : ... 47
? ... كراهية الموت كما حدث مع بني إسرائيل : ... 56
? ... إيثار الفاني على الباقي : ... 59
? ... التثاقل إلى الأرض والرضا بالدون: ... 62
? ... تخليهم عن دينهم وتفرقهم وتماسك أعدائهم وقوتهم: ... 64
? ... التمحيص : ... 82
? ... عدم تحمله مصيبة ألمت به وذلك لضعف إيمانه بالله تعالى وقلة يقينه: ... 86
? ... تمني الموت ؟ ... 90
? ... تهديد الله للبشراليائسين نصره ... 96
? ... اليأس من إصلاح الناس : ... 97
علاج اليأس : ... 100
1. ... بالإيمان الكامل : ... 100
2. ... وجوب حسن الظن بالله تعالى : ... 101
3. ... وجوب التسليم لله بما يجري في هذا الكون سواء جرى وفق ما نحب أو وفق ما نكره : ... 111
4. ... الذي وقع فيه كل الخير : ... 120
5. ... لا بد من الرجاء والخوف : ... 124
6. ... العدالة في توزيع المواهب والطاقات والنعم بين الناس : ... 134
? ... يأس الكفار من رحمة الله : ... 150
? ... -الشعراء يحذرون من اليأس ... 152
وأخيرا فلا يجوز للمسلم أن ييأس أو يقنط من رحمة الله سبحانه وتعالى ... 156
رسالة حول البشائر بنصر الإسلام : ... 169
(1/389)