أثر تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن
للدكتور عبدالقادر بن ياسين الخطيب
الأستاذ المساعد بجامعة الأمير سلطان ـ قسم العلوم العامة
العام الدراسي 1426/1427هـ
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل القرآن برهانا ونوراً مبيناً، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فإن دين الإسلام دين الفطرة السوية، فهو يلبي حاجة الإنسان، ويوجه رغباته لما فيه خيره وسعادته، ومن متطلبات هذه الفطرة ودواعي عمارة الأرض اجتماعُ الناس، وهذا لا ينتظم دون أمن يخيم على المجتمع، واستقرار يضرب أطنابه في وطن ينعم بالسلام ويشيع التراحم بين أفراده ، وحينئذ يثمر العمل، ويعم الرخاء، وتزدهر الحضارة، فالأمن إذن فريضة دينية ومقصد شرعي؛ حيث حُصرت المقاصد الشرعية في حفظ الضرورات الخمس التي هي مصالح لا يستغني عنها المجتمع، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل ، والمقصود بحفظها : توفير البيئة المناسبة لشعور المجتمع بالأمن عليها، وحمايتها بكل وسيلة تمنع انتهاكها، سواء أكانت هذه الوسيلة ردعاً من جهة السلطة، أو بناء على قناعة ذاتية تمنع صاحبها من الاعتداء عليها .
وبما أن القرآن الكريم هو دستور الملة ومنبع الشريعة، فقد تضافرت نصوصه في الحث على نشر الأمن ، والتحذير من الإخلال به ، بأساليب مختلفة ومناسبات متعددة، وهذا يعني أنه ينبغي أن يكون للقائمين على تعليم القرآن الكريم دور واضح في الحفاظ على الأمن والاستقرار، من خلال عملهم في مدارس تحفيظ القرآن الكريم.(1/1)
ولقد حاولت أن أدلي بدلوي في بيان هذا الدور، والإسهام في تجلية الوسائل التي تعين على تحقيقه، فكان هذا البحث بعنوان : اثر تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن، ورأيت أن اللقاء الذي تقيمه الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض تحت عنوان : " الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والمجتمع " فرصة مناسبة لإلقاء الضوء على هذه القضية المهمة، إلى جانب أسباب أخرى منها:
ـ قناعتي بأهمية البحث العلمي في إيجاد الحلول المناسبة لكثير من قضايا الأمة في حاضرها ومستقبلها .
ـ أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع، وأن أفراد المجتمع مسئولون عن أمن مجتمعهم، كل حسب موقعه ومقدرته .
ـ أهمية تعليم القرآن الكريم في المحافظة على الأمن ، والتصدي لأسباب الجريمة والفساد والشر، من خلال مدارس تعليم القرآن الكريم، وما تحويه من إدارة وهيئة تدريس .
خطة البحث :في ضوء ما تقدم، تأتي خطة البحث على النحو التالي :
المقدمة وفيها : أهمية الموضوع ، وأسباب اختياره .
المبحث الأول : القرآن والأمن .
المطلب الأول: معنى القرآن وفضل تعليمه.
المطلب الثاني: معنى الأمن وأهميته .
المطلب الثالث: أسلوب القرآن في توجيهاته المحققة للأمن.
المبحث الثاني : دور مدارس تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن
المطلب الأول : دور الإدارة في حفظ الأمن .
…ـ حاجة المجتمع إلى مدارس تعليم القرآن .
…ـ اختيار المكان المناسب لحفظ القرآن الكريم
…ـ اختيار المعلّمين ، وإعدادهم ، والإشراف عليهم .
…ـ اختيار الطلاب المناسبين لتعلم القرآن، والإشراف عليهم .
…ـ إقامة الأنشطة التربوية المناسبة .
…ـ تفاعل مدارس تعليم القرآن الكريم مع أسر الطلاب .
…ـ تفاعل مدارس تعليم القرآن الكريم مع المجتمع.
المطلب الثاني : دور معلّم القرآن في حفظ الأمن .
ـ مكانة معلّم القرآن وحاجة المجتمع إليه.
ـ صفات معلّم القرآن .
ـ وسائل معلّم القرآن في حفظ الأمن .(1/2)
الخاتمة ، وأضمنها أهم النتائج والتوصيات.
ثبت المراجع .
المبحث الأول : القرآن والأمن
المطلب الأول:معنى القرآن، وفضل تعليمه :
معنى القرآن :
معنى القرآن في اللغة : ذهب بعض العلماء إلى أنه مشتق، وأنه مصدر قَرَأَ مهموز، زيدت فيه الألف والنون، وإذا حذف همزه فإنما ذلك للتخفيف، وذهب آخرون إلى أنه غير مشتق، وإنما هو علَم على كتاب الله، وهو ما ذهب إليه الشافعي وابن كثير وغيرهما (1) .
معنى القرآن في الاصطلاح : ذكر له العلماء تعريفات عدة، وأولاها عندي : هو عَلَم على كتاب الله تعالى ، المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المتعبد به ، المعجز، المنقول إلينا بالتواتر(2) .
واكتفى بعضهم بقوله : كلام الله تعالى، المنزَّل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المتعبد بتلاوته(3).
فضل تعليم القرآن الكريم :
__________
(1) ينظر : لسان العرب (1/128) ، المفردات في غريب القرآن (668) ، مناهل العرفان (1/15) .
(2) ينظر : مناهل العرفان (1/15) ، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص(15) .
(3) دراسات في علوم القرآن الكريم، د . فهد الرومي ص(21) .(1/3)
تعليم القرآن الكريم أشرف ما رغب فيه الراغبون، وخير ما سعى إليه الساعون، فقد كان من مهمات سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - أنه { قOكgكJدk=yèمƒ الْكِتَابَ spyJُ3دtù:$#ur } [البقرة : 129] ووصف بالخيرية من تعلّم القرآن ومن علَّمه، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(1) ، ولذلك نجد سلف الأمة يتسابقون إلى تعليمه، فهذا عبدالرحمن السلمي يقول بعد سماعه للحديث السابق : (( فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا )) فكان يعلّم القرآن من خلافة عثمان إلى إمرة الحجاج (2) ، ونص بعض العلماء على أن تعليم القرآن الكريم أفضل الأعمال ، ومن أفضل القربات(3) ، وقد أدرك علماؤنا الأجلاء أثر تعليم القرآن الكريم في النفوس ، فأوصوا بتعلمه منذ الصغر، يقول ابن خلدون : (( اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم )) (4) ، ذلك أن أهل القرآن هم الذين أنار الله بصائرهم فهدوا إلى الحق ، وامتزجت أفئدتهم بآياته وتعاليمه، فانقادت جوارحهم لطاعة الله تعالى، واطمأنت قلوبهم بذكره؛ فهم ـ بإذن الله ـ معصومون بأشرف كتاب من مضلات الفتن { فَمَنِ yىt7¨?$# هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ uعuچôمr& عَنْ "حچٍ2دŒ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } [طه : 123-124]، ويقول الله تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ رْüخ7-B (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (4739) (4/1919) كتاب فضائل القرآن ، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، من حديث عثمان بن عفان .
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (118) (1/324) قال شعيب الأرنؤوط : (( إسناده صحيح على شرط البخاري )) ، وينظر : فتح الباري (9/75) .
(3) ينظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/142) .
(4) مقدمة ابن خلدون (2/238) .(1/4)
مَنِ yىt7¨?$# ¼çmtR¨uqôتح' سُبُلَ السَّلَامِ Nكgم_حچ÷‚مƒur مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى 7ق¨uژإہ 5Oٹة)tGَ،-B (16) } [المائدة :15-16] أي : طرق النجاة والسلامة، ومناهج الاستقامة، وينجيهم به من المهالك ، ويوضح لهم أبين المسالك ، فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم به أنجب الأمور ، وينفي عنهم الضلالة ، ويرشدهم إلى أقوم حالةِ(1)، والقرآن يضفي على أهله الراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، والسلامة من القلق والهموم { الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ حچّ.ةخ/ اللَّهِ أَلَا حچٍ2ةخ/ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } [الرعد : 28] .
المطلب الثاني : معنى الأمن وأهميته
معنى الأمن :
معنى الأمن في اللغة : ضدُّ الخوف ونقيضه ، والأصلُ أن يُسْتَعْمَلَ في سُكُوِن القلب، والأَمانُ والأَمانةُ بمعنى (2) ، فالأمن يعني الطمأنينة والاستقرار وعدم الخوف، ويعني الصدق وعدم الخيانة، ولهذا قال ابن فارس: (( الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان : أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر: التصديق ))(3) .
ومعنى الأمن في الاصطلاح قريب من المعنى اللغوي، فقد عرفه المتقدمون بقولهم : هو عدم توقع مكروه في الزمان الآتي(4) ، وهذا فيه معنى الطمأنينة والاستقرار .
__________
(1) ينظر : تفسير ابن كثير (3/68) .
(2) ينظر : لسان العرب لابن منظور (13/21)، القاموس المحيط للفيروز آبادي(1/1518)، المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص(90) .
(3) المقاييس في اللغة لابن فارس (1/133) .
(4) التعريفات للجرجاني ص(55) ، وينظر : المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص(90) .(1/5)
أما المعاصرون فقد فصلوا في معنى الأمن، فتطرق بعضهم لأسبابه ووسائله، وبعضهم ذكر أقسامه(1) ، ومن تلك المعاني :
ـ إحساس بالطمأنينة التي يشعر بها الفرد سواء بسبب غياب الأخطار التي تهدد وجوده، أو نتيجة امتلاكه الوسائل الكفيلة بمواجهة تلك الأخطار حال ظهورها .
ـ الحالة التي تتوافر حين لا يقع في البلاد إخلال بالقانون، سواء كان هذا الإخلال جريمة يعاقب عليها، أو نشاطاً خطيراً يدعو إلى اتخاذ تدابير الوقاية؛ لمنع هذا النشاط من أن يتحول إلى جريمة (2) .
وبعد الاطلاع على كثير من معاني الأمن يمكنني القول : إن الأمن : هو شعور المجتمع وأفراده بالطمأنينة، والعيش بحياة طيبة، من خلال إجراءات كافية يمكن أن تزيل عنهم الأخطار، أيا كان شكلها وحجمها، حال ظهورها، ومن خلال اتخاذ تدابير واقية.
أهمية الأمن :
__________
(1) ينظر في هذه التعريفات : الأمن الجماعي الدولي لنشأت الهلالي ص(155) ، دور الأسرة في أمن المجتمع، د.إدريس حامد ص(421) .
(2) الجرائم الأخلاقية لتطبيقات بعض التقنيات الحيوية وانعكاساتها على أمن المجتمع، د. ضياء الدين محمد مطاوع ص(74) .(1/6)
للأمن أهمية عظيمة في حياة الفرد والمجتمع والأمة، فهو المرتكز والأساس لكل عوامل البناء والتنمية، وتحقيق النهضة الشاملة في جميع المجالات، ولهذا ذكره الله تعالى إلى جانب الغذاء، فقال ممتنا على أهل مكة : { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ NكgsYtB#uنur مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 4] بل قدمه على الغذاء ، فقال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ZpsYدB#uن Zp¨Zح³yJôـ-B يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ôNuچxےx6sù بِأَنْعُمِ اللَّهِ $ygs%¨sŒr'sù اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل : 112] فـ (( قدم الأمن على الطمأنينة؛ إذ لا تحصل الطمأنينة بدونه )) (1)، وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهمية الأمن، وأن المسلم متى ظفر به فقد ظفر بالدنيا كلها، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا )(2) ، ويعتبر الأمن مقصداً من مقاصد الشريعة، فقد حصر العلماء المقاصد الضرورية(3) في حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، ((ولقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضرورات الخمس))(4) ، والنصوص القرآنية توضح العلاقة الوثيقة بين
__________
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور (8/ 2406 ) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه رقم (2346) (4/574) كتاب الزهد،باب في التوكل على الله، وقال : (( هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية )) . وقال الألباني في جامع الصحيح رقم (6042) : ((حديث حسن)) .
(3) عرف الشاطبي الضرورات بأنها : (( ما لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع والخسران المبين )) . الموافقات للشاطبي (2/7) .
(4) المرجع نفسه (1/38) .(1/7)
الأمن وحفظ هذه الضرورات، وأن الاضطراب الأمني والخوف ناشئ عن الإخلال بحفظها.
ومما سبق تتبين لنا العلاقة القوية بين الأمن والإيمان، فإن المجتمع إذا آمن أمن ، وإذا أمن نمى ؛ فعاش أفراده مع الأمن حياة طيبة، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ (#ûqف،خ6ù=tƒ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ tbrك‰tGôg-B } [الأنعام : 82] ، وصرح الماوردي بأن صلاح الدنيا وانتظام أمرها بستة أشياء، منها (( أمنٌ عام ... تطمئن إليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، ويَسْكُن فيه البريء، ويأنس به الضعيف؛ فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة )) (1) .
أما إن اختل الأمن فستسود الفوضى، ويحل الخوف والاضطراب، وتتغير القيم والأخلاق، وتصبح الأرض مَسبَعة يأكل فيها القوي الضعيف، وتصبح مقدرات المجتمع بأيدي المجرمين، وتتوقف عجلة التنمية، ويهاجر الناس ورؤوس الأموال إلى مجتمعات أكثر أمناً، بل إن اختلال الأمن يؤثر في عبادات الناس التي هي الغاية من خلقهم(2) ، وهذه المفاسد الكثيرة لاختلال الأمن هي التي جعلت بعض العلماء يقول: (( جَور ستين سنة خير من هرْج سنة )) قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا: ((والتجربة تبين ذلك )) (3)، ولهذا وجب على الجميع المحافظة على الأمن والاستقرار، ومدارس تعليم القرآن الكريم معنية بالدرجة الأولى بالقيام بهذا الدور، وجعل ذلك جزءا من برنامجها التربوي ورسالتها التوجيهية .
أنواع الأمن :
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص(111 ـ 119) .
(2) ولهذا نجد أن صلاة الخوف تختلف عن الصلاة في حالة الأمن، وكذا الطهارة، ويسقط استقبال القبلة، والحج؛ لأن أمن الطريق من شروط وجوبه .
(3) مجموع الفتاوى (28/391) .(1/8)
ينقسم الأمن باعتبارات عدة(1)، نشير إلى ما يناسب منها طبيعة بحثنا، وذلك فيما يأتي:
التقسيم الأول : أقسام الأمن باعتبار الفرد والجماعة ، وهو بهذا الاعتبار قسمان :
القسم الأول : الأمن الفردي ، وهو تحقيق الطمأنينة للفرد، باعتباره إنساناً، وذلك بسلامته من كل خطر يهدد حياته وحاجاتها .
…القسم الثاني : الأمن الجماعي ، وهو أمن الأمة كلها، وذلك بتحقيق الحماية لحقوقها العامة ومصالحها الجماعية، المتمثلة في وحدتها الدينية والاجتماعية والفكرية .
وفي الحقيقة فإن الأمن الفردي والأمن الجماعي متداخلان، فأمن الفرد هو أمن الجماعة، وما يفسد على الفرد أمنه يمكن أن يفسد أمن الجماعة (2) .
التقسيم الثاني : تقسيم الأمن باعتبار المآل ، وهو بهذا الاعتبار قسمان :
…القسم الأول : الأمن الدنيوي ، وهو حصول الإنسان على ضرورات الحياة وحاجياتها وتحسينياتها، وشعوره بالاطمئنان من الاعتداء عليها .
…القسم الثاني : الأمن الأخروي ، وهو الأمن التام الذي لا خوف معه، وهذا يحصل لعباد الله الذين التزموا بمنهج الله ، وعبدوا الله وحده لا شريك له، قال تعالى : { $ydqè=نzôٹ$# بِسَلَامٍ آَمِنِينَ } [الحجر :46 ] ومن عمل بأسباب هذا الأمن ، يسر الله له أسباب الأمن الدنيوي (3) .
المطلب الثالث : أسلوب القرآن الكريم في توجيهاته المحققة للأمن :
__________
(1) فهناك تقسيم للأمن باعتباره داخلياً وخارجياً ، وتقسيم للأمن باعتبار جوانب الحياة المختلفة الفكرية والاقتصادية والغذائية إلخ .
(2) ينظر : الأمن مسؤولية الجميع ، د . الزهراني ص(919) .
(3) ينظر : دور الأسرة في أمن المجتمع، د. إدريس حامد ص(431 ـ 432) .(1/9)
تضافرت النصوص القرآنية في التأكيد على أهمية الأمن ، وضرورته للفرد والمجتمع ، وأبانت الأسباب المحققة للأمن في الدنيا والآخرة ، وحذرت مما يوقع في الخوف والاضطراب، باسأليب مختلفة، منها أساليب مباشرة، وأساليب غير مباشرة ، نشير إلى بعضها فيما يأتي :
أولاً ـ ذكر الله تعالى قاعدتين مهمتين في تحقق الأمن وإرسائه في الدنيا والآخرة، وهما : الإيمان بالله والعمل الصالح ، وجعل الأمن جزاءً لأهل الإيمان والعمل الصالح، وذلك في نصوص قرآنية كريمة منها :
1 ـ قوله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ (#ûqف،خ6ù=tƒ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ tbrك‰tGôg-B } [الأنعام : 82]، وهذا يشمل الأمن الدنيوي والأخروي ، وقوله تعالى : { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا î$ِqyz عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ ڑcqçRu"ّts† (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ 3"uچô±ç6ّ9$# فِي دo4quysّ9$# الدُّنْيَا وَفِي دouچ½zFy$# } [يونس : 62 ـ 64].
2 ـ قال تعالى في الأمن الدنيوي : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا دM"ysد="¢ء9$# َOكg¨Zxےد=ّـtGَ،uٹs9 فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ ِNخgد=ِ6s% وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا سة_tRrك‰ç6÷ètƒ لَا يُشْرِكُونَ 'د1 $Z"ّx© } [النور : 55] .
3 ـ وقال في الأمن الأخروي: { مَنْ جَاءَ دpsY|،ysّ9$$خ/ فَلَهُ ضژِچyz مِنْهَا وَهُمْ مِنْ 8يu"sù يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ } [النمل : 89]، وقال تعالى: { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ يژِچyz أَمْ مَنْ 'دAù'tƒ آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [فصلت : 40] ، والمراد أن (( مصيره الجنة؛ إذ لا غاية للآمن إلا أنه في نعيم )) (1) .
__________
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور (1/3825) .(1/10)
ثانياً ـ الامتنان على الناس بالأمن، تنبيها لهم إلى أنه نعمة كبرى تستحق الشكر والمحافظة، وذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، منها :
1 ـ أن الله امتن على أهل مكة بإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، ويتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف (1) ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ (#÷ruچtƒ أَنَّا جَعَلْنَا $·Buچxm آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ ِNخgد9ِqxm } [العنكبوت : 67] .
2 ـ وامتن على قريش بنعمة الاستقرار الأمني والرخاء الاقتصادي ، وذلك (( ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم؛ لعظمتهم عند الناس؛ لكونهم سكان حرم الله، فمن عرفهم احترمهم، بل من صُوفي إليهم(2) وسار معهم أمن بهم، وهذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم ))(3) ، قال تعالى: { لِإِيلَافِ C·÷ƒuچè% (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ } [قريش : 1 ـ 2] ، ووجههم إلى كيفية المحافظة على هذه النعمة، فقال: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا دMّٹt7ّ9$# (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ NكgsYtB#uنur مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 3 ـ 4] .
ثالثا ـ جعل الخوف وزوال الأمن عقوبة إلهية للمجتمعات الفاسدة التي لم تسلك السبل الحقيقية للأمن ، وذلك في أمثلة وقصص تضمنها كتاب الله ، من ذلك :
__________
(1) ينظر : تفسير ابن كثير (6/247 ، 295) .
(2) صوفي إليهم : أي كانت له علاقة حسنة بقريش، وَصَفَت المودة بينهم، يقال : الصَّفِيُّ : المُصافي، وصافى الرَّجلَ : صَدَقه الإخاء .
ينظر : لسان العرب (14/462) ، مختار الصحاح ص(375) .
(3) تفسير ابن كثير (8/491) .(1/11)
1ـ قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ZpsYدB#uن Zp¨Zح³yJôـ-B يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ôNuچxےx6sù بِأَنْعُمِ اللَّهِ $ygs%¨sŒr'sù اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل : 112] قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا دMّٹt7ّ9$# (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ NكgsYtB#uنur مِنْ خَوْفٍ } [قريش : 3 ـ 4] : (( ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ZpsYدB#uن Zp¨Zح³yJôـ-B يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ôNuچxےx6sù بِأَنْعُمِ اللَّهِ $ygs%¨sŒr'sù اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل : 112] )) (1).
2 ـ قوله تعالى في قصة سبأ : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) (#qàتuچôمr'sù فَأَرْسَلْنَا ِNخkِژn=tم سَيْلَ اPحچyèّ9$# Nكg"sYّ9£‰t/ur ِNخkِژoK¨Zpg؟2 جَنَّتَيْنِ َ'sA#ursŒ أُكُلٍ خَمْطٍ 5@ّOr&ur وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ 5@ٹد=s% } [ سبأ : 15 ـ 16] ، ثم قال تعالى : { y7د9¨sŒ Nكg"sY÷ƒu"y_ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ ü"ح""pgéU إِلَّا الْكَفُورَ } [سبأ : 17] وقال بعدها : { إِنَّ فِي y7د9¨sŒ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [سبأ : 19] (( أي إن في هذا الذي حلّ بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة، وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم )) (2).
__________
(1) المرجع نفسه (8/492)
(2) المرجع نفسه (6/512) .(1/12)
رابعاً ـ عالج القرآن الكريم الجريمة ومقدماتها، وقد سلك في ذلك منهجي العلاج المعروفين :
1 ـ العلاج الوقائي من الجريمة، وهو إيجاد عوامل منع وقوع الجريمة .
2 ـ علاج الجريمة بعد وقوعها .
فجريمة الزنا مثلا، سلك القرآن الكريم فيها العلاج الوقائي أولاً ، فحرم النظر إلى العورات، وذلك في قوله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ ôMدdحچ"|ءِ/r& وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ y7د9¨sŒ أَزْكَى لَهُمْ } [ النور : 30 ] ، وقال تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ £`دdحچ"|ءِ/r& z`ّàxےّts†ur فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا uچygsك مِنْهَا } [ النور : 31] ، وقال : { وَلَا (#qç/uچّ)s? #'oTحh"9$# إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } [ الإسراء : 32] ، وعالج تلك الجريمة بعد وقوعها بإيجاب الحد على فاعلها ، فقال تعالى : { الزَّانِيَةُ 'دT#¨"9$#ur (#rà$ح#ô_$$sù كُلَّ 7‰دn¨ur مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور : 2] (1) ، وتنفيذ أحكام الله وحدوده الشرعية بين الناس من الوسائل العظيمة لتحقيق الأمن والحياة المستقرة، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ ×o4quٹxm يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 179] فكان في شرع القصاص حياة للناس؛ لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل، امتنع عن جريمته، فكان في ذلك حياة للنفوس (2) .
خامساً ـ تربية الأمة على تحقيق الأمن والبعد عما يخل به، وذلك عن طريق العمل والممارسة، في أوقات محددة وأماكن مخصصة، فمن تعود الأمن فيها فسيقوده إلى المحافظة على الأمن في غيرها ، وذلك فيما يأتي :
__________
(1) ينظر : علاج القرآن الكريم للجريمة ، د . عبدالله الشنقيطي ص(ب) .
(2) ينظر : تفسير ابن كثير (1/491) .(1/13)
1 ـ حرم ابتداء القتال في الأشهر الحرم،كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا uچ÷kO9$# tP#uچutù:$# } [المائدة : 2] (( يعني لا تستحلوا القتال فيه )) (1).
2 ـ منع المحرم من إيذاء الناس والطير والدواب والنبات وقتل الصيد، فقال تعالى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [المائدة 95] .
3 ـ جعل الحرم أمناً للناس، يأمن الخائف إذا دخله(2) ، فقال تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } [البقرة : 125]، وقال: { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا } [آل عمران : 97] وهذه الأساليب القرآنية المحققة للأمن يمكن لإدارة مدارس تعليم القرآن ولمعلّميها الإفادة منها ، كما سيأتي تفصيله(3) .
المبحث الثاني
دور مدارس تعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن
تمهيد في حاجة المجتمع إلى مدارس تعليم القرآن الكريم :
مدارس تعليم القرآن الكريم هي الأماكن التي يتلقى فيها المسلمون كلام الله تعالى تلاوة وحفظاً وتجويداً، سواء أكان ذلك في المسجد أو في مدارس أو معاهد أوكليات قرآنية(4) ، وقد سبق بيان فضل تعليم القرآن الكريم، ونشير هنا إلى حاجة المجتمع إلى مدارس تعليمه؛ فهذه المدارس تسعى إلى تنشئة أبناء المجتمع الإسلامي تنشئة صالحة(5)
__________
(1) هذا تفسير ابن عباس لقوله تعالى : ( ولا الشهر الحرام ) ، ينظر : المرجع نفسه (2/9) .
(2) ينظر : المرجع نفسه (1/412) .
(3) ينظر : ص (22) من البحث .
(4) ينظر : الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ـ أهدافها ص(20) .
(5) فإن من أهداف الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم :
ـ تربية النشء (بنين وبنات) للتأدب بأخلاق القرآن.
ـ المساهمة في بناء الفكر والمعتقد السليم النابع من كتاب الله عز وجل لدى الشباب وتحصينهم من الانحرافات الفكرية والعقدية . ينظر : ص(6) من حصاد السنابل ، لعام 1426هـ .(1/14)
، من خلال تظافر جهود إدارتها ومدرسيها لترسيخ قيم وتعاليم الإسلام في نفوس متعلمي القرآن الكريم، بهدف إيجاد مواطن صالح يمكن أن يسهم في تنمية وتطوير مجتمعه وفي تحقيق أمنه (( فلو أن شباب الأمة اعتصم بهذا الكتاب الكريم، وأعطاه حقه وحظه من العناية والتدبر والدرس، لما رأينا ما انحدر إليه حال بعضهم من فساد في التصور، وخطأ في الفهم ، فأورثهم ذلك ما أورثهم من الانحراف عن منهج الله القويم ، وهم إنما أتوا من قلة البصر بهذا الكتاب، وضعف التهدي به )) (1)، ومن جهة أخرى فإن اجتماع الطالب مع زملائه في تلك المدارس والتعلّم معهم يعتبر وسيلة تربوية لإقباله وحبه للدرس القرآني، ويساعده ذلك على سرعة الحفظ وزيادة كميته نتيجة لرؤيته لأقرانه وهم يقومون بأوجه نشاط مماثلة أو سماع أصواتهم عند القراءة، فالتعليم الجماعي أنفع للطلاب من التعليم الفردي في المنزل ؛ لأن الجماعية والمصاحَبة في التعليم تؤدي إلى التكامل الاجتماعي والتآزر السلوكي بين الطلاب، وهم بحاجة إلى ذلك، ومدارس تعليم القرآن الكريم تشبع هذه الرغبة المركوزة في نفوسهم (2) ، وإذا عاش الطالب مع القرآن أصبح سليم الصدر ، مهذب الأخلاق ، مطمئن النفس ، قريباً من الله تعالى، وانعدم فيه الاضطراب والقلق والانحراف، وأصبح رفيقاً محسناً في تعامله مع الناس ، ويعظم ذلك إذا كان الطلاب يتعلمون القرآن في المسجد، فإنه المكان الذي تهنأ في رحابه القلوب، وتجد فيه الخلاص مما يساورها من قلق، والنجاة مما تشعر به من خوف؛ إذ تتلى فيه آيات القرآن الكريم، ويسمع في أنحائه كل ما يطهر القلوب،
__________
(1) من كملة معالي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة ، رئيس المجلس الأعلى للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ـ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، التقرير السنوي للجمعية "حصاد السنابل" للعام 1426هـ ص(6) .
(2) ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية ، د . الزهراني ص(245 ، 351) .(1/15)
ويصفي النفوس، وينقي الأفكار والأذهان ، وكلما ازداد تردد الطلاب على المسجد ازداد تعلقهم به، وقربهم من خالقهم، فارتقوا نحو مرضاته، ومحاسبة نفوسهم، وابتعدوا عن النوازع العدوانية، والدوافع الإجرامية، إن آيات القرآن التي تتردد على مسامع الطلاب في المسجد تمثل دستوراً تربوياً يقيهم شرور المخاطر والانزلاقات الفكرية والانحرافات العقدية، ويحفظهم من الانسياق وراء الإغراءات الوافدة، والنزعات الفكرية المضللة(1) .
ومما يؤكد الحاجة إلى مدارس تعليم القرآن الكريم إنها تجمع فئات المجتمع على اختلاف أعمارهم، وبخاصة مرحلة الطفولة والمراهقة، فإذا وجدوا التوجيه السليم نشأوا نشأة طيبة يجني ثمارها المجتمع الذي يعيشون فيه .
ولمدارس تعليم القرآن دور بارز في تحقيق الأمن ، وذلك من خلال إدارة تلك المدارس والمعلّمين العاملين فيها، ولبيان ذلك الدور أبدأ أولاً ببيان دور الإدارة ، وأثني بعد ذلك بدور المعلّم ، وذلك على النحو التالي :
المطلب الأول : دور الإدارة في حفظ الأمن :
للإدارة دور رئيس في قيام مدرسة تعليم القرآن بدورها وتحقيق أهدافها، ويمكن إيضاح هذا الدور من خلال النقاط التالية :
1 ـ اختيار المكان المناسب لحفظ القرآن الكريم : يعتبر اختيار المكان المناسب لحفظ القرآن الكريم وتهيئته من الوسائل التربوية المعينة على التعليم والإفادة منه والاستمرار فيه، وعلى الإدارة أن تحرص على ذلك ، من خلال أمور كثيرة، منها :
ـ توفير الأثاث الجيد والإنارة الكافية والتهوية المناسبة لمكان تعليم القرآن .
ـ المحافظة على نظافة مكان تعليم القرآن الكريم .
ـ توفير الوسائل التعليمية المناسبة للاستعانة بها في تعليم القرآن وبيان أهدافه، وتوجيه انتباه الطلاب إليها .
__________
(1) ينظر : دور المسجد في تحقيق مفهوم الأمن الاجتماعي، د. عبدالكريم العمري ص (192 ، 199) .(1/16)
ـ وضع لوحات ذات أهداف تربوية وتوجيهات سلوكية مناسبة، منطلقة من نصوص القرآن الكريم ومعانيها (1) .
والمكان الأنسب لتعلم القرآن الكريم هو المسجد، وبخاصة إذا توفرت فيه الأمور السابقة (2) ، وقد تقدمت فوائد دراسة الطلاب في المساجد .
2 ـ اختيار معلّمي القرآن الكريم، وإعدادهم ، والإشراف عليهم :
يظن البعض أن عملية تعليم القرآن الكريم يستطيعها كل أحد، وربما يبرر قوله هذا بما يشاهده في الواقع من أن كثيراً من معلمي القرآن الكريم في المساجد وفي غيرها قد لا يحملون مؤهلات تربوية، ومع اتفاقنا مع من يقول بوجود هذه الظاهرة ، إلا أننا نرى أنها ظاهرة غير صحية ينبغي علاجها، من خلال رفع المستوى العلمي والتربوي المطلوب في المعلمين ، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الصوارف ، واتسعت ثقافة الطلاب، وتنوعت مصادر التأثير، واختلف الوسط التربوي(3) ، ومن هنا فإن مهمة مدارس تعليم القرآن لم تعد مجرد تحفيظ القرآن وغرس المعلومات فحسب، بل جعلت أولى مهماتها وأهدافها غرس القيم الإسلامية في نفوس الطلاب، وتربيتهم على العمل بها، و (( المساهمة في بناء الفكر والمعتقد السليم النابع من كتاب الله عز وجل لدى الشباب وتحصينهم من الانحرافات الفكرية والعقدية )) (4) ، من أجل تكوين المواطن الصالح وتحصين أفراد المجتمع؛ لضمان التزامهم بقيم وضوابط القرآن الكريم السمحة وتشريعاته العظيمة التي كفلت الأمن والسعادة للإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذا دور كبير يحتاج إلى مدرسين أكفاء، وإعدادهم إعداداً جيداً (5)
__________
(1) ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د .الزهراني ص(274) .
(2) ينظر : ص (13) من البحث .
(3) ينظر : المرجع نفسه ص (15) .
(4) هذا هدف من أهداف الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض . ينظر : التقرير السنوي للجمعية "حصاد السنابل" للعام 1426هـ ص(6) .
(5) سيأتي الحديث بالتفصيل عن المعلم وصفاته ، ص(19 ـ 21) من البحث .(1/17)
، وتطوير أساليبهم في التدريس من خلال إطلاعهم على ما توصل إليه علماء التربية في طرق التدريس ، والأساليب الناجحة في التعامل مع طلابهم ، وتعريفهم بحاجات الطلاب والمشاكل التي تواجههم في مراحل العمر المختلفة ، وكيفية تلبية ما يمكن تلبيته من تلك الحاجات، وإيجاد الحلول لما يواجههم من مشكلات(1) بحيث يكون المعلّم ((أحسن تعليماً، وأجود تفهماً)) (2) ، ويساعد الإدارة على تحقيق ذلك وجودُ مشرف تربوي يحمل مواصفات تمكنه من القيام بمهمته على الوجه الأكمل(3) ، وقد تحتاج الإدارة إلى إقامة دورات تربوية للمدرسين تهدف إلى رفع مستواهم في الأمور السابقة وفي غيرها مما ترى أنه يسهم في أداء دورهم المنشود .
3 ـ اختيار الطلاب المناسبين لتعلم القرآن الكريم :
__________
(1) فقد بحث المتخصصون : مهارات التدريس في الحلقات ، والمهارات التربوية في الحلقات .
ينظر: مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د. الزهراني ص(15، 120، 206) ، المدارس والكتاتيب القرآنية ص(79 ، 101 ،123، 133) .
(2) أدب الدنيا والدين للماوردي (109) .
(3) ينظر في مقومات شخصية المشرف التربوي في مؤسسات تعليم القرآن الكريم ، ومهامه ، وأساليبه ، وعلاقته بالقائمين على العملية التعليمية في مؤسسات تعليم القرآن الكريم : المدارس والكتاتيب القرآنية ص(125 ـ 126) ، وراجع : الإدارة التعليمية والمدرسية، د . محمد آل ناجي ص(316) .(1/18)
لكي تؤدي مدارس تعليم القرآن الكريم دورها لابد أن تهتم بنوعية طلابها ، بحيث لا تسمح بأن ينضم إليها طلاب معروفون بسوء الأدب أو بالإهمال والتقصير، وبعد اختيار الطلاب يجب على الإدارة متابعتهم متابعة مستمرة ؛ لتعالج ما يصدر عن بعضهم من أخطاء ، سواء داخل الحلقة أو خارجها، وذلك من خلال نصحهم وتوجيههم ، أو بحرمانهم من التشجيع ، أو بتوبيخهم وزجرهم(1) ، لأن المقصود تعليمهم وتربيتهم ، والإنسان مفطور على التأثر والتأثير بمن يصاحبه ، ومن أشد ما يتأثر به الإنسان الصحبة، وبخاصة في سن المراهقة، حيث تتكون شخصيته في هذه السن، ويبدأ في البحث عن هويته الشخصية ، ويكون عنده الاستعداد للصداقة، والبحث عن صاحب يكتسب منه تجارب الحياة، فإذا كان هذا الصديق سيئ الخلق والسلوك اكتسب منه السلوك السيئ ، ويظل ينمو معه هذا السلوك كلما كبر ، حتى يصبح الإجرام طبعاً من طباعه ، والانحراف عادة متأصلة من عاداته، ويصعب بعد ذلك رده إلى الجادة المستقيمة، فيكون وبالاً على نفسه وأهله ومجتمعه(2) ، وقد تمثل هذا بمثل ضربه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال : ( مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة ) (3) ، فالصحبة الصالحة تنتج إنساناً صالحاً في دينه وخلقه،
__________
(1) ينظر في موضوع التأديب في حلقات تحفيظ القرآن الكريم : المدارس والكتاتيب القرآنية ص(101) وما بعدها ، مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د. الزهراني ص(306) وما بعدها .
(2) ينظر : أدب الصحبة للإمام عبدالرحمن السلمي ص(41) ، المسؤولية الأمنية ودور المؤسسات التعليمية في تحقيقها، د. محمد الصايم عثمان ورفيقه ص(1149) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5214) ( 5/2104) كتاب الذبائح والصيد ، باب المسك، من حديث أبي موسى الأشعري.(1/19)
والصحبة السيئة تنتج إنساناً عاريا عن الخلق والدين، غير صالح للمجتمع، بل هو بمثابة الفيروس الذي يقضي على المجتمع الذي هو فيه .
فِإن لم تُجد مع الطالب الإجراءات التأديبية السابقة، أوقف عن حضور الدرس، إلا إذا تراجع عن سلوكياته الخاطئة، وتعهد بذلك، فإن أصر على أخطائه فإنه يفصل نهائياً(1) .
4 ـ إقامة الأنشطة التربوية المناسبة:
المراد بالأنشطة هنا : ما يمكن أن تقوم به مدارس تعليم القرآن الكريم من فعاليات علمية وعملية مصاحبة لعملية تعليم القرآن الكريم للرقي بالجوانب الإيمانية والتربوية والإدارية لدى الطلاب ومحيطهم، بهدف تنمية خبراتهم وتحقيق رغباتهم وحاجاتهم(2). ويعد النشاط التربوي المناسب لمدارس تعليم القرآن الكريم من الوسائل التربوية التي تعين في إعداد الطلاب وتربيتهم، وإبراز مهاراتهم ، وتقوية ملكاتهم، واكتشاف قدراتهم ومواهبهم وتوجيهها إلى الأفضل ، وهو بهذا يكون مكملاً للمفاهيم التي يقرؤها الطالب في القرآن، وحافزاً له على الحفظ والمراجعة، ومرغبا له في الذهاب إلى الدرس دون انقطاع ، وبذل مزيد من الجهد حتى لا يحرم من النشاط التربوي إذا استخدم كحافز تربوي بما يدخله على الطلاب من السرور ونزع الرتابة والسأم من نفوسهم(3) ، وعدم وجود هذه الأنشطة ربما دفع الطالب إلى محاولة تلبية حاجاته وميوله عن طريق معرفته الشخصية بعيداً عن توجيه الإدارة أو المعلّم ، مما يجعله عرضة للوقوع في الانحراف والخطأ (4)
__________
(1) ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د. الزهراني ص(316) .
(2) ينظر : النشاط الطلابي لفيصل القرشي ص(14) ، المدارس والكتاتيب القرآنية ص(161).
(3) ينظر: مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د.الزهراني ص (326)، النشاط الطلابي لفيصل القرشي ص(15).
(4) وهناك دراسة مستفيضة أبانت أهمية الأنشطة الطلابية في وقاية الشباب من الانحرافات الفكرية والسلوكية ، بعنوان : دور الأنشطة الطلابية في وقاية الشباب من الانحراف، د. عبدالله بن ناصر السدحان، مركز البحوث الأمنية، مركز البحوث والدراسات بكلية الملك فهد الأمنية، المجلد العاشر، العدد 19، شعبان 1422هـ ، ص(215) .(1/20)
، ولا بد من التركيز على الأنشطة التي تنمي في الطلاب الوعي الأمني (1) ، فالطالب ـ مثلاً ـ إذا أصبح أميناً على صندوق رفاقه، سيعوّده هذا العمل على أن يصبح أميناً، ويصبح الطلاب متعاونين متحابين إذا حققوا التعاون والانسجام والتحابب في رحلة مشتركة (2) ، وتنمية روح المشاركة يولد لدى الفرد سلوكاً اجتماعياً مرغوباً فيه، وهو ضرورة اجتماعية وأمنية لإنجاح خطط الوقاية من الجريمة وزيادة فاعليتها ، كما يمكن تزويد الناشئة والمراهقين بالمهارات التي تساعدهم على الوقاية من الانحراف، مثل : مهارة تحديد الأهداف الخيّرة في الحياة، ومهارة تحمل المسؤولية، وكيف يكوّن الصداقات السليمة، وكيف يتخذ القرار السليم(3) .
وينبغي أن تتنوع الأنشطة فتكون تعبدية (4) وثقافية(5) واجتماعية(6) ورياضية(7) ، بحيث يستفيد منها الطلاب وأسرهم ومجتمعهم(8)
__________
(1) الوعي الأمني : هو إدراك الفرد لذاته وإدراكه للظروف الأمنية المحيطة به، وتكوين اتجاه عقلي إيجابي نحو الموضوعات الأمنية العامة للمجتمع. أهمية المؤسسات التعليمية في تنمية الوعي الأمني، د. بركه الحواشان ص(124).
(2) ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د. الزهراني ص (327) .
(3) ينظر : أهمية المؤسسات التعليمية في تنمية الوعي الأمني، د. بركه الحوشان ص (125 ، 130)
(4) كتشجيع من يستطيع من الطلبة على صيام يومي الاثنين والخميس، وإعداد إفطار لمن صام منهم ، والمحافظة على الأذكار .
(5) كالمسابقات ، والمحاضرات والدروس .
(6) كالرحلات والزيارات ، والمشاركة في الحفل الختامي السنوي .
(7) كإقامة المنافسات الرياضية ، مثل السباحة والكرة بأنواعها .
(8) ينظر : المدارس والكتاتيب القرآنية ص(163 ـ 197) .
وقد كان للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض نشاطات كثيرة ومتنوعة، أفاد منها طلاب مدارس تعليم القرآن الكريم . ينظر مثلا : تقريرها السنوي لعام 1417/1418هـ ، التقرير السنوي للجمعية "حصاد السنابل" للعام 1426هـ.(1/21)
، فلا بد ـ إذن ـ من التفاعل بين مدارس تعليم القرآن الكريم وأسر طلابها ومجتمعهم ، وهذا ما سنتناوله في النقطتين التاليتين .
5 ـ تفاعل مدارس تعليم القرآن الكريم مع أسر الطلاب :
الأسرة(1) هي المحضن الأول للإنسان فيها يولد، وفيها ينشأ ويترعرع، وفيها يتعلم المُثل والقيم والمبادئ، ولهذا كان لها دور مهم في حفظ الأمن والاستقرار، دور تربوي وتوعوي ووقائي؛ إذ هي التي تغرس في أفرادها ما يحقق الأمن الاجتماعي من احترام لحقوق الآخرين وحفظها وعدم الاعتداء عليها، وإذا أساءت الأسرة في تربية أفرادها، قدّمت للمجتمع ما يزعزع أمنه ويخل بطمأنينته، فهي حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع المحلي(2) ، ولهذا لابد من التعاون بين مدارس تعليم القرآن الكريم وأسر الطلاب؛ ليكمّل بعضهم بعضاً في الأدوار المناطة بهم في تحقيق الأمن والاستقرار ، ومن هنا يجب إطلاع الأسرة على حال أبنائها، ووقوفها على سلوكياتهم، سواء كانت إيجابية أو سلبية ، ولابد أيضاً من تنمية التواصل غير المباشر، من خلال ملاحظة دفتر متابعة الطلاب، ويوقع ولي الأمر في الخانة المخصصة، وهذا يجعله على علم بمستوى ابنه .
__________
(1) الأسرة : هي الوالدان والأخوة الكبار، والجد والجدة ، وغيرهم من الأقارب ممن يعيشون في مكان واحد، لهم سلطة على الأبناء، ويمكن أن يقوموا بدور الوالدين في تربية وتوجيه ورعاية الأبناء .
دور الأسرة في أمن المجتمع، د. محمد عفيفي ص(330) .
(2) ينظر : الأمن مسؤولية الجميع، د. هاشم الزهراني ص(930) ، بناء الأجيال، د . عبدالكريم بكار ص(208) .(1/22)
كما يمكن إشراك أسر الطلاب في بعض الأنشطة العلمية والتربوية التي تقيمها مدارس تعليم القرآن الكريم، كدعوة أفراد الأسرة لحضور المحاضرات والدروس العامة، وإشراكهم في بعض المسابقات، وتوزيع الكتب النافعة، وبخاصة التي تشجع الأسرة على القيام بواجباتها في تربية أبنائها تربية إيمانية؛ لتكون مؤسسة إيمانية وحصناً تربوياً منيعاً، يتم فيه إعداد أفرادها على التحلي بالاستقامة الفاضلة والسلامة من الزيغ والانحرافات، كي يعم الوئام والتعاطف والتراحم جميع أفراد الأسرة، وبذلك يتحقق لها الأمن الأُسري، والأسرة إن حققت الأمن بين أفرادها فقد حققت الأمن في المجتمع(1) .
6 ـ تفاعل مدارس تعليم القرآن الكريم مع المجتمع :
كما أن للفرد والأسرة دوراً هاماً في حفظ الأمن والاستقرار ، فإن للمجتمع دورا فاعلا في تحقيق الأمن كذلك؛ لأنه مسؤول عن الفرد وعن تصرفاته، ويعتبر الرقيب عليه، قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ôMy_حچ÷zé& لِلنَّاسِ tbrقگكDù's? بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ حچx6ZكJّ9$# وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران : 110] فالمنهج الإسلامي يوقظ في المجتمع استشعار أهمية المسؤولية الاجتماعية التي تحقق للمجتمع أمنه وأخلاقه(2) .
ولهذا ينبغي على مدارس تعليم القرآن الكريم أن تتعاون مع المجتمع المحيط بها، وتسهم في المحافظة على طهره؛ بالسعي إلى نشر الأخلاق الفاضلة بين أفراده، وتحذيرهم من إشاعة الأخلاق الذميمة فيه، من خلال التالي :
1 ـ دعوة أبناء المجتمع إلى حفظ كتاب الله وترغيبهم في ذلك، لما عُلم من أثره الفاعل في تحقيق الأمن ، كما سبق(3) .
__________
(1) ينظر : الشريعة الإسلامية ودورها في تعزيز الأمن الفكري، د. عبدالرحمن السديس ص(34) ، بناء الأجيال، د.عبدالكريم بكار ص(208) .
(2) ينظر : الأمن مسؤولية الجميع، د . اشم الزهراني (932) .
(3) ينظر : ص (3 ـ 4 ، 12) من البحث .(1/23)
2 ـ دعوة جميع أفراد المجتمع إلى تلاوة القرآن الكريم ، وحفظ ما تيسر لهم منه، وامتثاله في حياتهم، فإن في الحياة مع القرآن الكريم سعادة عظيمة ، وتهذيباً للأخلاق وسلامة للصدر ، وطمأنينة للنفس .
3 ـ إشراك جميع أفراد المجتمع فيما يناسبهم من الأنشطة التي تقيمها مؤسسات تعليم القرآن الكريم التي سبق ذكرها، مثل المحاضرات والدروس العامة والمسابقات، بحيث تسلط الضوء على أهمية التربية الحسنة ، وتنمية الوازع الديني في النفوس، والتعاون والتحابب والتوادد والعدل والإصلاح وحسن الجوار ، كما ينبغي أن لا تغفل هذه الأنشطة علاج المجتمع من الأمراض التي تفتت وحدته، مثل الحسد والنفاق والغيبة والنميمة والرشوة وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل ، وهذا سيسهم بلا شك في أن يعيش المجتمع حياة هانئة مطمئنة ، وهو من أهم الضمانات اللازمة لاستمرار الأمن والاستقرار في البلاد .
المطلب الثاني : دور معلّم القرآن في حفظ الأمن
مكانة معلّم القرآن وحاجة المجتمع إليه :
سبق بيان أهمية تعليم القرآن الكريم وحاجة المجتمع إليه، ودور مدارس تعليمه في تحقيق الأمن والاستقرار، ومن خلالها تتبين أهمية معلّم القرآن الكريم، ودوره الكبير في تحقيق الأمن، فهو ركيزتها الأولى في عملية التربية والتعليم (1) ، ويمكن إبراز مكانة معلّم القرآن الكريم في النقاط التالية :
__________
(1) راجع لمعرفة أهمية المعلم في العملية التربوية: المعلم أمة في واحد، لإيرل بولياس،وجميس يونغ،تعريب: إيلي واريل.(1/24)
1 ـ أن تلاوة القرآن ينبغي سماعها شفاها، وتتلقى من معلّم متقن، سمع من غيره، فقد تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن عن جبريل مشافهة، ثم تلقاه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك، ثم وصلنا بهذه الطريقة ، ولا يمكن تعلّم القرآن الكريم إلا بهذه الطريقة، فقد اشتهر عن السلف قولهم : (( لا تأخذ العلم من صُحفي، ولا القرآن من مصحفي )) ويقصدون بالصحفي الذي يحصّل علمه عن طريق الصُّحف والكتب، دون أن يتخرج على أيدي الشيوخ المتقنين، ويقصدون بالمصحفي: الذي يتعلم القراءة من المصحف، ولم يتلقها من القرّاء الذين يصححون خطأه إذا أخطأ(1) .
2 ـ أن الطلاب يستفيدون من صحبة معلّمهم، حيث يأخذون من أدبه وسمته، فللمعلّم عموماً ولمعلّم القرآن خصوصاً الأثر البالغ في توجيه طلابه والتأثير عليهم ، فإن (( حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً )) (2)، وهنا تبرز أهمية " اختيار معلّمي القرآن الكريم، وإعدادهم ، والإشراف عليهم " (3) .
3 ـ أن وجود الطالب وزملائه مع معلّم القرآن يكسبهم مهارات تربوية هامة ؛ لأنه يثير لديهم الرغبة في التعليم، ويحضهم على بذل المزيد من الجهد في الحفظ والتحصيل(4)، ولا يتوفر ذلك في التعليم الفردي في المنزل .
4 ـ أن الطالب إذا درس القرآن الكريم من غير معلّم فقد يسئ فهم بعض آيات القرآن الكريم، مما يترتب عليه إساءة فهمه للدين ، وقد تثير عنده بعض الشبهات ولا يجد من يجيبه عليها، ويوضح له الصواب فيها، وذلك مما يؤدي إلى انحرافه فكرياً وسلوكياً .
__________
(1) ينظر : سنن القراءة ومناهج المجودين، د . عبدالعزيز القاري (48) .
(2) مقدمة ابن خلدون (2/242) .
(3) هذه إحدى مهام إدارة مدارس تعليم القرآن الكريم ، ينظر : ص(14) من البحث .
(4) ينظر ص(12) من البحث .(1/25)
5 ـ أن تعليم الناس القرآن وتربيتهم عليه واجب شرعي، ولا يتم ذلك إلا بواسطة معلّمي القرآن الكريم ، كما سبق ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(1)، فوجب على المجتمع أن يبذل كل الأسباب والوسائل لإعداد معلّمي القرآن، وتقديم ما يحتاجونه من العون والوسائل التي تمكنهم من القيام بواجبهم التعليمي والتربوي(2) .
2 ـ صفات معلّم القرآن الكريم :
لكي يقوم معلم القرآن الكريم بالدور المنوط به لابد أن يكون (( ممن كملت أهليته، وتحققت شَفَقَته، وظهرت مروءته، وعرفت عفته )) (3) وسأذكر من صفاته ما يتناسب مع موضوع بحثنا وحجمه :
أ ـ الإخلاص لله تعالى فهو روح الأعمال، وسر قبولها، وبه يكون عون الله وتوفيقه لعبده .
ب ـ الاتصاف بالأخلاق الفاضلة في داخل الحلقة وخارجها، وهذا له تأثير عظيم على سلوك الطلاب، وتقوية علاقتهم بالمعلّم ، من ذلك:
…ـ الصبر وسعة الصدر، وهو مطلوب في كل شخص يتعامل مع الناس، ويتأكد في معلّم القرآن، فهو معرض للكثير من المشكلات والمشاق ؛ وبخاصة في هذا العصر الذي ظهر فيه التقدم المعرفي والتقني وانتشرت فيه وسائل الاتصال ، مما أدى إلى اتساع ثقافة الطلاب، وأوجد لديهم مشكلات وسلوكيات لم تكن موجودة من قبل، فيحتاج المعلّم إلى مزيد من الصبر لمعالجتها .
__________
(1) هذه قاعدة فقهية ، ينظر في معناها وأمثلتها : المنثور في القواعد للزركشي (1/ 235) .
(2) ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د. الزهراني ص(50 ـ 53) .
(3) أدب الدنيا والدين للماوردي ص(109) ، وينظر للتوسع في هذه الصفات: مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، د . الزهراني ص(65 ـ 111) ، المدارس والكتاتيب القرآنية ص(13 ـ 22) .(1/26)
…ـ الرفق والحلم والأناة، فقد تصدر من طلابه بعض الهنّات أو الأخطاء، فلابد أن يحلم عليهم ويرفق بهم في علاج هذه الأخطاء ، ويتجنب الوقوع في الغضب وما يتبعه، وإن شعور الطالب بعطف معلّمه عليه وبرفق معاملته له يكسبانه الثقة بالنفس، ويشعرانه بالاطمئنان إلى معلّمه، فيساعده هذا الشعور على التحصيل بسهولة أكثر.
…ـ العدل بين المتعلمين : فلا يفضل أحد الطلاب على الآخر دون مبرر، حتى لا يوغر صدور بعضهم على بعض، أو يضعف العلاقة بينه وبين طلابه، مما يضعف تأثيره عليهم، فمثلاً ينبغي (( أن يقدّم في تعليمهم إذا ازدحموا الأسبق فالأسبق، ولا يقدّمه في أكثر من درس إلا برضا الباقين )) (1) .
ج ـ أن يكون المعلّم قدوة حسنة لطلابه، فذلك مما يغرس في نفوسهم محبته والميل إلى تقليده والعمل بمثل عمله، والطلاب ينظرون إلى معلّمهم نظرة دقيقة متفحصة، مما يحتم عليه أن يكون قدوة حسنة، في العمل بتعاليم القرآن، وتعظيمه، وتقدير حملته ((إن وثوق الناس بالمعرفة كثيراً ما يرتبط بمدى ثقتهم بالحاملين لها ... ويبدو أن المعلّم لا يستطيع أن يتفلت من نظرة الطالب إليه على أنه قدوة ... وحينما يرفض المعلّم ذلك أو يتأفف منه فإنه يقلّل من فاعليته إلى حد كبير )) (2) .
د ـ اليقظة والمتابعة : فالمعلّم يمكث مع طلابه لفترات طويلة كل يوم، فيجب عليه أن يكون ملماً بأحوال طلابه، عارفاً بطباعهم وسلوكياتهم، وعليه أن يبادر بعلاج أي تصرف غير لائق قد يصدر منهم، ويشجع تصرفاتهم الحسنة ، سواء كان هذا التصرف متعلقاً بالناحية العلمية أو التربوية، بأسلوب شيّق مقبول .
3 ـ وسائل معلّم القرآن الكريم في حفظ الأمن :
__________
(1) المجموع للنووي (1/33) .
(2) بناء الأجيال، د. عبدالكريم بكار ص(124) .(1/27)
إلى جانب جهود المعلّم في تعليم طلابه تلاوة وحفظ القرآن الكريم، ينبغي له أن ينمي في نفوسهم (( روح التمسك بأحكام القرآن والتخلق بأخلاقه وآدابه )) (1) ، ويروضهم عليها ، ويعالج أخطاءهم ويقوّم سلوكهم ؛ إذ ليس الهدف من تعليم القرآن الكريم هو تحفيظ القرآن فقط، وإنما تشجيع الطلاب على العمل به (2)؛ لأنه إنما أنزل ليعمل به ، ويمكن للمعلّم توجيه طلابه بطريق مباشر، أو غير مباشر، مراعياً في ذلك نفسياتهم وأحوالهم وأعمارهم، يساعده في ذلك أن القرآن لا يعلو عن أفهام العامة، ولا يَقْصُر عن مطالب الخاصة، فكلماته ظاهرة تكاد تجعل المعاني بصورة المحسوس، حتى تهم بلمسها بيديك، وحتى تلج إلى ذهنك مترابطة متكاملة(3) ، ومن صور التوجيه غير المباشر : التعريض ، والقصة(4) ، وضرب الأمثلة، وهو كثير في القرآن الكريم(5)
__________
(1) أهداف التربية الإسلامية وغايتها، د. مقداد يالجن (68) .
(2) هذا هدف من أهداف الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم . ينظر : التقرير السنوي للجمعية "حصاد السنابل" للعام 1426هـ ص(6) .
(3) هذه خاصية من خصائص القرآن الكريم ، ينظر : دراسات في علوم القرآن الكريم، د . فهد الرومي (60) .
(4) فقد أثبتت الدراسات التجريبية أن الطلاب ـ وخاصة في مرحلة الطفولة ـ شديدو الولع بالقصص، حيث ينصتون لها جيداً، ويتأثرون بها، ويتخلقون بما تدعو إليه من سلوكيات . ينظر : مهارات التدريس في الحلقات القرآنية، الزهراني ص(216) .
(5) ينظر : مباحث في علوم القرآن للقطان (319).
ويمكن للمعلم الإفادة من الكتب المؤلفة في القصص القرآن ، مثل : المستفاد من قصص القرآن للدكتور عبدالكريم زيدان ، وتيسير المنان في قصص القرآن لأحمد فريد، وقصص القرآن الكريم للنشء للدكتور أحمد حسن صبحي .
ومن الكتب المؤلفة في أمثال القرآن : ضرب الأمثال في القرآن ـ أهدافه التربوية وآثاره لعبدالمجيد البيانوني .(1/28)
، أو تحذيرهم من بعض الأمور الشائعة في المجتمع أو بين بعض الشباب ، وتنبيههم على خطورتها وأثرها السئ ، أو يجعل ما يريد حثهم عليه أو تحذيرهم منه الموضوع الرئيس في المسابقات أو برامج الأنشطة ، والتوجيه غير المباشر له أثر بالغ إذا أحسن المعلّم تطبيقه؛ لأن الطالب يشعر أنه حصل على هذه المعلومة باستقلالية تامة، من غير إلزام أو إكراه من أحد، فهو يتخطى التصادم مع كثير من العقبات النفسية المختلفة ، ذلك أن إحساس النفس بالاستقلالية والاستعلاء لا تسمح في كثير من الأحيان بقبول توجيه مباشر(1) ، فإذا قرأ الطالب آيات تتضمن قصة فيها دروس وعبر كقصة سبأ، وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم، فإن المعلّم البارع يستفيد من هذا الموقف، ويهيئ الجو المناسب لسرد تلك القصة على طلابه، ثم يسعى إلى التعرف على الانطباعات التي تركتها تلك القصة في نفوسهم، والمفهومات التي استخلصوها منها، وبعد ذلك يداول معهم السلوكيات الخيرة والسيئة التي تشابه السلوكيات التي عبرت عنها القصة(2) { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [يوسف 111] .
ويمكن للمعلّم توجيه طلابه بطريقة مباشرة أيضاً، بحيث إذا مرت به آية تحث على الآداب والأخلاق استفاد من ذلك الموقف ببيان معنى الآية، وانطلق من خلاله لتوجيه الطلاب إلى امتثال أوامر القرآن الداعية إلى العمل بهذه القيم والأخلاق، وترك ما يضادها من الأخلاق السيئة، وراعى في ذلك كله التدرج في التوجيه فقدم الأهم فالأهم، وتخول طلابه بالموعظة؛ ليكون أقرب تناولاً وأثبت في الفؤاد حفظاً وفهماً .
__________
(1) ينظر : المدارس والكتاتيب القرآنية (104) .
(2) ينظر : بناء الأجيال، د. عبدالكريم بكار (171) .(1/29)
ولكن يجب على المعلّم أن لا يتحدث في أمر من أمور الدين إلا بعد أن يكون ملماً به، حتى لا يقول في الدين بغير علم فيَضل ويُضل، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، فقال: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36] .
وهناك أمور تسهم في حفظ الأمن والاستقرار، تَرِد في القرآن كثيراً، ويمكن للمعلّم أن يستثمرها في توجيه طلابه ، مستفيداً من أساليب القرآن الكريم في توجيهاته المحققة للأمن كما سبق(1) ، من ذلك :
1 ـ تذكير الطلاب بأن الأمن نعمة يستفيد منها المجتمع بأسره، فعلينا جميعاً المحافظة عليه، ويشرح لهم أسباب الأمن والاستقرار في المجتمعات، كالإيمان بالله، وحسن عبادته، وشكر نعمه، واجتناب معاصيه، ويدبعم ذلك بآيات القرآن ، وما ورد فيها من القصص، مثل قصة سبأ، وأصحاب الجنة الذين (( حرموا خير جنتهم بذنبهم ))(2)، وكقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ #"uچà)ّ9$# آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا Nخkِژn=tم ;M"x.uچt/ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف : 96] الذي يدل على أن للعمل الصالح آثاراً طيبة، كسعة الرزق، والاطمئنان، والشعور بالأمان، وأن عواقب المعاصي وخيمة؛ فهي سبب لغضب الله، وانتقامه من العاصين بأنواع الحوادث والأمراض .
__________
(1) ينظر : ص(8) من البحث .
(2) تفسير ابن كثير (8/196) .(1/30)
2 ـ حث الطلاب وتعويدهم على التعاون والألفة والمحبة، وتحذيرهم من الفرقة والشتات، فإن أهم دعائم الأمن والاستقرار في المجتمع هو تعاون أفراده وتضامنهم، ويمكن للمعلّم أن يبين للطلاب أن الله امتنّ علينا بنعمة الاجتماع على كتابه الكريم والاعتصام بحبله، وحذرنا من التفرق الذي كان عليه الناس قبل الإسلام، وذلك في قوله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا ب@ِ7ut؟2 اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ $ZR¨uq÷zخ) } [آل عمران : 103] (1) ، ويؤكد لهم أنه متى ترك أفراد المجتمع هذه الفضائل والقيم الإسلامية ساد بينهم النزاع والتمزّق والاضطراب والقلق، وتحولت سعادتهم شقاء، وأمنهم خوفاً .
__________
(1) وقد نزلت في شأن الأوس والخزرج فقد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن طال بسببها القتال بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى . ينظر : تفسير ابن كثير (8/196) ، أهداف التربية الإسلامية وغايتها، د . مقداد يالجن (114) .(1/31)
3 ـ دعوتهم إلى التسامح، وبث روح الأخوة الإيمانية بينهم، وقد عنى القرآن بذلك عناية فائقة؛ ليتمثله أهل القرآن، فاعتبر المؤمنين إخوة، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات : 10] ، وقال تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ َعحچôمr&ur عَنِ ڑْüد=خg"pgù:$# } [الأعراف : 199] قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة، فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه ما يحب أو ما يكره، فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به، ولا يطالبهم بزيادة، وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم، وأما هو فيأمرهم بالمعروف، وهذا باب واسع )) (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (30/371) وينظر : أهداف التربية الإسلامية وغايتها، د . مقداد يالجن (93) .(1/32)
4 ـ تحذيرهم من الظلم والإجرام، وبيان خطره على المجتمع وعلى أفراده، لأنه عدوان على الآخرين ، وذلك سيدفع المعتدى عليهم إلى محاولة الانتقام ممن اعتدى عليهم، وستشيع الفوضى والاحتراب والحقد والكراهية، كما يبين للطلاب أن الظالم والمعتدي هو أول من يصيبه أثر ظلمه وعدوانه ، قال تعالى : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ (#qمBuچô_r& صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيد بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام : 124] ، بل إن خطر الجريمة سيلحق فاعلها في الدنيا والآخرة، قال تعالى : { إِنَّمَا (#نt¨u"y_ الَّذِينَ tbqç/ح'$utن† اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ (#ûqè=Gs)مƒ أَوْ (#ûqç6¯=|ءمƒ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ A#"n=½z أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ y7د9¨sŒ لَهُمْ س"÷"½z فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي دouچ½zFy$# عَذَابٌ عَظِيمٌ } [المائدة : 33] وهذا سيشعرهم بالقلق والألم للحال الذي سيصير إليه من تسوّل له نفسه الإقدام على الجريمة ، وينبغي للمعلّم أن يحذّر طلابه من الوسائل التي تشجعهم على الجريمة، مثل قراءة المجلات والكتب الغرامية، وكذلك مشاهدة الأفلام والمواد الغنائية التي لها علاقة بارتكاب الجريمة والانحراف ، ومثل ذلك المسكرات والمخدرات فإن لها أثراً واضحا في انحراف السلوك وارتكاب الجريمة(1) .
__________
(1) ينظر: الآثار الاجتماعية للجريمة المعاصرة ، د. أحمد عبدالكريم الغنوم ص(242 ، 244) .
هذه بعض الأخلاق الحسنة، وينبغي للمعلم إرشاد طلابه للتحلي بأخلاق أهل القرآن ، ويفيده في ذلك بعض ما ألف في ذلك ، مثل : أخلاق حملة القرآن للآجري، والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي .(1/33)
5 ـ توجيه الطلاب إلى الإفادة من أوقاتهم : فإن من أهم متطلبات المحافظة على الأمن والاستقرار ملء وقت فراغ الشباب بما يعود عليهم بالفائدة، ومحاربة انتشار الفراغ والبطالة بين أفراد المجتمع، فإنهما يقودان إلى الانحراف وانتشار العادات الضارة، كتعاطي المخدرات وصحبة الأشرار والوقوع في شتى أنواع الفساد، فعلى معلّم القرآن المخلص أن يحث طلابه على الاهتمام بالوقت، ويغرس في نفوسهم تقدير العمل الشريف، واحترام المهن الصناعية والفنية والتقنية، كما يمكنه توجيههم إلى المهارات التي تساعدهم على الوقاية من الانحراف(1) ، وإشراكهم في نشاطات ثقافية واجتماعية ورياضية؛ لإشباع حاجتهم الجسمية والنفسية والاجتماعية والعلمية، وينبغي أيضاً تحذير طلابه من الفراغ الذهني، وإرشادهم إلى قراءة الكتب النافعة التي ألفها علماء ومثقفون ثقات .
6 ـ بيان معنى الوسطية، وإرشاد طلابه إلى الاعتدال عملياً، والابتعاد عن طرفي الغلو والجفاء والإفراط والتفريط، ويوضح لهم أن هذه سمة من سمات الشريعة تؤكدها نصوص القرآن، كقوله تعالى : { y7د9¨xx.ur ِNن3"sYù=yèy_ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة : 143] ، ويمكن للمعلّم أن يستفيد مما كُتب في هذا الموضوع(2) .
الخاتمة :
__________
(1) ينظر في بعض هذه المهارات ص (16 ـ 17) من البحث .
(2) ومما كتب في ذلك : كتاب الوسطية في الإسلام للدكتور زيد بن عبدالكريم الزيد .
وكتاب الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة للدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق .(1/34)
وبعد فقد تبين الأثر الإيجابي الواضح لتعليم القرآن الكريم في حفظ الأمن والاستقرار على المستوى الفردي والمجتمعي، وبخاصة إذا كان تعليم القرآن الكريم في المسجد، ولكن ذلك منوط ـ بعد توفيق الله ـ بالدور الذي يقوم به أطراف العملية التعليمية إذا تضافرت جهود الإدارة والمعلّم، ودعّم ذلك بتواصل مدارس تعليم القرآن الكريم وأسر الطلاب والمجتمع، إن آيات القرآن التي تتردد على مسامع الطلاب في المسجد تمثل دستوراً تربوياً يقيهم شرور المخاطر والانزلاقات الفكرية والانحرافات العقدية، ويحفظهم من الانسياق وراء الإغراءات الوافدة، والنزعات الفكرية المضللة .
وسعى الباحث إلى بيان الوسائل التي يمكن أن تتبعها مدارس تعليم القرآن الكريم (إدارة ومعلمين) من أجل القيام بدورها على الوجه المطلوب، ففيما يتعلق بالإدارة، يمكنها اتباع الوسائل التالية :
…اختيار المكان المناسب لحفظ القرآن الكريم .
…اختيار معلّمي القرآن الكريم، وإعدادهم، والإشراف عليهم .
…اختيار الطلاب المناسبين لتعلم القرآن الكريم .
إقامة الأنشطة التربوية المناسبة .
وللمعلّم المتقن والمؤهل دور كبير إذا اتبع الوسائل المناسبة، ومنها :
شرح أسباب الأمن والاستقرار في المجتمعات .
حث طلابه على التعاون وتعويدهم على الألفة والمحبة، وتحذيرهم من الفرقة والشتات .…
دعوتهم إلى التسامح، وبث روح الأخوة الإيمانية بينهم .
تحذيرهم من الظلم والعدوان والإجرام وبيان الأخطار المترتبة على مقترفيها .
توجيه الطلاب إلى الإفادة من أوقاتهم .
توجيه الطلاب إلى الوسطية .
التوصيات: من خلال العيش مع مسائل هذا البحث خلصت إلى بعض التوصيات :
ـ التوعية بأهمية مدارس تعليم القرآن الكريم، وحاجة المجتمع إليها ، ودورها في تحقيق الأمن .
ـ الاهتمام بالدور التربوي لمدارس تعليم القرآن الكريم، وحثّ المدارس على تفعيل هذا الدور .(1/35)
ـ العناية بحسن اختيار معلّمي القرآن الكريم، المؤهلين عقيدة وفكراً ومنهجاً وسلوكاً، وتطوير أساليبهم في التدريس، وفي التعامل مع الإدارة والطلاب بشكل عام، ولا شك في أنهم سيحتاجون إلى دورات تدريبية تنمي مستواهم في ذلك .
ـ تشجيع البحوث والدراسات النظرية والعلمية المتعلقة بمدارس تعليم القرآن الكريم، وتسليط الضوء على دورها في تحقيق الأمن، وكيفية تحقيق ذلك، بغية الخروج بنتائج وتوصيات علمية وعملية يمكن تطبيقها وتنفيذها مستقبلاً .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ثبت المراجع
1.الإتقان في علوم القرآن : للسيوطي، تحقيق : محمد شريف سكر، ورفيقه، طبع : دار إحياء العلوم ببيروت ، الطبعة الثالثة سنة 1416هـ/1996م .
2.الآثار الاجتماعية للجريمة المعاصرة : للدكتور أحمد عبدالكريم الغنوم، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الرابعة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1426هـ/2005م .
3.أدب الدنيا والدين : للماوردي ، تحقيق : مصطفى السقا، طبع : دار الكتب، الطبعة الثانية سنة 1411هـ/1991م .
4.الأمن الجماعي الدولي : لنشأة الهلالي ، طبع : دار العلم بالقاهرة ، سنة 1985م .
5.الأمن مسؤولية الجميع رؤية مستقبلية : للعقيد الدكتور هاشم بن محمد الزهراني ، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .
6.أهداف التربية الإسلامية وغايتها : للدكتور مقداد يالجن، طبع : دار عالم الكتب، الطبعة الثالثة سنة 1424هـ/2003م .
7.أهمية المؤسسات التعليمية في تنمية الوعي الأمني : للعميد الدكتور بركه بن زامل الحواشان ، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .(1/36)
8.بناء الأجيال : للدكتور عبدالكريم بكار ، سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي .
9.التحرير والتنوير: للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، طبع: الدار التونسية للنشر بتونس
10.التعريفات : للشريف علي بن محمد الجرجاني، طبع : دار الكتب العلمية ببيروت، سنة 1416هـ/1995م .
11.تفسير ابن كثير " تفسير القرآن العظيم " : لأبي الفداء بن كثير ، تحقيق : سامي بن محمد السلامة، طبع : دار طيبة ، الطبعة الثانية عام 1420هـ/1999م .
12.الجرائم الأخلاقية لتطبيقات بعض التقنيات الحيوية وانعكاساتها على أمن المجتمع : للدكتور ضياء الدين محمد مطاوع، ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع والأمن، المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض السنة الرابعة، بعنوان : الظاهرة الإجرامية المعاصرة: الاتجاهات والسمات ، سنة 1426هـ / 2005م .
13.الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ـ أهدافها، بحث على الشبكة العنكبوتية.
14.دراسات في علوم القرآن الكريم : للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي ، طبع : مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة العاشرة سنة 1422هـ/2001م .
15.دور الأسرة في أمن المجتمع : للدكتور محمد بن يوسف أحمد عفيفي، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .
16.دور الأسرة في أمن المجتمع : للدكتور إدريس حامد محمد ، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .
17.دور المسجد في تحقيق مفهوم الأمن الاجتماعي : للدكتورعبدالكريم بن صنيتان العمري ، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .
18.سنن الترمذي: تحقيق أحمد محمد شاكر، ورفاقه، طبع: دار إحياء التراث العربي ببيروت .(1/37)
19.سنن القراءة ومناهج المجودين : للدكتور عبدالعزيز عبدالفتاح القاري، طبع : مكتبة الدار بالمدنية المنورة، الطبعة الأولى سنة 1414هـ .
20.الشريعة الإسلامية ودورها في تعزيز الأمن الفكري : للدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس ، مطبوع ضمن كتاب الأمن الفكري الصادر عن مركز الدراسات والبحوث بجامعة نايف للعلوم الأمنية، الرياض سنة 1426هـ/2005م
21.علاج القرآن الكريم للجريمة : للدكتور عبدالله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، الطبعة الأولى سنة 1413هـ .
22.فتح الباري : لابن حجر العسقلاني، طبع : رقم أبوابه وأحاديثه : محمد فؤاد عبدالباقي، طبع : دار الريان بالقاهرة، الطبعة الثانية سنة 1409هـ/1988م .
23.القاموس المحيط : لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ، طبع : مؤسسة الرسالة ببيروت، الطبعة الخامسة سنة 1416هـ/1996م .
24.لسان العرب : لأبي الفضل محمد بن مكرم، الشهير بابن منظور، طبع : دار صادر ببيروت ، الطبعة الأولى .
25.مباحث في علوم القرآن : للشيخ مناع القطان ، طبع : مكتبة المعارف، الطبعة الثالثة سنة 1420هـ/2000م .
26.المجموع : لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي ، تحقيق : محمود مطرجي، طبع : دار الفكر ببيروت، الطبعة الأولى ، سنة 1417هـ/1996م .
27.المدارس والكتاتيب القرآنية وقفات تربوية وإدارية : سلسلة تصدر عن المنتدى الإسلامي، سنة 1417هـ .
28.المسؤولية الأمنية ودور المؤسسات التعليمية في تحقيقها ، الأسرة كنموذج : للدكتور محمد الصايم عثمان و الدكتور إبراهيم الشافعي إبراهيم، مطبوع ضمن بحوث ندوة المجتمع والأمن في دورتها السنوية الثالثة، التي نظمتها كلية الملك فهد الأمنية بالرياض سنة 1425هـ/2004م .
29.المفردات في غريب القرآن : للراغب الأصفهاني، تحقيق : صفوان عدنان داوودي، طبع : دار القلم، الطبعة الثانية عام 1418هـ/1997م .(1/38)
30.المقاييس في اللغة : لأبي الحسين أحمد بن فارس، طبع : دار الفكر ببيروت، الطبعة الثانية سنة 1418هـ/1998م .
31.مقدمة ابن خلدون : تحقيق : أبو عبدالله السعيد المندوه، طبع : المكتبة التجارية بمكة المكرمة، الطبعة الثالثة سنة 1417هـ/1997م .
32.مناهل العرفان في علوم القرآن : للشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني، تحقيق : أحمد شمس الدين، طبع : دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى سنة 1424هـ/2003م .
33.المنثور في القواعد : لبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق : د. تيسير فائق أحمد محمود، طبع : مؤسسة الفليج بالكويت، الطبعة الأولى سنة 1402هـ/1981م .
34.مهارات التدريس في الحلقات القرآنية : للدكتور علي بن إبراهيم الزهراني، طبع : دار ابن عفان بالخبر، الطبعة الأولى سنة 1418هـ/1997م .
35.الموافقات في أصول الشريعة : لإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي، تعليق : عبدالله دراز، طبع: دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى سنة 1411هـ/1991م .
36.النشاط الطلابي ـ أهداف ، مهام ، برامج : لفيصل سعد القرشي ، طبع : دار المنارة بجدة، الطبعة الأولى سنة 1422هـ/2001م .(1/39)