إيقاظ همم أولي الأبصار
____________________
(1/1)
خطبة الكتاب
حمدا لمن جعل أهل الحديث حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين وشكرا لمن ألهمهم التمسك بالشرع المبين وهداهم لإقتفاء آثار الصحابة والتابعين وصلاة وسلاما على من ببعثته كل منكر متروك وموضوع وكل معروف موصول غير مقطوع ولا ممنوع المنزل عليه أحسن الحديث والمبجل بين الورى في القديم والحديث ورحمة موصولة بطرائق الاكرام من الملك العلام مكفولة لأنصار السنة المطهرة وحماتها وأبطال الكفاح عنها وكماتها الرامين بشهب التحقيق الثاقبة شبهة التحريف والانتحال المحرقين بصواعق الحجج البالغة بدع أهل الزيغ والضلال الذين جعلهم الله اركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة شنيعة
أما بعد فيقول الفقير الى مولاه الغني صالح بن محمد العمري الشهير بالفلاني إنه قد إلتمس مني بعض من يريد أن يتزود لمعاده ويعمل بكتاب الله وهدي خير عباده أن أنقل له ما ورد من ذلك في كتاب رب العالمين وما رواه الثقات الأثبات من سنة سيد المرسلين وما أثر في ذلك من آثار الصحابة والتابعين فأحجمت عن ذلك احجام الجبان وتحرجت من الخوض في غمرة هذا الميدان ورجعت القهقرى ورأيت أن الوقوف دون ذلك أحق بمقامى وأحرى ثم بدا لي أن الأولى إسعافه بالمراد رجاء أن يعمل به من وفقه الله من العباد
فأقول كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وبارك وسلم متظاهران على الحث على العمل بالكتاب والسنة وقضايا الصحابة والتابعين كاشفة عن ذلك كل دجنة وكلام الأئمة الأربعة وغيرهم مصرح به وكاشف عن قلوب متبعيهم الاكنة بل في كلامهم التصريح بتحريم تقليدهم بعد ورود نص يخالفهم من كتاب أو سنة وان تقليد المتعصبين بعد ذلك ضلال وجنة وأنه ليس لغير العامي تقليد بغير برهان وحجة فها أنا أنقله بحول الله وقوته وأنسبه الى قائله بفضل الله ومنته من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ومن تبعهم من أهل ملته
____________________
(1/2)
وقد بدا لي أن أرتب ذلك على مقدمة في بيان ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك وما روي عن الصحابة والتابعين في بيان ما هنالك وأربعة مقاصد فيما للأئمة الأربعة في ذلك من المذاهب
الأول فيما قاله الامام أبو حنيفة وأصحابه أهل المناقب المنفية والثاني فيما قاله مالك بن أنس أمام دار الهجرة وما قاله أصحاب السادة المهرة والثالث في بيان مقالة عالم قريش محمد بن ادريس الشافعي وما لأصحابه في ذلك من الكلام الشافي من العى والرابع فيما نقل عن ناصر السنة أحمد بن حنبل وما لأصحابه من الحض على العمل بالسنة والكتاب المنزل وخاتمة في ابطال شبه المقلدين والجواب عن حجج أهل الأهواء المتعصبين وسميته إيقاظ همم أولي الأبصار للإقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الإبتداع الشائع في القرى والامصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار المقدمة في وجوب طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة وذم الرأي والقياس على غير أصوله والتحذير من إكثار المسائل وبيان أصول العلم وحده مقسوما ومحازا ومن يستحق أن يسمى فقيها أو عالما حقيقة لا مجازا وبيان فساد التقليد في دين الله تعالى ونفيه والفرق بينه وبين اتباع كتاب الله وسنة نبيه
قال الله تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة } { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وقد فرض الله تعالى عليهم اتباع ما نزل اليهم وأعلم أن معصيته تعالى في ترك أمره وأمر رسوله ص ولم يجعل لهم الا اتباعه ولذا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله } مع ما علم الله تعالى نبيه ثم ما فرض اتباع كتابه فقال { فاستمسك بالذي أوحي إليك } وقال { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } وأعلمهم أنه أكمل لهم دينه فقال عز وجل { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ثم من عليهم بما اتاهم من العلم فأمرهم بالاقتصار عليه وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } ثم أنزل على نبيه { ولا تقف ما ليس لك به علم }
وبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وانزل عليه كتابه الهدى
____________________
(1/3)
والنور لمن اتبعه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه شاهده في ذلك اصحابه الذين ارتضاهم الله تعالى لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه فكانوا هم اعلم الناس برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بما أراد الله تعالى من كتابه بمشاهدتهم ما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } وقال { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } وقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } وقال { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } وقال { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } { إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } وقال { له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا } وقال { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }
فأكد الله هذا التأكيد وكرر هذا التكرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله وعموم مضرته وبليته لأمته قال تعالى { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }
وأنكر تعالى على من حاج في دينه بما ليس له به علم فقال { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ونهى أن يقول أحد هذا حلال وهذا حرام لما لم يحرمه الله ورسوله أيضا وأخبر أن فاعل ذلك مفتر عليه الكذب وقال { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } والآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة
قال الله تعالى { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } وقال { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } وقال { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } وقال { وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا }
____________________
(1/4)
وقال { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقال { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } وقال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } وقال { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } وقال { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } وقال { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } وقال { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } وقال { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } وقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } وقال { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } وقال { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } وقال { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } وكان الحسن يقول لا تذبحوا قبل ذبحه وقال { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } وقال { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما } وقال { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى }
____________________
(1/5)
وقال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب } وقال { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين } وقال { فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } وقال { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه } وقال { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه } قال ابن عباس هو جبرائيل وبه قال مجاهد ومن قبله كتاب موسى اماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده قال سعيد بن جبير الاحزاب الملل فالنار موعده فلا تك في مرية منه ثم ذكر حديث يعلى بن أمية طفت مع عمر فلما بلغنا المغربي الذي يلي الأسود جررت بيده يستلم فقال ما شأنك تعلقت فقلت الا تستلم فقال ألم تطف مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بلى قال أفرأيته يستلم هذين الركنين المغربيين قلت لا قال أليس لك فيه أسوة حسنة قلت بلى قال فلتقر عينك وجاء أن معاوية استلم الأركان كلها فقال له ابن عباس تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت قلت والآيات في وجوب اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص كثيرة وفيما ذكرناه كفاية
وأما الأحاديث الدالة على وجوب العمل بكتاب الله وسنة رسوله ص فكثيرة
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هلال ابن أمية قذف إمرأته بشريك من سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فان جاءت به أكحل العينين سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء وان جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن
يريد والله أعلم بكتاب الله قوله تعالى { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ويريد بالشأن والله أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها بالذي رميت به ولكن كتاب الله فصل الحكومة وأسقط كل قول وراءه ولم يبق للإجتهاد بعده موضع وقال الشافعي في الرسالة التي أرسلها الى عبد الرحمن بن مهدي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن ابي يزيد عن أبيه قال أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا فذهبت معه الى عمر فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية فقال أما الفراش فلفلان وأما النطفة فلفلان فقال صدقت ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش
قال الشافعي وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال أخبرني مخلد بن خفاف قال ابتعت
____________________
(1/6)
غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه الى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة فأخبرته فقال أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان فعجلت الى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن عبد العزيز فما أيسر علي من قضاء قضيته والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له
قال الشافعي وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد ابن ابراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به فقال سعد لربيعة هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به فقال له ربيعة قد اجنهدت ومضى حكمك فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد ابن أم سعد وارد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرد قضاء سعد بن ام سعد وانفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعى سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه
وقال الشافعي أخبرنا ابو حنيفة سماك بن الفضل الشهابي قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح من قتل له قتيل فهو بخير النظرين أن أحب أخذ العقل وان أحب فله القود قال أبو حنيفة فقلت لإبن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحرث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به نعم آخذ به وذلك الفرض علي وعلى من سمعه أن الله تبارك وتعالى اختار محمدا ص من الناس فهداهم به وعلى يديه واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك وما سكت حتى تمنيت أن يسكت انتهى
قلت تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن ابراهيم يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين وعند سائر العلماء المسلمين أن حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسوله ص وجب نقضه ومنع نفوذه ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية بأن يقال لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعله ظهرت له أو أنه اطلع على دليل آخر ونحو هذا مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين واطبق عليه جهلة المقلدين فافهم
قال أبو النضر هاشم بن القسم حدثنا محمد بن أبي راشد عن عبدة بن أبي لبابة عن هاشم
____________________
(1/7)
ابن يحيى المخزومي أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن إمرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر قبل أن تطهر قال عمر لا فقال له الثقفي فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في هذه المرأة بغير ما أفتيت به فقام اليه عمر يضربه بالدرة ويقول لم تستفتي في شئ قد افتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه أبو داود بنحوه
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا صالح بن عبد الله ثنا سفيان عن عامر عن عتاب بن منصور قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إسرائيل عن أبي إسحق عن سعد بن أبي أياس عن ابن مسعود أن رجلا تزوج إمرأة فرأى أمها فأعجبته فطلق إمرأته ليتزوج أمها فقال لا بأس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال فكان يبيع نقود بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد ص فقالوا لا تحل لهذا الرجل هذه المرأة ولا تصح الفضة بالفضة الا وزنا بوزن فلما قدم عبد الله انطلق الى الرجل فلم يجده ووجد قومه فقال ان الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل وأتى الصيارفة فقال يا معشر الصيارفة ان الذي كنت أبايعكم عليه لا يحل لا تحل الفضة بالفضة الا وزنا بوزن
وفي صحيح مسلم من حديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة تذاكروا المتوفى عنها الحامل تضع عند وفاة زوجها فقال ابن عباس تعتد آخر الأجلين فقال أبو سلمة تحل حين تضع فقال أبو هريرة وأنا مع ابن أخي فأرسلوا الى أم سلمة فقالت قد وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بليال فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج وقد تقدم ذكر رجوع ابن عمر وابن عباس عن اجتهادهم الى السنة ما فيه كفاية
قال محمد بن اسحاق بن خزيمة الملقب بامام الأئمة لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا صح الخبر عنه وقد كان امام الأئمة ابن خزيمة له أصحاب ينتحلون مذهبه ولم يكن مقلدا بل اماما مستقلا كما ذكر البيهقي في مدخله عن يحيى بن محمد العنبري قال طبقات أصحاب الحديث جمة المالكية والشافعية والحنبلية والراهوية والخزيمية أصحاب محمد بن خزيمة
وقال الشافعي قال لي قائل ذات يوم إن عمر عمل شيئا ثم صار الى غيره لخبر نبوي قلت له حدثني سفيان عن الزهري عن ابن المسيب ان عمر كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث إمرأة اشيم الضبابي من ديته فرجع إليه عمر
وأخبرني ابن عيينة عن عمرو بن دينار وابن طاوس أن عمر قال اذكر الله امرءا سمع
____________________
(1/8)
من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين لي فضربت احداهما الاخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا وقال غيره ان كدنا لنقضي فيه برأينا فترك اجتهاده للنص وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ إجتهاد الرأي إنما يباح عند الضرورة فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الامام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال عند الضرورة نقله البيهقي في مدخله وقال ابن عمر كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها من أجل ذلك وقال عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة فقالت عائشة طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق
قال الشافعي فترك سالم قول جده لروايتها قال ابن عبد البر وابن تيمية وهذا شأن كل مسلم لا كما يصنع فرقة التقليد
وفي كتاب العلم باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والظن والقياس على غير اصل وعيب الاكثار من المسائل دون اعتبار قال ابن عبد البر ثنا عبد الرحمن بن يحيى قال ثنا علي ابن محمد قال ثنا أحمد بن داود قال ثنا سحنون بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن وهب قال ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فجلست إليه فسمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى الناس جهالا يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون قال عروة فحدثت بذلك عائشة ثم إن عبد الله بن عمرو حج بعد ذلك فقالت لي عائشة يا ابن أخي إنطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الحديث الذي حدثني به عنه قال فجئته فسألته فحدثني به كنحو ما حدثني فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت وقالت والله لقد حفظ عبد الله ابن عمرو فيه ابن لهيعة وفيه مقال قال ابن وهب وأخبرني عبد الرحمن بن شريح عن أبي الأسود عن عروة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا ابن المبارك قال حدثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي قال حدثنا
____________________
(1/9)
عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الاشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحللون به ما حرم الله وأخبرنا أحمد بن قاسم ويعيش بن سعيد قالا أنا قاسم بن أصبغ قال ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال ثنا نعيم قال ثنا ابن المبارك قال ثنا عيسى بن يونس قال ثنا حريز عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال انتهى
قلت وأخرجه البيهقي بسنده إلى نعيم بن حماد قال ابن القيم بعد إخراجه بهذه الأسانيد وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ إلا حريز بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي رضي الله عنه ومع هذا احتج به البخاري في صحيحه وقد روي عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي ونعيم ابن حماد إمام جليل وكان سيفا على الجهمية وروى عنه البخاري في صحيحه
قال أبو عمر هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث يحللون الحرام ويحرمون الحلال ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص تحليله والحرام ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه خلاف ما خرج منه ومن السنة فهذا هو الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه انتهى قلت هكذا أخرجه الحافظ أبو عمر وسكت عليه وأورده في مقام الاحتجاج في ذم الرأي فصنيعه يدل على أن الحديث صالح للاحتجاج به وقد أخرجه البيهقي في المدخل وقال تفرد به نعيم بن حماد وسرقه عنه جماعة من الضعفاء وهو منكر وفي غيره من الأحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية وبالله التوفيق انتهى
قلت ولعل مراده بالأحاديث الصحاح الواردة في معناه يعني في ذم الرأي واستعمال القياس في موضع النص ولأصل الحديث شاهد أخرجه أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وأخرج أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال ألا أن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في
____________________
(1/10)
النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة زاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما وأنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وقال عمرو الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله وقال الترمذي حديث أبي هريرة حسن صحيح وفي رواية لأحمد هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي
قلت ونعيم بن حماد من رجال البخاري قال في الكمال قال ابن حبان قال يحيى بن معين نعيم ابن حماد ثقة صدوق رجل صدق أنا أعرف الناس به وكان رفيقي بالبصرة وكتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث وقال أحمد بن حنبل لقد كان من الثقاة وقال أحمد بن عبدالله نعيم ابن حماد مروزي ثقة وقال أبو حاتم محله الصدق وقال ابن سعد كان نعيم من أهل المرو وطلب الحديث طلبا كثيرا بالعراق والحجاز ثم نزل مصر ولم يزل حتى شخص منها في خلافة إسحاق بن هرون وسئل عن القرآن فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه فحبس بسامرا ولم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومأتين قال أبو بكر الخطيب يقال إن أول من جمع المسند وصنفه نعيم بن حماد روى له البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجة انتهى
قلت إذا علمت هذا ظهر لك وجه سكوت الحافظ أبي عمر عن الحديث المذكور واحتجاجه به
قال ابن عبدالبر حدثنا عبيد بن محمد قال حدثنا عبدالله بن محمد القاضي بالقلزم حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد بن عبدالله الرازي ثنا الحرث بن عبدالله بهمدان ثنا عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأخبرنا محمد بن خليفة حدثنا محمد بن الحسين حدثنا محمد بن الليث حدثنا جبارة بن المغلس قال حدثنا حماد بن يحيى الأبح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعمل بعد ذلك بالرأي فإذا عملوا بالرأي ضلوا
قلت فيه جبارة تكلم فيه غير واحد وهو من رجال ابن ماجة
حدثنا عبدالرحمن بن يحيى قال حدثنا علي بن محمد قال حدثنا احمد بن داود قال ثنا سحنون ثنا ابن وهب ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر يا أيها الناس أن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا لأن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف قلت هذا منقطع ابن شهاب لم يدرك عمر بن الخطاب وبهذا
____________________
(1/11)
السند أخرجه البيهقي في المدخل وقال هذه الآثار عن عمر كلها مراسيل انتهى يعني منقطعة
وبه عن ابن وهب قال أخبرني ابن لهيعة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يردوها فاستبقوا الرأي قال ابن وهب وأخبرنا عبدالله بن عياش عن محمد بن عجلان عن عبيدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال اتقوا الرأي في دينكم قال سحنون يعني البدع وقال ابن وهب وأخبرني رجل من أهل المدينة عن ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبدالله أن عمر بن الخطاب كان يقول إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم حدثنا أحمد بن عبدالله بن محمد ثنا أبي ح وثنا عبدالله بن محمد بن يوسف ثنا سهل بن إبرهيم قالا جميعا ثنا محمد بن فطيس ثنا أحمد بن يحيى اللأواي الصوفي ثنا عبدالرحمن بن شريك قال ثنا أبي عن مجالد بن سعيد عن عامر يعني الشعبي عن عمرو بن حريث قال قال عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين البغدادي ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا محمد بن عبدالملك القزاز ثنا ابن أبي مريم ثنا نافع ابن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي قال قال عمر بن الخطاب إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم قال أبو بكر بن أبي داود في قصيدته في السنة % ودع عنك آراء الرجال وقولهم % فقول رسول الله أزكى وأشرح %
حدثنا أحمد بن عبدالله ثنا الحسن بن إسماعيل ثنا عبدالملك بن بحر ثنا محمد بن إسماعيل ثنا سنيد ثنا يحيى بن زكريا عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله قال لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله أما إني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء أقوام يقيسون الأمور برأيهم حدثنا عبدالرحمن ثنا علي ثنا أحمد ثنا سحنون ثنا ابن وهب ثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبدالله بن مسعود أنه قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم
____________________
(1/12)
ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم حدثنا محمد بن إبراهيم ثنا أحمد بن مطرف ثنا سعيد بن عثمان وسعيد بن حمير قالا ثنا يونس بن عبدالأعلى ثنا سفيان بن عيينة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه ولا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم
قلت وأخرجه البيهقي أيضا بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود
حدثنا يونس بن عبدالله ثنا محمد بن معاوية ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبدالله بن مسعود قراؤكم وعلماؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم حدثنا أحمد بن عبدالله ثنا الحسن ابن إسماعيل ثنا عبدالملك بن بحر ثنا محمد بن إسمعيل ثنا سنيد بن داود ثنا محمد بن فضل عن سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم أنه قال يا عبدالله ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله عز وجل يقول لنبيه ص { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين } قال القائل هو محمد بن إسماعيل في السند الذي قبله فليعلم
وحدثنا سنيد قال ثنا محمد بن فضيل عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة لكم لا نسيانا فلا تبحثوا عنها
حدثنا عبدالرحمن ثنا أحمد ثنا إسحاق ثنا محمد بن علي ثنا عفان ثنا عبدالرحمن بن زياد ثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي فزارة قال قال ابن عباس إنما هو كتاب الله وسنة رسوله ص فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدري أفي حسناته أم في سيئاته أخبرنا عبدالرحمن ثنا علي ثنا أحمد ثنا سحنون ثنا ابن وهب ثنا ابن لهيعة عن عبيدالله بن أبي جعفر قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه السنة ما سنه الله تعالى ورسوله ص لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة رحم الله عمر فكأنه علم بوقوع ذلك فحذر منه فقد شاهدنا في هذه الأعصار رأيا مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصادما لما في كتاب الله عز وجل قد جعلوه سنة واعتقدوه دينا يرجعون إليه عند التنازع وسموه مذهبا ولعمري أنها
____________________
(1/13)
لمصيبة وبلية وحمية وعصبية أصيب بها الإسلام { إنا لله وإنا إليه راجعون }
وقال ابن وهب وأخبرني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة أنه سمع أباه يقول لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل قال ابن وهب وأخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحللن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما يبلغكم من حفظ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظوه
حدثنا خلف بن قاسم ثنا محمد بن القاسم بن شعبان ثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ثنا عبدالله ابن محمد الضعيف ثنا إسماعيل بن علية ثنا صالح بن مسلم عن الشعبي قال إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس وعن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء قلت لم قال أخاف أن تزل رجلي حدثنا ابن قاسم ثنا ابن شعبان حدثنا إسحق بن إبراهيم ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ثنا النضر بن شميل ثنا ابن عون عن ابن سيرين قال كانوا يرون أنه على الطريق ما دام على الأثر قال حدثنا محمد بن عبدالعزيز قال سمعت الحسن بن علي بن شقيق يقول سمعت عبدالله بن المبارك يقول لرجل إن ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر وقال ابن المبارك عن سفيان قال إنما الدين الآثار وعنه أيضا ليكن الذي تعتمد عليه هذا الأثر وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث وعن شريح أنه قال إن السنة سبقت قياسكم فاتبعوا ولا تبتدعوا فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر وروى عمر بن ثابت عن المغيرة عن الشعبي قال إن السنة لم توضع بالمقاييس وروى الحسن بن واصل عن الحسن قال إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وذكر نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال من يرغب برأيه عن أمر الله يضل وذكر ابن وهب قال أخبرني بكر بن مضر عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال إن اليهود والنصارى إنما استحلوا من العلم الذي كان بأيديهم حين استبقوا الرأي وأخذوا فيه قال وأخبرني يحيى بن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول السنن السنن فإن السنن قوام الدين قال وكان عروة يقول أزهد الناس في عالم أهله وعن هشام بن عروة أنه قال إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا وقال الزهري إياكم وأصحاب الرأي أعيتهم الأحاديث أن يعوها
____________________
(1/14)
قال أبو عمر اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم والعيب في هذه الروايات المذكورة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم وعن التابعين لهم بإحسان فقال جمهور أهل العلم الرأي المذموم المذكور هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت وشققت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا ففي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل للسنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيهما واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من ذلك بأشياء
منها ما أخبرنا به خلف بن أحمد قال حدثنا أحمد بن مطرف ثنا سعيد بن عثمان ثنا نضر بن مرزوق ثنا أسد بن موسى ثنا شريك عن ليث عن طاوس عن ابن عمر قال لا تسئلوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن وحدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالمؤمن ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبدالله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات
وأخبرنا سعيد بن نضر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبدالله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات فسره الأوزاعي قال يعني صعاب المسائل وحدثنا خلف ابن سعيد قال حدثنا عبدالله بن محمد ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبدالعزيز ثنا سليمان بن أحمد ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبدالله بن سعد عن عبادة بن نسى عن الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل
واحتجوا ايضا بحديث سهل بن سعد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها وبأنه ص قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال حدثنا عبدالوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا أحمد بن زهير ثنا أبي ثنا عبدالرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها
____________________
(1/15)
هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد وهو خلاف لفظ الموطأ وقال الدارقطني لم يرو عبدالرحمن بن مهدي عن مالك من حديث اللعان إلا هذه الكلمة وتابعه على ذلك قراد أبو نوح ونوح بن ميمون المضروب عن مالك فذكر حديث عبدالرحمن ابن مهدي من رواية أبي خيثمة والمخزومي وأحمد بن سنان عن ابن مهدي كما ذكره ابن أبي خيثمة سواء حدثنا أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي سعيد البزار قال حدثنا عباس بن محمد ثنا قراد ثنا مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد قال كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها قال وثنا عبدالله ابن محمد بن أبي سعيد والحصين بن صفوان قالا ثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال ثنا أبي قال ثنا نوح بن ميمون أبو محمد بن نوح قال حدثنا مالك عن ابن شهاب قال أخبرني سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره المسائل وعابها
قال الأوزاعي عن عبدة بن ابي لبابة قال وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني عن شيء يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم
أخبرنا عبدالوارث قال حدثنا قاسم ثنا أحمد بن زهير ثنا عبدالوهاب بن نجدة ثنا إسماعيل بن عياش ثنا شرحبيل بن مسلم أنه سمع الحجاج بن عامر الثمالي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم وكثرة السؤال وفي سماع أشهب سأل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال فقال أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسئلة الناس في الاستعطاء واحتج الجمهور أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ورواه عن ابن شهاب معمر وابن عيينة ويونس بن يزيد وغيرهم وهذا لفظ حديث يونس بن يزيد من رواية ابن وهب عنه وروى ابن وهب أيضا قال حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعم قال وأخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وقال عمر بن الخطاب وهو على المنبر أحرج بالله على كل امرئ سأل عن
____________________
(1/16)
شيء لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن وروى جرير بن عبدالحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ص ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن { ويسألونك عن المحيض } { يسألونك عن الشهر الحرام } { ويسألونك عن اليتامى } ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم
قال أبو عمر ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث أقول إن أراد تعداد ما في القرآن من الأسئلة كما هو ظاهر كلام ابن عباس فمنها قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر يسألونك ماذا ينفقون يسألونك عن الأهلة يسألونك ماذا أحل لهم يسألك الناس عن الساعة يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم
قالوا ومن تدبر الاثار المروية في ذم الرأي المرفوعة وآثار الصحابة والتابعين في ذلك بأن له ما ذكرنا قالوا ألا ترى أنهم كانوا يكرهون الجواب في مسائل الأحكام مالم تنزل فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلف وتسطير ذلك واتخاذه دينا
وذكروا من الآثار أيضا ما حدثنا سعيد بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن عجلان عن طاوس عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم أن لا تفعلو أوشك أن يكون فيكم من إذا قال سدد أو وفق فإنكم إن عجلتم تشتت بكم الطرق هاهنا وهاهنا وقال عمر أنه لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن أن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن وسأل مسروق أبي بن كعب عن مسألة فقال أكانت هذه بعد قلت لا قال فاجمني حتى تكون وعن خارجة بن زيد ابن ثابت عن أبيه أنه كان لا يقول برأيه في شيء حين يسأل عنه حتى يقول انزل أم لا فإن لم يكن نزل لم يقل فيه وإن يكن وقع تكلم فيه قال وكان إذا سئل عن مسألة فيقول اوقعت فيقال له يا أبا سعيد ما وقعت ولكنها نعدها فيقول دعوها فإن كانت وقعت أخبرهم قال ابن وهب وأخبرني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه قال وربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان وروينا عن بشر بن الحرث قال قال سفيان بن عيينة من أحب أن يسأل وليس بأهل أن يسأل فما ينبغي أن يسأل قال ابن وهب وأخبرني بكر بن مضر عن ابن هرمز قال أدركت أهل المدينة وما فيها إلا الكتاب والسنة والأمر
____________________
(1/17)
ينزل فينظر فيه السلطان قال فقال لي مالك أدركت أهل هذه البلاد وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم قال ابن وهب يريد المسائل قال وقال مالك إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا ولم يكن هذا الكلام الذي في الناس اليوم وقال ابن وهب أخبرنا أشهل بن حاتم عن عبدالله بن عون عن ابن سيرين قال قال عمر بن الخطاب لأبي مسعود عقبة ابن عمرو ألم أنبأ أنك تفتي الناس ولست باميرول حارها من تولى قارها وكان عمر بن الخطاب يقول إياكم وهذه العضل فإنها إذا نزلت بعث الله إليها من يقيمها ويفسرها قال ابن وهب وأخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبدالملك بن مروان سأل ابن شهاب عن شيء فقال له ابن شهاب أكان هذا يا أمير المؤمنين فقال لا قال فدعه فإنه إذا كان أتى الله له بفرج
حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير ثنا أبي ثنا جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن فإن عمر كان يلعن من سأل عما لم يكن حدثنا عبدالوارث ثنا قاسم ثنا أحمد بن زهير ثنا أبي ثنا عبدالرحمن ابن مهدي ثنا موسى بن علي عن أبيه قال كان زيد بن ثابت إذا سأله إنسان عن شيء قال الله أكان هذا فإن قال نعم نظروا لا لم يتكلم وأتى قوم زيد بن ثابت فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها وكتبوها ثم قالوا لو أخبرناه قال فأتوه فأخبروه فقال أعذرا لعل كل شيء حدثتكم به خطأ إنما اجتهدت لكم رأيي قال سنيد ثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال قيل لجابر بن زيد أنهم يكتبون ما يسمعون منك قال إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبون رأيا أرجع عنه غدا قال سنيد ثنا يزيد عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع قال كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمي صوافي الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق وذكر الطبري في كتاب تهذيب الآثار له قال حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثني إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال قال مالك قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتبع الرأي فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل عليك اتبعته أرى هذا لا يتم وقال عبد إن سمعت عبدالله بن المبارك يقول ليكن الذي تعتمد عليه الأثر وخذ من الرأي ما يفسر به الحديث قال وقال ابن المبارك قال مالك بن دينار لقتادة أتدري أي حكم رفعت قسمت بين الله وبين عباده فقلت هذ لا يصلح وهذا يصلح وذكر الحسن بن علي الحلواني قال حدثني علي بن المديني ثنا معن بن عيسى ثنا مالك عن يحيى بن سعيد قال جاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ثم سأله عن رأيه فأجابه فكتب الرجل فقال رجل من جلساء سعيد
____________________
(1/18)
أنكتب يا أبا محمد رأيك فقال سعيد للرجل ناولنيها فناوله الصحيفة فحرقها قال وحدثنا نعيم ثنا ابن المبارك عن عبدالله بن موهب أن رجلا جاء إلى القسم بن محمد فسأله عن شيء فأجابه فلما ولى الرجل دعاه فقال له لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إن اضطررت إليه عملت به
حدثنا محمد بن خليفة قال ثنا محمد بن الحسن قال ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي يقول عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول ورواه غير الفريابي عن العباس بن الوليد عن أبيه عن الأوزاعي مثله قال وإن زخرفوه بالقول فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم وذكر البخاري عن ابن بكير عن الليث قال قال ربيعة لابن شهاب يا أبا بكر إذا حدثت الناس برأيك فأخبرهم أنه رأيك وإذا حدثت الناس بشيء من السنة فأخبرهم أنه سنة لا يظنون أنه رأيك حدثنا عبدالرحمن ابن يحيى ثنا علي بن محمد ثنا أحمد بن داود ثنا سحنون ثنا ابن وهب قال قال لي مالك بن أنس وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا عبدالله ما علمته فقل به ودل عليه ومالم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء حدثنا أحمد بن عبدالله بن محمد بن علي ثنا أبي ثنا محمد بن عمر بن لبابة ثنا مالك بن علي القرشي ثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي قال دخلت على مالك فوجدته باكيا فسلمت عليه فرد علي ثم سكت عني يبكي فقلت له يا أبا عبدالله ما الذي يبكيك فقال لي يا ابن قعنب أنا لله على ما فرط مني ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه وذكر محمد بن حرث بن أسد الخشني حدثنا أبو عبداله محمد بن عباس النحاس قال سمعت أبا محمد سعيد بن محمد بن الحداد يقول سمعت سحنون بن سعيد يقول ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستخفت به الحقوق غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه قال الأوزاعي إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط وروينا عن الحسن أنه قال إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل ويفتون بها عباد الله وقال عبدالرحمن بن مهدي سمعت حماد بن زيد يقول قيل لأيوب مالك لا تنظر في الرأي فقال أيوب قيل للحمار مالك لا تجتر قال أكره مضغ الباطل وروينا عن رقبة بن مصقلة أنه قال لرجل رآه يختلف إلى صاحب الرأي يا هذا يكفيك من رأيه ما مضغت وترجع إلى أهلك بغير ثقة
____________________
(1/19)
قال الشعبي والله لقد بغض هؤلاء القوم إلى المساجد حتى لهي أبغض إلي من كناسة داري قلت من هم يا أبا عمرو قال الأرائيون قال ومنهم الحكم وحماد وأصحابهم قال الربيع بن خثيم إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه قال أو يقول إن الله أحل هذا وأمر به فيقول كذبت لم أحله ولم آمر به وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب إنهما سمعا مالك بن أنس يقول لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام ما كانوا يجترءون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكره هذا نرى هذا حسنا ونتقي هذا ولا نرى هذا وزاد عتيق بن يعقوب ولا يقولون حلال ولا حرام أما سمعت قول الله عز وجل { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } الحلال ما أحله الله تعالى ورسوله ص والحرام ما حرمه الله تعالى ورسوله ص
قال أبو عمر معنى قول مالك هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم يقل فيه حلال ولا حرام والله تعالى أعلم وقد روي عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه أن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول % وما كل الظنون تكون حقا % ولا كل الصواب على القياس %
وقال أبو وائل لا تقاعدوا أصحاب أرأيت وقال الشعبي ما كلمة أبغض إلى من أرأيت وقال داود الأودي قال لي الشعبي احفظ عني ثلاثا لهن شأن إذا سألت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله تعالى يقول في كتابه أرأيت من اتخذ إلهه هواه حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسئلة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو أحللت حراما والثالثة إذا سئلت عمالا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك وقال الشعبي إنما هلك من كان قبلكم في أرأيت وقال الليث بن سعد رأيت ربيعة بن أبي عبدالرحمن في المنام فقلت له يا أبا عثمان ما حالك قال صرت إلى خير إلا أني لم أحمد على كثير مما خرج مني من الرأي وقال يحيى بن أيوب بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون إذا أراد الله تعالى أن لا يعلم عبده خير أشغله بالأغاليط وسئل رقبة بن مصقلة عن أصحاب الرأي فقال هم أعلم الناس بما لم يكن وأجهلهم بما كان يريد أنهم لم يكن لهم علم ممن مضى قلت وهذا أمر مشاهد في الطائفة المقلدين والعصابة المتعصبين فإنك إذا قلت لواحد منهم أرأيت لو نسي المصلي فسلم في ثلاثة من الرباعية لبادر أن يقول مذهبنا كذا وإذا قلت له لم أسألك عن مذهبك إنما أسئلك عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وقف حمارا يشخ في العقبة وغضب وإحمار وإصفار
قال أبو عمر بن عبدالبر حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن خالد ثنا يوسف بن يعقوب النجيرمي
____________________
(1/20)
بالبصرة ثنا العباس بن الفضل قال سمعت سلمة بن شبيب يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار قال أبو عمر بلغني عن سهل بن عبدالله التستري أنه قال ما أحدث أحد في العلم شيئا إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فهو العطب انتهى كلام ابن عبدالبر بطوله وزاد البيهقي في المدخل إلى علم السنن فقال باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس في موضع النص قال الله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وقال الشافعي فإن تنازعتم يعني والله تعالى أعلم هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم فردوه إلى الله والرسول يعني والله تعالى أعلم إلى ما قال الله والرسول وقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } قال مجاهد البدع والشبهات وأخرج البيهقي بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي رواه مسلم ورواه الثوري عن جعفر وقال فيه وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار قال الشافعي المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهو البدعة الضلالة والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى وأخرج عن عبدالله بن مسعود أنه قال اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وأخرج أيضا عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يكون بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله تعالى ولا تعملوا برأيكم وأخرج عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئتكم به قال البيهقي تفرد به نعيم بن حماد قلت تقدم أن نعيما ثقة صدوق زاد في التقريب يخطئ كثيرا وعن عمر اتقوا الرأي في دينكم وعن الشبعي أنه قال لقد بغض إلي هؤلاء المساجد حتى لهي أبغض إلي من كناسة داري فقلت مم يا أبا عمرو قال هؤلاء الأرائيون أصحاب الرأي لما أعيتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها جاءوا يجادلون وعن الزهري مثل ذلك وعن عمر بن الخطاب بسند رجاله ثقات أنه قال يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهاد فوالله ما ألو على الحق وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة فقال اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم قالوا ترانا قد صدقناك بما تقول ولكنك تكتب باسمك اللهم قال فرضي
____________________
(1/21)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتيت عليهم حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تراني أرضى وتأبى أنت قال فرضيت وعن أبي حصين قال قال أبو وائل لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره قال فقال اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت والله ورسوله أعلم وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا في أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا على أمر نعرفه قبل هذا الأمر ما يسد منه خصم إلا انفتح علينا خصم ما ندري كيف نأتي إليه رواه البخاري في صحيحه وعن علي رضي الله عنه قال لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما وعن ابن عمر أنه قال لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر وعن عروة بن الزبير أنه كان يقول اتباع السنن قوام الدين
قال البيهقي حدثنا أبو سعيد ثنا أبو الحر ثنا بشير ثنا الحميدي ثنا يحيى بن سليم ثنا داود بن أبي هند قال سمعت ابن سيرين يقول أول من قاس إبليس قال خلقتني من نار وخلقته من طين وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وعن الحسن أنه كان يقول اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم وعن الشعبي ما كلمة أبغض إلي من أرأيت وعن ابن عون قال قال إبراهيم أن القوم لم يدخر عنهم شيء خبئ لكم بفضل عندكم وعن عامر بن يساف أنه قال سمعت الأوزاعي يقول إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك يا عامر أن تقول بغيره فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى وعن سفيان الثوري أنه قال العلم كله العلم بالآثار وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن وقال أبو الأسود قلت لابن المبارك ما ترى في كتابة الرأي قال أن تكتبه لتعرف به الحديث فنعم وأما أن تكتبه فتتخذه دينا فلا وقال ابن وهب ثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة قال لما جئت العراق جاءني أهل العراق فقالو حدثنا عن ربيعة الرأي قال فقلت يا أهل العراق تقولون ربيعة الرأي لا والله ما رأيت أحدا أحفظ للسنة منه وعن سفيان أنه قال قال ربيعة بن أبي عبدالرحمن إذا بشع القياس فدعه يعني إذا شنع قال وكيع قال أبو حنيفة من القياس ما هو أقبح من البول في المسجد قلت وصدق الإمام أبو حنيفة وهو القياس المصادم لنص كتاب أو سنة وقال يحيى بن حربس سمعت سفيان وأتاه رجل فقال ما تنقم على أبي حنيفة قال وماله قال سمعته يقول آخذ بكتاب الله فمالم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة نبيه أخذت بقول أصحابه من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب وعدد رجالا فقوم اجتهدوا فاجتهد كما اجتهدوا قال فسكت سفيان طويلا ثم قال كلمات برأيه ما بقي في المجلس أحد إلا كتبه نستمع السديد من الحديث فنخاف ونسمع اللين فنرجوه ولا نحاسب الأحياء ولا نقضي على الأموات نسلم ما سمعناه ونكل
____________________
(1/22)
ما لم نعلم إلى عالمه ونتهم رأينا لرأيهم
قال الشيخ أحمد البيهقي فذكرنا في الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا كيف يرجح قول بعضهم على بعض وبماذا يرجح وليس له في الأخذ بقول بعضهم اختيار شهوة من غير دلالة والذي قال سفيان الثوري من أنا نتهم رأينا لرأيهم أن أراد الصحابة إذا اتفقوا على شيء أو الواحد منهم إذا انفرد بقوله ولا مخالف له نعلمه منهم فكما قال وإن أراد التابعين إذا اتفقوا على شيء فكما قال وأن أراد الواحد منهم إذا انفرد بقوله لامخالف له نعلمه منهم فقد قال كذلك بعض أصحابنا وأن اختلفوا فلا بد من الاجتهاد وفي اختيار أصح أقوالهم وبالله التوفيق
وأخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال سمعت أبا زكريا العنبري يقول سمعت أبا الوليد وحدث بحديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ما رأيك فقال ليس لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي وقال يحيى بن آدم لا تحتاج مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد وإنما يقال سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عليها
أقول وعلى هذا ينبغي أن يحمل حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فلا يبقى فيه إشكال في العطف فليس للخلفاء سنة تتبع إلا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وعن مجاهد ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك من قوله إلا النبي صلى الله عليه وسلم وروي معناه عن الشعبي وعن الشعبي أنه قال ما حدثوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به وما قالوا فيه برأيهم قبل عليه قال أبو عمر يريد به الرأي المخالف للأثر & باب معرفة أصول العلم وحقيقته وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقا &
أخرج ابن عبدالبر بسند فيه عبدالرحمن بن زياد الأفريقي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العلم ثلاثة فما سوى ذلك فضل آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة قلت وأخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم وفي إسناده عبدالرحمن بن رافع وفيهما مقال قال ابن عبدالبر والسنة القائمة الدائمة المحافظ عليها القيام إسنادها والفريضة العادلة المساوية للقرآن في وجوب العلم بها وفي كونها صدقا وصوابا وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري قلت وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس موقوفا وأبو نعيم والطبراني في الأوسط والخطيب في رواة مالك والدارقطني في غرائب مالك موقوفا قال الحافظ بن حجر الموقوف حسن الإسناد وقال أبو عمر وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما الأمور ثلاثة
____________________
(1/23)
أمر تبين لك رشده فاتبعه وأمر تبين لك زيغه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه وأخرج بسنده عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وقال أبو عمر أيضا وفي كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عروة كتبت إلي تسألني عن القضاء بين الناس وأن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بحكم أئمة الهدي ثم استشارة ذوي العلم والرأي وذكر ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة قال كان ابن شبرمة يقول % ما في القضاء شفاعة لمخاصم % عند اللبيب ولا الفقيه العالم % % هون علي إذا قضيت بسنة % أو بالكتاب برغم أنف الراغم % % وقضيت فيما لم 2 أجد أثرا به % ببصائر معروفة ومعالم %
وعن ابن وهب قال قال مالك الحكم حكمان حكم جاء به كتاب الله وحكم أحكمته السنة قال ومجتهد رأيه فلعله يوفق قال ومتكلف فطعن عليه وأخرج بسنده إلى ابن وهب قال قال لي مالك الحكم الذي يحكم به بين الناس حكمان ما في كتاب الله أو أحكمته السنة فذلك الحكم الواجب وذلك الصواب والحكم الذي يجتهد فيه العالم رأيه فلعله يوفق وثالث متكلف فما أحراه ألا يوفق قال وقال مالك الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب سمعت مالكا يقول ليس الفقه بكثرة المسائل ولكن الفقه يؤتيه الله من يشاء من خلقه وقال ابن وضاح وسئل سحنون أيسع العالم أن يقول لا أدري فيما يدري فقال أما ما فيه كتاب قائم أو سنة ثابتة فلا يسعه ذلك وأما كان من هذا الرأي فإنه يسعه ذلك لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ
وذكر ابن وهب في كتاب العلم من جامعه قال سمعت مالكا يقول إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله تعالى في القلوب وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب وقال مالك العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل
قال أبو عمر وأخبرنا إبراهيم بن شاكر قال ثنا محمد بن يحيى بن عبدالعزيز ثنا أسلم بن عبدالعزيز قال ثنا المزني والربيع بن سليمان قالا قال الشافعي ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم وجهة العلم ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع أو القياس على هذه الأصول وما في معناها قال أبو عمر أما الإجماع فمأخوذ من قول الله تعالى { ويتبع غير سبيل المؤمنين } لأن الاختلاف لا يصح معه هذا الظاهر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة وعندي أن إجماع الصحابة لا يجوز خلافهم والله تعالى أعلم لأنه لا يجوز على جميعهم جهل التأويل وفي قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس }
____________________
(1/24)
دليل على أن جماعتهم إذا أجمعوا حجة على من خالفهم كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على جميعهم قلت بل أدلة الإجماع من الكتاب والسنة كثيرة
وأخرج البخاري في صحيحه وأبو عمر واللفظ له بسنديهما إلى أبي هريرة أنه قال يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة قال لقد ظننت يا أبا هريرة أنه لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رايت من حرصك على الحديث أن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه وأخرج ابن عبدالبر بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا رد إليك ربك في الشفاعة فقال والذي نفس محمد بيده لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك لما رأيت من حرصك على العلم وذكر الحديث
قال أبو عمر في الخبر الأول لما رأيت من حرصك على الحديث وفي هذا لما رأيت من حرصك على العلم فسمي الحديث علما على الإطلاق ومثل ذلك قوله ص نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها غيره فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فسمي الحديث فقها مطلقا وعلى ذلك قوله ص لعبدالله بن عمرو بن العاص إذ أذن له أن يكتب حديثه قيد العلم فقال يا رسول الله وما تقييد العلم قال الكتاب فأطلق على حديثه اسم العلم لمن تدبره وفهمه وأخرج بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المنذر أي آية معك في كتاب الله أعظم مرتين قال قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر وذكر تمام الحديث وأخرج بسند رجاله ثقات عن داود بن أبي عاصم أن أبا سلمة بن عبدالرحمن قال بينا أنا وأبو هريرة عند ابن عباس جاءت امرأة فقالت توفى عنها زوجها وهي حامل فذكرت أنها وضعت لأدنى من أربعة أشهر من يوم مات عنها زوجها فقال ابن عباس أنت لآخر الأجلين قال أبو سلمة فقلت إن عندي من هذا علما وذكر حديث سبيعة الأسلمية وروى مالك عن محمد ابن شهاب عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عبدالله بن الحرث عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع فيها واختلف عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء عبدالرحمن بن عوف فقال إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض وذكر الحديث
قلت فهذه الأحاديث والآثار مصرحة بأن اسم العلم إنما يطلق على ما في كتاب الله وسنة رسول
____________________
(1/25)
الله صلى الله عليه وسلم والإجماع أو ما قيس على هذه الأصول عند فقد نص على ذلك عند من يرى ذلك لا على ما لهج به أهل التقليد والعصبية من حصرهم العلم على ما دون من كتب الرأي المذهبية مع مصادمة بعض ذلك لنصوص الأحاديث النبوية
وقد قال الشعبي وما قالوا فيه برأيهم فبل عليه وهذا في عصر التابعين الذين شهد لهم سيد المرسلين ص بالخيرية فما بالك برأي أهل القرن الثالث عشر الذين جعلوا دينهم الحمية والعصبية وانحصروا على طوائف فطائفة منهم خليليون ادعوا أن جميع ما أنزل على محمد ص محصور في مختصر خليل ونزلوه منزلة كتاب الله العزيز الجليل فصاروا يتبعون مفهومه ومنطوقه وكل دقيق فيه وجليل وطائفة منهم كنزيون أو دريون ادعوا أن ما في هذين الكتابين هو العلم وأنهما معصومان من الخطأ والوهم فإن شذ شيء عن هذين من علم فالعمدة على ما في الأسعدية والخيرية وما في هذه الكتب عند علمائهم مقدم في العمل عل ما نزل به جبريل على خير البرية عليهم الصلوات والتسليمات والبركات وعلى من تبعهم وطائفة منهم منهجيون أو منهاجيون فيحثون عن منطوقهما ومفهومهما وبما فيهما يتعبدون فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد قال الله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } قال عطاء بن أبي رباح إلى الله إلى كتاب الله والرسول إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ميمون بن مهران أنه قال إلى الله إلى كتاب الله والرسول قال ما دام حيا فإذا قبض فإلى سنته
وأخرج ابن عبدالبر بسند رجاله ثقات عن ابن عون أنه قال ثلاث أخبئهن لي ولإخواني هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه وهذه السنة يتطلبها ويسأل عنها ويذر الناس إلا من خير قال أحمد بن خالد هذا هو الحق الذي لا شك فيه قال وكان ابن وضاح يعجبه هذا الخبر ويقول جيد جيد وقال يحيى بن أكثم ليس من العلوم كلها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه لأن الإيمان بناسخه واجب فرضا والعمل به لازم واجب ديانة والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه فالواجب على كل عالم علم ذلك لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله وعن عطاء في قوله عز وجل { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } قال طاعة الله ورسوله اتباع الكتاب والسنة وأولى الأمم منكم قال أولوا العلم والفقه
____________________
(1/26)
وعن مجاهد أيضا أولي الأمر أهل الفقه قلت وتقدم أن العلم الفقه هو ما جاء عن الله تعالى ورسوله ص من القرآن والأحاديث وما جاء عن أصحابه من الآثار والإجماع والقياس بشرط عدم النص وعن بقية بن الوليد قال قال لي الأوزاعي يا بقية العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومالم يجيء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعلم
وقال بقية أيضا سمعت الأوزاعي يقول العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومالم يجئ عن أصحاب محمد ص فليس بعلم وعن قتادة في قوله عز وجل { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال عمر بن عبدالواحد سمعت الأوزاعي يحدث عن ابن المسيب أنه سئل عن شيء فقال اختلف فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا رأي لي معهم قال ابن وضاح هذا هو الحق قال أبو عمر معناه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم به وعن مجاهد أنه قال العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعن سعيد بن جبير أنه قال مالم يعرفه البدريون فليس من الدين قال طلق بن غنام أبطأ حفص بن غياث في قضية فقلت له فقال إنما هو رأي ليس فيه كتاب ولا سنة وإنما أحز في لحمي فما عجلني قال قال أبو سفيان الحمير سألت هشيما عن تفسير القرآن كيف صار فيه اختلاف قال قالوا برأيهم فاختلفوا وقال عاصم الأحول كان ابن سيرين إذا سئل عن شيء قال ليس عندي فيه إلا رأي أتهمه فيقال له قل فيه على ذلك برأيك فيقول لو أعلم أن رأيي يثبت لقلت فيه ولكني أخاف أن أرى اليوم رأيا وأرى غدا غيره فأحتاج أن أتبع الناس في دورهم وعن سالم بن عبدالله بن عمر أن رجلا سأله عن شيء فقال له لم أسمع في هذا بشيء فقال له الرجل إني أرضى برأيك فقال له سالم لعلي أن أخبرك برأيي ثم تذهب فأرى بعدك رأيا غيره فلا أجدك وعن عبدالله بن عمر أنه كان إذا سئل عن شيء لم يبلغه فيه شيء قال إن شئتم أخبرتكم بالظن
وقال أبو عمر بن عبدالبر أخبرنا عبدالرحمن بن يحيى حدثنا علي بن محمد ثنا أحمد بن سليمان ثنا سحنون ثنا ابن وهب قال سمعت خالد بن سليمان الحضرمي يقول سمعت دراجا أبا السمح يقول يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى يقعد شحما ثم يسير عليها في الأمصار حتى تسير نقضا يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن
قلت ولقد صدق أبو السمح ولعله أخذه من الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن
____________________
(1/27)
يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وقال ابن عبدالبر قرأت على أحمد بن قاسم أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال حدثنا الحرث ابن أبي أسامة ثنا يزيد بن هارون ثنا محمد بن عبدالله الفزاري ثنا عبدالله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني ربي أن أمحو المزامير والمعازف والخمر والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد الخمر في الدنيا إلا سقيته من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ولا يدعها عبد من عبيدي تحرجا عنها إلا سقيته إياها من حظيرة القدس
قال أبو أمامة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لكل شيء إقبالا وإدبارا وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة تتفقه من عند أيسرها أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا ثم ذكرا أن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها العلم من عند أيسرها حق لا يبقى إلا الفقيه أو الفقيهان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا وقيل أتطغيان علينا وحتى تشرب الخمر في ناديهم ومجالسهم وأسواقهم وتنحل الخمر اسما غير أسمائها وحتى يلعن آخر هذه الأمة أولها ألا فعليهم حلت اللعنة وذكر تمام الحديث
قلت ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ذلك قد وقع لأن اسم الفقيه عند السلف كما تقدم إنما يقع على من علم الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة وأما من اشتغل بآراء الرجال واتخذه دينا ومذهبا ونبذ كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا الصحابة والتابعين وآثارهم من ورائه فلا يطلق عليه اسم الفقيه بل هو باسم الهوى والعصبية أولى وأحرى ولقد شاهدنا في زماننا هذا مما قاله أبو السمح فلقد طفت من أقصى المغرب ومن أقصى السودان إلى الحرمين الشريفين فلم ألق أحدا يسأل عن نازلة فيرجع إلى كتاب رب العالمين وسنة سيد المرسلين وآثار الصحابة والتابعين إلا ثلاثة رجال وكل واحد منهم مقموع محسود يبغضه جميع من في بلده من المتفقهين وغالب من فيه من العوام والمتسمين بسيم الصالحين وموجب العداوة والحسد تمسكهم بالكتاب وسنة إمام المتقين صلى الله عليه وسلم ورفضهم كلام الطائفة العصبية والمقلدين
قال أبو عمر بسنده إلى عطاء عن أبيه قال سئل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فقال لأستحيي من ربي أن أقول في أمة محمد صلى الله عليه وسلم برأيي وقال عطاء وأضعف العلم أيضا علم النظر أن يقول الرجل رأيت فلانا يفعل كذا ولعله فعله ساهيا وقال ابن
____________________
(1/28)
المقفع في اليتيمة ولعمري أن لقولهم ليس الدين بالخصومة أصلا يثبت وصدقوا ما الدين بالخصومة ولو كان خصومة لكان موكولا إلى الناس يثبتون بآرائهم وظنهم وكل موكول إلى الناس رهينة ضياع وما ينقم على أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأيا وليس الرأي ثقة ولا حتما ولم يجاوز الرأي منزلة الشك والظن إلا قريبا ولم يبلغ أن يكون يقينا ولا ثبتا ولستم بسامعين أحدا يقول لأمر قد استيقنه وعلمه أرى أنه كذا وكذا فلا أجد أحدا أشد استخفافا بدينه ممن أخذ رأيه ورأى الرجال دينا مفروضا
قال أبو عمر وإلى هذا المعنى والله أعلم أشار مصعب بن الزبير في قصيدته حيث قال % أاقعد بعد ما رجفت عظامي % وكان الموت أقرب ما يليني % % أجادل كل معترض خصيم % وأجعل دينه عرضا لديني % % فاترك ما علمت لرأي غيري % وليس الرأي كالعلم اليقين % % وما أنا والخصومة وهي لبس % تصرف في الشمال وفي اليمين % % وقد سنت لنا سنن قوام % يلحن بكل فج أو وجين % % وكان الحق ليس به خفاء % أغر كغرة الفلق المبين % % وما عوض لنا منهاج جهم % بمنهاج ابن أمنة الأمين % % فأما ما علمت فقد كفاني % وأما ما جهلت فجنبوني % % فلست بمكفر أحدا يصلي % ولم أجزمكموا أن تكفروني % % وكنا إخوة نرمي جميعا % فنرمي كل مرتاب ظنين % % وما برح التكلف إن رمينا % لشأن واحد فوق الشئوني % % فأوشك أن يخر عماد بيت % وينقطع القرين من القرين %
قال ولا أعلم بين متقدمي هذه الأمة وسلفها خلافا إن الرأي ليس بعلم حقيقة وأما أصول العلم فالكتاب والسنة وتنقسم السنة قسمين أحدهما إجماع ينقله الكافة عن الكافة فهذا من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يوجدهناك خلاف ومن رد إجماعهم فقد رد نصا من نصوص الله تعالى يجب استتابته عليه وإراقة دمه إن لم يتب لخروجه مما أجمع عليه المسلمون وسلوكه غير سبيل جميعهم والضرب الثاني من السنة خبر الآحاد والثقات الأثبات المتصل فهذا يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم القدوة والحجة ومنهم من يقول أنه يوجب العلم والعمل جميعا وقال بشر بن السري السقطي نظرت في العلم فإذا هو الحديث والرأي فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين وذكر الموت وذكر ربوبية الله تعالى سبحانه وجلاله وعظمته وذكر الجنة والنار وذكر الحلال والحرام والحث على صلة
____________________
(1/29)
الأرحام وجماع الخير ونظرت في الرأي فإذا فيه المكر والخديعة والتشاح واستقصاء الحق والمماكسة في الدين واستعمال الحيل والبعث على قطع الأرحام والتجرؤ على الحرام وروي مثل هذا الكلام عن يونس بن أسلم
قال ابن عبدالبر أنشدني عبدالرحمن بن يحيى قال أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة قال أنشدنا أبو القاسم محمد بن جعفر الأخباري قال أنشدنا أبو عبدالرحمن عبدالله بن احمد بن حنبل عن أبيه % دين النبي محمد أخبار % نعم المطية للفتىءاثار % % لا ترغبن عن الحديث وأهله % فالرأي ليل والحديث نهار % % ولربما جهل الفتى أثر الهدى % والشمس بازغة لها أنوار % ولبعض أهل العلم % العلم قال الله قال رسوله % قال الصحاب ليس خلف فيه % % ما العلم نصبك للخلاف سفاهة % بين النصوص وبين رأي سفيه % % كلا ولا نصب الخلاف جهالة % بين الرسول وبين رأي فقيه % % كلا ولا رد النصوص تعمدا % حذرا من التجسيم والتشبيه % % حاشا النصوص من الذي رميت به % من فرقة التعطيل والتمويه %
وقال أبو عمر رحمه الله تعالى وقلت أنا % عقالة ذي نصح وذات فوائد % إذا من ذوي الألباب كان استماعها % % عليك بآثار النبي فإنها % من أفضل أعمال الرشاد اتباعها % & باب العبارة عن حدود علم الديانات وسائر العلوم المتصرفات بحسب تصرف الحاجات &
قال أبو عمر حد العلم عند المتكلمين في هذا المعنى هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقنن شيئا وتبينه فقد علمه وعلى هذا من لم يستيقن الشيء وقال به تقليدا فلم يعلمه والتقليد عند جماعة العلماء غير الاتباع لأن الاتباع هو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه والتقليد أن تقول بقول وأنت لا تعرفه ولا وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه أو أن تبين لك خطأه فتتبعه مخافة خلافه وأنت قد بان لك فساد قوله وهذا محرم القول به
____________________
(1/30)
في دين الله سبحانه والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة علم أعلى وعلم أوسط وعلم أسفل فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحدالكلام فيه بغير ما أنزل الله تعالى في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصا والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة والعلم الأسفل هو إحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والرمي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها فالعلم الأعلى علم الأديان والأوسط علم الأبدان والأسفل ما دربت على علمه الجوارح واتفق أهل الأديان أن العلم الأعلى هو علم الدين واتفق أهل الإسلام أن الدين تكون معرفته على ثلاثة أقسام أولها معرفة خاصة الإيمان والإسلام وذلك معرفة التوحيد والإخلاص ولا يوصل إلى علم ذلك إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو المؤدي عن الله والمبين لمراده تعالى وبما في القرآن من الأمر بالاعتبار في خلق الله تعالى بالدلائل من آثار صنعته في بريته على توحيده وأزليته سبحانه والإقرار والتصديق بكل ما في القرآن وبملائكة الله وكتبه ورسله
والقسم الثاني معرفة مخرج خبر الدين وشرائعه وذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي شرع الله تعالى الدين على لسانه ويده ومعرفة أصحابه الذين أدوا ذلك عنه ومعرفة الرجال الذين حملوا ذلك وطبقاتهم إلى زمانك ومعرفة الخبر الذي يقطع العذر لتواتره وظهوره وقد وضع العلماء في كتب الأصول من تلخيص وجوه الأخبار ومخارجها ما يكفي الناظر فيه ويشفيه فراجعه فيها
والقسم الثالث معرفة السنن واجبها وآدابها وعلم الأحكام وفي ذلك يدخل خبر الخاصة العدول ومعرفته ومعرفة الفريضة من النافلة ومخارج الحقوق والتداعي ومعرفة الإجماع من الشذوذ قالوا ولا يوصل إلى الفقه إلا بمعرفة ذلك وبالله التوفيق & باب من يستحق أن يسمى فقيها أو عالما حقيقة لا مجازا أو من يجوز له الفتيا عند العلماء &
أخرج أبو عمر بأسانيد رجال بعضها ثقاة عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا عبدالله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات قال أتدري أي الناس أعلم قلت الله وسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه قال أبو يوسف وهذه صفة الفقهاء وفي رواية
____________________
(1/31)
أفضلهم عملا أفضلهم علما
وأخرج بسند فيه إسحاق بن أسيد وهو ضعيف عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه قالوا بلى قال من لم يقنط الناس من رحمة الله ومن لم يؤيسهم من روح الله ومن لم يؤمنهم من مكر الله ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه ولا علم ليس فيه تفهم ولا قراءة ليس فيها تدبر قال أبو عمر ولا يأتي هذا الحديث مرفوعا إلا من هذا الوجه وأكثرهم يوقفونه على علي
وقيل للقمان أي الناس أغنى قال من رضي بما أوتي قالوا فأيهم أعلم قال عالم غرثان العلم قال ابن وهب يريد الذي لا يشبع من العلم وعن عمر مولى غفرة أن موسى عليه السلام قال يا رب أي عبادك أعلم قال الذي يلتمس علم الناس إلى علمه
وأخرج ابن عبدالبر بسند فيه صدقة بن عبدالله عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ولا يفقه العبد كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة وقال أبو عمر صدقة بن عبدالله هذا يعرف بالسمين وهو ضعيف عندهم مجمع على ضعفه وهذا حديث لا يصح مرفوعا وإنما الصحيح فيه أنه من قول أبي الدرداء وأخرج من طريق عبدالرزاق عن أبي الدرداء أنه قال لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة ولن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم تقبل على نفسك فتكون لها أشد مقتا منك للناس
قال أبو عمر قال أبو داود حدثنا محمد بن عبيد عن حماد بن زيد قال قلت لأيوب أرأيت قوله حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة فسكت يتفكر قلت هو أن يرى لها وجوها فيهاب الإقدام عليه قال هو هذا هو هذا وقال إياس بن معاوية أنه لتأتيني القضية أعرف له وجهين فأيهما أخذت به عرفت أني قضيت بالحق وأخرج بسنده عن قتادة أنه قال من لم يعرف الاختلاف لم يشم رائحة الفقه بأنفه
وعن يزيد بن زريع أنه قال سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالما وقال محمد بن عيسى سمعت هشام بن عبدالله الرازي يقول من لم يعرف اختلاف القراء فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه وعن سفيان بن عيينة قال سمعت أيوب السختياني يقول أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء قال وقال ابن عيينة العالم الذي يعطي كل حديث حقه وعن نعيم بن حماد
____________________
(1/32)
أنه قال سمعت ابن عيينة يقول أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء قال الحرث بن يعقوب أن الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكائد الشيطان
وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم قال سئل مالك قيل له لمن تجوز الفتوى قال لا تجوز الفتوى إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد ص وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يفتي
قلت قال ابن القيم رحمه الله مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى أنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارج عنه ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه مالا يحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر انتهى
وقال أبو عمر قال عبدالملك بن حبيب سمعت ابن الماجشون يقول كانوا يقولون لا يكون إماما في الفقه من لم يكن إماما في القرآن والآثار ولا يكون إماما في الآثار من لم يكن إماما في الفقه قال وقال لي ابن الماجشون كانوا يقولون لا يكون فقيها في الحادث من لم يكن عالما بالماضي وقال علي بن الحسن بن شقيق سمعت عبدالله بن المبارك يسأل متى يسع الرجل أن يفتي قال إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي وقال عبدالرحمن ابن مهدي لا يكون إماما في الحديث من يتبع شواذ الحديث أو حدث بكل ما سمع أو حدث عن كل أحد وقال سعيد بن أبي عروبة من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما وقال قبيصة بن عقبة لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس وقال عبدالرحمن بن مهدي لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم ولا يكون إماما في العلم من روى عن كل أحد ولا يكون إماما في العلم من روى كل ما سمع وروى مالك بن أنس عن سعيد بن المسيب بلغه عنه أنه كان يقول ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه بفضله كما أنه من غلب عليه نقصانه ذهب فضله وقال غيره لا يسلم العالم من الخطأ فمن أخطأ قليلا وأصاب كثيرا فهو عالم ومن اصاب قليلا وأخطأ كثيرا فهو جاهل
____________________
(1/33)
& باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع &
قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } وأخرج البيهقي في المدخل وابن عبدالبر في كتاب العلم بأسانيدهما إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قيل له في قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } أكانوا يعبدونهم فقال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه فصاروا بذلك أربابا قال البيهقي وروي هذا عن عدي بن حاتم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أبو عبدالله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي ثنا أبو جعفر محمد بن عبدالله البغدادي ثنا عبدالعزيز ثنا أبو غسان وابن الأصبهاني ح وأخبرنا أبو عبدالله الحافظ أنا ابن عون محمد بن أحمد ماهان بمكة ثنا علي بن عبدالعزيز ثنا ابن الأصبهاني قال ثنا عبدالسلام بن حرب قال ثنا غطيف بن أعين من أهل الجزيرة عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك قال فطرحته قال وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة وقرأ هذه الآية { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال فقلت يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه قال قلت بلى قال فتلك عبادتهم هذا لفظ حديث السوسي وفي رواية الحافظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أليس كانوا يحلون لكم الحرام فتحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قال قلت بلى قال فتلك عبادتهم
قال ابن عبدالبر ثنا عبدالوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا يوسف بن عدي ثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عز وجل { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال أما أنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حراما وحرامه حلالا فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية قال الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال أيضا { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون }
____________________
(1/34)
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } وقال { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } وقال عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } وقال { إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الأخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسئلة دنياه فأخطأ وجهها كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه
وقال الله عز وجل { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وفيما ذكرناه دليل على بطلان التقليد فإذا بطل وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك انتهى
وقال البيهقي أخبرنا أبو عبدالله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا الشافعي قال العلم من وجهين يعني علم الشريعة اتباع واستنباط فالاتباع اتباع كتاب الله فإن لم يكن فيه فسنة فإن لم يكن فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفا فإن لم يكن فقياس على كتاب الله وإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن فقياس على عامة من سلفنا لا نخالف ولا يجوز القول بالقياس إلا في هذه الحالة وقيل الذي يطلب العلم ولا حجة له كمثل حاطب الليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه ولا يدري
وأخرج البيهقي بسنده إلى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم من السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة قال البيهقي هذا حديث متنه مشهورا وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذه إسناد انتهى
قال ابن عبدالبر أخبرنا عبدالوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا أبو بكر عبدالله بن عمرو بن محمد العثماني بالمدينة ثنا عبدالله بن مسلم ثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني لأخاف على من بعدي من أعمال ثلاثة قال وما هي يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن
____________________
(1/35)
هوى متبع وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تركت فيكم أمرين لن تضلو ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله وأخرج بسنده إلى عمر رضي الله عنه ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون
وأخرج عن معاذ بن جبل أنه كان يقول في مجلسه كل يوم قلما يخطيه أن يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون ان وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء ويراجع الحق وأن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة فمن ابتغاهما وجدهما
وأخرج بسنده إلى أبي الدرداء إنه قال إن فيما أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق وأخرج بسنده إلى معاذ بن جبل أنه قال يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوا دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه وما شككتم فيه فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس بنافعته دنياه
وأخرج بسنده إلى سلمان الفارسي أنه قال كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال المنافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوه ومالم تعرفوه فكلوه إلى الله وأما الدنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم وشبه الحكماء زلة العالم بإنكسار السفينة لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه
وأخرج عن ابن مسعود بسند رجاله ثقاة أنه كان يقول اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك قال ابن وهب فسألت سفيان عن الإمعة فحدثني عن أبي الزعراء عن ابي الأحوص عن ابن مسعود قال كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى طعام فيذهب معه بآخر وهو
____________________
(1/36)
فيكم اليوم المحقب دينه الرجال قال أبو عبيد أصل الإمعة هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم فهو يتابع كل أحد على رأيه ولا يثبت على شيء والمحقب الناس دينه الذي يتبع هذا وهذا
وأخرج عن ابن عباس أنه قال ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ثم تمضي الاتباع وقال قال علي بن أبي طالب لكميل بن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم مستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ثم قال إن هاهنا لعلما وأشار بيده إلى صدره فلو أصبت له حملة بلى لقد أصبت لقنا غير مأمون يستعمل الدين للدنيا ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه أف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر شغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه
وعن الحارث الأعور أنه قال سئل علي بن أبي طالب عن مسئلة فدخل مبادرا ثم خرج في حذا ورداء وهو متبسم فقيل له يا أمير المؤمنين إنك كنت إذا سئلت عن مسئلة تكون فيها كالمسلة المحماة قال إني كنت حاقنا ولا رأي لحاقن ثم أنشأ يقول % إذا المشكلات تصدين لي % كشفت حقائقها بالنظر % % فإن برقت في مخيل الصواب % عمياء لا يجتليها البصر % % مقنعة بغيوب الأمور % وضعت عليها صحيح الفكر % % لسانا كشقشقة الأرحبي % أو كالحسام اليماني الذكر % % وقلبا إذا استنطقته الفنو % ن أبر عليها بواه درر % % ولست بإمعة في الرجا % ل يسائل هذا وذا ما الخبر % % ولكنني مذرب الأصغرين % أبين مع ما مضى ما غبر %
قال أبو علي المخبل السحاب يخال فيه المطر والشقشقة ما يخرجه الفحل من فيه عند هياجه ومنه قيل لخطباء الرجال شقاشق وأبر زاد على ما تستنطقه والإمعة الأحمق الذي لا يثبت على رأي واحد والمذرب الحاد واصغراه قلبه ولسانه قال أبو عمر من الشقاشق ما رواه بسند عن أنس أن عمر رأى رجلا يخطب فأكثر فقال عمر إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان
____________________
(1/37)
وأخرج بسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم ولا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وقال ابن مسعود ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه أسوة في الشر
قال ابن عبدالبر وأنشد الصولي عن المراغي قال أنشدني أبو العباس الطبري عن أبي سعيد الطبري قال أنشدني الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي لنفسه وكان من أفضل أهل زمانه % تريد تنام على ذي الشبه % وعلك إن نمت لم تنتبه % % فجاهد وقلد كتاب الإله % لتلقى الإله إذا مت به % % فقد قلد الناس رهبانهم % وكل يجادل عن راهبه % % وللحق مستنبط واحد % وكك يرى الحق في مذهبه % % ففيما أرى عجب غير أن % بيان التفرق من أعجبه %
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤسا جهالا يسئلون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده وقال أيوب ليس تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره
وقال عبيدالله بن المعتز لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد وهذا كله لغير العامة فإن العامة لا بدل لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة والله تعالى أعلم ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } واجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بخبره بالقبلة إذا أشكلت عليه فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين لا بد له من تقليد عالم انتهى كلام الحافظ أبي عمر بن عبدالبر
قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي ناقلا عن خزانة الروايات المراد بالعامي هنا هو العامي الصرف الجاهل الذي لا يعرف معنى النصوص والأحاديث وتأويلاتها وأما العالم الذي يعرف معنى النصوص والأخبار وهو من أهل الدراية وثبت عنده صحتها من المحدثين أو من كتبهم الموثوقة المشهورة المتداولة فيجوز له العمل عليها وإن كان مخالفا لمذهبه إلى أن قال وأما قول أبي يوسف أنه يجب على العامي الاقتداء بالفقهاء فمحمول على العامي الصرف الذي لا يعرف معنى الأحاديث وتأويلاتها لأنه أشار إليه صاحب الهداية بقوله لعذر عدم الاهتداء إلى معرفة
____________________
(1/38)
الأحاديث وكذا قوله وإن عرفت تأويله يجب الكفارة يشير إلى أن المراد بالعامي غير العالم وفي الحميدي العامي منسوب إلى العامة وهم الجهال فعلم من هذه الأشارات أن مراد أبي يوسف بالعامي الجاهل الذي لا يعرف معنى النص انتهى ملخصا
قلت في كلام الحافظ أبي عمر من الآثار المتقدمة في هذا الباب وفي باب ذم الرأي ما يدل على أن المراد بالعامي الجاهل الصرف فهو ظاهر لمن تأمل فيه وقول الحافظ أبي عمر بن عبدالبر لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله عز وجل { فاسألوا أهل الذكر } الخ فيه نظر فإن دعوى الإجماع فيه غير مسلم فقد نقل الأصفهاني في تفسيره عن الإمام ابن دقيق العيد ما ملخصه أن اجتهاد العامي عند من قال به من العلماء هو أنه إذا سئل في هذه الأعصار التي غلب فيها الفتوى بالاختيارات البشرية غير المعصومة بل المختلفة المتضادة أن يقول للمفتي هكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث ولا يلزم المفتي أن يذكر له الآية والحديث وما دلا عليه واستخرج منها بطريق الأصول الصحيح وإن قال له هذا قولي أو رأيي أو رأي فلان أو مذهبه فعين واحدا من الفقهاء أو انتهره أو سكت عنه فله طلب عالم غيره حيث كان يفتيه بحكم الله تعالى وحكم نبيه محمد ص في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسئلة ومن تأمل أقوال السلف والأئمة الأربعة في الحث على أن لا يستفتى إلا العالم بالكتاب والسنة عرف مصداق ما ذكرناه وقد قال عبدالله بن الإمام أحمد قلت لأبي الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي لا علم لهم بالحديث قال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الراي ضعيف الحديث خير من الرأي إلى أشياء كثيرة في هذا الباب لا نطول بذكرها وليس للفتى أن يقول هذا حكم الله أو حكم رسوله ص إلا إذا كان منطوقا به أو مستخرجا بوجه مجمع عليه أو قوي الدلالة جدا بحسب وسعه واستعداده وأما إذا أفتاه باستحسان أو بمصالح مرسلة أو بقول صحابي أو بتقليد أو قياس فلا يجوز أن يقول له هذا حكم الله أو حكم رسوله ص وفي الصحيح قوله ص وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوا منك أن تنزلهم على حكم الله فأنزلهم على حكمك أنت فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم أو كما قال ص هذا مع أن ذلك الحكم قد يكون منصوصا عليه إما باللفظ القرآني أو النبوي أو العمل الصحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه بل هو الغالب عليه فكيف بالقياس ونحوه من الأمور المتعارضة التي لا يخلو واحد منها من معارضة ما هو أقوى منه قال وأخبرني به صاحبنا الفقيه العلامة كمال الدين جعفر بن ثعلب الأدفوي عن أبي الفتح العلامة المجتهد تقي الدين بن دقيق العيد وإنه طلب منه ورقا نحو خمسة عشر كراسا وكتبها في مرض موته وجعلها تحت فراشه فلما مات أخرجناها فإذا هي في
____________________
(1/39)
تحريم التقليد مطلقا انتهى قلت وقول الحافظ أبي عمر وأنهم المرادون في قوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وفي دعوى لإجماع على ذلك نظر فإن ابن جرير والبغوي وأكثر المفسرين قالوا إن الآية في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد ص وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فقال الله تعالى ردا عليهم فاسئلوا أهل الذكر يعني أهل التوراة والإنجيل يريد أهل الكتاب فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد ص وأمر المشركين بمساءلتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن وقال ابن زيد أراد الذكر القرآن أراد فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن إن كنتم لا تعلمون انتهى
قال السيوطي في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال لما بعث الله تعالى محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم } وقال { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } يعني فاسئلوا أهل الكتب الماضية أبشرا كان الرسل التي أتتكم أم ملائكة أتتكم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون رسولا ثم قال { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } أي ليسوا من السماء كما قلتم
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } قال قالت العرب لولا أنزل علينا ملائكة قال الله تعالى وما أرسلت إلا بشرا فاسئلوا يا معشر العرب أهل الذكر وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل قبلكم إن كنتم لا تعلمون أن الرسل الذين كانوا قبل محمد ص كانوا بشرا مثله فإنهم سيخبرونكم أنهم كانوا بشرا مثله انتهى
قلت وكلام هؤلاء المفسرين وغيرهم صريح بأن المراد بقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر } مشركو العرب يسألون أهل الكتاب من التوراة والإنجيل ليخبروهم ان الرسل الذين أرسلوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من البشر مثله وليس فيه دليل على وجوب تقليد العوام آراء الرحال واتخاذهم الراي دينا ومذهبا ومرجعا بل في كلامهم الإشارة إلى ما قاله الأصفهاني وهو أن وظيفة الجاهل بمعاني الكتاب والسنة إذا نزلت عليه النازلة أن يفزع إلى العالم بالكتاب والسنة فيسأله عن حكم الله تعالى ورسوله في هذه النازلة فإذا أخبره عالم بحكم الله تعالى ورسوله ص في هذه النازلة يعمل بما أخبره متبعا لكتاب الله وسنة رسوله ص في الجملة مصدقا للعالم بهما في أخباره في الجملة وإن لم يكن عالما بوجه الدلالة فلا يصير بهذا المقدار مقلدا ألا ترى لو ظهر له أن ما أخبره العالم غير موافق لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/40)
لرجع اليها ولا يتعصب لهذا المخبر بخلاف المقلد فانه لا يسأل عن حكم الله ورسوله وإنما يسأل عن مذهب إمامه ولو ظهر له أن مذهب امامه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله لم يرجع اليهما والمتبع إنما يسأل عن حكم الله ورسوله ولا يسأل عن رأي آخر ومذهبه ولو وقعت له نازلة أخرى لا يلزمه أن يسأل العالم الأول عنه بل أي عالم لقيه ولا يلتزم أن يتعبد برأي الأول بحيث لا يسمع رأي غيره ويتعصب للأول وينصره بحيث لو علم أن نص الكتاب أو السنة خالف ما أفتاه به لا يلتفت اليه فهذا هو الفرق بين التقليد الذي عليه المتأخرون وبين الأتباع الذي عليه السلف الصالح الماضون والله تعالى أعلم وبالجملة فما نقله الحافظ أبو عمر في هذه المسألة من الإجماع غير مسلم قال الامام أبو عبد الله محمد بن أحمد المقري في قواعده حذر الناصحون من أحاديث الفقهاء وتحميلات الشيوخ وتخريجات المتفقهين واجماعات المحدثين وقال بعضهم احذر أحاديث عبد الوهاب والغزالي واجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد واحتمالات الباجي واختلافات اللخمي انتهى
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا وذلك والله تعالى أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم والقول في العلم وقد نظمت في التقليد وموضعه أبياتا رجوت في ذلك جزيل الأجر لما علمت أن من الناس من يسرع اليه حفظ المنظوم ويتعذر عليه المنثور وهي من قصيدة لي % يا سائلي عن موضع التقليد خذ % عني الجواب بفهم لب حاضر % % واصخ إلى قولي ودن بنصيحتي % واحفظ علي نوادري وبوادري % % لا فرق بين مقلد وبهيمة % تنقاد بين جنادل ودعاثر % % تبا لقاض أو لمفت لا يرى % عللا ومعنى للمقال السائر % % وإذا إقتديت فبالكتاب وسنة ال % مبعوث بالدين الحنيف الظاهر % % ثم الصحابة عند عدمك سنة % فاولاك أهل نهى وأهل بصائر % % وكذلك اجماع الذين يلونهم % من تابعيهم كابرا عن كابر % % اجماع امتنا وقول نبينا % مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر % % وكذا المدينة حجة ان أجمعوا % متتابعين أوائلا بأواخر % % وإذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد % ومع الدليل فمل بفهم وافر % % وعلى الأصول فقس فروعك لا تقس % فرعا بفرع كالجهول الحائر % % والشر ما فيه فديتك أسوة % فانظر ولا تحفل بزلة ماهر %
____________________
(1/41)
واخرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر وهو يعلم أن غيره أرشد منه فقد خانه وأخرجه أبو داود وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على إبطال التقليد بحجج نظرية عقلية بعدما تقدم فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله وانا اورده
قال يقال لمن حكم بالتقليد هل من حجة فيما حكمت به فإن قال نعم ابطل التقليد لأن الحجة اوجبت ذلك عنده لا التقليد وإن قال حكمت فيه بغير حجة قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله تعالى ذلك إلا بحجة قال الله تعالى { إن عندكم من سلطان بهذا } أي من حجة بهذا قال فإن قال أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي قيل له إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر منك وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك فإن أعاد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله وإلا على الأدنى أبدا وكفى بقول يؤل إلى هذا قبحا وفسادا
قال أبو عمر وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ماهو به فمن بان له الشيء فقد علمه قالوا والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك ومن هاهنا والله تعالى أعلم قال البحتري % عرف العالمون فضلك بالعل % م وقال الجهال بالتقليد % % وأرى الناس مجمعين على % فضلك من بين سيد ومسود %
وقال أبو عبدالله بن خويز منداد البصري المالكي التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وذلك ممنوع عنه في الشريعة والاتباع ما ثبت عليه حجة وقال في موضع آخر
____________________
(1/42)
من كتابه كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل أوجب ذلك فأنت مقلده والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب عليك دليل اتباع وقوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع
وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون قال كان مالك بن أنس وعبدالعزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز فكان إذا سأله مالك وعبدالعزيز أجابهما وإذاسأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم فتعرض له ابن دينار يوما فقال له يا أبا بكر بما تستحل مني مالا يحل لك قال له يا ابن أخي وما ذاك قال يسألك مالك وعبدالعزيز فتجيبهما واسألك أنا وذوي فلا تجيبنا فقال أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك قال نعم قال إني كبرت سني ورق عظمي وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ومالك وعبدالعزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه وإذا سمعا خطأ تركاه وأنت وذووك ما أجبتكم قبلتموه فقال محمد ابن حارث هذا والله هو الدين الكامل والعقل الراجح لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن وقد أجمع العلماء أن مالم يتبين ويستيقن فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا وقد مضى في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار
وبسندنا إلى أبي عمر بن عبدالبر حدثنا عبدالرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد ثنا إسحق بن ابراهيم بن نعمان ثنا محمد بن علي بن مروان حدثنا أبو حفص حرملة بن يحيى ثنا عبدالله بن وهب حدثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أخبرني أبو عثمان بن سنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن العلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء
قال أبو بكر محمد بن علي بن مران وحدثني سعيد بن داود بن أبي زنبر ثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم في قول الله عز وجل { نرفع درجات من نشاء } قال بالعلم وبسندنا إلى أبي عمر ثنا خلف بن قاسم ثنا الحسن بن رشيق ثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ثنا علي بن عبدالعزيز ثنا زكريا بن عبدالله حدثنا الحنيني عن كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأفطوبى للغرباء قيل يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله وكان يقال العلماء غرباء لكثرة الجهال انتهى كلام الحافظ أبي عمر بن عبدالبر بطوله وسيأتي في المقاصد إن شاء الله تعالى مزيد بيان لفساد التقليد ولنختم المقدمة بباب الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها قال صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/43)
تركت فيكم اثنتين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي
وأخرج الحافظ أبو عمر عن ابن مسعود أنه قال إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين وعنه أنه كان يقوم يوم الخميس قائما فيقول إنما هما اثنان الهدي والكلام فأفضل الكلام أو أصدق الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد ص وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة إلا لا يتطاولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب إلا أن بعيدا ما ليس إتياه وعن عرباض بن سارية بسند رجاله رجال الصحيح قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا عضوا عليها بالنواجذ فإنما المؤمن كالجمل الأنف كلما قيد انقاد وعنه أيضا برجال الصحيح قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منا القلوب فقيل يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال عليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وفي رواية إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة قال أبو بكر البزار حديث العرباض بن سارية في الخلفاء الراشدين حديث ثابت صحيح وهو أصح إسنادا من حديث حذيفة اقتدوا باللذين من بعدي لأنه مختلف في إسناده ومتكلم فيه من أجل مولى ربعى وهو مجهول عندهم قال أبو عمر هو كما قال البزار حديث عرباض حديث ثابت وحديث حذيفة حديث حسن وقد روي عن مولى ربعى عبدالملك بن عمير وهو كبير ولكن البزار وطائفة من أهل الحديث يذهبون إلى أن المحدث إذا لم يرو عنه رجلان فصاعدا فهو مجهول وحديث حذيفة الذي اشار إليه هو ما ساقه أبو عمر بأسانيد إلى قبيصة بن عقبة الكوفي ومحمد بن كثير والحميدي قال ألا ولأن عن سفيان بن سعيد عن عبدالملك بن عمير عن مولى ربعى بن حراش عن ربعي عن حذيفة وقال الثالث حدثنا سفيان بن عيينة ثنا زائدة بن قدامة عن عبدالملك بن عمير عن مولى لربعى عن ربعى عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بهدي ابن أم عبد وهذا لفظ حديث الحميدي قال أبو عمر رواه جماعة عن ابن عيينة عن عبدالملك بن عمير عن ربعى عن حذيفة هكذا لم يذكروا مولى ربعى والصحيح ما ذكرناه من رواية الحميدي عنه وكذلك رواه الثوري وهو أحفظ وأتقن عندهم
____________________
(1/44)
حدثنا خلف بن ا لقاسم ثنا أبو طالب محمد بن زكريا ببيت المقدس ثنا أبو عمران موسى بن نصر البغدادي ثنا مصعب بن عبدالله الزبيري ثنا إبراهيم بن سعد ثنا سفيان الثوري عن عبدالملك بن عمير عن هلال مولى ربعى بن حراش عن ربعى عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وأخرج عن عرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
قال أبو عمر الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس أنه كان يقول كلام الحرورية ضلالة وكلام الشيعة مهلكة قال ابن عباس ولا أعرف الحق إلا في كلام قوم فوضوا أمورهم إلى الله تعالى ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله وعلموا أن كلا مقدر الله وعن سفينة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا ثم قال أمسك خلافة أبي بكر سنتان وعمر عشر وعثمان اثنتا عشرة وعلي ست ثم قال علي بن الجعد قلت لحماد سفينة القائل السعيد قال نعم قال أبو عمر قال أحمد بن حنبل حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهب في الخلفاء قال محمد بن مظفر سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن التفضيل فقال نقول أبو بكر وعمر وعثمان ونقف على حديث ابن عمر ومن قال علي لم أعنفه ثم ذكر حديث حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة في الخلافة فقال أحمد علي عندنا من الخلفاء الراشدين المهديين وحماد بن سلمة عندنا الثقة المأمون ولا نزداد كل يوم فيه إلا بصيرة قال أبو عمر قد روى عبدالله بن أحمد بن حنبل وسلمة بن شبيب وطائفة عن أحمد بن حنبل مثل رواية محمد بن مظفر الفرق بين التفضيل والخلافة على حديث ابن عمر وحديث سفينة وروت عنه طائفة تقديم الأربعة والإقرار لهم بالفضل والخلافة وعلى ذلك جماعة أهل السنة ولم يختلف قول أحمد في الخلافة والخلفاء وإنما اختلف قوله في التفضيل قال أبو علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي سألت أحمد بن حنبل من تفضل قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء قلت يا أبا عبدالله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء المهديون الراشدون ورد الباب في وجهي قال أبو علي ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة سألت أحمد وذكرت له القصة فقال لا نبالي من خالفنا فقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعا هذا ديني الذي أدين
____________________
(1/45)
الله به وأرجو أن يقبضني الله عليه قال سلمة بن شبيب كتبت إلى إسحاق بن راهويه من تقدم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إلي لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض أفضل من أبي بكر ولم يكن بعده أفضل من عمر ولم يكن بعده أفضل من عثمان ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من علي
قال الشافعي أقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم قال يحيى بن معين من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلم لعلي سابقته فهو صاحب سنة ومن قال أبو بكر وعمر وعثمان وسلم لعثمان سابقته فهو صاحب سنة وذكرت له هؤلاء الذين يقولون أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلم بكلام غليظ
وعن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال هن أحرار قلت بأي شيء قال بالقرآن قلت بأي شيء في القرآن قال قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وكان عمر من أولي الأمر قال عتقت ولو بسقط
وعن مالك بن أنس أنه قال قال عمر بن عبدالعزيز سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنة الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيرا
وقال ابن كيسان اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلنا نكتب السنن فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال نكتب ما جاء عن الصحابة فإنه سنة وقلت أنا ليس بسنة ولا نكتبه قال فكتبه الزهري ولم أكتبه قال فانجح وضيعت
وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب لما قدم المدينة قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس أنه قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وروى الشعبي عن مسروق عن عمر أنه خطب الناس فقال ردوا الجهالات إلى السنة وعن مسروق حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة وعن ذي النون المصري أنه قال ثلاث من أعلام السنة المسح على الخفين والمحافظة على صلاة الجمع وحب السلف رحمهم الله وكان إبراهيم التيمي يقول اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ومن اتباع الهوى ومن سبل الضلالة ومن شبهات الأمور ومن الزيغ والخصومات وعن عبدالله بن مسعود قال القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ثم علم أن السنة مبينة للكتاب قال الله تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }
وأخرج الحافظ أبو عمر بن عبدالبر بسند صحيح عن علقمة قال قال عبدالله بن مسعود
____________________
(1/46)
لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسيد يقال لها أم يعقوب فقالت يا ابا عبدالرحمن بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله ملعون قالت إني لأقرأ ما بين اللوحين فما أجده قال إن كنت قارئة قد وجدتيه أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت بلى قال فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إني لأظن أهلك يفعلون بعض ذلك قال فاذهبي فانظري قال فدخلت فلم تر شيئا قال فقال عبدالله لو كانت كذلك لم نجامعها
وعن عبدالرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثياب فنهى المحرم وقال ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي قال فقرأ عليه { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وعن هشام بن حجير قال كان طاؤس يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس اتركهما اتركهما فقال إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد صلاة العصر فلا أدري أتعذب علينا أم تؤجر لأن الله تبارك وتعالى قال { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وعن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك بأحدكم يقول هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه إلا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه
وعن المقدام بن معدي كرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه إلا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله قال أبو عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه رواه المطلب بن حنطب وغيره عنه ص والبيان منه صلى الله عليه وسلم على ضربين بيان المجمل في الكتاب العزيز كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر أحكامها وكبيانه لمقدار الزكاة وحدها ووقتها وما الذي يؤخذ منه من الأموال وبيانه لمناسك الحج قال ص إذ حج بالناس خذوا عني مناسككم لأن القرآن إنما ورد بجملة فرض الصلاة والزكاة والحج دون التفصيل والحديث مفصل وبيان هو زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع إلى أشياء يطول ذكرها وقد أمر الله تعالى بطاعته صلى الله عليه وسلم واتباعه أمرا مطلقا مجملا لم يقيد بشيء كما أمرنا باتباع الكتاب ولم يقل ما وافق كتاب
____________________
(1/47)
الله كما قال بعض أهل الزيغ
وقال عبدالرحمن بن مهدي الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله وهذه الألفاظ لا تصح عنه ص عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتابه يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال قال الشافعي رحمه الله ما روى في هذا أحد يثبت حديثه في شيء كبير ولا صغير وقال هي رواية منقطعة عن رجل مجهول قال البيهقي أسانيده كلها ضعيفة لا يحتج بمثله وقال في موضع آخر هذا خبر باطل انتهى قال أبو عمر وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبرائيل بالسنة التي يفسر ذلك وقال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال أبو عمر يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه وهذا نحو قولهم تركت الكتاب موضحا للسنة وتركت السنة موضحا للرأي وعن الأوزاعي قال قال يحيى ين كثير السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة
وقال الفضل بن زياد سمعت أبا عبدالله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب فقال ماأجسر علي هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه قال أبو عمر الآثار في بيان السنة لمجملات التنزيل قولا وعملا أكثر من أن تحصى وفيما لوحنا به كفاية وهداية والحمد لله قال أبو عمر أهل البدع أجمع أعرضوا عن السنن وتأولوا الكتاب على غير ما بينته السنة فضلوا وأضلوا نعوذ بالله من الخذلان
وأخرج عن عقبة بن عامر الجهني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هلاك أمتي في الكتاب واللبن فقيل يا رسول الله وما الكتاب واللبن قال يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع ويبدون وفي رواية عنه أن أخوف ما أخاف على أمتي ثنتان القرآن واللبن أما القرآن فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين وأما اللبن فيتبعون الريف يتبعون الشهوات ويتركون الصلاة
وعن ابن مسعود ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعنق وعن عمرو بن دينار قال قال
____________________
(1/48)
عمر إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه
وعن رجاء بن حيوة عن رجل قال كنا جلوسا عند معاوية فقال إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن فلا يفقه فيه فيعلمه الصبي والعبد والمرأة والأمة فيجادلون به أهل العلم
وعن ميمون بن مهران قال ان هذا القرآن قد اخلق في صدور كثير من الناس فالتمسوا ما سواه من الأحاديث وان ممن يبتغي هذا العلم يتخذه بضاعة ليلتمس به الدنيا ومنهم من يتعلمه ليماري به ومنهم من يتعلمه ليشار اليه وخيرهم الذي يتعلمه فيطيع الله فيه قال أبو عمر ومعنى قوله ان هذا القرآن قد اخلق والله أعلم أي اخلق علم تأويله من تلاوته إلا بالأحاديث عن السلف العالمين به فبالأحاديث الصحاح عنهم يوقف على ذلك لا بما سولته النفوس وتنازعته الآراء كما صنع أهل الأهواء وقال الحسن عمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة
وعن صفوان بن محرز المازني أنه سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتان من خالف السنة كفر وعن بكير بن الأشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد عجبا من عائشة كيف كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين ركعتين فقال يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدتها فان من الناس من لا يعاب وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس ما تقول يا عروة قال يقولون نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال أبو بكر وعمر قال أبو عمر يعني متعة الحج وهو فسخ الحج في عمرة وقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني برأيه لا أساكنك بأرض أنت بها وعن عبادة بن الصامت مثل ذلك بمعناه وعن عمرو بن دينار عن سالم بن عبدالله عن أبيه قال عمر إذا رميتم الجمرة سبع حصاة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء قال سالم وقالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع وعن بلال بن عبدالله بن عمر أن أباه عبدالله بن عمر قال يوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد قال فقلت أنا أما أنا فسأمنع أهلي فمن شاء فليسرح أهله فالتفت إليه وقال لعنك الله لعنك الله لعنك الله تسمعني أقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يمنعن وقام مغضبا
وروي عن وهب بن منبه أنه قال قرأت في سبعين كتابا أن جميع ما أعطي الناس من بدء الدنيا إلى انقطاعها من العقل في جنب عقل محمد خاتم النبيين ص كحبة رمل وقعت من جميع رمل الدنيا وأجده مكتوبا أرجحهم عقلا وأفضلهم رأيا قالوا ولم يبعث الله نبيا حتى
____________________
(1/49)
يستكمله من العقل ما يكون أفضل من عقل جميع أمته وعسى أن يكون في أمته من هو أشد منه اجتهادا ببدنه وجوارحه ولما تضمن النبي صلى الله عليه وسلم في عقله ونيته وفكره أفضل من عبادة جميع المجتهدين انتهى كلام ابن عبدالبر بطوله
قلت واعلم أيها الناظر فيما جمعناه أن جميع ما ذكرناه من الآثار من أول المقدمة إلى آخرها كلها مروي بأسانيد جياد حذفناها اختصارا وجلها لحافظ المغرب أبي عمر بن عبدالبر من كتاب العلم والتمهيد والاستذكار والاستيعاب كلها له وما عداه فمن كلام حافظ المشرق أبي بكر البيهقي وقليل منه نقلته بسنده من رسالة علامة المجتهدين محمد بن إدريس الشافعي والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب المقصد الأول فيما قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه أهل المناقب المنيفة
قال في خزانة الروايات فصل في كيفية الاجتهاد وبعض مسائل التقليد والفتوى وجواز العمل على النصوص والأخبار والعمل على غير مذهبه إلى أن قال وفي دستور السالكين فإن قيل لو كان المقلد غير المجتهد عالما مستدلا يعرف قواعد الأصول ومعاني النصوص والأخبار هل يجوز له أن يعمل عليها وكيف يجوز لأنه قيل لا يجوز لغير المجتهد أن يعمل إلا على روايات مذهبه وفتاوي إمامه ولا يشتغل بمعاني النصوص والأخبار والعمل عليها كالعامي قيل هذا في العامي الصرف والجاهل الذي لا يعرف معنى النصوص والأحاديث وتأويلاتها وأما العالم الذي يعرف معنى النصوص والأخبار وهو من أهل الدراية وثبت عنده صحتها من المحدثين أو من كتبهم الموثوقة المشهورة المتداولة فيجوز له أن يعمل عليها وإن كان مخالفا لمذهبه يؤيده قول أبي حنيفة ومحمد والشافعي وأصحابه وقول صاحب الهداية وفي روضة العلماء الرندوسية في فضل الصحابة لأبي حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركواقولي لكتاب الله فقيل إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه قال اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قيل إذا كان قول الصحابة يخالفه قال اتركوا قولي لقول الصحابة
وفي الإمتاع روى البيهقي في السنن عند الكلام على القرآن بسنده قال قال الشافعي إذا قلت قولا وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فما يصح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني ونقل إمام الحرمين في نهايته عن الشافعي أنه قال إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه واعلموا أنه مذهبي وقد صح في منصوصاته أنه قال إذا بلغكم عني مذهب وصح عندكم خبر على مخالفته فاعلموا أن مذهبي موجب الخبر
وروى الخطيب بإسناده أن الداركي من الشافعية كان يستفتي وربما يفتي بغير مذهب الشافعي
____________________
(1/50)
وأبي حنيفة فيقال له هذا يخالف قولهما فيقول ويلكم حدث فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقولهما إذا خالفا وكذا يؤيده ما ذكره في الهداية في مسألة صوم المحتجم ولو احتجم فظن أن ذلك يفطر ثم أكل متعمدا عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد لأن الفتوى دليل شرعي في حقه ولو بلغه الحديث واعتمده فكذلك عند محمد رحمه الله لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عن قول المفتي وفي الكافي والحميدي أولا يكون أدنى درجة من قول المفتي وقول المفتي يصلح دليلا شرعيا فقول الرسول أولى وعن ابي يوسف خلاف ذلك لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث وإن عرف تأويله تجب الكفارة وفي كتاب السيافري الاتفاق وأما الجواب عن قول أبي يوسف أن على العامي الاقتداء بالفقهاء فمحمول على العامي الصرف الجاهل الذي لا يعرف معنى الأحاديث وتأويلاتها لأنه أشار إليه بقوله لعدم الاهتداء إلى معرفة الأحاديث وكذا قوله وإن عرف تأويله تجب الكفارة يشير إلى أن المراد بالعامي غير العالم وفي الحميدي العامي منسوب إلى العامة وهم الجهال فعلم من هذه الإشارات أن مراد أبي يوسف رحمه الله أيضا عن العامي الجاهل الذي لا يعرف معنى النص وتأويله ففيما ذكر من قول أبي حنيفة والشافعي ومحمد رحمهم الله يندفع قول القائل بوجوب العمل بالرواية بخلاف النص انتهى كلام صاحب الخزانة قال الفقيه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي & باب من يصلح للفتوى &
قال الفقيه لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء يعني أبا حنيفة وصاحبيه ويعلم من أين قالوا ويعرف معاملات الناس فإن عرف أقاويل العلماء ولم يعرف مذاهبهم فإن سأل عن مسألة يعلم أن علماءه الذين ينتحل مذاهبهم قد أفتوا عليه فلا بأس بأن يقول هذا جائز وهذا لا يجوز ويكون قوله على سبيل الحكاية وإن كانت مسألة قد اختلف فيها فلا بأس أن يقول هذا جائز على قول فلان ولا يجوز في قول فلان ولا يجوز له أن يختار قولا ويجيب بقول بعضهم مالم يعرف حجته
حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا مالم يعلم من أين قلنا وروي عن عاصم بن يوسف أنه قيل له إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة فقال إن أبا حنيفة قد أوتي مالم نؤت فأدرك فهمه ما لا ندرك ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا
____________________
(1/51)
يسعنا أن نفتي بقوله مالم نفهم من أين قال وروي عن عصام بن يوسف أنه قال كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعافية بن يزيد وآخر فكلهم أجمعوا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا مالم يعلم من أين قلناه انتهى قلت ومعنى قوله من أين قلناه أي مالم يعلم دليل قولنا وحجته وفي كلام هؤلاء الأئمة إشارة إلى أنهم لا يبيحون لغيرهم أن يقلدوهم فيما يقولون بغير أن يعلموا دليل قولهم وهذا الذي ذكره أبو الليث نقل في خزانة الروايات مثله عن السراجية وغيرها قال في أعلام الموقعين قال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل إنما نأخذ بالرأي إذا لم نجد الأثر فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وعملنا بالأثر انتهى
قلت وفي أصول اللامشي ولا عيب على من اتبع الأثر فمن قال إن الرواية حقيقة بالعمل لا الحديث فقد أهان الحديث والإهانة كفر وقال شيخ مشايخنا محمد بن حياة قال ابن الشحنة في نهاية النهاية وإن كان أي ترك الإمام الحديث لضعف في طريقه فينظران كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به فينبغي أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به فقد صح أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي كذا قال بعض ممن صنف في هذا المقصود وقال في البحر وإن لم يستفت ولكن بلغه الخبر وهو قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام أفطر الحاجم والمحجوم وقوله الغيبة تفطر الصائم ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل خلافا لأبي يوسف لأنه قال ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ قال ابن العز في حاشية الهداية قوله ولو بلغه الحديث واعتمده يعني أفطر الحاجم والمحجوم فكذلك عند محمد يعني أنه لا كفارة عليه إذا احتجم ثم أكل على ظن أن الحجامة فطرته معتمدا على الحديث لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينزل عن قول المفتي في العبارة مسامحة بل هو خطأ والأمر أعظم من ذلك وعن أبي يوسف خلاف ذلك يعني عليه الكفارة فإن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث في تعليل نظر فإن المسألة إذا كانت مسألة النزاع بين العلماء وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا أنه غير معذور فإن قيل هو منسوخ فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه ومن سمع الحديث فعمل به وهومنسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان أو فلان وإنما يقال له أنظر هل هو منسوخ أم لا أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرف الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث إلى أن قال وأيضا فالمنسوخ من السنة في غاية القلة وقد جمعه ابن الجوزي في ورقات وقال أفرد فيها قدر ما صح نسخه أو احتمل وأعرض عما لا وجه لنسخه ولا احتمال وقال
____________________
(1/52)
فمن سمع الحديث يدع النسخ وليس فيها فهاتيك دعوى ثم قال وقد تدبرته فإذا هي أحد وعشرون حديثا فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ الأخذ بالحديث فلو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل ولذا أقام الله تعالى الحجة برسوله ص دون آحاد الأمة ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه عدة أقوال وهذاكله فيمن له نوع أهلية وأما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له من كلامه أو كلام شيخه وان علا فلان يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث انتهى
وقال ابن العز أيضا وما يقع لأئمة الفتوى من هذا أي من ترك العمل بالحديث فهم مأجورون مغفور لهم ومن تبين له شيء من ذلك لا يعذر في التقليد فإن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمه الله قالا لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا مالم يعلم من أين أخذناه فإن كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى منه فاتبعه كان قد أحسن في ذلك ولم يقدح ذلك في دينه ولا في عدالته بلا نزاع بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة المتأخرين فهو ضال جاهل بل قد يكون كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هذه الأئمة رضي الله عنهم دون الآخرين فقد جعله بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كفر بل غاية ما يقال إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد واحدا من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمرو أما من كان محبا للأئمة مواليا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك والصحابة والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة فإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون التابعين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين كالرافضي والناصبي والخارجي فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة ومن تبين له من العلم ما كان خفيا عليه فاتبعه
____________________
(1/53)
فقد أصاب زاده الله هدى وقد قال الله تعالى { وقل رب زدني علما } ومن جملة أسباب تسليط الفرنج على بعض بلاد المغرب والتتر على بلاد المشرق كثرة التعصب والتفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها وكل ذلك من اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ونقل عن المضمرات أن الخبر في كونه حجة فوق الاجتهاد فإن خالفت الرواية الحديث الصحيح تركت وصاحبها فالعمل بالحديث أولى من الرواية ونقل عن الكفاية أن العمل بنص صريح أولى من العمل بالقياس
قال بعض أهل التحقيق بل الواجب على من له أدنى دراية بالكتاب وتفسيره والحديث وفنونه أن يتتبع كل التتبع ويميز الصحيح عن الضعيف والقوي عن غيره فيتبع ويعمل بما ثبت صحته وكثرت روايته وإن كان الذي قلده على خلافه ولا يخفى أن الانتقال من مذهب إلى مذهب ما كان ملوما في الصدر الأول وقد انتقل كبار العلماء من مذهب إلى مذهب وهكذا كان من كان من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ينتقلون من قول إلى قول والحاصل أن العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم من المصلحة الدينية هو المذهب عند الكل وهذا الإمام الهمام أبو حنيفة رحمه الله كان يفتي ويقول هذا ما قدرنا عليه في العلم فمن وجد أوضح منه فهو أولى بالصواب كذا في تنبيه المغترين
وعنه أنه قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا مالم يعرف مأخذه من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو القياس الجلي في المسألة وقال ملا علي القاري في رسالته وأما ما اشتهر بين الحنفية من أن الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزر وإذا كان بالعكس يخلع فهو قول مبتدع ومخترع نعم لو انتقل طاعنا في مذهب الأول سواء كان حنفيا أو شافعيا يعزر وكذا ما قيل لو انتقل حنفي إلى شافعي لم تقبل شهادته وإن كان عالما كما في آخر الجواهر وهذا كما ترى لا يجوز لمسلم أن يتفوه بمثله فإن المجتهدين من أهل السنة والجماعة كلهم أهل الهداية ولا يجب على أحد من هذه الأمة أن يكون حنيفا أو شافعيا أو مالكيا بل يجب على آحاد الناس إذا لم يكن مجتهدا أن يقلد واحدا من هؤلاء الأعلام لقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ولقول بعض مشايخنا من تبع عالما لقي الله سالما انتهى وفي شرح عين العلم يستحب الأخذ بالأحوط إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا راجحا إذ المكلف مأمور باتباع سيد الأنبياء
____________________
(1/54)
عليه وعلى آله الصلاة والسلام
وقال عبدالحق الدهلوي في شرح الصراط المستقيم إن التحقيق في قولهم إن الصوفي لا مذهب له أنه يختار من روايات مذهبه الذي التزمه للعمل عليه ما يكون أحوط ويوافق حديثا صحيحا وإن لم يكن ظاهر روايات ذلك المذهب ومشهورها نقل عنه أنه قال في الشرح المذكور إذا وجد تابع المجتهد حديثا صحيحا مخالفا لمذهبه هل له أن يعمل به ويترك مذهبه فيه اختلاف فعند المتقدمين له ذلك قالوا لأن المتبوع والمقتدى به هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه فهو تابع له فبعد أن علم وصح أنه قوله ص فالمتابعة لغيره غير معقولة وهذه طريقة المتقدمين انتهى وفي الظهيرية ومن فعل فعلا مجتهدا أو تقلد بمجتهد فلا عار عليه ولا شناعة ولا إنكار انتهى وأما الذي لم يكن من أهل الاجتهاد فانتقل من قول إلى قول من غير دليل لكن لما يرغب من عرض الدنيا وشهواتها فهو المذموم الآثم كذا في الحمادي وأما ما يورد على الألسنة من أن العمل على الفقه لا على الحديث فتفوه لا معنى له إذ من البين أن مبنى الفقه ليس إلا الكتاب والسنة وأما الإجماع والقياس فكل واحد منهما يرجع إلى كل من الكتاب والسنة فما معنى إثبات العمل على الفقه ونفي العمل بالحديث فإن العمل بالفقه عين العمل بالحديث كما عرفت وغاية ما يمكن في توجيهه أن يقال أن ذلك حكم مخصوص بشخص مخصوص وهو من ليس من أهل الخصوص بل من العوام الذين هم كالهوام لا يفهمون معنى الحديث ومراده ولا يميزون بين صحيحه وضعيفه ومقدمه ومؤخره ومجمله ومفسره وموضوعه وغير ذلك من أقسامه بل كل ما يورد عليهم بعنوان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم فهم يعتمدون عليه ويستندون إليه من غير تميز ومعرفة بأن قائل ذلك من نحو المحدثين أم من غيرهم وعلى تقدير كونه من المحدثين أعدل وثقة أم لا وإن كان جيد الحفظ أو سيئه أو غير ذلك من فنونه فإن ورد على العامي حديث ويقال له أنه يعمل على الحديث فربما يكون ذلك الحديث موضوعا ويعمل عليه لعدم التميز وربما يكون ذلك الحديث ضعيفا والحديث الصحيح على خلافه فيعمل على ذلك الحديث الضعيف ويترك الحديث الصحيح وعلى هذا القياس في كل أحواله يغلط أو يخلط فيقال لأمثاله إنه يعمل بما جاء عن الفقيه لا يعمل بمجرد سماع الحديث لعدم ضبطه وأما من كان من أهل الخصوص وأهل الخبرة للحديث وفنونه فحاشا أن يقال له أنه يعمل بما جاء عن فقيه وإن كانت الأحاديث الواردة فيه على خلاف ذلك لأن العمل على الفقه لا على الحديث هذا ثم مع هذا لا يخفى ما في هذا اللفظ من سوء الأدب والشناعة والبشاعة فإن التفوه بنفي العمل على الحديث على الإطلاق مما لا يصدر من عاقل فضلا عن فاضل ولو قيل بالتوجيه الذي ذكرناه أن العمل بالفقه لا على الحديث لقال قائل بعين ذلك
____________________
(1/55)
التوجيه أن العمل على الفقه لا على الكتاب فإن العامي لا يفهم شيئا من الكتاب ولا يميز بين محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه ومفسره ومجمله وعامه وخاصه وغير ذلك من أقسامه فصح أن يقال إن العمل على الفقه لا على الكتاب والحديث وفساده أظهر من أن يظهر وشناعته أجلى من أن تستر بل لا يليق بحال المسلم المميز أن يصدر عنه أمثال هذه الكلمات على مالا يخفى على ذوي الفطانة والدراية وإذا تحققت ما تلونا عليك عرفت أنه لو لم يكن نص من الإمام على المرام لكان من المتبعين على أتباعه من العلماء الكرام فضلا عن العوام أن يعملوا بما صح عن سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ومن أنصف ولم يتعسف عرف أن هذا سبيل أهل التدين من السلف والخلف ومن عدل عن ذلك فهو هالك لوصف الجاهل المعاند المكابر ولو كان عند الناس من الأكابر وأنشدوا في هذا المعنى شعرا % أهل الحديث همو أهل النبي وإن % لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا %
أماتنا الله سبحانه وتعالى على محبة المحدثين واتباعهم من الأئمة المجتهدين وحشرنا مع العلماء العاملين تحت لواء سيد المرسلين والحمد لله رب العالمين انتهى ما قال المحقق ملخصا
قلت قوله لو لم يكن نص من الإمام على المرام الخ المراد بالمرام ههنا العمل بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كون مذهب الإمام مخالفا له وحاصل كلامه أنه لو لم يوجد نص من الإمام المجتهد على وجوب العمل بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب على المتبعين له من العلماء والعوام العمل بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف مع وجود النص منه على ذلك والحض عليه والوصية به فالعمل به واجب على اتباع الأمة بموجب ما ثبت عنهم من الحض عليه والوصية به فمن لم يعمل بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد خالف إمامه وكذب في دعوى تقليده أموره ومرامه
وقال ملا علي القاري في رسالته في إشارة المسبحة وقد أغرب الكيد أني حيث قال العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة كأهل الحديث أي مثل جماعة يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا منه خطأ عظيم جرم جسيم منشأه الجهل بقواعد الأصول ومراتب الفروع من المنقول ولولا حسن الظن به وتأويل كلام نفسه لكان كفره صريحا وارتداده صحيحا فهل لمؤمن أن يحرم ما ثبت فعله منه صلى الله عليه وسلم بما كاد نقله ان يكون متواترا ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرا عن كابر مكابرا والحال أن الإمام الأعظم والهمام الأقدم قال لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا مالم يعلم مأخذه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الجلي في المسألة فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو لم يكن نص للإمام على المرام لكان من المتعين على أتباعه من العلماء الكرام فضلا عن العوام أن يعملوا بما صح عنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام وكذا لو صح عن
____________________
(1/56)
الإمام فرضا نفى الإشارة وصح إثباتها عن صاحب الإشارة فلا شك في ترجيح المثبت المسند إليه صلى الله عليه وسلم كيف وقد وجد نقله الصريح بما ثبت بالإسناد الصحيح فمن أنصف ولم يتعسف عرف أن هذا سبيل أهل التدين من السلف والخلف ومن عدل عن ذلك فهو هالك يوصف بالجاهل المعاند المكابر ولو كان عند الناس من الأكابر انتهى
قال في البحر الرائق يجوز تقليد من شاء من المجتهدين وإن دونت المذاهب كاليوم فله الانتقال من مذهبه انتهى قال شيخ مشائخنا محمد بن حياة وهذا الذي ذكره هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال العلماء الأخيار من السابقين واللاحقين ولا عبرة بقول من قال خلاف هذا فإن كل قول يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء الذين هم صدور الدين فهو مردود على قائله ولا أظنه إلا عديم العلم كثير التعصب والله الموفق لما يحب ويرضى انتهى
وقال في أعلام الموقعين أصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث مقدم على القياس والرأي وعلى ذلك بناء مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف وترك القياس المحض في مسائل الابار لآثار فيها غير مرفوعة فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي هو قول أبي حنيفة وأحمد انتهى
قال شيخ مشايخنا المحقق أبو الحسن السندي في حواشيه على فتح القدير عند قوله لأن الحكم في حق العامي فتوى مفتيه أفاد أنه لايتعين في حق العامي الأخذ بمذهب معين لعدم اهتدائه لما هو أولى وأحرى إلا على وجه الهوى كما عليه العوام اليوم ولا يتعين له بمثله الأخذ بذلك المذهب إذ لا عبرة لمثله في الشرعيات والترجيح بلا مرجح والتعيين بلا معين مما لا سبيل إليه فالواجب على هذا في حقه الأخذ بقول عالم يوثق به في الدين لقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ومثله ما قال في البحر بعد ما نقل من المحيط كلاما بسيطا قال وقد علم من هذا أن مذهب العامي فتوى مفتيه من غير تقييد بمذهب ولهذا قال في فتح القدير الحكم في حق العامي فتوى مفتيه انتهى
قلت ورأيت مثله منقولا عن بعض الفقهاء الشافعية أيضا فعلى هذا لا ينبغي ترك الاقتداء بالعلماء وأهل الصلاح معللين بأنهم مخالفون لمذهبهم إذ لا مذهب لهم فضلا عن أن يكون أحد مخالفا لهم في المذهب فالعجب ممن يفتيهم بذاك والله أعلم انتهى قلت ورأيت للمحقق المذكور
____________________
(1/57)
كلاما نفيسا فيما نحن بصدده ذكره في حاشيته عل فتح القدير فلننقله بطوله وإن كان في بعضه تكرار مع بعض ما تقدم قال عند قول المحقق ابن الهمام لأن قول المفتي يورث الشبهة المسقطة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم و على أفضل الصلوات وأشرف التسليمات أولى نصه هذا أحسن من كلام صاحب الهداية لأن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينزل عن قول المفتي قال ابن العز في عبارة الهداية مسامحة بل خطأ والأمر أعظم من ذلك لكن يفيد كلام المحقق أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بإيراث الشبهة في حق العامي لا أنه أولى بصحة العمل به في حق لعامي وإليه يشير قوله لأن الحكم في حق العامي فتوى مفتيه إلا أن يقيد بأن ذلك قبل بلوغ الخبر كما هو الظاهر من شأنه لكن هذا خلاف ما يفيد كلام الكافي والحميدي كما سيجيء وخلاف التحقيق الحقيق بالقبول ولذا قال ابن العز في تعليل أبي يوسف نظر فإن المسألة إذا كانت محل نزاع بين العلماء وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين فأخذ به فكيف يقال في هذا أنه غير معذور قلت إذا بلغه أن المسألة محل النزاع فيكفيه ذلك في الشبهة لأنه بمنزلة فتوى المفتي فكيف إذا بلغه مع ذلك الحديث أيضا فمحل الكلام ما إذا لم يبلغه أن المسألة محل النزاع وبلغه الحديث فقط والظاهر أنه معذور في هذه الصورة أيضا لأن الحديث حجة في نفسه ثم قال ما حاصله أن احتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان أو فلان فإنما يقال له انظر هل هو منسوخ أم لا أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث
قال أبو عمر بن عبدالبر لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروا بهما قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل هكذا يجب على كل من بلغه شيء يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصه أو ينسخه انتهى
قال الشافعي رحمه الله أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد وأيضا فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعهضم إحدى وعشرين حديثا وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتى بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله
____________________
(1/58)
صلى الله عليه وسلم دون آحاد الأمة ولا يعرض احتمال الخطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه ويجري عليه التناقض والاختلال ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال وهذا كله فيمن له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث انتهى كلامه
قلت لعل أبا يوسف أراد بالعامي من لا أهلية له وإليه يشير كلام الأكمل في العناية وغيره فلا ينافي كلامه ما ذكر ابن العز فيمن له نوع أهلية لكن قد يقال الكلام فيمن عرف الحديث الصحيح بمعناه وهذا الرجل بعد المعرفة ليس بعامي في تلك المسألة حتى يحتاج إلى السؤال لقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } وهذا الرجل قد علم بالبينة في هذه المسألة لأن الحديث بعد ما علم صحته حجة لمن علم بمعناه وهو المفروض في المسألة إلا أن يقال إن ذلك حجة وبينة لمن علم عدم المعارض علما يعتد به ولا اعتداد بعلم مثل هذا العامي إن علم عدم المعارض فكيف إذا لم يعلم لكن ذلك إذا لم يعلم أن أحدا ممن يعتد بعلمه أخذ بهذا الحديث وعمل به وأما إذا علم ذلك يصير حجة لمعرفة عدم المعارض عند من يعتد بعلمه وعلم من يعتد بعلمه عدم المعارض كما هو كاف في العمل وحجية الحديث لذلك العالم كاف لمن أخبره ذلك العالم أو لمن علم بعلمه بوجه ما ولا يظهر الفرق وإبداء الفرق يتكلف لا ينفع بل هو تحكم والله تعالى أعلم بقي أن الحديث وإن لم يكن حجة في حق العامي إلا بالشرط المذكور لكن لا أقل من أن يكون شبهة في حقه في درء الكفارة إذ لا شك أن الشبهة أدنى من الحجة فنفي كونه حجة لا يستلزم نفي كونه شبهة وقد يقال لا يكون الحديث حجة مع مخالفة الإجماع والعامي لا يعرف ذلك فلا يكون الحديث حجة في حقه لكن يدفعه أنا قد فرضنا الكلام فيما إذا أخذ بالحديث من يعتد بعلمه ولا شك أن أخذه بالحديث يتضمن نفي علمه بإجماع سابق على خلاف الحديث وقد فرضنا أن علمه كاف له في الأخذ بالحديث بقي أنه يمكن أن يكون هناك إجماع لاحق على خلافه وهو يندفع بأن يفرض ذلك العالم ممن يمنع خلافه اتفاقا من انعقاد إجماع لاحق بأن يستمر خلافه كالأئمة الأربعة رحمهم الله ولا يخفى أنه لا مانع حينئذ في حق هذا العامي من العمل بالحديث وهو حجة في نفسه فينبغي أن يجب عليه العمل به كما وجب على ذلك العالم الذي يعتد بعلمه لظهور أنهما استويا في فهم معناه وقد علم أن فهم ذلك العالم هو مناط التكليف في حقه فكونه لا يكون مناطا في حق هذا العامي مع علمه بأنه هو الذي كان مناطا في حق ذلك العالم ومع فرض أنه لا مانع من نسخ أو معارض أو إجماع يمنع العمل وإلا لما ساغ لذلك
____________________
(1/59)
العالم العمل به وقد تحقق علمه به بحكم بحت عند النظر السديد ولا أقل من أن يجوز له العمل به حينئذ فإن قلت ذهن العامي لا يخلو عن دغدغة معارض يتمسك به من خالف هذا الحديث فكيف يكون الحديث حجة في حقه قلت ذلك معارض متوهم فلا يمنع العمل بما هو الموجود في حقه إذ الأصل عدم المعارض ولو كان مثله مانعا لكان مانعا لذلك العالم أيضا وقد علم أنه ليس بمانع في حقه فلا يصير مانعا في حق هذا العامي أيضا وأما الذي خالف هذا الحديث فيجوز أن خلافه بناء على عدم وصول هذا الحديث إليه فشا رأيه ولا يجوز الأخذ بالرأي في مقابلة النص بعد ظهوره فيجب تركه والمصير إلى النص ومجرد الدغدغة لا تصلح للاعتذار بعد ظهور البرهان ولا يحل التمسك بها في مقابلة الحجج والتبيان ثم العجب أنه كيف يجوز له أن يأخذ بقول فقيه يتوهم أن يكون حجة ويترك نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الدغدغة فهل هذا إلا كالقيام تحت الميزاب والفرار من المطر نعم هذا إذا بلغه الحديث أو حديثان متوافقان مثلا وأما إذا بلغه الأحاديث من الطرفين فلا يتمكن من العمل بالحديث ومن تمييز الراجح من المرجوح استقلالا إلا من له أهلية نعم يجوز له العمل بأحد الحديثين تبعا لعالم يعتد بعلمه وذلك في الحقيقة يرجع إلى الأخذ بقوله فتلخص من مجموع هذاالكلام أنه إذا بلغ العامي حديث صحيح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم صحته ومعناه ووافق فهمه فهم عالم يعتد بعلمه وعلم بتلك الواقعة وبأن ذلك العالم أخذ بذلك الحديث ففي هذه الصورة ينبغي أن يجب عليه العمل بذلك الحديث قال كان الله له وإن لم يجب العمل بالحديث فلا أقل من الجواز وذلك لأن الموانع من العمل من الناسخ والمعارض والإجماع قصور الفهم في معناه منتفية بموافقة ذلك العالم والأخذ به كما تقرر فما بقي إلا أن لا يكون ذلك الحديث حجة وذلك لا يقول به مسلم وبعد ذلك فمن يقول إنه لا يجب عليه العمل أو لا يجوز فلا نراه إلا أنه يريد وضع حجة من حجج الله تعالى القائمة على نفسه بمجرد التوهم والتخيل وليس هذا شأن المسلم لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم
قال شيخنا إمام الحرمين مؤلف هذه الرسالة قوله وقصور الفهم قلت بل عذر القصور في الفهم غير مسلم فقد صرحوا بالفرق بين القياس والدلالة بأن المفهوم بالقياس لا يفهمه إلا أهل الاجتهاد بخلاف المفهوم بالدلالة فإنه يشاركه فيه أهل الرأي وغيرهم وهذا مما صرحوا به في الأصول وغيره فإذا كان حال الدلالة هذه فما حال صريح النص فالاعتذار بعدم الفهم باطل قطعا والعجب من الذي يقول أمر الحديث عظيم وليس لمثلنا أن يفهم فكيف يعمل به وجوابه بعد أن فرضنا موافقة فهمه لفهم ذلك العالم الذي يعتد بعلمه وفهمه بالإجماع أنه إن كان المقصود بهذا تعظيم الحديث وتوقيره فالحديث أعظم وأجل لكن من جملة تعظيمه وتوقيره أنه يعمل
____________________
(1/60)
به ويستعمل في مواده فإن ترك المقالات به إهانة له نعوذ بالله منه وقد حصل فهمه على الوجه الذي هو مناط التكليف حيث وافق فهم ذلك العالم فترك العمل بذلك الفهم لا يناسب التعظيم والإجلال فمقتضى التعظيم والإجلال الأخذ به لا بتركه وإن كان المقصود مجرد الرد عن نفسه بعد ظهور الحق فهذا لا يليق بشأن مسلم فإن الحق أحق بالاتباع إذ لا يعلم ذلك الرجل أن الله عز وجل قد أقام برسوله صلى الله عليه وسلم الحجة على من هو أغبى منه من المشركين الذين كانوا يعبدون الأحجار وقد قال تعالى فيهم { أولئك كالأنعام بل هم أضل } فهل أقام عليهم الحجة من غير فهم أو فهموا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فهم هؤلاء الأغبياء فكيف لا يفهم المؤمن مع تأييد الله تعالى له بنور الإيمان وبعد هذا فالقول بأنه لا يفهم قريب من إنكار البديهيات وكثير ممن يعتذر بهذا الاعتذار يحضر دروس الحديث أو يدرس الحديث فلولا فهم أو أفهم كيف قرأ أو أقرأ فهل هذا إلا من باب مخالفة القول الفعل والاعتذار بأن ذلك الفهم ليس مناطا للتكليف باطل إذ ليس الكتاب والسنة إلا لذلك الفهم فلا يجوز الاستعمال بهما والبحث عنهما بالنظر إلى المعاني التي لا يعمل بهما كيف وقد أنزل الله تعالى كتابه الشريف للعمل به وتعقل معانيه ثم أمر رسوله ص بالبيان للناس عموما فقال تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } وقال { لتبين للناس ما نزل إليهم } فكيف يقال إن كلامه ص الذي هو بيان للناس غير مفهوم لهم إلا لواحد منهم بل في هذا الوقت ليس مفهوما لأحد بناءا على زعمهم أنه لا مجتهد في الدنيا منذ كم سنين ولعل أمثال هذه الكلمات صدرت من بعض من أراد أن لا ينكشف حقيقة رأيه للعوام بأنه مخالف للكتاب والسنة فتوصل إلى ذلك بأن جعل فهم الكتاب والسنة على الوجه الذي هو مناط للأحكام مقصور على أهل الاجتهاد ثم نفى عن الدنيا أهل الاجتهاد ثم شاعت هذه الكلمات بينهم والله أعلم بحقيقة الأمر ولعل بعضهم لما رأى أنه إن منع ذلك يمكن أن يميل بعض إلى ترجيح بعض المذاهب الموافقة لظاهر الكتاب والسنة فيأخذها زاد على ذلك عدم جواز الانتقال من مذهب إلى مذهب وعدم التلفيق ونحوه لئلا يجد الناس إلى الترجيح سبيلا حتى قال قائل منهم إن العامي إذا انتقل من مذهبه يصير أفسق الفاسقين وإذا انتقل العالم يصير مبتدعا وضالا فبذلك لا يطمع أحد في الترجيح لما يرى أنه لا فائدة تترتب عليه ومعلوم عند أهل البصائر أن مثال هذه المقالات لا عين منها في دين الله تعالى ولا أثر بل كثير منها مخالف للعقل والنقل ومع ذلك فترى كثيرا من أهل الفهم ينحرفون عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنها فرض لازم لقوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } ونحوه ولا يلتفتون إلى كلامه الذي يرويه الثقات الأثبات عنه صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحاح ثابتة إلى روايات من أصحاب المذاهب المذكورة في كتب المذهب من غير إسناد وكثير من أهل الكتاب
____________________
(1/61)
يخالفون في نقل تلك الروايات أيضا لعدم الإسناد اعتمادا على هذه الكلمات الشائعة بينهم فإذا رأوا أحدا يميل إلى ترجيح قول إمام بالحديث والكتاب يعدونه ضالا مبتدعا فانظر إلى أمثال هذه الحوادث فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا أقل أن يعرف الرجل أن هذه الكلمات الشائعة هل هي أقوال للمجتهدين من علماء الدين أو هي لبعض المقلدين غير المعتمدين فإن كانت للمجتهدين فلا بد أن يعرف أنها لمن ونحن نجزم بأن أمثال هذه الكلمات لا يمكن أن تكون من العقلاء فضلا عن أهل الاجتهاد وكيف يسوغ لمسلم أن يتفوه بكلام في دين الله تعالى من غير أن يقوم به حجة وبرهان من الله تعالى وإن كانت للمقلدين فكيف يجتمع الاعتماد عليها عندهم مع اعتقاد أن لا عبرة بفهم المقلدين أصلا فانتقض أحد الأمرين بالآخر وأعجب من هذا أن كثيرا منهم يتوقف على أن العلماء مذهبهم هل جوزوا العمل بالحديث أم لا فنظن أنه لا يصح العمل بالسنة إلا بقول عالم به فنقول إن قول العلماء يحتاج في ثبوته وصحته وكونه يصلح للعمل به إلى الكتاب والسنة حتى إن ما خالف الكتاب والسنة ولا يوافقهما برد أولا ترى كتب الفقهاء يقولون في كل قول وحكم لقول الله عز وجل أو لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يحتاج العمل بالكتاب والسنة إلى قول العلماء وهل هذا إلا شبه الدور الممنوع وقلب للمعقول ونقض للأصول وجعل الفروع أصلا والأصل فرعا فهذا الذي ذكرنا يفيد أن جواز العمل بالحديث لمن فرضنا له من أجل البديهيات ومع ذلك فالرواية والدراية سوى هذا الذي ذكرنا متوافقات على ذلك فمن الرواية ما ذكر في الهداية بقوله لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينزل عن قول المفتي وفي الكافي والحميدي أي لا يكون أدنى درجة من قول المفتي وقول المفتي يصلح دليلا شرعيا أي للعامي فقول الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وهذا الذي ذكر في الهداية أنه مذهب محمد ذكر في محيط السرخسي وغيره أنه قول أبي حنيفة ومحمد فيلزم منه جواز العمل للعامي بالحديث عندهما مطلقا من غير اشتراط أنه أخذ به من يعتد بعلمه إذ يجوز للعامي الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه كما قال في الفتح أن الحكم في حق العامي فتوى مفتية وفي البحر أن مذهب العامي فتوى مفتية من تقيد بمذهب فكيف لا يجوز أولا يجب عليه العمل به إذا علم أنه أخذ به من يعتد بعلمه لإجتماع الفتوى والحديث حينئذ في حقه
وذكر في الخزانة عن الروضة الزندويسية سئل أبو حنيفة إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله فقيل إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه قال اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر في المثانة عن الروضة الزندويسية عن كل من أبي حنيفة ومحمد أنه قال إذا قلت قولا يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي
وذكر ابن الشحنة في نهاية النهاية أنه صح عن أبي حنيفة أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي
____________________
(1/62)
ذكره الشيخ إبراهيم البيدي في رسالة له في منع الإشارة في التشهد وأما ما اشتهر عن الشافعي أنه قال إذا صح الحديث على خلاف قولي فاضربوا قولي بالحائط أو نحوه فذلك معلوم مذكور في كتب أصحاب مذهبه وقد بنى أصحابه المذهب على طبق هذا الكلام فكلما أورد عليهم حديث ورأوا قول الشافعي مخالفا له أخذوا به وتركوا قوله وجعلوا ذلك مذهبهم قال بعض أصحاب التحقيق في رسالة له في علم أصول الحديث في تحقيق الحديث الضعيف أنه يجوز عند العلماء التساهل في رواية الضعيف دون الموضوع بأن لم يبين ضعفه في المواعظ والقصص وفضائل الأعمال لا في صفات الله تعالى وأحكام الحرام والحلال قيل كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه وأبو داود كان يأخذ مأخذه ويخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ويرجحه على رأي الرجال
وعن الشعبي ما حدثك هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به وما قالوه برأيهم فالقه في الحش وقال الرأي بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلتها وعن الشافعي مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ماقلت فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي وجعل يردده انتهى كلامه
وفي الباب روايات يطول الكلام بذكرها وقد جمع بعض أهل التحقيق في رسالته في بيان جواز العمل بالحديث للعامي روايات أهل المذهبين ثم قال والذي يظهر لي بعد التأمل في مأخذ المسألة رواية ودراية أن العمل بما هو دليل شرعي في ذاته إذا احتمل عروض عارض مانع من العمل به كالحديث الذي وصل إلى العامي إذا احتمل أن يكون منسوخا أو مخالفا للإجماع جائز إذا كان الاحتمال غير ناشئ عن دليل وأما إذا كان ناشئا عن دليل فمحل توقف ولو قيل إن عدم جواز العمل حينئذ ما لم يفتش عن ذلك الاحتمال فله نوع قرب والله تعالى أعلم انتهى
قلت وقد عرفت أن احتمال النسخ وغيره لا يضر فيما إذا وافق العامي مجتهدا في فهم الحديث وعلم أن المجتهد أخذ به كما هو المفروض فيما نحن فيه كما تقدم تحقيقه ولا يخالف جواز العمل أو وجوبه على العامي في صورة مفروضة ما ذكره ابن الحاجب في مختصر الأصول أنه يجب على العامي تقليد مجتهد لظهور أنه يحصل للعامي في الصورة في العمل بالحديث تقليد من أخذ بذلك الحديث أيضا على أنه في محل التأمل عند أصحابنا بناءا على ما ذكرنا أن كلام الله يفيد جواز الأخذ به للعامي من غير اشتراط فهذا تحقيق الكلام في الرواية على وجه الاختصار وأما الدراية فالنظر في الدليل يعطي الجواز مطلقا فكيف مع ذلك الشرط وذلك لما تقرر أن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء فإن فيهم القروي والبدوي ومن سمع منه ص حديثا واحدا وصحبه مرة ولا شك ان من سمع منهم حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم كان يعمل به حسب فهمه مجتهدا
____________________
(1/63)
كان أولا ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد فيما سمعه من الحديث لا في زمانه صلى الله عليه وسلم ولا بعده في زمان الصحابة رضي الله عنهم وهذا تقرير منه صلى الله عليه وسلم بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد وإجماع من الصحابة عليه ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البوادي أن لا يعملوا بما بلغهم من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم ولم يرد من هذا عين ولا أثر وهذا هو ظاهر قوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ونحوه من الايات حيث لم يقيد بأن ذلك على فهم الفقهاء ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ أو عدم الإجماع على خلافه أو عدم المعارض بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع فينظر ذلك ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكاما كثيرة في الماء ونحوه لاتحصى على المتتبع لكتبهم
ومعلوم أن من أهل البوادي والقرى البعيدة من كان يجيئ عنده صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ويسمع شيئا ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به والوقت كان وقت نسخ وتبديل ولم يعرف أنه ص أمر أحدا من هؤلاء بالمراجعة ليعرف الناسخ من المنسوخ بل أنه ص قرر من قال لا أزيد على هذا ولا أنقص على ما قال ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ بل دخل الجنة إن صدق وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ مالم يظهر عنده الناسخ فإذا ظهر لا يعيد ما عمل على وفق المنسوخ بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة إلى الكعبة المشرفة فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قبا وغيرهم بعدما صلوا على وفق القبلة المنسوخة فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة ومنهم من وصله بعد أن صلى صلاة والنبي صلى الله عليه وسلم قررهم على ذلك ولم يأمر أحدا منهم بالإعادة فلا عبرة لما قيل لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص وإن ادعى عليه الإجماع فإنه لو سلم فإجماع الصحابة وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على إجماع من بعدهم على أن ما ادعى من الإجماع قد علم خلافه كما ذكره في بحر الزركشي في الأصول ويكفي في خلافه ما تقدم من كلام الهداية وهذا بيان لحقيقة الأمر وإلا ففي الصورة التي نحن فيها قد علم عدم الموانع بأخذ من يعتد بعلمه بهذا الحديث فالعمل في هذه الصورة لا يخالف هذا الإجماع إن ثبت لأن بحث من يعتد بعلمه وأخذه يغني عن البحث ثانيا فصار علمه بعدالبحث المعتبر لا قبله كما لا يخفى
وهذا الكلام كله في العامي إذا اتفق له معرفة الحديث بصحته ومعناه وأن أحدا من أهل الاجتهاد قد أخذ به وأما من له أهلية فالأخذ بالحديث في حقه أو كد وأوجب إذا أخذ به
____________________
(1/64)
بعض الأئمة وعمله بخلافة بعد ظهوره تقليدا لأحد أي أحد كان أخوف كيف وقد قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
وقد عرفت أن مقتضى تقليدهم أيضا الأخذ بالحديث لقولهم اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فتقليدهم في هذه الصورة كما هو ترك لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ترك لتقليدهم أيضا حقيقة سيما إذا ظهر للإنسان حديث على وفق مذهب أحد من الأئمة المشهورين ولم يظهر له على وفق مذهب إمامه شيء يصلح للاعتماد عليه خصوصا إذا ظهر ممن يعتد بتبعيتهم أنهم ما وجدوا شيئا على وفق مذهب إمامه يصلح للاعتماد فحينئذ ليس من شأن المسلم التجمد على التقليد فإن تجمد مع ذلك فما أشبهه بمن قال الله تعالى فيهم { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } فمن ظهر له الحديث الصحيح الصالح للاعتماد وعلم أن من الأئمة من أخذ به فليأخذ به ولا يمنعه عن ذلك أنه على مذهب فلان أو فلان فقد قال تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ومن جملة الرد إليه صلى الله عليه وسلم الأخذ بقوله عند التنازع وقد تحقق التنازع بين الأئمة فوجب الأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم والرجوع إليه إذا ظهر
فإن قلت يكفي في الرد إلى الله والرسول أن يقول الله ورسوله أعلم
قلت مقتضى هذا عين الرجوع إلى قولهما عملا إذ هو مقتضى الأعلمية وألا يصير إثبات الأعلمية باللسان بلا عمل بقولهما بمنزلة النفاق وليس الاستدلال بالحديث في المتنازع فيه إلا لتحكميته صلى الله عليه وسلم في ذلك فقد وجب فيه الأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فمن تجمد على التقليد وأعرض عن اتباع قوله صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره من غير مانع له عن العمل إلا التقليد فليحذر كل الحذر بهذه الآية والله تعالى أعلم
قلت وقد ظهر بهذا البحث أن ما قيل أن ظن المقلد لا عبرة به في الأحكام وخبر الآحاد لا يفيد سوى الظن فلا يجوز له العمل به باطل قطعا لأن قول أبي حنيفة ومحمد والشافعي بأنه إذا خالف قولنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ونحوه ليس في حق المجتهد لعدم احتياجه في ذلك إلى قولهم فذاك في حق المقلد فقولهم هذا
____________________
(1/65)
صريح في جواز العمل له بحديث الآحاد لظهور أنهم ما أرادوا جواز العمل بالمتواتر فانه أقل قليل
هذا ولا يمكن أن تقول أقوال هؤلاء الأئمة مخالفة للأحاديث المتواترة فإذا جاز العمل للمقلد عند هؤلاء الأئمة بخبر الآحاد فما معنى قول من قال لا عبرة بظن المقلد في الأحكام اللهم الا أن يحمل ذاك على الظن الحاصل بالقياس ونحوه ان ثبت منهم هذا الكلام أو على أن ظنه ليس بحجة في حق غيره لا في جواز العمل إذ وجوبه في حق نفسه أو يقال ذلك إذا لم يوافق في ذلك الظن أحدا من المجتهدين وأما إذا وافق أحدا فلا فالمراد الظن الصرف وكلامنا في الظن الذي وفق به أحدا من المجتهدين كما تقدم وان كان هذا القيد مما لا يقتضيه كلامهم وذلك لما حققناه أن عدم العلم هو بما إذا كان فهمه موافقا لغهم المجتهدين مما لا وجه له إذ قد حققنا أنه لا مانع له من العمل في هذه الصورة بعد ظهور الدليل وكيف لا يجب عليه العمل في هذه الصورة بالحديث مع قوله تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقوله تعالى { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي وقوله ليبلغ الشاهد منكم الغائب من غير قيد بأهل الإجتهاد فإذا بلغت السنة لأحد فكيف يجوز له الإعراض عنها هذا العذر البارد وقد قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } والقرآن مملوء من أمثال ذلك
ثم نقول لا بد من حمل قول من قال لا عبرة بظن المقلد ان ثبت على أنه لا يجوز له الأخذ بما هو ظني الأصل مثلا كالقياس أو على نحو هذا كما ذكر لا على أنه لا يجوز له الأخذ بما هو ظني مطلقا وإن كان ظني السند قطعي الأصل وإلا يشكل عليه أنه حينئذ لا يمكن له العمل بأقوال الأئمة لظهور أنها غير ثابتة عند العوام قطعا بل ليس الظن في ثبوتها كالظن في ثبوت الأحاديث فاذ قلنا بعدم جواز العمل بالأحاديث بسبب الظن في ثبوتها عند المقلد لأن ظنه لا عبرة به فيجب أن لا يكون لظنه عبرة في الأقوال المنقولة عن المجتهدين فحينئذ ينبغي أن لا يجوز له العمل بتلك الأقوال بل ينبغي أن يجب عليه الرجوع الى المجتهدين الأحياء وهم فرضوا أن ليس في الدنيا مجتهد حي فينبغي أن يسقط عن العوام التكليف بل عن العالم التكاليف غالبها لظهور أنهم لا يأخذون فيها بالأحاديث ولا بأقوال المجتهدين للزوم العمل بالظن وظنهم لا عبرة به ولا مجتهد فيهم حتى يتبعه غيره وهذا كما ترى مصيبة عظيمة
قلت على أنا لو فرضنا عدم إيجاد الله تعالى المجتهدين سقط التكليف عن العالم الا بما بلغ اليهم قطعا ودلالة على المطلوب قطعا وهو أقل قليل
____________________
(1/66)
ثم نقول اذا لم يجز للعوام العمل بالظن أصلا لما قلتم إنه لا عبرة بظن غير المجتهد أصلا نقول كيف يثبت عليهم وجوب العمل بأقوال المجتهدين ان كان بدليل ظني فقد عرفت ان ذلك يفيد الظن لهم ولا يثبت به في حقهم شيء وان كان بقطعي فمعلوم أن المسألة في غير قطعي وقد كثر العمل للعامي والمقلد بحديث ولا شك أن ذلك لا يثبت بقول المجتهد لظهور أن الكلام في ثبوت قوله عليه ووجوب العمل عليه بقوله وقد أنكر الظاهرية وغيرهم جواز التقليد فكيف يقال بأن وجوب التقليد قطعي فحينئذ لا يثبت التكليف في حق العامي أصلا الا بما هو قطعي له وأما الظني فلا يجوز له العمل به أصلا
ثم إذا قلنا بهذا الأصل ان الظني لا عبرة به أصلا ولو كان ظنا في السند يلزم أن لا تقوم الحجة بالأحاديث على أحد من الموجودين كالرافضة وغيرهم من الفرق الضالة خذلهم الله تعالى لجواز أن يقولوا نحن مقلدون لغيرنا والحجة لا تقوم بالظن إلا على مجتهد وقد علم من أصلكم أنه لا مجتهد في الدنيا فكيف تقيمون علينا الحجة الظنية مع أنه لا يحصل بها إلا الظن ويجب علينا أن لا نأخذ بذلك الظن أو لا يجب علينا أن نأخذ به فيلزم العجز عن إقامة الحجة بالأحاديث
ثم انظر الى سخافة التمسك بهذا الكلام وهو أنه لا عبرة بظن المقلد أصلا مع أنه باطلاقه قد علم بطلانه ولم يعلم قائله من هو ولو سلم أن قائله مجتهد وقد أجمع عليه فقد سمعت تأويله على أن قول مجتهد واحد لا حجة فيه بالاجماع في المسائل العملية الأصلية وهذه المسألة هنا وقد عرفت ما فيها من المفاسد اذا اجرى على إطلاقه ومع ذلك فنقول كيف يكون للمقلد العمل بقول المجتهد مع أنه في الأصل ظني متضمن للتقليد الذي هو مما ذم الله تعالى في مواضع من كلامه وانما جوز لضرورة حاجة العوام اليه وجواز العمل به له ظني ثم ثبوته عند هذا المقلد ظني لم يثبت اسناده الى ذلك المجتهد أصلا وإنما مداره على حسن الظن بالنقلة بل قد يكون ثبوته وهميا أو شكيا اذا اختلف النقلة في نقل قول المجتهد فيقول أحد إنه كذا والآخر إنه كذا ثم هو ظني باعتبار أنه هل بقي عليه ذلك المجتهد أو رجع عنه ولا شك في ثبوت الظن سيما إذا نقلوا عدة أقوال عن مجتهد فحينئذ كون ذلك مما بقي عليه المجتهد ينبغي أن يكون مشكوكا فيه فنقول كيف جاز له العمل مع هذه الظنون بقول مجتهد ولم يجز له العمل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه قطعي أصلا وظني إسنادا واسناده متصل ونقلته أوثق فظن ثبوته أقوى من ظن ثبوت ذلك المنسوب الى المجتهد واذا كان الظن مانعا من العمل فهلا يمنع له العمل بقول المجتهد والا فلأي شئ يمنعه من العمل بالحديث فانظر في هذا وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق
بل نقول الظنية لازمة لقول المجتهد بالنظر الى المقلد ذاتا لا تفارقه أصلا وان لم تكن تلك الظنية بالوجوه المذكورة أيضا وذلك لأن المجتهد واحد من الآحاد فيجري عليه في أخباره
____________________
(1/67)
عن نفسه بأنه اجتهد فوقع رأيه على كذا ما يجري على سائر الآحاد فانه ليس بمعصوم كالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيجوز عليه السهو في هذا الاخبار والنسيان ويمكن منه صدور الكذب في هذا الاخبار أيضا على وجه الاحتمال فلا يحصل القطع بهذا الاخبار للمقلد أصلا وان تواتر عن ذلك المجتهد فإذا لم يكن يظن المقلد غيره فلا يمكن له العمل بقول مجتهد أصلا
والعجب أنهم يعرفون أن المجتهد يخطئ ويصيب وهو من جملة عقائدهم والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ ثم مع ذلك كله يصرون على كلام المجتهد كما ترى ويدعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم
ثم نقول ولو سلم أن ظن المقلد لا عبرة به أصلا ولا يحسن أو لا يجوز له أو لا يجب عليه أن يرجع الى ظنه ويترك قول المجتهد فنقول لا يلزم في الصورة التي نحن فيها من ترك قول صاحب المذهب الى العمل بالحديث العمل بظنه أصلا بل اللازم فيها ترك تقليد من خالف قوله للحديث الى تقليد من وافق قوله الحديث وليس في ذلك ترك للتقليد وعمل بظن نفسه كما ترى فليس فيما قلنا الا لزوم تقليد من يظنه موافقا للحق وترك تقليد من يظنه مخالفا للحق في مسالة ولا يخفى أنه ينبغي أن يكون ذلك واجبا على المقلد لأن حقيقة التقليد هو حسن الظن بالمجتهد وقبول قوله من غير دليل ولا يخفى أنه اذا حصل للمقلد ظن في مسألة فلا يمكن أن يحسن الظن في تلك المسألة بمن يخالف ظنه لظهور أن الظن لا يتعلق بالنقيضين فحينئذ لا يمكن منه تقليد المخالف أصلا فضلا عن أن يجوز له أو يجب عليه بل معنى التقليد لا يتحقق منه الا بالنسبة الى الموافق فليس فيما يقول الا أنه يجب عليه أن يقلد من يظنه على الحق ولا يجوز له أن يقلد من يظنه على الخطأ فكيف يتصور من مسلم أن يقول لا يجب عليه تقليد من يظنه على الهداية والصواب ويجوز له تقليد من يظنه على الضلالة والخطأ فان الخطأ في الاجتهاد عندهم ضلالة على ما قالوا في تحقيق حديث لا تجتمع أمتي على ضلالة ثم اذا علمت أن حقيقة التقليد الظن فلو قلنا أن ظن المقلد لا عبرة به يرتفع التقليد عن العالم لأنه ليس الا الظن فلا ينبغي أن يجوز العمل بالتقليد لأنه من باب العمل بالظن وهو غير جائز فانظر ما في هذا
ثم اذا قلنا أنه لا يجوز للمقلد أن يتبع ظنه الحاصل له بالنظر في الحجة الشرعية وان كان موافقا لكثير من المجتهدين بل يجب عليه تقليد غيره كالذي قلده قبل النظر في الدليل وان رآه مخالفا لمقتضى الدليل فينبغي أن لا يجب على مقلد أهل الأهواء الذي حصل له الظن بخلاف ما عليه امامه أن يترك قول امامه باخبار الآحاد لأنها ظنية فلو فرضنا أن امامه الضال قد أخبره بأنه
____________________
(1/68)
يجب عليه أن يسب مثلا بعض أكابر الصحابة كما هو داب الرافضة البطلة في الأوقات الشريفة كوقت الأذان وأدبار الصلوات ثم حصل له الظن بالأحاديث أن المندوب في هذه الأوقات الاشتغال بالأذكار والاوراد المسنونة وحصل له بأن مقتضى الدين تعظيم الصحابة لا تحقيرهم مثلا فينبغي أن نقول لا يجب على هذا المقلد الرجوع لما ظهر له بالدليل بل يجب عليه البقاء على ذلك التقليد ونقول انه بذلك الفعل مثاب ولو ترك هذا الضلال الى الأوراد والأذكار يكون عاصيا لترك التقليد الواجب عليه الى ظنه الذي لا عبرة به وترك الواجب عليه بالتقليد الى ما هو مندوب اليه بالظن ومثل هذا لا ينبغي أن يصدر عن مسلم فإنا قلنا اذا ظهر عليه الحق ظنا يجب عليه الرجوع الى الحق وترك التقليد الذي يظنه باطلا فأي فرق بين ذلك وبين من يقلد اماما يظنه أنه خالف الحديث في مسألة أو مسألتين ولو فرضنا ان أحدا من الروافض ظهر له خطأ مذهبه في بعض المسائل كمسألة السب مثلا ظنا هل نقول عليه أنه في التقليد عاص بعد ذلك أم يجب عليه الرجوع فانظر هذا
والعجب أنه اذا ظن أحد المجتهدين على الحق في مسألة بواسطة ظهور الحديث الى جانبه فلا شك أن كون الثاني على الحق عنده يكون متوهما فنقول هل يجب عليه أو يجوز أن يثبت على تقليد قول من يتوهمه أنه على الحق ولا يجب عليه أو لا يجوز له الرجوع الى قول من يظنه أنه على الحق ومثل هذا مما يستبعده العقل جدا
والعجب انهم يعدون الانتقال من مذهبه الى مذهب غيره من أشد أقسام الفسق أو أقبحه فهل يقول لهذا الرافضي لا يجوز له الانتقال من مذهبه وهذا لا يقول به مسلم
وانما أطنبنا في الكلام كل هذا الاطناب مع أن المسألة استطرادية في الكتاب لما أن غرضنا من وضع هذه الحاشية تقوية الحق بالسنة السنية والترجيح بها من غير تقييد بمذهب معين على خلاف ما هو دأب أهل الزمان فأحببنا أن نجعل هذا البحث مقدمة من مقدماته وأيضا فقد رأينا ناسا يتساهلون في الأخذ بالحديث ولا يهتمون بأمره ويرون ما يخالف مذهبهم من الحديث كأنه أمر مردود ويتخذون ما يوافقه مقبولا مع أن التحقيق أن يرد ما يخالف الكتاب والسنة لقوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
فلعل هذه المقدمة ان شاء الله تعالى تنفعهم في التحرز عن سوء صنيعهم { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } انتهى كلام المحقق أبي الحسن السندي رحمه الله تعالى بطوله
قال ابن عبد البر وقال محمد بن الحسن العلم على أربعة أوجه ما كان في كتاب الله الناطق وما أشبهه وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أشبهها وما كان فيما اجتمع عليه
____________________
(1/69)
الصحابه رحمهم الله تعالى وما أشبهه وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه فاذا وقع الاختيار فيه على قول فهو علم نقيس عليه ما أشبهه وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين وما أشبهه وكان نظيرا له وقال لا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة
قال أبو عمر قول محمد بن الحسن وما أشبهه يعني ما أشبه الكتاب وكذلك قوله في السنة واجماع الصحابة يعني ما أشبهه ذلك كله فهو القياس المختلف فيه في الاحكام ومراده به القياس على هذه الأمور قال البيهقي في المدخل أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت محمد بن الحسن ابن تالويه يقول سمعت أبا بكر محمد بن اسحق بن خزيمة يقول سمعت أبا بكر الطبري يقول سمعت نعيم بن حماد يقول سمعت ابن المبارك يقول سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم
وقال أيضا أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول سمعت محمد بن عمر بن العلاء يقول سمعت بشر بن الوليد يقول قال أبو يوسف لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا
قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي اللازم على كل مسلم أن يجتهد في معرفة معاني القرآن وتتبع الأحاديث وفهم معانيها واخراج الأحكام منها فإن لم يقدر فعليه أن يقلد العلماء من غير التزام مذهب لأنه يشبه اتخاذه نبيا وينبغي له أن يأخذ بالأحوط من كل مذهب ويجوز له الأخذ بالرخص عند الضرورة وأما بدونها فالأحسن الترك أما ما أحدثه أهل زماننا من التزام مذاهب مخصوصة لا يرى ولا يجوز كل منهم الانتقال من مذهب الى مذهب فجهل وبدعة وتعسف وقد رأيناهم يتركون الأحاديث الصحاح غير المنسوخة ويتعلقون بمذاهبهم من غير سند انا لله وانا اليه راجعون انتهى
قلت وقوله يشبه اتخاده نبيا ألخ بل هو عين اتخاده ربا على ما تقدم في المقدمة عند تفسير قوله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الآية من حديث عدي ابن حاتم وغيره وقد قال الشافعي ما من أحد الا ويذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه كما نقله العراقي عنه فاذا الزم نفسه تقليد مجتهد معين واتفق أن ذلك المجتهد فإنه سنة دالة على تحريم شئ فاجتهد فيه وأحله بإجتهاده من قياس أو استحسان أو غير ذلك وبلغت السنة مجتهدا غيره فحرمه اتباعا للسنة وعلم هذا المقلد السنة المذكورة الدالة على تحريمه بواسطة المجتهد الآخر وقد ألزم نفسه تقليد الأول الذي أحله فصمم على تقليده بتحليله مع علمه بورود السنة الدالة على تحريمه ومنعه تقليد الأول اتباع السنة لاعتقاده عدم جواز الانتقال عن تقليد الأول فقد
____________________
(1/70)
اتخذ الأول ربا من دون الله تعالى يحل له ما حرم الله ويحرم عليه ما أحل الله انا لله وانا اليه راجعون
وقال الشيخ محمد حياة ايضا لو تتبع الانسان من النقول لوجد أكثر مما ذكر ودلائل العمل على الخير اكثر من أن تذكر وأشهر من أن تشهر لكن لبس ابليس على كثير من البشر فحسن لهم الأخذ بالرأي لا الأثر وأوهمهم أن هذا هو الأولى والأخير فجعلهم بسبب ذلك محرومين عن العمل بحديث خير البشر صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه البلية من البلايا الكبر إنا لله وإنا لله راجعون
ومن 2 اعجب العجائب أنهم إذا بلغهم عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ما يخالف الصحيح من الخير ولم يجدوا له محملا جوزوا عدم بلوغ الحديث اليه ولم يثقل ذلك عليهم وهذا هو الصواب واذا بلغهم حديث يخالف قول من يقلدونه اجتهدوا في تأويله القريب والبعيد وسعوا في محامله النائية والدانية وربما حرفوا الكلم عن مواضعه واذا قيل لهم عند عدم وجود المحامل المعتبرة لعل من تقلدونه لم يبلغه الخبر أقاموا على القائل القيامة وشنعوا عليه أشد الشناعة وربما جعلوه من أهل البشاعة وثقل ذلك عليهم فانظر أيها العاقل الى هؤلاء المساكين يجوزون عدم بلوغ الحديث في حق أبي بكر الصديق الأكبر وإخوانه ولا يجوزون ذلك في أرباب المذاهب مع أن البون بين الفريقين كما بين السماء والأرض وتراهم يقرأون كتب الحديث ويطالعونها ويدرسونها لا ليعلموا بها بل ليعلموا دلائل من قلدوه وتأويل ما خالف قوله ويبالغون في المحامل البعيدة واذا عجزوا عن المحمل قالوا من قلدنا اعلم منا بالحديث أو لا يعلمون أنهم يقيمون حجة الله تعالى عليهم بذلك ولا يستوي العالم والجاهل في ترك العمل بالحجة واذا مر عليهم حديث يوافق قول من قلدوه انبسطوا واذا مر عليهم حديث يخالف قوله أو يوافق مذهب غيره ربما انقبضوا ولم يسمعوا قول الله { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
قال الصغاني في مشارق الأنوار أخذت مضجعي ليلة الأحد الحادية عشرة من شهر ربيع الأول سنة اثنين وعشرين وستمائة وقلت اللهم أرني الليلة نبيك محمدا ص في المنام وانك تعلم اشتياقي اليه فرأيت بعد هجعة من الليل كأني والنبي صلى الله عليه وسلم في مشربة ونفر من أصحابنا أسفل منا عند درج المشربة فقلت يا رسول الله ما تقول في ميت رماه البحر احلال فقال وهو متبسم الى نعم فقلت وانا أشير إلى من باسفل الدرج فقل لأصحابي فإنهم لا يصدقوني فقال لقد شتموني وعابوني فقلت كيف يا رسول الله فقال كلاما ليس يحضرني لفظه وانما معناه عرضت قولي على من لا يقبله ثم أقبل عليهم يلومهم ويعظهم فقلت صبيحة تلك الليلة وأنا أعوذ بالله من أن
____________________
(1/71)
أعرض حديثه بعد ليلتي هذه إلا على الذين يحكمونه فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى ويسلموا تسليما انتهى
وكثير من هؤلاء الطائفة المتعصبة من يدعي عدم فهم الحديث إذا قيل له لم لا تعمل بالحديث مع ادعائه الفضيلة وتعليمه وتعلمه واستدلاله لمن قلده وهذا من أغرب الغرائب ولو أذهب لاذكر لك ما فيهم من العجائب لطال الكلام وفي هذا المقدار كفاية لمن نور الله بصيرته وأرشده إلى الصواب انتهى كلام الشيخ محمد حياة السندي بطوله
قلت ولقد صدق الشيخ رحمه الله وبذل النصيحة وأرشد والله الهادي % لقد أسمعت لو ناديت حيا % ولكن لا حياة لمن تنادي % المقصد الثاني فيما قاله مالك بن أنس إمام دارالهجرة وما ذكره أتباعه السادة المهرة
حدثنا شيخناالمعمر وبركتنا المدخر محمد بن محمد بن محمد سنه حدثنا محمد بن عبدالله الشريف عن محمد بن أركماش الحنفي أخبرنا أبو الفضل الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أجازة عن أبي إسحق إبراهيم بن أحمد بن عبدالواحد التنوخي سماعا عن أبي محمد بن أبي غالب بن عساكر عن أبي الحسن بن المقير عن أبي الفضل بن ناصر عن ابي عبدالله محمد بن فتوح الحميدي عن الحافظ أبي عمر بن عبدالبر حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالمؤمن قال حدثنا أبو عبدالله بن محمد بن أحمد القاضي المالكي ثنا موسى بن إسحق قال ثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا معن بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل مالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه
وذكر أحمد بن مروان المالكي عن أبي جعفر بن رشدين عن إبراهيم بن المنذر عن معن عن مالك مثله
وبه إلى أبي عمر أخبرنا عبدالرحمن بن يحيى قال حدثنا أحمد بن سعيد قال ثنا عبدالملك ابن بحر قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا مطرف قال سمعت مالكا يقول قال لي ابن هرمز لا تسمك على شيء فيما سمعت مني من هذا الرأي فإنما افتجرته أنا وربيعة فلا تتمسك به
وقال سند بن عنان في شرحه على مدونة سحنون المعروفة بالأم ما نصه والفقه مأخذه الكتاب والسنة والإجماع والعبرة ولما كان الاستقلال بعلم الفروع مستندا على أمرين لا بد منهما أحدهما معرفة مذاهب أهل العصر من أهل الفقه والعقد والحل والثاني معرفة أصول
____________________
(1/72)
الفقه والتصرف فيها برد الفروع إلى الأصول فالأول كان شرطا ليأمن المتصرف من خرق الإجماع وينتهج منهاج الاقتداء والاتباع والثاني كان شرطا لتحصيل العلم لأن العلم لا يحصل إلا بطريقة لأنه لا يثبت ضرورة إذ لو ثبت ضرورة لاستوى الكافة فيه ومالا يثبت ضرورة فإنما يثبت نظرا ولما كانت الشريعة مستندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون النظر فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء عنه نوعان أقوال مسموعة وأحكام موضوعة والذي نقل من الأقوال فنان القرآن والسنة فوجب النظر فيهما بالاستنباط والاستخراج وقد قال تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وقد يوجد الوفاق من أهل الآفاق على حكم ما وإن لم يلق في كتاب ولا سنة عليه نص فيكون الوفاق طريقا إلى إثباته لأنا نعلم أن العقلاء في مجاري العبادات مختلفو الرتب والدرجات في قوة الفراغ وميل الأغراض ويتفاوتون في سبل النظر وتسديد الفكر فيبعد عادة أن يتفق الجم والجمع الكثير في مسألة فرعية إلا أن توقيره هذا برهان القطع بحجة الإجماع وفي الجملة أن العمل بالإجماع يرجع إلى العمل بالنص لأن الإجماع إنما يتضمن الحجة ووجهه ما بيناه أو يكون هو في نفسه حجة فيستند إثباته إلى السمع في قوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم } وفي قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين وفي البخاري ولن تزال هذه الأمة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله إلى أن قال أما مجرد الاقتصار على محض التقليد فلا يرضى به رجل رشيد ولسنا نقول إنه حرام على كل فرد بل نوجب معرفة الدليل وأقاويل الرجال ونوجب على العامي تقليد العالم
____________________
(1/73)
واختلف في تقليد الميت والصحيح أنه يرجع إليه عند الحاجة والعجز عما فوقه فإذا صح نقل كتابي عمن سلف من أهل العلم ورواه عنه ثقة ثم نزلت به نازلة في بادية وعسر عليه الوصول إلى مواطن الفقهاء وخاف فوات النازلة مثل أن ينسى التسمية على الذبيحة او معه امرأة ليست محرما ولا يدري ما يصنع له يغسلها او يتيممها أو غير ذلك فإنه يعمل بما يجده في كتاب المصحح وإن قلد ميتا فهو أولى من اتباع هواه بغير علم لأن ما يجده في صحيفته أصل وما قيل بعلم فهو أولى من اتباع الهوى وإنما نقول نفس المقلد ليست على بصيرة ولا يتصف من العلم بحقيقة إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق وإن نوزعنا في ذلك برهانه فنقول قال الله تعالى { فاحكم بين الناس بالحق } وقال { لتحكم بين الناس بما أراك الله } وقال { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ومعلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به فنقول للمقلد إذا اختلفت الأقوال وتشعبت المذاهب من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره أو وصحة قوله له على قولة أخرى ولا يبدي كلاما في قول إلا انعكس عليه في نقيضه سيما إذا عرض له ذلك في قولة لإمام مذهبه الذي قلده وقولة يخالفها لبعض أئمة الصحابة وتتبع الطلبات ولا يبقى له محصول
فإن قيل هذا ينعكس عليكم فيما تظنونه عند جريان القياس فمن أين تعلمون أنه الحق والظن لا يغني من الحق شيئا
قلنا نحن نقطع ونتيقن بما ذكرناه من تعارض الصحابة أن العمل يجب عند قيام الظن المستند إلى وضع الشريعة فالعمل إذا عند الظن ليس بمجرد الظن ولكن بدليل سابق مقطوع به وبيانه بالمثال أن الحاكم يتيقن أنه يجب عليه الحكم إذا ثبت له الظن عند قيام البينة فإذا قامت البينة ووجب الحكم استند وجوبه إلى قطعي ولكن ظهور العمل بالقطعي إنما هو عند قيام الظن في الثاني كذا في الفتوى وجب العمل عند قيام الظن مستندا إلى الدليل القطعي السابق فافهمه
أما التقليد فهو قبول قول الغير من غير حجة فمن أين يحصل به علم وليس له مستند إلى قطع وهو أيضا في نفسه بدعة محدثة لأنا نعلم بالقطع أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن في زمانهم وعصرهم مذهب لرجل معين يدرس ويقلد وإنما كانوا يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة وإلى ما يتمحض بينهم من النظر عند فقد الدليل إلى القول وكذلك تابعوهم أيضا كانوا
____________________
(1/74)
يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنة فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة فإن لم يجدوا اجتهدوا واختار بعضهم قول صحابي فرآه الأقوى في دين الله تعالى ثم كان القرآن الثالث وفيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل فإن مالكا توفي سنة تسع وسبعين ومائة وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة وفي هذه السنة ولد الإمام الشافعي وولد ابن حنبل سنة أربع وستين ومائة وكانوا على منهاج من مضى لم يكن في عصرهم مذهب رجل معين يتدارسونه وعلى قريب منهم كان أتباعهم فكم من قولة لمالك ولنظرائه خالفه فيها أصحابه ولو نقلنا ذلك لخرجنا من مقصود هذا الكتاب ما ذاك إلا لجمعهم آلات الاجتهاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات ولقد صدق الله تعالى نبيه ص في قوله خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة والحديث في صحيح البخاري فالعجب لأهل التقليد كيف يقولون هذا هو الأمر القديم وعليه أدركنا الشيوخ وهو إنما أحدث بعد مائتي سنة من الهجرة وبعد فناء القرون التي أثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولو قلت لأحدهم مالك رحمه الله مذهبه مذهب من لم يحز جوابا
وحكى أهل التواريخ أن الذي أشاع مذهب مالك رحمه الله بالأندلس إنما هو عيسى بن دينار وإنما كان يعمل بمذهب الأوزاعي ومكحول فكيف يدعون أنه هو الأثر القديم عندهم ولما أرغم بعض أهل التقليد الحجة واستبانت له المحجة قال نحن لا ننكر أن أصول الفتوى القرآن والسنة والإجماع والقياس ولكن من بقي بشريطة النظر ويستقل بأعبائه فنقول لهم نحن نقطع إنه ما من باب من العلم كان يسلك في عصر مالك رحمه الله إلا وهو مفتوح إلى الآن لمن شاء أن يسلك ولا يحتاج الناظر أن يكون في كل فن لا رتبة فوقه فإنا نعلم قطعا أن الصحابة كانوا مختلفي المذهب وكان الإمام منهم يستفتى من هو دونه ويرى أن نظره نافذ وحكمه ماض وقد قال الله تعالى { وفوق كل ذي علم عليم } وقد مات أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهما لم يستتما حفظ جميع القرآن والرواية عن علي رضي الله عنه في ذلك مختلفة وكان عمر في مجالس عدة يستدعي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض النوازل ممن حضره من الصحابة
____________________
(1/75)
وكذلك أبو بكر فإنه قال للجدة ما علمت لك في كتاب الله تعالى نصيبا ولا في السنة حتى روى له الحديث فيها ولقد كان مالك وأبو حنيفة ونظراؤهم غير متبحرين في علم الغة والنحو حتى نقل عن بعضهم في ذلك مالا يخفى مثله نعم لا بد أن يوجد من كل قرن أوفر حظ وقد برع الأئمة في ذلك بسهم لما رأوه أنه لا بد لمن يتجرد في طلب العلم من معرفة أصوله وفروعه ووجه ارتباط فروعه بأصوله وإلحاق مسألة بأخرى وقطعها عن أخرى وترجيح الأدلة عند تعارضها وجمعوا لذلك مسائل نظرية تشتمل على سائر فنون مسائل الفروع من مسائل الطهارة والصلاة وسائر العبادات ثم المعاملات من البيوع والأنكحة والأقضية والشهادات والجراحات ومسائل الجنايات والتوارث وغير ذلك ورسموها بذكر الخلاف بين المذاهب المشهورة في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله تعالى فذكروا في كل مسألة كل ما ورد فيها من الكتاب على وجوه الاحتجاج به من نص أو ظاهر أو عام أو مفهوم أو دليل خطاب والكلام في ناسخ ذلك ومنسوخه ومجمله ومبينه ومطلقه ومقيده وظاهره ومحتمله وصريحه وكنايته وما حظ ذلك من جهة النحو كالواو في الجمع وثم في الترتيب والفاء في التعقيب والباء في التبعيض وما حظ ذلك من جهة اللغة حقيقتها ومستعارها كاللمس في الجماع ونحوه
ويذكرون ماجاء في السنة من حديث صحيح أو مشهور أو مضطرب أو معلل ويميزون درجات الأخبار ووجه مقابلة الخبر بالخبر والآية بالخبر وكيف يخص القرآن بالسنة أو يقيد وترجيح نص السنة على ظاهر القرآن وغير ذلك من وجوه النظر التي لا يتوصل إليها إلا بالجهد والكد فيدرك الطالب بالتدريس والممارسة في أقرب زمان ويذكرون حظها من جهة الإجماع وموقع الوفاق والمطالبة بتحقيق ذلك ووجهه
وكذلك يذكرون حظ المسألة من الاعتبار وترتيب درجاته من قياس جلي أو قياس تقريب وترجيح العلل بعضها على بعض ومعرفة ما يفسدها من نقض أو كسر وعدم تأثير وتعليق ضد المقتضى وفساد اعتبار ومقابلة الجمع بالفرق وغير ذلك من فنون صارت بين الطلبة أهون من حكاية الغزوات والسرايا وأقاموا لذلك مناظرات مباحثات صارت لهم ديدنا وصنعة حتى يهون على أحدهم النظر في مجلدة من مسائل النظر وحفظها ومعرفتها ويصعب عليه حفظ كراس من
____________________
(1/76)
المسائل المجردة عن النظر المؤلفة على محض التقليد فجمعوا بذلك بين فروع الفقه وأحواله وكيفية بناء الفروع على الأول فلا يفرغ الطالب المجتهد من المسائل الخلافيات إلا وقد أشرف على وادي الفلاح ومد يده إلى حوز قصب السبق هذا وإن استبعده الجاهل واستغلاه فهو بين أربابه مستقرب مسترخص إذا وجد محلا يقبله فإن كل تركيب لايحتمله وكل قريحة لا تصلح له والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو لفضل العظيم
مع أن المفتي لا يشترط في وصفه أن يكون متمهرا في علم الكلام وقد اختلف هل يشترط فيه أصل هذا العلم أولا فاشترط ذلك أبو الطيب وأباه غيره وهو قول الأكثرين وقالوا لا يشترط أكثر من كونه عالما بحكم الحادثة التي يفتى فيها وعلم الكلام لا تعلق له بالحوادث وإنما تعلقه بصحة الاعتقاد وصحة الاعتقاد ثبتت للعامة من غير إمعان نظر على ماسلف بيانه
ولئن قال المقلد إن بعض ما ذكرتموه يعسر تناوله على كل الناس قلنا صدقت ووجه الإمامة يخص الله تعالى بها بعض الناس لا كل الناس فليعرف لكل ذي فضل فضله وكل ذي رتبة رتبته ولا يجوز التقليد والأخذ به إلا للجاهل لقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فأوجب الله تعالى على كل من لا يعلم بأن يسأل اهل العلم ومفهوم الأمر وجوب اتباع أهل العلم وكذلك قوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } مفهومه وجوب اتباع المنذرين وأخذ الحذر مما يحذرونهم منه وجعل المنذرين منعوتين بنعت الفقه إذ لم يبلغ هذا المقلد قول مالك الذي قاله لا يفتي العالم حتى يراه الناس أهلا للفتوى قال سحنون يعني بالناس العلماء فأثبت له العلم ثم منعه من الفتيا حتى يستظهر على أمره برأي العلماء
وقد زدنا من الكلام في هذا الباب لما رأينا من ركون أكثر الناس إلى البدعة فيتمسكون بالتقليد عصمة ويزعمون أنه الحق الذي ما عداه بدعة وتعب لا يفيد ولا غرو فلقد قال الفاطر الحكيم في كتابه العزيز { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } وقال علي رضي الله عنه من جهل شيئا عاداه انتهى كلام سند في طراز المجالس وفكهة المجالس
قلت و لقد صدق سند رحمه الله فيما ذكره من ذم التقليد للشخص المعين واتخاذ رأيه دينا ومذهبا ولو خالف نص السنة والكتاب المبين ولا شك في كون هذا بدعة مذمومة وخصلة شنيعة احتال
____________________
(1/77)
بها إبليس اللعين على تفريق جماعة المسلمين وتشتيت شملهم وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم فترى كل واحد منهم يعظم إمامه المجتهد تعظيما لا يبلغ به أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإذا وجد حديثا يوافق مذهبه فرح به وانقاد له وسلم وإن وجد حديثا صحيحا سالما من النسخ والمعارض مؤيدا لمذهب غير إمامه فتح له باب الاحتمالات البعيدة وضرب عنه الصفح والعارض ويلتمس لمذهب إمامه أوجها من الترجيح مع مخالفته للصحابة والتابعين والنص الصريح وأن شرح كتابا من كتب الحديث حرف كل حديث خالف رأيه الحديث وإن عجز عن ذلك كله ادعى النسخ بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل مروي أو جله فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف فيتخذ علماء مذهبه أربابا ويفتح لمناقبهم وكراماتهم أبوابا ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابا وإن نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوا ولو كانوا قبل ذلك أحبابا وإن وجد كتابا من كتب مذهب إمامه المشهورة قد تضمن نصحه وذم الرأي والتقليد وحرض على اتباع الأحاديث المشهورة نبذه وراء ظهره وأعرض عن نهيه وأمره واعتقده حجرا محجورا وجعل مختصرات المتأخرين سعيا مشكورا لتركهم الدليل وتعصبهم للتقليد واعتقادهم أنه الرأي السديد وشاهد ذلك كله أن تتأمل مذهب مالك فترى كتب علمائهم المتقدمين قد ملئت بالأدلة وحشيت بذم المقلدين كالمبسوط للقاضي إسماعيل والمجموعة لابن عبدوس والتمهيد لابن عبدالبر والطراز لسند بن عنان وقد نبذها المتأخرون وراء ظهورهم وأقبلوا كل الإقبال على ما ابتدعه المتأخرون من حذف الدليل في مختصراتهم وأولعوا بالتقليد بلا دليل لاعتقادهم أن الاشتعال به عناء وتطويل إنا لله وإنا إليه راجعون
فإن قلت قد فهمنا أن الاشتغال بالكتب المختصرات المعتقدات في المذاهب ليس يجدي نفعا وإنما هو جهل مركب فبين لي كيفية طلب العلم النافع
فالجواب أن العلماء قد بينوه غاية البيان فتأمل ما أنقله لك
قال أبو عمر بن عبدالبر حافظ المغرب طلب العلم درجات ومناقب ورتب لا ينبغي تعديها ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل ومن تعداه مجتهدا زل فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ولا أقول أن حفظ كله فرض ولكني أقول أن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض
حدثنا عبدالوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ قال ثنا أحمد بن زهير قال ثنا سعيد بن سليمان قال ثنا ميمون أبو عبدالله عن الضحاك في قوله تعالى { كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب } قال حق على
____________________
(1/78)
كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان له ذلك عونا كبيرا على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك وهو أمر قريب على من قربه الله سبحانه إليه ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبها يصل الطالب إلى مراد الله عز وجل في كتابه وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا وفي سير رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله تعالى خزائن لعلم دينه وأمناء على سنن رسوله ص كمالك بن أنس الذي اتفق المسلمون طرا على صحة نقله ونقاوة حديثه وشدة توقيه وانتقاده ومن جرى مجراه من ثقات علماء الحجاز والعراق والشام كشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري والأوزاعي وابن عيينة ومعمر وسائر أصحاب ابن شهاب الثقات كابن جريج وعقيل ويونس وشعيب والزبيدي والليث وحديث هؤلاء عند وهب وغيره وكذلك حديث حماد بن زيد وحماد بن سلمة ويحيى ابن سعيد القطان وابن المبارك وأمثالهم من أهل الثقة والأمانة فهؤلاء أئمة الحديث والعلم عند الجميع وعلى حديثهم اعتمد المصنفون في السنن الصحاح كالبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي ومن سلك سبيلهم كالعقيلي والترمذي وابن السكن ومن لا يحصى كثرة وإنما صار مالك ومن ذكرنا معه أئمة عند الجميع لأن علم الصحابة والتابعين في أقطار الأرض انتهى إليهم لبحثهم عنه رحمهم الله تعالى والذي شذ عنهم يسير نزر في جنب ما عندهم
أخبرنا إسماعيل بن عبدالرحمن حدثنا إبراهيم بن بكر بن عمران حدثنا الحسين بن أحمد الأزدي حدثني هارن بن عيسى حدثنا أبو قلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي قال سمعت علي بن المديني يقول دار علم الثقات على ستة اثنين بالحجاز واثنين بالكوفة واثنين بالبصرة فأما الذين بالحجاز فالزهري وعمرو بن دينار واللذان بالكوفة أبو إسحق السبيعي والأعمش واللذان بالبصرة قتادة ويحيى بن أبي كثير ثم دار علم هؤلا على ثلاثة عشر رجلا ثلاثة بالحجاز وثلاثة بالكوفة وخمسة بالبصرة وواحد بواسط وواحد بالشام فالذين بالحجاز ابن جريج ومالك وأحمد بن إسحق والذين بالكوفة سفيان الثوري وإسرائيل وابن عيينة والذين بالبصرة شعبة وسعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي ومعمر وحماد بن سلمة والذي بواسط هشيم والذي بالشام الأوزاعي قال أبو عمر ولم يذكر حماد بن زيد منهم لأنه لم يكن له استنباط في شيء من علمه وحماد بن سلمة وشعبة مثله
ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله تعالى وهو علم لسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها واستعارتها ومجازها وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصها وسائر
____________________
(1/79)
مذاهبها لمن قدر فهو شيء لا يستغنى عنه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق أن يبلغوا السنة والفرائض واللحن يعني النحو كما يتعلم القرآن وقد تقدم ذكر هذا الخبر عنه فيما سلف من كتابنا
وعن أبي عثمان قال كان في كتاب عمر تعلموا العربية وعن عمر بن زيد قال كتب عمر إلى أبي موسى أما بعد فتفهموا في السنة وتفقهوا في العربية وعن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن وقال الخليل بن أحمد % أي شيء من اللباس على ذي الثرى % وأبهى من اللسان البهي % % ينظم الحجة السنية في السل % كسامن القول مثل عقد الهدى % % وترى اللحن بالحسيب اخي الهيب % ة مثل الصدا على المشرقي % % فاطلب النحو للحجاج وللشعر % مقيما للمسند المروي % % والخطاب البليغ عند جواب ال % قول يزهى بمثله في الندي %
قال الشافعي رحمه الله من حفظ القرآن عظمت قيمته ومن طلب الفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في النحو رق طبعه ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم انتهى
ويلزم صاحب الحديث أن يعرف الصحابة المؤدين للدين عن نبيهم ص ويعتني بسيرهم وفضائلهم ويعرف أحوال الناقلين عنهم وأيامهم وأخبارهم حتى يقف على العدول منهم غير العدول وهو أمر قريب كله على من اجتهد فمن طلب الأمامة في الدين وأحب أن يسلك سبيل الذين جاز لهم الفتوى نظر في أقاويل الصحابة والتابعين والأئمة في الفقه إن قدر على ذلك نأمره به كما أمرناه بالنظر في أقاويلهم في تفسير القرآن فمن أحب الاقتصار على أقاويل علماء الحجاز اقتفى واكتفى إن شاء الله تعالى وإن أحب الإشراف على مذاهب الفقهاء متقدميهم ومتأخريهم بالحجاز والعراق وأحب الوقوف على ما أخذوا أو تركوا من السنن وما اختلفوا تثبيته وتأويله من الكتاب والسنة كان ذلك مباحا ووجها محمودا أن سلم من التخلليط نال درجة رفيعة ووصل إلى جسيم من العلم واسع ونبل إذا فهم ما اطلع وهذا يحصل الرسوخ لمن فقهه الله تعالى وصبر على هذا الشأن واستحلى مرارته واحتمل ضيق المعيشة فيه
واعلم رحمك الله تعالى أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم وسلكوا في ذلك مالم يعرفه أئمتهم وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم فطائفة تروي الحديث وتسمعه قد رضيت بالدؤب في جميع مالا يفهم وقنعت بالجهل في حمل مالا يعلم فجمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم والحق والكذب في كتاب واحد وربما في ورقة واحدة ويدينون بالشيء وضده ولا يعرفون ما في ذلك عليهم
____________________
(1/80)
قد شغلوا أنفسهم بالاستكتاب عن التدبر والاعتبار فألسنتهم تروي العلم وقلوبهم قد خلت من الفهم غاية معرفة أحدهم معرفة الكتب الغريبة والاسم الغريب والحديث المنكر وتجده قد جهل مالا يكاد يسع أحدا جهله من علم صلاته وحجه وزكاته وطائفة هي في الجهل كتلك أو أشد لم يعنوا بحفظ سنة ولا بأصل من القرآن ولا اعتنوا بكتاب الله عز وجل فحفظوا تنزيله ولا عرفوا ما للعلماء في تأويله ولا وقفوا على أحكامه ولا تفقهوا في حلاله وحرامه وقد طرحوا علم السنن والآثار وزهدوا فيها وأضربوا عنها فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف بل عولوا على حفظ ما دون لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخر العلم والبيان وكان الأئمة يبكون على ما سلف وسبق لهم فيه ويودون أن حظهم السلامة منه
ومن حجة هذه الطائفة فيما عولوا عليه من ذلك أنهم يقصرون وينزلون عن مراتب من له القول في الدين لجهلهم بأصوله وأنهم مع الحاجة إليهم لا يستغنون عن أجوبة الناس في مسائلهم وأحكامهم فلذلك اعتمدوا على ما قد كفاهم الجواب فيه غيرهم وهم مع ذلك لا ينفكون من ورود النوازل عليهم فيما لم يقدمهم فيه إلى الجواب غيرهم فهم يقيسون على ما حفظوا من تلك المسائل ويعرضون الأحكام فيها ويستدلون منها ويتركون طريق الاستدلال من حيث استدل الأئمة وعلماء الأمة فجعلوا ما يحتاج أن يستدل عليه دليلا على غيره ولو علموا أصول الدين وطريق الأحكام وحفظوا السنن كان ذلك قوة لهم على ما ينزل بهم ولكنهم جهلوا ذلك فعادوه وعادوا صاحبه فهم يفرطون في انتقاص الطائفة الأولى وتجهيلهم وعيبهم وتلك تعيب هذه بضروب من العيب وكلهم يجاوزون الحد في الذم وعند كل واحد من الطائفتين خير كبير وعلم كبير أما أولئك فكالخزان الصيد لاعبين وهؤلاء في جهل معاني ما حملوه مثلهم إلا أنهم كالمعالجين بأيديهم العلل لا يقضون على حقيقة الداء المولد لها ولا على حقيقة طبيعة الدواء المعالج به فأولئك أقرب إلى السلامة في العاجل والآجل وهؤلاء أكثر فائدة في العاجل وأكبر ضررا في الآجل وإلى الله تعالى نفزع في التوفيق لما يقرب من رضاه ويوجب السلامة من سخطه فإنما ينال ذلك برحمته وفضله
واعلم يا أخي أن المفرط في حفظ المولدات لا يؤمن عليه الجهل بكثير من السنن إذا لم يكن تقدم علمه بها وأن المفرط في حفظ طرق الآثار دون الوقوف على معانيها وما قال الفقهاء فيها لصغر من العلم وكلا منها قانع بالشم من المطعم ومن الله سبحانه التوفيق والحرمان
____________________
(1/81)
وهو حسبي وبه أعتصم
واعلم يا أخي أن الفروع لا حد لها ينتهي إليه أبدا ولذلك تشعبت فمن رام أن يحيط بآراء الرجال فقد رام مالا سبيل له ولا لغيره إليه لأنه لا يزال يرد عليه مالا يسمع ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره لكثرته فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط الذي كان يفزع منه ويجبن عنه تورعا بزعمه أن غيره كان أدرى بطريق الاستنباط فلذلك عول على حفظ قوله ثم إن الإمام يضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول فجعل الرأي أصلا واستنبط عليه وأنزل الرأي منزلة كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص إنا لله وإنا إليه راجعون
واعلم أنه لم يكن مناظرة بين اثنين أو جماعة من السلف إلا ليتفهم وجه الصواب فيصار إليه ويعرف أصل القول وعلته فتجري عليه أمثلته ونظائره وعلى هذا الناس في كل البلاد إلا عندنا كما شاء ربنا وعند من سلك سبيلنا من المغرب فإنهم لا يقيمون علته ولا يعرفون للقول وجها وحسب أحدهم أن يقول فيها رواية لفلان ورواية لفلان ومن خالف عندهم الرواية التي لا يقف على معناها وأصلها وصحة وجهها فكأنه قد خالف نص الكتاب وثابت السنة ويجيزون حمل الروايات المتضادة في الحلال والحرام وذلك خلاف أصل مالك رحمه الله تعالى وكم لهم من خلاف أصول مذهبه مما لو ذكرنا لطال الكتاب بذكره ولتقصيرهم عن علم أصول مذهبهم صار أحدهم إذا لقي مخالفا ممن يقول بقول أبي حنيفة أو الشافعي وغيرهم من الفقهاء وخالفه في أصل قوله بقي متحيرا ولم يكن عنده أكثر من حكاية قول صاحبه فقال هذا قال فلان وهكذا روينا ولجأ إلى أن يذكر فضل مالك ومنزلته فإن عارضه الآخر بذكر فضل إمامه أيضا صار في المثل كما قال الأول % شكونا إليهم خراب العراق % فعابوا علينا شحوم البقر %
وفي مثل ذلك يقول منذر بن سعيد % عذيري من قوم يقولون كلما % طلبت دليلا هكذا قال مالك % % وإن عدت قالوا هكذا قال أشهب % وقد كان لا يخفى عليه المسالك % % وإن زدت قالوا قال سحنون مثله % ومن لم يقل ما قاله فهو آفك % % فإن قلت قال الله ضجوا أو أكثروا % وقالوا جميعا أنت قرن مماحك % % وإن قلت قد قال الرسول فقولهم % أتت مالكا في ترك ذاك المآلك %
____________________
(1/82)
وأجازوا النظر في اختلاف أهل مصر وغيرهم من أهل المغرب فيما خالفوا فيه مالكا من غير أن يعرفوا وجه قول مالك ولا وجه قول مخالفه ولم يبيحوا النظر في كتب من خالف مالكا إلى دليل يبينه ووجه يقيمه لقوله وقول مالك جهلا منهم وقلة نصح وخوفا من أن يطلع الطالب على ما هم فيه من النقص والقصور فيزهد فيهم وهم مع ما وصفنا يعيبون من خالفهم ويغتابونه ويتجاوزون القصد في ذمه ليوهموا السامع أنهم على حق وأنهم أولى باسم العلم وهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وأن اشبه الأمور بما هم عليه ما قاله منصور الفقيه % خالفوني وأنكروا ما أقول % قلت لا تعجلوا فإني سئول % % ما تقولون في الكتاب فقالوا % هو نور على الصواب دليل % % وكذا سنة الرسول وقد أفلح % من قال ما يقول الرسول % % واتفاق الجميع أصل وما ينكر % هذا وذا وذاك العقول % % وكذا الحكم بالقياس فقلنا % من جميل الرجال يأتي الجميل % % فتعالوا نرد من كل قول % ما نفى الأصل أو نفته الأصول % % فأجابوا فنوظروا فإذا العلم % لديهم هو اليسير القليل %
فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء فجعله عونا له على اجتهاده ومفتاحا لطريق النظر وتفسير لمجمل السنن المحتملة للمعاني ولم يقلد أحدا منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال ودون نظرا ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها واقتدائهم في البحث والتفهم والنظر والشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ولم يبرئهم من الزلل عما لم يبرءوا أنفسهم منه فهذا الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح وهو المصيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه ص وهدي صحابته ومن أعفى نفسه من النظر وأضرب عما ذكرنا وعارض السنن برأيه ورام أن يردها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل ومن جهل ذلك كله أيضا وتقحم في الفتوى فهو أشد عمى وأضل سبيلا % لقد أسمعت لو ناديت حيا % ولكن لا حياة لمن تنادي %
ولقد علمت أني لا اسلم من جاهل معاند لا يعلم % ولست بناج من مقالة طاعن % ولو كنت في غار على جبل وعر % % ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما % ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر %
____________________
(1/83)
واعلم يا أخي أن السنن والقرآن هما اصل الرأي والعيار عليه وليس الرأي بالعيار على السنة بل السنة عيار عليه ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبدا وقال ابن وهب حدثني مالك أن أياس بن معاوية قال لربيعة إن الشيء إذا بني على عوج لم يكد يعدل قال مالك يريد بذلك المفتي الذي يتكلم على غير أصل بنى عليه كلامه
قال أبو عمر ولقد أحسن صالح بن عبدالقدوس حيث يقول % يا أيها الدارس علما ألا % تلمس العون على درسه % % لن تبلغ الفرع الذي رمته % إلا ببحث منك عن أسه %
ولمحمود الوراق % القول ما صدقه الفعل % والفعل ما صدقه القول % % لا يثبت الفرع إذا لم يكن % يقله من تحتام الأصل %
ومن أبيات لابن معدان % وكل ساع بغير علم % فرشده غير مستبان % % والعلم حق له ضياء % في القلب والعقل واللسان %
وعن أبي الدرداء أنه كان يقول لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم وما قيل فيكم الحق فعرفتموه فإن عارفه كفاعله
وقال ابن وهب عن مالك سمعت ربيعة يقول ليس الذي يقول الخير ويفعله بخير من الذي يسمعه ويقبله
وقال مالك قال ذاك المثنى على عمر بن الخطاب ما كان بأعلمنا ولكنه كان أسرعنا رجوعا إذا سمع الحق
قال أبو عمر رحمه الله القائل % لقد بان للناس الهدى غير أنهم % غدوا بجلابيب الهوى قد تجلببوا %
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين حتى يأتي أمر الله
وقال أبو العتاهية % رأيت الحق لا تخفى ولاتحصى شواكله % لعمرك ما استوى في الأمر عالمه وجاهله %
وله أيضا % إذا اتضح الصواب فلا تدعه % فإنك كلما ذقت الصوابا %
____________________
(1/84)
% وجدت له على اللهوات بردا % كبرد الماء حين صفا وطابا % % وليس بحاكم من لا يبالي % أأخطأ في الحكومة أم أصابا %
قال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر في كتاب العلم الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلماؤهم ذم الإكثار يعني من الحديث دون تفقه فيه ولا تدبر والمكثر لا يأمن من مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرواية عمن يؤمن وعمن لا يؤمن وقال في موضع آخر أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عصرنا اليوم دون تفقه فيه ولا تدبر لمعانيه فمكروه عند جماعة أهل العلم وروى بسنده إلى يحيى بن اليمان أنه قال يكتب أحدكم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر فإذا سئل أحدكم عن مسألة جلس كأنه مكاسب قال أبو عمر وفي مثل هذا يقول الشاعر % زوامل للأسفار لا علم عندهم % بجيدها إلا كعلم الأباعر % % لعمرك لا يدري البعير إذا غدى % بأحماله أو راح ما في الغرائر %
وقال عمار الكلبي % إن الرواة على جهل بما حملوا % مثل الجمال عليها يحمل الودع % % لا الودع ينفعه حمل الجمال له % ولا الجمال بحمل الودع تنتفع %
وأنشد الخشني رحمه الله % قطعت بلاد الله للعلم طالبا % فحملت أسفارا فصرت حمارها % % إذا ما اراد الله حتفا بنملة % أتاح أباحين لها فأطارها %
وقال المنذر بن سعيد % أنفق بما شئت تجد أنصارا % ودم أسفارا تجد حمارا % % تحمل ما وضعت من أسفار % مثلته كمثل الحمار % % يحمل أسفارا له وما درى % أكان ما فيها صوابا أم خطا % % إن سئلوا قالوا كذا روينا % لا إن كذبنا لا ولا اعتدينا % % كبيرهم يصغر عند الفحل % لأنه قلد أهل الجهل % انتهى
قلت ولقد صدق أبو عمر في محدثي زمانه أهل المائة الخامسة فكيف بمحدثي القرن الثالث عشر الذين يقرءون الحديث كما يقرأ صغار الكتاب القرآن بل قراءة صغار الكتاب القرآن أحسن لأن صغار الكتاب يقيمون ألفاظه أحسن إقامة ومحدثوا زماننا يلحنون في الحديث لحنا فاحشا لا يشتغلون بفهم معناه وإذا دل الحديث على حكم شرعي دلالة ظاهرة يحذرون العوام الذين يحضرون دروسهم بأن العمل ليس على هذا الحديث ويقولون لا يجوز العمل بالحديث بل يكره
____________________
(1/85)
تحريما وأن العامل بالحديث يصب على فمه الرصاص والنحاس ويخشى عليه سوء الخاتمة ونحو هذه الالفاظ ولعمري إن لم يكن في هذا ارتداد فهو قريب منه ومنهم من يقول لو ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث صحيح سالم عن المعارض لا يعمل بها إلا إذا عمل بها إمامه الذي يقتدي به فتأمل هذه العبارة الشنيعة إنا لله وإنا إليه راجعون
وقال الحافظ أبو عمر أيضا لا خلاف بين أئمة الإنصاف في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار
وقال ايضا يقال لمن قال بالتقليد لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال قلدت لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني قيل له أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه فإن قال قلدته لأني علمت أنه صواب قيل له علمت ذلك من كتاب أو سنة أو إجماع فإن قال نعم فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال قلدته لأنه أعلم مني قيل له فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا يخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك فإن قال قلدته لأنه أعلم الناس قيل له فهو إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا وإن قال إنما أقلد بعض الصحابة قيل له فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه
وقد ذكر ابن فرين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله تعالى { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } فإن قال قصري وقلة همتي وعلمي يحملني على التقليد قيل له أما من قلد في نازلة معينة تنزل به من أحكام الشريعة عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك علما يخبر به فمعذور لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالمه فيما جله لإجتماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك ولكن من كانت هذه حاله هو يجوز له الفتوى في شرائع دين الله تعالى فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك وتصييرها إلى غير من كانت في يده بقول لا يعرف صحته ولا قام له الدليل عليه وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب وإن خالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة
____________________
(1/86)
وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن قال الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقال { أتقولون على الله ما لا تعلمون } وقد أجمع العلماء أن مالم يتبين ويستيقن فليس بعلم وإنما هو الظن والظن لا يغني من الحق شيئا انتهى
قلت وقد مضى في المقدمة ما يدل على فساد التقليد من الآثار فلا وجه للإعادة والتكرار وقال الحافظ أبو عمر بن عبدالبر في التمهيد عند كلامه على حديث أبي هريرة أكل كل ذي ناب من السباع حرام وهو أول حديث لإسماعيل بن أبي حكيم ما نصه قال أبو عمر ليس أحد إلا هو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يترك من قوله إلا ما يترك هو وينسخه قولا وعملا والحجة ما قاله ص ليس في قول غيره لا حجة ومن ترك قول عائشة في رضاع الكبير ولبن الفحل وقول ابن عباس في المتعة وغير ذلك من أقاويله وترك قول عمر في تبدية المدعى عليه باليمين في القسامة وفي أن الجنب لا يتيمم وترك قول ابن عمر في كراهة الوضوء بماء البحر وسؤر الجنب والحائض وغير ذلك وترك قول علي عليه السلام في أن المحدث في الصلاة يبنى على مامضى منها وفي أن بني تغلب لا تؤكل ذبائحهم
____________________
(1/87)
وغير ذلك ما من روى عنه كيف يستوحش من مفارقة واحد منهم ومعه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الملجأ عند الاختلاف وغير نكير أن يخفى على الصاحب والصاحبين والثلاثة السنة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترى أن عمر في سعة علمه وكثرة لزومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفي عليه من توريث المرأة من دية زوجها وحديث دية الجنين وحديث الاستئذان ما علمه غيره وخفي على ابي بكر حديث توريث الجدة فغيرهما أحرى أن يخفى عليه السنة في خواص الأحكام وليس شيء من هذا بضارهم وقد كان ابن شهاب وهو حبر عظيم من أحبار هذا الدين يقول ما سمعت بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع حتى دخلت الشام والعلم الخاص لا ينكر أن يخفى على العالم انتهى
وقال في موضع آخر روى ابن القاسم عن مالك السباع إذا ذكيت بجلودها حل بيعها ولباسها والصلاة عليها وروى أشهب عن مالك أن مالا يؤكل لحمه لا يطهر جلده بالدباغ وقال محمد بن عبدالحكم وحكاه عن أشهب لا يجوز تذكية السباع وإن ذكيت بجلودها لم يحل الانتفاع بشيء من جلودها إلا أن يدبغ قال أبو عمر قول ابن عبدالحكم وما حكاه أيضا عن أشهب عليه الفقهاء من أجل النظر والأثر بالحجاز والعراق والشام وهو الصحيح الذي يشبه أصل مالك في ذلك ولا يصح أن يتقلد غيره لوضوح الدلائل عليه ولو لم يعتبر ذلك إلا بما ذبحه المحرم أو ذبح في الحرم إذ ذاك لا يكون ذكاة لأجل النهي الوارد وبالخنزير أيضا وقد أجمع المسلمون أن الخلاف ليس بحجة وأن عنده يلزم طلب الدليل والحجة لتبين الحق منه وقد بان الدليل الواضح من السنة الثابتة في تحريم السباع ومحال أن تعمل فيها الذكاة وإذا لم تعمل فيها الذكاة فأكثر أحوالها أن تكون ميتة فتطهر بالدباغ هذا أصح الأقاويل في هذا الباب ولما رواه أشهب عن مالك وجه أيضا وأما ما رواه ابن القاسم عن مالك فلا وجه له يصح إلا ما ذكرنا من تأويلهم في النهي أنه على التنزيه لا على التحريم وهذا تأويل ضعيف لا يعضده دليل صحيح وبالله التوفيق انتهى
قلت فقد بان بما ذكره أبو عمر ضعف ما أصله المتأخرون من مقتضى المالكية أن قول مالك في المدونة مقدم على قول غيره فيها وفي غيرها وقول ابن القاسم في المدونة مقدم على قول غيره فيها وفي غيرها إلى آخر ما أصلوا وأن القول إنما يترجح بالدليل من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس عليها لا بمجرد وجوده في كتاب معين كالمدونة لأن رواية ابن القاسم التي ضعفها أبو عمر هنا في المدونة وقول أشهب وابن عبدالحكم الذي صححه هنا ليس
____________________
(1/88)
في المدونة وإنما هو في العتبية وقد لهج المتأخرون من المالكية بترجيح القول والرواية بمجرد وجودها في المدونة ولو خالف الكتاب والسنة الصحيحة المجمع على صحتها كما في مسألة سدل اليدين في الصلاة وردوا الأحاديث الصحيحة السالمة من المعارضة والنسخ وتركوها لأجل رواية ابن القاسم في المدونة عن مالك مع أن رواية القبض ثابتة عن مالك وأصحابه بروايات الثقات من أصحابه وغيرهم
وقال المحقق العلامة المقري في قواعده لا يجوز اتباع ظاهر نص الإمام مع مخالفته لأصول الشريعة عند حذاق الشيوخ قال الباجي لا أعلم قولا أشد خلافا على مالك من أهل الأندلس لأن مالكا لا يجيز تقليد الرواة عنه عند مخالفتهم الأصول وهم لا يعتمدون على ذلك انتهى وقال أيضا قاعدة لا يجوز رد الأحاديث إلى المذهب على وجه ينقص من بهجتها ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك فساد لها وحط من منزلتها لا أصلح الله المذاهب لفسادها ولا رفعها بخفض درجاتها فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن محمد ص بل لا يجوز الرد مطلقا لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال الشافعي وغيره لا أن ترد هي إلى المذاهب كما تسامح فيه بعض الحنفية خصوصا والناس عموما إذ ظاهرها حجة على من خالفها حتى يأتي بما يقاومها فنطلب الجمع مطلقا ومن وجه على وجه لا يصير الحجة أحجية ولا يخرجها عن طرق المخاطبات العامة التي ابتنى عليها الشرع ولا يخل بطرق البلاغة والفصاحة التي جرت من صاحبه مجرى الطبع فإن لم يوجد طلب التاريخ للنسخ فإن لم يكن طلب الترجيح ولو بالأصل وإلا تساقطا في حكم المناظرة وسلم لكل ما عنده ووجب الوقف والتخيير في حكم الانتقال وجاز الانتقال على الاصح قاعدة لا يجوز التعصب للمذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج وتقريرها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ والمرجوحية عند المجيب كما يفعله أهل الخلاف إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق فالحق أعلى من أن يعلى وأغلب من أن يغلب وذلك أن كل من يهتدي لنصب الأدلة وتقرير الحجاج لا يرى الحق أبدا في جهة رجل قطعا ثم إنا لا نرى منصفا في الخلاف ينتصر لغير مذهب صاحبه مع علمنا برؤية الحق في بعض آراء مخالفيه وهذا تعظيم للمقلدين بتحقير الدين وإيثار الهوى على الهدى ولم يتبع الحق أهواءهم ولله در علي رضي الله عنه أي بحر علم ضم جنباه إذ قال لكميل بن زياد لما قال له أترانا نعتقد أنك على الحق وإن طلحة والزبير على الباطل أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال أعرف الحق لتعرف رجاله وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون تخاصم الحق وأفلاطون وكلاهما صديق لي والحق أصدق منه وقال الشيخ أحمد زروق في عمدة
____________________
(1/89)
المريد الصادق ما نصه قال أبو إسحاق الشاطبي كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن يعني كالجنيد وأمثاله لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة فهم حلفاؤه كما أن السلف من الصحابة والتابعين حلفاء بذلك وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا أعمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة لأن السنة معصومة عن الخطأ وصاحبها معصوم وسائر الأمة لم تثبت لهم العصمة إلا مع إجماعهم خاصة وإذا أجمعوا تضمن إجماعهم دليلا شرعيا فالصوفية والمجتهدون كغيرهم ممن لم يثبت لهم العصمة ويجوز لهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرها وصغيرها والبدعة محرمها ومكروهها ولذا قال العلماء كل كلام منه مأخوذ ومنه متروك إلا ما كان من كلامه عليه الصلاة والسلام قال وقد قرر ذلك القشيري رحمه الله أحسن تقرير فقال فإن قيل فهل يكون الولي معصوما قيل أما وجوبا كما يكون للأنبياء فلا وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب وإن حصلت منهيات أو زلات في أوقات فلا يمنع في وصفهم قال ولقد قيل للجنيد العارف يزني فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال { وكان أمر الله قدرا مقدورا } وقال فهذا كلام منصف فكما يجوز على غيرهم المعاصي بالابتداع وغير ذلك ويجوز عليهم البدع فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ ونقف عن الاقتداء بمن يجوز عليه إذا ظهر في الاقتداء به إشكال بل يعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه ومالم يقبلاه تركناه وما علمنا به إذا قام لنا الدليل على اتباع الشارع ولم يقم لنا الدليل على اتباع أقوال الفقهاء والصوفية وأعمالهم إلا بعد عرضها وبذلك رضي شيوخهم علينا وأن ما جاء به صاحب الوجد والذوق من العلوم والأحوال والفهوم يعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح
قال ثم نقول ثانيا إن نظرنا في رسومهم التي حددوها وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن والتماس احسن المخارج ولم نعرف له مخرجا فالواجب التوقف عن الاقتداء وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم لا ردا له ولا اعتراضا عليه بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره
ثم قال بعد كلام فوجب بحسب الجريان على آرائهم في السلوك أن لا يعمل بما رسموه مما فيه معارضة بأدلة الشرع ونكون في ذلك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم خلافا لمن يعرض عن الأدلة ويجمد على تقليدهم فيه فيما لا يصح تقليدهم على مذهبهم فالأدلة الشرعية والأنظار الفقهية والرسوم الصوفية تذمه وترده وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه واستبرأ لدينه وعرضه وهو من مكنون العلم وبالله التوفيق انتهى
قلت قد فهمنا من كلام هؤلاء الأئمة أن كل من قلد واحدا من العلماء المجتهدين في نازلة من
____________________
(1/90)
النوازل بعد ظهور كون رأى ذلك الإمام مخالفا لنص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي عند القائل به وعلم المقلد النص المذكور فصمم على التقليد فهو كاذب في دعواه اقتداءا بالإمام المذكور وكاذب في تقليده بل هو متبع لهواه وعصبيته والأئمة كلهم بريئون منه فهو مع الأئمة بمنزلة أحبار اهل الكتاب مع أنبيائهم فإنهم يدعون اتباع أنبيائهم مع أن الأنبياء قد أمروهم باتباع محمد ص والإيمان به ونصره وهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذونه ويلزم من تكذيبهم للنبي ص تكذيبهم جميع الأنبياء لأن كل واحد منهم قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الميثاق على أمته أن يصدقوا بمحمد ص وينصرونه كما أخذ الله تبارك وتعالى منهم الميثاق بذلك فدعوى أحبار أهل الكتاب الذين كذبوا محمدا ص كونهم على دين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام كاذبة فموسى وعيسى وجميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بريئون من هؤلاء الأحبار وهم مكذبون بجميع الأنبياء صلوات الله عليهم وهكذا شأن من جمد على التقليد لأحد الأئمة الأربعة في مسألة خالف رأي ذلك المجتهد إحدى الأصول المذكورة وعلم المقلد المذكور أن رأي الإمام المزبور خالف أصول الشريعة فصمم على التقليد فهو كاذب في دعواه التقليد ومخالف لإمامه بل هو مخالف للأئمة الأربعة لأن كل واحد منهم قد حذر أصحابه من مخالفة الأصول الشرعية المذكورة فالأئمة الأربعة بريئون منه وهو بريء منهم وهو مبتدع متبع لهواه ضال مضل لا يشك كل مسلم في ذلك
قال عثمان بن عمر جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال الرجل أرأيت فقال مالك { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } قال مالك لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم لم قلت هذا كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها
قال الجنيد رضي الله عنه الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال أيضا علمنا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من يتبعه
وقال سهل بن عبدالله التستري بنيت اصولنا على ستة أشياء كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام وأداء الحقوق
وقال أبو عثمان الحميري رضي الله عنه من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة
قلت وهو أن يأتي بأمر لا وجه له ولا دليل من صاحب الشريعة كان خيرا أو غيره ثم قال قال الله تعالى { وإن تطيعوه تهتدوا } وقال أبو العباس بن عطاء الله رضي الله عنه
____________________
(1/91)
من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب ص في أفعاله وأمره وأقواله وأخلاقه وقال أبو حمزة البغدادي لا دليل على طرق الله إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأمره وأقواله وأحواله وقال أبو سليمان الداراني إنه لتقع النكتة من كلام القوم في قلبي فأقول لها لا أقبلك إلا بشاهدي عدل الكتاب والسنة
وسئل الشبلي عن التصوف فقال هو اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } فتبين أن التبصر في الدين أصل من أصوله وأن من أخذ الأمور أما له في عماية فليس بمتبع للشرع لكن الناس ثلاثة عالم متمكن وتبصره في المسائل لطلب الدليل وإن لم يكن مجتهدا ومتوسط في الأمرين بين العامة والعلماء فلا يصح أتباعه إلا لمن تبصر في شأنه وأوجب له ما علم من الشريعة إن هذا ممن يقتدى به ثم لا يأخذ منه ما يأباه ما علمه من قواعد الشريعة إذ لا يجوز لأحد أن يتعدى { ولا تقف ما ليس لك به علم } وعامي وحقه أن يقف مع مالا يشك في حقيقته من تقوى الله تعالى وذكره والعمل على الجادة التي لا يشك فيها وإلا فهو مستهزئ بدينه ومتلاعب به فاعلم ذلك وإن لم يكن الفتح فيما جاء عن الله ورسوله ص ففي أي شيء يكون نسأل الله تعالى السلامة
وقال أحمد بن حصرويه الدليل لائح والطريق واضح والداعي قد أسمع فما التحير بعد هذا إلا من العمى
وقال ابن عطاء الله في حكمه لا نخاف عليك أن تلتبس الطريق عليك وإنما نخاف عليك من غلبة الهوى عليك وقال أيضا تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال قال بعضهم نحت الجبال بالأظافير أيسر من زوال الهوى إذا تمكن قال الله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } انتهى كلام الشيخ زروق
قال القرافي في الفروق من قواعده ما نصه تنبيه كل شيء أفتى به المجتهد فوقعت فتواه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله إلى الناس ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم المجتهد أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام وإن كان الإمام المجتهد الذي أفتى به غير عاص به بل مثاب عليه لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به وقد ورد إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران فعلى هذا يجب
____________________
(1/92)
على أهل العصر تفقد مذاهبهم وكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به ولا يعرو مذهب من المذاهب عنه لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض وذلك بعد تحصيل أصول الفقه وتبحره في الفقه فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث لنا على وضع هذا الكتاب لتنضبط تلك القواعد بحسب ما يفتى به وباعتبار هذه الشروط يحرم على أكثرالناس الفتوى فتأمل ذلك فهو أمر لازم ولذلك كان السلف الصالح يتوقفون في الفتاوي توقفا شديدا وقال مالك لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك يريد تثبيت أهليته عند العلماء ويكون هو مطابقا لما قاله العلماء في حقه من الأهلية لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على خلاف ما هو عليه فإذا كان هو مطلعا على ما وصفه به الناس حصل اليقين في ذلك فالناس مهملون له إهمالا شديدا وهجموا على الفتيا في دين الله والتخريج على قواعد الأئمة بغير شروط التخريج بل صار يفتي من لم يحط بالتقليدات ولا بالتحقيقات من منقولات إمامه وذلك لعب في دين الله تعالى وفسوق ممن يعتقده أو ما علموا بأن المفتي مخبر عن الله تعالى وأن من كذب على الله تعالى أو أخبر عنه مع عدم ضبط ذلك الخبر فهو عند الله بمنزلة الكاذب
____________________
(1/93)
عليه وليتق الله تعالى أمره في نفسه ولا يقدم على قول وفعل بغير شرط انتهى
قال ابن شاش في الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وليس للإمام أن يشترط على القاضي الحكم بخلاف اجتهاده أو بخلاف معتقده إذا جوزنا تولية المقلد عند الضرورة قال الأستاذ الإمام أبو بكر الطرطوشي يجوز لمن اعتقد مذهبا من المذاهب مثل مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أن يولي القضاء من يعتقد خلاف مذهبه لأن الواجب أن يجتهد رأيه في قضائه لا يلزم أحدا من المسلمين أن يقلد في النوازل والأحكام من يعتزي إلى مذهبه فمن كان مالكيا لم يلزمه المصير في الأحكام إلى قول مالك وهكذا القول في سائر المذاهب بل أينما أداه اجتهاده في الدليل من الأحكام صار إليه قال فإن شرط على القاضي أن يحكم بمذهب إمام معين من أئمة المسلمين ولا يحكم بغيره فالعقد صحيح والشرط باطل كان موافقا لمذهب المشترط أو مخالفه قال وأخبرني القاضي ابو الوليد الباجي قال كان الولاة عندنا بقرطبة إذا ولوا القضاء رجلا شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم وما وجده قال الأستاذ هذا جهل عظيم منهم انتهى
قال القرافي يريد أن الحق ليس محصورا في رأي شخص معين ونقله القرافي في الذخيرة وابن الحاجب وأقراه
قلت تأمل هذا يظهر لك أن التقليد بمذهب إمام معين من غير نظر إلى الدليل من الكتاب والسنة جهل عظيم لأنه مجرد هوى وعصبية والأئمة المجتهدون قاطبة على خلافه لأنه صح عن كل واحد منهم ذم التقليد بغير دليل وإبطاله وظهر أنه يجوز لمن تقيد بمذهب معين أن يجتهد وينظر إلى الدليل حسب جهده وطاقته فمتى وجد دليلا يدل على خلاف رأي إمامه تركه وتمسك بالدليل ويكون بذلك متبعا لإمامه وسائر الأئمة ومتبعا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ص ولا يكون بذلك خارجا عن مذهب إمامه وإنما يكون خارجا عن مذهب إمامه وعن سائر مذاهب المجتهدين إذا صمم وجمد على تقليد إمامه بعد ظهور الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف رأي إمامه فمن صمم في هذه الحالة على التقليد فقد خالف إمامه الذي تمسك بمذهبه لأنه لو بلغه الحديث السالم من المعارض لترك رأيه واتبع الحديث فالمصمم على التقليد في هذه الحالة عاص لله تعالى ورسوله ص متبع لهواه قد برئ من الأئمة الأربعة وصار من حزب الشيطان والهوى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية وقال تعالى { فمن يهديه من بعد الله } فقد انتفى نور الإيمان من قلبه { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } أجارنا الله تعالى من العمى بعد الهدى
وقال أبو عمر بن عبدالبر في الكافي والذي يجب على القاضي أن يقضي به ولا يتعداه ما في
____________________
(1/94)
كتاب الله عز وجل فإن لم يجد فيه نظر فيما أتى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر فيما جاء عن أصحابه رضي الله عنهم فإن كانوا قد اختلفوا تخير من أقاويلهم أحسنها وأشبهها بالكتاب والسنة وكذلك يفعل بأقاويل العلماء بعدهم وليس له أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه فإن لم يجد اجتهد رأيه واستخار الله تعالى وأمعن النظر وإن اشكل عليه الأمر شاور من يثق بفهمه ودينه من أهل العلم ثم نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق وقضى به ولا يبطل من قضاء نفسه إلا ما يبطل من قضاء غيره قبله وذلك ما خالف الكتاب والسنة والإجماع فإن لم يكن ذلك أمضاه وقضى في المسألة بما يراه بعد أن لا يكون قضى بتقليده بعض الفقهاء ثم رأى الصواب في غيره من أقاويل العلماء فإن بان ذلك نقض قضاءه بالتقليد وقضى بما رآه مجتهدا بعده انتهى
قلت انظر كيف صرح بأن القاضي إذا حكم بتقليد بعض الفقهاء ثم رأى الصواب في غير رأي من قلده أنه ينقض حكمه الذي قضى بالتقليد بخلاف مالو اجتهد القاضي فحكم ثم ظهر له الخطأ في اجتهاده فإنه لا ينقض حكمه الأول مالم يخالف نص كتاب أو سنة أو قياس جلي كما تقدم وظاهره سواء كان القاضي متقيدا بمذهب أو لا كما صرح به ابن عبدالسلام وغيره قائلا لا يقال إن قولكم بخلاف مالو اجتهد فإنه ينافي كونه مقيدا بمذهب لأنا نقول المراد بالمجتهد المجتهد في المسألة لا المجتهد المطلق ولا شك أن المجتهد في مسألة قد يكون متقيدا بمذهب انتهى
وقال الإمام الأعدل القاضي أبو القاسم سلمون بن علي بن سلمون الكناني في وثائقه وشرط القاضي أن يكون ذكرا بالغا حرا عاقلا مسلما عادلا مجتهدا فإن لم يوجد مجتهد فمقلد عنده من العلم ما يميز به بين الحق والباطل هذه شروط القاضي التي لا تنعقد الولاية إلا بها وإذا كان مقلدا فقيل يلزمه العمل بقول مقلده وقيل لا يلزمه وقيل لا يحكم إلا باجتهاده قال أبو عمر في الكافي ولا يجوز له أن يشاور فيما يحكم به وهو جاهل لا يميز بين الحق والباطل لأنه إذا أشير عليه وهو جاهل الحكم لم يعلم إن كان حكم ذلك بحق أو باطل ولا يجوز لحاكم أن يحكم بما لم يعلم أنه الحق لقوله من اشار بتقليد حتى تبين للذي أشار عليه بدلالة تظهر له إلى أن قال وإن لم يتبين له في الأمر شيء تركه ولا يحكم به وفي قلبه منه شك وإذا أشكل عليه شيء تركه ولا يحكم بالتخمين فإنه فسق وجور انتهى
قال في التوضيح عند قول ابن الحاجب وقيل لا يجوز إلا الاجتهاد أي وقيل لا يجوز لهذا المقلد إذا أداه اجتهاده إلى خلاف مذهبه أن يحكم إلا باجتهاده ولا يقال قوله إلا بالاجتهاد ينافي فرض المسألة إذ الكلام في عدم المجتهد لأن المراد عدم المجتهد المطلق وبقوله إلا باجتهاده الاجتهاد
____________________
(1/95)
المقيد وهو الاجتهاد في مذهبه والاطلاع على مدارك إمامه انتهى
قلت تأمل في كلام ابن سلمون وكلام ابن الحاجب وصاحب التوضيح وما تقدم عن ابن شاش وأبي بكر الطرطوشي وابن عبدالبر يظهر لك أن مرادهم بالمقلد الذي له علم يميز به بين الحق والباطل وهو المجتهد في المذهب وهو الذي أحاط بأصول إمامه ومداركه وهي أدلته التي بنى مذهبه عليها ولا شك أن أعظم أدلة إمامه كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص والإجماع وأقوال الصحابة واختلاف العلماء وغير ذلك مما هو مبسوط في محله وليس مرادهم بالمقلد المقلد المحض الذي يشتغل بحفظ المختصرات المجردة عن الدليل والتوجيه في التعليل ولا يلتفت إلى الدليل ولا يميز بين الفرع الموافق لأصل إمامه وبين المخالف ولا بين المسألة الموافقة لدليل إمامه والمخالفة له ولا يلتفت إلى أصول إمامه وأدلته ولا يرفع بها راسا بل نهاية دليله أن يرى المسألة منصوصا عليها في مختصرات مذهبه خالية عن قيود وخصوصياته وتتماته وهي مختصرات معقدات العبارات مولدات مستعجمة لا يفهمها على الوجه الصحيح لخلوها عن البيان والوضوح وجهله بالقواعد العربية والمنطقية والأصولية واصطلاحاتهم وهي مشحونة بها فمن كان حاله هكذا لا يختلف علماء السلف الصالح في تحريم توليته القضاء وعدم نفوذ حكمه إذا حكم وعلى أنه لا يعمل بفتواه إذا أفتى وأما علماء الوقت الذي صار فيه المنكر معروفا والمعروف منكرا فالقضاء والفتوى عندهم بلبس الكوربان والفراء ورحم الله القائل % فرغ القلب عن مسائل نحو % واشتغل بالرطانة التركية % % وألبس الكوربان والفرو تفقه % ذهب اليوم دولة العربية % % وبفقه أبي حنيفة فاقرأ % ذهب اليوم دولة الأثرية %
إنا لله وإنا إليه راجعون
ويؤيد ما ذكرناه من أن المراد بالمقلد من له علم يميز به بين الحق والباطل ما ذكره ابن رشد في أجوبته كما نقله البرزلي وابن سلمون عنه
ونصه سئل ابن رشد في الفتوى وصفة المفتي على طريقة أهل المذهب وما هو اللازم في مذهب مالك لمن أراد أن يكون مفتيا بمذهبه وفي صفة القاضي الملزم بمذهب مالك وليس في القطر من بلغ درجة الفتيا وهل تمضي أحكامه وفتواه مطلقا أو ترد مطلقا أو يختلف جوابها فأجاب ابن رشد بما حاصله أن من اعتقد مذهب مالك فقلده بغير دليل فألزم نفسه حفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون التفقه في معانيها يميز الصحيح منها والسقيم فليس له أن يفتي بما حفظه من الأقوال إذ لا علم عنده بصحة شيء من ذلك فلا يصلح لفتوى ولا لقضاء بمجرد التقليد بغير علم وأما من اعتقد صحة مذهب مالك بما بان له من صحة الأدلة
____________________
(1/96)
التي بنى مذهبه عليها وحفظ أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه وتفقه في معانيها حتى ميز الصحيح منها الجاري على أصوله من جهة الدليل من السقيم المخالف للدليل غير أنه لم يبلغ درجة التحقيق لعلم الأصول حتى يعرف كيفية قياس الفرع على الأصول فيصح لهذا أن يفتي بما علم دليله من قول مالك وأصحابه بشرط كون المسألة منصوصا عليها بقيودها وليس له أن يقيس غير المنصوص على المنصوص لجهله بكيفية القياس وشروطها المعروفة في علم الأصول وأما من كان حاله كحال الثاني إلا أنه بلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفرع على الأصل لكونه عارفا بأحكام القرآن من ناسخه ومنسوخه والمفصل من المجمل والخاص والعام ومعرفة السنن من الأحكام وتمييز صحيحها من سقيمها ومعرفة أقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وما اتفقوا عليه واختلفوا فيه ويعرف من علم اللسان ما يعرف به الأحكام ويكون بصيرا بوجه القياس عارفا بموضع الأدلة ومواقعها فهذا الذي تصح الفتوى له عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة أو على ما قيس عليها إن عدم القياس عليها أو على ما قيس على ما قيس عليها وهكذا
والقياس خفي وجلي ولا يرجع إلى الخفي إلا عند عدم الجلي وقد أتى ما ذكرناه على ما سألت عنه من بيان صفة المفتي التي ينبغي أن يكون عليها باختلاف الأعصر
وأما السؤال عن بيان ما يلزم في مذهب مالك لمن أراد أن يفتي بمذهبه فإنه سؤال فاسد إذ ليس أحد بالخيار في أن يفتي على مذهب مالك أو على مذهب غيره من العلماء بالتقليد بل يلزمه ذلك إذا قام عنده الدليل على صحته ولا يصح له إن لم يقم عنده الدليل على صحته
والسؤال عن الحكم في أمر القاضي إذا كان ملتزما لمذهب المالكي وليس في قطره من نال درجة الفتوى ولا هو في نفسه أهل لذلك قد مضى الجواب عنه في حال القسم الأول والثاني انتهى
قلت وحاصل ما فهمناه من كلام ابن رشد أنه لا يجوز لأحد أن يفتي إلا فيما عرف دليله من الكتاب والسنة والإجماع سواء التزم مذهبا معينا أم لا كان مالكيا أو لا والله تعالى أعلم
وقال أبو القاسم بن محرز في تبصرته عند قول مالك في المدونة إذا قضى القاضي بقضية ثم تبين له الصواب في غيرها أنه يرد قضيته ما ملخصه إن خالف حكم الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة فإنه يفسخ هذا الحكم ولو لم يفسخه حتى ولى غيره لكان على من يأتي بعده أن يفسخه لأن هذا الحكم مما يقطع على بطلانه ولا يجوز الإقرار عليه ولذلك قال عمر بن عبدالعزيز ما فت طينة عندي بأهون من نقض قضاء قضيت به فرأيت الحق في خلافه وسواء حكم بهذا الحكم متعديا أو مخطئا وهذا لا يختلف فيه وكذلك لو حكم بحكم ظنا أو تخمينا من غير
____________________
(1/97)
قصد إلى اجتهاد في الأدلة لجهله فذلك أيضا باطل لأن الحكم بمجرد الظن فسق وظلم وخلاف الحق ويفسخ هذا الحكم القاضي نفسه وغيره ولو وافق الحق إذا ثبت عنده أنه على هذا الوجه حكم انتهى والله تعالى أعلم
وقال الحطاب عند قول خليل ونبذ حكم جائر جاهل الخ الجاهل إن لم يشاور العلماء تطرح أحكامه مطلقا أي وافق الصواب أم لا لأن أحكامه كلها باطلة لأنها بالتخمين قال الرنشرشي في معياره وأما مسح الوجه باليدين عقب الدعاء فقال مالك فيه لما سئل عنه ما علمته قال الرنشرشي فقد جاز ذلك في الحديث الصحيح لخبر الترمذي عن عمر رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه
قال أبو عيسى صحيح غريب فأنت ترى هذا الخبر الصحيح كيف أثبت المسح ومع ثبوت الخبر لا يسع مخالفته لا سيما والإمام رضي الله عنه إنما قال لما سئل عن ذلك ما علمت فدل كلامه على أنه لم يبلغه خبر به أو بلغه ممن لا يوثق به فلما وجده أبو عيسى وهو ممن يوثق به وجب المصير إليه كما قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي وإلا فاضربوا بمذهبي عرض هذا الحائط وممن أخذ بالحديث المذكور ابن رشد وابن رشيد والغزالي والنووي وغيرهم وقد ذكرت أن في مسألة المسح اختلافا والراجح ما وافق الحديث الصحيح من ذلك وهو استعماله انتهى
وذكر نور الدين السنهوري أنه ثبت عن مالك نحو ما ثبت عن الشافعي فقد قال ابن مسدى في منسكه روينا عن معن بن عيسى قال سمعت مالكا يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ومالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه انتهى قال ابن مسدى فقد علم أن كل ما خالف الكتاب والسنة من آراء مالك فليس بمذهب له بل مذهبه ما وافق الكتاب والسنة كما هو مذهب الشافعي والله تعالى أعلم
قلت وقد نقل الأجهوري والخرشي هذا الكلام وأقراه في شرحهما على مختصر الخليل
وقال الشيخ أبو الحسين في شرحه على رسالة ابن أبي زيد عند قوله فإن شاء غسل رجليه وإن شاء أخرهما إلى آخر غسله ما نصه دليل المشهور على ما في الموطأ أنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام كان إذا اغتسل من الجنابة توضأوضوءه للصلاة الحديث فظاهره أنه كمل وضوءه قال شيخنا والقول بالتأخير أظهر من المشهور لما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام كان يؤخر غسل رجليه إلى آخر غسله فيغسلهما إذ ذاك وهذا صريح وما تقدم ظاهر وأنى يقاوم الظاهر الصريح فيكون هذاالقول هو المشهور بناءا على أن المشهور ما قوي دليله انتهى
____________________
(1/98)
قلت وقد صحح ابن بشير وابن خويز منداد أن المشهور ما قوي دليله وقد حققته في تقويم الكفة فما للعلماء من حديث الجبة والكف إذا علمت أن ما خالف الكتاب والسنة والإجماع من أقوال المجتهدين وآرائهم ليس مذهبا لهم فتعين على المتمسكين بمذاهبهم أن يفتوا بالكتاب والسنة وأقوال العلماء ليعلموا بذلك ما هو مذهب لإمامهم وما ليس مذهبا لإمامهم خلاف ما لهج به المتأخرون من فقهاء المذاهب الأربعة من اقتصارهم على المختصرات الخالية عن الدليل وإعراضهم كل الإعراض عن كتب الحديث والخلاف وأصول الحديث والفقه فهم على هذا اجهل الناس لمذاهب أئمتهم جهلا مركبا لأن الآراء التي يعتقدون أنها مذاهب أئمتهم بعضها مخالف للكتاب او السنة أو الإجماع والأئمة بريئون من كل ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع
وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه وقد جمع ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح انفرادا واجتماعا في مجلد ضخم وذكر في أوله أن نسبة هذه المسائل إلى الأئمة المجتهدين حرام وأنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فيكذبوا عليهم هكذا نقله عنه تلميذه الأدفوي نقلته من تذكرة الشيخ عيسى الثعالبي الجعفري الجزائري منشأ المكي وفاة رحمه الله تعالى
وقال الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس يا أبا عبدالله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك وصح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون ذكره ابن القيم بسنده إلى مالك ثم قال فإذا كان تارك قول عمر يستتاب فكيف من ترك قول الله عز وجل وقول رسوله ص بقول من هو دون إبراهيم النخعي أو مثله انتهى
قلت ويعني فيكون عند مالك من أكفر الكافرين بحيث لا يستتاب بل هو زنديق والله تعالى أعلم
قال ابن قيم وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول الزم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه ص وقال مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين إذا سئل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس أو تقليد من يحسن الظن به أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق أو كشف أو منام أو استحسان أو حرص والله المستعان على كل من يبدل دينه انتهى من أعلام الموقعين
____________________
(1/99)
المقصد الثالث فيما قاله عالم قريش محمد بن إدريس الشافعي وما لأصحابه من الكلام الشافي من العي
أخبرنا شيخنا المعمر وبركتنا المدخر محمد بن سنة عن مولاه الشريف إجازة محمد بن أركاش الحنفي عن الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الحافظ العراقي عن أبي الفضل محمد بن إسماعيل الحموي عن الفخر بن البخاري عن منصور بن عبدالمنعم الفراوي عن محمد بن إسماعيل الفارسي عن الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ ثنا أبو عمرو بن السماك مشافهة أن ابا سعيد الخصاص حدثهم قال سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا فقال له السائل يا أبا عبدالله أتقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال ويحك وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم أقل به نعم على الراس والعين قال سمعت الشافعي يقول ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي قال وجعل يردد هذاالكلام
وبه إلى البيهقي قال أخبرنا أبو عبدالرحمن السلمي قال سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت فهذا مذهبه في اتباع السنة
وبه إلى البيهقي حدثنا أبو عبدالله الحافظ وأبو سعيد قالا ثنا أبو العباس حدثني الربيع ثنا الشافعي قال إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبدا إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث يخالفه
وقال الشافعي إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه وكان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يوافقه لم يزده قوة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه وإن كان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يؤخذ به ولو علم من روى عنه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعها إن شاء الله تعالى
وبه إلى البيهقي حدثنا أبو عبدالله الحافظ في كتاب الرسالة الجديدة حدثنا أبو العباس محمد
____________________
(1/100)
ابن يعقوب ثنا الربيع قال قال الشافعي في أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة والإجماع أو كان أصح في القياس وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس
وبه إليه إليه قال حدثنا أبو سعيد بن ابي عمرو في كتاب اختلاف مالك والشافعي ثنا أبو العباس ثنا الربيع قال قال الشافعي ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا باتباعهما فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحدهم ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنه إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي منه الدلالة لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس ومن لزم قول الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر وقد يأخذ بفتياه أو يدعها وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا تعنى العامة بما قالوا اعتناءهم بما قال الإمام وقد وجدنا الأئمة يبتدءون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم فيقبلون من المخبر ولا يستنكفون أن يرجعوا لتقواهم الله وفضلهم في حالاتهم فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في وضع الأمانة أخذنا بقولهم وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم قال والعلم طبقات الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة ثم الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة والثالثة أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم له مخالف منهم والرابعة اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والخامسة القياس على هذه الطبقات ولا يصار إلى شييء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى
وذكر الشافعي في كتاب الرسالة القديمة بعد ما ذكر الصحابة وأثنى عليهم بما هم أهله قال وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا والله تعالى أعلم ومن أدركنا ممن أرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا وقول بعضهم إن تفرقوا فهكذا نقول إذا اجتمعوا أخذنا بإجماعهم وإن قال واحد منهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج من أقاويلهم كلهم
قال الشافعي إذا قال الرجلان منهم في شيء قولين مختلفين نظرت فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله تعالى أو أشبه بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت به لأن معه شيئا
____________________
(1/101)
يقوى بمثله ليس مع الذي يخالفه مثله فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان رضي الله تعالى عنهم أرجح عندنا من أحد لو خالفهم غير إمام
وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب وقال فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضي الله تعالى عنهم أحب إلي أن أقول به من قول غيرهم أن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكام ثم ساق الكلام إلى أن قال فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتاب والسنة في اختلافهم فصرنا إلى قول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة وإن اختلف المفتون يعني من الصحابة بعد الأئمة بلا دلالة فيما اختلفوا فيه نظرنا إلى الأكثر فإن تكافأوا نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجا عندنا وإن وجدنا للمفتين في زماننا وقبله إجماعا في شيء لا يختلفون فيه تبعناه وكان أحد طرق الأخبار الأربعة وهي كتاب الله تعالى ثم سنة نبيه ص ثم قول بعض الصحابة ثم إجماع الفقهاء فإذا نزلت نازلة لم نجد فيها واحدة من هذه الأربعة الأخبار فليس السبيل في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي
وأخذ الشافعي عن محمد بن الحسن الشيباني من مذهبه ومذهب صاحبه ما يحتاج إليه حتى وقف عليه وعلى ما احتجا به ثم ناظره فيما كان يرى خلافه فيه وكان يقول ما كلمت أسود الرأس أعقل من محمد بن الحسن وكان محمد بن الحسن يعظمه ويجله ورجع إلى قوله في مسائل معدودة وكان من مضى من علماء المدينة لا يعرفون مذاهب أهل الكوفة وكان أهل الكوفة يعرفون مذهب أهل المدينة فكانوا إذا التقوا وتكلموا ربما انقطع المدني فكتب الشافعي مذاهبهم ودلائلهم ولم يخالفهم إلا فيما قويت حجته عنده وضعفت حجة الكوفيين فيه وكان تكلم محمد بن الحسن وغيره على سبيل النصفة وكان يقول ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة وكان يقول ما ناظرت أحدا قط فأحببت أن يخطىء وكان يقول ما كلمت أحدا الا ولم ابل يبين الله الحق على لسانه
وكان عبدالله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه قال قال الشافعي أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا
قال البيهقي ولهذا كثر أخذه بالحديث وهو أنه جمع علم أهل الحجاز والشام واليمن والعراق وأخذ بجميع ما صح عنده من غير محاباة منه ولا ميل إلى ما استحلاه من مذهب أهل بلده مهما بان له الحق في غيره وممن كان قبله من اقتصر على ما عهد من مذاهب أهل بلده ولم يجتهد في معرفة صحة ما خالفه والله يغفر لنا ولهم
____________________
(1/102)
وبه إلى البيهقي أخبرنا سعيد بن ابي عمرو ثنا ابو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا الشافعي قال ليس للحاكم أن يولي الحكم أحدا ولا لمولى الحكم أن يقبله ولا لوال أن يولي أحدا ولا ينبغي للمفتي أن يفتي حتى يجمع أن يكون عالما علم الكتاب وعلم ناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه وفرضه وأدبه وعالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاويل أهل العلم قديما وحديثا عالما بلسان العرب عاقلا يميز بين المشتبه ويعقل القياس فإن عدم واحدة من هذه الخصال لم يحل له أن يقول قياسا وكذلك لو كان عالما بالأصول غير عاقل للقياس الذي هو الفرع لم يجز أن يقال لرجل قس وهو لا يعقل القياس وإن كان عاقلا للقياس وهو مضيع لعلم الأصول أو شيء منها لم يجز أن يقال له قس على مالا تعلم
واعتبر في كتاب الشهادات أن يكون القاضي مع هذا عدلا واعتبر في القديم مع هذا أن يكون عاقلا كيف يأخذ الأحاديث ومصححا لأخذها لا يرد منها ثابتا ولا يثبت ضعيفا
وبه إلى البيهقي قال حدثنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعي حكم الله جل ثناؤه ثم حكم رسوله ص ثم حكم المسلمين دليل على أنه لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكما أو مفتيا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم وذلك الكتاب ثم السنة وما قال أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هؤلاء ولا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان وبه إليه قال حدثنا ابو عبدالله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت قال وسمعت الربيع يقول وروى الشافعي حديثا فقال له رجل تأخذ بهذا يا أبا عبدالله فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب واشار بيده على رءوس الجماعة وقال الشافعي أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد وقد صح عنه أنه قال لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى كلام البيهقي في مدخله
وقال في أعلام الموقعين وقال الأصم أخبرنا الربيع بن سليمان قال الشافعي أنا أعطيك جملة تغنيك إن شاء الله تعالى لا تدع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أبدا إلا أن يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث خلافه فتعمل بما قررت لك في الأحاديث إذا اختلف وقال أبو محمد الجارودي سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي
____________________
(1/103)
فإني أقول بها قال أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي ما قلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني
وقال الحميدي سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال الرجل أتقول بهذا يا أبا عبدالله فقال الشافعي أرأيت في وسطي زنارا أتراني خرجت من الكنيسة أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لي أتقول بهذا أروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به وقال الربيع قال الشافعي لم أسمع أحدا نسبته إلى العلم او نسبته العامة إلى علم أو نسب نفسه إلى علم يحكى خلافا في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما سواهما تبع لهما وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى قال الشافعي ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقا متباينا وتفرق عنهم ممن نسبه العامة إلى الفقه فامتنع بعضهم عن التحقيق من النظر وآثروا التقليد والغفلة والاستعجال بالرياسة
وقال الإمام أحمد قال لنا الشافعي إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه
وقال الإمام أحمد كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله
قال الربيع قال الشافعي لا نترك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدخله القياس ولا موضع له مع السنة قال الربيع وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وامي أنه قضى في بروع بنت واشق ونكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر مثلها وقضى لها بالميراث فإن كان يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القياس ولا شيء إلا طاعة الله تعالى بالتسليم له وإن كان لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكن لأحد أن يثبت عنه مالم يثبت ولم أحفظه من وجه يثبت مثله هو مرة عن معقل بن سنان ومرة عن معقل بن يسار ومرة عن بعض بني أشجع لا يسمى
____________________
(1/104)
قال الربيع سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال يرفع المصلي يديه اذا افتتح الصلاة حذو منكبيه واذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك في السجود قلت له فما الحجة في ذلك قال أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولنا قال الربيع فقلت فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال الشافعي أخبرنا مالك عن نافع أن ابن عمر كان اذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه واذا رفع رأسه من الركوع رفعهما قال الشافعي وهو يعني مالكا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان اذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه واذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر فقلتم لا يرفع يديه
____________________
(1/105)
إلا في إبتداء الصلاة وقد رويتم أنهما رفعا في الابتداء وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم لرأي ابن عمر ثم القياس على قول ابن عمر ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه فيترك على ابن عمر ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لم ينته بعض هذا عن بعض أرأيت اذا جاز له أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع يديه في مرتين أو ثلاث أو عن ابن عمر فيه اثنتين ويأخذ بواحدة أو يجوز لغيره ترك الذي أخذ به وأخذ الذي ترك أو يجوز لغيره ترك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له إن صاحبنا قال فما معنى الرفع قال معناه تعظيم الله واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الرفع في الأولى معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند الركوع وعند رفع الرأس ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر معا ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا ويروي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ومن تركه فقد ترك السنة
قلت وهذا تصريح من الشافعي بان تارك رفع اليدين عند الركوع والرفع منه تارك للسنة ونص أحمد على ذلك أيضا في احدى الروايتين عنه
وقال الربيع سألت الشافعي عن الطيب قبل الاحرام بما يبقى ريحه بعد الاحرام أو بعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الافاضة فقال جائز أحبه ولا أكرهه لثبوت السنة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإخبار غير واحد من الصحابة فقلت وما حجتك فيه فذكر الأخبار والآثار ثم قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم قال قال عمر من رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب قال سالم وقالت عائشة طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع قال الشافعي وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك الغير لرأي أنفسهم فالعلم اذا اليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم
وقال في كتاب القديم رواية الزعفراني في مسألة بيع المدين في جواب من قال له
____________________
(1/106)
إن بعض أصحابك قال خلاف هذا قال الشافعي فقلت له من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته ومن غلط فتركها خالفته صاحبي الذي لا أفارقه اللازم الثابت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بعد والذي أفارقه من لم يقل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قرب انتهى كلام صاحب أعلام الموقعين
وقال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس في معالي ابن إدريس قد اشتهر عن شافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي فرأت بخط تقي الدين السبكي في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه اذا وجد الشافعي حديثا صحيحا مخالفا لمذهبه ان كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون الامام اطلع عليه وأجاب عليه وان لم تكمل ووجد إماما من أصحاب المذاهب عمل به فله أن يقلده فيه وان لم يجد وكانت المسألة حيث لا اجتماع قال السبكي فالعمل بالحديث أولى وان فرض الاجماع فلا
قلت ويتأكد ذلك اذا وجد الامام نص المسألة على خبر ظنه صحيحا وتبين له أنه غير صحيح ووجد خبرا صحيحا يخالفه وكذا اذا أطلع الامام عليه ولكنه لم يثبت عنده مخالفه ووجد له طريقا ثابتا وقد أكثر الشافعي تعليق القول بالحكم على ثبوت الحديث عند أهله كما قال في البويطي إن صح الحديث في غسل من غسل الميت قلت به وقال في الأم إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به إلى غير ذلك وقد جمعت في ذلك كتابا سميته المنحة فيما علق الشافعي القول به على الصحة وأرجو الله تصيير تكملته إن شاء الله تعالى انتهى
قال ابن القيم في أعلام الموقعين قول الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي هذا صريح
____________________
(1/107)
في مدلوله وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره ولا يجوز أن ينسب إليه ما خالف الحديث فيقال هذا مذهب الشافعي ولا يحل الإفتاء بما خالف الحديث على أنه مذهب الشافعي ولا الحكم به صرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث بخلافها اضرب على هذه المسألة فليست مذهبه وهذا هو الصواب قطعا لو لم ينص عليه فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد وصرح بألفاظ كلها صريحة في مدلولها فنحن نشهد بالله أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث دون ما خالفه ومن نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه ولا سيما إذا ذكر هو ذلك الحديث وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من وجه يثق به ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من وجوه لم تبلغه فهذا لا يشك عالم ولا يماري أنه مذهبه قطعا وهذا كمسألة الجوائح فإنه علل حديث سفيان بن عيينة بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح وقد صح الحديث من غير طريق سفيان صحة لا مرية فيها ولا علة ولا شبهة بوجه فمذهب الشافعي وضع الجوائح وبالله التوفيق
وقد صرح بعض أئمة الشافعية بأن مذهبه أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وأن وقت المغرب يمتد إلى الشفق وأن من مات وعليه صيام صام عنه وليه وإن أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء وهذا بخلاف الفطر بالحجامة وصلاة المأموم قاعدا إذا صلى الإمام كذلك فإن الحديث وإن صح في ذلك فليس بمذهب له فإنه رواه وعرف صحته لكن خالفه لاعتقاده نسخه وهذا شيء وذلك شيء وفي هذا القسيم يقع النظر في النسخ وعدمه وفي الأول يقع النظر في صحة الحديث وثقة السند فأعرفه انتهى كلام ابن القيم
قال العز بن عبدالسلام في قواعده لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله تعالى في طاعته كالرسول صلى الله عليه وسلم والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيها من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له إلا أن يكره إنسان على أمر الإكراه فلا إثم على مطيعه وقد تجب طاعته لا لكونه أمرا بل دفعا لمفسدة ما تهدد به من قتل أو قطع أو جناية على بضع ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه فهل له فعله نظرا إلى رأي الآمر
____________________
(1/108)
أو يمتنع فعله نظرا الى رأي المأمور فيه خلاف وهذا مختص بما لا ينقض حكم الآمر به فان كان مما ينقض حكمه فلا سمع ولا طاعة وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء الا فيما يعلم المأمور أنه مأذون به في الشرع وتفرد الله تعالى بالطاعة لاختصاصه عز وجل بنعم الانشاء والابقاء والتغذية والصلاح الديني والدنيوي فما من خير الا هو جالبه وما من ضر الا هو سالبه وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض إذ ليس لأحد منهم انعام بشيء مما ذكرته في حق الاله سبحانه وتعالى ولذلك لا حكم الا له وأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والاجماع والاقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده كالمجتهد في تقليد المجتهد أو تقليد الصحابة وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء ويرد على من خالف ذلك قوله تعالى { إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه } ويستثنى من ذلك العامة فان وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل الى معرفة الاحكام بالاجتهاد بخلاف المجتهد فانه قادر على النظر المؤدي الى الحكم ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك فيه خلاف والمختار التفصيل فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال اليه مما ينقض فيه الحكم فليس له الانتقال الى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه الا لبطلانه فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال لأن الناس لم يزالوا من زمان الصحابة الى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر انكاره ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وان كان هو الأولى لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمان الصحابة والتابعين من غير نكير بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل الى تقليد نفسه ولا المفضول يمنع من سأله مع وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مذهب إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والاقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد امامه بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطنة نضالا عن مقلده وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فاذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه تعجب فيه غاية التعجب من غير استرواح الى دليل لما الفه من تقليد امامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب امامه ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب الامام أولى من تعجبه من مذهب غيره والبحث مع هؤلاء ضائع مفض الى التقاطع والتدابر من غير فائدة تجذبها وما رأيت أحدا رجع عن مذهب امامه اذا ظهر له الحق في غيره بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبعده والأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين أذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب امامه قال لعل امامي
____________________
(1/109)
وقف على دليل لم اقف عليه ولم أهتد اليه ولا يعلم المسكين ان هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته وفقنا الله تعالى لاتباع الحق اين ما كان وعلى لسان من ظهر واين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الاحكام ومسارعتهم إلى إتباع الحق إذا ظهر دليل على لسان الخصم وقد نقل عن الشافعي أنه قال ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم اجر الحق على قلبه ولسانه فان كان الحق معي اتبعني وان كان الحق معه اتبعته انتهى كلام الامام المتفق على دينه وعلمه الذي قال فيه الامام ابن عرفة المالكي لا ينعقد للمسلمين اجماع بدون عز الدين ابن عبد السلام
وقال أيضا في قواعده ولو اجتهد المجتهد في حكم شرعي ثم بان كذب ظنه فإن تبين ذلك بظن يساويه أو يترجح عليه ادنى رجحان فإن تعلق به حكم لم ينتقض حكمه وبنى على اجتهاده الثاني فيما عدا الاحكام المبنية على الاجتهاد الأول وإن تباعد المأخذان بحيث تبعد إصابته في الظن الأول نقض حكمه مثل أن يكون اجتهاده الأول مخالفا لنص كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي أو للقواعد الكلية فانه ينقض حكمه وإن لم يتعلق به حكم بنى على ما أدى اليه اجتهاده ثانيا إلا أن يستوي الظنان فيجب التوقف على الأصح انتهى
وقال أيضا إني لا أعتقد أن أحدا من المجتهدين انفرد بالصواب في كل ما خولف فيه أكثر من خطاه بالنسبة الى كل ما خالفه والشرع ميزان يوزن به الرجال والأقوال والأعمال والمعارف والأحوال فمن رجحه ميزان الشرع فهو أرجح ولا إثم على أحد من المخطئين إذا قام بما أوجب الله عليه من المبالغة في الاجتهاد وفي تعريف الاحكام لأنه أدى ما عليه فمن أصاب الحق منهم أجر أجرين أحدهما على إجتهاده والثاني على صوابه ومن أخطأ بعد بذل الجهد عفي عن خطأه وأجر على قصده على الصواب في مقدمات اجتهاده ولقد أفلح من قال بما أجمعوا على وجوبه واجتنب ما أجمعوا على تحريمه واستباح ما أجمعوا على استباحته وفعل ما أجمعوا على اباحته واجتنب ما اجمعوا على كراهته ومن أخذ بما اختلفوا فيه فله حالان أح على كراهته ومن أخذ بما اختلفوا فيه فله حالان أحدهما أن يكون المختلف فيه مما ينقض الحكم به فهذا لا سبيل الى التقليد فيه لأنه خطأ محض وما حكم فيه بالنقض الا لكونه خطأ بعيدا من نفس الشرع وماخذه ورعاية حكمه الحالة الثانية أن يكون مما لا ينقض الحكم به فلا بأس بفعله ولا بتركه إذا قلد فيه بعض العلماء لأن الناس لم يزالوا على ذلك يسألون من اتفق من غير تقييد ولا انكار على أحد من السائلين الى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين فإن أحدهم يتبع امامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل اليه وهذا ناء عن الحق وبعيد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي
____________________
(1/110)
الألباب اللهم فارشدنا الى الحق واهدنا الى الصواب انك أنت الكريم الوهاب
وعلى الجملة فالغالب على مجتهدي أهل الاسلام الصواب وهم متقاربون في مقدار الخطأ فخيرهم أقلهم خطأ ويليه المتوسط في الخطأ ويليه أكثرهم خطأ والله يختص برحمته من يشاء وأكثر ما يقع الخطأ من الغفلة عن ملاحظة بعض القواعد وملاحظة بعض الأركان والشرائط وملاحظة المعارض ومطلوب الكل التقرب الى الله باصابة الحق ولكن % ما كل ما يتمنى المرء يدركه % تجري الرياح بما لا تشتهي السفن %
وقال أيضا معظم الناس خاسرون وأقلهم رابحون فمن أراد أن ينظر في خسره وربحه فليعرض نفسه على الكتاب والسنة فإذا وافقهما فهو الرابح إن صدق ظنه في موافقتهما وإن كذب ظنه فيا حسرة عليه وقد أخبر الله تعالى بخسارة الخاسرين وربح الرابحين فأقسم بالعصر إن الإنسان لفي خسر إلا من جمع أربعة أوصاف أحدها الإيمان والثاني العمل الصالح والثالث التواصي بالحق والرابع التواصي بالصبر وقد روي أن الصحابة كانوا إذا اجتمعوا لم يتفرقوا حتى يقرءوها واجتماع هذه الخصال في الإنسان عزيز نادر في هذه الزمان وكيف يتحقق الإنسان أنه جامع لهذه الصفات التي أقسم الله تعالى بخسران من خرج عنها وبعد منها مع علمه بقبح أحواله وسوء أعماله وكم من عاص يظن أنه مطيع وبعيد يظن أنه قريب ومخالف يعتقد أنه موافق ومن متهتك يعتقد أنه متنسك ومن مدبر يعتقد أنه مقبل ومن هارب يعتقد أنه طالب ومن جاهل يعتقد أنه عارف ومن آمن يعتقد أنه خائف ومن مراء يعتقد أنه مخلص ومن ضال يعتقد أنه مهتد ومن عم يعتقد أنه مبصر ومن راغب يعتقد أنه زاهد كم من عمل يعتقد عليه المرائي وهو وبال عليه ومن طاعة يهلك بها المسمع وهي مردودة إليه والشرع ميزان يوزن به الرجال وبه يتبين الربح من الخسران فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله وتختلف مراتب الرجحان فأعلاها مراتب الأنبياء فمن دونهم ولا تزال الرتب تتناقص إلى أن ينتهي إلى أقل مراتب الرجحان ومن نقص في ميزان الشرع فأولئك أهل الخسران وتتفاوت خفتهم في الميزان فأخسها مرتبة الكفار ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى مرتبة مرتكب أصغر الصغائر فإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو يخبر عن المغيبات ثم يخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل ويترك الواجبات بغير سبب مجوز فاعلم أنه شيطان نصبه الله فتنة للجهلة وليس ذلك بعيدا من الأسباب التي وضعها الله تعالى للضلال فإن الدجال يحيي ويميت فتنة لأهل الضلال وكذلك يأتي الخزنة فتبثه كنوزها كيعاسيب النحل وكذلك يظهر للناس أن معه جنة ونارا وناره جنة وجنته نار وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران فإنه مرتكب للحرام يأكل
____________________
(1/111)
الحيات وفاتن للناس بدخول النار ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته انتهى كلام سلطان العلماء
قال الشيخ محمد حياة ونقل عن شرح مسلم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله الصحيح أولى وأفضل من قول المجتهد وفي شرح المهذب للنووي إذا ثبت الحديث على خلاف قول المقلد وفتشته فلم تجد له معارضا وكان المفتش له أهلية فإنه يترك قول صاحب المذهب ويأخذ بالحديث ويكون حجة للمقلد في ترك مذهب مقلده
وفي قوت القلوب ومن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إيثار سنته على الرأي والمعقول انتهى
وقال الشعراني في الميزان فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها فالجواب ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فاته خير كثير كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذا لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو ظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها وعملوا بها ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على النص إنما ظفروا بذلك في كلام مقلديه الذين يلتزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين وقولهم إن إمامهم لم يأخذ بهذا الحديث لا ينتهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكنه لم يصح عنده وقد تقدم أن الأئمة كلهم قالوا إذا صح الحديث فهو مذهبنا وليس لأحد قياس ولا حجة إلا طاعة الله تعالى ورسوله ص وهذا الأمر الذي ذكرناه يقع فيه كثير من الناس فإذا وجدوا عن أصحاب إمام مسألة جعلوها مذهبا لذلك الإمام وهو تهور فإن مذهب الإمام حقيقة هو ما قاله ولم يرجع عنه إلى أن مات لا ما فهم أصحابه من كلامه فقد لا يرى الإمام ذلك الآمر الذي فهمه من كلامه ولا يقول به لو عرض عليه فعلم أن من عزى إلى الإمام كل ما فهم من كلامه فهو جاهل بحقيقة المذاهب انتهى
وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من أراده لإعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه انتهى
____________________
(1/112)
المقصد الرابع في ذكر ما نقل عن ناصر السنة أحمد بن حنبل وما لأصحابه من الحض على العمل بالسنة والكتاب المنزل
قال أبو داود قلت لأحمد الأوزاعي هو اتبع أم مالك قال لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذبه ثم التابعين بعد الرجل فيهم مخير وقد فرق الإمام أحمد بين التقليد والاتباع فقال أبو داود سمعته يقول الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم هو من بعد مع التابعين مخير وقال أحمد أيضا لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا وقال من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال
قال ابن القيم ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة
واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم فيتبعون قوله وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن عبدالله الأعور بن الحوتي وقد قال له أتظن أن طلحة وزبيرا كانا على الباطل فقال له يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله انتهى
وقال ابن القيم فإذا جاءت هذه أي النفس المطمئنة بتجريد المتابعة للرسول ص جاءت تلك أي الإمارة بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم فأتت بالشبهة المضلة بما يمنع من كمال المتابعة وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق والله يعلم أنها كاذبة وما مرادها إلا التفلت من سجن المتابعة إلى فضاء إرادتها وحظوظها وتريه أي وترى النفس الأمارة صاحبها تجريد المتابعة للنبي ص وتقديم قوله على الآراء في صورة تنقص العلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن بهم وأنهم قد فاتهم الصواب فكيف لنا قوة الرد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم وتقاسمهم بالله إن أرادت إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقواله وإلغائها أن تجرد المتابعة لا تقدم على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قول أحد ولا رأيه كائنا من كان بل ينظر في صحة الحديث أو لا فإذا صح نظر في معناه ثانيا فإذا تبين له لم يعدل
____________________
(1/113)
عنه ولو خالفه من بين المشرق والمغرب ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا ص بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو خفي عليك فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله ص في تركه بل اذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك علمه هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم رضي الله عنه دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك بل مخالفتهم في ذلك أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ومن هذا تبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله من الكتاب والسنة والمستعين بإفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل فإذا وصل استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله معنى إذا شاهدها
قال الشافعي أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ومن هذا تبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله ص متلوا أو غير متلو إذا صح وسلم من المعارضة وهو حكمه الذي ارتضاه لعباده ولا حكم له سواه وإن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله قطعا وحاشاهم عن قول ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنه في قوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله ص فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله ص وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث بريدة بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ولم يلزم أحد منهم بقول الأئمة قال الإمام أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاء بخير منه قبلته انتهى ولو كان هو عن حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه وكذلك قال مالك لما استشاره هارون الرشيد في أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال قد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد
____________________
(1/114)
وصار عند كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين وهذا الشافعي نهى أصحابه عن تقليده ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه وهذا الإمام أحمد منكر على من كتب فتاويه ودونها ويقول لا تقلدني ولا تقلد فلانا وفلانا وخذ من حيث أخذوا انتهى كلام ابن القيم بطوله
وقال في أعلام الموقعين وكان أحمد رحمه الله تعالى شديد الكراهة لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ عشرين سفرا أو أكثر
وكانت فتواه مبنية على خمسة اصول أحدها النصوص فإذا وجد النص أي الكتاب أو السنة أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر ولا خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ وكذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب رضي الله عنهم في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين
____________________
(1/115)
لصحة حديث سبيعة الأسلمية ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك وهذا كثير جدا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن مالا يعلم فيه الخلاف لا يقال له إجماع ولفظه مالا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول ما يدعى فيه الرجل الإجماع فهو كذب من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول ولكن لا نعلم الناس اختلفوا ولم يبلغني ذلك هذا لفظه ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث أجل من أن تقدم عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده الأصل الثاني من أصول فتاوي الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ولم يقل إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا كما قال في رواية أبي طالب لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين
____________________
(1/116)
عطاء ومجاهد وأهل المدينة على قبول شهادة العبد وهكذا قال أنس بن مالك لا أعلم أحدا رد شهادة العبد حكاه عنه الإمام أحمد وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليها عملا ورأيا ولا قياسا الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجبر بقول قال إسحاق بن إبراهيم بن هاني في مسائله قيل لأبي عبدالله يكون الرجل في قرية يسأل عن الشيء فيه اختلاف قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة ومالم يوافق الكتاب والسنة يمسك عنه قيل له أفتخاف عليه قال لا الأصل الرابع الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الكتاب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا هو موافقة على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس وأجمع أهل الحديث على ضعفه وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس وأكثر أهل الحديث يضعفه وقدم حديث أكثر الحيض عشرة أيام وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس فإن الدم الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر وقدم حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وجمع ضعفه على القياس وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه مخالفته القياس على غيرها من البلاد وقدم في أحد قوليه حديث من قاء أو رعف فليتوضأ وليبن على صلاته على القياس مع ضعف الخبر وإرساله وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول صحابي أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى
____________________
(1/117)
الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة وقد قال في كتاب الخلال سألت الشافعي رحمه الله عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة أو ما هذا معناه
فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه وعليها مدارها وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده أو لاختلاف الصحابة فيها أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف وكان كثيرا ما سئل بما فيه الاختلاف فيقول لا أدري
وقال عبدالله بن أحمد في مسائله سمعت أبي يقول قال عبدالرحمن بن مهدي سأل رجل من اهل المغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبدالله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من وراءك أني لا أدري وقال عبدالله بن أحمد كنت أسمع كثيرا ما يسئل فيقول لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيرا ما يقول سل غيري وقد حرم الله القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله في المرتية العليا منها فقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فرتب المحرمات على أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثني بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما وهو الشرك بالله سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله وفي دينه وشرعه وقال تعالى { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام ولما لم يحله هذا حلال وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حرام وهذا حلال إلا بما علم أن الله تعالى أحله أو حرمه
وقال بعض السلف ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله تعالى كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحل الله وحرم الله بمجرد التقليد أو بالتأويل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك فتأمل كيف فرق الله بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حكما حكم به فقال هذا ما أرى الله امير المؤمنين عمر بن الخطاب
____________________
(1/118)
فقال لا تقل هكذا ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح عنه ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلة معرفتهم لصحيحها من سقيمها
وقال ابن أبي داود حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل وقال عبدالله بن أحمد أيضا سمعت أبي يقول الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي وقال عبدالله سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه وسقيمه وأصحاب الرأي فتنزل بهم النازلة فقال أي يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث أقوى عندنا من الرأي
والحاصل أن السلف كلهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء وإن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه
والتقليد المنهي عنه منقسم على ثلاثة أقسام أحدها الإعراض عما أنزل الله تعالى وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء الثاني تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل أن يأخذ بقوله الثالث التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة وهذا قلد بعد ظهور الحجة فهو أولى بالذم ومعصية الله تعالى ورسوله انتهى قلت وقد تقدم في المقدمة آيات من القرآن تدل على ذم التقليد بأقسامه
قال ابن القيم فإن قيل إنما ذم الله تعالى من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ولم يذم من قلد العلماء المهتدين بل قد أمر بسؤال أهل الذكر وهم أهل العلم وذلك تقليد لهم فقال تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وهذا امر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم
فالجواب أن الله سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله تعالى وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم ومأجور وهو التقليد الواجب وقال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } فأمر باتباع المنزل خاصة والمقلد ليس له علم أن
____________________
(1/119)
هذا هو المنزل وإن كانت قد ثبتت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل وقال { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مبطل للتقليد وقال { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } ولا وليجة أعظم من جعله رجلا بعينه مختارا على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر الأئمة يقدمه على ذلك كله ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قبله لموافقته لقوله وما خالفه منها عطف في رده وتطلب له وجوه الحيل فإن لم تكن هذه الوليجة فلا ندري ما الوليجة وقال تعالى { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } وهذا نص في إبطال التقليد
فإن قيل إنما ذم من قلد من أضله السبيل وأما من هداه السبيل فأين ذم تقليده
قلت جواب هذا السؤال في نفس السؤال فإنه لا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله تعالى على رسوله فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله تعالى فهو مستهد وليس بمقلد وإن لم يعرف ما أنزل الله تعالى على رسوله فهو ضال جاهل بإقراره على نفسه فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده وهذا جواب كل سؤال يورد في هذا الباب في أنهم إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى
فإن قيل فأنتم تقرون أن الأئمة المقلدين في الدين على هدى فمقلدوهم على هدى قطعا لأنهم سالكون خلفهم
قيل سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعا فإن طريقتهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما تقدم نقله عنهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله تعالى ورسوله ص عنه قبلهم فليس على طريقتهم بل هو من المخالفين لهم وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة وانقاد للدليل ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول صلى الله عليه وسلم يجعله مختارا على الكتاب والسنة يعرضهما على قوله وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعا وإبهامه وتلبيسه بل هو مخالف للاتباع وقد فرق الله تعالى ورسوله ص وأهل العلم بينهما فإن الاتباع سلوك طريق المتبع والإتيان بمثل ما أتى به انتهى كلام صاحب أعلام الموقعين
وقد تقدم الفرق بينهما في المقدمة فلا وجه للإعادة والله تعالى أعلم
____________________
(1/120)
الخاتمة في إبطال شبه المقلدين والجواب عما أوردوه على المتبعين أهل الأهواء المتعصبين
قال ابن القيم في الأعلام فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد معاند وصاحب حجة منقاد للحق حيث كان
قال المقلد نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله سبحانه { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم وهذا نص قولنا ولقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال من يعلم فقال في حديث صاحب الشجة ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال وقال أبو العسيف الذي زنى ابنه بامرأة مستأجرة وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وأن على امرأة هذا الرجم فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر فروى شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر وصح عنه أنه قال له رأينا تبع لرأيك وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر وقال الشعبي كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبدالله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب وقال حبيب ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن معاذا قد سن لكم سنة وذلك ما فعله في شأن الصلاة حيث أخر قضاءما فاته مع الإمام إلى بعد الفراغ وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ثم يدخلون مع الإمام وقال المقلدون وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله ص وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به فإنه لولا تقليدهم لم يكن هناك طاعة اختص بهم وقال الله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }
____________________
(1/121)
وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنه ويكفي في ذلك الحديث المشهور أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقال عبدالله بن مسعود من كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ص وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقال اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وقد كتب عمر إلى شريح أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون وقد منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث واتبعوه أيضا واحتلم مرة فقال له عمرو بن العاص خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها صارت سنة وقد قال أبي بن كعب وغيره من الصحابة ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم وهذا تقليد لهم قطعا إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فأوجب عليهم قبول ماأنذروهم به إذا رجعوا إليهم وهذا تقليد منهم للعلماء
وصح عن ابن الزبير أنه سئل عن الجد والأخوة فقال أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا فإنه أنزله أبا وهذا ظاهر في تقليده له وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض واجتمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل واختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد وذلك تقليد محض لهؤلاء وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاءا بتقليد أربابها ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء لضاعت مصالح العباد وتعطلت الصنائع والمتاجر وكانت الناس كلهم علماء مجتهدين وهذا مما لا سبيل إليه شرعا والقدر قد منع من وقوعه
وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وما يصح به الاقتداء وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أنها قد طهرت من
____________________
(1/122)
حيضها ويباح للزوج وطؤها بالتقليد ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول الأوقات للصلاة ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث أرضعتك وأرضعت امرأتك فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بفراقها وتقليدها فيما أخبرت من ذلك
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد فقال جعفر بن غياث سمعت سفيان يقول إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تتهمه وقال محمد بن الحسن يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد من هو مثله وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال وفي الضبع بعير قتله تقليدا لعطاء وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب قلته تقليدا لعثمان وقال في مسألة الجد مع الإخوة أنه يقاسمهم ثم قال وإما قلت بقول زيد وعنه أخذ أكثر الفرائض وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد قلته تقليدا لعطاء وهذا أبو حنيفة في مسائل الآثار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ويصرح في موطئه أنه أدرك العمل على هذا وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا ويقول في غير موضع ما رأيت أحدا اقتدى به يفعله ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال
وقد قال الشافعي في الصحابة رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ونحن نقول أن رأي الشافعي والأئمة معه خير لنا من رأينا لأنفسنا
وقد جعل الله تعالى في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا وذلك عام في كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميعهم معرفة الحق بدليله
والجواب عن معارضته في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخليقة في كونهم علماء بل جعل الله سبحانه هذا عالما وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها وهل ذلك في إمكان فضلا عن كونه مشروعا وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد وكان حديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه ولا يقولون له وعليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك من أحد منهم البتة وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها
____________________
(1/123)
ونقول لمن احتج على إبطاله كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لملتها ورواتها إذا لم يتم دليل قطعي على صدقهم فليس بيدك إلا تقليد الراوي وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم وهذا سمع بأذنه ما رواه وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه وأدى هذا معقوله وفرض على هذا تأدية ما سمعه وعلى هذا تأدية ما عقله وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما
ثم يقال للمانعين من التقليد أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه وهذا متفق عليه بين العقلاء
وقال أصحاب الحجة عجبا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة جيله كيف ابطلتم مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب المستدل بل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تعطوه ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه وذلك وب زور لبستموه ومنصب لستم من أهله غصبتموه فأخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه وبرهان دلكم عليه فنزلت به من الاستدلال أقرب منزل وكنتم به عن التقليد بمعزل أو سلكتم به اتفاقا وبحثا عن غير دليل وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم والرجوع إلى مذهب الحجة لازم ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لسنا من أهل هذا السبيل وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل والعجب أن كل طائفة من الطوائف بل كل أمة من الأمم تدعى أنها على حق حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك ولو ادعوه لكانوا مبطلين فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا بتلك الأقوال الدليل قادهم إليه وبرهان دلهم عليه وإنما سبيلهم محض التقليد والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم تلك أمانيهم وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم
____________________
(1/124)
وأعجب من ذلك انهم مصرحون في كثير ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله سبحانه ولو اشترط الامام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط وكذلك المفتي عليه الافتاء بما يعلم صحته باتفاق الناس والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده وطريق ذلك مسدود عليه ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من أعجب أحوالهم
وايضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رضي الله عنهم رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابع التابعين فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون المفضلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه ص فالمقلدون لمتبوعيهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها ولا يدرون ذلك صوابا أو خطأ على خطر عظيم ولهم بين يدي الله تعالى موقف شديد يعلم فيه من قال على الله تعالى ما لا يعلم أنه لم يكن على شئ
وايضا فنقول لكل من قلد واحدا من الناس دون غيره ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره فإن قال لأنه أعلم أهل عصره وزاد فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه قيل له وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته فان هذا انما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم وهذا أيضا باب آخر من القول على الله تعالى بلا علم
ويقال له ثانيا فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلا قلتدهم وتركته بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك ولم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه فان قال لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني فتقليدي له أوجب على مخالفة قوله لقول من قلدته لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه الا لدليل صار اليه أو هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء قيل له ومن أين علمت الدليل الذي صار اليه صاحبك الذي زعمت أنت وصاحبك أنه أولى من الدليل الذي صار اليه من هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره وقولان معا متناقضان لا يكونان صوابا بل
____________________
(1/125)
أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه
فإن قال علمت ذلك بالدليل فههنا يقال له إذا فقد انتقلت عن منصب التقليد الى منصب الاستدلال وابطلت التقليد
ثم يقال له ثانيا هذا لا ينفعك شيئا البتة فيما اختلف فيه فان من قلدته ومن قلد غيرك قد اختلفا وصار من قلده غيرك الى موافقة أبي بكر وعمر أو علي أو ابن عباس أو عائشة وغيرهم دون من قلدته فهلا نصحت نفسك واهتديت لرشدك وقلت هذان عالمان كبيران ومع أحدهما من ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي اياه
ويقال ثالثا امام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد
ويقال رابعا إذا جاز أن يظفر من قلدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومن دونهم فأجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خفي عليه هو فإن النسبة بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب بكثير من النسبة بينه وبين الصحابة والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة
ويقال خامسا اذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب الاعكس ما ارتكبته
ويقال سادسا هل أنت في تقليد امامك واباحة الفروج والأموال ونقلها عمن هي بيده الى غيره موافق لأمر الله تعالى ورسوله ص أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة فإن قال نعم قيل له ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه وإن قال لا فقد كفانا مؤنته وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه
ويقال سابعا تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه فهذا من مذهبه فهلا اتبعته فيه
ويقال ثامنا هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب من سائر من رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة فإن قال أنا على بصيرة قال ما يعلم بطلانه وإن قال لست على بصيرة وهو الحق قيل له وما عذرك غدا بين يدي الله سبحانه حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل هو خطأ أم صواب
ويقال تاسعا هل تدعي عصمة متبوعك أو تجوز عليه الخطأ والأول لا سبيل اليه بل تقر
____________________
(1/126)
ببطلانه فتعين الثاني واذا جوزت عليه الخطأ فكيف تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الفروج وتنقل الأموال وتضرب الأبشار بقول من أنت مقر بجواز كونه مخطئا
ويقال عاشرا هل تقول اذا حكمت وأفتيت بقول من قلدته إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله ص وانزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه أو تقول أن دين الله تعالى الذي شرعه لعباده خلافه أو تقول لا أدري ولا بذلك من قول من هذه الأقوال ولا سبيل لك الى الأول قطعا فان دين الله الذي لا دين له سواه لا يسوغ مخالفته وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث فيا لله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها لا أدري % فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة % وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم %
ويقال حادي عشر على أي شئ كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم على ذلك بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو ضلالة فلا بد من أن يقروا بأنهم كانوا على هدى فيقال لهم فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله تعالى ورسوله ص وآثار الصحابة على ما يخالفها والتحاكم اليها دون قول فلان ورأي فلان وإذا كان هذا هو الهدى { فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون }
فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك يقول صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى مناهجهم وسلك سبيلهم قيل لهم فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك او انفرد صاحبكم بالاتباع وحرمه من عداه فلا بد من واحد من الأمرين فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلا من الانعام وإن قالوا بالأول فيقال كيف وفقتم بقبول قول صاحبكم كله ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول حتى كان الصواب وقفا على صاحبكم والخطأ وقفا على من خالفه ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على من خالفه في كل ما قاله وهذه حال الفرقة الأخرى معكم
ويقال ثاني عشر من قلدتموهم من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم وأنتم أول مخالف لهم
قال الشافعي مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه وقال أحمد لا تقلد دينك أحدا
ويقال ثالث عشر هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله سبحانه وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأموالهم وعما أفتيتم به في دينه محرمين ومحللين وموجبين
____________________
(1/127)
فان قالوا نحن موقنون بذلك فيقال لهم فاذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم فان قلتم جوابنا انا احللنا أو حرمنا وقضينا بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأي واختيار وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار وبما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم اليه أو سامت هممكم نحوه بل نزلتم عن ذلك طبقات فإذا سئلتم هل فعلتم ذلك عن أمري أو عن أمر رسولي فماذا يكون جوابكم إذا فان أمكنكم حينئذ أن تقولوا فعلنا ما أمرتنا به وأمرنا به رسولك ص فزتم وتخلصتم وان لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين فإن قلتم نحن وأنتم في ذلك السؤال سواء قيل أجل ولكن نفترق في الجواب فنقول يا ربنا إنك تعلم أنا لم نجعل أحدا من الناس عيارا على كلامك وكلام رسولك ص وكلام اصحاب رسولك ونرد ما تنازعنا فيه اليه ونتحاكم الى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه وكان الخلق عندنا أهون من أن نقدم كلامهم وآرائهم على وحيك بل إكتفينا بما وجدنا في كتابك وبما وصل الينا من سنة رسولك وبما افتى به أصحاب نبيك وان عدلنا عن ذلك فخطأ منا لم يكن عمدا ولم نتخذ من دونك ولا رسولك ولا المؤمنين وليجة ولم نفرق ديننا ونكون شيعا ولم نقطع أمرنا بيننا زبرا وجعلنا أئمتنا قدوة لنا ووسائط بيننا وبين رسولك ص في نقلهم ما بلغوه عن رسولك فاتبعناهم في ذلك وقلدناهم فيه إذ أمرتنا أنت وأمرنا رسولك ص بأن نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك ص فسمعا لك ولرسولك وطاعة ولم نتخذهم أربابا نتحاكم الى أقوالهم ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها بل عرضنا اقوالهم على كتابك وسنة رسولك فما وافقهما قبلناه وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه وان كانوا أعلم منا بك وبرسولك فمن وافق قوله قول رسولك ص كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا ونحن نناشدكم الله وهل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي من لا يبدل القول لديه ولا يروج الباطل عليه
ويقال رابع عشر كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم الى آخرهم وجميع التابعين من أولهم الى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم الى آخرهم إلى من قلدتموهم في مكان من لا يعتد بقوله ولا ينظر في فتواه ولا يشتغل بها ولا يعتد بها ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل واعمال الفكر وكده في الرد عليهم إذا خالفت قولهم قول متبوعهم وهذا هو المسوغ للرد عليهم فإذا خالفت قول متبوعهم نصا عن الله تعالى ورسوله ص فالواجب التمحل
____________________
(1/128)
والتكلف في اخراج ذلك النص عن دلالته والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الايمان وتهدم ركنه لولا أن الله تعالى ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه فمن أسوأ أدبا على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين وأشد استخفافا بحقوقهم وأقل رعاية لواجبها وأعظم استهانة بهم ممن لا يلتفت الى قول رجل واحد منهم ولا الى فتوى غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله ص
ويقال خامس عشر اذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام اماما عدلا وحكما مقسطا فبمذهب من يحكم وبرأي من يقضي ومعلوم أنه لا يقضي ولا يحكم إلا بشريعة نبينا ص التي شرعها الله تعالى لعباده فذلك الذي يقضي به عيسى بن مريم ص أحق وأولى هو الذي أوجب الله تعالى عليكم أن تقضوا وتفتوا به ولا يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه البتة
ويقال سادس عشر من عجيب أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله تعالى وكلام رسوله ص مع سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض والإختلاف عليه فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب الله تعالى عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم فعجبا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله تعالى عليه الأدلة من الحق ولم يهتد إليها واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله تعالى على ذلك دليلا واحدا
ويقال سابع عشر أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله تعالى توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية وإذا وجدتم آية تخالف قوله لم تأخذوا بها وتطلبتم بها وجوه التأويل وإخراجها عن ظواهرها حيث لم توافق رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء إذا وجدتم حديثا صحيحا يوافق قوله أخذتم به وقلتم لنا قوله ص كيت وكيت وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل أكثر تخالفه لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون لنا قوله ص كذا وكذا وإذا وجدتم مرسلا يوافق رأيه أخذتم به وجعلتوه حجة هناك فإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه اطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل
ويقال ثامن عشر أعجب من هذا أنكم إذا أخذتم الحديث مرسلا كان أو مسندا لموافقة
____________________
(1/129)
رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكما يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم وهو حديث واحد وكان الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه وليس بحجة فيما خالفه رأيه
ولنذكر من هذا طرفا لأنه من أعجب أمرهم فاحتج طائفة منهم على سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأالرجل بفضل وضوء المرأة أو المرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما وخالفوا نفس الحديث فجوزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل وضوء الآخر وهو المقصود بالحديث فإنه نهى أن يتوضأالرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضل فضلة امرأة أثرا فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به وحملوا الحديث على غير محمله إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فضل منه ليس هو الماء المتوضأ به فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء فاحتجوا به فيما لا يراد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به
ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه ص أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين واحتجوا على نجاسته أيضا بقوله ص إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ثم قالوا لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء فلا يجب عليه غسلها وإن
____________________
(1/130)
شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا لا يجب حفرها بل لو تركت حتى تنشف بالشمس والريح طهرت
واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله ص يا بني عبدالمطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس يعني الزكاة ثم قالوا لا تحرم الزكاة على بني عبدالمطلب
واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء بقوله ص في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ثم خالفوا هذا الخبر نفسه فقالوا لا يحل ما مات في البحر من السمك الطافي ولا يحل مما فيه أصلا غير السمك واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا ولغ
____________________
(1/131)
الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ثم قالوا لا يجب غسله سبعا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثا
واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه تعاد الصلاة من قدر الدرهم ثم قالوا لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم
واحتجوا بحديث ابن أبي طالب في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة وخالفوه في اثنا عشر موضعا منه ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم إن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث نفسه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعا
واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصراة وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارا له ولا يقولون به فإن كان حقا وجب اتباعه وإن لم يكن صحيحا لم يجز الاحتجاج به في تقدير الثلاث مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه
واحتجوا لهذه المسألة أيضا بخبر حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام وخالفوا الخبر كله فلم يثبتوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار
____________________
(1/132)
ما بذل فيه وسواء قال المشتري لا خلابة أو لم يقل وسواء غبن قليلا أو كثيرا لا خيار له في ذلك كله
واحتجوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلا أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استف دقيقا أو بلع عجينا أو إهليلجا أفطر ولا كفارة عليه
واحتجوا على وجوب القضاء على من تعمد القيء بحديث أبي هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا إن تقيأ أقل من ملء فيه فلا قضاء عليه
واحتجوا على تحديد مسافة القصر والفطر بقوله ص لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو مع ذي محرم وهذا مع
____________________
(1/133)
أنه لا دليل فيه البتة على ما ادعوه فقد خالفوه نفسه فقالوا يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم
واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وهذا من العجب فإنهم يقولون إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه
واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضبعا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها والجزاء على قاتلها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا لا يحل أكلها
واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ثلثي ابنة لبون تساوي بنت المخاض أو حمارا يساويها أنه يجزيه بحديث أنس الصحيح وفيه من وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده إلا ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهما وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ويستدلون على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به
واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث لا تقطع الأيدي في الغزو وفي لفظ في السفر ولم يقولوا بالحديث فإنه عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك
واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل
واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى الطعام مع رهط من أصحابه فلما أخذ لقمة قال إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق فقالت المرأة يا رسول الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطعم الأسارى وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا ذبيحة الغاصب حلال ولا تحرم على المسلمين
____________________
(1/134)
واحتجوا بقوله ص جرح العجماء جبار في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما دل عليه وأريد به فقالوا من ركب دابة أو ساقها أو قادها فهو ضامن لما عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها
واحتجوا على أن الإمام يكبر إذا قال المقيم قد قامت الصلاة بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبقني بآمين وبقول أبي هريرة لمروان لا تسبقني بآمين ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا لا يؤمن الإمام ولا المأموم
واحتجوا عل مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليه البتة فإن الفرض سقط بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم
واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله ص إنما جعل الإمام ليؤتم به فقالوا والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه لأن فيه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين
واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له اقرأ ما تيسر من القرآن وخالفوه فيما دل عليه صريحا في قوله ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا وقوله ارجع فصل فإنك لم تصل فقالوا من ترك الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضا لازما مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث
____________________
(1/135)
واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه
واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله
واحتجوا على جواز الكلام والإمام على المنبر يوم الجمعة بقوله ص للداخل أصليت يا فلان قبل أن تجلس قال لا قال قم فاركع ركعتين وخالفوه فيما دل عليه فقالوا من دخل والإمام يخطب فليجلس ولا يصلي
واحتجوا على كراهة رفع اليدين في الصلاة بقوله ص ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فإن فيه إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله فقالوا لا يحتاج إلى ذلك ويكفي غيره عن كل عمل مفسد للصلاة
واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا من فعل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ومن حضر من الصحابة
____________________
(1/136)
فاحتجوا بالحديث فيما لا يدل عليه وأبطلوا العمل فيما دل عليه
واحتجوا بقولهم إن الإمام إذا صلى جالسا لمرض صلى المأموم خلفه قائما بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فجلس وصلى بالناس وتأخر أبو بكر ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا إن تأخر الإمام لغير حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع المأمومين
واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلا فبان نهارا بقوله ص إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا لا يجوز الأذان لصلاة الفجر بالليل لا في رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من وجه آخر فإن في نفس الحديث وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه
واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تستقبلو القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول
واحتجوا على عدم شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام
واحتجوا على الرد بحديث تحرز المرأة ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق
____________________
(1/137)
ابن راهويه وهو الصواب
واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه التمسوا وارثا أو ذا رحم فلم يجدوا فقال أعطوه لأكبر من رأيتم من خزاعة ولم يقولوا به في أن من لا وارث له يعطى ماله للكبير من قبيلته
واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر فقالوا بأول الحديث دون آخره
واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم ابن الحرث في تيمم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام
واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته وقال إئتني بأحجار فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذه ركس ثم خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستنجاء بالروث واستدلوا به على مالا يدل عليه من الاكتفاء بالحجرين
واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها ثم قالوا من صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به قال بعض اهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة { مدهامتان } بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح
____________________
(1/138)
ذلك ولا جبهته بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء أو ضراط أو ضحك أو نحو ذلك
واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة ثم خالفوا صريحه فقالوا إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة
واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر ابنة حمزة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها لخالتها ثم خالفوه فقالوا لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها
واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا لا يرد البيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر برده
واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذي والذي بخبر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد يهوديا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا لا قود في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر
واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله ص من لطم عبده فهو حر ثم خالفوه فقالوا لا يعتق بذلك
واحتجوا ايضا بالحديث الذي فيه من مثل بعبده عتق عليه فقالوا لم يوجب عليه القود ثم قالوا لا يعتق عليه
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب في العين نصف الدية ثم خالفوه في عدة مواضع منها قوله وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية ومنها قوله في السنى السوداء ثلث الدية
____________________
(1/139)
واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه أشهد على هذا غيري ثم خالفوه صريحا فإن في الحديث نفسه إن هذا لا يصلح وفي لفظ إني لا أشهد على جور فقالوا بل هذا يصلح وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه
واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور ثم خالفوه فقالوا لو وطئ العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب
واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم خالفوه صريحا فقالوا لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ولا يغسل الصحيح
واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدا بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وسلم أميركم زيد فإن قتل فعبدالله بن رواحة فإن قتل فجعفر ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا لا يصح تعليق الولاية بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض وإنها أصح من كل ولاياتهم من أولهاإلى آخرها
واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبة القصعة نظيرتها ثم خالفوه
____________________
(1/140)
جهارا فقالوا إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل
واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى
واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر لا قطع في ثمر ولا كثر ثم خالفواالحديث نفسه في عدة مواضع أحدها أن فيه فإذا آواه الجرين ففيه القطع وعندهم لا قطع فيه آواه الجرين أو لم يؤوه الثاني أنه قال إذا بلغ ثمن المجن وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة دراهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر الثالث أنهم قالوا ليس الجرين حرزا فلو سرق منه تمرا يابسا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع
واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهما بخبر فيه أن من جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار وخالفوه جهرة فأوجبوا أربعين
واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني الشفعة كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومن مثل به فهو حر فخالفوا جميع ذلك إلا قوله الشفعة كحل العقال
واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه ومن مثل بعبده فهو حر
واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة وفيه الولد للفراش ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا فقالوا الأمة لا تكون فراشا وإنما كان هذا القضاء في أمة ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يحد بالشبهة وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست فراشا له ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها
____________________
(1/141)
من النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فيقول هل من غداء فتقول لا فيقول فإني صائم ثم قالوا لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه والحديث إنما هو في التطوع نفسه
واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية وفي بيعه إبطال لذلك وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر بأنه قد باع خدمته ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا
واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك في ربعة أو حائط ثم خالفوا نص الحديث نفسه فإن فيه ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به فقالوا يحل له أن يبيع قبل إذنه ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضا بالشفعة ولا أثر للإستئذان ولا لعدمه
واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان ثم خالفوه نفسه فقالوا يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه
واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا لا يقرع بينهم البتة ويعتق من كل واحد سدسه وهذا كثير جدا
والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك وقادكم إليه قهرا ولو حكمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا فإن هذه الأحاديث إن كانت حقا وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها فإما أن تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع وتضعف
____________________
(1/142)
أو ترد إذا خالفت قوله أو تؤول فهذا من أعظم الخطأ والتناقض
فإن قلتم عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه قيل لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ البتة وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها البتة
فإن قيل هي منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه
قيل هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن مالا علم لمدعيه به قائل مالا دليل له عليه فأقل ما فيه أن معارضنا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه ولم يكن بينهما فرق ولا فرق وكلاهما مدع مالا يمكنه إثباته فالواجب اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها وهذا الثاني محال قطعا فإن الأمة ولله الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها وحينئذ يتعين العلم بالناسخ دون المنسوخ وأما أن تترك السنن لقول أحد من الناس فلا كائنا من كان وبالله التوفيق
الوجه التاسع عشر أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم أما أمر الله فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله والمقلدون قالوا إنما نرده إلى من قلدناه وأما أمر رسوله فإنه ص أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ وقال المقلدون بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين فما وافق ذلك منها قبلوه ودانوا الله تعالى به وقضوا به وأفتوا به وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه ومالم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع من غير أن يلزموا بها أحدا ولا يقولون أنها الحق دون ما خالفها هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا
وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين فزيفوا كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ص وأقوال خلفائه وجميع أصحابه وعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها
____________________
(1/143)
قالوا لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يدينوا به واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها حتى إذا كانت موافقة لمذهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليهم ردها بمثل تلك الوجوه بعينها وقالوا لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم
الوجه العشرون أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم فالطريق واحدة والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم شتى وطرقهم مختلفة فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق
الوجه الحادي والعشرون إن الله سبحانه ذم الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله تعالى وما بعث به رسوله فقال تعالى { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وأن يعبدوه وحده ويطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك مسلمين لأمر الله تعالى قابلين لرحمته حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الوقائع تبين له حقيقة الحال وعلم من أي الحزبين هو والله المستعان
الوجه الثاني والعشرون أن الله تعالى قال { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص لا الداعون إلى رأي فلان وفلان
الوجه الثالث والعشرون أن الله سبحانه وتعالى ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد قال تعالى { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فكل من أعرض عن الداعي إلى ما أنزل الله على رسوله إلى غيره فله نصيب من هذا فمستكثر ومستقل
الوجه الرابع والعشرون أن يقال لفرقة التقليد دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده فدينه هوالأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ويبطل بعضها بعضا كلها دين الله
____________________
(1/144)
فإن قالوا بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال كما أن القبلة في جهة من الجهات وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال وإن قالوا الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده كما أن نبيه واحد والقبلة واحدة فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطأه قيل لهم فالواجب إذا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة وتقواه فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه ومعرفة هذا لا يكون إلا بنوع الاجتهاد وطلب وتحر للحق فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولما يقض ما أمره به
الوجه الخامس والعشرون أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعونه منه ص على أقوال علمائهم بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله فلم يكن أحد يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي اصلا وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة ومعلوم أن هذا الواجب لا ينسخ بعد موته ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما يوجبه الله تعالى ورسوله ص
الوجه السادس والعشرون أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ومن المحال أن يحيلنا الله تعالى ورسوله ص على مالا ينضبط ولا ينحصر ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ بقوله كله من الآخر بل نترك قول هذا كله ونأخذ قول هذا كله هذا محال أن يشرعه الله تعالى ويرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله سبحانه
فالغرض حينئذ بيان أن ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفهم غير منضبط فمحال أن يحيلنا الله تعالى ورسوله ص على ذاك
الوجه السابع والعشرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وأخبر أن العلم يقل فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ومعلوم أن كتب المقلدين
____________________
(1/145)
قد طبقت شرق الأرض وغربها ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت ونحن نراها كل عام في ازدياد وكثرة والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس بخلاف الغربة بل هي المعروف التي لا يعرفون غيرها فلو كانت هي العلم الذي بعث الله تعالى به رسوله ص لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر به الصادق
الوجه الثامن والعشرون أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه بل هو حق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وقد قال الله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
الوجه التاسع والعشرون أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه وهذا محال وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق وإن قلتم القولان المتضادان حق فهو أشد حالة ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة
الوجه الثلاثون أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده فإن قال عرفت بالدليل فليس بمقلد وإن قال عرفته تقليدا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه منعه أن يقول غير الحق قيل له فمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ فإن قال بعصمته أبطل وإن جوز عليه الخطأ قيل له فما يؤمنك أنه قد أخطا فيما قلدته فيه وخالفه فيه غيره فإن قال وإن أخطأ فهو مأجور قيل أجل هو مأجور لإجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر بل قد فرطت في اتباع الواجب فأنت إذا مأزور فإن قال كيف يأجره الله تعالى على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قوله وهل يعقل هذا قيل له المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها بها فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والثواب وإن قال وهو الواقع اتبعته وقلدته ولا أدري على صواب هو أم لا فالعهدة على القائل وأنا حاك لأقواله قيل له فهل تتخلص بهذا من الله تعالى عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وعرفه وأفتى به وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء
____________________
(1/146)
الوجه الحادي والثلاثون أن يقال أخذتم بقول فلان لأن فلانا قاله أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فإن قلتم لأن فلانا قاله جعلتم قول فلان حجة وهذا عين الباطل وإن قلتم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله كان هذا أعظم وأقبح فإنه متضمن للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولكم عليه مالم يقله وهو أيضا كذب على المتبوع فإنه لم يقل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دار أمركم بين أمرين لا ثالث لهما إما جعل قول غير المعصوم حجة وإما تقويل المعصوم مالم يقله ولا بد من واحد من الأمرين فإن قلتم بل منهما وبقي قسم ثالث وهو أنا قلنا كذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بأن نتبع من هو أعلم منا ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم ونرد مالم نعلمه إلى استنباط أهل العلم فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا ص قيل وهل ندندن إلا حول أمره فحيهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه هل تتركون قوله لأمره ص وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله وتقولون هو أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو معارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده فتجعلون قول المتبوع محكما وقول الرسول متشابها فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان
ثم نقول في الوجه الثاني والثلاثين أين أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ قول واحد من الأمة بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بما لم يؤمر به قط
يوضحه الوجه الثالث والثلاثين أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بسؤال أهل الذكر والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله تعالى نساء نبيه ص أن يذكرنه بقوله { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } فهذا هو الذكر الذي أمرنا باتباعه وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل اهل العلم بالذكر الذي أنزل الله تعالى على رسوله ليخبروا به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهكذا كان شأن أئمة أهل العلم لم يكن لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبدالله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو سنه لا يسألهم عن غير ذلك وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصا عائشة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم ص فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الإمام الشافعي لأحمد يا أبا عبدالله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث
____________________
(1/147)
فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف ما سواه
الوجه الرابع والثلاثون أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المفتين لصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال قتلوه قتلهم الله فدعا عليهم حين أفتوه بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علما باتفاق الناس فإن ما دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم لأنهم لما أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك ولم ينكره فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم
الوجه الخامس والثلاثون قولهم إن عمر قال في الكلالة إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر وهذا تقليد منه له
فجوابه من خمسة أوجه أحدها أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم به ونحن نذكره بتمامه قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء
____________________
(1/148)
منه وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب اقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها
الوجه الثاني أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرح بذلك فقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم أستخلف إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف قال ابن عمر فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئا سواها لا كما يصرح به المقلدون صراحا
وخلافه في الجد والأخوة معلوم أيضا الثالث أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقاربهم فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد مالا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر الرابع إن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما اتسحيى منه عمر لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب تقليد الشافعي فيا لله العجب ما الذي أوجب تقليده عليكم وحرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ونحن نشهد الله علينا شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله تعالى على أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة
وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ص بتقليده ولا جعله عيارا على كتابه وسنة رسوله ولا هو جعل نفسه كذلك
____________________
(1/149)
الخامس أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع ولا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقته فهذا والله هو الذي أجمعت الأئمة على أنه محرم في دين الله تعالى ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة
الوجه السادس والثلاثون قولهم أن عمر قال لأبي بكر رأينا لرأيك تبع فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من هذا الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها والحديث من أعظم الأشياء إبطالا لقوله ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيا وسنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه قد رأينا ورأينا لرأيك تبع فأين مستراح في هذا لفرقة التقليد
____________________
(1/150)
الوجه السابع والثلاثون قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإن كان يوافقه كما يوافق العالم العالم وحتى لو أخذ بقوله تقليدا فإنما ذلك كان في نحو أربعة مسائل نعدها إذ كان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته له ففي نحو مائة مسئلة
منها أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها
ومنها أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات وعمر كان يضع يديه على ركبتيه
ومنها أن ابن مسعود كان يقول في الحرام هي يمين وعمر يقول هي طلاق واحدة
ومنها أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدا وعمر كان يتوبهما وينكح أحدهما الآخر ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها وعمر يقول لا تطلق بذلك إلى قضايا كثيرة
والعجب أن المحتجين بهذا الأثر لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم
ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه فيه قال شقيق فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعت واحدا يرد ذلك عليه وكان يقول والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما نزلت ولو أعلم
____________________
(1/151)
أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وقال أبو موسى الأشعري كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا منم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له وقال أبو مسعود البدري وقد قام عبدالله بن مسعود ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى لقد كان يشهد إذا ما غبنا ويؤذن له إذا حجبنا وكتب عمر إلى أهل الكوفة إني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبدالله معلما ووزيرا وهما من النجباء ومن أصحاب محمد ص ومن أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإني آثرتكم بعبدالله على نفسي وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود في البتة وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدا له بل لما سمع قوله فيما تبين له أنه الصواب فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضا
وقد صح عن ابن مسعود أنه قال أغد عالما أو متعلما ولا تكونن إمعة فأخرج الإمعة وهو المقلد من زمرة العلماء والمتعلمين وهو كما قال فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله
الوجه الثامن والثلاثون قولهم أن عبدالله كان يدع قوله لقول عمر وأبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب
فجوابه أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفونه من السنة تقليدا لهؤلاء الثلاثة كما يفعله فرقة التقليد بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله قال أبو بكر وعمر ويقول يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس ورضي عنه لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا قال فلان وفلان لمن لا يداني الصحابة ولا قريبا من قريب وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأن هؤلاء يقولون القول فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذي هو أحب إليهم مما سواه وهذا عكس طريقة فرقة التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق وما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس
الوجه التاسع والثلاثون قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قد سن لكم معاذ فاتبعوه
____________________
(1/152)
فعجبا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه كما صار الأذان سنة لقوله ص وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام
فإن قيل فما معنى الحديث قيل معناه أن معاذا فعل فعلا جعله الله تعالى لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أقره النبي صلى الله عليه وسلم لا لأن معاذا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم إلى آخر ما تقدم في المقدمة فصدع رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريق المقلدين وبالله التوفيق
الوجه الأربعون قولكم أن الله سبحانه وتعالى أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به فجوابه إن أولي الأمر قيل هم الأمراء وقيل هم العلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله تعالى ورسوله ص فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التقليد عليها
الوجه الحادي والأربعون أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد وذلك من وجوه أحدها الأمر بطاعته التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه
الثاني طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون العبد مطيعا لله ورسوله حتى يكون عالما بأمر الله تعالى ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ص البتة الثالث أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال الرابع أنه سبحانه وتعالى قال في الآية نفسها { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد
فإن قيل فما هي طاعتهم المختصة بهم إذ لو كانت الطاعة فيما يخبرون به عن الله تعالى ورسوله ص كانت الطاعة لله ورسوله ص لا لهم قيل هذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما
____________________
(1/153)
يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا وليس كذلك بل طاعته واجبة استقلالا سواء كان ما أمر به ونهي عنه في القرآن أو لم يكن
الوجه الثاني والأربعون قولهم أن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية بل الآية من أعظم الأدلة ردا على فرقة التقليد فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة أو خبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم ولله الحمد رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين وقد أعاذهم الله تعالى وعافاهم مما ابتلي به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليدها فهذا ضد متابعتهم وهو عين مخالفتهم فالتابعون بإحسان حقا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله ص رأيا ولا قياسا ولا معقولا ولا قول أحد من العالمين ولا يجعلون مذهب رجل عيارا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقا جعلنا الله تعالى منهم بفضله ورحمته
يوضحه الوجه الثالث والأربعون أن اتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أهل العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من اتباعهم ولكن الجهال أسعد باتباعهم منهم وهذا عين المحال بل من خالف واحدا منهم للحجة فهو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة وهكذا القول في اتباع الأئمة معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام أعني ابن تيمية في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم فقال أنا أتناول ما أتناوله منها بمعرفتي مذهب أحمد لا على تقليدي له ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم فاتبع الناس لمالك بن وهب وطبقته ممن يحكم الحجة وينقاد للدليل إن كان وكذلك أبو يوسف ومحمد اتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داد والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد اتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه وعلى هذا فالوقف على اتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر
الوجه الرابع والأربعون قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم جوابه من وجوه أحدها أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن ابن سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن
____________________
(1/154)
طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها
قلت قال ابن عبدالبر في كتاب العلم حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قراءة عليه أن محمد بن أحمد بن يحيى حدثهم قال حدثنا أبو الحسن محمد بن ايوب الرقي قال قال لنا أبو بكر أحمد بن عمر بن عبدالخالق البزار سألتهم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ما في أيدي العامة يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو أصحابي كالنجوم فبأيها اقتدوا اهتدوا وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبدالرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما رواه عبدالرحيم عن أبيه عن ابن عمر وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبدالرحيم بن زيد لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي فعضوا عليها بالنواجذ وهذا الكلام يعارض حديث عبدالرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه والله تعالى أعلم هذا آخر كلام البزار قال أبو عمر قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم وهذا إسناد لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به وليس كلام البزار بصحيح على كل حال لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه من دينه وكذلك سائر العلماء مع العامة والله أعلم وقد روي في هذا الحديث إسناد غير ما ذكر البزار حدثنا أحمد بن عمر حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثنا علي بن عمر قال حدثنا القاضي أحمد بن كامل قال حدثنا عبدالله بن روح قال حدثنا سلام بن سليم قال حدثنا الحرث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم
قال أبو عمر هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحرث بن غضين مجهول حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثنا سعيد بن عامر قال حدثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم انتهى
____________________
(1/155)
قال ابن القيم في أعلام الموقعين الثاني أن يقال لهؤلاء المقلدين فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدى بها وقلدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه الثالث أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الأخوة منهم ومن أسقط الأخوة به وتقليد من قال الحرام يمين ومن قال هو طلاق وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه وتقليد من قال تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال بوضع الحمل وتقليد من قال يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه وتقليد من أوجب الغسل من الأكسال وتقليد من أسقطه وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة ومن رآه ثلاثا وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منها وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا بقول على قول ولا بمذهب على مذهب بل اجعلوا الرجل مخيرا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم ولا تنكروا على من خالف مذاهبكم واتبع قول أحدهم وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الدليل ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه الرابع أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة وقبول كل ما دعوا إليه فالاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم رضي الله عنهم وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق
الوجه الخامس والأربعون قولكم قال عبدالله بن مسعود من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد ص فهذا من أكبر
____________________
(1/156)
الحجج عليكم من وجوه فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات
الثاني أنه عين المستن بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم وهم الصحابة رضي الله عنهم وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير الثالث أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم وهو أن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به ويفعل كما فعلوا وهذا مبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه الرابع أن ابن مسعود رضي الله عنه قد صح عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد
الوجه السادس والأربعون قولكم قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وقال اقتدوا باللذين من بعدي فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد فإنه خلاف سنتهم ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت بقول غيره كائنا ما كان ولم يكن له معها قول البتة وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك
يوضحه الوجه السابع والأربعون أنه ص قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع والأخذ بسنتهم ليس تقليدا لهم بل اتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان الأخذ بالأذان لم يكن تقليدا لمن رآه في المنام والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدا لمعاذ بل اتباعا لمن أمرنا بالأخذ بذلك فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا
ويوضحه الوجه الثامن والأربعون إنكم أول مخالف لهذين الحديثين فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبا وليس قولهم عندكم حجة وقد صرح بعض غلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافا له وبالله التوفيق
يوضحه الوجه التاسع والأربعون أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم براي فلان ومذهب فلان
الثاني أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ومن المعلوم
____________________
(1/157)
بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ص ويعرض القرآن والسنة عليه ويجعله معيارا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برأ الله سبحانه منها القرون التي فضلها وخيرها على غيرها وبالجملة فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة ولا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها
يوضحه الوجه الخمسون أنه ص قال في نفس هذا الحديث فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثرة الاختلاف وتفاقم أمره سبب التقليد وأهله هم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعا كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا هذا والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم ألا يطيعوا إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجعلوا معه من تكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ولو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل منهم لمن دعاه إلى الله تعالى ورسوله ص وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض ولهذا تجد أقل الناس اختلافا أهل السنة والحديث فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا وأقل اختلافا منهم لما بنوا على هذا الأصل وكلما كانوا عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر فإن من رد الحق مرج عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب كما قال تعالى { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج }
الوجه الحادي والخمسون قولكم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبما قضى به الصالحون فهذا من أظهر الحجج عليكم وعل بطلان التقليد فإنه أمره أن يقدم الحكم بكتاب الله تعالى على كل ما سواه فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها فإن لم يجد في السنة قضى بما قضى به الصحابة ونحن نناشد الله تعالى فرقة التقليد هل هم كذلك أو قريب من ذلك وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحدهم نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى فيها بما أفتى به الصحابة والله شهيد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلدوه وإن استبان
____________________
(1/158)
لهم في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة خلاف ذلك لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه وكتاب عمر من أعظم الأشياء وأكثرها لقولهم بطلانا وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم فلما انتهت الفتوى إلى المتأخرين ساروا عكس هذه السير وقالوا إذا نزلت هذه النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا هل فيها خلاف أو لا فإن لم يكن فيها خلاف لم ينظر في كتاب ولا سنة بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به وهذا خلاف مادل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور فإن علم المجتهد بما دل عليه الكتاب والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام فكيف يحيلنا الله تعالى ورسوله ص على مالا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما ويسرهما لنا وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله ثم كيف يسوغ ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهوما وأحسن أحواله ان يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول إن انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ في زمنهم أن يخالفهم فصاحب هذه الشكوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله وهل أحال الله تعالى الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله ص على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطلاع لأفرادهم عليه وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر متمكنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه هذا من أمحل المحال
وحين نشأت هذه الطريقة تولدت عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول وفتح باب دعواه وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال هذا خلاف الإجماع وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام وعابوا من كل ناحية على من يرتكبه وكذبوا من ادعاه فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ولم يبلغه هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا وقال في رواية المروزي كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال إني لم أعلم مخالفا كان صوابا وقال في رواية أبي طالب هذا كذب ما علم أن الناس يجمعون ولكن يقول ما أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله أجمع الناس وقال في رواية أبي الحرث لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا ولم تزل أئمة الإسلام على تقديم
____________________
(1/159)
الكتاب والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة قال الشافعي الحجة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ص واتفاق الأئمة رحمهم الله وقال في كتاب اختلافه مع مالك والعلم طبقات الأولى الكتاب والسنة الثانية الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة الثالثة أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة الرابعة اختلاف الصحابة الخامسة القياس فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع ثم أخبر أنه إنما يصير إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتاب ولا سنة وهذا هو الحق
وقال أبو حاتم الرازي العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ وما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا معارض له وما جاء عن الأولين من الصحابة ما اتفقوا عليه فإذا اختلفوا لم يخرج عن اختلافهم وإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين فإذا لم يجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد ابن سلمة وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبدالرحمن بن مهدي وعبدالله بن المبارك وعبدالله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي وزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه الحنظلي وأبي عبيد القاسم بن سلام انتهى فهذا طريق أهل العلم وأئمة الدين جعل أقوال هؤلاء بدلا عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء فعدل هؤلاء المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير ثم حدث بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالو إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم يجز له أن ينظر فيها في كتاب الله سبحانه وتعالى ولا سنة رسوله ص ولا أقوال الصحابة بل إلى ما قال مقلده ومتبوعه ومن جعله معيارا على الكتاب والسنة فما وافق قوله أفتى به وحكم به وما خالفه لم يجز أن يفتي به ولا ان يقضي به فإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم واستفتى عليه ما تقول السادة الفقهاء فيمن ينتسب إلى إمام معين يقلده دون غيره ثم ينفي أو يحكم بخلاف مذهبه هل يجوز له ذلك أم لا وهل يقدح ذلك فيه أم لا فينغض المقلدون رءوسهم ويقولون لا يجوز له ذلك ويقدح فيه ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله تعالى ورسوله ص بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله وهذا من أعظم جنايات التقليد على الدين ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارا مجردا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم
____________________
(1/160)
عذر ما عند الله تعالى ولكن هذا مبلغهم من العلم وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين لله تعالى بحججه وبالله التوفيق
الوجه الثاني والخمسون قولكم منع عمر بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضا جوابه من وجوه أحدها أنهم لم يتبعوه تقليدا له بل أداهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده ولم يقل أحد منهم قط إني رأيت ذك تقليدا لعمر
الثاني أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث وإذا اختلفت الصحابة وغيرهم فالحاكم الحجة الثالث أنه ليس في اتباع قول عمر في هاتين المسسألتين وتقليد الصحابة لو فرض ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير في كل ما يقوله وترك قول من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه هذا من أبطل الاستدلال وهو تعلق بيت العنكبوت فقلدوا عمر واتركوا تقليد فلان وفلان وأنتم تصرحون أن عمر لا يقلد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به
الوجه الثالث والخمسون قولكم أن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلت صارت سنة فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ص وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدي به من يراه يفعل ذلك ويقول لولا أن هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعله عمر وهذا هو الذي خشيه عمر والناس مقتدون بعلمائهم شاءوا أو أبوا فهذا هو الواقع وإن كان الواجب فيه تفصيل
الوجه الرابع والخمسون قولكم قد قال أبي بن كعب ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه فهذا حق وهو الواجب على من سوى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به فإذا اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه فإن تبين له صار عالما به مثله وإلا وكله إليه ولم يتكلف مالا علم له به فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنة نبيه ص وأقوال الصحابة وقد جعل الله سبحانه وتعالى فوق كل ذي علم عليما فمن خفي عليه بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم منه فقد أصاب فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة واتخاذ رجل بعينه معيارا على ذلك وترك النصوص لقوله وعرضها عليه وقبول كل ما أفتى به ورد كل ما خالفه وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد فإن أوله فمااستبان لك فاعمل به وإن اشتبه عليك فكله إلى عالمه ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه لها وتعملون بها وتفتون
____________________
(1/161)
وتقضون بموجبها أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله وتقولون هو أعلم بها منا فأبى رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية وهي مبطلة للتقليد قطعا وبالله التوفيق
ثم نقول هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم أعلم الأمة وأفضلها بل تركتم أقوالهم وعدلتم عنها فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم
الوجه الخامس والخمسون قولكم كان الصحابة يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم وهذا تقليد من المستفتين لهم فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله تعالى ورسوله ص وكانوا بمنزلة المخبرين فقط لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلان وإن خالفت النصوص فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم ولا يفتون بغير نصوص ولم يكن للمستفتين لهم اعتماد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم ص فيقولون أمر بكذا وكذا وفعل كذا وكذا ونهى عن كذا وكذا هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعملوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه هؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة ولم يكن فيهم من يأخذ قول أحد من الأئمة يحلل ماحلله ويحرم ما حرمه ويستبيح ما أباحه وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من أفتى بغير السنه منهم كما أنكر على أبي السنابل وكذبه وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر وأنكر على من أفتى بإغتسال الجريح حتى مات وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته وأخبر أن إثم المستفتى عليه فأفتاه الصحابة في حياته ص نوعان أحدهما كان يبلغه ص ويقرهم عليه فهو حجة بإقراره لا بمجرج إفتائهم الثاني ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون
وانظر بقية الأوجه في أعلام الموقعين وقد أنهاها إلى مائة وسبعين وجها وأجاب عن بقية شبههم شبهة شبهة وفيما ذكرناه كفاية والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب
فصل في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاواهم وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن القيم في أعلام الموقعين اعلم أن فتاوي الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين وفتاوي التابعين أولى من فتاوي تبع التابعين وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم أقرب كان الصواب فيه أغلب وهذا الحكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل كما أن عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص
____________________
(1/162)
ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والرأي ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم بل لا يلتفت غلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم بل لا يعد قول سعيد ابن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح وأبي وائل وجعفر ابن محمد وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به بل يرى قول المتأخرين من أتباع من قلده مقدما على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد ابن ثابت وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم فلا يدري ما عذرهم غدا عند الله عز وجل إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاواهم وأقوال هؤلاء وفتاواهم فكيف إذا رجحها عليها فكيف إذا عين الأخذ بها حكما وإفتاءا ومنع الأخذ بقول الصحابة واستجاز عقوبة من خالف من المتأخرين لها وحكم عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام تالله لقد أخذ بالمثل المشهور رمتني بدائها وانسلت وسمي ورثة الرسول باسمه هو وكساهم أثوابه ورماهم بدائه وكثير من هؤلاء يصرح ويصرخ ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر عثمان وعلي وغيرهم من الصحابة وهذا كلام من أخذ به وتقلده ولاه الله ما تولى ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى والذي ندين الله به ضد هذا القول والرد عليه فنقول
إذا قال الصحابي قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر وإن خالفه أعلم منه كما إذا خالف الخلفاء الراشدين أو بعضهم غيرهم من الصحابة في حكم فهل يكون الشق الذي في الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجة على الآخرين
____________________
(1/163)
فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد والصحيح أن الشق الذي فيه الخلفاء أو بعضهم أرجح وأولى أن يؤخذ به من الشق الآخر فإن كان الأربعة في شق فلا شك أنه الصواب وإن كان أكثرهم في شق فالصواب فيه أغلب وإن كانوا اثنين واثنين فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصديق في الجد والأخوة وكون الطلاق الثلاث بفم واحد مرة واحدة وأن تلفط فيه بالثلاث وجواز بيع أمهات الأولاد
وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصديق أرجح ولا يحفظ له خلاف نص واحد أبدا ولا يحفظ له فتوى ولا حكم ومأخذهما ضعيف أبدا وهذا التحقيق لكون خلافته خلافة نبوة
وإن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع وقال شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا فاختلف الناس هل يكون حجة أم لا فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة هذا قول جمهور الحنفية صرح به محمد بن الحسن وذكره عن أبي حنيفة نصا وهذا مذهب مالك وأصحابه وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع واختيار جمهور أصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد فأما القديم فأصحابه مقرون به وأما الجديد فكثير منهم يحكى عنه أنه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابة ليس بحجة وغاية ما تعلق به من نقل ذلك أنه يحكى أقوالا للصحابة في الجديد ثم يخالفها ولو كانت عنده حجة لم يخالفها وهذا تعلق ضعيف جدا فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى منه في نظره لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة بل خالف دليلا لدليل أرجح عنده منه وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالمنصوص بل يعضدها بضروب من الأقيسة فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عيها بل يعضدها بدليل آخر وهذا أيضا تعلق أضعف من الذي قبله فإن
____________________
(1/164)
تظافر الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادات أهل العلم قديما وحديثا ولا يدل ذكرهم دليلا ثانيا وثالثا على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل
وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابة حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو اثرا فهذه البدعة الضلالة والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة انتهى كلام صاحب الأعلام بطوله
قلت وقد تقدم كلام الشافعي في كون قول الصحابي حجة إن لم يوجد كتاب ولا سنة في المقصد الثالث فراجعه ولنختم الخاتمة بفوائد تتعلق بالفتوى
الأولى قال ابن القيم رحمه الله ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل عليه في أحسن بيان وقول الفقيه المعين ليس كذلك وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري حتى خلف من بعدهم خلف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص فأوجب ذلك هجر النصوص ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي ما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد مالا يعلمه إلا الله فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ولما كان هي عصمة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهلم جرا
ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الهوى والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض
قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون قال الله تعالى كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صا وهذا عيبا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعهم قال الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله ورسوله ص لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين وإنما يحتج بكلام الله ورسوله ص فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة وأما فروعهم فقنعوا فيها بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله تعالى ولا عن رسوله ص ولا عن
____________________
(1/165)
الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف وأجلهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ الكتاب ويقول هكذا قال وهذا لفظه فالحلال ما أحل ذلك الكتاب والحرام ما حرمه والواجب ما أوجبه والباطل ما أبطله والصحيح ما صححه هذا وأنى لنا بهؤلاء في مثل هذا الزمان فقد دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجا وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجا تبدل فيها الأحكام ويقلب الحلال بالحرام ويجعل فيه المعروف في أعلى مراتب المنكرات والمنكر الذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات الحق فيه غريب وأغرب منه من يعرفه وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس قد فلق بهم فالق الإصباح صبحه من غياهب الظلمات وأبان الطريق المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات فأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه اكثر الخلق من البدع المضلات ما رفع له علم الهداية فشمر إليه ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه فطوبى له من وحيد على كثرة السكان غريب على كثرة الجيران بين قوم رؤيتهم قذى العيون وشجى الحلوق وكرب النفس وحمى الأرواح وغم الصدور ومرض القلوب إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف وإن طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس فقد انتكست قلوبهم وعمى عليهم مطلوبهم رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان ولا والله ما ابتلت من وشله أقدامهم ولا زكت به عقولهم وأحلامهم ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذا بكت بمدادها أقلامهم أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس ضيعوا الأصول فحرموا الوصول وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامه الحيرة وبيداء الضلالة
والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه غير يسير
الفائدة الثانية حكم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة لسان الراوي ولسان المفتي ولسان الحاكم ولسان الشاهد
فالراوي يظهر على لسانه لفظ حكم الله ورسوله والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من اللفظ والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم الله وتنفيذه والشاهد يظهر على لسانه الأخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى
____________________
(1/166)
العلم فيكونوا عالمين بما يخبرون به صادقين في الإخبار به وآفة أحدهم الكذب والكتمان فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حاد الله في شرعه ودينه وقد أجرى الله سنته أن يمحق عليه بركة علمه ودينه ودنياه ومن التزم الصدق والبيان منهم في مرتبته بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه وكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما فبالكتمان يعزل عن سلطانه وبالكذب بقلبه عن وجهه والجزاء من جنس العمل فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يلبسه أهل الصدق والبيان ويلبسه ثوب الهوان والمقت والخوف بين عباده فإذا كان يوم اللقاء جازى الله من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه جزاءا وفاقا وما ربك بظلام للعبيد
الفائدة الثالثة لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه لما لا يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته وإذا ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه فليس له أن يشهد على الله ورسوله به ويغر الناس بذلك ولا علم له بحكم الله ورسوله قال غير واحد من السلف ليحذر أحدكم أن يقول أحل الله كذا أو حرم كذا فيقول الله لم كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه وثبت في صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله قال إذا حاصرت قوما فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها أحدهم يقول زفر فقلت ما هذه الحكومة فقال هذا حكم الله فقلت له صار حكم زفر حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة هذا حكم زفر وقوله ولا تقل هذا حكم الله ورسوله أو نحو هذا من الكلام
الفائدة الرابعة ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله أن يفتي السائل بمذهب الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلا فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنا لله ورسوله وغاشا له والله لا يهدي كيد الخائنين وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله والدين النصيحة والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق وكثيرا ما نرد المسألة نعتقد فيها خلاف المذاهب ولا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونقول هذا هو
____________________
(1/167)
الصواب وهو أولى ما يؤخذ به وبالله التوفيق
الفائدة الخامسة إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما وجده فيه فقالت طائفة من المتأخرين ليس له ذلك لأنه قد يكون منسوخا أوله معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب أو يكون عاما له مخصص أو مطلقا له مقيد فلا يجوز له العمل به ولا الفتيا به حتى يسأل أهل الفقه والفتيا وقالت طائفة بل له أن يعمل به ويفتي به بل يتعين عليه كما كان الصحابة يفعلون اذا بلغهم الحديث عن رسول الله وحدث به بعضهم بعضا بادروا الى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ولا يقول أحد منهم قط هل عمل بهذا فلان وفلان ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبعد الزمان عنها لا يسوغ ترك الأخذ بها والعمل بغيرها ولو كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان معيارا على السنن ومزكيا لها وشرطا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله الحجة برسوله ص دون آحاد الأمة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ سنته ودعا لمن بلغها فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الامام فلان والامام فلان لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان
قالوا والنسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة بل ولا شطرها فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب الى المنسوخ أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين فلا يفرض إحتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به الا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه
والصواب في هذه المسألة التفصيل فان كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به ولا يطلب له التزكية من قول فقيه وامام بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه وإن كانت دلالة خفية لا يتبين له المراد فيها لم يجز له أن يعمل ولا يفتي بما يتوهمه مرادا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه وان كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده والأمر على الوجوب والنهي على التحريم فهل له العمل والفتوى به يخرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره الجواز والمنع والفرق بين العام فلا يعمل له قبل البحث عن المخصص
____________________
(1/168)
والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض وهذا كله اذا كان ثم نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية وأما إذا لم يكن ثم اهلية قط ففرضه ما قال الله { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العى السؤال وإذا جاز إعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه وكلام شيخه وإن علا وصعد فاعتاد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز واذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرفه معناه كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي وبالله التوفيق
الفائدة السادسة يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص وإن وافق مذهبه
ومثاله أن يسأل عن رجل صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس فهل يتم صلاته أم لا فيقول لا يتمها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فليتم صلاته ومثل أن يسأل عمن مات وعليه صيام هل يصوم عنه وليه فيقول لا يصوم عنه وليه وصاحب الشرع يقول من مات وعليه صوم صام عنه وليه ومثل أن يسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه هل هو أحق به فيقول ليس هو أحق به وصاحب الشرع يقول هو أحق به ومثل أن يسأل عن أكل كل ذي ناب هل هو حرام فيقول ليس بحرام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكل كل ذي ناب من السباع حرام ومثل أن يسأل عن رجل له شريك في أرض أو دار أو بستان هل له أن يبيع حصته قبل إعلام الشريك بالبيع وعرضها عليه فيقول نعم يحل له أن يبيع حصته قبل إعلام شريكه بالبيع وصاحب الشرع يقول من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ومثل
____________________
(1/169)
أن يسأل عن قتل المسلم بالكافر فيقول نعم يقتل المسلم بالكافر وصاحب الشرع يقول لا يقتل المسلم بالكافر ومثل ان يسأل عن الصلاة الوسطى فيقول ليست العصر وصاحب الشرع يقول صلاة العصر ومثل ان يسأل عن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه هل هو مشروع في الصلاة أو ليس بمشروع أو مكروه وربما غلا بعضهم فقال إن صلاته باطلة وقد روى بضعة وعشرون نفسا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرفع يديه عند الإفتتاح والركوع والرفع منه بأسانيد صحيحه لا يشكون فيها ومثل ان يسأل عن إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ليلة الاغمام يقول لا يجوز إكماله ثلاثين يوما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فان غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما وأمثلته كثيرة وفيما ذكرناه كفاية وقد أنهاها ابن القيم الى مائة وخمسين مثالا والله الموفق للصواب واليه المرجع والمآب
الفائدة السابعة الاجتهاد هل هو يقبل التجزي والإنقسام فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره أو في باب من الأبواب كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها وإستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أو في باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه ولا يكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الافتاء بما لا يعلم في غيره وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه فيه ثلاثة أوجه أصحها الجواز بل هو الصواب المقطوع به والثاني المنع والثالث الجواز في الفرائض دون غيرها
فحجة الجواز أنه عرف الحق بدليله وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك النوع حكم المجتهد المطلق
فإن قيل فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين هل له ان يفتي بها أو بهما قلنا نعم في أصح القولين وهما وجهان لأصحاب أحمد وهل هذا الا من التبليغ عن الله ورسوله ص وجزى الله من أعان الاسلام ولو بشطر كلمة خيرا ومنع هذا من الافتاء بما علم خطأ محض وبالله التوفيق
إنتهى كلام ابن القيم بطوله وبتمامه قد إنتهى ما رمناه وتم ما أردناه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى صآله وصحبه أجمعين
____________________
(1/170)