تَأْلِيفُ
الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
غَفَر الله لَهُ وَلِوالدَيه وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِين
مَنْ أَرادَ طباعته لوَجه الله تعَالى لا يُريد به عَرضًا مِنْ الدّنيا فقد أُذِنَ لَهُ وَجزاه الله عني وعَن المُسلِمين خَيرًا، أَسْأل اللهَ الكريمَ العَلي العَظِيم الرّؤف الرَّحِيم أَنْ يَنْفَع بِه مَنْ قَرَأه وَمَنْ سَمِعَهُ وَأن يأجر مَن دَل عَليه أو سَعى بهِ إِلَى مَنْ ينتفِع بِه، اللهُم صَلِ عَلى محمَّد وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِه أجْمعِين
وَقْفٌ للهِ تَعَالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي منَّ علينا بالإيمان والإسلام، وتفضل ببيان الشرائع والأحكام، ووعد من أطاعه واتبع رضاه الثواب في دار السلام.
وأوعد من عصاه بالعقاب في دار الهوان والانتقام.
نحمده على ما أفاض علينا من الأنعام، ونشكره شُكرُ المنعم واجبٌ على الأنام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام.
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه السادة الأعلام.
وبعد؛ فإني قد جمعت بعون الله وتوفيقه في كتابي هذا فوائد ومواعظ ونصائح وحِكًمًا وأحكامًا ووصايا وآدابًا وأخلاقًا فاضلة من كلام الله جل جلاله وتقدَّسَتْ أسماؤه، ومن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن كلام أئمة السلف، وصالح الخلف الذي امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم ما قاله الله جل جلاله، وما قاله رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وجمعت مما قاله الحكماء والعلماء والعباد والزهاد أنواعًا جمة في فنون مختلفة وضروب متفرقة ومعاني مؤتلفة، بذلت في ذلك جُهدي حسب معْرفتي وقُدْرتي.
لكنَّ قُدْرَهَ مِثْلِي غَيْرُ خَافَيَةٍ ... والنَّمْلُ يُعْذَرُ في القَدْرِ الذي حَمَلَا
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا الله يا حي ويا قيوم يا من لا تأخذه سنةٌ ولا نوم.(1/1)
يا بديع السموات والأرض.
فالق الحب والنوى ذا الجلال والإكرام.
الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الأول الآخر الظاهر الباطن الذي أحاط بكل شيء علمًا.
القوي العزيز الرحمن الرحيم الغفور الودود ذا العرش المجيد المبدؤ المعيد الفعال لما يُريد.
نسألك أن تجعل عملنا خالصًا لوجهك الكريم وأن تفتح لدُعَائِنَا باب القبُول والإجَابة.
وأن تنفع بهذا الكتاب من قرأه ومن سمعه وأن تأجر من طبعهُ أو أعان على طبعه.
أو تسبَّبَ لطبعه وقفًا لوجهك الكريم يُوزع على من ينتفع به من المسلمين.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
عبدالعزيز آل محمد السلمان
فصل في الحكمة
قال الله تبارك وتعالى: { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } ، وعن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أَهْدَى المرءُ المسلمُ لأخيه هديةً أفضلَ مِنْ حكمَةٍ يزيْدُهُ بهَا هُدَى ويَرُدُهُ بها عن رَدَى» أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان»، وأبو نعيم في «الحلية».
وقال –عليه الصلاة والسلام-: «أوتيتُ جوامع الكلم واخْتُصَرتْ لي الحكمةُ اخْتصارًا».
في «الصحيحين»: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُعثتُ بجوامع الكلم».
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حِكْمةً فهو يقضي بها ويعلمها» رواه البخاري ومسلم.(1/2)
وقيل: إن في التوراة أن الله قال لموسى –عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-: «عَظّم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأوردت أن أغفر له فتعلمها، ثُم اعمل بها، ثُم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة».
وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني أوتيْتُ جَوَامِعَ الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصارًا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصارًا».
وقال لقمان: إن القلب ليحيا بالكلمة من الحكمة كما تحيا الأرضُ بوابل المطر.
وقال أبان بن سليم: كلمة حكمة من أخيك خيرٌ لك من مال يعطيك.
وقال بعض الحكماء: الحكمة صديقة العقل، وميزان العدل، وعين البيان، وروضة الأرواح، ومزيحة الهموم عن النفوس بإذن الله، وأنس المستوحش، وأمن الخائف، ومتجر الرابح، وحظ الدنيا والآخرة بإذن الله لمن وفقه الله، وسلامة العاجل والآجل لمن وفقه الله.
وقال آخر: الحكمة نور الأبصار، وروضة الأفكار، ومطية الحلم، وكفيل النجاح، وضمين الخير والرشد، والداعية إلى الصواب، والسفير بين العقل والقلوب.
لا تندرس آثارها ولا تعفو ربوعها كل ذلك لمن وفقه الله تعالى.
وروي عن الشعبي أنه قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة واحدة ينتفع بها فيما يُستقبل من عمره ما رأيت أن سفرهُ قد ضاع.
وقال بعض العلماء: من تفرد بالعلم لم تُوحشه الخلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، وإن هذه القلوب تملُ كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.
والحكمة موقظة للقلوب من سنة الغفلة، ومنقذة للبصائر من سنة الحيرة ومحيية لها بإذن الله من موت الجهالة ومستخرجة لها من ضيق الضلالة لمن وفقه الله تعالى، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
حكم وفوائد ومواعظ(1/3)
قيل لبعض العلماء: لم تركت مجالسة الناس؟ قال: ما بقي إلا كبير يتحفظ عليك أو صغير لا يوقرك.
من سوء الأدب في المجالسة: أن تقطع على جليسك حديثه أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به تُريه أنك احفظ له منه.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المجالسُ بالأمانة، وإنما يتجالس الرجلان بأمانة الله –عز وجل- فإذا تفرقا فليسترُ كل منهما حديث صاحبه».
روي عن عيسى ـ عليه السلام ـ أنه قال: جالسوا من تُذكركم بالله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله.
قال مسعرُ بن كدام: رحمن الله من أهدى إلي عيوبي في سترٍ بيني وبينه، فهو الناصح، فإن النصيحة في الملأ تقريع.
إياك وكل جليس لا يفيدك علمًا ولا تكسب منه خيرًا، وإياك وطول المجالسة لمن لا يفيدك علمًا نافعًا، فإن الأسد إنما يجترؤ عليها من أدام النظر إليها.
وقيل: أزهد الناس بالعالم أهلهُ وجيرانه لكثرة الاتصال بينهم، كل شيء إذا تكرر يمل إلا كلام الله وكلام رسله.
جمي الكتب يُدرك من قراها
سوى القرآن فافهم واستمع لي ... ملال أو فتورٌ أو سآمةْ
وقول المصطفى يا ذا الشهامةْ
وقال آخر: يا بُني لا تُمكن الناس من نفسك، فإن أجرأ الناس على السباعِ أكثرُهم لها مُعاينةً.
قال الشاعر:
رأيتُ حياة المرء تُرخصُ قدرهُ
كما يُخلق الثوب الجديد ابتذاله ... فإن مات أغلتهُ المنايا الطوائحُ
كذا تخلقُ المرء العيون اللوامعُ
وقال بعض العلماء يصف أهل بلده:
يرون العجيب كلام الغريب
وجوابُهم عند تعنيفهم ... وأما القريبُ فلا يُعجبُ
مُغنية الحي لا تُطرب
من التواضع الرضا بالدُون من المجلس.
ويروى عن ابن مسعود أنه قال: إنَّ من التواضع أن ترضى بالدُون من المجلس، وأن تبدأ السلام من لقيت.
قال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليجلس مع القوم فيتكلَّمُ بالكلام يُريد الله به فتصيبهُ الرحمة فتعم من حوله.
وإن الرجل يجلس مع القوم فيتكلمُ بالكلام يسخطُ الله به فتصيبه السخطة فتعمُ من حولهُ.(1/4)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحدِّثُ الناسَ فَيَكِْذبُ لِيُضْحِكَهُمْ وَيْلٌ لَهُ ثُم وَيْلٌ لَهُ».
قلت: وفي زمننا هذا قد كثروا جدًا فكُن على حذر منهم ومن يتصلُ بهم عافنا الله وإياك من شرهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
فصل في حكم وفوائد ومواعظ ووصايا ينبغي الاعتناء بها
أجلُّ السرور رضى الرب جلَّ وعلا وتقدَّس.
أغنى الغنا صحةُ العقيدة والفقه في الدين.
القلوب الفارغة من طاعة الله مُوكلةٌ بالشهوات.
أفضل أمر الدين والدنيا وأشرفه العلم النافع والعمل الصالح والعلم النافع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أفضل ما في الآخرة رضى الله ورؤيته وسماع كلامه.
ومما أوصى به بعضهم ما يل:
لا تمل مع الهوى وحلاوة الدنيا فإنهما يصُدَّانكَ عن الشغل بمعادكَ وتكون كالغريق المشتغل عن التدبير لخلاص نفسه بحملِ بضاعةٍ ثقيلة قد اغتر بحسنها وهي سبب عطبه.
وقال: أبعدوا عن مُخالطة الخونة والفسقة ومُبتغي الملاهي والضلال وأصحاب البدع كالأشاعرة والرافضة والمعتزلة والجهمية والصوفية المنحرفة.
واحذر أن تغترَّ بقول المُغفلين نُخالطُهْمَ لنجذبَهُم إلى الاستقامة وهذا غلط.
أهل البدع والفسقة وأصحاب الملاهي كأصحاب الكورة والتلفاز والفيديو مجالستهم تضر وهم مرضاء عقول.
والصحيح هو الذي يتضرر بمخالطة المريض، وأما المريض فلا يبرأ بمخالطة الصحيح، وقديمًا قيل:
وما ينفع الجرباء قُربُ صحيحةٍ ... إليها ولكنَّ الصحيحة تُجْرَبُ
يبقى الصالح صالحًا حتى يُصاحب فاسدًا، فإذا صاحبهُ فسد مثل مياه الأنهار تكونُ حُلوةً عذبةً حتى تُخالِطَ ماء البحر، فإذا خالطته ملُحتْ وامترتْ وفسدتْ.
ولكن الدعاية إلى مخالطة أهل المنكر لجذبهم عنه خِدْعَة من إبليس وأتباعه لِسُخَفَاءِ العُقول.
فكم أوقعوا في هذه الشبكة من مُغفَّل زعم أنه يجذبهم فجذبوه وأغرقوه وبقي في الحسرة والندامة.(1/5)
وقال: اعلموا واستيقنوا أن تقوى الله سبحانه وتعالى هي الحكمة الكبرى والنعمة العُظمى والسببُ الداعي إلى الخير والفاتح لأبواب الفهم والعقل والخير.
كَيْفَ الرَّحيلُ بلا زادٍ إلى وطن
من لم يكن زادُه التقوى فليس له ... ما ينفعُ المرء فيه غيرُ تقواهُ
يوم القيامة عُذْرٌ عند مولاهُ
وقال: استشعروا الحكمة، وابتغوا الديانة، وعودُوا أنفسكم الوقارَ والسكينة، وتحلوا بالآداب الحسنة الجميلة، وتروَّوْا في أموركم، ولا تعجلوا ولاسيما في مُجازاة المُسيء.
واجعلوا خشية الله حشو جنوبكم في الحكم، واحذروا النِّفاق والرياء ولا تُزكوا الخونة ولا تُخونوا الأزكياء.
وقال: إذا جادلكم المخالفُون لكم في الدين بالفضاضَة والغلظة وسُوء القول فلا تقابلوهُم بمثل ذلك، بل قابلُوهُم بالرفقِ واللين واللطف والدلالة والهداية.
قال الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
وقال جلا وعلا وتقدس: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
وقال عز من قائل في صفة أهل العبودية الخاصة: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } ، وقال: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } ، وقال جل وعلا وتقدس: { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } ، وقال عز من قائل: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ } .
إذا نطقَ السفيهُ فلا تجبهُ(1/6)
سَكَتُّ عن السفيهِ فظنَّ أني ... فخيرٌ من إجابَتِهِ السُكُوت
عييتُ عن الجواب وما عييتُ
وقال حكيم: أكثروا من الصمت في المحافل ولا تطلقوا ألسنتكم بحضرة المتحفظين عليكم بِمَا عَسَى أن يجعلوه سلاحًا يضربونكم به وأقلوا المراء والهذْر والفضلَ من القول.
واحذروا مصاحبة الأشرار، وأصحاب البدع في الدين، والحساد، والمشتغلين على العداوة والأحقاد والجهال.
وإذا هممتم بالخير فقدموا فعله لئلا يعارضكم سواه فتوقفوا عنه، قال الشاعر:
وإذا هممت بأمر سوءٍ فاتئدْ ... وإذا هممت بأمر خير فاعْجَل
وقال: اتفقوا، وتحابوا في الله، وثابروا على الأعمال الصالحة من صيام وصلاة مع الجماعة وزكاة وحج ببصائر صافية ونية نقية صالحة غير متقسمة ولا مشوبة، وتوادوا على طاعة الله عز وجل والتقوى له، واسعوا للخير، وافعلوا له، واجتهدوا فيه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل
عباد الله: احرصوا على تأديتكم لفرائض الله بالكمال والتمام والخشوع والخضوع، من غير عُجبٍ ولا استكبار، وإيَّاكم والتفاخر والتكاثر.
وعليكم بالسكينة والإخبات والتواضع لتستثمروا الخير من عمالكم، وتفوزوا برضاء ربكم.
وإذا فرط من الإنسان بادرة إثم بأن ارتكب منكرًا فعليه أن يُقلع فورًا ويتوب توبةً نصوحًا ولا تحمله السلامةُ منها على العودة إليها.
فإنها وإن سترت عليه في الدنيا، فإن أمامه يومُ الدين يومُ المجازات على الأعمال، قال الله جل وعلا وتقدس: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ } .
وأوصيكم بالتمسك بكتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله جل وعلا وتقدس: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ».(1/7)
وتأدبوا بأدابهما، أي الكتاب والسُّنة، واقتدوا بالعلماء العاملين بعلمهم الذي جَعلوا الدنيا مطية للآخرة.
واحذروا كل الحذر من المتسمين بالعلم الذين هدفهم الدنيا فقط، فضررهم عظيم وتحرزوا من المآكل الخبيثة، فإن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا.
واحتشموا المكاسب الدَّنيئة، فإنها سببٌ لعدم قبول الدعاء.
اجمعوا بين محبة الديانة والحكمة وقفوا نفوسكم على تعلمها.
وإن قدرتم على أن يكون زمان مقامكم في هذه الدنيا مصروفًا بأسره إلى العمل بالكتاب والسُّنة فافعلوا.
ومتى كنتم بهذه الصفة سهل عليكم ما يصعب على غيركم، وكان ما يحصل لكم من شرف الفضيلة أنفع من ذخائر الأموال؛ لأن عروض الدنيا تفنى ولا تبقى وثواب الله يبقى ولا يفنى.
قال الله جل وعلا وتقدس: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، وقال جل وعلا وتقدس: { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } عباد الله ساووا بين ظواهركم وبواطنكم في المخاطبات بينكم، ولا تكن ألسنتكم مخالفة لضمائركم.
ولا تُخالفوا الرأي الصواب، ومشاورة النُصحاء؛ لتأمنوا من الندامة، ويسلموا من الملامة.
ولتكن أفواهكم مملوءة بحمد الله، وذكره، وشكره، والثناء عليه وتقديسه وتنزيهه عن النقائص والعيوب.
وليكن همكم مصروفًا إلى طاعة ربكم سبحانه وتعالى، واجتهدوا في دعائه بقلوب سليمة، واعتقادات مستقيمة.
يستجب لكم، ويبلغكم آمالكم، ويفتح لكم أبواب الرشد في مساعيكم ومتوجهاتكم، ويعصمكم من أفكار السُوء، ويحفظ أنفسكم من المكاره، وينجيكم من فخاخ الآثام، ويردَّ عنكم المخاوف، فما من دابة إلا هو آخذٌ بناصيتها.
وقال: اكتسبوا الأصدقاء، وقدموا الاختبار لهمن قبل الاستنامة إليهم، ولا تعجلوا بالثقة بهم قبل الاختبار، لئلا يلحقكم الندم والأسف، وتنالكم منهم المضرة.
أبل الرجال إذا أردت إخاءهُمْ
فإذا ظفرتَ بذي الأمانة والتُّقى ... وتوسَّمنَّ أمورُهم وتفقَّد(1/8)
فبه اليدين قريْرَ عَيْن فاشْدُد
صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح، وصحبة أهل الشر والفساد تورث في القلب الفساد.
أخوك من عرَّفك العيوب، وصديقك من حذَّرك من الذُنُوب.
كان بعض العلماء لا يدع أحدًا يغتاب في مجلسه أحدًا، يقول: إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم.
وقال آخر: لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوهُ في السر.
وقال: كل ما شغلك عن الله عز وجل من أهل ومال وولدٍ فهو عليك شُؤمٍ.
إذا كانت الآخرة بالقلب جاءت الدنيا تزاحمُها وإذا كانت الدنيا بالقلب لم تزاحمها الآخرة؛ لأنها كريمة، فاجعل الآخرة في قلبك.
ومن أعطاه الله فضلاً في دنيا فليحمد الله، وليكثر من شكره وذكره، ولا يفخرنَّ به على أخيه، ولا يتداخله الكبرُ والعجبُ والتعاظمُ.
وقال: لا تبدر منكم عند الغضب كلمةُ الفحش، فإنها تزيد العار والمنقصة، وتلحقُ بكم العيب والهجنة، وتجر عليكم المآثم والعُقوبة.
وقال: خير الملوك شرفًا من بدل سُنة السوء في مملكته بالسُّنة الصالحة، وشرهم من بدَّل السُّنة الصالحة الحسنة بالسُنة السيئة.
والدليل على غريزة الجود السماحةُ عند العسرة ومعنى العُسرة (الضيق والشدة).
والدليل على غريزة الورع الصدق عند السخط والبُعد عن الشبهات ومواضع الريب والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره والتفتيش على المآكل والمشارب والملابس ونحوها بدقة.
والدليل على غريزة الحلم العفو عند الغضب.
ومن أعظم الناس مُصيبة من لم يكن عقل ولا حكمة، ولا له في الأدب رغبة.
لا يبخل بالعلم على مستحقيه إلا جاهل قليل العلم، وإن لم يكن قليل العلم فهو دنيء الهمة حسَّاد.
ومن جاد بالعلم والحكمة فهو أفضل ممَّن جاز بالمال وأبقى لذكره؛ لأن المال يفنى والعلم يبقى، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فصل يحتوي على حكم وآداب متنوعة
ما ينبغي للعالم أن يطلب طاعة غيره وطاعة نفسه ممتنعة عليه.
يَا أيُّها الرجلُ المُعَلِّم غيرَهُ(1/9)
تَصِفُ الدواءَ لِذِي السِقامِ مِن الضنى
ما زِلْتَ تُلْقَحُ بالرشَّادِ عُقُولنا ... هَلاَّ لِنَفْسِكَ كانَ ذَا التَّعْلِيْمُ
كيما يَصِحُ بِهِ وأنْتَ سَقيمُ
عظت وأنت من الرشاد عَدِيْمُ
إذا وليت أمرًا فأبعد عنك الأشرار والفسقة والمجرمين، فإن جميع عُيوبهم تُنسبُ إليك رضيت أم سخطت.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
آخر:
فإنَّ قَرِينَ السُوءِ يُرْدِي وشَاهِدِي ... كما شَرقَتْ صَدْرُ القَنَاة من الدَّمِ
الحكمة كالجواهر في الصدف في قعور البحار، فلا تنال إلا بالغواصين الحذَّاق.
العاقل لا تدعُهُ عيوبه يفرح بما ظهر من محاسنه.
النصح بين الناس تقريع.
إعادة الإعتذار تذكير للذنب وما عفا عن الذنب من ويَّخ به.
رب كلام جوابه السكوت، ورب عملٍ الكفُ عنه أفضل، ورب خصومة الإعراض عنها أصوب.
الدنيا تُهينُ مَن كانْتْ تكْرمُه
نَميْرُ من أمِّنَا الغَبْراءِ مِيْرتَنَا ... والأرضُ تأكل مَن كانْتْ تطْعِمُه
ولِلْبَسِيْطَةِ مِنْ أجْسَادِ نَامِيَرُ
أمر الدنيا أقصر من أن تتعادى فيه النفوس، وأن تتفانا وأن تطاع فيه الضغائن والأحقاد.
وقال: لا يستطيع أحد أن يجد الخير والحكمة إلا أن تُخلص نفسه في المعاد، ولا خلاص له إلا أن تكون له ثلاثة أشياء: وزير، وولي، وصديق.
فوزيره عقله، ووليه عفته، وصديقه عمله الصالح.
الجود أن تجود بمالك، وتصون نفسك عن مال غيرك، وأقصى غاية الجود أن تجود بنفسك في سبيل الله.
يَجُوْدُ بالنَّفْسِ إنْ ظَنَّ البخيلُ بها ... والجُوْدُ بالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الجَودِ
قابل غضبك بحلمك، وجهلك بعلمك، ونسيانك بذكرك، وتزود من الخير وأنت مقبل خير من أن تتزود وأنت مدبر.
العجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة ولا يترك الذنوب مخافة رب العالمين، ويستحي من الخلق ولا يستحق ممن لا تخفى عليه خائفة، قال تعالى: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ } .(1/10)
العمى خيرٌ من الجهل؛ لأن العمى يخافُ منه السُقوط في حُفرة، والجهل يخاف منه الوقوع في الهلاك.
ينبغي للرئيس أن يبتدي بتقويم نفسه قبل أن يبتدي بتقويم رعاياه.
وإلا كان بمنزلة من رام استقامة ظل معوجِّ قبل تقويم عوده الذي هو ظل له.
إبْدَأُ بِنَفْسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّهَا
فهناكَ يُقْبلُ ما تقُولُ ويُقْتَدَى ... فإذا إنْتَهَتْ عنه فأنْتَ حَكَيُم
بالرَّأي مِنْك ويَنْفَعُ التَّعْليمُ
استدامةُ الصحة تكون بإذن الله بترك التكاسُل عن التَّعب، وبترك الامتلاء من الطعام والشراب وترتيب المآكل.
للقلب آفتان الهمُّ والغم، فالغمُ يعرض منه النوم، والهم يعرضُ منه السهر.
العلم كثير والعمر قصير فخذ من العلم أحسنه وما بلغك قليله إلى كثيره.
ما حوى العلم من الخلق أحد
إنَّما العِلْمُ كَبَحْرٍ زاخرٍ ... لا ولو حاوله ألف سَنةْ
فاتَّخذْ مِن كُلْ شيءٍ أَحْسَنَهُ
عجبًا لمن عرف الدُنيا وأنها دار فناء كيف تلهيه عن دار البقاء التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إعطاء المريض ما يشتهيه أنفع له من أخذه كل ما لا يشتهيه.
الدنيا تنصح تاركها وتغش طالبها، فنصيحتها لتاركها ما تُريه من تغيرها بأهلها وفتكها بهم ونكدها وكدرها وغمومها وهمومها، وغشها لطالبها ما تذيبقه من لذة ساعتها ثم تعقبُهُ مرارة طعمها وسُوء مُنقلبها.
طالب الدنيا كناظر السراب يحسبه سببًا لريه فيتعب نفسه في طلبه، فإذا جاءه خانه ظنه وفاته أمله وبقي عطشه ودامت حسرته وندامتُهُ وخسر طُول عنائه.
وقال آخر: الإنسان في الدنيا مُعذَّبٌ بجميع أحوالها غير باق عليه ما يصيرُ إليه من أسبابها.
قليل التهنئة بما يجده من ملاذها دائم النكد والكبد والغُصص بمفارقة أحبابه فيها.
يا هذا الدنيا وراءك والآخرة أمامك والطلب لما وراءك هزيمةٌ، إنما يعجب بالدنيا من لا فهم له الدنيا كأضغاث أحلام تسرُّ النائم.
لُعب خيال يحسبها الطفل حقيقةً، فأما العاقل فيفهمها.(1/11)
رَأَيْتُ خَيَاَ الظِلِ أكْبَرَ عْبَرةٍ
شُخُوصٌ وأشْبَاحٌ تَمُرُّ وتَنْقَضي ... لمنْ هُو في علْمِ الحَقيْقَةِ رَاقِي
جَمْيعًا وتَفْنى والمُحَرِّكُ بَاقِ
قال ثابت بن قرة: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام، قلت: إلا بذكر الله فكثرته أولاً.
والذنوب للقلب بمنزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته ولابُدَّ، والضعيف لا يقوى على مقاومة العوارض، قال عبدالله بن المبارك:
رَأَيْتُ الذُنُوبَ تُمِيْتُ القُلوب
وتَرْكُ الذُنُوبِ حَيَاةُ القُلوبِ ... وقد يُورثُ الذلَّ إدْمَانُهَا
وخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
كل شيء إذا كثر رخص إلا العلم والعقل كلما كثر أحدهما إلا، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
أشد الأمور تأييدًا للعقل أربعة: استخارة الله، ثم مشاورةُ العلماء المخلصين، وتجربة الأمور، وحُسن التثبت والتوكل على الله.
و أشدها ضررًا على العقل الاستبدادُ بالرأي، والتهاون والعجلة.
قال بعض العلماء: إذا ظفر إبليس من ابن آدم بثلاث لم يطلبه بغيرهن: إذا أعجب بنفسه، واستكثر عمله، ونسي ذنوبه.
ثلاثةٌ من أقل الأشياء ولا يزددن إلا قلة: درهم حلال تنفقُه في حلال، وأخ في الله تأنسُ به وتسكنُ إليه، وأمين تطمئن إليه وتستريح إلى الثقة به.
إذا عاديت أمرًا فلا تعادي جميع أهله، بل صادق بعضهم، ليكن سلاحًا لك عليه، ويكف أذيته عنك.
قيل لبعضهم: من الذي يسلم غالبًا من الناس، قال: من لم يظهر منه لهم خيرٌ ولا شر؛ لأنه إذا ظهر منه لهم خيرٌ عاداه شرارهم، وإن ظهر منه شر عاداهُ خيارهم.
احرص على مجالسة العُلماء المستقيمين، فإنَّ العقول تلقُح العُقول، واحذر من علماء الدنيا كل الحذر فهو الذئاب الضارية.
لا تفني عمرك في البطالة ولا بالكد فيما لا منفعة لك به.
ولكنه أفنه في الباقيات الصالحات لتفوز برضا الله.(1/12)
قال أحد الملوك لأحد الحكماء: من ترى نُولِّي القضاء؟ قال له: من لا يهُزُّهُ المدحُ، ولا يمحكُه الإغراء، ولا تضجرهُ فدامة الغبي، ولا يغره فهمُ الذكي.
وقال آخر: إن السعاة أخبثُ من اللصوص؛ لأن اللصوص يسلبون الأموال وهؤلاء يسلبون المودَّات، قلتُ: ويوقعون في المهالكِ والأضرارِ.
تنعَّمْ بمالك قبل أن يتنعَّم به غيُرك واحرص على بذله فيما يقربك إلى الله والدار الآخرة كبناء مساجد وبث كُتْب دينيةٍ تعين على فهم الكتاب والسُّنة، واحذر أن يكون عونًا على معاصي الله.
من نزلت به مصيبة فأراد تخفيفها وتمحيقها فليتصور أكثر مما هي وأعظم تهن عليه وليرجو ثوابها يرى الربح في الاقتصار عليها.
وليتصور سرعة زوالها فإنه لولا كرب الشدة ما رُجيت ساعة الراحة.
وليعلم أن مدة مقامها كمدة مقام الضيف فليتفقد حوائجه في كل لحظة فيا سرعة انقضاء مقامه.
قال عمر بن الخطاب: الفواقرُ في ثلاث: جارُ سوء في دار مقام إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة سوء إن دخلت لسنتْكَ (أي سليطةُ اللسان) وإن غبْتَ لم تأمنها، وسُلطانُ جائر إنْ أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك.
قال الحسن: لولا ثلاث ما وضع ابنُ آدم رأسه: المرض، والفقر، والموت.
كدر العيش في ثلاث: الجار السوء، والولد العاق، والمرأة السيئة الخلق.
حب الدنيا يُورثُ الضغائن والعداوات ويزرع الأحقاد ويُكمنُ الشر ويمنع البر ويسبب العقوق وقطيعة الرحم والظلم.
طالب الدنيا قصيرُ العُمر كثير الفكر فيما يضرُ ولا ينفع.
طالب الدنيا كراكب البحر إن سلم، قيل: مخاطر وإن عطب قيل مغرور.
شعرًا:
ألا كْلُ حَيٍ هالِكٌ وابنُ هَالِكٍ
فَقُلْ لِغَريْبِ الدارِ إنَّكَ رَاحِلٌ
وَمَا تَعْدِمُ الدُنيا الدَّنِيَّةُ أهْلَهَا
تُجَرِّعُ فيها هَالِكًا فَقْدَ هالِكٍ
فلا تَحْسَبِ الدُنيَا إذَا ما سَكَنْتَهَا
إذا امْتَحَنَ الدنيا لَبيْبٌ تَكَشَّفَتْ
عَليْكَ بدارٍ لا يَزَالُ ظِلالُها(1/13)
فَمَا يَبْلُغُ الرَّاضِي رِضاهُ بِبُلْغَةٍ ... وذُوْ نَسَبٍ في الهالكينَ عَرِيْقُ
إلى مَنْزِلٍ نَائي المَحَلِّ سَحِيْق
شِواظَ حَرِيْقٍ أو دُخَانَ حَرِيْق
وتشجى فريقًا مِنْهُمُوا بفَريْق
قَرَارًا فَمَا دُنْيَاكَ غَيْرُ طَرِيْق
له عن عَدُوٍ في ثِيَابِ صَدِيْق
ولا يَتَأذَّى أهْلُهَا بِمَضِيْقِ
ولا يَنْفَعُ الصَّادِي صَداهُ برِيْق
من خاف من شيء عمل ما يُؤمِّنُه، فمن خاف من الموت فليعمل ما يرجُو به السلامة وبابُ التوبة مفتوحٌ، وأبوابُ الخير مفتوحة، وقد حث الله ورسوله عليها.
العاقل يعرف بكثرة صمته، والجاهلُ يُعرفُ بكثرة كلامه.
الكلام مملوك للإنسان ما لم ينطق به صاحبه، فإذا نطق به خرج عن ملكه له.
حُسن الخلق يغطي غيره من القبائح، وسوء الخلق يغطي غيره من المحاسن.
من حسُن خلقه طابت عيشته ودامتْ سلامته في الغالب وتأكدت في النفوس محبتهُ، ومن ساء خلقه تنكدت عيشته ودامت بغضته ونفرت النفوسُ منه.
قال الله جل وعلا وتقدس لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } .
حُسْنُ الخلُق يُؤدي غالبًا إلى السلامة ويؤمنُ من الندامة ويُسببُ الألفة ويبعث على الفعل الجميل، ويؤمنُ من الفرقة بإذن الله تعالى، ومن ساء خُلُقُه اجتمع عليه نكد الدنيا والآخرة.
شعرًا:
لأن كانت الأفعال يومًا لأهلها
وإنْ كانَتِ الأرزاق رزقاً مُقَدَّراً
وإن كانت الدُنيا تعدُّ نفيسةٍ
وإنْ كانت الأبدانُ للموتِ أنشئتْ
وإن كانت الأموال للترك جمعها ... كمالاً فحُسْنُ الخُلق أبهى وأكملُ
فقلتُ جُهْدِ المَرْء في الكَسبِ أجْمَلُ
فدارُ ثواب الله أعلى وأنبلُ
فقتلُ امرئٍ بالسيف في الله أفضل
فما بالُ متروكٍ به المرء يبخلُ
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «البر حَسْنُ الخلق».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا».(1/14)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حُسْن الخُلُق».
وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنةَ، قال: «تقوى الله، وحُسْنُ الخُلُق».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحْسَنُهم خُلُقًا».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصائِمِ القائمِ».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ من أحَبكم إليَّ وأقْرَ بكم مِني مَجْلسًا يومَ القيامِةِ أحَسِنكم أخلاقًا».
وقيل في تفسير حُسْن الخُلُق: هو طلاقةُ الوجه، وبذل المعروف، وكفُّ الأذى، وطيبُ الكلام، وقلة الغضب، واحتمال الأذى.
لأجل حُبِّ الدُنيا صُمت الأسماعُ عن ما ينفعُ الإنسان دُنيا وأخرى، وعميت القُلُوبُ عن نُور البصيرةِ.
ينبغي للعاقِلِ أن لا يغترَّ بحُسْن شبابِهِ وصحَّةِ جِسْمِهِ.
فإن عاقبةَ الصحةِ السقم وربما أعقبه الموت.
لا تَغْترر بشَبَاب ناعم خظلٍ ... فكم تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ
من ألهْمَ نفسه حُبَّ الدُنيا امْتلأ قلبُه من ثلاثَ خِلالَ: فقر لا يُدْرِكُ غناه، وأمل لا يبلغُ مُنْتَهَاه، وشُغْلٌ لا يُدْرِكُ فَنَاه.
مما ينبغي ويُستحسنُ عِمارَةُ الذِهن بالحكمة، وجلاءُ العقل بالأدب، وقمعُ الغضب بالحلم، وقمعُ الكِبر والعُجْب بالتواضع.
وقمع الشهوة بالزُهْدِ والعفةِ، وتذليلُ المرَحِ بالسُكُون، وردْعُ الحِرص بالقناعِةِ يُكْسِبُ رَاحَة النفسِ والبَدَنِ.
هي القناعةُ فالْزَمْها تكنْ مِلكًا ... لو لم يَكنْ لكَ الإراحةَ البَدَنِ
آخر:
إذا كُنْتَ في الدنيا قَنُوعٍ ... فَأنْتَ ومالكُ الدنيا سَوَاء
آخر:
أكْرمْ يَدَيْكَ عن السُؤالِ فإنَّما
ولقَدْ أضُمُّ إليَّ فَضْلَ قَناعَتي
وأرى الغُدُوَّ على الخَصَاصَةِ شَارَةً
وإذا الفَتَى أفْنَى اللَّيَاليَ حَسْرَةً ... قَذَرُ الحياةِ أقلُّ مِنْ أن تسْألَا(1/15)
وأبيْتُ مُشتملاً بها مُتَزمِّلاً
تَصِفُ الغِني فتخَالُني مُتمِّولاً
وأمَانيا أفْنَيْتُهُنَّ توكلاً
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال لقمان لابنه: يا بني، أكثر من ذكر الله عز وجل، فإنَّ الله ذاكرُ من ذكرهُ، قال جل وعلا وتقدس: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } .
يا بُني، لتكنُ ذُنوبُكَ بين عَينَيْكَ، وعملك خلف ظهرك، وفرَّ من ذنوبكَ إلى الله، ولا تستكثر عملك.
يا بني، إذا رأيتَ الخاطئ فلا تُعَيِّرْهُ واذْكُرْ ذُنُوبَكَ فإنما تسأل عن عَمَلِك.
يا بُني، أطعْ الله فإنَهُ من أطاعَ الله كفاهُ ما أهمَّهُ وعصَمَهُ مِن خَلْقِهِ.
يا بُنيَّ، لا تَرْكَنْ إلى الدنيا ولا تُشْغِلْ قَلبَكَ بحبها فإنَك لم تخلق لها وما خلق الله خلقًا أهون عليه منها؛ لأنه لم يجعل نعمتها ثوابًا للمطيعين ولم يجعل بلاها عُقُوبةً للعاصين.
ميَّزْتُ بين جمالها وفعالَها
حَلَفَتْ لنا أن لا تخونَ عُهُودَنَا ... فإذا الملاحةُ بالقباحةِ لا تَفِي
فكَأنمَّا حَلَفَتْ لَنَا أنْ لا تفي
وقال الله جل وعلا: { وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ، وقال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح وهمه الآخرة جمع الله عليه أمره وحفظ عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة» الحديث.
وحقيقة الزهد خروج حب الدنيا والرغبة فيها من القلب.
وهوان الدنيا على العبد حتى يكون إدبار الدنيا وقلة الشيء أحب إليه وآثر عنده من إقبالها وكثرتها هذا من حيث الباطن.
وأما من حيث الظاهر فيكون متجافيًا عنها مع القدرة عليها.
ويكون مقتصرًا من سائر أمتعتها مأكلاً وملبسًا ومسكنًا وغير ذلك على ما لابد نه، قلت: هذا في عصرنا نادرًا الوجود كالكبريت الأحمر.(1/16)
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب».
يا بُني، لا تَفْرَحْ بطول العافية، واكتم البلوى فإنه من كنوز البر، واصبر عليها فإنَّهُ ذُخْرٌ لك في المعاد.
يا بُنيَّ، عليك بالصبر واليقين ومجاهدة نفسك، واعلم أنَّ الصبر فيه الشوقُ (أي الشرف)، وفيه الشفقةُ والزهادةُ والترَقُب.
فإذا صبرت عن محارم الله وزهدت في الدنيا وتهاوَنْتَ بالمصائب (أي مصائب الدنيا) لم يكنْ أحبَّ إليكَ مِن الموت وأنْتَ تترقبُه.
وإيَّاك والغفْلةَ، خَفِ الله ولا تُعْلِمْ بذلك الناسَ، ولا يغُرنَّك الناسُ بما لا تعلم من نفسك، لا تغتر بقول الجاهل إن في يَدَكَ لُؤْلُؤةً وأنت تعلم أنَّها بَعْرَةٌ.
يا بني، كنْ لَيْن الجانب، قريْبِ المعروف، كثيرَ التفكر قليلَ الكلام إلا في الحق، كثير البُكاء قليل الفرح.
ولا تمازحْ ولا تصَاخبْ ولا تمارِ، و إذا سَكَتَّ فاسكُتْ في تفكرُ، وإذا تكلمتَ فتكلم بِحِكَمٍ.
يا بني، لا تُضَيِّعْ مالكَ وتصلحْ مالَ غيركَ، فإن مالكَ مَا قدَّمتَ لِنفْسِكَ، ومالَ غيركَ ما تركْتَ وراء ظَهْركَ.
يا بني، اجْعَلْ هَمَّكَ فيما كُلفْتَ ولا تجعل همَّك فيما كُفيت، لا تهْتَمَّ للدُنيا فتشغلكَ عن الآخرة.
وقال: يا بنيَّ، إذا أنعم الله عليك نعمة فيرَ أثرُهَا عليكَ في شُكْركَ وتواضُعكَ وإحْسَانكَ إلى مَن هُو دُونك.
وقال: لكل شيء آفة وآفة العمل العُجبُ، لا تُرائي الناس بما يعلم الله منك غيرهُ.
ولا تعجبن بما تعمل وإن كثر، فإنَّك لا تدري أيقبل الله منك أم لا؟ والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل
يا بُني، أداءُ صلاتك التي فُرضت عليك أفضلُ من كُل ما تعمل.
يا بُني: جالس قومًا يذكرون الله، إن كُنت عالمًا نفعك علمك، وإن كنت جاهلاً عَلَّمُوك، وإن نزلت عليهم رحمةٌ أو رزقٌ شركتهمُ فيه.(1/17)
يا بُني، لا تجالس قومًا لا يذكرون الله، فإن كنت جاهلاً زادوك، وإن كنت عالمًا لم ينفعك علمك شيئًا، وإن نزلت عليهم لعنةٌ أو سخطٌ شركتهم فيها.
وقال: اعتزلوا شرار الناس تصلحْ لكم قلوبكُم وتسترح أبدانُكُم وتطبْ نُفوسُكم.
وقال: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك، فإنه لا بقاء للنعمة إذا كُفرت، ولا زوال لها إذا شكرت.
وقال: لقاء أهل الخير عمارة القلوب.
وقال: يا بني، إن الدنيا بحرٌ عميقٌ وقد غرق فيها ناسٌ كثير، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله، والأعمال الصالحة بضاعتك التي تحملُ فيها، والحرصَ عليها ريحُكَ، والأيام موجُها، وكتاب الله دليلها، وردُّ النفس عن الهوى حبالها، والموت ساحلها، والقيامة أرض المتجر التي تخرج إليها، والله مالكُها.
يا مَنْ تَمَسَّكَ بالدنيا وزُخرُفها
هَلَّا عَمَرتَ لِدَارٍ أنتَ تسْكُنُهَا
فَعَنْ قَلِيلٍ تراهَا وهْيَ دائرةٌ ... وجدَّ في جمعهَا بالكَدِّ والتَّعَبِ
دَار القَرارِ وفيها مَعْدِنُ الطَّلَبِ
وقَدْ تَمزَّقَ ما جَمَّعْتَ مِن نَشَب
وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: يُؤتى بالدنيا يوم القيامة على صُورةٍ عجوزٍ شمطاء زرقاء، أنيابُها باديةٌ مُشَوَّهَةُ الخلقة لا يراها أحدٌ إلا كرِهَهَا، فتُشْرِفُ على الخلائقِ، فيُقال لَهُمْ: أتعرفُون هذه؟
فيقال لهم: هذه التي تفاخرتُم وتحاربتُم عليها، ثم يُؤمَرُ بها إلى النار، فتقولُ: يا ربِّ أين أتباعي وأصحابي وأحبابي؟ فيلحقونَهَا.
ووجه إلقائها في النار لينظر إليها أهلها فيرون هوانها على الله جلَّ وعَلا.(1/18)
وذكر في الخبر عن عيسى ـ عليه السلام ـ: أنه كان ذاتَ يومٍ ماشيًا إذْ نظر إلى امرأةٍ عليها من كل زينةٍ فذهب ليُغطي وجههُ عنها، فقالت: اكشف عن وجهكَ فلستُ بامرأة أنا الدنيا، فقال لها: ألكِ زوجٌ؟ فقالت لهُ: لي أزواجٌ كثير، فقال: أكل طلَّقَكِ أم كلاً قتلتِ؟ فقالت: بلْ كُلاً قتلتُ، فقال: حزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون عليَّ ولا أحزنُ عليهم ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
ولو كانَتِ الدُنْيَا عَرُوْسًا وجَدْتَها ... بما قَتَلَتْ أوْلَادَهَا لا تَزَوَّجُ
آخر:
ولو كانَتِ الدُنْيَا من الإنْسِ لم تكُنْ ... سِوَى مُوْمِسٍ أفْنَتْ بِمَا سَاء عُمْرَهَا
ورُوي أن رجُلاً قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أرض، فسأله عن أرضهم، فأخبرهُ عن سعتها وكثرة النَّعيم فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف تفعلون؟» قال: إنا نتخذ ألوانًا من الطعام ونأكلها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم تصير إلى ماذا؟» قال: إلى ما تعلم يا رسول الله، يعني بولاً وغائطًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فكذلك مثلُ الدنيا».
قَدْ نَادَت الدُنْيَا على نَفْسهَا
كَمْ واثِقِ بالعُمْر أفنيتُهُ ... لَو كانَ في العَالَم مَن يَسْمَع
وجَامِعٍ بَددْتُ ما يجمعُ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
ثم اعلم: أن الدنيا عبارة عن كل ما يشغل عن الله قبل الموت، فكلما لك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذة في عاجل الحال قبل الوفاة، فهي الدنيا.
وليس كل ذلك مذموم، بل المذموم المنهي عن محبته هو كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة.
وإذا سمعت بذم الدنيا، فاعلم أنه ليس راجعًا إلى زَمانها الذي الليل والنهار المتعاقبان إلى قيام الساعة.
فإن الله سبحانه وتعالى جعلهُما خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا وهو الأرض ولا إلى ما أنبته الله فيها مِن الشجر والزرع.(1/19)
فإن ذلك كله من نعم الله على عباده لما لهُم فيه من المنافعِ والمصالحِ والاعتبار والاستدلالِ بذلك على وحدانيَّة الله وقدرته وعظمته وحكمته ورحمته بعباده.
قال جل وعلا: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } ، وقال تعالى: { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } .
وإنما المذموم أفعال بني آدم من المعاصي الكبائر والصغائر كالشرك وترك الصلاة وترك الزكاة أو الصوم أو الحج وكالكذب على الله أو على رسله أو كراهة ما أنزل الله أو قتل نفس بغير حق أو ظلم أو شهادة زور.
واللواط وقذف المحصنات والسحر والزنا والربا والتولي يوم الزحف والرياء والعقوق وقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والسرقة والغصب والنميمة والغيبة والكبر والحسد والعُجْب والخمر والدخان.
واللهو واستعمال آلاته والاجتماع مع الكفار والتاركين للصلاة ومواكلتهم واستخدامهم مزارعين أو سائقين أو خدامين خياطين أو فراشين أو نحو ذلك.
نسأل الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منهم وأن يتوفانا ما أضلَّنَا سقْفٌ معَهم.
ومما يدخل في الدنيا المذمومة، ما قادَ العبدَ إلى المعاصي وشوقه إليها وألهاه عن ذكر الله وأغفله عن الآخرة.
وذلك كاللعب بالكورة، والجلوس عند التلفاز، والفيديو، والمذياع، وضياع الوقت في المجلات، والجرائد، واللعب في الورق، والاشتغال بحظوظ الدنيا، والإعراض عن الله.
والتكاسل عن طاعته والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، وإيثار ملذات الدنيا وشهواتها على الآخرة.
جاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاً يسب الدنيا، فقال له: إنها لدار صِدْقِ لِمَنْ صَدَقها، ودارُ عافية لمن فهم عنها، ودارُ غنى لَمِنْ تزود بها.
مسجدُ أحباب الله، ومهبطُ وحيه، ومُصلَّى ملائكته ومتجرُ أوليائِهِ.(1/20)
اكتسبُوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذُمُ الدنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثَّلَتْ ببلائها وشوَّقَتْ بسُرورها إلى أهل السرور.
فذمَّهَا قومٌ عند الندامة ومدَحَهَا آخرون، حدثْتُهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا.
فيا أيها المغتر بالدنيا المغتر بغرورها، متى استلأمت إليك الدنيا، بل متى غرتك أبمضاجعِ آبائك تحت الثرى، أمْ بمصارع أُمَّهاتِكَ من البلى.
نَقِمْتَ على الدنيا ولا ذَنْبَ أسْلَفَتْ
وهَبْهَا فَتَاةً هَلْ عَلَيها جِنَايَةٌ ... إليكَ فأنتَ الظالمُ المتُكَذِّب
بِمَنْ هُوَ صَبٌ في هَوَاهَا مُعَذَّبُ
كم قَلَّبْتَ بكفيك ومَرَّضْتَ بيدك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفُر بحاجَتِكَ ولم تُسْعَفْ بطلْبَتِكَ قد مَثلَتْ لك الدنيا بمَصْرَعِه مَصْرعَكَ غدًا ولا يُغْني عَنكَ بُكاؤكَ ولا ينفعُكَ أحْبَابُك.
قال ابنُ رجب ـ رحمه الله ـ على كلا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فَبَيَّنَ أمير المؤمنين - رضي الله عنه - أن الدنيا لا تُذم مطلقًا وأنها تحمدُ بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة، وأن فيها مساجدُ الأنبياء ومهبَطُ الوحي.
وهي دارُ التجارة للمؤمنين اكتسبُوا فيها الرحمةَ وربحُوا بها الجنةَ فهي نعم الدارُ لِمَنْ كانت هذه صفتُه.
وأما ما ذكر من أنها تَغُر وتخدعُ فإنها تُنادي بمواعظها وتنصح بعبرها تبدي عيوبها بما تُرى من أهلها من مصارع الهلكى.
وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم، ومن الشبيبة إلى الهرم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العز إلى الذل؛ ولكن مُحبها قد أعماه وأصمه حبها.
نَعَمْ إنها الدنيا إلى الغَدْرِ دَعْوَةٌ
فَفَارَقَ عَمْرُو بنُ الزُبَيْرِ شَقِيْقَهُ ... أجَابَ إليها عَالِمٌ وجَهُوْلُ
وخَلَّى أمِيْرَ المؤمِنِيْنَ عَقِيْلُ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل(1/21)
روي أن عبدالعزيز بن مروان ـ رحمه الله ـ قال لما حضرته الوفاة: إئتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه، فقال: مالي من كبير ما أخلفُ من الدنيا إلا هذا، ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول: أف لك من دار وإن كان كثيرك لقليل وإن كان طويلك لقصير وإن كنَا منك لفي غرور.
مَكرُ الذنوبِ عَلينا غيرُ مَأْمُونِ
بَلْ المخَوفُ علينا مَكْر أنْفُسِنا
إنَّ اللياليَ والأيامَ قَدْ كَشَفَتْ
وحَدَّثْتنَا بأنا مِن فَرائِسِهَا
واسْتَشْهَدَتْ مَن مَضيَ مِنَّا فأنْبأنَا
وأُمُ سُوْءِ إذا مَا رَامَ مُرْتَضِعُ
ونحنُ في ذاك نُصْفيْهَا مَوَدَّتَنَا
نَشكُو إلى الله جَهْلاً قَدْ أضَرَّر بنَا
أغَوَى الهَوىَ كلَّ ذي عَقْلً فَلَسْتَ ترَى
حَتَّى مَتَى نَشْتَري دُنيًا بآخَرَة
نَبْني المعَاقِلَ والأعْداءُ يُخَلدِنَا
نَظَلُ نَسْتنفقُ الأعْمَارَ طيّبَةً
وما تأخَّرَ حَيٌ بَعدَ ميتهِ ... فلا تَظُنَنَّ أمْرًا غَيرَ مَظْنُونِ
ذَات المنَى دُونَ مَكْرِ البيْضِ والجُونِ
مِن مَكْرهَا كُلَّ مَسْتُورٍ ومَكْنُونٍ
نواطقًا بَفَصِيْحٍ غَيرِ مَلْحُونِ
عَن ذاك كلُ لَقَى مِنَا ومَدْفُون
أخْلافَها صَدَ عنها صَدَّ مَزْبُونِ
تَبًا لكُل سَفيْهِ الرَأي مَغْبُونِ
بَلْ ليْسَ جَهْلاً ولكن علْمَ مَفْتُونِ
إلا صَحِيْحًا له أفَعْالُ مَجْنُونِ
سَفَاهَةً ونبيعُ الفَوْقَ بالدُّوْنِ
وقد أبَى قَبْلَنَا تَخْلِيدَ قارُونِ
عنها النُفُوسُ ولا نَسْخُوا بما عُونِ
إلا تأخَّرَ نَقْدٌ بَعدَ عُرُبُونِ(1/22)
وكان المعتمد بن عباد ملك إشبيلية يرفُلُ في زاهي حُلل الملك ويتقلب في أنواع النعيم والشرف، وبعد أن سلبُه تاشفين مُلكَهُ وقبض عليه وأسره وسجنه في أغمات، دخلت عليه في السجن بناتُه بعد مُدة وكان يوم عيد وكُنَّ بعد ما انتزع الملك من أبيهن يغزلن للناس بالأجرة في أغمات حتى إن إحداهن غزلتْ لأهل بيت صاحب الشرطة الذي كان في خدمة أيبها فيما مضى وهو في سلطانه فراهُنَّ في أطمارٍ رثةٍ وحالةٍ سيئةٍ يرثى له فصد عن قلبه، فأنشد هذه الأبيات:
فيما مَضَى في الأعيَادِ مَسْرُوْرًا
تَرَى بَنَاتِكَ في الأطمار جَائعةً ... فَسَاءَكَ العِيْدُ في أغْماتٍ مَأْسُورَا
يَغْزلْنَ لِلناس ما يَمْلِكْنَ قِطْمِيْرَا
ولما رجع السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه من محاصرة بغداد إلى همذان أصابه مرضُ السل فلم ينج منه.
وقبل وفاته بأيام أمر أن يُعرض عليه جميع ما يملكه ويقدر عليه وهو جالس في المنظرة.
فركب الجيش بكماله وأحضرت الأموال كلها ومماليكهُ حتى جواريه وحظاياه.
فجَعَلَ يبكي ويقول: هذه العساكر لا يدفعون عني مثقال ذرة من أمر ربي ولا يزيدون في عمري لحظةً.
ثم ندم وتأسف على ما كان منه إلى الخليفة المقتفي وأهل بغداد وحصارهم وأذيتهم.
ثم قال: وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملكُ الموت مني فداءً لجدتُ بذلك جميعه له.
وهذه الحظايا والجواري الحسان والممالك لو قبلهم ملكُ الموت مني فداءً لجدتُ بذلك جميعه له.
ثم قال: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } ثم فَرَّق شيئًا من ذلك الحواصل والأموال ثم توفي.
يأتي على الناسِ إصْبَاحٌ وإمْسَاءٌ
خَسِسْتِ يا دَارَ دُنْيَانَا فأفِّ لمنْ
لَقَد نَطِقْتَ بأصْنَافِ العِضَاتِ لنا
إذا تَعَطَّفْتِ يَوْمًا كُنْتِ قَاسِيَةً
أيْنَ الملُوكُ وأبْنَاءُ الملوك ومَنْ
نالوا يَسْيرًا مِن اللَّذَاتِ وارْتحَلُوا ... وكُلُنا لِصُرُوْفِ الدهرِ نَسَّاءُ(1/23)
يَرضَى الخسِيْسَةَ أو نَاسٌ أخِسَاءُ
وأنْتِ فيما يظنُ الناسُ خَرْسَاءُ
وإنْ نَظرتِ بعَينٍ فهي شَوْسَاءُ
كَانَتْ لهمُ عزةٌ في الملك قَعْسَاء
بِرَغْمِهِمْ فإذا النّعْمَاءُ بأسَاءُ
والله أعلم، وصلى على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قيل: إن حاتم الأصم قال لأولاده: إني أريد الحج، فبكوا، وقالوا: إلى من تكِلْنَا، فقالت ابنته: لهم اسكتوا، دعوه فليس هو برزَّاق، هو الرزاق فباتوا جياعًا وجعلوا يوبخون البنت، فقالت: اللهم لا تُخجلني بينهم، فمرَّ أميرُ البلد وطلب ماءً فناوله أهلُ حاتم كُوزًا جديدًا فيه ماء بارد فشرب، وقال: دارُ من هذه؟ فقالوا: دارُ حاتم الأصَم فرمَى فيها منطقةً من ذهب، وقال لأصحابه: من أحبني فعل مثلي، فرمى من حوله كُلُهم مثله فجعلت بنت حاتم تبكي، فقالت لها أمها: ما يُبكيك وقد وسَّعَ الله علينا، فقالت: مخلُوقٌ نظر إلينا فاستغنينا، أي فما ظنك بالخالق جل وعلا الذي سخر لنا هذا المخلوق فعطفه علينا.
قيل لبعض العلماء: كيف تركت الصبيان؟ فقال: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا } تقوى الله لنَا ولهُم.
قيل: إنه كان عبدالله بن المبارك يتجر في البحر، ويقول: لولا خمسة ما اتجرت: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السماك، وابن علية.
وكان يخرج فيتجرُ إلى خراسان فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج والباقي يصلُ به إخوانهُ الخمسة.
فقدم سنة، فقيل له: قد وليَّ ابن علية القضاء، فلم يأته ولم يصله بالصُّرة التي كان يصلُه بها في كل سنة.
فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قد قدم فركب وتنكس على رأسه، فلم يرفع به عبدالله بن المبارك رأسًا ولم يكلمه فانصرف.(1/24)
فلما كان من الغد كتب إليه رقعةً: «بسم الله الرحمن الرحيم، أسعدك الله بطاعته وتولاك بحفظه وحاطك بحياطته قد كُنت منتظرًا لبرك وصلتك أتبرك بها، وجئتك أمس فلم تُكلمني ورأيتُك واجدًا علي فأي شيء رأيت مني حتى اعتذر إليك منه».
فلما وردت الرقعة على ابن المبارك دعا بالدواة والقرطاس ثم كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكتب إليه أبياتًا من الشعر:
«أَيْنَ رِوَايَاتُكَ في سَرْدِهَا
أيْنَ رِوَايَاتُكُ في سَرْدها ... عن ابن عَوْنٍ وابن سيْرين
لِتَرْكِ أبواب السَّلاطِين»
فلما وقف ابنُ علية على الأبيات قام من مجلس القضاء فوطئ بساط هارون الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله ارحم شيبتي فإني لا أصبرُ على القضاء.
فأعفاهُ من القضاء، فلما اتصل بعبدالله بن المبارك وجه إليه بالصرة التي كانت يُتْحِفُه بها مع زُملائه. اهـ.
عن الشعبي، قال: جاء رجلان إلى شريح، فقال أحدهما: اشتريتُ من هذا دارًا فوجدتُ فيها عشرة آلاف درهم، فقال: خذها، فقال له: إنما اشتريتُ الدارَ.
فقال للبائع: فخذها أنت، فقال له: ولم وقد بعته الدار بما فيها فأدار الأمر بينهما.
فأتى زيادًا فأخبره، فقال: ما كنت أرى أن أحدًا هكذا بقي، وقال لشريح: أدخل بيت المال فألق في كل جراب قبضة حتى تكون للمسلمين.
وقيل: كان مورث العجلي يتجر فيصيب المال فلا يأتي جمعة وعنده منه شيء يلقى الأخ فيعطيه أربعمائة أو خمسمائة أو ثلاثمائة، فيقول: ضعها عندك حتى نحتاج إليها.
قال: ثم يلقاه بعد ذلك، فيقول الأخ: لا حاجة لي فيها، فيقول: والله إنا ما نحن بآخذيها أبدًا فشأنك بها، وعلى هذه الطريقة كان كثير من السلف على حد قول الشاعر:
لا يَألفُ الدِرهمُ المَضْرُوْبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهْوَ مُنْطَلِقُ(1/25)
روي أن صحابيًا رأى طفلاً في المسجد يُصلي بخشوعٍ وإتقانٍ، فقال له بعد صلاته: أبنُ من أنت؟ فقال: إني يتيم، فقدت أبي وأمي، فقال: أترضَى أن تكونَ لي ولدًا، فقال: هل تطعمني إذا جعت؟ قال: نعم. قال: وهل تكسوني إذا عريتُ؟ قال: نعم، قال: وهل تُحييني إذا مت؟ فدهش الصحابيُ، وقال: هذا ليس إليه سبيل، فأشاح الصبي بوجهه، وقال: إذن اتركني للذي خلقني ثم رزقني ثم يميتني ثم يحييني، فقال الصحابي: لعمري من توكل على الله كفاه.
شكى أحدهم إلى عالم كثرة العيال وقلة الرزق، فقال: ارجع إلى بيتك، فمن ليس رزقه على الله فاطرده عنك.
هدد الحجاج محمد بن علي - رضي الله عنه - بكتاب، فكتب إليه: «إن لله ثلاثمائة وستين نظرة إلى خلقه وأنا أرجو أن ينظر الله إليَّ نظرة يمنُعني بها منك».
من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَّ غير ما اختار الله عز وجل له.
التوكل اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله وفعل الأسباب.
وكُنْ بالذي قَدْ خُطَّ باللَّوْحِ رَاضيًا
وإن مَعَ الرزق اشتراطُ التِمَاسِهِ
ولَوْ شَاءَ ألْقَى في فَمِ الطَّيْرِ قُوْتَهُ ... فلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وخَطَّهُ
وقد يَتَعَدَّى إنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ
ولَكنَّهُ أوْحَى إلى الطَّيْرِ لَقْطَهُ
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعَتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُحُف».
قال بعضهم يوصي إخوانه:
إن الجنة لا تنال إلا بالعمل، اخلطوا الرغبة بالرهبة، ودموا على صالح الأعمال، والقوا الله بقلوب سليمة وأعمال صادقة من خاف أدلجْ.
مَا دَارُ دُنْيا لِلْمُقيمِ بدَارِ(1/26)
مَا بَيْنَ ليلٍ عاكفٍ ونَهارهِ
طُولُ الحياة إذا مَضَى كَقَصِيْرهَا
والعَيشُ يَعقبُ بالمرارَةِ حُلْوَهُ
وكأنما تَقْضيْ بُنِيَّاتُ الرَّدَى
والمَرْءُ كَالطَّيْفِ المُطْيفِ وعمْرُهُ
خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الخُطُوبُ لِهَوْلِهِ
إنَّ الذينَ بَنَوا مَشيْدًا وانثنوا
سُلبُوا النَّضَارَةَ والنَّعِيْمَ فاصْبَحُوا
تَركُوا دِيارَهُمُ على أعْدَائِهم
خَلَطَ الحِمَامُ قَويَّهمُ بضَعْيفِهم
والخَوْفُ يُعْجِلُنا عَلىَ آثارِهِم
وتَعَاقُبُ الملَوَيْن فِينَا ناثِرٌ ... وبِها النفُوسُ فَريْسَةُ الأقْدارِ
نَفَسَانِ مُرْتَشفَانِ للأَعْمَارِ
واليُسْرُ لِلإنْسَانِ كَالإعْسَار
والصَّفْوُ فِيه مُخَلَّفُ الأكْدَارِ
لفَنَائنَا وَطَرًا من الأوْطَارِ
كَالنَّومِ بَيْنَ الفَجْرِ والأسْحَارِ
ونَلَوْذُ مِن حَرْبٍ إلى اسْتِشْعَارِ
يَسْعَونَ سَعْيَ الفاتِكَ الجَبَّارِ
مُتَوَسِّديْنَ وَسَائِدَ الأحْجَارِ
وتوسَّدُوا مَدَرًا بغَيرِ دثَارِ
وغَنَّيهمُ سًاوَى بذي الأقْتَارِ
لابُدَّ مِن صُبْحٍ المُجِدِّ السَّارِي
باكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأعْمَارِ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
لا تستعين في حاجة بمن يبتغي مثلها فينسى الذي كلفته أو يتناساه، ويبدؤ بحاجته قبلها؛ لأنها عنده أهمُ.
تسعة لا يُفارقهم الحزنُ ولا الكآبة: الحقود، والحسود، وجديد عهدٍ بغناه، وغنيٌ يخشى الفقر، وفقير مديون، وطالبُ رتبة يقصر عنها قدرهُ، وجليس أهل العلم وليس منهم، والمسجون، ومن يطلب بثأر.
من اهتم بالدنيا ضيع نفسه، ومن اهتم بنفسه زهد في الدنيا، طالبُ الدُنيا لا يخلو من الحزن في حالين: حزن على ما فاته كيف لم ينلهُ، وحُزنٌ على ما نالهُ يخشى أن يسلبه، وإن أمن سلبه أيقن بتركه لغيره بعد موته فهو مغموم ومحزون في جميع أحواله.(1/27)
ومهما كان الإنسان آمنًا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه وليلته فحزنه وغمه وكدره بسبب أمر الدنيا علامة على نقصان عقله وجهله وحماقته، فإن ذلك لا يخلو إما أن يكون تأسُفًا على ما مضى أو خوفًا من مُستقبل أو حُزنًا على سبب حاضر في الحال.
فإن كان على فائت، فالعاقل بصير بأن الجزع والحزن على ما فات لا يلم شعثًا ولا يَرُمُّ ما انتكث.
وما لا حيلة فيه فالغمُّ والهمُّ عليه جهل؛ ولذلك يقول الله جل وعلا وتقدس: { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } .
وقال الشاعر:
ولا يَرُدُّ عليكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
وقال الآخر:
وهل جَزَعٌ مُجْدٍ عليَّ فأجزعُ
وإن كان تأسف على حاضر، فإما أن يكون حسدًا لوصول نعمةً إلى من يعرفهُ أو يكون حزنًا للفقر وفقدان المال والجاه وأسباب الدنيا.
وسبب هذا الجهل بغوائل الدنيا وتقلباتها وسمومها وأكدارها.
ولو عرفها حق معرفتها لشكر الله قائمًا وقاعدًا وماشيًا على كونه من المُخفين دُوْنَ المثقَلين.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافَى في جسده، عنده قوتَ يومِهِ فكأنما حِيزت له الدنيا بِحَذافِيرِها» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
إذا ما كان عندي قُوت يَومٍ
ولم تخطر هموم غدٍ ببال ... طَرَحْتُ الهَمَّ عني يا سَعِيْدُ
لأن غدًا له رزق جديد
عن ابن عباس وعمران بن الحصين - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اطلعتُ في الجنةِ فرأيت أكْثَرَ أهلِها الفُقَراء» الحديث متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اله - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الفُقَراءُ الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
قال أحمد بن عاصم: أنفع اليقين ما عظم في عينيك ما به أيقنت، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فات، وألزمك الفكر في بقية عُمرك وخاتمة أمرك.(1/28)
وأنفع الصدق أن تقرَّ لله عز وجل بعيوب نفسك، وأنفعُ الحياء أن تستحي أن تسألهُ ما تُحبُ وتأتي ما يكره.
وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك، وأفضل الجهاد مُجاهدتك نفسك لتردها إلى قبول الحق.
وأوجبُ الأعداء منك مجاهدة أقربُهم منك دُنُوًّا وأخفاهُم عنك شخصًا وأعظمهم لك عداوةٌ وهو إبليس.
قُلتُ: فما ترى في الأنس بالناس؟ قال: إن وجدت عاقلاً مأمونًا فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع.
قُلتُ: فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل؟ قال: ترك معاصيه الباطنة.
قلتُ: فما بال الباطنة أولى من الظاهرة؟ قال: لأنَّك إذا اجتنبت الباطنة بطلت الظاهرةُ والباطنةُ.
قلتُ: فما أضر الطاعات لي؟ قال: ما نسيت بها مساوئك، وجعلتها نُصب عينيك إدلالاً بها وأمنًا.
قال: وسمعته يقول: استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصًا إلى الشكر، و استقلل من نفسك لله عزّ وجلّ كثير الطاعة إزراءً على النفس وتعرضًا للعفو.
واستجلب شدة التيقظ بشدة الخوف، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وسد سبيل العُجب بمعرفة النفس.
واطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخُلطاء، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكر، وبادر بانتهاز البُغية عند إمكان الفرصة، وأُحذرك «سوف».
وكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالمَقْتُ في عَسَى
وجُذَّ بسَيْف العَزْمِ سَوْفَ فإن تَجُدْ ... وإيَّاكَ مَهْلاً فهي أخْطَرُ عِلَتي
تَجِدْ نَفَسًا فالنَّفْسُ إنْ جُدْتَ جَّدتِ(1/29)
عن الأوزاعي أنه وعظ، فقال في موعظته: أيها الناس، تقوَّوا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواءُ فيها قليل وأنتم فيها مُؤجلون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمدَّ أجسامًا وأعظم آثارًا فخددوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد مُؤيدين ببطش شديدٍ وأجسام كالعماد.
فما لبثت الأيامُ والليالي أن طوت مُددهم وعفت آثارهم وأخوت منزلهم وأنست ذكرهم، فما تحسُ منهم من أحدٍ ولا تسمع لهم ركزًا.
كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتًا من عقوبة الله عز وجل.
فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وغيره لمن يخشى.
وأصبحتمُ من بعدهم في أجل منقوصٍ ودُنيا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه.
فلم تق منه إلا حمة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير وإرسال فتن، وتتابع زلازل ورذالة خلفٍ بهم ظهر الفسادُ في البر والبحر.
فلا تكونوا أشباهًا لمن خدعهُ الأملُ وغرَّ بطول الأجل وتبلغ بالأماني، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممَّن وعى نذرهُ، وعقل فمهد لنفسه.
كتب بعضهم إلى أخ يُوصيه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله عز وجل، والمراقبة حيث لا يراك أحد إلا الله عز وجل، والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة، ولا تنفع الندامة عند نُزوله.
فاحسر عن رأسك الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر للسباق غدًا فإن الدنيا ميدان المسابقين، ولا تغترَّ بمن أظهر النُّسك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف.(1/30)
واعلم يا أخي: أنه لابدّ لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وساوس الصدور، ولحظات العيون، وإصغاء الأسماع، وما عسى أن يَعْجز مثلي عن صفته.
واعلم: أنه مما وُصف به منافقوا هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدنيا بأبدانهم وطابقوهم عليها بأهوائهم، وخضعوا لما طمعوا من نائلهم، وداهن بعضهم بعضًا في القول والفعل، فأشر وبطر قولهم، ومرُّ خبيث فعلهم، تركوا باطن العمل بلا تصحيح فحرمهم الله تعالى بذلك الثمن الرَّبيح.
واعلم يا أخي: أنه لا يجزي من العمل القول، ولا من البذل العدةُ، ولا من التقوى ولا من التوقّي التلاوُم.
وقد صرنا في زمان هذه صفة أهله فمن كان كذلك فقد تعرّض للمقت وصُدّ عن سواء السبيل، وفقنا الله عزَّ وجل وإياك لما يحب ويرضى، انتهى. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فوائد ومواعظ
قال مالك بن دينار: مثلُ قُراء هذا الزمان كمثل رجلٍ نصب فخًا ونصب فيه بُرة فجاء عُصفورٌ، فقال: ما غيَّبك في التراب؟ قال: التواضع، قال: لأي شيء انحنيت؟ قال: من طول العبادة.
قال: فما هذه البُروة المنصوبة فيك؟ قال: أعددتُها للصائمين، فقال: نعم الجار أنت.
فلما كان عند المغرب دَنَا العصفور ليأخذها فخنقه الفخُّ.
فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم، ومرَّ والي البصر بمالك بن دينار والوالي يرفلُ (أي يجرُّ ذيلهُ ويتبختر)، فصاح به مالك: أقل من مشيتك هذه، فهمَّ خدم الوالي بمالك، فقال: دعوه.
ثم قال: ما أراك تعرفني، فقال له مالك: ومن أعرف بك مني أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة ثم أنت بين ذلك تحملُ البول والعذرة فنكس الوالي رأسه ومشى.
عن مالك بن دينار قال: قدمت من سفر لي فلما صرتُ بالجسر، قال العشَّار (الذي يأخذ العشر ضريبة): لا يخرجن أحد من السفينة ولا يقومن أحدٌ من مكانه فأخذت ثوبي فوضعته على عُنقي ثم وثبت فإذا أنا على الأرض.(1/31)
فقال العشَّار: ما أخرجك؟ قلتُ: ليس معي شيء، قال: اذهب، فقلتُ في نفسي: هكذا الأمر الآخرة (يعني ما يحصلُ للمخفِ تعويق يوم القيامة) التعويق يحصل لأهل الأموال كل بحسبه.
وقال بعض العلماء: ما يسرُ العاقل أن الدنيا له منذ خلقت إلى أن تفنى يتنعم فيها حلالاً لا يسألُ عنه يوم القيامة، وأنه حُجب عن الله عز وجل ساعةً واحدةً، فكيف بمن حُجب أيام الدنيا وأيام الآخرة.
من أكثر ذكر الموت كفاهُ اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قلَّ كلامهُ (إلا بذكر الله وحمده وشكره).
عن الأوزاعي، قال: كان يُقالُ يأتي على الناس زمانٌ أقل شيءٍ في ذلك الزمان أخ مؤنسٌ أو درهمٌ من حلال، أو عملٌ في سنة.
وقال: كان السلفُ إذا صدع الفجر أو قبله بشيء كأنَّ على رؤوسهم الطيرُ مُقبلين على أنفسهم لو أن حميمًا (أي صديقًا أو قريبًا) لأحدهم غاب عنه حينًا ثم قدم ما التفت إليه.
فلا يزالون كذلك حتى يكون قريبًا من طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، وأوَّل ما يُفيضون فيه أمرُ معادهم، وما هم صائرون إليه، ثم يتحلفون إلى الفقه والقرآن.
من توفيق الله للإنسان أن يكون له إخوان في الله يزدادُ علمهُ بمخالطتهم وتزداد طاعاته ويزداد حفظًا لأوقاته.
مَن لم يَكُنْ بَيْنَ إخْوانٍ يُسَرُّ
وأطْيَبُ الأرض ما لِلنَّفْسِ فيه تقى
وأخْبَثُ الأرضِ مَا لِلنَّفْسِ فيه أذَى ... فإنَّ أوقاتَه نَقْصٌ وخُسْرانُ
سَمُّ الخياط مع الأحْبَاب مَيْدَان
خضر الجنان مَعَ الأعْداء نيران
عن عامر أن ابنًا لشريح قال لأبيه: بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحقُ لي خاصمتهم، وإن لم يكن لي الحق لم أخاصمهم، فقص قصته عليه.
فقال: انطلق فخاصمهم، فانطلق فخاصمهم إليه فقضى على ابنه.
فقال له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك فضحتني.(1/32)
فقال: والله يا بني لأنت أحب إليَّ من ملئ الأرض مثلهم؛ ولكن الله هو أعزُّ عليَّ منك أخشى أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم، تأمل يا أخي، هل يوجد مثل العدل والورع؟
قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك، وتعجيل بالقضاء.
قال: الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أمثل (أي أحسن)، وأما إعجابي بنفسي، أفيعجبُكمُ ما ترون مني؟ قالوا: نعم، قال: فإن أحقُّ أن أعجب بنفسي، وأما قولكم: فإني أتعجل القضاء، فكم هذه -وأشار بأصابع يده؟ فقالوا: خمسة، فقال: أعجلتم ألا قُلْتُم واحدًا واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة.
قالوا: ما نعدُّ شيئًا قد عرفناه، قال: وأنا ما أحبس شيئًا قد تبين لي فيه الحكم.
عن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، قال: ما رأينا في القُراء أحدًا مثل عيسى بن يونس أرسلنا إليه فأتانا بالرقة فاعتل قبل أن يرجع، فقلت: يا أبا عمرو، قد أمر لك بعشرة آلاف، فقال: هي، فقلت: خمسون ألفًا، قال: لا حاجة لي فيها، فقلت: لِمَ والله لأهنئنكها هي والله مائة ألف.
قال: لا والله لا يتحدث أهل العلم أني أكلتُ للسُّنة ثمنًا، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إليَّ، فأما على الحديث فلا والله ولا شرابةَ ماء ولا هليلجة.
وقال أبو بكر المرزوي: سمعتُ أحمد بن حنبل وذكر ورع عيسى بن يونس، قال: قدم فأُمر له بمائة ألف، أو قال: بمال فلم يقبل، وتدري ابن كم؟ كان عيسى أراد أنه كان حدث السن.
وقال محمد بن المنكدر: حج الرشيد فدخل الكوفة فركب الأمين والمأمون إلى عيسى بن يونس فحدثهما فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم.
فأبى أن يقبلها فظن أنه استقلها، فأمر له بعشرين ألفًا، فقال عيسى: لا والله ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهبًا إلى السقف.(1/33)
طلب الخليفة هشام بنُ عبدالملك ذات يوم أحد العلماء، فلما دخل عليه، قال: السلام عليك يا هشام، ثم خلع نعليه وجلس بجانبه.
فغضب هشام وهم بقتله ولما تحدث معه وجده عالمًا كبيرًا.
فلما انتهى الحديث عاتبه بقوله له لقد سميتني باسمي ولم تُكنِّني أو تدْعُني بالخلافة، وخلعت نعليك وجلست بجانبي فلم فعلت ذلك.
فقال له: لم أدعُك بالخلافة؛ لأن الناس لم ينتخبوك كُلُّهم.
وسميتك ولم أكنَّك؛ لأن الله جل وعلا وتقدس نادى الأنبياء بأسمائهم، فقال: يا عيسى، يا إبراهيم، يا موسى، يا نوح، يا داود.
وكنَّى عدوه، فقال: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } .
وخلعتُ نعلي بجانبك وأنا أخلعهما لما أدخُل بيت ربي.
وجلست بجانبك؛ لأني سمعتُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن سَرَّهُ أن يُمَثَلَ له الرجَالُ قِيامًا فَلْيَتَبوَّءْ مَقْعَدَهُ من النار».
فكرهت لك النار فأمر له هشام بمال فلم يقبله وانصرف.
تأمل يا أخي، هذا الورع عن أخذ شيء من حطام الدنيا على ما حدثهما به، وقال: لا يتحدث أهل العلم أني أكلتُ للسُّنة ثمنًا.
فما ظنك بمن يأكل بالكتب التي تحتوي على الآيات والأحاديث باسم تحقيق أو نشر ويحتكرها، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من عمى البصيرة، قال الله تعالى: { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } .
قال يوسف بن أسباط: عجبتُ كيف تنامُ عينٌ مع المخافة أو يغفلُ قلب مع اليقين بالمحاسبة!!
من عرف وجوب حق الله عز وجل على عباده لم تستحل عيناه أبدًا إلا بإعطاء المجهود من نفسه.
خلق الله تعالى القلوب مساكن للذكر، فصارت مساكن للشهوات.
الشهوات مُفسدة للقلوب، وتلف للأموال، وإخلاق للوجوه، ولا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج أو شوق مُقلق.
وقال: الزهدُ في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا.
وكان يُقال: اعمل عمل رجل لا يُنجيه إلا الله ثم عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له.(1/34)
اللهم عرَّفني نفسي ولا تقطع رجاءك من قلبي.
وقالت زوجته: كان يقول اشتهي من ربي ثلاث خصال، قُلتُ: وما هُنَّ؟ قال: اشتهي أن أموت حين أموت وليس في ملكي درهم، ولا يكونُ عليَّ دينٌ، ولا على عظمي لحم.
فأعطي ذلك كُله، ولقد قال لي في مرضه: أبقي عندك نفقة؟ فقلت: لا، قال: فماذا ترين؟ قلتُ: أخرج هذه الخابية للبيع، فقال: يعلم الناس بحالنا ويقولون ما باعُوها إلا وثم حاجة شديدة. فأخرج إليَّ شيئًا كان أهداه إليه بعضُ إخوانه فباعه بعشرة دراهم، وقال: اعز لي منها درهمًا لحنوطي وأنفقي باقيها، فمات، وما بقي غير درهم.
لِرَبِّيْ عِبادٌ وَحْدَهُ يَعْبُدُوْنِهُ
هُوَ السَّنَدُ الأقْوى الذي اسْتَنَدُوْا به
إذا اعْتَمَدَ المُضْطَرُ في الخَطبِ غَيْرَهُ
وإنْ حَسَدَ الناسُ الملُوكَ بِمُلْكِهَمْ
لأنّهُمُوْا حَلُّوْا بسَاحَةٍ مَالِكِ
مَحَبَّتُهُ القُوتُ الذي يَقْتَدُوْنَهُ
مَتَى فَاتَهُمَ من وَصْلِهِ قَدْرُ ذَرَّةٍ
لِهَذا اصْطَفَاهُمْ لَلْعِبَادَةِ دُوْنَ مَنْ
تَوَلاَّهُمُوْا دُوْنَ الوَرَى فَوَلاؤُهُ ... يَرُوْمُوْنَهُ لا يَسْتَقِرُوْنَ دُوْنَهُ
هُوَ المَقْصَدُ الأسْنى الذي يَقْصُدُوْنَهُ
فليسَ سِوَى مَوْلاهُمُوا يَطْلُبُوْنَهُ
فَليْسَ لهم في الناسِ من يَحْسُدُوْنَهُ
فَمَهْمَا أرَادُوا عِنْدَهُ يَجِدُوْنَهُ
وتوحِيْدُهُ الوِرْدُ الذي يَردُوْنَهُ
فَبا الروحِ ذَاكَ القَدْرَ هُمْ يَفْتَدُوُنَهُ
سِوَاهُمْ فَهُمْ طُوْلَ المَدَى يَعْبُدُوْنَهُ
طِرزٌ على ثوبِ التُقَى يَرْتَدُوْنَهُ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
عن يزيد الرقاشي قال: دخلتُ على عابد وإذا أهلُ بيته حوله فإذا هو مجهود قد أجهده الاجتهاد.
قال: فبكى أبوه فنظر إليه، ثم قال: أيها الشيخ، ما الذي يُبكيك؟ قال: يا بُني، أبكي فقدك، وما أرى من جهدك.(1/35)
قال: فبكت أمه، فقال: أيتها الوالدة الشفيقة الرقيقة، ما الذي يبكيك؟ قالت: يا بُني، فراقك وما أتعجلُ من الوحشة بعدك؟ قال: فبكى أهله وصبيانه، فنظر إليهم، ثم قال: يا معشر اليتامى، بعد قليل ما الذي يُبكيكم؟ قالوا: يا أبانا نبكي فراقك، وما الذي تتعجل من اليُتم بعدك.
قال: فقال: أقعدوني أرى كلكم يبكي لدُنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي! أما فيكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي! أما فيكم من يبكي لمسألة منكر ونكير وإيَّاي! أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي!
قال: ثم صرخ صرخةً فمات.
عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: كان عبدالرحمن بن يزيد بن معاوية خلاً لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبدالملك بن مروان وتصدع الناس عن قبره وقف عليه، فقال: أنت عبدالملك الذي كُنت تعدُني فأرجوك وتوعدني فأخافك أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبك وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين.
ثم انكفأ إلى أهله واجتهد في العبادة حتى صار كأنه شنٌ بالي، فدخل عليه بعض أهله فعاتبه في نفسه وإضراره بها، فقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن حالتك التي أنت عليها أترضاها للموت؟ (المعنى أترضى أن يأتيك الموت وأنت عليها)، قال: اللهم لا. قال: أفعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: ما انتصحت رأيي في ذلك.
قال: أفتأمنُ من أن يأتيك الموتُ على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا، قال: حال ما أقام عليها عاقل، ثم انكفأ إلى مصلاه.
وروي أن سليمان بن عبدالملك تجمل يومًا ولبس ثيابه واعتم بعمامة وعندهُ جارية، فقال لها: كيف ترين الهيئة؟ فقالت: أنت أجمل العرب لولا، فطلب منها أن تكمل الجواب وتصرح بما أضمرت، فقالت:
أنْتَ نِعْمَ المتاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى
أنْتَ خِلْقٌ مِنْ العُيُوبِ ومما ... غَيرَ أن لا بَقَاءَ للإنْسَانِ
يكَرَهُ الناسُ غَيْرَ أنَّكَ فَانِ(1/36)
فتكدر عليه ما كان فيه من الأبهَةِ والنعيم وما لبث بعدها إلا أيامًا قلائل حتى تُوفي.
فَقُلْ لِلَّذي قد غَرَّهُ طُوْلُ عُمِره
أفِقْ وانْظِر الدنيا بعَينِ بَصِيْرةٍ ... وما قد حَوَاهُ مِن زَخَارِف تَخْدَعُ
تَجِدْ كُلَّ ما فيها ودَائِع ترْجِعُ
آخر:
مَوَاعِظُ بِرٍ تُوْرِثُ النَّفْسَ عِبْرَةً
مَواعِظُ إمَّا تَسْأمِ النَّفْسُ ذِكْرَهَا
فَدُونَكَ يا ذَا الفَهْمِ إنْ كُنْتَ ذَا نُهَى ... وتَتْرُكُها وَلْهَاءَ حَوْلَ المَقَابِرِ
تُهَيِّجُ أحْزَانًا ممِن القلبِ ثَائِرِ
فَبَادِرْ فإنَّ الموتَ أوَّلُ زائِرِ
روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: لأن أدمع دمعةً من خشية الله عز وجل أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار.
ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى، وقال: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا؛ ولكن أبكي على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل في أيام الشتاء.
وبكى أحد العباد عندما احتضر، وقال: ما تأسفي على دار الهموم والأنكاد والأحزان والخطايا والذنوب، وإنما تأسفي على ليلة منتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر الله.
ولما احتضر مسروق بن الأجدع بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع وإنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي وبين يدي طريقان لا أدري إلى الجنة أم إلى النار، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
فصل
الناس في القناعة والزهد أقسام، منهم من عمل لدنياه وآخرته واسمتع من الدنيا بما رزقه الله ورضي وقع به، وهذا عيش المؤمن والقناعةُ محمودة، قال بعضهم:
يُقولُون لي مَن أرْغَدُ الناسِ عِيْشَة
فَقُلْتُ لِبَيْبٌ عارِفٌ قَهَرَ الهَوى ... ومَن بَاتَ عن سُبْلِ المخَاوُفِ نَائِبًا
وصارَ بحُكْمِ الله في الرزقِ رَاضِيًا
آخر:
يا لَهْفَ قَلْبي على شَيْئَيْنِ لَو جُمعَا
كَفافِ عَيْشٍ يَقِيْني شَرَّ مَسْألةٍ ... عِنْدِي لَكُنْتُ إذًا مِن أسْعَدِ البَشَرِ(1/37)
وخِدْمَةِ العِلمِ حَتَّى يَنْتَهِي عُمُرِي
القسم الثاني من الناس وَجَدَ مَتَاعَ الحَياة الدنيا وزخرفها عرضًا زائلاً ولذة مؤقتة وشاغلاً لهُ عن عبادة ربه والدار الآخرة، فأخذ من الدنيا ما لابُدَّ منه وعاش عيش الكفاف من الكسب الحلال.
وصرف معظم أوقاته لعبادة ربه طمعًا في محبة الله ورضاه عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ازْهَدْ في الدُنيا يُحبُكَ الله، وازهَدْ فيما عند الناس يُحبُكَ الناس»، وهذا هو الذي عَرف كيف يصرفُ وقته عكس من ذهبت أعمارهم فُرطًا.
وأهم الزهد في الدنيا أنْ لا تُلقى لها بالاً إنْ أَتَتْ لم تَفْرَحْ بها، وإنْ لم تأتِ لم تأسف عليها، وتخرجها من قلبك وتصرف رغبتك وفرحك إلى فضل الله ورحمته، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .
وقسمٌ من الناس ورعون ودرجة الورع عالية، وهي اجتنابُ الشبهات خوفًا من الوقوع في الحرام، والإقلالُ من الحلال لئلا يُشغِلْ عن العبادة.
والورعُ ملاكُ الدين وآفة الدين الطمع.
وأهم ما في الزهد والورع، الزهد في الحرام، والورع عن الشبهات، وحُسنُ الأدب مع الله.
روي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه له ديْنٌ على رجل في بغداد فذهب إليه ومعه بعض تلاميذه، وذلك في وسط النهار، والحرُ شديد فطرق الباب على الدائن، وابتعد عن الباب لوجود سقيفة فوق الباب لها ظلٌ يقي من حَرِّ الشمس، فقال له أحد تلاميذه: لم ابتعدنا عن السقيفة ووقفنا في الشمس، فقال أبو حنيفة: لنا دين على صاحب السقيفة، ووقوفنا تحت السقيفة هو استفادة من الدين، وهذه شُبْهَةُ ربا.
جاءت امرأة إلى عمرو بن قيس بثوب، فقالت: يا أبا عبدالله، اشتر هذا الثوب، واعلم أن غزله ضعيف وكان إذا جاءه إنسان يعرضه عليه قال: إن صاحبته أخبرتني أنه كان في غزله ضعف حتى جاء رجل فاشتراه، وقال: برأناك منه.(1/38)
وبعث أبو حنيفة إلى حفص بن عبدالرحمن شريكه في التجارة وأعلمه أن ثوبًا من المبيع فيه عيبًا فبينهُ للمشتري.
فباع حفصُ المتاع ونسي أن يُبين العيب واستوفى الثمن كاملاً، وقيل: إن الثمن كان ثلاثين ألفًا أو خمسة وثلاثين ألفًا، فبعث أبو حنيفة لشريكه وكلَّفه أن يبحث عن المشتري فلم يهتدي إلى الرجل، ففارق أبو حنيفة شريكه وتتاركا، ورفض أبو حنيفة أن يُضيف الثمن إلى حُرِّ ماله وتصدَّقَ به كاملاً.
وكان عند يونس بن عُبيد حُلل مختلفة فيها ما قيمتها أربعمائة وفيها ما قيمتها مائتان.
فخلَّف ابن أخيه في الدُكان فجاء أعرابي فطلب حُلَّةً بأربع مائة فعرض عليه من الذي قيمتُه مائتان فاشتراها بأربعمائة.
فاستقبلهُ يُونس وهي على يده فعرفها، فقال له: بكم اشتريتها؟ فقال: بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى ترُدَّهَا.
فقال: هذه في لدنا تُساوي خمسمائة وأنا ارتضيتُها، فقال يونس: انصرف معي، فإن النصح في الدين خيرٌ من الدنيا وما فيها، ثم أتى إلى الدكان وردَّ عليه مائتي درهم.
وخاصم ابن أخيه في ذلك ووبخه، وقال: أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين.
فقال: ما أخذها إلا وهو راضٍ بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاهُ لنفسك.
وقيل لمجمع التيمي وقد جلب شاته للبيع: كيف شاتك، قال: ما أرضاها؟
وروي عن محمد بن المنكدر أن غلامه باع لأعرابي في غيبته ما يُساوي خمسةً بعشرة، فلم يزل يطلبُ الأعرابي ويسأل عنه حتى وجدهُ.
فقال له: إن الغُلام قد غلط فباعك ما يُساوي خمسةً بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيتُ، فقال: وإن رضيتَ، فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، ورَدَّ عليه خمسة.
ولله در القائل:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ
فإذا قَدِرْتَ عليه ثُمَّ تَرَكْتَهُ ... أنَّ التَّورُعَ عند هذا الدَّرْهَم
فاعْلَمْ بأنَّ هُناكَ تَقْوى المُسْلِمِ
وفي المثل السائر: الدنيا مَحَكُّ الدِين.(1/39)
وعرض محمد بن واسع بسوق مرو حمارًا له على البيع، فقال له رجل: أترضاهُ لي؟ قال: لو رضيتُه لكَ لَمْ أبِّعهُ.
وذكر أن جرير بن عبدالله -وكان من أفاضل الصحابة- اشترى له غُلامُهُ فرسًا بثلاثمائة، فلما رأى جرير الفرس أعجبه، فذهب إلى صاحبه، وقال له: إن فرسك خيرٌ من ثلاثمائة (أي تسوى أزيد) وما زال يزيده في الثمن حتى أعطاه ثمانمائة.
تأمل يا أخي، هذا الورع هل له نظير في زمننا الذي ساد فيه الغش، بلِّغ يا أخي معشر الغشَّاشين والطماعين والغرارين والخدَّاعين.
وروى ابن أبي حاتم بسنده أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان، وغرس الأشجار، قام خطيبًا في مسجدهم.
فنادى يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون! ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما تأكلون وتبنون ما لا تسكنون، وتؤملُن ما لا تُدركون.
إنه قد كان قبلكم قرون، يجمعن فيُوعون، ويبنُون فيوثقون، ويُؤملُون فيُطيلون.
فأصبح أملهم غرورًا وأصبح جمعهم بُورًا، وأصبحت مساكنهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدنٍ وعُمان خيلاً وركابًا، فمن يشتري مي ميراث عادٍ بدرهمين.
إذا مَرضْنَا نَويْنَا كُلَّ صَالحة
نرجو الإله إذا خِفنا ونُسْخِطُه ... وإن شُفْيْنَا فَمِنَّا الزيغ والزَّلَلُ
إذا أمنَّا فما يَزْكُو لَنَا عَمَلُ
وكَتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري: أما بعد، فإن العبد إذا عمل بطاعة الله أحبهُ الله، فإذا أحبهُ الله حبَّبَهُ إلى خلقِهِ، وإذا عمل بمعصيةِ الله أبغضهُ الله، فإذا أبغضه الله بغضهُ إلى خلقه.
وكتب مرةً إلى أخ لهُ: أما بعد فلست في شيءٍ من أمر الدنيا إلا ما قدمت لنفسك، فآثرها على المُصلح من ولدك فإنك تقدمُ على من لا يعذُرك وتجمع لمن لا يحمدك.
وإنما تجمعُ لواحدٍ من اثنين، إمَّا عاملٌ فيه بطاعةِ الله عز وجل، فيسعد بما شقيت به.(1/40)
وإما عاملٌ فيه بمعصية الله عز وجل، فيشقى بما جمعتَ له.
وليس والله واحدٌ منهما أهلٍ أن تُبرِّد لهُ على ظهرك، وأن تؤثرهُ على نفسك.
أرجُ لمن مضى منهم رحمة الله، وثق لمن بقي منهم برزق الله عز وجل، والسلام.
وقيل لأبي الدرداء: مالك لا تشعر؟ قال: قد قُلْتُ فاسْمعوا:
يُريْدُ المرءُ أنْ يُعْطَى مُنَاهُ
يَقَولُ المرءُ فائِدتي ومَالي ... ويَأبى الله إلا مَا أرَادَا
وتقوى الله أفضلُ ما اسْتَفَادا
وقال: ما من أحد إلا وفي عقله نقص عن حلمه وعلمه، وذلك أنه إذا أتتهُ الدُنيا بزيادة في مال ظل فرحًا مسرورًا.
و الليل والنهارُ دائبَانِ في هدم عُمُرِهِ لا يُحزنُه لك، ظلَّ ظلالُه، ما ينفعُ مالٌ يزيد وعُمُرٌ ينقص.
وقال: نِعْم صومَعةِ المرءِ المسلم بيتُه يكُفُ لسانه وفرجه وبصرهُ، و إياكم ومجالس الأسواق، فإنها تُلهي وتلغِي.
خَلَتِ القلوبُ من المعاد وذكره
صَارتْ مجَالسُ من ترى وحديثهم ... وتشاغلُوا بالحرص والأطماع
في الصُحْفِ والتلفاز والمذياع
وعن أبي الدرداء قال: أخوفُ ما أخافُ أنْ يُقال لي يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ.
فإن قُلتُ: علمتُ لا تبقى آية آمرةٌ أو زاجرةٌ إلا أخذتُ بفرضيتها الآمرةُ هل ائتمرت والزاجر هل ازدجرت.
فأعوذُ بالله من علمٍ لا يَنْفَع ونِفْسٍ لا تَشْبَع ودعاءٍ لا يُسْمَع، رواه أحمد.
وقال: لو تعلمون ما أنتم راؤون بَعْدَ الموت، لما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتُم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون، ولخرجتم إلى الصعدات تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددتُ أني شجرة تُعْضَد ثم تُوكل.
وعن جبير بن نفير قال: لما فُتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيا أبا الدرداء جالسًا وحدهُ يبكي.
فقلت: يا أبا الدرداء، ما يُبكيك في يوم أعز الله الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جُبير، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا تركوا أمره.(1/41)
بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فرأيتهم كما ترى.
لا تَخْدَعَنْكَ مُنَى الحَيَاةِ فإنها
وتأهَّبَنْ لِلْمَوتِ قَبلَ نُزُولِهِ ... تُلْهي وتُنْسِي والمُنَى تَظْلِيْلُ
فالمَوتُ حَتْمٌ والبَقَاءُ قَلِيلُ
فوائد ونصائح
اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطعُ نعمهُ عنك واجعل خضوعك لمن لا تخرجُ عن مُلكه.
وقال العمري: إن من غفلتك عن نفْسِكَ إعراضك عن الله بأن ترى ما يُسخطه فتجاوزه ولا تأمر ولا تنهى خوفًا ممن لا يملك ضرًا ولا نفعًا.
الشكر من أعلى المقامات وهو أعلى من الصبر والخوف والزهد، وهو مقصود لنفسه ولذلك لا ينقطع في الجنة، وليس فيها خوف، ولا توبة ولا صبر، ولا زهد.
والشكر دائم في الجنة، ولذلك قال جل وعلا: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، وقال عن أهل الجنة: { وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
أما كيفية شكر الله فيتم بأمور، أولاً: أن يحمد الله على نعمه بلسانه ويشكره.
ثانيًا: أن يعتقد أن هذه النعمة أو النعم آتيتُه من الله تعالى كرمًا منه وإحسانًا.
ثالثًا: أن لا يستعينَ بها على مَعاصيه، بل يُطيع الله فيها.
رابعًا: أن يعرف فضل الله عليه وكرمه فيستحي منه فلا يعصه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال سهل بن عبدالله: استجلبْ حلاوةَ الزُهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحَّة اليأسِ، وتعرَّضْ لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر.
واستفتحْ باب الحُزن بُطول الفكر، وتزيَّنْ لله بالصدق في كل الأحوال.
وإيَّاك والتَّسويف، فإنه يُغرقُ الهلكى، وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
وقال يحيى بنُ مُعاذ: عمل كالسراب، وقلبٌ من التقوى خراب، وذُنُوب بِعدد الرمل والتُراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب.(1/42)
هيهات أنت سكرانٌ بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلَّك لو بادرت أجَلَكَ، وما أقواك لو خالفت هواك.
وقال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم، طلبتَ الدنيا طلب من لابُد له منها، وطلبتَ الآخرة طلب من لا حاجة له إليها.
والدُنيا قد كُفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالُها، فاعقل شأنك.
وقال: مفاوزُ الدنيا تُقطعُ بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطعُ بالقُلُوب.
وقال: يا ابن آدم، لا يزالُ دينُك مُتمزقًا ما دام قلبُك بحُب الدنيا متعلقًا.
نرقع دُنْيَانَا بتَمْزِيْقِ دِيْنَنا
فَطُوبَى لِعَبْدِ آثر الله وحْدَهُ ... فَلا ديِنُنَا يَبْقَى ولا ما نُرَقِّعُ
وجاد بدنياه لِما يُتَوقّعُ
الدنيا لذةُ ساعة، يتبعُها حُزْنٌ طويل، وهمومٌ وغموم وأنكاد، ومصائب ومتاعب.
والآخرة صبرٌ قليل، وسرور، ونعيم، لا نهاية له لمن رضي الله عنه، قال الله تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: شهدتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال في آخرته: «فيها مَا لا عينٌ رَأتْ ولا أذنٌ سمِعَتْ ولا خطر على قلب بشر»، ثم قرأ: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ } إلى قوله تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } رواه البخاري.
وعن صهيب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تُرِيْدُونَ شَيْئًا أزِيْدُكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وجُوهَنَا! ألم تُدْخِلْنا الجنَةَ وتنجينا من النار، فيكشَفُ الحجابَ، فما أعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهم مِن النظرِ إلى رَبِهم».
حكم ووصايا
أخوك مَن عَرَّفَكَ العُيُوبَ، وصديقك من حذرك من الذنوب، وعلى قدر خوفك من الله يهابُك الخلق.(1/43)
وعلى قدر حُبك لله يُحبك الخلق، وعلى قدر شغلك بالله يشتغل الخلقُ بأمرك.
عجب ممن يحزنُ على نُقصان ماله كيف لا يحزنُ على نُقصان عمره.
وقال: أيها المريدون، إن اضطررتم إلى طلب الدُنيا، فاطلبوها ولا تُحبوها، واشغلوا بها أبدانكم، وعلقوا بغيرها قُلوبكم.
فإنها دار ممر، وليست بدار مقر، الزاد منها، والمقيلُ في غيرها.
النَّاس قَدْ عَلِمُوْا أنْ لا بَقَاءَ لَهُمْ ... لَوْ أنَّهُمْ عَمِلُوْا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوْا
وقال آخر: يا مَن قد بَلَغَ أربَعِين سَنَة، وكُلُ عُمره نومٌ وَسِنَةْ، يا مُتْعِبًا في جمع المال بَدَنَهْ، ثم لا يَدْرِي لِمَنْ خَزَنَهْ، أعْلِمْ هذه النَّفْسَ المُمْتَحِنَةْ، إنها بكَسْبِهَا مُرْتَهَنَةْ.
ألا يعتبر المغرور بمن قد دفنه، كم رأى من جبارٍ فارق أهله وأولاده ومسكنه، انتبِهُوا يا راحلين بالإقامة، يا هالكين بالسلامة.
أين من أخذ صفو ما أنتمُ في كدره، أما وعظكم بسيره في سيره، بل قد حمل بريد الإنذار أخبارهم، وأراكم تصفح الآثار آثارهُم.
وحَدَّثَتْكَ اللَّيالي أنَّ شيمَتَهَا
وكُنْ على حَذرٍ منها فقَدْ نَصَحَتْ ... تَفْريْقُ ما جَمَعَتْه فاسْمَعِ الخَبَرَا
وانَظُرْ إليها ترى الآيات والعبرا
حبال الدنيا خيال تغُر الغرَّ، المتمسك بها يلعب بلعاب الشمس وبيت العنكبوت، الدنيا كالمرأة الفاجرة لا تثبت مع زوج.
ولو كانت الدُنْيَا من الإنس لم تكن ... سوى مُومِس أفنتْ بماسَاء عُمْرَهَا
يا مقيمًا في دائرة الغير، كم حضرت فيها من مُحتضر، وكم عاينت فيها من قبر يتفر، لقد ألانت مواعظها كُلَّ صلدٍ وحجر، اسمع يا من إذا عامل خان وظلم.
يا هذا أما علمت أن اللطف مع الضعيف أكثر لما كانت الدجاجة لا تحبو على الولد أخرج كاسيًا، ولما كانت النملة ضعيفة البصر أعينت بقوة الشم فبها تجدُ ريح المطعوم من بعيد فتطلب.(1/44)
ولما كان التمساح مُختلف الأسنان كُلما أكل حصل بين أسنانه ما يؤذيه فيخرجُ إلى شاطئ البحر فاتحًا فاه طالبًا للراحة فيأتي طيرٌ فينقر ما بين أسنانه فيكون ذلك رزقًا للطائر وترويحًا عن التَّمْسَاح.
وهذه الخُلد دويبة عمياء من أقوى المخلوقات سمع، قال الشاعر:
فهُم في جُموعٍ لا يَراهَا ابنُ دَايةٍ ... وهم في ضَجِيْجٍ لا يُحسُّ به الخُلْدُ
قد ألْهِمَتْ هذه الدُّوَيْبَةَ العَمْيَاء وقت الحَاجَةِ لِلْقُوتِ أنْ تَفَتح فاها فيسقط الذباب فيه فتتناول منه.
وهذه الأطيار تترنَّم طُول النهار فيقال للضفدع: مالكِ لا تنطقين، فتقول مع صوت الهزار: يُستبشعُ صوتي.
فيُقالُ: هذا الليل ولما خلق الله جَل وعلا الأخرس لا يقدر على الكلام سُلبَ السَّمْعَ لئلا يسمعُ ما يكره ولا يُمكنِهُ الجواب فكُلُ أخرس أطرُوش.
و لمَّا تولع الجذام بأظفار أصحابه صعُبَ عليهم الحكُّ فمُنِعَ منهم القملُ فليس في ثياب المجذوم قملة.
سُبحان من هذا لُطفه وهذه حكمه، { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ، { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ، و { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } .
من أدعية المضطرين: يا ودُوْدُ يا ذا العرش المجيد، يا مُبْدئُ يا مُعِيْد، يا فَعَالٌ لِمَا تُريْد، أسألك بنوُرِ وجهك الذي ملأ أركانَ عرشك وبقُدْرَتِكَ التي قدرت بها على جميع خلقك.
وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت، يا مُغِيْث أغثني.
قيل لجعفر الصادق: مالنا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم تدعُون من لا تعرفونه.(1/45)
عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين (قرية في بلاد فارس) فدعا بثلاث دعواتٍ، فاستُجيبت له فيهن: نزلنا منزلاً فطلب الماء ليتوضأ فلم يجده، فقام فصلى ركعتين، وقال: اللهم إنا عبيدُك وفي سبيلك نُقاتلُ عدُّوَكَ، اللهم أسْقِنَا غيثًا نتوضأُ منه ونشربُ، فإذا توضأنا لم يكن لأحدٍ فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلاً، فإذا نحن بماء حين أقلعتْ عنه السماء فتوضأنا منه وتزودنا وملأتُ إدواتي (إناء صغير من جلد) وتركتُها مكانها حتى أنظر هل استُجيب له أم لا؟ فسرنا قليلاً ثم قُلْتُ لأصحابي: نسيتُ إدواتي، فجئتُ إلى ذلك المكان فكأنهُ لم يُصيبهُ ماءٌ قطُ، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليمُ يا حليمُ يا عليُ يا عظيمُ إنا عبيدُكَ وفي سبيلك نُقاتلُ عَدُوَّكَ، الهم فاجعل لنا إليهم سبيلاً، فتقحَّم البحر فخُضْنَا ما يَبْلُغُ لبودنا، فخرجنا إليهم فلما رجع أخذه وجعُ البطنِ فمات فطلبنا ماء نغسلهُ فلم نجده فلففناهُ في ثيابه ودفناهُ.
فسرنا غير بعيد فإذا نحنُ بماء كثير، فقال بعضُنا لبعضٍ: لو رجعنا فاستخرجناهُ فغسَّلناه، فرجعنا فطلبناهُ فلم نجدُه، فقال رجلٌ من القوم: إني سمعته يقول: يا عليُ يا عظيمُ يا حليمُ أخف عليهم موتي -أو كلمة نحوها- ولا تُطلِع على عورتي أحدُا، فرجعنا وتركناه، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم وفقنا الله وإياك أن الأعمال الصالحة تُفيدُ الراحة في الدنيا والتنعم في الآخرة.
وعمارة الدنيا تكسب التعب فيها والشقاء بعد مُفارقتها.
ومن صدق نفسهُ بفناءِ الدنيا زهد فيها ومن صدَّق نفسه ببقاء الآخرة رغب فيها.
احذر كل الحذر من الكذاب، والمُمَثِّل، والنَّمام، والمُتجسِّس، والسَّاخر، والغشاش والحاسد، والعيان، والمتكبر، والمُعجب بنفسه، والمتهم باللواط، والمتهم بالزنا، فإن هؤلاء قُربهم وخيم وضررهم عظيم في الدنيا والآخرة.(1/46)
ينبغي للعاقل أن يغتنم أوقاته في الدنيا، إما بسبب يُثمر راحة في الدنيا أو يُثمر نعيمًا وحمدًا في الآخرة، وهذا ما يتمناه اللبيبُ العاقل.
أيَا ابْنَ آدَمَ لا تَغْرُرْكَ عَافيةٌ
ما أنت إلا كَزَرْع عِنَ خُضْرَتِهِ
فإن سَلِمْتَ مِن الآفاتِ أجْمَعِهَا ... عَلَيكَ شَامِلةٌ فالعُمرُ مَعْدُوْدُ
بكُلِ شيءٍ مِن الآفات مَقْصُودُ
فأنْتَ عندَ كمالِ الأمرِ مَحْصُودُ
قال بعضهم: عجبًا لمن لا يهتم بمؤنة الشتا حتى يقوى البرد، ولا بمؤنة الصيف حتى يشتد الحرُ، ومن هذه صفته في أمور الدنيا { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } .
هذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع أفتراك ما علمتَ قُربَ رحيلك إلى القبر المظلم الذي ستنفرد فيه وحدك ويُسد عليك فيه باللبن والطين.
فهلَّا عملت لك فراش تقوى، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } .
تَزَوَّدْ من الدُنيا بسَاعَتِكَ التي
فلا يَوْمُكَ المَاضِي عَلْيْكَ بعَائدٍ ... ظَفِرْتَ بها مَا لم تَعُقْكَ العَوائِقُ
ولا يَومُكَ الآتي به أنْتَ وَاثِقُ
وهذا اليربوع لا يتخذ بيتًا إلا في موضع طيب مرتفع ليسلم من سيل أو حافر، ثم لا يجعله إلا عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه إذا عاد إليه، وليجده بسرعة عندما يحذر من شيء.
ثم يجعل له أبوابًا من جهات، ويرقق بعضها ليسهل عليه الخروج، فإذا أتي ن باب دفع برأسه مأرق وخرج.
وهذا الأيل يأكل الحيات فيشتد عطشه فيحومُ حول الماء ولا يشربُ لعلمه أن الماء يُنفذ السموم إلى أماكن لا يبلغها الطعام.
ومن عادته أنه يسقط قرنُه كُلَّ سنة وهو سلاحه فيختفي إلى أن يَنبُت فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وهذه الحية تختفي طول الشتاء بالأرض فتخرج وقد عشى بصرها فتحكه بأصول الرازيانج؛ لأنه يزيل الغشاء، فسبحانه من حكيم عليم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.(1/47)
وهذا الفهد إذا سمن علم أنه مطلوب وشحمه يمنعُه من الهرب فهو يستر نفسه إلى أن ينحل جسمه ويزول الشحم، فسبحانه من إله بصير بكل شيء.
وهذه النملة تدخر في الصيف للشتاء، فإذا خافت فساد الحب وتعفُنَهُ أخرجته إلى الهوى، فإذا حذرت أن ينبت نقرت موضع القطمير.
وهو الشقُ في الحبة والنواة، فسبحانه من إله حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم أحاط بكل شيء علمًا.
وهذه السمكة إذا حبستها الشبكة قفزت بكل قوتها لتقطع الحابس وأنت لو نهضت بقوة العزم لانخرقت شبكة الهوى.
اسمعْ يا من ضيق على نفسه الخناق بفعل المعاصي، فما أبقى لعُذرٍ موضعًا، يا مقهورًا بغلبة النفس قم عليها بسوط العزم، فإنها إن علمت منك الجدَّ والاجتهاد والعزم الصادق استأسرت لك، فامنعها ملذوذها ليقع الصلحُ على ترك الحرام.
وخَالِفِ النَفِسَ والشيطانَ واعْصِهِمَا
كم حَسَّنْتْ لَذَةً لِلْمَرءِ قاتِلَةً ... وإنْ هُمَا مَحضَاكَ النُصْحَ فاتَّهِمِ
مِن حَيْث لم يَدْرِ أنَّ السم في الدِّسَمِ
ثم اعلم: أن الدنيا والشيطان خارجيان خارجان عليك خارجان عنك، فالنفس عدو مباطن.
ومن آداب الجهاد ما أرشدنا إليه الله، قال جل وعلا وتقدس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم } .
وليس من بارز بالمحاربة كَمَنْ كَمَنَ واختفى، فما دامت النفسُ حية تسعى، فهي حية تسعى أقل فعلها تمزيقُ العمرِ بكفّ التبذير كالخرقاء وجدت صُوفًا.
أخلُ بنفسك في بيت الفكر ساعة، وانظر هل هي معك أو عليك، نادِهَا بلسان التذكرة، وقُل يا نفسُ صابري عطش الهجير، يحصل الصوم وتحزمي تحزُم الأجير فإنما هو يوم.
الجَدُّ بالجِدِّ والحِرمَانُ في الكَسلِ
إنَّ الفَتى من بماضِي الحَزْمِ مُتَّصِفًا
ولا يُضَيّعُ سَاعَاتِ الزَّمَانِ فَلَنْ
ولا يَعُدُ عُيُوبًا بالورى أبَدَا
ولا يؤمِّلُ آمالاً بصُبْحِ غَدٍ
ولا يَصُدُ عن التَّقوَى بَصَيْرتَهُ(1/48)
مَن لم يَصُنْ عِرْضَهُ مما يُدَنِسُهُ ... فانْصَبْ تُصِبْ عن قَريْب غَايَة الأملِ
وما تَعَوَّد نقَضَ القَولَ والعَمل
يَعُودَ ما فَاتَ مِن أيَّامِهِ الأَولِ
بَلْ يَعْتَني بالذي فيه من الخَلَلِ
إلا عَلى وَجَلٍ مِن وَثْبَةِ الأجَلِ
لأنها لِلْمَعَالي أوضَح السُبُلِ
عَارٍ وإنْ كانَ مغمُورًا مِن الحُللِ
يا هذا دَبرْ دينَكَ كما دَبَّرْتَ دُنْيَاكَ لو عَلِقَ بِثَوبِكَ مِسْمَار رجعت إلى وراء لتخلصه.
هذا مسمارُ الأضرار قد تشبث بقلبك، فلو عدلت إلى الندم خطوتين تخلَّصْتَ.
ولكن هَيْهَاتَ صَبيُ الغَفْلَةِ، كُلَّما حُرِّكَ نَامَ.
كُل يوم تحضر المجلس وتسمع الموعظة، فإذا خرجت كما دخلت، قال الشيطان: فديتُ من لا يُفلح.
ويحك إبك بكاء من يدري قيمة الفائت من الوقت.
يا هذا، اسمع كلام الناصح المخلص الذي يريد نفع جميع المسلمين، الدنيا حمالةُ المصائب كدرةُ المشارب تورثُ للبرية أنواع البلية مع كل لقمة غُصَّة فما أحدُ فيها إلا وهو في كل غرض لأسهُمٍ ثلاثةٍ: سهم نقمة، وسهم رزية، وسهم منيَّةٍ.
تُنَاضِلُه الأوقاتُ مِن كُلِّ جَانِبٍ ... فَتُخْطئُه طَوْرًا وطَوْرًا تُصِيْبُهُ
فمن كان معتبرًا بما يتجدد كل يوم من حلول الحوادث بأصحابها.
ومعتبرًا بما يتجدد كل يوم من ارتجاع النعم من أربابها وشدة حُزنهم واغتمامهم بفقدها لم يأسف على فواتها.
أرَىَ الدهرًا أَغْنَى خَطْبُهُ عن خِطَابِهِ
لَهُ قُلَّبٌ تَهْدِي القُلوُبَ صَوَاديًا
هُو الليثُ إلا أنَّهُ وهْوَا خَادِرٌ
وهَيهاتَ لَمْ تَسْلَمْ حَلاوَةُ شَهْدِهِ
مُبيْدٌ مَبَادِيهِ تَغُرُّ وإنَّما
أَمْم تَرَ مَن سَاسَ المَمالِكَ قادرًا
ودَانَتْ لَهُ الدنيا وكَادْتْ تُحِلُّهُ
لقد أسْلَمَتْهُ حِصْنُهُ وحُصُونُهُ
فَلا فِضَّةٌ أنْجَتْهُ عندَ انْفِضَاضِهِ
سَلا شَخْصَهُ وُرَّاثُهُ بتُراثِهِ ... بِوَعْظٍ شَفَى الْبَابَنَا بِلُبَابهِ
إليها وتَعْمَى عن وَشِيْكِ انْقِلابِهِ(1/49)
سَطَا فأغَابَ اللَّيثَ عن أنْسِ غابِهِ
لِصَابِ إليه مِن مَرَارَةِ صَابِهِ
عَواقُبَهُ مَختُومَةٌ بِعِقَابِهِ
وسَارَتْ مُلُوكُ الأرَضِ تَحتَ رِكَابِهِ
عَلى شُهْبِهَا لَولا خُمُودُ شهَابِهِ
غَدَاةَ غَدًا عَن كَسْبِهِ باكْتِسَابِهِ
ولا ذَهبٌ أغْنَاهُ عِندَ ذَهَابِهِ
وأفْرَدَهُ أتْرابُهُ بتُرابهِ
ومهما أمعن اللبيب فكره في أصحاب الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وكثرة مصائبهم فيها، تسلَّي عنها وهان عليه تركها.
وكان بعضهم يحضر دار المرضى ليُشاهدهم ويُشاهد عللهم ومحنهم، ويحضر السجون والمستشفيات والمقابر مساكن الموتى.
فيشاهد أرباب العزاء وأسفهُم على ما فرطوا وعلى ما لا ينفع مع اشتغال الموتى بما هو فيه.
وكان يعودُ إلى بيته بالحمد والشكر طُول النهار على نعم الله عليه في تخليصه من البلايا.
وينبغي للإنسان أن ينظر إلى من دونه في المال والجاه ليشكر الله ويحمده، وينظر في الدين إلى من هو فوقه ليجتهد ويُشمر ليلحقه.
وإبليس لعنه الله إذا استولى واستحوذ على الإنسان نكَّس هذا النظر وعكسه.
فإذا قيل له لم تتعاطى هذا الفعل القبيح، اعتذر بعذرٍ قبيحٍ، وذلك بأن يقول: فلان يتعاطى ما هو أعظم منه.
وإذا قيل له: لم لا تقنع بهذا الموجود، يقول: فلان أغنى مني ولا قنع فلم أصبر على ما ليس يصبر عنه.
وهذا عين الضلال والجهل.
قال بعضهم: إخواني الدنيا غرَّارة، غدَّارة، خدَّاعة، مكَّارة، تظنها مقيمة وهي سيارة، وتظنها مصالحة، وهي قد شنَّت على أهلها الغارة، فانتبه لها:
يَا أيُّها ذا الذي قَد غَرَّهُ الأمَلُ
ألا ترى إنَّما الدُنيا وزيْنَتُهَا
حُتُوفُهَا رَصَدٌ وعَيْشُهَا نكَدٌ
تَظَلُ تُفْزِعُ بالروَّعَاتِ سَاكِنَهَا
كأنَّهُ لِلْمَنَايا والرَّدَى غَرَضٌ
والنفسُ هارِبَةٌ والموتُ يَتْبَعُهَا
والمرءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ ... ودُوْنَ ما يأملُ التَّنْغِيْصُ والأجَلُ
كمَنْزلِ الرَّكبْ حَلُّوْا ثُمَّتَ ارْتَحَلُوْ(1/50)
وصَفُّوُها كدَرٌ ومُلكُها دُوَلُ
فَمَا يَسُوغ لَهُ عَيْشٌ ولا جَذَلُ
تَظَلُ فيه سِهَامُ الدَّهِرْ تَنْتَظِلُ
وكُلُ عَثْرَةِ رِجْلٍ عِنْدَهَا جَلَلُ
والقَبْرُ وَارِثُ ما يَسْعَى لَهُ الرَّجُلُ
قال وهب بن كيسان: كتب إليَّ عبدالله بن الزبير بموعظة:
أما بعد، فإن لأهل التقوى علاماتٍ يُعرفون بها ويعرفُونها من أنفسهم: من صبر على البلاء ورضي بالقضاء وشُكرٍ للنعماء، وذُلٍّ لحكم القرآن.
وإنما الإمام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاء أهل الحق وإن نفق عنده الباطل جاءه أهل الباطل.
قيل لبعضهم: من يعرف كل العلم قال كل الناس، قُلتُ: هذا غلط واضح ما يعرف كل العلم إلا الله جل وعلا، قال عز من قائل: { وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } .
قيل: إنه لما طُعن عمر - رضي الله عنه - قال لابنه: ضَعْ خدِّي على التُراب فوضعه فبكا حتى لصق الطينُ بخده وعينه، وجعل يقول: ويليْ وويلُ أمي إن لم يرحَمني ربي، ودخل عليه كعب وكان قد قال له: إنك ميت إلى ثلاثة أيام فلما رآه أنشد:
وَوَاعَدَانِي كَعْبٌ ثلاثًا يَعُدُّهَا
وما بي حِذَارَ الموتِ إنّي لَمَيتٌ ... ولا شَكً أنَّ القَولَ ما قَالَهُ كَعْبُ
ولكن حِذارَ الذَّنْب يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ
واعجبًا من خوف عمر مع كماله، وأمنك مع نقصانك، قيل لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أيُّ رجل كان عمر؟ فقال: كان كالطائر الحذر الذي له بكل طريق شرَكَا.
وكان - رضي الله عنه - لم يكن له وقتٌ معين ينام فيه فكان ينعسُ وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تنام؟ فقال: كيف أنام! إن نُمتُ بالنهار ضيّعْتُ أمور المسلمين، وإن نمتُ باللَّيْلُ ضيَّعْتُ حظِي من الله عز وجل.
قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يُطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا.(1/51)
فإن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليًا، فإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضأ أو عائدًا مريضًا أو مُشيعًا لجنازة أو قاعدًا يُسبِّحُ في المسجد.
وقال الأسود بن سالم: سمعتُ مُعتمر بن سليمان التيمي قال: سقط بيتٌ لنا كان أبي يكون فيه، فضرب فُسْطاطًا فكان فيه حتى مات، فقيل له: لو بنيته، فقال: الأمر أعجل من ذاك غدًا الموت.
تَبْنِى المَنَازلَ أعْمَارٌ مُهَدَّمةٌ ... مِن الزمانِ بأنْفَاس وسَاعَات
آخر:
أتَبْني بِنَاء الخالِدِينَ وإنَّما
لقد كان في ظل الأرَاكِ كِفَايَةٌ ... مَقَامُكَ فيها لو عَرَفْت قَلِيْلُ
لِمَن كان يومًا يقتفيه رَحَيْلُ
فيا مُسَدود الفهم بكثرة الشواغل حضرْ قلبك لحظةً للموعظة، يا عبد الطمع طالع دار الأحرار القنوعين.
ما أطول غشية غفلتك فلمن نُحدَّث.
قلبك في غلاف غفلة وفطنتك في غشاوة غباوة.
وكلامُنا يدور حول ستور سمعك وموانع الهوى تحجبهُ أن يصل فلو قد وصل إلى القلب أثر.
قيل: إنه عضت رجلاً حية فلم يعلم أنها حيَّةٌ فلم يتغيَّرْ.
فلما أخبر أنها حيَّةٌ مات؛ لأنه حين أخبر انفتحت مسامُّهُ فوصل السُّمُ إلى القلب.
فيا أعمى البصيرة، إمش مع من يُبْصِر.
ويا أطرش، الهوى صاحب من يسمع.
جالس المخبتين والخاشعين والبكائين، فلعلك أن تتأثر فتأثير الصحبة أمر لا يخفى.
يا من يشاهد ما يجري على الخائفين ولا ينزعج.
أقل الحالات أن تبكي رحمةً لهم إذا رأيت دموع الثُكلى والأرملة واليتيم، فلابُدَّ من الرحمة إلا أن تكون ممَّن نزعت من قلوبهم الرحمة. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل في فوائد نافعة لمن له عقل وفهم
اطلب في الحياة العلم والمال: العلم لإزالة الجهل عن نفسك وعن المؤمنين، والمال لاستعماله فيما يرضي الله لا للتكاثر والتباهي تحرزْ بهما الرِّياسة على الناس.
لأنهم ينقسمون إلى قسمين: خواص وعوام، فالخاصة تُفضِّلُك بما تُحسنُ، والعامة تُفضلك بما تملك.(1/52)
لا تطلب سُرعة العمل واطلب حُسنُه وجودته، قال الله تبارك وتعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } والناس لا يسألون كم يوم استغرقت مُدة العمل وإنما يسألُون عن جودة صنعته.
المُعلم زارع والنفوس مزارع، والدراسة ماء التربية فمن لم تكن مزرعته نقية وماؤها متدفقًا لم ينجح الزرع.
القدوةُ مُعلم يفيد بلا لسانٍ بإذن الله ومرشد ناصح من غير بيان.
وهي مدرسة الإنسان العلمية التي يرسخ تعليمها في النفوس ويعلقُ بالأفهام.
والناس مائلون دائمًا إلى أن يتعلموا بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم.
والمرْئِي يؤثرُ أكثر من المقروء والمسموع.
وتعليم العمل أنفع من تعليم القول والإرشاد يُرى الطريق، ولكن القدرة البكماءُ تسيره فيه بإذن الله.
ومهما أوتي المُعلم من الفصاحة والبراعة في تهذيب النفوس فليس ببالغ ما يبلغه زميل له دُونه في المهارة وفوقه في السيرة.
ولهذا قيل: خير النصح افعل كما أفعل لا كما أقول، ولما كانت غريزة التشبه أقوى في الأحداث ينبغي أن ينشئوا في بيئة صالحة لينشئوا نافعين، فإنهم يتشبهون ويتمثلُونَ بمن حولهُم، قال الله تعالى عن بلقيس: { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } .
ولهذا قالوا: انظر إلى الحشرات الصغيرة تتلون بلون النَّباتِ الذي تقتاتُ به.
ومن أجل ذلك كان التَّربيةُ البيتية أبلغ في نفوسهم من التربية المدرسية.
فالبيت أصل المجتمع ومن ينوعه تنبعث الآداب والأخلاق؛ ولهذا يجب الاعتناء به.
وصفات الوالدين تظهر في أولادهما وأفعالهما المختلفة التي يمارسونها تحيا في أولادهما بعد أن يكونوا قد نسوْا تعليمها الشفوي.
ونظرة واحدة من الأب أو الأم قد تبقى مؤثرة في الولد مدى الحياة.(1/53)
وعن نهشل بن كثير، عن أبيه قال: أدخل الشافعي يومًا إلى بعض حُجر هارون الرشيد ليستأذن له ومعه سراج الخادم، فأقعده عند أبي عبدالصمد مؤدب أولاد هارون الرشيد، فقال سراجُ للشافعي: يا أبا عبدالله، هؤلاء أولادُ أمير المؤمنين، وهذا مؤدبهم فلو أوصيته بهم، فأقبل عليهم، فقال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينُهم معقودةٌ بعينك، فالحَسنُ عندهم ما تستحسنهُ، والقبيحُ عندهم ما تكرهُه، علمهم كتاب الله ولا تُكرههُم عليه فيملوُه ولا تتركُهمُ منه فيهجُروه، ثُمَّ روهم من الشعر أعفهُ، ومن الحديث أشرفه، ولا تُخرجهم من علم إلى غيره حتى يُحكمُوه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلةٌ للفهم.
إذا وقفت النفسُ عما اشتبه عليها وقبلت ما اتضح لها فهو دليلٌ على ذكائها وورعها.
نُفوسُ الأبرار تنفر من أعمال الفُجار.
ونفوسُ الأشرار مُتبرمة ومتكرهةٌ لأعمال الأبرار.
مُتبعُ الشهوات نادمٌ في العاقبة مذمومٌ في العاجلة، وتارك الشهوات سالم غانم في العاجلة، محمود مغتبط في الآجلة.
من مال إلى الدنيا تعجل التعب فيها، وكان على يقين من فنائه.
ومن زهد فيها استراح من عنائها وأحبهُ أهلُها، وأمن خوف العاقبة بعد مُفارقتها.
ما أغفل من يتيقن بالرحيل عن الدنيا، وهو دائب جاد في عمارتها.
وجدير بالعاقل أن لا يُجدَّ في عمارةِ شيء يتركه لغيره.
لله عَشْرٌ مِن الأعوامِ باهِرةَ
كذا تمرُ لَيالي العُمْرَ راحلةً
نُمْسِيُ ونُصْبِحُ في لَهْوٍ نُسَرُّ به
والعُمرُ يَمْضِيُ ولا نَدْري فوا أسَفًا
يا لَيْتَ شِعْرِي غدًا كيف الخلاصُ به
يا رب عَفْوَكَ عما قد جَنَتْه يدِي ... مَضَيْنَ كالسهمِ أو كالبَرقِ في عَجَلِ
عَنَّا ونحنُ مَعَ الآمالِ في شُغُلِ
جَهْلاً وذَلِكَ يُدْنِينا مِن الأجَلِ
عليه إذْ مرَّ في الآثام والزَّلَلِ
ولم نُقدمْ لنا شيئًا مِن العملِ
فليسَ لي بجَزَاء الذنْبِ مِنْ قِبلِ
حكم متنوعة(1/54)
الحُزْنُ على فقدان الطاعة مع عدم القيام والاجتهاد في طلبها من علامات الإغترار.
إذا أردت أن تشاور أحدًا في شيء من أمر نفسك فانظر كيف يُدرُ ذلك المستشار أمر نفسه.
فإن كان لم يصلح تدبير نفسه ولم يُكسبها خيرًا فأنت أحرى أن لا تنتفع به ولست ألزم عليه من نفسه.
الحكمةُ والذكرُ الحسن أبقى وأحسنُ من المال عند العقلاء؛ لأن المال مضمحلٌ والحكمة والذكر الحسنُ باقيان.
وقد يكون المالُ عند السُفَل والأراذل.
وأما الحكمة والذكر الجميل فعند أهل الفضل.
العجزُ يُعرفُ في الرجل من ثلاث خَصال: قلةُ اهتمامه بمصالح نفسه وقلةُ مُخالفتِهِ لما يشتهي وقبولُه الشيء بدُون تفكُّر ونضرٍ في العواقب.
كُن مع والديك كما تُحب أن يكون معك ولدُك.
يا هذا، مثِّلْ لنفسك صرعة الموت وما قد عزمتَ أن تفعل حينئذٍ وقت الأسرِ فافعلهُ وقت الإطلاق.
ومثل نفسك في زاوية من زوايا جهنَّم وأنت تبكي أبدًا وأبوابها مُغلقة وسقوفها مُطبقة وهي سوداء مظلة.
لا رفيق تأنسُ به ولا صديق تشكو إليه ولا نوم يُريحُ ولا نفس ولا طعام إلا الزَّقُوم ولا شرابَ إلا الحميم.
قال كَعْب: إنَّ أهل النار ليأكلُونَ أيديهُم إلى المناكب مِن النَّدامة على تفريطهم وما يشعرون بذلك.
فانتبه يا غافل لاغتنام عُمِركَ وازرع في ربيع حياتك قبلَ جُدوبة أرض شخصك.
وادَّخِرْ من وقت قُدرتك لزمن عجزك واعتبر رحلك قبل رحيلك.
فكأنك بحرب التَّلف قدْ قامت على ساق وانهزمت جُيوشُ الأمل.
وإذا ملك الموت قد بارز الروح يجتذبها بخطاطيف الشدائد من تيار العُروق.
وقد أوثق كتاف الذبيح وحار البصر لشدة الهَوْلِ.
ولا تسألْ عن حال المُحتضر وما نزل به من الكروب والسكرات.
فتيقظ يا مسكين وتهيأ لتلك الساعة وحصِّلْ زادًا قبل العوزِ.
أفَكِّرُ في مَوْتي وبَعْدُ فَضِيْحَتي
وتَبْكِي دَمًا عَيْني وحُقَّ لَهَا البُكَا
فما لي إلا الله لا أرْجُ غَيْرَهُ(1/55)
واسأَلُ رَبي في وَفَاتي مَؤْمِنًا ... فَيَحْزَنُ قَلْبِي مِن عَظِيمِ خَطِيْئَتي
على سُوء أفْعَالي وقِلَّةِ حِيْلَتَي
ولا سِيَّمَا عندَ اقْترَابِ مَنِيَّتِي
على مِلَّةِ الإسلام أشْرَفَ مِلَّةِ
يا عجبًا ربنا جل وعلا يتحبب إلينا بالنعم وهو غنيٌ عنا وعن كل خلقه أهل السموات والأرض.
ونتمقت ونتبغض إليه بالمعاصي ونحن محتاجون إليه، بل مضطرون إليه.
علامة مَحبة الله إيثار طاعته وتجنب معاصيه ومُتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال بعضهم: أحببتُ ربي حُبًا سهل عليَّ كُلَّ مُصيبة ورضاني في كل قضيَّة.
فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت وأرجو أن أكون من أحبابه.
قال أحد الشعراء أبياتًا في مخلوق لا تصلح إلا لرب العزة والجلال تبارك وتعالى، فعدلنا فيها ووجهنا الطلب والتمني إلى الله:
فَلَيْتَكَ تَعْفُو والحياةُ مِرْيَرةٌ
ولَيْتَ الذي بَيْني وبَيْنَكَ عامِرٌ
إذا نِلْتُ مِنْكَ الودَ يَا خَالِقَ الوَرَى ... ولَيْتَكَ تَرضَى والأنامُ غِضَابُ
وبَيْنيْ وبَيْنَ العَالمِينَ خَرَابُ
فكل الذي فَوْقَ التُرابِ تُرابُ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال سفيان الثوري: لا يجتمع في هذا الزمان لأحد مال إلا وعنده خمس خصال: طول الأمل، وحرص غالب، وشح شديد، وقلة الورع، ونسيان الآخرة.
ستة أشياء هن غريبةٌ في ستة مواضع: المسجدُ غريب بين ناس لا يصلون فيه، والمصحفُ غريبٌ في منزل قوم لا يقرءون فيه، والقرآن غريب في جوف الفاسق، والمرأة المسلمة غريبة في يد رجل ظالم سيئ الخلق، والرجلُ المسلمُ الصالحُ غريبٌ في يد امرأةٍ رديئةٍ سيئة الخلق، والعالم غريب بين قوم لا يستمعُون إليه.
اعلم أن القلوب القاسية تعالج بأمور:(1/56)
أولاً: الإقلاع عَما هي عليه من المعاصي، وذلك بحضور مجالس الوعظ والتذكير والتخويف والترغيب، وأخبار الصالحين، والإكثار من مطالعة الكتب المحتوية على ذلك، فإنَّ ذلك يُلين القلوب بإذن الله.
الثاني: ذكر الموت فيكثر من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومميت البنين والبنات.
يروى أن امرأة شكت إلى عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قساوة قلبها، فقالت: أكثري من ذكر الموت يرقُ قلبك، ففعلت ذلك فرقَّ قلبها، فجاءت تشكر عائشة.
قال بعض العلماء: يا من يجد في قلبه قسوةً، احذر أن تكون نقضت عهدًا، فإن الله تعالى يقول: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } .
ولما احتضر عمرو بن قيس الملائي بكى، فقال له أصحابه: علام تبكي من الدنيا فوالله لقد كُنت تبغضُ العيش أيام حياتك!! فقال: والله ما أبكي على الدنيا إنما أبكي خوفًا أن أحرم خوف الآخرة.
وكان إذا نظر إلى أهل السُوقِ، قال: ما أغفل هؤلاء عما أعدَّ لهُم.
قال جارٌ لمسعر بن كدام: بكى مسعر فبكت أمه، فقال لها مسعر: ما أبكاك يا أمَّاه؟ فقالت: يا بُني رأيتكَ تبكي فبكيتُ، فقال: يا أماه لمثل ما نهجمُ عليه غدًا فلنطل البكاء، قالت: وما ذاك؟ فانتحب، فقال: القيامة وما فيها، قال: ثم غلبه البكاء، فقام.
وكان يقول: لولا أمي ما فارقتُ المسجد إلا لما لابد منه، وكان إذا دخل بكى، وإذا خرج بكى، وإن صلى بكى، إن جلس بكى.
ولما حضرته الوفاة دخل عليه سفيان الثوري فوجده جزعًا، فقال له: تجزع فوالله لوددتُ أني مُتُّ الساعة.
فقال مسعر: أقعدوني فأعاد سفيان الكلام عليه، فقال: إنك لواثق بعملك يا سُفيان.
لكني والله على شاهقَةِ جبل لا أدري أين أهبط، فبكى سفيان، وقال: أنتَ أخوفَ لله مِني.
قال بعضُهم: من غض بصرهُ عن المحارم وأمسك نفسهُ عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السُّنة وعوَّد نفسه أكل الحلال لم تُخْطِ له فراسة.(1/57)
فصل في بعض ذكر فوائد الموت
اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك:
أولاً: أنه يردعُ عن المعاصي، ويُلينُ القلب القاسي.
ثانيًا: يُذهب الفرح والسرور بالدنيا، ويُزهدُ فيها، ويُهون المصائب.
ثالثًا: التأثر في مشاهدة المحتضرين الذي تخرج أرواحهم، فإن في النظر إليهم ومشاهدة سكراتهم عند نزع أرواحهم، وشخوص أبصارهم عند نزعها، وعجزهم عن الكلام، عند تسلُل الروح من الجسد.
وتأمل صُورهم بعد خروج الروح ما يقطعُ عن النُفوسِ لذاتها ويطرد عن القلوب مسرَّاتها ويمنعُ الجفون من النَّوم ويمنعُ الأبدان من الراحة، ويبعثُ على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة.
فروي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كُربه وشدَّة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام، فلم يأكل، وقال: فوالله لقد رأيتُ مصرعًا لا أزالُ أعمل له حتى اللقاء.
رابعًا: مما يلين القلوب القاسية زيارةُ القبور.
فإنها تَبْلُغُ مِن القلوب ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث؛ لأنها تذكر بالآخرة.
ولم أرَى كالأمواتِ أفْجَعَ مَنْظِرًا ... ولا واعِظِي جُلَّاسِهم كالمقابِرِ
آخر:
وَعَظَتْكَ أجْدَاثٌ وهُنَّ صُمُوْتُ ... وأصْحَابُها تحْتَ التُرابِ خُفُوْتُ
الخامس: زيارة المستشفيات والمستوصفات فإنها تلين القلوب وتحث الإنسان على حمد الله وشكره وعلى الجد والاجتهاد فيما يعودُ نفعُه على الإنسان في الآخرة.
وينبغي للإنسان أن يُقوِّي ظنه بالله ويستحضر رحمته ورأفته ولطفه بعباده ولاسيما عند الاحتضار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» رواه مسلم، في حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي» الحديث متفق عليه.(1/58)
ولا ريب أن حُسن الظن برب العالمين الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الحليم الكريم الجواد الرحمن الرحيم الرءوف بالعباد الغني عنا وعن أعمالنا وعن تعذيبنا عقابنا.
من أعظم ما نتقرب به إليه ومن أجزل ما نتوجه به عليه.
أيُّ عبادَةٍ أعظمُ من حُسْنِ ظننا برب العالمين مع الخوف مِن مُعاملتِهِ إيَّانا بعَدْ لِهِ.
فالعاقل يكون بين الخوف والرجاء لكن يُغلب الرجاء عند الاحتضار ويحسن الظن بالكريم الغفار، ويستحضر أنه قادم على أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين البر الرحيم.
وإن حصل أن يتلى عند المحتضر آيات الرجاء وأحاديث الرجاء ليقوى ظنه بالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
ومن آيات الرجاء قوله جلَّ وعلا وتقدس: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وقال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ، وقوله: { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } .
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } .(1/59)
ومن أحاديث الرجاء ما ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قُدم على رسول الله بسبي فإذا امرأة من السَّبْي تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعتهُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترونَ هَذَهِ المرأةَ طارَحِةً ولَدَهَا في النار؟» قلنا: لا يا رسول الله، فقال: «الله أرْحَمُ بعبادهِ مِن هذه بِوَلَدِها» متفق عليه.
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فإنَّ الله حَرَّمَ على النارِ مَن قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجْهَ الله» متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لما خَلَق الله الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ فهو عنده فوق العرشِ: إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي رواية: «غَلبت غضبي»، وفي رواية: «سَبَقَتْ غضبي» متفق عليه.
وروي عن الإمام أحمد أنه لما حضرته الوفاة قال لولده عبدالله: الْقِ عَليَّ أحاديث الرجاء؛ لأن المؤمن إذا سمع آيات الرجاء وأحاديث الرجاء قَوِيَ حُسْنُ ظنه بربه عز وجل، واشتاق إلى لقاء سيده ومولاه الذي هو أرحم به من والديه وأولاده فعند ذلك تَهون عليه سكراتُ الموت إذا أرَادَ الله.
إذا اشْتكَتْ مِن كَلالِ السَّيْرِ أوْ عَدَهَا ... وَصْلَ المُحِبِّ فَتَحْيَا عِندَ مِيْعَادِ
والمهم أنه يحرص كل الحرص على تقوية وحسن ظنه برب العالمين، ثم اعلم أن للموت سكرات قال الله جل وعلا وتقدس: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
وقيل: إن الأعضاء يسلم بعضُها على بعض، ففي تذكرة القرطبي، عن أنس مرفوعًا: «إن العبد لَيُعَالج كُرَبَ الموت، وإن مَفَاصِلَهُ لَيُسَلَمُ بَعْضَها على بعض، يقول: السلام عليكَ تُفَارِقُنِي وأفارِقُكَ إلى يومِ القيامةِ».
أي يُودِّعُ بعضها بعضًا.
خُلقْنَا لأحْدَاثِ الليالي فَرائِسًا
تُجَهِّزُ مِنَّا لِلْقُبوِر عَسَاكِرًا
إذا أمَلٌ أرْخَى لنا من عِنَانِهِ
أرَى الغُصْنَ لَمَّا اجتُثُّ وهو بمائِهِ(1/60)
نَشِيدُ قُصورًا لِلْخُلودِ سَفَاهَةً
وقد نَعتِ الدنيا إلينا نُفُوسَنَا
لقَدَ ضَرَبَتْ كِسْرَى الملوكَ وتُبَّعا
وقد فَضَح الدنيا لنَا الموتُ واعِظًا ... تُزَفُ إلى الأجْدَاثِ مِنَّا عَرائِسَا
وتُرْدِفُ أعوادَ المنايا فَوارِسَا
غَدًا أجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابسَا
رَطيبًا وما أنْ أصبحَ الغُصْن يابسَا
ونصبر ما شئنا فتورًا دَوَارسا
بِمَن مَاتَ مِنَّا لو أصَابَتْ أكَايسَا
وقَيْصَرَ أمثالاً فلم نَر قَائِسَا
وهيهاتَ ما نَزْدَادُ إلا تقاعُسَا
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال مالك بن دينار: عجبًا لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده، كيف تقر بالدنيا عينه، وكيف يطيب فيها عيشه، ثم يبكي حتى يسقط مغشيًا عليه.
قال الحارث بن سعيد: كنا عند مالك بن دينار وعنده قارئ يقرأ: { إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا } فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون، حتى انتهى القارئ إلى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًا يَرَهُ } ، فجعل مالك يبكي ويشهق حتى غُشي عليه، فحُمل بين القوم صريعًا.
واحترق بيته فأخذ المصحف وأخذ القطيفة فأخرجهما، فقيل له: يا أبا يحيى، البيت، فقال: ما فيه إلا السندانة ما أُبالي أن يحترق.
وروي عنه أنه كان يقول: إن الله عز وجل إذا أحب عبدًا انتقصه من دنياه وكفَّ عنه ضيعته، ويقول: لا تبرح من بين يديَّ، قال: فهو متفرغٌ لخدمة ربه عز وجل.
وإذا أبغض عبدًا دفع في نحره شيئًا من الدنيا، ويقول: أعزب من بين يدي فلا أراك بين يدي، فتراه معلقُ القلب بأرض كذا وبتجارة كذا.
وروي عن أبي عبدالله البراثي أنه كان يقول: حملتنا المطامعُ على أسوأ الصنائع نذل لمن لا يقدرُ لنا على ضررٍ ولا على نفعٍ، ونخضعُ لمن لا يملكُ لنا رزقًا ولا حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، فكيف أزعمُ أني أعرف ربي حقَّ معرفته وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات.(1/61)
قيل: إنه مر تاجر بعشار فحبسوا عليه سفينته، فجاء إلى مالك بن دينار، فذكر ذلك له، قال: فقام مالك فمشى إلى العشار، فلما رأوه، قالوا: يا أبا يحيى ألا تبعث إلينا حاجتك؟ قال: حاجتي أن تخلوا سفينة هذا الرجل.
قالوا: قد فعلنا، قال: وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم، فقالوا: ادع الله لنا يا أبا يحيى، قال: قولوا للكوز يدعو لكم، كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم، أترى يُستجاب لواحد ولا يستجاب لألف؟
وقال الربيع: نصب المتقون الوعيد من الله أمامهم فنظرت إليه قلوبهم بتصديق وتحقيق، فهم والله في الدنيا منغصون، ووقفوا ثواب الأعمال الصالحة خلف ذلك.
فمتى سمعت أبصار القلوب وارتاحت إلى حلول ذلك فهم والله إلى الآخرة متطلعون بين وعيدٍ هائل ووعدٍ حق صادق لا ينفكون من خوف وعيد إلا رجعوا إلى شوق موعود.
فهم كذلك وعلى ذلك، وفي الموت جُعلتْ لهم الراحة ثم يبكي.
وقال: إن لله عبادًا أخمصوا له البُطون عن مطاعم الحرام وغضُّوا له الجُفون عن مناظر الآثام.
وأهملُوا له العيون لما اختلط عليهم الظلام رجاءَ أن يُنير قُلُوبهم إذا تضمنتهم الأرضُ بين أطباقهم فهُم في الدنيا مُكتئِبون وإلى الآخرة مُتطلعون.
فهم الذين لا راحةَ لهم في الدنيا وهم الذين تقرُّ أعينُهم بطلعةِ ملك الموت.
وقال في كلام له: قطعتنا غفلةُ الآمال عن مبادرة الآجال فنحن في الدنيا حيارى لا ننتبه من رقدةٍ إلا أعقبتنا في أثرها غفلة.
فيا إخوتاه، نشدكم بالله، هل تعلمون مؤمنًا بالله أغرَّ ولنقمته أقل حذرًا من قومٍ هجمت بهم العبر والأمثال، ثم رجعوا عن ذلك إلى غير قلعةٍ ولا نقلة.
فإن تحسن أيها المرء يُحسن إليك، وإن تُسيء فعلى نفسك بالعُتب فارجع فقد بيَّن وحذَّر فما للناس على الله حُجة بعد الرسُل { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } .(1/62)
نزل جماعة من العباد ذات ليلة على الساحل فهيَّأ لهم أحدُ إخوانهم طعامًا ودعاُهم إليه فجاءوا فلمَّا وُضع الطعام بين أيديهم إذا قائل ينشد وهو على ساحل البحر هذا البيت:
وتهليْكَ عن دار الخلودِ مَطَاعِمٌ ... ولَذَّةُ نَفْسٍ غيُّها غَيْرُ نافِعِ
فبكى القوم ورُفعَ الطعام وما ذاقوا منه لُقمةً.
رُوَيُدَكَ فالدُنيا الدنيةَ كَمْ دَنَتْ
لَقَدْ فاقَ في الآفاقِ كُلُ مُوَفَّقٍ
فَسَلْ جَامِعَ الأموالِ فيها بحرصِهِ
وكم أسِدِ سَادَ البَرايَا ببرِه
فأصْبَحَ فيها عِبْرةً لأولي النُهَى ... بمَكْرُوْهِهَا مِن أهْلِها وصِحَابها
أفاقَ بها مِن سُكْرِها وصَحَابهَا
أخلَّفَهَا مِن بَعْدِهِ أمْ سَرَى بها
ولو نَابَها خَطْبٌ إذا ما وَنَى بِها
بِمِخْلَبِهَا قَدْ مَزَّقَتْهُ ونَابِهَا
وقال بعض العباد: لو يعلم الخلائق ما يستقبلون غدًا ما لذوا بعيش أبدًا، والله إني لما رأيت الليل وهولة وشدت سواده.
ذكرتُ به الموقف (أي موقف يوم القيامة) وشدة الأمر هنا ك وكل امرئ يومئذ تهمه نفسه يوم { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا } .
كانت إحدى العابدات تقول: طوى أملي طلوع الشمس وغروبها، فما من حركة تُسمع، ولا من قدم تُوضع، إلا ظننتُ أن الموت في أثرها.
وكانت تقول: سكانُ دار أوذنوا بالنقلة (أي اعلموا بالارتحال) وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد غيرهم، أو التأذينُ ليس لهم، والمعني بالأمر سواهم.
آهٍ من عقول ما أنقصها، ومن جهالة ما أتمها، بؤسًا لأهل المعاصي، ماذا غرُّوا به من الإمهال والاستدراج؟ بسطوا آمالهم، فأضاعوا أعمالهم ولو نصبوا الآجال وطووا الآمال خفت عليهم الأعمال.
وكانت تقول: لم ينل المطيعون ما نالوا من حُلولِ الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان لله والقيام لله بحقه في المنشط والمكرَه.(1/63)
وعن أبي سنان القسملي قال: سمعتُ وهب بن مُنبه، وأقبل على عطاء الخراساني، فقال: «ويحك يا عطاء، ألم أخبرك أنك تحمل علمك إلى أبواب الملوك وأبناء الدنيا؟ ويْحضك يا عطاء، تأتي من يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقرهُ، ويُواري عنك غناه، وتدع من يفتحُ لك بابه، ويُظهر لك غناءه ويقول: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
ويْحَكَ يا عطاء، ارْضَ بالدُّون من الدنيا مع الحكمة ولا ترض بالدون من الحكمة مع الدنيا، ويحك يا عطاء، إن كان يُغنيك ما يكفيك فإن أدنى ما في الدنيا يكفيك، ويحك يا عطاء، إنما بطنُكَ بحر من البُحور ووادٍ من الأدوية فليس يملؤه إلا التراب».
قال مقاتل بن صالح الخراساني: دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ فيه وجرابٌ فيه علمه ومطهرةٌ يتوضأ منها.
فبينما أنا عنده جالس إذا دقَّ الباب، فقال: يا صبيةُ أخرجي، فانظري من هذا؟ فقالت: رسول محمد بن سليمان أمير البصرة، قال: قُولي له يدخل وحده، فدخل فناولهُ كتابًا فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، أما بعد، فصبَّحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها والسلام».
قال: يا صبية، هلمي الدواة، ثم قال لي: اقلب الكتاب (أي الورقة)، واكتب: أما بعد، وأنت فصبَّحَكَ الله بما صبح به أولياءَه وأهل طاعته.
إنا أدركنا العُلماء وهم لا يأتون أحدًا.
فإن كانت وقعت مسألة فأتنا واسألنا عمَّا بدا لك.
وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحُك ولا أنصح نفسي والسلام.
فبينما أنا عنده دق الباب داق، فقال: يا صبية، أخرجي فانظري من هذا؟ فقالت: مُحمد بن سليمان.
قال: قولي له ليدخل وحده، فدخل فسلم، ثم جلس بين يديه.
فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأتُ رُعبًا.(1/64)
فقال حمادُ: سمعت ثابتًا البُنان يقول: سمعتُ أنس بن مالك يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقُول: «إنَّ العَالِمَ إذا أرَادَ بعِلْمِهِ وجْهَ الله عَزَّ وجَل هَابَه كلُ شيءٍ، وإذا أرادَ أنْ يَكَتَنِزَ به الكُنُوزَ هَابَ مِن كُلِ شيءٍ».
فقال: أربعُون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه.
قال: ارددها على من ظلمتهُ بها.
قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته.
قال: لا حاجة لي فيها إزوها عني (أي أبعدها عني) زوى الله عنك أوزارك.
قال: فتقسمها، قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعضُ من لم يُرزق منها لم يعدل إزوها عني ذوى الله عنك أوزارك. اهـ.
تأمل يا أخي، كيف يؤثر في القلوب كلام المخلصين الذين لا يريدون الدنيا وعروضها، قال أبو الوفاء بن عقيل: لا يعمل الوعظُ إلا من متقشفٍ مُتزهدٍ متورعٍ في نظافة جسمٍ (قلتُ: ونظافة قلب)، قال: فأما من يخرجُ بطينًا فاخر الثياب مداخِلاً للأمراء فكيف تستجيبُ له القُلوبُ إنما يُسمعُ من هؤلاء على سبيل الفُرجة، قلت: والانتقاد والاستهزاء والسخرية.
وكان حماد ـ رحمه الله ـ مشغولاً بنفسه إما أن يحدث، وإما أن يسبح ، وإما أن يصلي، كان قد قسم النهار على هذه الأعمال.
هُمُ الرجَالُ وغَبْنٌ أن يٌُالُ لِمَنْ ... لم يَتَّصِفْ بمعَالي وصْفِهِمْ رَجُلُ
جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقًا من حاله ومعاشه واغتمامً منه بذلك.
فقال له يونس: أيسرُّك ببصرك هذا الذي تُبصرُ به مائةُ ألفٍ، قال: لا.
قال: فسمعك الذي تسمعُ به يسرُّك به مائةُ ألف، قال: لا.
قال: فيداك يسرُّك بهما مائة ألف، قال: لا.
قال: فرجلاك، قال: فذكره نعم الله عليه.
فأقبل عليه يونس، فقال: أرى لك مئين أو لُوفًا وأنت تشكو الحاجة.
وجاءته امرأة بجبةِ خز، فقالت له: اشترها، فقال: بكم تبيعينها؟ قالت: بخمس مائة (500)، قال: هي خير من ذلك (يعني تسوى أزيد).(1/65)
قالت: بستمائة (600)، قال: هي خير من ذلك، فلم يزل يقول هي خير من ذلك حتى بلغت ألفًا (1000)، وقد بذلتها له بخمسمائة (500).
وكان يشتري الإبريسم من البصرة فيبعث به إلى وكيله وكان وكيله يبعث إليه بالخز (أي الحرير) فإن أخبر وكيله أن المتاع عنده زائد لم يشتر منهم أبدًا حتى يخبرهم أنه زائد، لئلا يغتروا.
وإذا زاد عندهم المتاعُ قال لوكيله: أخبر من تشتري لنا منه أن الشيء زائد عندنا.
وكان يقولُ: لو أصبت درهمًا حلالاً من تجارة لاشتريت به بُرًا ثم صيرته سوقًا ثم سقيته المرضى.
وأخرج شاة للبيع، وقال للدَّلال: بعْهَا وابرأ من أنها تقلبُ العلف وتنزع الوتد (أي أشرط على المشتري هذا العيب) هل يوجد مثل هذا النصح والورع في زمننا.
وكان السلف –رحمهم الله- قد جمعوا خصالاً حميدة منها النصح للأمة والصدع بالحق، ولو أدى ذلك إلى ضررهم وبذل المال و الجاه والمحافظة على الأوقات أعظم من مُحافظة أهل الأموال على أموالهم.
يقطعون الأوقات إما بتعليم علم مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما بصلاة.
وإما بالباقيات الصالحات لا إله إلا الله وسبحان والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أو نحو ذلك.
وأما أكثر أهل هذا الزَّمان فقد ذهبت أعمارهم فُرطًا مضاعة عند قتالات الأوقات فيما يضر ولا ينفع كالتلفزيون، والفيديو، والمذياع، والكورة، والورق، والقيل والقال، والكذب، والغيبة، والنميمة، وما أشبه ذلك.
وقد اتسع في زمننا الغيبة والنميمة والسعاية بسبب التلفون؛ لأنها بالزمان الأول لابُدَّ من اجتماع الأبدان.
ويندُرُ جدًا أن تجد الفطن اللوذعي المحاسب لنفسه على الحركات واللحظات الصائن لوقته عن الضياع.
لا يَحْقِر الرجُلُ الرفيعُ دَقيقةً
فكبَائرُ الرجلِ الصَّغِيْرِ صَغِيرةٌ ... في السَّهْوِ فيها للوضيع مَعَاذرٌ
وصغائرُ الرجلِ الكبيرِ كَبَائِرُ
آخر:
ولا يَذْهَبّنَّ العُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا(1/66)
فَمَنْ هَجرَ اللَّذَاتِ نَالَ المُنِى ومَنْ ... ولا تُغْبَنَنْ بالنَّعْمَتَين بَل أجْهدِ
أكَبَّ على اللَّذَاتِ عَضَ على اليَدِ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
ينبغي للإنسان أن يكون دائم الذكر للموت ليلاً ونهارًا لئلا يفجاءهُ قبل الاستعداد والتأهب له كما هي طريقة كثير من السلف.
والناسُ في ذكر الموت أقسام ثلاثة:
قسم لا يذكره أبدًا.
وقسم يذكره رُعبًا وخشيةً.
وقسم يذكره عقلاً وحكمة.
القسم الأول: أحمق وهو الذي لا يتذكر الموت ولا يجري له على خاطر كأنَّه قد ثبت في عقله أن لا موت.
فلا يحس هذه الحقيقة إلا عند المشاهدة، ولا يذكر الموت إلا ريثما تنقضي تلك المشاهدة كأن يشتد به المرض أو يختطف الموت أحد أهله أو جيرانه أو يحصل عليه حادث يقربه من الهلاك.
فهو لا يتفكر في الموت وما يعقبه إلا نظرًا في حال ماله وأولاده عند موته، ولا ينظر ويتدبر في أحوال نفسه.
وعندما يرى جنازة يقول بلسانه: «إنا لله وإنا إليه راجعون» ولا يرجع إلى الله بأفعاله، بل يرجع بأقواله فقط، وهذا على خطر عظيم.
القسم الثاني: يذكره دائمًا لخشية وقوعه وخوفٍ من نُزوله فيتولاهم الرعب ويستولي عليهم الفزع.
وأكثر ما يذكرونه إذا خلوا من أشغالهم وانتقلوا إلى أوقات فراغهم فيكدر عليهم صفاء هناءتهم وأشد ما يكون كدرهم ونكدهم إذا أقبلت عليهم الدنيا وتتابعت عليهم النعم وازداوا من متاع الدنيا وزينتها، فتراهم في هم دائمٍ وقلق وعناء مُقيم للتوقي من الأخطار والتحرُز من أسباب الهلاك ويتوهمون في كُلَّ لقمة تخمةً وفي كل جُرعةٍ غُصَّةً وتجدهم مهتمين دائمًا بالفحص عن أبدانهم خوف الموت.
القسم الثالث: وهو الذي وفقه الله للاستعداد للموت والتأهب للقاء الله، فهذا لا يفارقه ذكرُ الموت كالمتنقل من محل إلى محل آخر أو كالمسافر من بلدٍ إلى بلدٍ ليُقيم فيها.(1/67)
فإنه لا يفارقه ذكر مقصده، وذلك لأنه يعلم أن ذكر الموت يطردُ فضول الأمل، ويقطع المنى، ويهون المصائب، ويحول بين الإنسان والطُغيان، ومن فوائد ذكر الموت أن يُولدُ القناعة بما رُزق، والرضا بالميسور، والمبادرة إلى التوبة.
والاعتناء بالوصية، والتخلص من حقوق الله وحقوق عباده، وترك التحاسد، والحرص على الدنيا، والابتعاد عن الكبر والعُجب، ومن فوائد ذكره أنه يزيد النشاط في العبادة.
فعلى العاقل أن يكثر من ذكره، ولا يمهل نفسه، بل يصبح كل يوم على تقدير الاستعداد للرحلة؛ لأنه ما من وقت إلا والموت فيه مُمكن، وهذا أمر متفق عليه.
والناس مختلفون في كل الأشياء إلا الموت فلا خلاف فيه، قال الله تبارك وتعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ } .
أكْدَحْ لِنَفْسكَ قَبْلَ الموتِ في مَهَلٍ
إن المنيّة مَورُودٌ مَنَاهِلُها
وفي اللَّيَالي وفي الأيامِ تَجْربةٌ
بَعْدَ الشبابِ يَصِير الصّلْبُ مُنْحَنيًا
يُفْني النُفُوسَ ولا يُبْقِي على أحَدٍ
لِمُسَتقرٍ ومِيقَاتٍ مُقَدَّرةٍ
ومَن تعَاقِرهُ الأيامُ تُبْدِلُهُ
خَلَّوا بُروَجًا وأوطانًا ومُغْترَبًا
بمُوحِشٍ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلّتُهُ
كَمْ مَن مَهِيْبٍ عَظِيْمِ المُلْكِ مُتَّخِذٍ
أضْحَى ذليلاً صَغِيرَ الشأنِ مُنْفردًا
وقَبْلكَ الناسُ قَدْ عَاشُوا وقد هلَكُوا ... ولا تَكُن جاهلاً في الحقِ مُرْتابًا
لابُدَّ مِنْهَا ولو عُمِّرتَ أحْقابًا
يَزْدادُ فيها أولُو الألْبابِ ألبابًا
والشَّعرُ بعدَ سوادٍ كانَ قَدْ شَابَا
لَيلٌ سَرَيعٌ وشَمْسٌ كَرُّها دَابَا
حَتَّى يَعُودَ شُهودُ الناسِ غُيَّابًا
بالجارِ جارًا وبالأصحابِ أصحَابًا
كُسِيْتَ مِنه لِطُولِ النَّأْي أثْوَابًا
ولَيْسَ مَن حَلَّهُ مَن غَيْبَةٍ آبَا
دُونَ السُّرادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابًا
وما يُرَى عِنْدَهُ في القَبر بَوَّابا
فاضْرَبَ الحيُّ عن ذِي النأيِيْ إضرابًا(1/68)
اللهم ارحم ذُلنا يوم يقوم الأشهاد، وأمِّن خوفنا من فزع المعاد ووفقنا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الإلحاد، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل
ثم اعلم أن للموت نُذُر، قال القرطبي: ورد في الخبر أن بعض الأنبياء قال لملك الموت: أما لك رسول تقدمه بين يديك يكون الناس على حذر منك، قال: نعم، لي والله رُسُل كثيرة من الإعلال والأمراض والهرم وتغيُّر السمع والبصر والشيب.
فإذا لم يتذكر من نزل به ذلك ولم يتب ناديتُهُ إذا قبضتُه ألم أقدم لك رسُولاً بعد رسول وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير.
قال بعضهم:
تَسَاقَطُ أسْنَانٌ ويَضْعُفُ ناظِرٌ ... وتَقْصرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُلُ مَسْمَعُ
فما من يوم تطلع شمسه لا وملك يُنادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد أذهانكم حاضرة وأعضاؤكم قوية شداد، يا أبناء الخمسين، قد دنا الأخذ والحصاد، يا أبناء الستين، نسيتم العقاب وغفلتم عن ردِّ الجواب.
ومَنْ سَارَ نَحْوَ الدارِ سِتِّيْنَ حَجِّةً ... فَقَدْ حَانَ مِنْهُ المُلْتَقَى وكأنْ قَدِ
وورد في «صحيح البخاري»: أعذر الله إلى امرئٍ آخر أجله حتى بلغ ستين سنة، ورُوي أن ملك الموت دخل على داوُد ـ عليه السلام ـ، فقال: من أنت؟ قال: من لا يهابُ الملوك، ولا يمتنعُ من القُصُور، ولا يقبلُ الرُّشَاء.
قال: فإذًا أنت ملكُ الموت ولم أستعدَّ بعدُ، قال: يا داوُدُ، أين فُلانٌ جارك؟ أين فلانٌ قريبك؟ قال: ماتا، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد.
يا سَاهِيًا لاهِيًا عَمَّا يُرادُ بِهِ
تَرْجُ البَقَاءَ صَحيْحًا سَالمًا أبَدَا ... آنَ الرَّحِيْلُ وما قَدَّمْتَ مَن زَادِ
هِيْهَاتَ أنْتَ غَدًا مَعْ مَن غَدَا غادِ
آخر:
تمضي الحياةُ وأبناءُ الزمانِ بهِ ... في غفلةٍ بانْصِرامِ العُمْرِ ما شَعِرُوا(1/69)
قيل: إنها تُعرضُ على الإنسان في الدار الآخرة ساعاتُ أيامه ولياليه في هيئة الخزائن، كل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة بعدد ساعاتهما فيرى الساعة التي عمل فيها بطاعة الله خزانة مملوءة نورًا فيفرح بذلك فرحًا شديدًا، والتي عمل فيها بمعصية الله مملوءة ظُلمة، والتي لم يعمل فيها بطاعة ولا معصية يجدها فارغة لا شيء فيها.
فيعظم ندمه وحسرته إذا نظر إلى الفارغة، ويتمنى لو ملأها بذكر الله جل وعلا، قال جل وعلا وتقدس: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
وقال عز من قائل: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } فالعامل بطاعة الله يكون فرحًا مسرورًا مغتبطًا على الدوام يزيد فرحُه واغتباطه ويكاد فؤاده يطير من شدة الفرح.
وعكسه العامل بمعاصي الله يكون مغمومًا محزونًا قلقًا يزداد حُزنه وحسرتُه وندامتُه إلى غير نهاية.
ففكر يا أخي، واختر لنفسك رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين ما دُمت في قيد الحياة في دار الاختيار لم تطوى صحيفتك.
فالبدار البدار فيما ينفعك ويرفعك وإياك والتسويف، فإنه شرٍ والإنسان معرض للآفات والشواغل الكثيرة.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك».
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، وابن ماجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «المؤمن يموت بعرق الجبين»، وقال ابن مسعود: إن المؤمن يبقى عليه خطايا يُجازي بها عند الموت، فيعرق لذلك جبينه.
وقال سفيان: كانوا يستحبونة العرق للموت، ومن ثم قال علقمة لبعض أصحابه: أحضرني فَلِقني لا إله إلا الله، فإن عرق جبيني فبشرني.
قال بعضُ العلماء: وإنما يعرق جبينه حياءً من ربه لما اقترف من مخافته؛ لأن ما سفل منه قد مات وإنما بقيت منه قوة الحياة وحركاتها فيما علا.(1/70)
والحياءُ في العينين، والكافر في عما عن هذا كله، والمُوحد المُعذَّبُ في شغل عن هذا بما حل به.
ولما احتضر عمرو بن العاص قال ابنه: يا أبت، إنك كُنت تقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً عند الموت حتى يصف ما يجدُ، وأنت ذلك الرجل فصِفْ لي الموت، قال: يا بُني والله لكأني أنتفسُ من سمِّ أبرةٍ وكأن غُصْنَ شوكٍ يُجرُّ به من قدمي.
وقال: أجدُ كأن السموات أطبقت على الأرض وأنا ينهما وكأن نفسي تخرج على ثقب لأبرةٍ وكأن غُصن شوكٍ يُجذبُ به من هامتي إلى قدمي.
لَعَمْرَكَ مَا يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجت يومًا وضَاقَ بها الصَّدْرُ
سمع بعضهم بكاء على ميت، فقال: عَجبًا من قوم مُسافرين يبكون على مسافر قد بلغ منزله.
قال عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن تهون عليَّ سكرات الموت؛ لأنه آخر ما يؤجر عليه المؤمن.
أهل القبور محبُوسُون ندموا على ما قدموا، وأهل الدور مُنتظرون يقتتلُون على ما عليه أهل القبور مُتندمُون.
فلا هؤلاء إلى هؤلاء يرجعون، ولا هؤلاء بهؤلاء معتبرون.
سُئل بعضهم: هل من علامة تدل على أن الله قد قَبِلَكَ؟
فقال: إذا رأيت الله عز وجل قد عصمك عن المعاصي كُلِّها كرهها إليك، ووفقك لطاعته علمت أنه قد قبلك، قُلتُ: لو قال قوي ظنك ورجاؤك لكان أولى، إن للسيئة ظلمة في القلب وشينًا في الوجه، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق، ونقصًا في العقل والدين، وأما الحسنة فإن لها نورًا في الوجه، ونشاطًا في البدن، وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وزيادة في العقل والدين.
حِجَابُ عُمْرِكَ يا مَغْرُورُ مَهْتُوكُ
كَفَاكَ ما قَمَشَتْ كَفَّاك مِن نَشَبٍ
لله بَاكٍ عَلى زَلاَّتِهِ نَدَمًا
لا شَكَّ في الأجَلِ المحتُومِ يَلْحَقُهُ
يَقْلى الثَّواءَ بدَار غَير ثَاوِيَةٍ ... وبَيْتُ عِزِّكَ لَو فَكَّرْتَ مَنْهُوكُ
لابُدَّ يُصْبِحُ يَومًا وهْوَ مْتُروكُ
دَمًا يُخَضَّبُ منه النَّحْرُ مَسْفُوكُ(1/71)
وإفِكُ الفِكْرِ في الآيات مَأفُوكُ
فيها اسْتَوَى مالِكٌ هُلْكًا ومَمْلُوكُ
موعظة
أيُها العبد، حاسب نفسك في خلوتك وتفكر في سرعة إنقراض مُدتك، واعمل بجد واجتهاد في زمان فراغك لوقت حاجتك وشدتك.
وتدبَّر قبل الفعل ما يُملى في صحيفتك وانظر هل نفسك معك على الشيطان والهوى والدنيا أو عليك في مجاهدتك.
لقد سَعِدَ من حاسبها وفاز من حاربها وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها وكلما قصرت أو ونَتْ عاتبها وكلما توقَّفَتْ جذبها.
قال –عليه الصلاة والسلام-: «الكيس مَن دَان نَفْسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجِز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
وقال عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وطالبوها بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا وتزينوا للعرض الأكبر { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .
فصل
أخرج الحاكم في «المستدرك» وابنُ سعدٍ عن عوانة بن الحكم: أن عمرو بن العاص كان يقول: عجبًا لمن نزل به الموت، قال له ابنه عبدالله: يا أبتِ إنك كُنْتَ تَقُولُ: عجبًا لمن نزل به الموت وعقلُه معه كيف لا يصفُه، فصفْ لنا الموت؟ قال: يا بُني، أجلُّ من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئًا، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي شوك السلان، وأجدني كأن نفسي تخرجُ من ثقب إبرة.
وقال عمر - رضي الله عنه - لكعب: أخبرني عن الموت؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو مثل شجرةٍ كثيرة الشوك في جوف ابن آدم فليس منه عرق ولا مفصل إلا وفيه شوكة، ورجُلٌ شديدُ الذراعين فهو يُعالجها وينزعها.(1/72)
وأخرج أبو نعيم في «الحلية»، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «احْضُروا مَوْتَاكم ولقِنُوهُم لا إله إلا الله وبَشروهُم بالجنةِ، فإنَّ الحَليمَ مِن الرجالِ والنساءِ يَتَحَيَّرُ عند ذلك المَصْرَعِ، وإنَّ الشيطانَ أقربُ ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده لمُعاينةُ ملك الموت أشدُّ من ألف ضربةٍ بالسيف، والذي نفسي بيده لا تخرج نَفْسُ عبدٍ من الدنيا حتى يَتَألم كلُ عرقٍ منه على حِيَالِهِ».
قال بعضهم: من خاف الوعيد قصَّرَ البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله وكل ما هو آتٍ قريب.
واعلم يا أخي، أن كل ما يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤم.
واعلم أن أهل القبور إنما يفرحون بما يُقدِّمُون، ويندمُون على ما يُخلفُون.
وأهل الدنيا يقتتلون ويتنافسون فيما عليه أهل القبور يندمُون.
وقال مالك بن دينار: إن الله جعل الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من مفركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكُوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
ففي الدنيا حييتم ولغيرها خُلقتم إنما مثل الدنيا كالسُم أكله من لا يعرفه واجتنبه من عرفه.
ومثل الدنيا مثلُ الحية مسُّها لينٌ وفي جوفها السُّم القاتل يحذرها ذووا العقول، ويهوى إليها الصبيان بأيديهم.
وقال رجل لمالك بن دينار: يا مُرائي، قال: متى عرفت إسمي؟ ما عرف اسمي غيرُك.
وقال: ما ضُربَ عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
وقال: إن العالم إذا أتيتُه في بيته رأيت حصيرةُ للصلاة ومصحفه ومطهرته في جانب البيت ترى أثر الآخرة.
وقال: إن الأبرار لتغلي قُلوبهم بأعمال البر وإن الفجار تغلي قلوبُهم بأعمال الفُجُور والله يرى هُمُومكم فانظروا ما هُمُومكم رحمكم الله.
مُحَمَّدُ ما أعْدَدْتَ لِلْقَبرِ والبلى
وأنْتَ مُصِرٌ لا تُراجِعُ تَوبَةً
سَيَأْتِيْكَ يَومٌ لا تُحاوِل دَفْعَهُ ... وللْمَلَكيْنِ الوَاقِفَيْن على القَبْرِ(1/73)
ولا ترعَوي عما يُذَمُّ مِن الأمْرِ
فَقَدِّمْ لَهُ زادًا إلى البَعْثِ والنَّشْرِ
قال بعض العلماء: الأشياء المقتضية لسُوء الخاتمة والعياذ بالله أربعة: التهاون بالصلاة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وإيذاءُ المسلمين، وزاد بعضهم النظر إلى الأحداث.
وعن أبي سعيد قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُصلاه فرأى ناسًا يكتشرون (أي يضحكون)، فقال: «أما إنكم لو أكثرتُم مِن ذِكرِ هادِمِ اللذاتِ لَشَغَلكُم عَمَّا أرَى».
فأكثر ذكرها ذم اللذات الموت، فإنه لم يأت على القبر يوم إلا يتكلم، فيقول: أنا بيت الغُربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التُراب، وأنا بيت الدود.
فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: أهلاً ومرحبًا، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسعُ مدَّ بصره ويُفتحُ لهُ بابٌ إلى الجنة.
وإذا دُفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلاً، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري فإذا وليتك اليوم وصرت إليَّ فسترى صنيعي بك.
قال: فليتئم عليه حتى تلتقي وتختلف أضلاعُه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «في أصابعه و أدْخَلَ بَعْضَهَا في بعض، ويُقيضُ له تِسعُونَ تَنِّيْنًا لَو أنَّ واحدًا نَفَخَ في الأرضِ ما أنْبَتَتْ شَيْئًا ما بَقِيَتِ الدُنيا فتَنْهَشُه وتَخْدِشُه حتى يُفْضى به إلى الحساب».
قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القبر إمَّا رَوْضَةٌ مِن رِياض الجنة أو حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النار» أخرجه الترمذي.
وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه.
قال الحافظ ابن رجب: لكن روي معناه من وجوه ذكر بعضها. اهـ.
فتفكر يا مغرور بالموت وسكراته وصعوبة كأسِهِ ومرارته فيا للموت من وعدٍ ما أصدقه ومن حاكم ما أعد له.
فكفى بالموتِ مُقرِّحًا للقلوب ومُبْكيًا لِلْعُيون ومُفرقًا لِلْجَماعات وهاذمًا للذات وقاطعًا للأمنيات.(1/74)
فهلا تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك، ونقلت من سعة إلى ضيق، وفارقك الصاحب والرفيقُ، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فرشك وغطائك إلى حفر وغطوك من بعد لين لحافك بترابٍ ومدرٍ.
نُزَاعُ لِذكْرِ الموتِ سَاعةَ ذِكْرِه
يَقِيْنُ كأنَّ الشكَ غَالِبُ أَمْرِهِ ... وتَعْتَرضُ الدُنْيَا فَنَلْهُوا ونَلْعَبُ
عليه وعِرْفَانٌ إلى الجَهْلِ يُنْسَبُ
آخر:
ومُنْتَظِرٍ لِلْموتِ في كل لَحْظَةٍ
لَهُ حِيْنَ تَبْلُوهُ حَقِيْقَةُ مُوْقِنٍ
عِيانٌ كإنْكَارٍ وكالْجَهْلِ علْمُهُ ... يَشيْدُ ويَبْني دَائمًا ويُحَصِّنُ
وأعمالُه أعْمَالُ مَن لَيْسَ يُوقِنُ
بَمَذْهَبِهِ في كُلِّ ما يَتَيقَنُ
فيا جاع المال والمجتهد في البنيان ليس لك من مالك إلا الأكفان بَلْ هِيَ للخراب وجِسْمُكَ للتَّراب والمآب.
فأين الذي جمعته من المال أأنقذك من الأهوال كلا بل تتركه إلى من لا يحمدك وقدمت بأوزارٍ إلى من لا يعذرك.
إذا كُنْتْ جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا
تُؤدِّيْهِ مَذْمُوْمًا إلى غير حَامِدٍ ... فأنْتَ عليه خَازنٌ وأميْنُ
فيأكله عَفْوًا وأنَتَ دَفِيْنُ
كان بعضهم يوبخ نفسه، فيقول: عمل كالسَّراب وقلبٌ من التقوى خرا، وذنوبٌ بعدد الرمل والتراب.
ثم تطمع في الكواعب الأتراب هيهات أنت سكرات بغير شراب.
ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلَّك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك.
وقال آخر: العلمُ عصمة الملوك؛ لأنه يمنُعهم من الظلم، ويدرهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية.
فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويستنبطوا أهله، فأما المال فظل زائل وعارية مسترجعة، وليس في كثرته فضيلة، إلا لمن يسلطه الله على هلكته في الحق.
كمن ينفقه في الجهاد في سبيل الله، وعمارة المساجد وسائر المشاريع الدينية، ويتَنسَّخ من زكاته.(1/75)
كان موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين يُدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان كريمًا إذا بلغه عن رجل أنه يؤذيه، بعث إليه بمال.
وبعث موسى إلى الرشيد من الحبس رسالة إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معهُ يومٌ من الرَّخاء حتى نُفضي جميعًا إلى يوم ليس له انقضاء يخسرُ فيه المبطلون.
أخِي إنَّما الدُنيا محلَّة نَغْصَةٍ
تزوَّد أخِي مِن قَبلِ أن تَسْكُنَ الثَّرى ... ودَارُ غُرور آذَنَتْ بِفِراقِ
وتَلْتَفَّ ساقٌ لِلْمَماتِ بِساقِ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وسلم.
فصل
من فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم.
ويحثُك ذكر الموت على التوجُه في كل لحظةٍ إلى الآخرة بالاستعداد لها ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيقٍ وسعةٍ ونعمةٍ ومحْنةٍ.
فإن كان في حال ضيقةٍ ومحنةٍ فذكر الموت سهَّلَ عليه بعض ما هو فيه إذ لا مُصيبة إلا والموت أعظم منها وهو ذائقه ولابُد.
قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ } وإن كان في حال سعةٍ ونعمةٍ.
فذكرُ الموت يمنعه من الإغترار بالدُنيا والركون إليها لتحقق عدم دوامها وتحقق ذهابها عنه وانصرامها.
قال الله جل وعلا وتقدس: { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ } .
يُسِيءُ امْرؤٌ منا فَيُبْغَضُ دَائِمًا
اسَرَّ هَوَاهَا الشيخُ والكهلُ والفَتى
وما هي أهْلٌ أن يؤهَّلَ مِثْلُهَا ... ودُنَْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وتُوْمَقُ
بجَهْلٍ فمن كُل النَّواظر تُرْمَقُ
لَوُدٍ ولَكِنَّ ابنَ آدم أحْمَقُ
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى بعض أهل بيته: أما بعد، فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغض إليك كُلَّ فان.(1/76)
وقال بعض العلماء: الأيامُ سهام والناس أغراض والدهر يرميك كُلَّ يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق ويستكمل جميع أجزائك فكيف تبقى سلامتُك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كُشفَ لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يومٍ يأتي عليك واستثقلتَ مَمرَ الساعات بك ولكن تدبيرُ الله فوق كل تدبير.
ومَثِّلْ لِعَيْنَيْكَ الحمامَ وَوَقْعَهُ
وأنَّ قُصَارَى مُنْتَهَى الحَي حُفْرةٌ ... وَرَوْعَةَ مَلْقَاهُ وَمَطْعَمَ صَابِهِ
سَيَنْزلُها مُسْتَنْزَلاً عن قُبَابِهِ
آخر:
نَطْويْ سُبُوْتًا وآحادًا ونَنْشُرَهَا
فعُدَّ ما شِئْتَ مِن سَبْتٍ ومِنْ أحَدٍ ... ونَحَنُ في الطَّي بَيْنَ السَّبتِ والأحَدِ
لابُدَّ أن يَدْخُلَ المَطْوِيُ في العَدَدِ
وبالسلو عن غوائل الدنيا وأنكادها وتكديراتها وجد طعم لذاتها، وإنها لأمرُّ من العلقم، و الصبر والمر والحنظل إذا عجنها الحكيم وقد أعيت الواصفون لعيوبها بظاهر أفعالها وما تأتي به من العجائب أكثر مما يُحيط به الواعظُ والمحذَّر منها، ومع هذا فالقلب متعلق بها أعظم تعلق، قال الله جل وعلا: { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أمَّا اللسان فيذمُ الدنيا، وأما القلب فمحبتها في سويدائه على حدِّ قول الشاعر:
لِسَانُكَ لِلدُّنْيا عَدُوٌ مُشَاحِنٌ
وما ضَرَّها ما قُلْتَ فيها وقَدْ صَفَا ... وقَلْبُكَ فيها لِلِّسَانِ مُبَايِنٌ
لَهَا مِنْكَ وِدٌ في فُؤادِكَ كَامِنُ
آخر:
أبَى القَلْبُ ألَّا أمَّ دَفْر كَمَا آبى
هي المُشْتَهَى والمُنْتَهَى ومَعَ السُهَى
ولَمْ تُلْفِنَا إلَّا وفِيْنَا تَحَاسُدٌ ... سِوى أم عمرو مُوْجَعُ القلبِ هائِمُ
أمَاني مِنْهَا دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ
عليها وإلا في الصُدُور سَخَاءِمُ
تنبيه:(1/77)
اعلم يا أخي، أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما منَّ الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يُصلى فيه، وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة، ويُصرفُ النفس فيه بُمقتضى رُعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشاريع الدينية من طباعة مصاحف كتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الذين لا موارد لهم.
وقال آخر: وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها، فقال: الدنيا وقتك الذي يرجعُ إليك فيه طرفكَ؛ لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به، والدهرُ يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان والدهر مُوكَّلُ بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقُل الدُول والأملُ طويل والعمر قصير، و إلى الله تصير الأمور.
يا آدَميُ أتَدرْي مَا مُنْيتَ به
يَومٌ ويَومٌ ويَفْنَى العُمْرُ مُنْطَويًا
فلا تَغُرنَّكَ الدُنْيَا بزُخْرُفِهَا
والحَزْمُ يَجْني أمُوْرًا كُلُّهَا شَرَفٌ ... أم دُونَ ذُهْنِكَ سِتْرٌ لَيْسَ يَنْجَابُ
عَام جَديْبٌ وعامٌ فيهِ إخْضَابُ
فأرْيُهَا إنْ بَلَاهَا عَاقِلٌ صَابُ
والخُرْقُ ي َجْني أمُورًا كُلُّها عابُ
أما عمرك كل يوم يُنتهب، أما المُعظم منهُ قد تولَّى وذهب، إلى أي حين أنت في جمع الورق والذهب، تبخل بالمال وأوقات العمر تهب، يا من إذا خلا تفكر وحسب، فأمَّا لنزول الموت فما قدر وحسبْ.
تأهب فإنك مُقبل على كربةٍ لا كالكرب، تطلب النجاة من غير باب الطَّلب، وتقفُ في الصلاة وإن صلاتك لعجبْ، الجسْمُ حاضرٌ والقلبُ في شُعب.
الجسدُ بالعراق والقلبُ في حلب، الفهم أعجميُ و اللفظ لفظ العرب، وهذا يدل على أن حُبَّ الدُنيا والهوى على قلبك قد غلب.(1/78)
فكأنكم الدنيا قد تولت، والنفوس الكريمة قد هانت وذلت، وبكؤوس الأسى والتأسف قد انهلت وعلت، وبحمول الظاعنين على الأسف قد استقلَّتْ.
متى يُقال لهذه الغمرة التي جلَّتْ قد تجلَّت، فواعجبًا لنفس ما تنتبه وقد زلت.
عَيْنُ المنيةٍ يَقْضَى غَيْرُ مُطْرقَةٍ
جَهْلاً تَمكَّنَ مِنهُ حِيْنَ مَوْلِدهِ ... وطَرْفُ مَطْلُوْبهَا مُذْ كَانَ وَسْنَانُ
فالنُّطْقُ صاحٍ ولُبُّ المرءِ سَكْرَانُ
قال أحد العلماء: وجدت الدنيا شيئين، فشيء منها هو لي فلن أعجله قبل أجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض.
وشيءٌ منها هو لغير فلم أنلهُ فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي يُمنعُ الذي لي من غيري كما يمنع الذي لغيري مني، ففي أي هذين أفني عمري.
ووجدت ما أعطيتُ من الدنيا شيئين، فشيءٌ يأتي أجله قبل أجلي فأغلبُ عليه، وشيء يأتي أجلي قبل أجله فأموتُ وأخلفُه لمن بعدي ففي أي هذين أعصي ربي عز وجل.
وعن مصعب بن عبدالله قال: سمع عامر بن عبدالله المؤذن وهو يجودُ بنفسه أي في النزع ومنزله قريبٌ من المسجد، فقال: خُذُوا بيدي.
فقيل له: إنك عليل، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأخذوا بيده، فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات، بلغ يا أخي الذي إذا سمعوا داعي الله تلفلفوا بأرديتهم.
كان لتاجر صاحب أكياس عبد صالح فقال لعبده: افتقدنا بعض الأكياس ففتش لعلك تجدها فلما لم يجدها، قال لعبده: أتعرف من هي عنده؟ قال: لا، وبعد ذلك حضرت الصلاة، فصل التاجر وتذكرها في صلاته وبعد إنتهاء الصلاة، قال لمملوكه: لقد ذكرتُ من هي عنده، عند فلان اذهبْ فأت بها.
فقال الغلام: يا عمُّ، أنت في صلاتك كُنتَ طالبَ أكياسٍ أو طالب خالق، فأعتقهُ حيث نبَّهَهُ للخلل في صلاته التي هي أول ما يُحاسب عنه العبد.
كان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل وادٍ مال.(1/79)
وقال سفيان الثوري: بلغني أنه يأتي على النسا زمان تمتلئ قلوبُهم في ذلك الزمان مِن حب الدنيا فلا تدخله الخشية.
عن مجاهد قال: مررتُ مع ابن عُمر على خربة، فقال: يا مجاهد، ناد يا خربة ما فعل أهلك؟ أين أهلك؟ قال: فناديتُ، فقال ابنُ عُمر: ذهبوا وبقيت أعمالهم.
وعن الحسن قال: مرَّ عمر - رضي الله عنه - على مزبلةٍ فاحتبس عندها فكأنَّ أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دُنياكم التي تحرصون عليها.
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لو نادَ مُنادٍ من السماء أيها الناس، إنكم داخلون الجنة إلا رجلاً واحدًا لخفتُ أن أكون ذلك الواحد.
ولو ناد مُنادٍ أيها الناس، إنكم داخلون النار إلا رجُلاً واحدًا لرجوتُ أن أكون أنا ذلك الواحد.
وقال عثمان - رضي الله عنه -: لو أني بين الجنة والنار ولا أدْري إلى أيتهما يُؤمرُ بي لاخترتُ أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصبر.
وعن عون بن ذكوان قال: صلَّى بنا زرارةُ بنُ أوفى صلاة الصبح، فقرأ: { يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ } حتى بلغ: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } فخر مغشيًا، وكُنت فيمن حمله إلى داره.
وقال عبدالأعلى التيمي: شيئان قطعا عني لذات الدنيا ذكرُ الموت، والوقوفُ بين يدي الله.
أتى رجل إلى خياط ليخيط له ثوبًا، فاجتهد الخياطُ لتكون الخياطةُ جيدة ومُتقنة، ولما جاء صاحب الثوب أعطاه الأجرة وأخذ الثوب، وذهب.
وفي اليوم الثاني عاد الرجل وأتى الخياط، وقال له: وجدت في الخياطة بعض العيوب وأراه إياها، فبكى الخياط، فقال له الرجل: ما قصدت أن أحزنك وأنا راضٍ بالثوب، فقال له الخياط: ليس على هذا أبكي لأني عملت جهدي لأتقن لك الخياطة، ثم خرجت هذه العيوب فأنا أبكي على طاعتي لربي، وقد اجتهدت بها عُمري فكم فيها من العُيُوب.
تأمل يا أخي، هذا التفكير لله دره.(1/80)
وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفْتُ أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته يتعقبُون الليل أثلاثًا، يُصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويُصلي هذا ثم يُوقظ هذا.
وعن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة، قال: ما وجعٌ أحب إلي من الحمى؛ لأنها تُطي كل مفصل قسطهُ من الوجع، وإن الله تعالى يُعطي كل مفصلٍ قسطهُ من الأجر.
عن عبدالرحمن بن مهدي قال: ليلة بات سفيان عندي فلما اشتد به الأمر جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبدالله، أراك كثير الذنوب، فرفع شيئًا من الأرض، فقال: والله لذُنُوبي أهونُ عندي من ذا إني أخافُ أن أُسلَبَ الإيمان قبل الموت.
قال ابن القيم:
والله ما خَوْفي الذُنُوبَ فإنَّهَا
لَكِنَّما أخْشَى انْسِلَاخَ القَلْبِ مِن
ورِضًا بآرَاءِ الرِجالِ وخَرصِها ... لَعَلَى سَبِيْل العَفْوِ والغُفْرَانِ
تَحْكي هذا الوَحْي والقُرآنِ
لا كان ذَاكَ بِمِنَّةَ المَنَانِ
قال وهيب: عجبًا للعالم كيف تُجيبه دواعي قلبه إلى ارتياح الضحك، وقد علم أنَّ لهُ في القيامة روعات ووقفات وفزعات.
وعن وهيب يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وعظمتي ما من عبد آثر هواي على هواه إلا أقْلَلْتُ هُمومه وجمعتُ عليه ضيعته ونزعتُ الفقر من قلبه وجعلتُ الغنى بين عينيه واتجرت له من وراء كُل تاجرٍ.
وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواهُ على هواي إلا كثرتُ همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعتُ الغنى من قلبه، وجعلت الفقر بين عينيه ثم لم أبالي في أي أوديتها هلك.
وعن وهيب قال: بلغني أن موسى ـ عليه السلام ـ قال: يا رب أخبرني عن آية رِضاكَ عن عبدك؟ فأوحى الله تعالى إليه إذا رأيتني أهيئُ له طاعتي، وأصرفه عن مَعصيتي فذلك آيةُ رضاي عنه.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
وعن حفص بن ميسرة قال: قال أبو حاتم: عجبًا لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كُلَّ يوم مرحلة، ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة.(1/81)
وقال: شيئان إذا عملت بهما أصبت خير الدنيا والآخرة، تحمل ما تكره إذا أحبَّهُ الله، وتترك ما تُحبُ إذا كرههُ الله.
وقال: يسيرُ الدنيا يُشغلُ عن كثير من الآخرة.
وقال: ما أحببتَ أن يكون معك في الآخرة فقدمهُ اليوم، وما كرهتَ أن يكون معكَ في الآخرة فاتركهُ اليوم.
حج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب، فقال: نشدتُكُ بالله ألستُ أعملُ بالحق؟ ألستَ تراني أعدلُ؟
فقال ابن أبي ذئب: أما إذا نشدتني بالله، فأقول: اللهم لا أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة وتدعُ أهل الخير.
قال محمد بن عمر: فحدثني محمد بن إبراهيم بن يحيى، وأخبرتُ عن عيسى بن علي، قالوا: فظننا أن أبا جعفر سيعاجله بالعقوبة، فجعلنا نلفُ إلينا ثيابنا مخافة أن يُصيبنا من دمه، فجزع أبو جعفر واغتم، وقال له: قم فاخرج.
تأمل يا أخي، هل يوجد هذا الطراز ممن لا تأخذهم في الدنيا لومة لائم أظنه معدُومٌ في هذا الوقت ما فيه اليوم من يصدعُ بالحق فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
دخل عمرو بن عُبيد على المنصور، فقال: أن الله أعطاك الدُنيا بأسرها فاشترْ منه نفسك ببعضها وإني لأحذرك ليلةً تتمحَّضُ صبيحتها عن يوم القياة.
ثم قال له عن حاشيته: إن هؤلاء اتخذوك سُلمًا لشهواتهم، فأنت الأخذ بالقرنين وهم يحلبون.
فاتق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوثٌ وحدك، ولن يغنوا عنك هؤلاء من ربك شيئًا.
فقال له: أعني بأصحابك فأستعين بهم دون هؤلاء فرَّد عليه أظهر الحق يتبعُك أهله.
فقال لهُ: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ قال: ألا تعث إليَّ حتى آتيك، إذًا لا نلتقي، قال: عن حاجتي سألت، ثم ذهب.
قال الحجاج ليحيى بن يعمر: ما تقول في واسط (مدينة بناها الحجاج)، فقال له: ما أقول فيها وقد بنيتها من غير مالك وسيسكُنُها غيرُ أهلك.
فقال له الحجاج في غيظٍ وغضبٍ: ما حملك على ما قُلت؟ قال: ما أخذ الله تعالى على العلماء من العهد ألا يكتموا الناس حديثًا.(1/82)
فقال له: ألم تخش سيف الحجاج؟
فقال: لقد ملأتني خشيةُ الله جل وعلا فلم تدعْ مكانًا لخشية سواه.
وقيل: إن الحجاج خطب يومًا، فقال: أيها الناس، الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، فقام إليه رجل فقال له: ويحكَ يا حجاجُ، ما أصفق وجهك وأقل حياءك تفعلُ ما تفعلُ وتقولُ مثل هذا الكلام خِبْئَتَ وضل سعْيُكَ.
فقال للحرس: خذوه، فلما فرغ من خُطبته، قال له: ما الذي جرَّأك عليَّ؟ فقال: ويحكَ يا حجاج، أنت تجترئُ على الله ولا أجترئُ عليك، ومن أنت حتى لا أجترئُ عليك، وأنت تجترئُ على رب العالمين! فقال: خلوا سبيلهُ، فأطلق.
ودخل العزُ بنُ عبدالسلام على السلطان فوعظهُ وشدَّد في الموعظة فعاتبهُ ولدُه في ذلك، فقال له: هذا اجتماع لله فلا أكدرُهُ بشيءٍ من عرض الدنيا.
يا بُني، لقد رأيت السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أهينُه لئلا تكبُر نفسُه عليه فتُؤذيه.
ولقد استحضرتُ هيبة الله تعالى إذ أخُاطِبُه، فصار السلطان أقلَّ من القط.
ولو كانت بنفسي لديه حاجة من حاجات الدنيا لرأيتُه الدُنيا كلَّها.
وأجبر أحد العلماء على أن يدخل على ملك مصر وطلب منه أن يلبس ملابس خاصة فأبى، وقال: كيف أتجملُ لهُ بلباسٍ لا أتجملُ به لربي في الصلاة.
دخل عباد الخواص على إبراهيم بن صالح -وهو أمير فلسطين-، فقال له: يا شيخ، عظني، فقال: بم أعظُك أصلحك الله، بلغني أن أعمال الأحياء تُعرضُ على أقاربهم من الموتى فانظر ما يُعرض على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من عملك فبكى حتى سالت دموعُه على لحيته.
وقال مالك: وجَّهَ إليَّ الرشيدُ أن أحدثه، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، إن العلم يُؤتى ولا يأتي فصار إلى منزلي فاستند إلى الجدار مَعِي.
فقُلتُ له: يا أمير المؤمنين إنَّ من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، فقام، فجلس بين يدي، قال: فقال بعد مدةٍ: يا أبا عبدالله، تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علمُ سُفيان بن عُيينة فلم ننتفع به.(1/83)
وروى البيهقي وغيره أن المهدي لما قدم المدينة حاجًا جاءه مالك فسلم عليه، فأمر المهدي ابنيه الهادي وهارون الرشيد أن يسمعا منه، فطلباه إليهما فامتنع.
فعاتبه المهدي في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن للعلم نضارة، يُؤتى أهلُه.
وفي رواية: العلم أهل أن يُوقر، ويُوقّرَ أهلُه، فأمرهما والداهما بالمصير إليه فسأله مؤدبهُما أن يقرأ عليهما، فقال: إن أهل هذه البلدة يقرءون على العالم كما يقرأ الصبيانُ على المُعلم فإذا أخطوا أفتاهُم فرجعُوا إلى الخليفة فعاتبهُ المهدي في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، سمعت ابن شهاب يقولُ: سمعنا هذا العِلْم من رجال في الروضة سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم بن محمد وسالم بن عبدالله وعد آخرين كل هؤلاء يُقرأ عليهم ولا يقرؤون، فقال المهدي في هؤلاء: قدوة صيرُوا إليه فأقرءوا عليه.
أراد الوليد أن يولي يزيد بن مرثد القضاء، فبلغ ذلك يزيد، فلبس فروةً وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجًا وأخذ بيده رغيف (أي خُبزة) وعرقًا (أي عظم عليه لحم) وخرج بلا رداء ولا قلنسُوة (أي أصلع الرأس) ولا نعل ولا خُف ويمشي في الأسواق ويأكل، فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط (أي خرَّف)، وأخبر بما فعل فتركه الوليد، قلتُ: وفعل يزيد يدل على ورعه وخوفه من تبعة القضاء؛ لأن القضاء فيه خطر عظيم؛ ولهذا قال العلماء: يحرم على من لا يُحسنه ولم تجتمع فيه شروطُه الدخول فيه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن وُلي القضاء فقد ذبح بغير سكين»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَيأتين على القاضي العدل يوم القيامة سَاعة يَتَمَنَّى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط».
وفي لفظ يُدعى القاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمُره قط.(1/84)
ترك خلفُ البزار الرواية عن الكسائي، فلم يروي عنه مع أنه كان أستاذه وهو بحاجة إليه في تصنيفه كتاب «القراءات»، ولما أن ضايقُوه لِمَ لَمْ يَرو عنه.
قال: لقد سمعتُه يقول: قال لي سيِّديِ الرشيد، فقلتُ: إن إنسانًا مقدارُ الدنيا عنده أن يُجلَّ أهلها هذا الإجلال لحريٌ أن يُؤخذ عنه شيءٌ من العلم.
قُلتُ: لله درهُ حيث لم يطمئنَّ قلبُهَ لمن يُعظمُ الدنيا.
فانظر رحمك الله إلى شدة ورعهم وترفُعهم وتنزُهِهم عن مُخالطة الملوك و أهل الدنيا، وصيانة العلم وإعزازه وبمثل هذه الأخلاق العطرة والصفات الفاضلة عظمَ الإسلامُ وأهله.
دخل رجل على المأمون كان يمشي في الناس فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر دُونَ أن يكون مأمورًا من قبل الخليفة، فاستدعاه المأمونُ، وقال له: لِمَ تأمُرْ وتنهى وقد جعل الله ذلك إلينا، ونحن الذين قال الله فيهم: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ } ؟ فقال الرجل: صدقتَ يا أمير المؤمنين، أنت كما وصفت نفسك من السُلطان والتمكن غير أنا أولياؤُك وأعوانُك فيه، ولا يُنكر ذلك إلا من جهل كتاب الله وسُّنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ } ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بَعْضَا» فأُعْجبَ المأمونُ بكلامِهِ وسُرَّ به، وقال: مثلك يجوزُ أن يأمر بالمعروف فامض على ما كُنْتَ عليه بأمرنا وعن رأينا.
وهكذا حين أحسن الرجل الاحتجاج بالقُرآن والسُّنة انقطعتْ حُجَّةُّ المأمون، ولم يجدْ بُدًا من إقرار الرجل على طريقته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/85)
وعكس هذا الرجل، دخل واعظ على المأمون فوعظه وأغلط عليه في القول، فقال له المأمون: يا رجُل، ارفُقْ فإن الله بعث من هُوَ خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني، وأمره بالرِّفْق، بعث موسى وهارون إلى فرعون، فأوصاهُما بقوله: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } .
وهُنا كان موقف المأمون هو الأقوى؛ لأنَّ الدليل معه.
بعث الأمير طاهر بن عبدالله إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف درهم على يد رسوله، فدخل عليه بعد صلاة العصر وهو يأكل الخبز مع الفجل، فوضع كيس الدراهم بين يديه، فقال: بعثَ الأميرُ طاهر بهذا المال إليك لتُنفقه على أهلك، فقال: خُذه خُذه لا أحتاجُ إليه، فإن الشمس قد بلغت رؤوس الحيطان، وإنما تغربُ بعد ساعة وأنا قد جاوزتُ الثمانين سنة إلى متى أعيشُ، فرد المال ولم يقبل، فأخذ الرسولُ المال وذهب ودخل على الشيخ ابنه، وقال: يا أبتِ ليس لنا الليلة خبز.
قال: فذهب بعض أصحابه خلف الرسول ليُرد المال إلى صاحبه خوفًا من أن يذهب ابنُه خلف الرسول فيأخذ المال.
وقال أحدُ الزهاد للمنصُور: أذكُرْ ليلةً تبيتُ في القبر لم تبت ليلةً مثلها، واذكر ليلةً تمخَّضُ عن يوم القيامة لا ليلة بعدها.
فأفحم المنصور قولُه فأمر لُه بمالٍ فردَّهُ، وقال: لو احتجتُ إلى مالك ما وعظتُك.
وقال لابنه لما ولاَّاه العهد: استدم النعمةَ بالشكر، والقدرة بالعفو، والنصر بالتواضع، والتألف بالطاعة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ونصيبك من رحمة الله.
وقال للربيع: ويْحَكَ، لقد رأيتُ منامًا هالني رأيت قائلاً وقفَ في باب هذا القصر يقول:
كأني بهذا القصْرِ قد بَادَ أهلُه
وصَارَ رَئِيْسُ القصر من بَعْدِ بَهْجَةٍ ... وأوحَشَ منه أهلُه ومَنَازلُه
إلى جَدَثٍ يُبْنَي عليه جَنَادِلُهْ(1/86)
وكان ابن أبي ذئب جالسًا في المسجد النبوي الشريف في المدينة فدخل أمير المؤمنين المهدي فلم يبق أحدٌ إلا قام، فلما وصل إلى ابن أبي ذئب لم يُقم، قال المسيب بن زهير: قُم هذا أمير المؤمنين، فقال: إنما يقومُ الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعهُ فلقد قامت كُلُ شعرةٍ في رأسي.
فهكذا العُلماء المخلصون الذين يحفظ الله بهم الإسلام ويرفع الله بهم المسلمين.
تأمَّل يا أخي، هل يوجد في زمننا مثل هؤلاء ما أظنُّ يُوجد ولا رقم ثلاثة لا حول ولا قوة إلا بالله.
فإنْ قُلْتُ زَنْدَ العِلم كَاب فإنَّما
ولَو أنَّ أهلَ العلمِ صَانُوهُ صَانَهُم
ولكنَّ أهانُوه فهانوا ودنَّسُوا ... كَبَى حَيْثُ لم تُحْمى حِمَاهُ وأظلما
ولو عَظَمُوهُ في النفوسِ لَعُظِّمَا
مُحَيَّاه بالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل في فوائد ومواعظ منوعة
قال وهيبُ بن الورد: لو أن عُلماءنا عفا الله عنَّا وعنهم نصحُوا لله في عباده، فقالوا: يا عبادَ الله اسمعُوا ما نُخبركم عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وصالح سلفكم من الزهد في الدنيا فاعملوا به، ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه الفسْلَةِ، كانُوا قد نصحوا لله في عباده، ولكنهم يأبون إلا أن يجرُّوا عباد الله إلى فتنهم وما هُم فيه.
وكان عيسى بنُ مريم يقول: يا معشر العلماء، مثلكُم مثل الدِّفْلَى يُعجب وردهُ من نظر إليه ويقتلُ طعمهُ من أكله، كلامكم دواءٌ يُبرئ الداء، وأعمالكم داءٌ لا يقبلُ الدواء، والحكمة تخرجُ من أفواهكم وليس بينها وبين آذانكم إلا أربعُ أصابع ثم لا تعيها قلوبُكم.
معشر العلماء، كيف يكون من أهل العلم من يطلبُ الكلامَ لِيُخْبِرَ به ولا يطلبه ليعمل به.
العلم فوق رُؤسكم، والعمل تحت أقدامكم.
فلا أحرارٌ كرام و لاعبيدٌ أتقياء.
أهلُ المشَاغِلِ بالدنيا وَزْينَتِهَا
لَوْ أنَّهُم قَنِعُوا مِمَّا يُبَلِّغُهُم
تُفَوِّتُ الدارَ الأخْرَى وهي فَانِيَةٌ(1/87)
لا دارهم لَهُمُوْا في الدَّهْرِ بَاقِيَةٌ ... عَنْ ذِكْر رَبِّهِمُوْا سَاهُونَ لاهُوْنَا
لَعَجَّلُوا رَاحَةً مِمَّا يُقَاسُوْنَا
يا وَيْلَ عُشَّاقِهَا مِمَّا يُلاقُوْنَا
كلَّا ولا هم لَهَا في الدَّهْرِ بَاقُوْنَا
وقال بعض العلماء: اعلم أن للعالم العامل بعلمه حقيقةً علامات وأمارات تُفرق بينه وبين عُلماء اللسان المخلطين المتبعين للهوى المؤثرين للدنيا على الآخرة، فمن علامات العالم الحقيقي الممتاز: أن يكون متواضعًا خائفًا وجلاً مشفقًا من خشية الله زاهدًا في الدنيا قانعًا باليسير منها بعيدًا عن الحسد والعُجب والغيبة والنَّميمة والمُداهنة، ملتمسًا للفقراء المتمسكين بدينهم الخالية بيوتهم من الملاهي والمنكرات، الذين ليس لهم موارد ولا مساكن ليُسْعِفَهم بما يقدر عليه من مال وجاه، ناصحًا لعباد الله شفيقًا عليهم رحيمًا بهم، آمرًا بالمعروف، فاعلاً له وناهيًا عن المنكر، ومُجتنبًا له ومسارعًا في الخيرات ملازمًا للعبادات، دالاً على الخير، داعيًا إلى الهدى، ذا صمتٍ وتوأدة ووقار وسكينةِ، حَسَنُ الأخلاق، واسعَ الصَّدْرِ، ليِّنَ الجانب، مخفوض الجناح للمؤمنين، لا متكبرًا، ولا مُتجبرًا، ولا طامعًا في الناس، ولا حريصًا على الدنيا، ولا مؤثرًا لها على الآخرة.
ولا منهمكًا بجمع المال، ولا مانعًا له عن حقه، ولا فظًا ولا غليظًا، ولا مُمَاريًا، ولا مُخاصمًا بالباطل، ولا سيئ الأخلاق، ولا ضَيِّقَ الصدرِ، ولا مداهنًا، ولا مخادعًا، ولا غشاشًا، ولا مقدمًا للأغنياء على الفقراء، ولا مُرائيًا، ولا مُحبًا للولايات.
وبالجملة فيكون مُتصفًا بجميع ما يحثُه عليه الكتاب والسُّنة، مؤتمرًا بما يأمرانه به من الأخلاق المحمودة والأعمال الصالحة، مجانبًا لما ينهى عنه كتابُ الله وسُّنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخلاق والأعمال المذمومة.(1/88)
وهذه صفات ينبغي أن يتصف ويتحلى بها كل مُؤمن، إلا أنَّ العالم وطالب العلم أولى أني تصف بها ويحافظ عليها ويدعو إليها.
وينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال مخالطته لهم في بيان الواجبات المحرمات ونوافل الطاعات وذكر الثواب والعقاب على الإحسان والإساءة، ويكون كلامه بعبارة يعرفونها ويفهمونها، ويبين لهم الأمور التي هم ملابِسُون لها.
ولا ينبغي له أن يسكُت حتى يُسأل وهو يعلم أنهم مُحتاجُون إليه، أو مضطرون له، والله الموفق.
وقال رجل لعبد العزيز بن أبي رواد: كيف أصبحت؟ فبكى، وقال: أصبحتُ والله في غفلة عظيمةٍ عن الموت مع ذُنُوبٍ كثيرة ومؤئل لستُ أدري علام أهجمُ ثم بكى.
الأيام ثلاثة: فأمس حكيم مؤدب ترك حكمته وأبقاها عليك، واليوم صديق مودِّع كان عنك طويل الغيبة حتى أتاك ولم تأته وهو عنك سريع الفراق، وغدًا لا تدري أتكون من أهله أو لا تكون.
وكان يُقال من أشد الناس حسرةً يوم القيامة ثلاثة: رجل كان له عبدٌ فجاء يوم القيامة أفضَل عملاً منه، ورجلٌ له مال فلم يتصدق منه فمات فورثه غيرهُ فتصدقَ منه، ورجلٌ عالم لم ينتفع بعلمِه فَعَلَّم غيرهُ فانتفعَ به.
وقال بعضهم: لمْ أرَ أوْعَظَ من قبر، ولا آنس من كتاب، ولا أسلمَ من الوَحْدَةِ.
فقيل له: قد جاء في الوحدةٍ ما جاء، قال: لا تُفسدُ إلا جاهلاً.
قيل: كان مبدؤ توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر وهي تقول:
مُقِيْمٌ إلى أنْ يَبْعَثَ اللهُ خَلْقَهُ
تَزَيْدُ بلىً في كُلِّ يَومٍ وَلَيْلَةِ ... لِقَاؤُكَ لا يُرْجَى وأنْتَ قَريبُ
وتُسْلَى كَمَا تَبْلَى وأنْتَ حَبيْبُ
آخر:
لكُل أناس مقبرٌ بفِنَائهم
فهُم جِيْزَةُ الأمَواتِ أمَّا مَزَارَهُم ... فَهُمْ يَنْقصُونَ والقُبُورُ تَزيدُ
فَدَانٍ وأمَّا المُلْتَقَى فبَعِيْدُ(1/89)
وكان بعضهم إذا وافق أخاه في الله قال: نقصت الأعمارُ بعدك، واقتربت الآجالُ ما فعل جيرانك (يعني أهل القبور)، ولعلَّ مسكنه قريب من المقبرة، قلت: وفي عصرنا من الذي فاز في الكورة؟ وما الذي ظهر في التلفاز؟
كأنْكَ لم تَسْمَعْ بأخْبَار مَن مَضَى
فإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ دِيَارُهُم
وهَل أبْصَرَتْ عينَاكَ حيًّا بمَنْزِلٍ
وأهَلْ الثَّرَى نَحْو المَقَابرِ شُرّعٌ
على ذاكَ مَرّوا أجْمَعُونَ وهَكَذا
فلا تَحْسَبنَّ الوفْرَ مَالاً جَمْعْتَهُ
ولَيْسَ الذي يَبْقَى الذي أنتَ جَامِع
قَضَى جَامِعُوا الأمْوالِ لم يَتَزودَّوا
بَلى سَوْفَ تَصَّحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الغَطَا
وما بَينَ ميْلادِ الفَتى وَوَفَاتِهِ
لأنَّ الذي يَأتي كَمِثْلِ الذي مَضَى
فصَبْرًا على الأوقَاتِ حتى تُحوزَهَا ... ولمْ تَرَ في الباقينَ مَا يَصْنَعُ الدهرُ
عليها مِجَالُ الريحِ بَعْدَك والقَطْرُ
على الأرضِ إلا بالفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ
ولَيْسَ لَهم إلا إلى ربِّهمْ نَشْرُ
يَمُرُّونَ حتّى يَسْتَرِدَّهُم الحَشْرُ
ولَكِنَّ ما قَدَّمْتَ مِن صالحٍ وَفْرُ
ولكنَّ مَا أوْلَيْتَ منه هُو الذُّخْرُ
سِوَى الفَقْرِ يَا بُؤسًا لِمَنْ زَادُهُ الفَقْرُ
وتَذْكُرُ قَولَي حِيْنَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
إذا نَصَحَ الأقوامُ أنفسَهم عُمْرُ
وما هُو إلا وقتُكَ الضيّق النَّزْرُ
فعمَّا قَليْل بَعْدَها يَنْفَعُ الصبرُ
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال بعض العلماء: إذا بلغك عن صديق لك ما تكره فإيَّاك أن تُبادره بالعداوة وقطع الولاية فتكون ممَّن أزال يقينهُ بشك؛ ولكن إلقه وقُل له بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تُسمِّيْ لهُ المبلِّغ، فإن أنكر ذلك فادفع بالتي هي أحسن واعفُ عنه ولا تزد على ذلك شيئًا.(1/90)
وإن اعترف بذلك فرأيت لهُ في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، و إن لم تُرد ذلك، فقلْ لهُ: ماذا أردت بما بلغني عنك، فإن ذكر ما له وجهٌ من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذرٍ وضاق عليك المسلكُ فحينئذٍ أثبتها عليه.
ثم أنت بعد ذلك بالخيار إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، و إن شئت عفوتَ عنه، والعفوُ أقربُ للتقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ } ، وقوله: { وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .
فإن نازعتك نفُسكَ بالمكافأة، فأفكر فيما سبق لديك من الإحسان فعاجل لهُ إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبخس باقي إحسانَهُ السالف بهذه السيئة، فإنه ظلم.
فوائد
قبول السعاية شرٌ من السعاية؛ لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز.
قال بعض العلماء: لا تُنزلن حاجتك من أغلق دُونك أبوابه وجعل عليها حُجَّابَهُ؛ ولكن انزلها بمن بابهُ مفتوحٌ لك إلى يوم القيامة أمرك أن تدعوهُ وضمنَ لك أن يستجيب لك.
قال الله جل وعلا: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال تبارك وتعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .
لا تَسْألَنَّ إلى ابن آدم حَاجَةً
الله يَغْضَبُ إن تَرَكْتَ سُؤالَهُ ... وسَل الذي أبْوابُهُ لا تُحْجَبُ
وبُنَيُ آدمَ حِيْنَ يُسْألُ يَغْضَبُ
قيل: إنه عرض عثمان - رضي الله عنه - على ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ القضاء فأبى، ولمَّا ألح عليه لقبول القضاء مُذكرًا إياهُ بأن أباه كان يقضي، قال عبدالله: إن أبي كان يقضي، فإذا أشكل عليه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أشكل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل، وإني لا أجدُ من أسأل.(1/91)
وكان ابن عمر إذا أعجبه شيء من ماله يقربه إلى الله عز وجل، وكان عبيده قد عرفوا منه ذلك، فربما لزم أحدهم المسجد فإذا رآه ابن عمر على تلك الحال أعتقه.
فيقال له: إنهم يخدعونك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له.
وكان له جارية يحبها كثيرًا فأعتقها وزوجها لمولاه نافع، وقال: { لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } .
واشترى مرة بعيرًا فأعجبه لما ركبه فأدخله في إبل الصدقة.
وأعطاه ابن جعفر في نافع عشرة آلاف، فقال: أو خير من ذلك هو حر لوجه الله تعالى.
واشترى مرة غلامًا بأربعين ألفًا وأعتقه، فقال الغلام: يا مولاي قد أعتقتني فهب لي شيئًا أعيش به فأعطاه أربعين ألفًا.
واشترى مرة خمسة عبيد، فقام يصلي، فقاموا خلفه يصلون، فقال: لمن صليتم هذه الصلاة؟ فقالوا: لله، فقال: أنتم أحرار لمن صليتم له، فأعتقهم.
والمقصود أنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفًا.
وكانت تمضي عليه الأيام الكثير والشهر لا يذوق لحمًا إلا وعلى يديه يتيم.
وكان يقول: لا أسأل أحدًا شيئًا وما رزقني الله فلا أرده.
عن عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم، قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعسُّ (أي يدور على البيوت والأسواق يحرس الناس ويكشف عن أهل الريبة) إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقولُ لابنتها: يا ابنتاه قُومي إلى ذلك اللبن فامذُقيه بالماء، فقالت لها: يا أُمتاه وما علمت ما كان من عزمَةَ أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بُنية، قومي إلى اللبن فامذُقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عُمَرُ ولا مُنادي عُمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاهُ ما كنت لأطيعهُ في الملأ وأعصيه في الخلاء.(1/92)
وعُمُر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم علِّم الباب واعرفْ الموضع، ثم مضى في عسسه حتى أصبح، فلما أصبح قال: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقولُ لها؟ وهل لهُم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت، فإذا الجارية أيِّمٌ لا بعل لها، وإذا تِيك أمها وإذا ليس لهُم رجُل.
فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأةٍ أزوجُه، ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه المرأة، فقال عبدالله: لي زوجة، وقال عبدالرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاهُ لا زوجةَ لي فزوِّجْني، فبعث إلى الجارية فزوّجَها من عاصم فولدت لِعَاصِمٍ بنتًا وولدت البنتُ عُمرَ بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ.
تَجَّهزي بِجَهَازٍ تَبْلُغِيْنَ بِهِ
ولا تكُدِّي لِمَنْ يَبْقَى وتَفْتَقِري
مَن كان حيْنَ تُصِيْبُ الشمسُ جَبْهَتَهُ
ويَألَفُ الظِلَّ كي تَبْقَى بشاشَتُهُ
في قَعْرِ مُوْحِشةٍ غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ... يا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لم تُخْلَقِي عَبثًا
إن الرَّدَ وارثُ الباقي ومَا وَرثًا
أو الغُبَارَ يَخَافُ الشَّيْنَ والشَّعَثَا
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا راغمًا جَدَثَا
يُطِيْلُ تَحْتَ الثَرى في قَعْرِهَا اللَّبَثَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
وقال في الفنون: لقد عظم الله الحيوان لاسيَّما ابن آدم حيثُ أباحهُ الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه، فقال جل وعلا: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } .
من قدَّم حرمة نفسك على حُرمته حتى أباحَكَ أن تتوقى وتُحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه.
فحقيق أن تعظم شعائرهُ وتوقِّر أوامرهُ وزواجرهُ.
وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك، وعصم مالك بقطع مسلم في سرقته.(1/93)
وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخُفِّ مقام غَسْل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدًا لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحدٍ عاجل ووعيدٍ آجلٍ، وخرق العوائد لأجلك وأنزل الكتب إليك.
أيحسنُ بك مع هذا الإكرام أن ترى على ما نهاك مُنهمكًا وعمَّا أمرك مُتنكبًا وعن داعيه مُعرضًا ولسنته هاجرًا ولداعي عدُوك فيه مُطيعًا.
يُعظمُك وهُو هُوَ وتهمِلُ أمره وأنت أنتَ وهو حطَّ رُنب عباده لأجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدةٍ يسجدُ لأبيك.
هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة، هلْ نفيتهُ من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهى، انتهى.
قلت: وفي وقتنا هل أخرجت الملاهي والمنكرات من بيتك؟ هل منعت الأجانب والأجنبيات سوَّاقين وخدَّمات من بيتك؟
فائدة
كُلما قويت حاجةُ الناس إلى الشيء ومعرفته يسر الله أسبابه، كما يُيسرُ ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد.
فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهوى أعظم منها إلى الماء كان مبذولاً لكل أحد في كل وقت.
ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القُوت كان وجود الماء أكثر لذلك.
فلما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم كانت آياتُه ودلائلُ ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها.
ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك.
أقام الله من دلائل صدقهم وشواهد نُبوتهم وحُسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح.
وقُبح حال من خالفهم وشقاوتهم وجهله وظلمه ما يظهر لمن تدبر ذلك { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } .
قال وهيب بن الورد: بلغنا أن الخبيث إبليس تبدى ليحيى ابن زكريا –عليهما السلام- فقال له: إني أريد أن أنصحك! قال: كذبت، أنت لا تنصحني؛ ولكن أخبرني عن بني آدم.(1/94)
قال: هم عندنا على ثلاثة أصناف، أما صنف منهم: فهم أشد الأصناف علينا نُقبل حتَّى نفْتِنُهُ ونستمكن منه، ثم يفزع إلى الاستغفار والتوبة، فيُفْسِدُ علينا كل شيء أدركنا منه، ثم نعود له فيعود فلا نحن نيأس منه، ولا نحن نُدركُ منه حاجتنا فنحنُ من ذلك في عَنَا.
وأما الصنف الآخر: فُهم بين أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نتلقفُهُم كيف شئنا فقد كفونا أنفُسهم.
وأما الصنف الآخر: فهم مثلك معصومُون لا نقدرُ منهم على شيء.
فقال له يحيى: على ذاك هل قدرتَ مني على شيء؟
قال: لا إلا مرةً واحدةً فإنك قدَّمْتَ طعامًا تأكله، فلم أزل أشهيه لك حتى أكلتَ أكثر مما تُريدُ فَنِمْتَ تلكَ الليلة ولم تقم إلى الصلاة كما كُنْت تقومُ إليها.
قال: فقال له يحيى: لا جَرَمَ لا شبعتُ من طعام أبدًا حتى أموت.
فقال له الخبيث: لا جَرَمَ لا نَصَحْتُ آدميًا بَعْدَكَ.
إنِّي بُلِيْتُ بأربْعِ ما سُلِّطُوا
إبْلِيْسُ والدُنْيَا ونَفَّسِي والهَوَى ... إلَّا لأجْلِ شَقَاوَتي وعَنَائِي
كَيْفَ الخَلاصُ وكُلَّهُم أعدائي
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مواعظ وفوائد
ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برِّك وعن ذكر من أمرك بذكره.
قال أبو حازم: يسيرُ الدنيا يُشغلُ عن كثير الآخرة، وقال: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فقدمهُ اليوم، وما كرهْتَ أن يكون معك في الآخرة فاتركَهُ اليوم.
وقال بعضُهم يُوصِي ابنَه: إنه مَن قنعِ بما قَسَمَ الله له اسْتغنى، ومن داخل السُفهاءَ حُقر، ومَن خالطَ العُلماءَ وقِّرْ.
ومن دَخل مداخل السوء اتهم، يا بني، قُل الحق لك أو عليك، وإيَّاكَ والنَّميْمَةَ فإنها تَزْرَعُ الشحناء.
وعنه - رضي الله عنه - أنه قال: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من انتهى عن الشهوات ومن تيقن بالموت انهدمتْ عليه اللذات ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات.(1/95)
وقال بديلُ العقيلي: من أراد بعمله وجه الله عز وجل أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقُلُوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله عز وجل صرف الله عز وجل عنه وجهه وصرفَ قلوبَ العباد عنه.
وقال محمد بن واسع: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله عز وجل أقبلَ الله عز وجل إليه بقلوب المؤمنين.
وقال الحارث بن نبهان: سمعتُ ابن واسع يقول: واصحاباه، ذهب أصحابي، فقلت: يرحمك الله، أليس قد نشأ شبابٌ يصومون النهار ويقومون الليل ويجاهدون في سبيل الله عز وجل، قال: بلى، ولكن أخ وتفل أفسدهم العُجبُ.
قلت: فكيف لو رأى شباب زماننا الحالقين للِّحَا المسبلين للثياب المخنفسين أصحاب الشنبات.
سُئل بعضهم: هل يعرف العبد إذا تاب أن توبته قُبلتْ أم رُدَّتْ؟ قال: لا أحكم في ذلك؛ ولكن لذلك علامات، إحداها: أن يرى نفسه غير معصومة من المعصية، ويرى في قلبه الفرح غائبًا والحزن شاهدًا، ويُقرِّبَ أهلَ الخير، ويُباعدُ أهل الشرِّ، ويرى القليل من الدنيا كثيرًا، ويرى الكثير من عمل الآخرة قليلاً، ويرى قلبه مشتغلاً بما ضمن من الله تعالى، فارغًا عما ضمن الله له، ويكونُ حافظًا للسانه دائم الفكرة، لازم الغم والنَّدَامةِ.
وقال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذُنوبُ على رَجَاء العَفو من غير ندامة، وتوقَّعُ القُربِ من الله تعالى بغير طاعة.
وانتظار زرع الجنة ببذر وطلبُ دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله مع الإفراط.
تَرجُوا النجاةَ ولم تَسْلُكْ مَسَالكَهَا ... إنَّ السَّفِيْنَةَ لا تَجْري على اليَبَس
وقال الحسن البصري: فساد القلوب متولد من ستة أشياء، أولها: يذنبون برجاء التوبة، ويتعلمون العلم ولا يعملون به، وإذا عملوا لا يُخلصُون، ويأكلون رزق الله ولا يشكرون، ولا يرضون بقسمة الله، ويدفنون موتاهم ولا يعتبرون.(1/96)
عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبدالله بن مسعود ومعنا الرببيع بن خيثم، فمررنا على حداد، فقام عبدالله ينظر حديدة في النار.
فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط، فمضى عبدالله حتى أتينا على أتون على شاطئ الفرات.
فلما رآه عبدالله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: { إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } إلى قوله: { ثُبُورًا } .
فصعق الربيع بنُ خيثم فاحتملناه فجئنا به إلى أهله.
قال: ثم رابطه عبدالله إلى الظهر فلم يُفق، ثم رابطهُ إلى العصر فلم يفق، ثم رابطهُ إلى المغرب فلم يُفق، ثم إنه أفاق فرجع عبدالله إلى أهله.
عن سعيد بن جبير قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيتك فتلك الخشية والذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.
كتب أبو الدرداء إلى سلمان ـ رضي الله عنهما ـ: يا أخي، اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيعُ العبادُ ردَّه واغتنم دعوة المبتلىَ.
يا أخي، ليكن المسجدُ بيتك، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المساجدُ بيتُ كل تقي، وقد ضمن الله عز وجل لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله عز وجل» حديث حسن، أخرجه الطبراني في «الكبير» و«الأوسط»، والبزار، وقال: إسناده صحيح.
وروي عن عيسى ـ عليه السلام ـ: لا تجالسوا الموتى فتموت قُلُوبكم، قيل: ومن الموتى؟ قال: المحبون للدنيا.
قال بعض العلماء: من عجيب ما نقدتُ من أحوال الناس: كثرة ما ناحُوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله، وذكر نكد العيش فيه، وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السُنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العُمر في الفارغ الذي لا يُجدي والقبيح الذي يُوبقُ ويؤذي.(1/97)
فلا أجد منهم من ناح على دينه ولا بكى على فارِطِ عُمُرهِ ولا آسَي على فَائِتِ دَهْره.
وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم في الأديان وعظم الدُنيا في عيونهم، ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحُون على الدين. اهـ.
كتب عباد الخواص إلى إخوانه يعظهم، فقال: إنكم في زمان قد رق فيه الورع وقلَّ فيه الخشوع وحمل العلم مُفسدُوه فأحبُّوا أنْ يُعرفوا بحمله وكرهوا أن يعرفوا بإضاعة العمل به فنطقوا فيه بالهوى ليزينوا ما دخلوا فيه من الخطر فذنوبهم ذنوب عظيمة وتقصيرهم تقصير لا يعترف به أحبُوا الدنيا وكرهوا منزلة أهلها فشاركوهم في العيش وزايلوهم بالقول (أي فارقوهم في القول).
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
الطريق إلى الله مسدودًا على خلق الله عز وجل إلا على المقتفين آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لسنته، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } .
من علامات توفيق العبد أنه إذا زاد جَاهه زاد تواضعه، وإذا زاد ماله زاد سخاؤه، وإذا زاد عمره زاد اجتهاده.
خمس خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والثقة بكل أحد، والكلام في غير نفع، والعظة في غير موضعها، ولا يعرف عدُوّهُ من صديقه.
من توفيق الله للإنسان أن يكون بين قوم صالحين، إن أمر بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكر أعانُوه، وإن احتاج إلى شيء من الدنيا ساعدوه، وإن مات دعوا له وشيعوه.
الناس أربعة أقسام منهم من مُخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهؤلاء مخالطتهم ربح كلها، قلت: وهؤلاء يندر وجود أحد منهم، فهم مثل الكبريت الأحمر، إن ظفرت بأحد منهم ولو رقم 2 فالزمه ليلاً ونهارًا ونم على عتبة بابه.(1/98)
الثاني: من مُخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دُمت صحيحًا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه.
الثالث: من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، وهم من في خلطته ضرر ديني أو دنيوي.
ومتى ابتليت بواحد من هؤلاء فعاشره بالمعروف حتى يجعل الله لك فرجًا ومتى تمكنت من نقله إلى الخير فهي فرصة.
الرابع: من مخالطته الهلاك والدمار وهو بمنزلة السم وهم أهل البدع والضلالة، قلت: كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والرافضة ونحوهم، ومن أضر ما يكون في عصرنا الحالي الأشاعرة والرافضة.
وقال ـ رحمه الله ـ: حذار حذار من أمرين لهما سوء العواقب رَدُّ الحق لمخالفة هواك فإنك تعاقبُ القلب.
وردُّ ما يردُ عليك من الحق رأسًا ثانيًا التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك تعاقب بالتثبيط والإقعاد والكسل.
القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه.
فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر ومع عدم الجناحان فهو عرضة لكُلِّ صائد وكاسر.
الحياء خلق ناشئ عن حياة القلب ورؤية التقصير في حقوق الله.
ويثمر الحياء اجتناب المحرمات والقيام بالواجبات؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء لا يأتي إلا بخير».
كان بعضهم يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسمُعتي.
قال عون بن عبدالله: صحبت الأغنياء فلم يكن أحد أطول غمًا مني أن رأيت أحدًا أحسن ثيابًا مني وأطيب ريحًا مني، فصحبت الفقراء فاسترحت.
وقال: ما أحسبُ أحدًا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلةٍ غفلها عن نفسه.
وقال: جالسوا التوابين، فإنهم أرق الناس قلوبًا.
وقال: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.(1/99)
وقال عمرو بن مرة: من طلب الآخرة أضر بالدنيا، ومن طلب الدنيا أضر بالآخرة، فاضروا بالفاني للباقي، وما كتب لك من الرزق سوف يأتيك.
للناسِ حِرْص على الدُنيا وتَدْبِيْرُ
وإن أتَوا طاعةً لله رَبِّهمُ
لأجل هذا وذاك الحرص قَدْ مُزِجَتْ
لم يُرْزَقُوهَا بعَقْلٍ عند مَا قُسَمَتْ
لو كان عن قُوةٍ أو عَن مُغَالَبَةٍ ... وفي مُرَادِ الهَوَى عَقْلٌ وتَشْمِيْرُ
فالعقلُ منهم عن الطاعاتِ مأسُوْرُ
صَفَاءُ عيشاتِها هَمٌ وتكْدِيرٌ
لَكِنَّهُم رُزِقُوهَا بالمَقَادِير
طَارَ البُزَاتُ بأقْواتِ العَصَافِير
كتب بعضهم إلى صديق له يشاروه في شيء من أمر الدنيا، فكان الجواب: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قدر حاجتك إليها.
قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فاخرج جرة مكسورة فكبها، فإذا فيها كسر (أي كسر خبز وتمر)، فقال: من كان يُجزيه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم.
وقيل: كان عامر بن قيس يقول: ما رأيتُ مثل الجنة نام طالبُها، وما رأيتُ مثل النار نام هاربهُا.
وكان إذا جاء النهار، قال: اذهب حرُّ النار النَّوم فما ينامُ حتى يُمسي، وإذا جاء الليل قال: من خاف أدلج، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
وكان يقول: أحببتُ الله عز وجل حُبًا سهل عليَّ كل مُصيبة، ورضاني كل قضية، فما أبالي مع حبي إياهُ ما أصبحتُ عليه وما أمسيت.
لقي معاويةُ بن قُرة أحد إخوانه وقد جاء من الكلاء، فقال له معاوية بن قرة: ما صنعت؟ قال: اشتريت لأهلي كذا وكذا، قال: وأصبت من حلال.
قُلتُ: نعم، قال: لأن أغدو فيما غدوتَ به أحبُّ إليَّ من أقوم الليل وأصوم النهار.
قيل لحسان بن أبي سنان: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: ليلةً بعيدةً ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها يعني بالتهجد وكان كثيرًا ما يتمثلُ هذا البيت:
لا صَحَّةُ المرءِ في الدُنْيَا تُؤخِرُهُ ... ولا يُقَدِمُ يومًا مَوْتَهُ الوجَعُ(1/100)
وكان من تجار أهل البصرة وله شريك بالبصرة وحسان مقيم بالأهواز يُجَهِّزُ على شريكه بالبصرة ثم يجتمعان على رأس السنة يتحاسبان، ثم يقتسمان الربح، فكان يأخذ قوته من ربحه، ويتصدَّق بما بقي.
وكان صاحبه يبني الدور، ويتخذُ الأرضين، قال: فقدم حسان البصرة ففرق ما أراد أن يفرق.
فذكر له أهلُ بيت لم تكن حاجتهم ظهرت، فقال: أما تخُبرنا فاستقرض لهم ثلاثمائة درهم فبعث بها إليهم.
وقال امرأته: كان يجيء فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها.
فإذا علم أني قد نمتُ سلَّ نفسهُ فخرج، ثم يقومُ فيصلي.
فقالت له: كم تُعذِّبُ نفسك، فقال: اسكتي ويحكِ فيوشك أن أرق رقدةً لا أقوم منها زمانًا.
ومر بغرفة، فقال: متى بُنِتْ هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمَّالا يعنيك لأعاقبنَّك بصوم سنة فصامها.
وكان يفتح باب حانوته فيضع الدواة، وينشر الحساب، ويُرخي سترهُ، ثم يُصلي فإذا أحسَّ بالإنسان قد جاء يُقبل على الحساب، يريه أنه كان في الحساب، خوفًا من الرياء وكان يقول: لولا المساكين ما اتَّجَرْتُ.
وقال شميط بن عجلان: بادروا بالصحة السقم، وبالفراغ الشغل، وبادروا بالحياة الموت، ويقول: بئس العبد خلق للعاقبة، فصدته العاجلة عن العاقبة فزالت عنه العاجلة، وشقي في العاقبة.
ويقول: أعطيت ما يكفيك وأنت تطلبُ ما يُطغيك لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع.
كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته.
وكان يقول: العجب كل العجب لمُصدقٍ بدار الحق، وهو يسعى لدار الغرور.
تُخَبرُّني الآمَالُ أنِّي مُعَمَّرٌ
فكيفَ ومَرُّ الأرَبْعينَ قضِيَّةٌ
إذا المَرْءُ جَازَ الأَربعيْنَ فإنَّه ... وأنَّ الذي أخشاه عني مُؤخر
عَليَّ بحُكْم قاطِعٍ لا يُغَيَّرُ
أسَيْرٌ لأسْبَابِ المَنَايَا ومَعْبَرُ
آخر:
أريْدُ مِن الدُنيا ثلاثًا وإنَّهَا
تِلاَوَةُ قرآنٍ ونفْسٌ عَفِيْفَةٌ ... لَغَايَةُ مَطْلُوبٍ لَمَنْ هُو طالبُ
وإكثارُ أعمالٍ عليها أوَاظِبُ(1/101)
رُبَّ مسرورٍ مغبون يأكلُ ويشربُ ويضحكُ وقد حُقَّ له في كتاب الله تز وجل أنه من وقود النار.
من الغرور ذكرُ الحسنات ونسيانُ السيئات.
وقال بلال بن سعد: يا أولي الألباب ليتفكَّر مُتفكِّر فيما يبقى له وينفعهُ.
أما ما وكلكم الله عزَّ وجلَّ به فتُضيِّعُونَه.
وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه ما هكذا نعت الله عبادة المؤمنين.
أذووا عقول في طلب الدنيا وبله عما خُلقتم له فكما ترجون الله بما تؤدون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.
وقال: عباد الله إعلموا أنكم تعملونَ في أيام قصار لأيَّامٍ طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصبٍ وحُزنِ لدارِ نعيم وخُلْدٍ.
ومن لم يعمل على اليقين فلا يَتَعَنَّ.
عباد الله، هل جاءكم مُخبر يخبركم أن شيئًا من أعمالك تقبل منكم أو شيئًا من أعمالكم غُفَر لكم!!
قال أبو عمرو الأوزاعي: ليس ساعةٌ من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومًا وساعةً فساعةً.
ولا تمر به ساعة لم يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسهُ عليها حسرات، فكيف إذا مرَّت به ساعة مع ساعة ويومٌ إلى يومٍ!!
ابن آدم اعْمَلْ عَمَلَ رجل لا ينجيه إلا الله ثم عملُهْ، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتبه الله له.
فصل
روي أن امرأة جاءت إلى الإمام أحمد بن حنبل تسأل وتقول: يمر بنا العَسَسُ الليل حاملين مشاعل السلطان ويقفون أمام بيتنا، فهل يحل لي أن أغزل على ضوء مشاعِلِهم؟
فقال: من أنت؟ قالت: أخت بشر الحافي، فقال: لا يَحلُ لك.
وروي عن الإمام النووي أنه كان يلبس من غزل زوجته ونسجها، فلبس قميصًا جديدًا ذات يوم فشعر بحكةٍ شديدةٍ واستمرتْ مُدة اضطر معها أن يخلع القميص، ثم سأل زوجته: كيف نسجتي القميص؟ فذكرت أنها نسجتْ بعضه على ضوء الشارع، فتصدق به.(1/102)
كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز: إن قصب السكر أصابته آفةُ، فاشتر السكر فيما قبلك، قال: فاشترى من رجل، فلم يأت عليه إلا القليل، فإذا فيما اشترى ربح ثلاثين ألفًا.
قال: فأتى صاحب السكر، فقال: يا هذا، إن غلامي كان كتب إلي ولم أعلمك فأقلني فيما اشتريتُ منك، قال: قد أعلمتني الآن وطيبته لك.
قال: فرجع حسان فلم يحتمل قلبه، فأتى البائع، وقال: يا هذا، إني لم آتي الأمر من وجهه، أي لأنه لم يخبره أن السكر زائد.
قال حسان للبائع: فأحب أن تسترد هذا المبيع، فما زال به حتى رده عليه.
دخل ابن محيريز حانوتًا بدانق وهو يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه (أي سامحه)، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.
حمل إلى محمد بن إسماعيل البخاري بضاعة أنفذها إليه المراسل له، فاجتمع التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجار فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف، فردهم، وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إليهم بما طلبوا –يعني الذين طلبوا أول مرة-، ففعل، وقال: لا أحب أن انقض نيَّتي، فقنع بربح خمسة آلاف درهم مُحافظة على النية وترك ربح عشرة آلاف الدرهم تورعًا منه ـ رحمه الله ـ.
قال حذيفة المرعشي: إنما هي أربعة: عيناك ولسانك وهواك وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بها إلى ما لا يحل لك وانظر لسانك لا تقل به شيئًا يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن في غلٌ على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئًا –أي مخالفًا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال آخر: كان عشرة ممن مضى من أهل العلم لا يدخلون بطونهم إلا ما يعرفون من الحلال.
وقال آخر: ليُكن عملك لله خالصًا، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وأن تتحرى في مأكلك فلا يدخل بطنك إلا حلال.(1/103)
قال حذيفة المرعشي: إياكم وهدايا الفُجار والسفهاء، فإنكم إن قبلتموها ظنوا أنكم قد رضيتُم فعلهُم.
أنعم الناس عيشًا من تحلى بالعفاف ورضي بالكفاف وتجاوز ما يُخاف إلى ما لا يُخاف.
قال بعضهم: طوبى للفقير في الدنيا والآخرة، لا يطلب السلطان منه خراجًا في الدنيا ولا زكاة عليه، وفي الآخرة خفيف الحساب.
وقال آخر: كوخ تتبسط فيه خير من قصر تبكي فيه.
ومن تمام نعمة الله عليك أن منعك ما يطغيك ويحملُك على الكبر والجبروت.
العجبُ والكبرُ حُمُق يُغطي به صاحبُه عيوب نفسه.
مثل الذي لا يجدُ ما يُفاخر به سوى الآباء والأجداد مثل البطاطا أهم ما فيه مدفون تحت الأرض.
رؤي رجل يطوف بالكعبة وحوله شرطة يمنعون الناس حوله من الطواف لأجله، ثم رؤي بعد مدة على جسر بغداد يسأل الناس، فعجب منه الذي رآه وسأله، فقال: تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فأذلني في موضع يترفع الناس فيه.
مر الحسن بصبيان يأكلون كسر الخبز فاستضافوه فنزل وأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهمُ وكساهُم.
وقال الفضل لهم: لأنهم لم يجدوا غير ما أطعمونا ونحنُ نجد أكثر مما أعطيناهم.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يطوف على العجائز يقضي حوائجهن، وقبله الصديق كان يتفقد ضُعفاء المسلمين، وقد ذكرنا عنهما في الموارد من القصص ما فيه كفاية.
مَشِيْبُ النواصِي للمَنُونِ رَسُولُ
فَصِيْحٌ إذا نَادَا وإنْ كانَ صَامتًا
فواعَجَبًا مِن مُوقن بفنَائهِ
أمن بَعْد ما جاوزتَ سَبعينَ حِجَّةً
أُؤَمِلُ آمَالاً وأرغَبُ في الغِنَى
وإنْ امرءً دُنْيَاهُ أكبرُ هِّمِه
فكَمْ عَالمٍ والجهلُ أوْلَى بِعلِمِهِ
وكم من قَصيرٍ في عُلومٍ كثيرةٍ
فَمَا العلمُ إلا خَشْيَةُ الله والتُّقَى
فيا ربِّ قد علّمتني سُبُلَ الهُدى
فيا ربِّ هبْ لي منكَ عزْمًا على التُّقى ... يُخَبِّرُنا أنَّ الثَّواءَ قليلُ
مُثِيرُ المَعَاني للنُفُوسِ عَذُولُ
وآمَالُهُ تَنْمُو وليسَ يَحُول(1/104)
وقَدْ آنَ منّي لِلْقُبُورِ رَحِيْلُ
بدَارٍ غِنَاهَا يَنْقَضِي ويَزُولُ
ويُؤِثرُهَا حُبًّا لها لجَهُولُ
لَهُ مِقْولٌ عند الخِطَاب طَويلُ
لَه مَخْبَرٌ لِلصَّالحاتِ وصُول
فكُلُّ تقيٍّ في العُيونِ جَليل
فأصبحتُ لا يَخْفَى عليَّ سبيلُ
فأنتَ الذي مَالي سِوَاهْ يُنِيْلُ
قال المغيرة بن حبيب: قال عبدالله بن غالب الحداني: لما برزوا للعدو علام آسى من الدنيا، فوالله ما فيها للبيب جذلٌ.
والله لولا محبتي لمُباشرتي السهر بصفحة وجهي، وافترش الجبهة لك يا سيدي، والمُراوحة بين الأعضاء في ظُلم الليل رجاءَ ثوابِكَ وحُلول رضوانك، لقد كنت متمنيًا لفراق الدنيا وأهلها.
ثم كسر جفن سفيه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، قال: فحُمِل من المعركة وإنَّ به لرمقات، فمات دون العسكر.
فلما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك، قال: فرآه رجل من إخوانه في منامه، فقال: يا أبا فراسٍ ما صنعت؟ قال: خير الصنيع.
قال: إلى ما صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بِمَ؟ قال: بحسن اليقين وطول التهجُّد وظمأ الهواجر.
قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟
قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، قال: قلت: أوصني، قال: اكسب لنفسك خيرًا لا تَخْرجْ عنك الليالي والأيام عُطُلاً.
ولا يَذْهَبَنَّ العُمْرُ منك سَبَهْلَلَا
فَمَنْ هَجَر اللَّذَاتِ نالَ المُنَى ومَن ... ولا تُغْبَنَنْ بَالنَّعْمَتيْنِ بل اجْهِدِ
أكَبَّ على اللَّذَاتِ عَضَّ على اليَدِ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبرٌ ومواعظٌ
قيل: إنه مرض بعض العلماء وكف بصره واعتراه ألم لا يهدأ بالمُسكنات، فدخل عليه أحد تلامذته فوجده يبكي، فبدأ يواسيه ويحثُهُ على الصبر على ما أصابه.(1/105)
فقال له: أنا لا أبكي ضجرًا من ألمي ولكنني أبكي فرحًا وسرورًا؛ لأن الله وجدني أهلاً لأن يبتليني، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سأله سعد بن أبي وقاص: أي الناس أشدُّ بلاءً؟ فقال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتُلي على حسب ذاك، وإن كان صلب الدين ابتلى على حسب ذاك فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
وكف بصرُ سعدُ بنُ أبي وقاص - رضي الله عنه -، وكان مجاب الدعوة تأتي الناس ليدعُو لهُم فيستفيدُوا.
فقال لهم أحدهم: يا عم، إنك تدعو للناس فلو دعوت لنفسك لَيرُدَّ الله عليك بصرك، فقال - رضي الله عنه -: يا بُنيَّ، قضاءُ الله عندي أحسنُ من بصري، فالرضا درجته أعلى من درجة الصبر، وقلَّما يبلغها إلا من آتاه الله إيمانًا كاملاً وصبرًا عظيمًا.
فترى الراضي مسرورًا بما هو فيه سواء كان ما أصابه علة أو مرض أو فقر أو نحو ذلك؛ لأنها حدثت بمشيئة الله.
وقيل: إنه لما أصيب جيش الإسلام بعد وقعة اليرمُوك بالطاعون، كان المصاب به يُقبِّلُ دُمَّلَ الطاعون في يده ويحمد الله؛ لأنه إذا مات بالطاعون يكتسب درجة الشهادة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعون شهادة لكل مسلم»، ومن أدعيته - صلى الله عليه وسلم -: «أسْألكَ الرِضا بالقضاءِ».
وقال زين العابدين: الرضا بالقضاء أرفع درجات اليقين.
طلب الخليفة من أبي حازم أن يرفع إليه حوائجه، فكت إليه هيهات رفعت حوائجي إلى من لا يختزنِ الحوائج، فما أعطاني منها قنعت وما أمسك عني رضيت، وقال شميط بن عجلان: يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضَمَّهَا إلى صدره وحملها على رأسه.
فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة، وأعرابي جاهل، وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا فرغبوا في الدنيا وجمعوها، فصار هو السبب في جمعهم لها.(1/106)
وقال: رأس المؤمن دينُه حيثما زال معه لا يخلفُه الرجال، ولا يأمن عليه الرجال، وقال: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة ليكون أنس المطيعين به.
وكان يقول: الناس رجلان، فمُتمرُّدُن من الدنيا، ومتنعم فيها، فانظر أيَّ الرجلين أنت، إن تطيع الله عز وجل وتحُسن عبادته، وتتقرب إليه بالأعمال الصالحة فطوبى لك.
أم تحب طول البقاء لتأكل وتشرب، وتجمع الدنيا وتثمرها وتنعم زوجتك وولدك فلبئس ما أردْت له البقاء.
وكان يقول: إذا وصف المؤمنين أتاهم عن الله تبارك وتعالى أمر صرفهم عن الباطل فأسهروا الأعين وأجاعوا البطون، وأظمئوا الأكباد، وأنفقوا الأموال، واهتضموا التالد والطارف في طلب ما يقربهم إلى الله عز وجل، وفي طلب النجاة مما خَوفهم به.
وكان يقول: إنَّ المؤمن اتَّخذ كتاب الله عز وجل مرآة (أي قدوة يقتدي به) فمرَّة ينظر إلى ما نعت الله به المُغترِّيْنَ.
ومرة ينظر إلى الجنة وما أعد الله عز وجل فيها.
تلقاه حزينًا كالسهم المرمي به شوقًا إلى ما شوقهُ الله عزَّ وجل منه.
وكان يقول: إن المؤمن أبصر الدنيا فأنزلها منزلتها فإن هي أقبلت عليه، قال: لا مرحبًا ولا أهلاً، والله ما أراك جئت بخير وما فيك من خير إلا أن تطلب بك الجنة، ويُفتدى بك من النار.
فإن هي أدبرت، قال: عليك العفاء، وعلى من يتَّبعُكِ الحمد لله الذي خار لي وصرف عني فتنتك وشغلك.
وكان يقول: أهل الدنيا حيارى سكارى فارسُهُم يركضُ وراجلهم يسعى سعيًا لا غنيهم يشبع ولا فقيرهم يقنع.
وكان يقول: إذا وصف المقبل على الدنيا، دائبُ البطنة، قليل الفطنة، إنما همه بطنه وفرجُهُ وجلدُه.
متى أصبح فأكل وأشرب وألهو وألعب، متى أمسي فأنام، جيفة بالليل بطَّال بالنهار.
ويحك ألهذا خُلقت، أم بهذا أُمرت أم بهذا تطلب الجنة وتهربَ من النار.(1/107)
وكان يقول: إن العافية سترت البرَّ والفاجر، فإذا جاءت البلايا استبان عندها الرجُلان. فجاءت البلايا إلى المؤمن فأذهبتْ ماله وخادمه ودابته، حتى جاع بعد الشبع ومشى بعد الركوب وخدم نفسه بعد أن كان مخدومًا.
فصبر ورضي بقضاء الله عز وجل، وقال: هذا نظر من الله عز وجل لي هذا أهون لحسابي غدًا.
وجاءت البلايا إلى الفاجر فأذهبت ماله وخادمه ودابته، فجزع وهلعَ، وقال: مالي والله بهذا طاقة.
والله لقد عودتُ نفسي عادةً مالي عنها صَبْرٌ من الحُلْوِ والحَامِض والحار والبارد ولِيْن العيش.
فإن هو أصابه من الحلال، وإلا طلبه من الحرام والظلم ليُعود إليه ذلك العيش.
وكان يقول: الناس ثلاثة: فرجلٌ ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا المقرَّبُ.
ورجل ابتكر عمُرَهُ بالذنوب وطول الغفلة ثم راجع توبة، فهذا صاحب يمين.
ورجل ابتكر الشرَّ في حداثة سنَّه ثم لم يزل فيه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب شمال.
وكان يقول: أيها المغتر بطول صحته، أما رأيت ميتًا قط من غير سقم! أيها المغتر بطول المهلة، أما رأيت مأخوذًا قط من غير عدة! أبالصحة تغترون! أم بطول العافية تمرحون، أم الموت تأمنون! أم على الملك تجترؤن!
إن ملك الموت إذا جاء لم يمنعه منك ثروةُ مالك، ولا كثرة احتشادك، أما علمت أن ساعة الموت ذاتُ كربٍ شديدٍ وغُصَص وندامة على التفريط.
ثم يقول: رحم الله عبدًا عمل لساعة الموت، رحم الله عبدًا عمل لما بعد الموت، رحم الله عبدًا نظر لنفسه قبل نزول الموت.
قال بعضهم: للبكاء دواعي، أحدها: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت النفس إلى ذلك وإلا نقلها إلى موقف العرض، وتلك الشدائد والأهوال.
فإن أجابت على ذلك وإلا فاعرض عليها التَّقلُبَ في أطباق النيران.(1/108)
قال يحيى بن سعيد لرجل: اقرأ، فقرأ { حم } الدخان، فلما بلغ { إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } صعق يحيى وغشي عليه وسقط وأصاب البابُ فقار ظهره وسال الدم وتقَّرح محل الصدمة، ثم عاد إلى فراشه وجعل يُردِّدُ الآية ثم ما زالت به القرحة حتى مات ـ رحمه الله ـ.
قال أحد أقرباء رباح بن عمرو القيسي: كُنتُ أدخل عليه في المسجد وهو يبكي، وأدخل عليه البيت وهو يبكي، فقلتُ له: أنت دهرك في مأتم، فبكى ثم قال: يحقُ لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا.
وكان يقول: إلى كم يا ليل يا نهارُ تحُطَّان من أجلي وأنا غافل عما يُرادُ بي إنا لله إنا لله.
غشى على مسروق في يوم صائف وهو صائم، فقالت ابنته: أفطر، قال: ما أردت بي، قالت: الرفق، قال: يا بُنية إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
قال الحسن البصري: لمَّا أهبط آدم أوحى الله إليه أربعٌ فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك.
أما واحدة: فلي.
وأما الثانية: فلك.
وأما الثالثة: فبيني وبينك.
وأمَّا الرابعة: فبينك وبين الناس.
أمَّا التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئًا.
وأمَّا التي لك فعملك أجزيكهُ أفقر ما تكون إليه.
وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة.
وأما التي بينك وبينَ الناس فتُصاحِبُهُم بما تُحبُّ أن يُصاحبُوكَ به.
أربعٌ من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وصديقٌ موافق على طاعة الله، ومال من حلال واسع ينفقه في مراضي الله، وعمل صالح.
أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، فقال: «هَيء جَهَازَكَ، وقدِم زادك، وكُن وصي نفسك، فإنه لا خَلَفَ من التقوى، ولا عِوَض مِن الله عَزَّ وجَلّ» اهـ.
مِن كلِ شيءٍ إذا ضَيَّعَتَه عَوضٌ ... وما مِن الله إنْ ضَيَّعْتَه عَوَضُ(1/109)
وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل يُوْصِيْه: «عَليْكَ بذِكْرِ الموت فإنه يَشغلكَ عما سواه وعليكَ بكثرة الدعاء، فإنك لا تدري متى يُسْتَجَابُ لَكَ، وأكثر من الشكر فإنه زيادة».
قال أعشى قيس:
أجدك لم تسمعْ وصَاةَ مُحَمَّدٍ
إذا أنْتَ لم ترحلْ بزَادٍ مِن التُقَى
نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كَمِثْلهِ ... نَبِّي الإله حِيْنَ أوصَى وأشْهَدَا
ولاقَيْتَ بَعدَ الموتِ مَنْ قَد تَزَودَّا
فَتُرْصِدَ لِلْمَوْتِ الذي كان أرْصَدَا
مَرَّ عَامِرُ بن عبدِ قَيْس برجل من أعوان السلطان وهو يجر ذميًا و الذمي يستغيث، فأقبل على الذمي، فقال: أدَّيْت جزيتك، قال: نعم، فأقبل عليه، فقال: ما تريد منه؟ قال: أذهبُ به يكنسُ دار الأمير، قال: فأقبل على الذمي، فقال: هلْ تطيْبُ نفسُكَ له بهذا، قال: يُشغلني عن صنعتي.
قال للرجل: دَعْهُ، قال: لا أدَعُه، قال: دَعْهُ، قال: لا أدعه، فوضعَ كساءهُ، فقال: لا تُخْفَر ذمَّةُ محمد وأنا حي، ثم خلُّصَهُ منه.
قالت المرأة التي نزل عليها عامر بن عبدالله: مالي أرى الناس ينامُون ولا أراك تنام؟ قال: ذكر جهنم لا يدعني أن أنام.
وقال عامر بن عبد قيس: أربع آيات في كتاب الله إذا ذكرْتُهن لا أبالي على ما أصبحت أو أمسيت:
1- { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } .
2- { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } .
3- { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } .
4- { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } .
وقال: عليك بما يُرغبُك في الآخرة، ويُزهدُكَ في الدنيا، ويُقرَّبُك إلى الله عز وجل.
قال: المُوصَّى، قُلتُ: ما هو؟ فقال: تَقْصرُ عن الدنيا همَّك، وتشحذ إلى الآخرة نيَّتك، وتُصدَّقُ ذلك بفعلك.(1/110)
فإن كُنْتَ كذلك لم يكن شيءٌ أحبّ إليك من الموت، ولا شيء أبغض إليك من الحياة.
فقلت: يا أبا عبدالله كُنتُ لا أحسبُك تُحسنُ مثل هذا، فقال: كم من شيء كُنْتُ أحسنُه وددْتُ أني لا أحسنُه.
وما يغني عني ما أحسنُ من الخير إذا لم أعمل به، وكان يشترط على رفقائه أن يُنفق عليهم بقدر طاقته.
عن الحسن قال: كان عامر بن قيس إذا صلى الصبح تنَحَّى في ناحية المسجد، فقال: من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيقرئهم، حتى إذا طلعت الشمس وأمكنته الصلاة قام يُصلي إلى أن ينتصف النهار، ثم يرجعُ إلى منزله فيقيْلُ.
ثم يرجعُ إلى المسجد إذا زالت الشمس فيصلي حتى يصلي الظهر، ثم يصلي إلى العصر، فإذا صلى العصر تنحَّى في ناحية المسجد.
ثم قال: من أقرئه؟ قال: فيأتيه قوم فيُقرئهُم حتى إذا غربت الشمس صلى المغرب، ثم يصلي حتى يصلي العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى منزله فيتناول أحد رغيفيه، فيأكل ثم يهجع هجعةً خفيفةً، ثم يقوم فإذا أسحر تناول رغيفه الآخر فأكله، ثم شرب عليه شربة من ماء ثم يخرج إلى المسجد، وكان يأخذ عطاءه فيجعله في طرف ردائه فلا يلقى أحدًا من المساكين يسأل إلا أعطاه، وكان يتجوز في الصلاة النافلة إذا جاءه أحدًا خشية الرياء.
وقال بعضهم: جلست إليه وهو يصلي فتجوز في صلاته (أي خففها)، وقال لمن جاءه: أرحني بحاجتك فإني أبادر.
قال: قُلتُ: وما تبادر؟ قال: ملك الموت رحمك الله، قال: فقمتُ عنه وقام يصلي. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
عن أنس، عن أبي العالية، قال: كُنتُ أرحلُ إلى الرجل مسيرة أيامٍ، فأولُ ما أتفقدهُ من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويُتمها أقمتُ وسمعتُ منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلتُ: هو لغير الصلاة أضيع.
عُوتَبَ ابنُ المبارك فيما يقري من المال في البلدان ولا يفعلُ في أهل بلده كذلك، فقال: إني أعرفُ مكانَ قومٍ لهم فضلٌ وصدقٌ طلبوا الحديث وأحسنوا الطلب فاحتاجوا.(1/111)
فإن تركناهُم ضاع علمهم وإن أعنَّاهُم بثوا العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
كان شاب يختلفُ إلى ابن المبارك ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، فقدم عبدالله الرَّقة مرَّة، فلم يرى ذلك الشاب وكان مُستعجلاً، فخرج في النفير إلى الجهاد، فلما قفلُ من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب، فقالوا: إنه محبوس بدين ركبه.
فقال عبدالله: وكم مبلغ دينه؟ قالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يسأل عن صاحب الدين حتى دُلَّ عليه، فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم، وحلفه أن لا يُخبرا أحدًا ما دام حيًا عبدالله، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس.
قال بعضهم: لولا أني أكره أن يُعصَى الله، تمنيتُ أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع فيَّ واغتابني.
فأي شيء أهنأ من حسنةٍ يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها.
وقال يحيى بن معاذ: لستُ آمركم بترك الدُنيا آمركم بترك الذنوب، تركُ الدنيا فضيلة وتركُ الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.
وقال: لا تكن ممَّنْ يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانُه.
وقال إبراهيم الخواص: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقال: على قدر إعزاز المرء لأمر الله يُلبسُه الله من عِزه ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.
وقال يوسف بن الحسين: على قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر شُغلك بأمر الله يُشغلُ الخلقُ بأمرك.
وقال آخر: وقد سُئل عن الصحبة مع الله عز وجل، قال: بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة.
والصحبة مع الرسول بإتباع سُنَّته ولزوم ظاهر الحكم.
والصحة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة.
والصحبة مع الأهل والولد بحسن الخُلق.
والصحبة مع الإخوان بدوام البشر لهم والانبساط معهم ما لم يكن إثمًا.(1/112)
والصحة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة عليهم ورؤية نعمة الله عليك إذْ عافاك مما ابتلاهم به.
جلس أحد العلماء للتَّذكير حتى طال سكوته فناداه رجل ما ترى أن تقول في سُكوتك شيئًا، فأنشأ يقول:
وَغَيرُ تِقِيًّ يَأمُرُ الناسَ بالتُّقَى ... طَبْيبٌ يُدَاوِي الناسَ وهْوَ مَريضُ
فارتفعت الأصواتُ بالبُكاء والضجيج.
سُئل بعضهم: ما علامة العارف؟ قال: أن لا يَفْترُ من ذكر الله ولا يمل من حقه ولا يستأنس بغيره.
وقال أبا يزيد البسطامي: الناس كلهم يهربون من الحساب ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني، فقيل: لِمَ قال لعله أن يقول لي فيما بَيْنَ ذلك يا عَبْدِي، فأقولُ لَبَّيْك.
فقوله لي يا عبدي، أعجب إليَّ من الدنيا وما فيها، ثم بعد ذلك يفعل بي ما يشاء، وقال أبو يعلى:
وَمِمَّا زادَني شَرَفًا وَتِيْهَا
دُخُوْلِيْ تَحُتَ قَوْلِكَ يا عبادي ... وكِدْتُ بأخْمُصِي أطَؤ الثُرَيَّا
وأنْ صَيَّرتَ أحمَدَ لِيْ نَبِيَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وسلم.
فصل
قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدهم في كثرة العمل؛ ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.
وقيل لآخر: كيف أصبحت، فبكى، وقال: أصبحت في غفلةٍ عظيمة عن الموت مع ذُنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لستُ أدري علاما أهجم ثم بكى.
وقال آخر: لا تغتم إلا من شيء يضرُك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيء لا يسرك غدًا، وأنفعُ الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وألْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقيةِ عُمرك.
وقال آخر: عليك بصحبة من تُذكرُك الله عز وجل رُؤيتُه، وتقع هيبتُه على باطنك، ويزيدُ في عملك منطقُه.
ويُزهِدُكَ في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دُمت في قُربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.(1/113)
قال إسرافيل: حضرت ذي النون المصري وهو في الحبس، وقد دخل الشرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام).
فقيل له: إن أخاك جاء به، فقال: إنه على يدي ظالم، قال: وسمعت رجلاً سأله ما الذي أتعب العباد وأضعفهم؟
فقال: ذكر المقام وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عقولهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.
والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار ينتظرون أمرهُ في الأخيار والأشرار، ثم مثَّلوا هذا في نفوسهم وجعلُوه نُصبَ أعْيُنِهِم.
وقال: سقم الجسد في الأوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العباد مع الذنوب.
وقال: من لم يعرف قدر النعم، سُلبها من حيث لا يعلم.
ما خلع الله على عبد خلعة أحسن ولا أشرف من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينة بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال آخر: أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الله من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرَّك قال لنفسه: ليس لك قومي خُذي حظَّك من الآخرة.
وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة، ليكن أنسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُون له بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، وإلى الآخرة مُشتاقون.
ونظر أبو هاشم إلى شريك القاضي يخرجُ من دار يحيى بن خالد، فبكى، وقال: أعوذ بالله من علمٍ لا ينفع.
وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها، فقيل له: هذا خطأ.
فقال: دعُونا من كلامكم، رأيت الجنة رضا نفسي، وركعتين أصليهما رضا ربي، ورضاء ربي أحبُّ إليَّ من رضا نفسي، تأمل يا أخي دقَّة هذا الفهم لله دره.
وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حرون، فإذا قاد القائدُ ولم يسُق السائقٌ لم يُغن ذلك شيئًا.(1/114)
وإذا ساق السائق ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القائدُ وساقَ السائقُ ابتعتْهُ النفسُ طوعًا وطاب العمل.
قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفسُ بادري بالأوقات قبل إنصرامها، واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها.
فكأنك بالقبور قد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: { وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } يا نفس، أما الورعُون فقد جدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا، وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا.
العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يُدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر.
دَبُّوا إلى المجدِ والساعُونَ قد بَلغُوا
وسَاوَرَوْا المجدَ حَتَّى مَلَّ أكْثَرُهُم
لا تَحْسَبِ المجدَ تَمْرًا أنْتَ آكلُه ... جُهْدَ النُفُوسِ وشَدُّوا دُوْنَه الأزُرَا
وعَانَقَ المَجْدَ مَن وافَى ومَنْ صَبَرا
لَنْ تَبْلُغَ المجدَ حَتَّى تْلعَق الصَّبِرَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
اعلم وفقنا الله وإيَّاك وجميع المسلمين
أن ظُلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي مُحتاجة إليه، وذلك فعل ما أمر الله به وبفعل ما يضرها، وذلك المعاصي كلها.
كما أن ظلم الغير كذلك إما بمنع حقه أو التعدي عليه، فإن الله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
وجاء القرآن بالأمر بالإصلاح والنهي عن الفساد، والصلاح كله طاعة والفساد كله معصية.
وقد لا يعلم كثير من الناس ذلك على حقيقته فعلى المؤمن أن يأمر بكل مصلحة وينهي عن كل مفسدة.
وكل ما أمر الله به راجع إلى العدل وكل ما نهى عنه راجع إلى الظلم.(1/115)
والظلم الذي حرمه الله على نفسه أن يترك حسنات ا لمُحسن فلا يجزيه بها، أو يُعاقب البري على ما لم يفعله من السيئات.
أو يعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير العدل ونحو ذلك مما ينزه الله جل وعلا عنه و ذلك لكمال عدله وحمده.
من أسباب قوت الإيمان ونوره سماع القرآن وتدبره ومعرفة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته، ونظر في آيات الله والتفكر في ملكوت السموات والأرض، والتأمل في أحوال نفس الإنسان، ومثل رؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم ونحو ذلك.
لله دَرُّ رِجَالٍ وَاصلُوا السَّهَرَا
فُهُمْ نُجُومُ الهُدَى واللَّيْلُ يَعْرِفُهُم
كُلُّ غَدَا وَقْتهُ بالذِّكْرِ مُشْتَغِلاً
يُمْسِي ويُصْرِحُ في وجْدٍ وفي قَلَقٍ
يَقُولُ يا سَيِّدِي قَدْ جِئتُ مُعْتَرفًا
حَمَلْتُ ذَنبًا عَظِيْمًا لا أطِيْقُ لَهُ
عَصَيْتُهُ وهْوَ يُرخي سِتْرَهُ كَرمًا
وطَالَمَا كَانَ لي في كُلِّ نَائِبَةٍ
وإنَّني تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وقَدْ
لَعَلَ تَقْبَلَ عُذْرِي ثم تَجْبُرُني
وقَدْ أتَيْتُ بذلُ رَاجيًا كَرَمًا ... واسْتَعْذبُوا الوجْدَ والتَّبْريحَ والفِكَرا
إذا نَظَرْ تَهُمُوا هُمْ سَادَةٌ بُرَرَا
عَمَّا سِوَاهُ ولِلَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا
مِمَّا جَناهُ مِن العِصيان مُنْذَعرَا
بالذَّنْبِ فاغْفِرهُ ليْ يا خَيْرَ مَن غَفَرا
ولم أطِعْ سَيِّدِي في كُلِّ مَا أمَرَا
يا طَالمَا قد عَفَا عَني وَقدْ سَتَرا
إذا اسْتَغَثْتُ بهِ مِنْ كُرْبةٍ نَصَرا
وَافَيْتُ بَابَكَ يا مَوْلايَ مُعْتَذرَا
يَوْمَ الحِسَاب إذا قُدَّمْتُ مُنْكسِرَا
إليكَ يا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا
اللهم أجرنا من النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار، اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا وأقلنا من عثراتنا ولا تفضحنا بين يديك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل(1/116)
قال محمد بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركتهُ ابتغاء وجه الله، كُنتُ أنا وأخي شريكين فأصبنا مالاً كثيرًا، فدخل قلبي من ذلك شيء فتركتُه لله وخرجتُ منه، فما خرجت من الدنيا حتى ردَّ الله عليَّ ذلك المال عامتهُ إليَّ وإلى ولدي، زوج أخي ثلاث بناتٍ من بنيَّ، وزوَّجت ابنتي من ابنه.
ومات أخي فورثه أبي ومات أبي فورثته أنا، فرجع ذلك كله إليَّ وإلى ولدي في الدنيا.
عن عطاء الحسن الخرساني أنه كان يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم مُستوصون بها، وأنتم عليها حراص.
وإنما أوصيكم بآخرتكم، فخذوا من دار الفناء لدار البقاء، واجعلوا الموت كشيء ذقتُموه، فوالله لتذوقُنَّه، واجعلوا الآخرة كشيء نزلتموه فوالله لتنزُلُنَّها، وهي دار الناس كلهم، ليس من الناس أحد يخرج لسفر إلا أخذ له أهبته، فمن أخذ لسفره الذي يُصلحُهُ اغتبط.
ومن خرج إلى سفر لم يأخذ له أهبتهُ ندم، فإذا أضحى لم يجد ظلاً، وإذا ظمئ لم يجد ماء يتروى به، وإنما سفرُ الدنيا منقطع، وأكيس الناس من قام يتجهَّز لسفر لا ينقطعُ.
وقال آخر يوصي أخًا له: اعلم أنك تلقى ما أسلفت ولا تلقى ما خلفت فمهد لنفسك، فإنك لا تدري متى يفجؤك أمرُ ربك، قال: فأبكاني كلامُه وهوَّن عليّ الدنيا.
قيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى (يُريدون الفضل)، قال: صدقُ الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعني.
عن جابر الجعفي، قال: قال لي محمد بن علي بن الحسين: يا جابر، إني لمحزون، وإني لمشتغلُ القلب، قلت: وما حُزنُك؟ وما شُغل قلبك؟
قال: يا جابر، إنه من دخل قلبهُ صافي خالصُ دين الله شغلهُ عمَّا سواه.
يا جابر، ما الدنيا ما عسى أن تكون هل هو إلا مركبٌ ركبتهُ أو ثوبٌ لبسته أو امرأة أصبتها.
يا جابر، إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا لبقاءٍ فيها، ولم يأمنوا قدوم الآخرة عليها، ولم يصمهُم عن ذكر ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، ولم يعمهم عن نور الله ما رأوا بأعينهم من الزينة، ففازوا بثواب الأبرار.(1/117)
إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معُونة، إن نسيت ذكَّروك، وإن ذكرت أعانوك.
قوالين بحق، قوامين بأمر الله، فأنزل الدنيا كمنزلٍ نزلت به وارتحلت منه، أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، واحفظ الله تعالى ما استرعاك من دينه وحكمته.
قال بعضهم: فكَّر في ذنبك، وتُب إلى ربك، يَنْبُتُ الورعُ في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك، ذم مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهَّدَنا فيها فآثرْنَاهَا، ورغبنا في طلبها، دعتكُم إلى هذه الغرارة دواعيها فأجبتم مُسرعين مُناديها خدعتكم بغُرورها تتمرُون في زهراتها وزخارفها، قال الله جل وعلا: { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا } .
أتى الحسن بكوز من ماء ليُفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذكرت أمنية أهل النار، قولهم: { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ } ، وذكرت ما أجيبوا به: { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ } .
وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أتصدق بوزني ذهبًا.
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهبٌ إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر.
فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
وكان يقول: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحًا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف.
يقول: إذا كان في صحته محسنًا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه (أي بالله)، وإذا كان في صحته مسيئًا ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
إذا أخْبَرَتَ عن رَجُل بريءٍ
فَسَلْهُم عَنْهُ هَلْ هُوَ آدمِيٌ
ولكن بَعْضُنَا أهْلُ اسْتِتَارٍ
ومن إنعام خَالقنا عَلينا
فَلَوْ فاحَتْ لأصْبَحْنَا هُرُوبًا
وضاقَ بِكُل مُنْتَحِلٍ صَلاحًا ... من الآفاتِ ظَاهُره صحِيْحُ
فإنْ قالُوا نَعَمْ فالقوَلُ ريْحُ(1/118)
وعند الله أجْمَعُنا جَريحُ
بأن ذُنُوبنا ليْسَتْ تَفُوْحُ
فُرادَى في الفَلا ما نسْتَريحُ
لِنَتْنِ ذُنوبِهِ البَلَدُ الفَسَيحُ
المعاصي تنقسم إلى قسمين: قسم ذنوب جوارح ظاهرة، مثل القذف، والغيبة، والظلم، والاغتصاب، والقتل، والزنا، واللواط، والسرقة ونحو ذلك.
والقسم الثاني: وهي ذنوب القلوب، وهن المهلكات القاصمات، ومنها: الشرك، والشك، والنفاق، والكفر، والاغترار بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله.
ومنها احتقار الذنوب والتهاون بها والتسويف بالتوبة والإنابة والإصرار على المعاصي والرياء والتيه والكبر والعجب والخيانة والغدر والحسد والغل والحقد والبغض.
وسوء الظن والجفاء والقطيعة والعقوق والقسوة والشح والحرص والشره على ما لا ينبغي الحرص والشره عليه.
ومنها: الطغيان بالمال والقوة والجاه واحتقار النعم والاحتقار بمصائب الدين، ومنها الاستهانة بعلم الله ونظره وسمعه وإطلاعه.
ومنها: قلة الحياء من الله عز وجل وتقدس وقلة الحياء ممن على اليمين وعلى الشمال من الملائكة عند فعلك ما يكرهه الله ونحو ذلك من الذنوب التي لا يسلم منها إلا من عصمه الله.
موعظة
قال ابن الجوزي: يا عجبًا كيف أنس بالدنيا مفارقها! وأمن النار واردها! كيف يغفُل من لا يُغفل عنه! كيف يفرحُ بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته وسنتُه تهدم عمُره! كيف يلهو من يقوده عُمُره إلى أجله وحياته إلى موته!
إخواني: الدنيا في إدبار، وأهلُها منها في استكثار، والزارع فيها غير التقي لا يحصُدُ إلا الندم.
ما أفْضَحَ الموت لِلدُّنْيَا وَزيْنَتِهَا
لا تَرْجِعَنَّ على الدنيا بلائِمةٍ
تُفْني البَنِيْنَ وتُفْنِي الأهل دائِبةً
فَمَا يَزِيْدُكُمُوا قَتْلُ الذي قَتَلَتْ ... جِدًّا وما أفْضَح الدُنْيَا لأهْلِيْهَا
فَعُذْرُهَا لَكَ بادٍ في مَسَاوِيْهَا
ونَسْتَنِيْمُ إليها لا نُعَاديْهَا
ولا العَدَاوة إلا رَغْبةً فيها
آخر:(1/119)
لِسَانُكَ للدُنْيا عَدُوٌ مُشَاحِنٌ
وما ضَرَّهَا ما قُلْتَ فيها وقَدْ صَفَا ... وقَلْبُكَ فيها لِلِّسَانِ مُبَاينُ
لَهَا مِنْكَ ودٌ في فُؤادكَ كَامِنُ
آخر:
ولم أرى كالدُنْيَا نَذُم صُرُوْفَها ... ونُوسِعُهَا شَتَمًا ونَحْنُ عَبْيدُهَا
آخر:
يَذُمُونَ دُنْيَاهُم وهُمْ يَجْلِبُونها ... ولم أرَى كالدُنْيَا تُذَمُّ وتُطْلَبُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم وفَّقَنا الله وإيَّاك أن الصلاة عماد الدين وأجل مباني الإسلام بعد الشهادتين، ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا ديْنَ لِمَنْ لا صَلاةَ له.
جعلنا الله وإياكم من المحافظين عليها الخاشعين فيها الدائمين عليها المقيمين لها، قال جل وعلا: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ } ، وقال عَزَّ من قائل: { الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } ، وقال: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ } .
فالإنابة هي الرجوع إلى الله، والتقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والإقامة للصلاة الإتيان بها على الوجه الذي أمر الله به.
قال جلَّ وعلا: { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فالمصلي على الإتباع والإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على الوجه الذي نقله عُلماء الأمة من السلف والخلف - رضي الله عنهم - هو المُصَلِي المعدودُ عند الله من المقيمين للصلاة والمحافظين عليها.(1/120)
وللصلاة صُورةٌ ظاهرةٌ وحقيقةٌ باطنة لا كمال للصلاة ولا تمام لها إلَّا بإقامتهما جميعًا.
فأما صُورتها الظاهرة فهي القيام والقراءة والركوع والسجود ونحو ذلك من وظائف الصلاة الظاهرة.
وأما حقيقتها الباطنة فمثل الخشوع والإخبات وحُضور القلبِ وكمال الإخلاص.
والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك وظائف الصلاة الباطنة.
فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط فيها في البدن والثوب والمكان.
قال –عليه الصلاة والسلام-: «الطهور شطر الإيمان»، وفي الحديث الآخر: «الطهور مفتاح الصلاة وإسباغِ الوضوء وتثليثه مِن غير وسوسة ولا إسراف».
فإن الوسوسةَ في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يُلبِّسُ بها على من ضعُف عقلُه وقلَّ علمه.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة: «أن مَن توضأ فأحْسَنَ الوضوء خرجَتْ خطاياه مِن أعضائه ودَخَلَ في الصلاة نقيًا مِن الذنوب».
ومِن المحافظة على الصلاة والإقامَة لها المبادرة بها في أول مواقيتها، وفي ذلك فضلٌ وأجر عظيم.
وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضا ته ومحابه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله».
وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقوم إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها.
وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته، وقلت معرفتُه بالله وعظمته وضعُفت رغبته فيما أعدَّ الله لأوليائه في الدار الآخرة.
وأما تأخيرها وقتها فلا يجوزُ وفيه إثم عظيم.
ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها الخشوع وحُضور القلب وتدبُر القراءة وفهمُ معانيها واستشعارُ الخُضُوع والتواضُع لله عند الركوع والسجود.
وامتلاءُ القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجزاء الصلاة.(1/121)
والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شؤون الدنيا والإعراض عن حديث النفس في ذلك.
ويكون همه في الصلاة وحُسنُ تأديتها كما أمر الله.
فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدوى.
فاجتهد في تدبُّر ما تقول من كلام ربك واحرص على الطمأنينة فيها.
فإن الذي لا يتم الركوع والسجود في الصلاة سارق لها كما ورد في الحديث وورد أن من حافظ عليها وأتمها تخرج بيضاء تقول: حفظك الله كما حفظني.
والذي لا يتم الصلاة تخرج سوداء مظلمة تقولُ: ضيَّعَكَ الله كما ضيعتني، ثم تلف كما يُلفُ الثوبُ الخلق فيضربُ بها وجهُهُ.
رأى رُجلٌ حاتم الأصم واقفًا يعظُ الناس، فقال: يا حاتمُ، أراك تعظُ الناس أفتحسنُ أن تُصلي؟ قال: نعم، قال: كيف تُصلي؟
قال: أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة، و أدخُل بالهيبة، وأكبرُ بالعظمة، واقرأ بالترتيل، واجلس للتشهد بالتمام وأسلم على السنة، وأسلمُها إلى ربي، وأحفظها أيام حياتي، وأرجع باللَّوم على نفسي، وأخافُ أن لا تُقبل مني، وأرجُو أن تُقبل مني، وأنا بين الرجا والخوف.
واشكر من علَّمني وأعلِّمُ من سألني وأحمدُ ربي إذ هداني.
قال له محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يعظ.
روي أن زين العابدين بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم -: كان يتغيَّر عند الوضوء ويصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة أخذتُه رعْدَةٌ.
فقيل له في ذلك، فقال: أتدرُونَ بين يدَي مَن أقُوم؟
وقال أبو بكر الوراق: ربما انصرف من الصلاة وأنا استحي من الله جلَّ وعلا ولا حياءَ رجُلٍ انصرفَ مِن الزِنا.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
مواعظ
عن أبي بكر بن عياش قال: قال لي رجُلٌ مرَّة وأنا شابٌّ خلِّصْ رقبتك ما استطعت في الدنيا من رقِّ الآخرة.
فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا، قال أبو بكر: فما نسيتُها أبدًا.(1/122)
وكان يقومُ الليل في قباء صُوف وسراويل وعُكازة يضعُها في صدره فيتكيءُ عليها حين كبرُ فيُحْيي ليْلَتَهْ ويُذكِّرِهُ حَمْلُ العَصَى بالسَّفرِ إلى الآخرة.
قال بعضهم:
حَمَلْتُ العَصَا لا الضّعْفَ أوْجَبَ حَمْلَهَا
ولكِنَّنِي ألْزمْتُ نَفْسِيَ حَمْلَهَا ... عَليَّ ولا انِّي نَحَلْتُ مِن الكِبَرْ
لأعْلِمَهَا أنَّ المُقْيِمَ عَلى سَفَرْ
قال بعض أصحاب وكيع بن الجراح: كان لا ينام حتى يقرأ ثلث القرآن ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المُفَصَّلَ، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر فيصلي ركعتين.
وعن عاصم قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول وهو ساجد: رب اغفرْ لي، رب اعفُ عني إن تعفُ عني تعف عني تطوُّلاً من فضلك، وإن تعذبني تُعذبني غير ظالم لي، قال: ثم يبكي حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد.
عن خيثمة قال: كان يُعجبهم أن يموت الرجل عند خيرٍ يعمله إما حج، وإما عمرةٌ وإما غزاة، وإما صيام رمضان.
قال الربيع بن أبي راشد وقد رأى رجلاً مريضًا يتصدق بصدفة فقسمها بين جيرانه، فقال: الهدايا أمام الزيارة فلم يلبث الرجل إلا أيامًا حتى مات، فبكى عند ذلك الربيع بن أبي راشد، وقال: أحسن والله بالموت وعلم أنه لا ينفعه من ماله إلا ما قدم بين يديه.
قال أحمد بن عبدالله بن يونس: كان معروف بن واصل التيمي إمام مسجد بني عمرو بن سعد.
قيل: إنه كان يختم القرآن في كل ثلاث سفرًا وحضرًا وأنه أم قومه ستين سنة لم يسهُ في صلاته؛ لأنها كانت تهمُّه.
وقال عبدالملك بن أبجر: ما من الناس إلا مُبتلى بعافية ليُنظر كيف شُكْرُه أو مُبْتَلى ببليَّةٍ ليُنظر كيف صبرُه.
وفي الخبر يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يُعيرونهُ بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل في المداخل التي يذهب فيها دنه فيهلك، قلت: هذا حاصل في عصرنا فتأمل.(1/123)
عن معمر مؤذن سُليمان التيمي، قال: صلَّى إلى جنبي سُليمان التيمي العشاء الآخرة، وسمعته يقرأ: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ } .
قال: فلما أتى على هذه الآية { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وَجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } جعل يُردِّدُهَا حتى خفَّ أهل المسجد وانصرفوا، قال: فخرجت وتركتُه.
قال: وعدت لأذان الفجر فإذا هو في مقامه، قال: فتسمَّعْتُ، فإذا هو لم يجزها وهو يقول: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وَجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وقيل له: أنت أنتَ (أي يثنون عليه)، قال: لا تقولوا هكذا لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل، سمعتُ الله يقول: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } .
ولمَّا حضرهُ الموتُ قال لابنه: يا مُعْتَمِرُ حدِّثني بالرُّخَصِ لعلي ألقى الله عزَّ وجل وأنا حسنُ الظَّن به.
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عُتبة بنُ فَرْقَد سَألْتُ الله ثلاثًا فأعطاني اثنتين وانتظر الثالثة، سألته أن يُزهِّدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر، وسألته أن يُقوِّيْني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
كان طلحة بن مُصرِّف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسُمعتي.
قال خُليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدًا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً.
وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفًا، فعلام تعرجون، وما عسيتم تنتظرون، الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر.
إخواني، إنكم تغدون وتروحون في آجال قد غيبت عنكم لا تدرون متى تهجم عليكم فالوحا الوحا والنجا النجا فالطالبُ مُسْرع.
يَجدُّ بنا صَرْفُ الزَّمَانِ ونَهْزُلُ
ومَا الناسُ إلا ظاعِنٌ أوْ مُوَدِّعٌ
وما هَذِهِ الأيامُ إلا مَنَازِلٌ
فَنَاءٌ مُلحٌ مَا يُغِبُ جميْعَنَا
وكم صَاحِبٍ لي كنْتُ أكرهُ فَقْدَهُ ... ونُوقَظُ بالأحْدَاثِ فيه ونَغْفُلُ(1/124)
ومُسْتَلبٌ مُسْتعْجَلٌ أو مُؤجَّلُ
إذا مَا قَطَعْنَا مَنْزلاً بَانَ مَنْزلُ
إذا عاشَ منَّا آخِرٌ مَاتَ أوَّلُ
تَسَلَّمَهُ منِّي الفَنَاءُ المُعَجَّلُ
اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا تقلُّب الأحوال إن كنتم تُبصرون.
قال يحيى بن معاذ: لو سمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء لتساقطت القلوبُ منهم حزنًا.
ولو رأت العقولُ بعينِ الإيمان نُزْهَةَ الجنةِ لَذَابِتِ النُفوسُ شوقًا إليها.
ولو أدركت القلوبُ المحبةَ لخالقِها لتخلَّعَتْ مَفَاصِلُهَا ولها فسبحان من أغفل الخليقة عن كُنْهِ هذه الأشياء وألهاهُم الوصف عن حقائق هذه الأنباء.
من نَالَ من جَوهَرِ الأشياء بُغْيَتَهُ
إني لأعْجَبُ مِن قومٍ يشفُهُمُ
ألا عُقُول ألا أحْلامَ تَزْجُرُهُمُ ... يأسَى ويَحْقِرُ قَومًا حَظُهُم عَرَضُ
حُبُّ الزَّخَارِفِ لا يدرُونَ مَا الغرضُ
بَلَى عُقُولٌ وأحْلامٌ بها مَرَضُ
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حُجَّتَنَا، واهْد قُلوبنا، وسدِّدْ ألسنتنا، واسْلُلْ سخيمةَ صُدُورنا.
واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فوائد ومواعظ
اعلم يا أخي، أن الناس عند الموت ثلاثة أقسام، الأول: ذو بصيرة علم أن الإنسان وإن طال عمره في الدنيا فهو كخطفة برق لمعت في السماء ثم عادت للاختفاء، فلا يثقل على العاقل اللبيبي الخُروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوته من خدمة ربه عز وجل، والازدياد مِن ما يقربه إليه، والإشفاق مما يقول أو يقال له.
كما قال بعضهم لمَّا قيل له: لِمَ تجزع؟ قال: لأني أسلُكُ طريقًا لم أعهدْهُ، وأقدم على ربي جل وعلا ولا أدري ما أقول وما يقال لي.
ومثْلُ هذا الشخص لا ينفُر من الموت، بل إذا عجزَ عن العبادة ربَّما أشتاقَ إليه.(1/125)
وقال بعضُهم في مناجاته: إلهي إني سألتُكَ الحياة في دار الممات فقد رغبتُ في البعد عنك، وزهدتُ في القرب منك.
فقد قال نبيُك وصفيُك - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أحَبَّ لِقاءَ الله أحَبَّ الله لِقَاءَهُ ومَن كَرِهَ لِقَاءَ الله كَرِهَ الله لقاءه».
الثاني: رجلٌ رديء البصيرة مُتلطخ السريرة مُنهمكٌ في الدنيا مُنكرٌ للبعث، قد رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس مِن الآخرة.
فهذا مصيرهُ كما ذكر الله: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
القسم الثالث: مَن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا واعترفوا بذنوبهم، وهؤلاء أيضًا مصيرهم كما ذكر الله، قال الله جلَّ وعلا وتقدس: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ثم اعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام-: «خيركم من طال عمره وحسُن عمله» وكلما كان العمر أطول في طاعة الله، كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع.
وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شر وبلاء، تكثر السيئات، وتضاعف الخطيئات.
ومن زعم أنه يحبُ طول البقاء في الدُنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى، فإن كان مع ذلك حريصًا عليها ومُشمرًا فيها ومجانبًا لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه.
وإن كان متكاسلاً عنها ومُسَوِّفًا فيها أي الأعمال الصالحة، فهو من الكاذبين المتعللِّين بما لا يُغني عنه.
لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء وجدته في غاية الحرص عليه مخافةَ أن يفوتهُ ويُحال بينُه وبينَه.(1/126)
ولاسيَّمَا والعمل الصالح محَلُّه الدنيا ولا يمكن في غيرها؛ لأن الآخرة دارُ جزاء وليست بدار عمل.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإيَّاك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمِّر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يُحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلاً.
وكُنْ حذر من مفاجأة الأجل فإنك غرضٍ للآفات وهدفٌ منصوبُ لسهام المنايا وإنما رأسُ مالك الذي يمكنُكَ إن وفَقَكَ الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العُمْر.
قال الله جل وعلا: { أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } الآية، فإيَّاك أن تنفق أوقاته وأيامهُ وساعاته وأنفاسَه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسُّركَ وندَمُك وحُزنُكَ بعد الموت.
إذا كان رأسُ المالِ عُمْرِكَ فاحْتَرِزْ ... عليه من الإنفاقِ في غَيْرِ واجِبِ
قال محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم، قال محمد بن أسلم: مالي ولهذا الخلق كُنتُ في صلب أبي وحْدِي.
ثم صرت في بطن أمي وحْدِي.
ثم دَخَلْتُ الدنيا وحْدِي.
ثم أدخل في قبري وحدي.
ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي، فإن صرت إلى خير صرت وحدي.
ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي.
وإن بُعثْتُ إلى الجنة بُعثتُ وحدي.
وإن بُعثتُ إلى النار بعثتُ وحدي، فما لي وللناس.
ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرِّعْدَةُ حتى خشيتُ أن يسقُط، قال: وسمعته يحلف كذا وكذا مرة يقول: لو قدرتُ أن أتطوع حيثُ لا يراني ملكاي لفعلتُ.
ولكني لا أستطيع ذلك خوفًا من الرياء.
وكان يدخل بيته ويُغلقُ بابه ويدخل معه كُوزًا من ماء فلم أدري ما يصنع.
حتى سمعتُ ابنًا له صغيرًا يحكي بُكاءهُ فنهتهُ أمهُ، فقلتُ لها: ما هذا البكاء؟
فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه (أي يقلده).
وكان إذا أراد أن يُخرج غسل وجهه واكتحل لئلا يُرى عليه أثرُ البُكاءِ.
بلغ يا أخي الذين يذكرون أعمالهم للناس من حج وصدقة وصيام رياءً وسمعةً.(1/127)
وكان يصل قومًا ويُعْطِيهم ويكسوهم فيبعثُ إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه إليهم ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم ويخفى نفسه.
ولا يعلمون من الذي أعطاهم ولا أعلم أنه وصل أحدًا بأقل من مائة درهم إلا أن لا يمكنه ذلك.
ودخلتُ عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: يا أبا عبدالله، أبشر بما صَنَعَ الله بأخيك من الخير قدْ نَزَلَ بي الموتُ وقد مَنَّ الله علي أنه ليس عندي درهم يُحاسبني الله عليه.
وقد علم ضَعْفِي فإني لا أطيقُ الحسابَ، فلم يدع عندي شيئًا يُحاسبني الله عليه ثم أغلق الباب ولا تأذن لأحدٍ علي حتى أموت.
واعلم أني أخرجُ ن الدنيا وليس أدعُ ميراثًا غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي.
وكانت معه صُرةٌ فيها نحو ثلاثين درهمًا، فقال: هذا لابني أهداهُ إليه قريبٌ له ولا أعلم شيئًا أحَلَّ لي منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنْتَ ومالُك لأبيك».
فكَفِّنُوني منها وابْسُطُوا على جنازتي لبدي وغطوا عليَّ بكسائِي وتصدَّقوا بإنائي أعطُوهُ مسكينًا يتوضأ منه ثم مات باليوم الرابع ـ رحمه الله ـ.
قيل: إنه مرض قيس أحد الكرماء فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم، فقالوا: إنهم يستحيون لمالكَ عليهم من الدَّين.
فقال: أخزى الله مالاً يمنعُ الإخوان عن الزيارة.
ثم أمر مُناديًا ينادي من كان لِقَيْسٍ عليه مال فهو منه في حِلَّ.
فكُسرتْ عتبةُ داره بالعشى لكثرة عُوَّاده.
وأتى رجل صديقًا ودقَّ عليه الباب فلما خرجَ، قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمائة درهم دَيْنٌ عَليَّ.
فدخل الدار ووزن له أربعمائة درهم وسلمها له ودخل الدار يبكي.
فقالت امرأته: هلَّا تعللت واعتذرت حين شقَّ عليك الإجابة؟
فقال: إنما أبكي لأني غفلتُ عنه ولم أتفقَّدْ حَاله حَتى احتاجَ أن يُفاجئني به.(1/128)
وحكي عن حُذيفة العَدَوي قال: انطلقتُ يوم اليرمُوك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماءٍ وأنا أقولُ إن كان به رمقٌ سقيته ومسحت وجههُ فإذا أنابه، فقلتُ: أسقيكَ فأشار إليَّ نَعَمْ فإذا رَجُلٌ يقول: آهْ، فقال ابنُ عمي: انطلقْ إليه.
فجئتُ إليه فإذا هُوَ هشامُ بنُ العاص، فقلتُ: اسقيكَ فسمعَ هشامُ آخر يقول: آه، فقال: انطلق به إليه فجئت إليه فإذا هو قد مَات.
ثم رجعت إلى هشام فإذا هو أيضًا قد مات.
ثم رجعتُ إلى ابن عمِّي فإذا هو قد مات.
إلى كَمْ ذا التراخِي و التَّمَادي
فلو كُنّا جَمَادًا لاتَّعَضْنَا
تُنَادِينا المَنيّةُ كُلَّ وقتً
وأنفاسُ النُفوس إلى انْتِقَاصٍ
إذا مَا الزَّرْعُ قَارَنَهُ اصْفِرَارٌ
كأنَّك بالمشيبِ وقد تَبَدَّى ... وحادي الموت بالأرواحِ حَادي
ولَكِنّا أشدُّ من الجَمَادِ
وما نُصْغِي إلى قَولِ المُنَادِي
ولكنَّ الذُنَوبَ إلى ازْدَيادِ
فليسَ دَواؤُهُ غيرَ الحَصادِ
وبالأخرى مُنَاديها يُنادِي
وقالوا:
قَدْ قَضَى فاقْرَوْا عليه ... سَلامَكُمُ إلى يَوْمِ التَّنَادِ
عن أبي معشر قال: رأيتُ عونَ بن عبدالله في مجلس أبي حازم يبكي ويمسحُ وجههُ بدُموعه.
فقيل له: لم تمسح وجْهَكَ بدمُوعِكَ؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانًا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار.
وقال: قلبُ التائب بمنزلة الزُجَاجة يُؤثِّر فيها جميعُ مَا أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريْعة وهُمْ إلى الرقة أقرب.
فداوُوا القلوب بالتوبة فلرُبَّ تائب دعته توبتُهُ إلى الجنة حتى أوفدتْهُ عليها، وجالسوا التوابين، فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب.
سمع المسعودي رجُلاً يقولُ: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون فيما عند الله؟ فقال: اقلب المعنى وضع يدك على من شئت.
عن صالح المري، قال: كان عطاء السلمي قد أضرَّ بنفسه حتى ضُعفَ قال: قلتُ له: إنك قد أضْرَرْتَ بنفسكَ وأنا مُتَكَلِفٌ لَكَ شَيئًا فلا تردّ كرامَتي، قال: أفعل.(1/129)
قال: فاشتريت سويقًا من أجودِ ما وجدتُ وسمنًا فجعلتُ له شُريبةً ولينتُها وأرسلتُها مع ابني وكوزًا من ماءٍ، وقُلتُ له: لا تبرح حتى يشربَهَا، فرجع، فقال: قد شربهَا.
فلما كان من الغد جعلتُ له نحوها فرجَّعَها ولم يشربْها فأتيتُه فلمتُه، فقلتُ: سبحان الله رددت عليَّ كرامتي إن هذا مما يُعيْنُكَ، ويقويك على الصلاة وعلى ذكر الله.
قال: يا أبا بشر لا يسُوْءُكَ الله قد شربتُها أولَ مرة، فلما كان الغدُ راودتُ نفْسي على أن تسيغهَا فما قَدِرْتُ ذلك.
إذا أردتُ أن أشربها ذكرتُ هذه الآية: { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ } .
فبكى صالح عند هذه، وقال: قلتُ لنفسي: أراني في وادٍ وأنت في آخر.
وقال العلاء بن محمد: دخلتُ على السلمي وقد غُشي عليه، فقلت لامرأته: ما شأن عطاء؟ فقالت: سجَّرتْ جارتنا التنور فنظر إليه فخرَّ مُغْشيًا عليه.
وقال: إذا ذكرتُ أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه تَمثَّلَتْ لي نَفْسِي بهم.
فكيف لِنَفْسٍ تغلُّ يدُها إلى عُنُقها وتسحبُ في النار، ألا تصيح فتبكي!
وكيف لنفس تعذب ألا تبْكِي! وما أقل غناءُ البُكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله!
وقال له بشر بن منصور: ما هذا الحزن؟ قال: ويحكَ الموت في عُنقي والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي ما أدري ما يصنع بي، ثم تنفَّسَ فغُشي عليه.
وقال عُمر بن درهم لعطاء: حتى متى نسهو ونلعب وملك الموت في طلبنا لا يَكُفَ فصاح عطاء صيحَةً خَرَّ مَغْشيًا عليه.
واجتمع الناس وقعد عمر عند رأسه فلم يزل على حاله حتى المغرب ثم أفاق فحُمل.
قيل: إن أبا عثمان المنتخب أنشد نور الدين أبياتًا تتضمنُ ما هو مُتلبسٌ به نور الدين في ملكه من المكوس والضرائب وفيها تخويف وتحذير شديد له كانت هذه الأبيات سببًا لوضعها عن الناس:(1/130)
مِثِّلْ وُقُوْفَكَ أيها المغْرُوْرُ
ماذا تقولُ إذا نُقِلْتَ إلى البِلىَ
ماذا تقولُ إذا وقَفْتَ بِمَوْقِفٍ
وتَعَلَّقَتْ فِيْكَ الخُصُوْمُ وأنْتَ في
وتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الجُنُوْدُ وأنْتَ في
وَوَدِدْتْ أنكَ مَا وَلِيْتَ ولايَةً
وبَقِيْتَ بَعْدَ العِزِّ رَهْنَ حَفِيْرةً
وحُشِرْتَ عُرْيَانًا حَزِيْنًا باكِيًا
أرَضِيْتَ أنْ تحْيَا وقَلْبُكَ دَارسٌ
أرَضِيْتَ أنْ يُحْظَى سِوَاك بقُرْبِهِ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بهَا ... يوم القِيَامَةِ والسماءُ تَمُورُ
فرْدًا وجَاءَكَ مُنكَرٌ ونَكِيْرُ
فَرْدًا ذَلِيْلاً والحسابُ عَسِيْرُ
يوم الحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
ضِيْقِ القُبُورِ مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ
يَوْمًا ولا قال الأنامُ أ ميرُ
في عَالَم الموتى وأنْتَ حَقِيْرُ
قَلقًا ومالكَ في الأنامِ مُجيْرُ
عَافي الخَرَابِ وجْسْمُكَ المَعْمُوْرُ
أبدًا وأنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُوْرُ
يَوْم المعادِ وَيْومَ تَبْدُوْ العُوْرُ
فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاءً شديدًا وأمر بوضع الضرائب والمكوس في سائر البلاد وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم: إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم، وكتب ذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال محمد بن واسع: ما آسى مِن الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يُحمل عني سهوها وأفوزُ بفَّضْلِها، وقوتٍ من الدنيا ليس لأحد فيه منة، ولا لله عز وجل علي فيه تبعة.(1/131)
كان بالكوفة رجل قد خرج عن دُنْيًا واسعةً وتعبَّد، فقال الفضيل لعبدالله بن المبارك: إن هاهنا رجلاً من المُتعبدين قد خرج عن دُنيا واسعة فامض بنا إليه ننظر عقله، فجاءوا إليه وهو عليل وعليه عباءةٌ وتحت رأسه قطعةُ لبنة فسلم عليه ابن المبارك، ثم قال لهُ: يا أخي، بلغنا أنه ما ترك عبدٌ شيئًا لله إلا عوضُهُ الله ما هو أكثر منه فما عوَّضَكَ؟
قال: الرِّضَا بمَا أنا فيه، فقال ابنُ المبارك: حَسْبُكَ، وقاما على ذلك.
وأوصى بعضهم أخًا له في الله، فقال: لا يُلْهِيَنَّكَ الناس عن ذات نفسك، فإن الأمر يخلص إ ليك دونهم ولم أر شيئًا أحسن طلبًا ولا أسرع إدراكًا من حسنة حديثة لذنب قديم.
قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدًا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى له خائفًا، فعلام تعرجون.
وما عسيتم تنتظرون الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو شر، فيا اخوتاه، سيروا إلى ربكم سيرًا جميلاً.
وقال آخر: ابن آدم لو رأيت يسيرَ ما بقي من أجلك، لزهدتَ في طول ما ترجُو من أملك ولرغبتَ في الزيادة من عملك، ولقصَّرْتَ مِن حِرْصِكَ وحِيَلِك.
وإنما يَلْقَاكَ نَدَمُكَ إذا زَلَّ قدَمُكْ، واسْلِمكَ أهْلُكَ وحَشَمُكْ، وتَبرَا منك القريب، وانْصَرفَ عنكَ الحَبيْب، فلا أنت إلى دُنْياك عَائد ولا في حسناتك زائد.
أبَدًا تُفهِّمُنَا الخُطُوبُ كُرُوْرَهَا
تَلْقَى مَسَامِعَنا العِظاتُ كأنما
وصَحَائفُ الأيامِ نحنُ سُطورها
لَحْدٌ على لَحْدٍ يُهَالُ ضَرْيحُهُ
مَنْ ذا تَوقَّاه المنونُ وقَبْلنَا
والتُّبَّعانِ تَلاَحقَا ومُحَرِّقٌ ... ونَعُودُ في عَمَهٍ كَمَنْ لا يَفْهَمُ
في الظلِ يَرْقُم وَعْظَه مَن يَرقُمُ
يُقْرَا الأخِيرُ ويُدْرج المتقدِّمُ
وبأعَظُم رِمَمٌ عليها أعْظُمُ
عادٌ أطاحَهم الحِمَامُ وُجُرْهمُ
والمُنْذِرَانِ ومَالِكٌ ومُتَمِّمُ(1/132)
رأى مالك بن دينار رَجُلاً يُسِيءُ في صلاته، فقال: ما أرحمني لعياله.
فقيل له: يُسيءُ هذا صلاته وترحم عياله، قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
وقال سهل بن عبدالله: استجلب حلاوة الزهد بقصر الأمل، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر.
واستفتح باب الحزن بطول الفكر، وتزيَّن لله بالصدق في كل الأحوال.
وإياك والتسويف فإنه يغرقُ الهلكى، وإياك والغفلة فإن فيها سواد القلب، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر.
كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم؛ لأنهم يعرفون قيمة الوقت وأنه إذا فات لا يُستدرك فهو أعز شيء يُغار عليه أن ينقضي بدون عملٍ صالح.
فالوقت ينقضي وينصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدَّت حسراتُه.
فكيف حالُه إذا علم عند تحقق الفوات مقدار ما أضاع، وطلب الرجُوع فحيل بينه وبينه، وطلب تناول الفائت، وكيف يُردُ الأمسُ الفائت في اليوم الجديد.
قال الله جل وعلا: { وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ومنع مما يحبه ويرضيه.
وعلم أن ما اقتناه ليس للعاقل مما ينبغي أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه.
فيا لها من حسرة ما إلى رد مثلها من سبيل.
كان الحسن يقول: أصول الشر ثلاثة: الحرص، والحسد، والكبر.
فالكبر منع إبليس من السجود لآدم، والحرص أخرج آدم من الجنة، والحسد حمل ابن آدم على قتل أخيه.
وقال غيره: ليس لثلاث حيلة فقر يُخالطه كسل، وخُصومة يُداخلها حسد، ومرض يُداخله هرم.
ثلاثة ينبغي مداراتهم: الملك المسلط، والمرأة الحمقى، والمريض.
وقال آخر: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.
وقال آخر: يا ابن آدم، مالك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
وكان يقول: ذنوبٌ مزدحمة على عاقبةٍ مبهمةٍ.
إلهي أرحمني لقدرتك علي ولحاجتي إليك.(1/133)
إلهي ضيعت بالذنب نفسي فارددها بالعفو عَليَّ يا أجود الأجودين.
يا من يغضب على من لا يسأل لا تمنع من قد سألك.
وقيل لآخر وهو يجود بنفسه، قل، فقال: اللهم إني نصحت خلقك ظاهرًا، وغششت نفسي باطنًا، فهب لي غشي لنفسي، لنُصْحِي لخَلْقِكَ ثم خرجت روحه.
وقال آخر: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسُّنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
وقال: حسن أدب الظاهر عنوان على حسن أدب الباطن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو خشع القلب هذا لخشعتْ جوارحُه».
وسُئل عن الرجال، فقال: القائمون بوفاء العهود، قال الله تعالى: { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
من نظر في سير السَّلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وقيل لحمدون: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق.
قُلتُ: فكيف لو رأى أهل هذا الزمان وما أصيبوا به مِن التكَالُب على الدنيا والافتنان بزخارفِها ومغرياتها فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال شيخ الإسلام: القلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحُبه والإنابة إليه، ولو حصل له كُل ما يلتذُ به من المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هُو معبودُهُ ومحبوبُه ومطلوبُه، وذلك يحصل له الفرح والسرور واللذةُ والنعمةُ والسُكونُ والطمأنينة.
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائمَا مفتقرٌ إلى حقيقة إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين.
فهو مفتقرٌ إليه من حيث هو المطلوب المحبوبُ المعبودُ ومن حيثُ هو المُستعانُ به المتوكلُ عليه.
فهو إلهه لا إله لهُ غيرهُ وهو ربُّهُ لا ربَّ له سواهُ ولا تتمُ عبوديتُه إلا بهذين.(1/134)
وقال: إعراض القلب عن الطلب من الله والرجا له يوجب إنصراف قلبه عن العبودية لله لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق.
بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه وإما على أهله وأصدقائه وإما على أمواله أو غيرهم ممن مات أو يموت، قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } .
وقال: على كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يتقدم بين يديه.
بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله، وعمله تبعًا لأمره، فمن قول الله وقول رسوله يتعلم وبه يتكلم.
وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عند علم بذلك ولا عدل، بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس { وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى } .
وقال ـ رحمه الله ـ: من ابتلي ببلاءٍ قلبي أزعجه فأعظمُ دواء له قوةُ الالتجاء إلى الله ودوامُ التضرع والدُعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدُعاء في مظان الإجابة.
مثلُ آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وأدبار الصلوات ويضُمُّ إلى ذلك الاستغفار.
وليتخذْ وردًا من الأذكار طرفي النهار وعند النوم وليصبرْ على ما يعرضُ له من الموانع والصوارف.
فإنه لابُدَّ أن يُؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره فإنها عمود الدين.
وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإنه بها يحمل الأثقال ويكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال.
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يعجل.
وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العُسر يسرا.
وقال ابن القيم: مراقبة الرب علم العبد وتيقنه بإطلاع الله على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة.
وهي ثمرة عمله بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة.(1/135)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاقَ طَعْمَ الإيمان من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً».
وقال: «من قال حين يسمع النَّداءَ رضيتُ بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا غفرت ذنوبه».
وهذا الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما يَنْتَهِي.
وقد تضَمَّنَهَا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والرضا بدينه والتسليم له.
ومن اجتمعت له فهو الصديق حَقًا، وقال: الأدبُ اجتماعُ خصال الخير في العبد، وهي ثلاثة أنواع:
أدب مع الله بأن يَصُون قلبهُ أن يلتفتَ إلى غيره أو تتعلّق إرادته بما يمقتُه عليه، ويصون معاملته أن يشوبها بنقيصه.
وأدب مع الرسول بكمال الانقياد، وتلقى خبره بالقبول والتصديق وأن لا يعارضه ب غيره بوجه من الوجوه.
وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ويناسب حالتهم.
وقال ـ رحمه الله ـ: المقبول من العمل قسمان، أحدهما: أن يُصلي العبد ويعمل سائر الطاعات، وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر الله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.
الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله.
فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله، فهذا عمله مقبُولٌ ومُثابٌ عليه بحسبه.
وقال العارف: لا يأمر الناس بترك الدنيا فإنهم لا يقدرون على تركها ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم.
وكيف يؤمر بفضيلة من ترك فريضة، فإن صعُبَ عليهم ترك الذنوب فاجتهد أن تحبب الله إليهم بذكر نعمه وصفات كماله.
فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإقلال منها.
لا شيء أفْسَدَ للأعمال من العُجْبِ ورؤيَةِ النفس.
ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقار إليه وإخلاص العمل له.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:(1/136)
العقبات التي يتدرج منها الشيطان لإغواء العبد:
العقبة الأولى:
عقبة الكفر بالله ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنه، فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.
فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه على.
العقبة الثانية:
وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدِّين التي لا يقبل الله منها شيئًا.
والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلَّا وأولاد الزَّنا يعيشون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى.
وقال شيخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولّد بينهما خسران الدُّنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السُّنة واعتصم منها بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هذا الضرب، فإن سمحت به نصب له أهل البدع الحبائل ويغوْه الغوائل، وقالوا: مبتدع محدث، فإذا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه على:
العقبة الثالثة:
وهي عقبة الكبائر، فإن ظفر فيها زينّها له وحسّنها في عينه وسوّف به وفتح له باب الإرجاء، وقال له: الإيمان هو التصديق نفسه فلا تقدح فيه الأعمال (أي أعمال الفسوق والعصيان).
وربما أجرى على لسانه وأُذنه كلمةً طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: «لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة» والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه، لمناقضتها الدين، ودفعها لما بعث الله به رسوله.
وصاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها بل يدعو الخلق إليها، والاجتهاد على إطفاء نور السُّنة.(1/137)
وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله، واعتبار ما ردّه الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته.
وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالباطل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والإلحاد في دين الله، وتعميةُ الحق على القلوب وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة.
فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها، حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين.
فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون في ظلمة العمى { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } .
فإن قطع هذه العقبة بعصمة الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه على:
العقبة الرابعة:
وهي عقبة الصغائر فكال له منها بالقُفزان، وقال: ما عليك إذا اجتنب الكبائر ما غشيت اللمم أو ما علمت أنها تكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهوّن عليه أمرها حتى يصر عليها.
فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالاً منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إيَّاكم ومحقرات الذنوب» ثم ضرب لذلك مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب، فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود حتى جمعوا حطبًا كثيرًا فأوقدوا نارًا وأنضجوا خبزتهم.
فكذلك فإن محقرات الذنوب تتجمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه.
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السَّيئة الحسنة طلبه على:
العقبة الخامسة:
وهي عقبة المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، إلى ترك الواجبات.(1/138)
وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية، ولو عرف السعر ما فوَّت على نفسه شيئًا من القربات؛ ولكنه جاهل بالسعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها وقلة المقام على الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري، وقدر ما يعوِّض به التّجار فبخل بأوقاته وضنَّ بأنفاسه أن تذهب في غير ربح، طلبه العدو على:
العقبة السادسة:
وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بها وحسّنها في عينه وزينّها له و أراه ما فيها من الفضل والربح، ليشغله بما عما هو أفضل منها وأعظم كسبًا وربحًا.
لأنه لمّا عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحبّ إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأوَلْ.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤوسها وسيدها ومسودها.
فإن في الأعمال سيدًا ومسودًا ورئيسًا ومرؤوسًا وذروة وما دونا، كما في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت رَبِّي لا إله إلا أنت» الحديث.
وفي الحديث الآخر: «الجهاد ذروة سنا م الأمر» وفي الأثر الآخر: «إن الأعمال تفاخرت فذكر كل عمل منها مرتبته وفضله وكان للصدقة مزية في الفخر عليهنَّ».
ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كل ذي حقٍّ حقّه.
فإذا نجا منها أحد لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسول الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عيه.(1/139)
وهي عقبة تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلَّما علتْ مرتبته أجلب عليه العدو بخيله وظاهر عليه بجنده، وسلَّط عليه حزبه وأهله بأنواع التسليط.
وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جدَّ في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جدَّ العدوُّ في إغراء السُّفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لَبِسَ لأمة الحرب، وأخذ في محاربة العدوَّ لله وبالله.
فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمى عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التَّامّة، ولا شيء أحبُّ إلى الله من مراغمة وليّه لعدوّه وإغاظته له. اهـ.
فصل
كان الصدق في صدر الإسلام أساسًا في القول والعلم والمعاملة، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين وحفظ الحديث.
فقد ورثت عن العُلماء الأوائل علومُ الدين مضبوطة كامِلةً كما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَّث عنها.
وكان عُلماءُ الدين وجامعُوا أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرون صدق المحدث بشكل عجيب.
يدرسون حياته ويتحققون من أقواله وأعماله وأنه يأكل من كسب يده ولم يدخل على سلطان في صحبة أو وظيفة.
وأنه يُطبقُ تعاليم الدين كاملة ولم تعهد عليه كذبة في حَيَاته، فعندها يُؤخذُ عنه الحديث النبوي.
ومثالُ على ما ذكر عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنه سمع بوجود حديث عند عالم بدمشق مسافر إليه من بغداد حتى وصل دمشق فمكث مُدَّةً يسأل عن العالم وعن أخلاقه ومُعاملته وكلامه.
حتى إذا وثق من صدقه أتاه مبكرًا بعد أن اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه إجلالاً للحديث ولمَنْ يحمله.
ولما اقترب من بيته وجد العالم خارجًا من بيته يقود حمارهُ وقد كان حمالاً يكتسبُ رزقه.
فرفض الحمار أن يسير معه فحاول أن يجره أو يسوقه بمختلف الوسائل ويأبى الحمار.
فجمع له طرف جُبته وقدَّمهُ للحمار ليُوهمه أنَّ في الجبَّة شعيرًا أو نحوه فتبعه الحمار.(1/140)
فنظر الإمام أحمد إلى الجبة فوجدها خالية ما فيها شيء.
فترك أحمدُ العالم والأخذ عنه حيثُ تبيَّنَ له كذبُه على الحمار.
فلا يُؤتَمَن على الحديث الشريف. اهـ.
وأخطر الكذب الكذب على الله ورسله، قال تعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ } .
قِيْلَ: إن ربعي بن حراش لم يكذبْ كذْبةً قطْ.
وكان له ابنان عاصيان على الحجاج، فطلبهما فلم يعثر عليهما.
فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه فسألته عنهما، فاستدعا أباهما، فقال: أين أبناؤك؟
قال: هُما في البيت فاستغرب الحجاج.
وقال لأبيهما: ما حملك على هذا وأنا أريدُ قتلهُما.
فقال: لقد كرهتُ أن ألقى الله تعالى بكذبةٍ، فقال الحجاج: قد عفونا عنهما بصدقك.
أتى الحجاج برجُلين من أصحاب ابن الأشعث فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عندك يدًا.
قال: وما هي؟ قال: ذكر ابنُ الأشعث يومًا أمَّك فرددتُ عليه، فقال: ومن يشهدُ لك؟ قال: صاحبي هذا فسأله، فقال: نعم (أي صدق).
فقال: ما منعك أن تفعل كما فعل صاحبك (المعنى لِمَ لم تُدافِعْ عَنِّي مِثله).
فقال: بُغضُكَ (أي لأني أبغضُكَ) فقال: أطلقُوا هذا لصدقِهِ وهذا لفعلِهِ فأطلقوهما.
فانظر يا أخي، كيف يُنجي الله الصادقين، قال الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
تنبيه: اعلم أن الصدق إنما يحسُن إذا تعلَّق به نفع ولا يلحق ضررُهُ بأحد، ومن المعلوم قبحُ الغيبة والنميمة والسِّعَاية وإن كانتا صِدْقًا.
ولذلك قيل: كفى بالسعاية والغيبة والنميمة ذمًا أنَّ الصدق يقبح فيها.(1/141)
رحل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إلى ما وراء النهر ليروي أحاديث ثُلاثيةً، قيل له: إن هناك من يرويها ويحفظها فوجد شيخًا يُطعمُ كلبًا، فسلَّم على الشيخ فردَّ عليه السلام، ثم اشتغل الشيخ بإطعام الكلب فوجد الإمام أحمد في نفسه حيثُ أقبل الشيخُ على الكلب ولم يُقبل عليه، فلما فرغ الشيخُ من إطعام الكلب التفت إلى الإمام أحمد، وقال له: كأنك وجدت في نفسك حيث أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك، قال: نعم، قال: حدثني أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قَطَعَ رَجَاءَ مَن ارْتجاهُ قَطَعَ اللهُ رَجَاءَهُ منه يوم القيامة فلم يَلج الجنة» وأرْضُنا هذه ليست بأرض كلاب، وقد قصدني هذا الكلب، فخفتُ أن أقطع رجاءهُ، فقال الإمام أحمد: هذا الحديث يَكْفِيْني ثم رجع.
مر عبدالله بن جعفر على عبد في بُستان معه ثلاثةُ أقراص شعير، فأتاه كلب فرمى إليه بأول قُرص، ثم رمى بالثاني، ثم بالثالث، فسأله جعفرُ: ما هُو قُوتُ يومِكَ؟ فقال: هو ما رأيتَ، قال: ما حملك على هذا؟ قال: آثرتُ الكلب على نفسي؛ لأنه أتى من بعيد جائعًا.
قال: وما تفعلُ في يومك؟ قال: أطويه بلا طعام، فاشترى البُستان واشترى العبد من سيده وأعتقه ووهبَهُ البُستان.
خرج عبدالله بن المبارك إلى الحج مع جماعة وبعد مسيرهم مرحلة خرج في الصباح من الخيمة، فوجد صبية آتت إلى مطرح القمامة وأخذت منها دجاجة مُلقاةً ميتة وذهبت بها فتبعها عبدالله فوجدها دخلت في خيمةٍ مُهلهلة أي خلقة وفيها ولدٌ صغير، فقال لها: لِمَ أخذت الدجاجة الميتة؟ فقالت: أنتُم رميتموها، فقال: ألا تعلمين أنه لا يحل أكلها؟ فقالت: إنها تحل لنا لشدة فقرنا، فذهب عبدالله بن المبارك إلى وكيله، وقال له: ما الذي معكَ؟ قال: ألف دينار، قال: أبق منها ما يُوصِلُنا إلى بلدنا وادفع للأنثى الباقي وسنحُجُّ في العام المقبل إن شاء الله.(1/142)
دخل محمد بن واسع على أمير وعليه جُبَّةُ صُوف، فقال الأمير: ما الذي دعاك إلى لبس هذه فسكت، فقال الأمير: لِمَ لَمْ تُجبني؟
فقال: أكره أن أقول زُهْدًا فأزكي نفسي أو أقول فقرًا فأشكو ربي.
قال ابن رجب: دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلَّل فسألوه عن سبب تهلُلُ وجهه، فقال: ما من عَمَل أوثقُ عندي من خصلتين كُنتْ لا أتكلم فيما لا يعنيني، و كان قلبي سليمًا للمسلمين.
أتى جُنْدِيٌ إلى بلده فوجد إبراهيم بن أدهم، فسأله: أين العُمران؟ فدّله على المقبرة، فظن أنه يستهزئ به، فضربهُ حتى أدماهُ، فقيل للجندي: هذا الأمير بن أدهم، فعاد يعتذر إليه، فقال إبراهيمُ: لمَّا كُنتُ تضربني كنتُ أسألُ الله لك الجنة، قال: ولِمَ، قال: لأنك ظلمتني فصبرت حين ضربتني، فخملتُ رجاء الجنة، فكان لك فضلٌ علي فسألك لك الجنة.
ولولا رواةُ الدِينِ ضَاعَ وَأصْبَحَتْ
هُمُوا هَاجَرُوْا في جَمْعِهَا وتَبَادَرُوْا
وقامُوا بتَعْدِيلِ الرُّوَاةِ وجَرْحِهِمْ
بتَبْلِيْغِهِمْ صَحَّتْ شَرَائِعُ دِيْنِنَا
وصَحَّ لأهْلِ النَّقْل مِنْهُمْ حِجَاجُهُمْ
وحَسْبُهُموا أنَّ الصَّحَابَةَ بَلَّغُوْا
فَمَن حَادَ عَن هَذَا اليَقِيْنِ فمارقٌ
ولكنْ إذا جَاءَ الهُدَى ودَلْيلُهُ
وإنْ رَامَ أعْدَاءُ الدِيانَةِ كَيْدَهَا ... مَعَالُمُه في الآخَريْنَ تَبْيدُ
إلى كُلّ أُفْقٍ والمَرَامُ كَؤُدْدُ
فدامَ صحِيْحُ النَّقْلِ وهُو جَدِيْدُ
حُدُوْدٌ تَحَرَّوْا حِفْظَهَا وعُهُودُ
فلم يَبْقَ إلا عاندٌ وحَقُوْدُ
وعَنْهم رَوَوْا لا يُسْتطاعُ جُحُوْدُ
مُرِيْدٌ لإظِهارِ الشُّكُوكِ مَريْدُ
فَلَيْسَ لِمَوْجُودِ الضَّلالِ وُجُوْدُ
فكيدهُمُو بالمُخْزَياتِ مَكيْدُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فوائد وحكم ومواعظ وآداب منوعة
العلم صفة يميز المتَّصِفُ بها تَمْيْزًا جازمًا مُطابقًا للواقع، وله ثلاث مراتب:(1/143)
المرتبة الأولى: علم اليقين أو خبر اليقين، وهو انكشاف المعلوم للقلب بحيث أنه لا يشك فيه.
المرتبة الثانية: مرتبةُ عين اليقين، ونسبتها للعين كنسبة الأولى للقلب.
المرتبة الثالثة: حق اليقين، وهي مباشرة المعلوم وإدراكه التام.
فالأولى: كعلمك أن في هذا البستان ماء.
والثانية: كرؤيتك إياه.
والثالثة: كالشرب منه.
ومن هذا قول حارثة أصبحتُ مؤمنًا حقًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» قال: عزفتْ نفسي عن الدنيا وشهواتها فأسْهَرتُ ليلي واظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَرَفْتَ فالزم، عَبْدٌ نَوَّر الله الإيمان في قلبه».
مَرَّ أبو هريرة - رضي الله عنه - بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة، قال: ميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقْسَمُ وأنتمُ هاهُنا ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم فيه؟ قالوا: وأين هو يا أبا هريرة؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعُوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرى شيئًا يقسم.
فقال لهم أبو هريرة: وما رأيت في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام.
فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم -، رواه الطبراني في «الأوسط».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سُّنة فإن غيرت يومًا، قيل: هذا منكر!!(1/144)
قال: ومتى ذلك؟ قال: إذا قَلَّتْ أُمناؤكم وكثُرتْ أمراؤكم وقَلَّتْ فُقَهاؤكم وكَثُرتْ قُرَّاؤكم وتُفُقِّهَ لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة، قلتُ: هذا موجود الآن بكثرة، فتأمل ودقِّق النظر!!
وروى أبو نعيم وغيره عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب أنه قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجوا إلى ركن وثيق.
ثم ذكر كلامًا في فضل العلم إلى أن قال: «... إن هاهنا لعلمًا جمًا -وأشار إلى صدره- لو أصبتُ له حملةً، بل أصيبُ لقنًا غير مأمون مُستعملاً آلة الدين للدنيا ومستظهرًا بنعم الله على عباده بحُجَجِهِ على أوليائه، أو مقلدًا لحملة الحق لا بصيرةَ في أحنائه ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لاذَا ولا ذاك، أو منْهُومًا باللَّذة سلس القيادِ للشَّهْوَةِ، أو مُغرمًا بالجمع والادِّخار، ليس من رُعاة الدين في شيء.
أقربُ شبهًا بهما الأنعامُ السائمةُ، كذلك يموتُ العِلْمُ بموتِ حَامِليْهِ.
اللهم بلى لا تخلُو الأرضُ من قائم لله بحججه إمَّا ظاهرًا مشهورًا، أو خائفًا مغمورًا.
لئلا تبطل حُججُ الله وبيناتُه كم ذا وأين أولئك والله الأقلُّون عدَدَا، الأعظمُون عند الله قدْرَا.
يحفظُ الله بهم حُججَهُ وبيِّنَاته، حتى يُوْدِعُوْهَا نُظَراءَهُم، ويزرعُوها في قُلُوب أشباههم.
هجم بهم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعرهُ المترفُون، وأنسُوْا بما استوحش منه الجاهِلون.
وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحُها مُتعلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدُعاةُ إلى دينه، آه ألا شوقًا إلى رؤيتهم».
لقد نَشرَوْا العِلْمَ الحَقِيْقِيَّ في الورى
وقَدْ خَطَبُوا في الأرضِ بالحقِ مِن عَلى
أزَالوا سَفَاهَات الشُعُوب وقَابَلُوا
وشادُوا على تلك الرسُومِ حَضَارةً
كذلكَ قَدْ كانتْ أوائلُ قَوْمِنَا(1/145)
ونُحْيِيْ رُسُوْمًا غادَرُوْا لاعْتِبارِنَا ... على حِيْنِ تَغْلي الحَرْبُ غَلْيَ المراجلِ
مَنَابِرِ عِزِّ مِن مُتُون الصَّواهِلِ
سَفَاسِفَهم بالمكْرُمَاتِ الجَلائِلِ
أقْيِمَتْ على أسِّ التُّقَى والفَضَائِلِ
ألا لَيْتَنَا نَبْني بَنَاءَ الأوَائِلَ
فأصَبَح منها دَارِسًا كُلُ مَائِلِ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وسلم.
فصل
قيل: إن القاضي أبا الطيب صعد من سميرية (مركوب بحري) وهو في عشر المائة 100 سنة، فقفز منها إلى الشط.
فقال له بعض من حضر: يا شيخ، لا تفعل هذا، فإن أعضاءك تضعف وربما أورثت هذه القفزة فتقًا في بطنك، فقال: يا هذا، إن هذه أعضاؤنا حفظناها عن معاصي الله فحفظها الله علينا، في حديث ابن عباس قال له - صلى الله عليه وسلم -: «احفظ الله يحفظك».
قال بعضهم: من نقَّر على الناس قلَّ أصدقاؤه، ومن نقر على ذُنُوبه طال بُكاؤُه، ومن نقر على مطعمه طال جُوعُه.
أشد الأشياء تأييدًا للعقل مُشاورة العلماء، والأناة في الأمور والاعتبار بالتجارب وأشدها ضررًا بالعقل الاستبداد بالرأي، والتهاون بالأمور، والعجلة ومشاورة سخفاء العقول والنساء.
العجبُ من ورثة الموتى كيف لا يزهدُونَ في الدنيا.
أوصى رجل بنيه، فقال: يا بني، عليكم بالنُسك، فإنه إذا ابتُلي أحدُكم بالبخل، قيل: مقتصد لا يُحبُ الإسراف، وإن ابتلى بالعيَّ، قيل: يكره كثرةَ الكلام فيما لا يعنيه، وإن ابتُلي بالجَبْن، قِيل: لا يُقْدِمُ على شبهة.
أكثر ما يكون الإنسان غفلةً عن نعم الله عليه حينما يكون مغمورًا بتلك النعم ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها.
فالإنسان لا يعرف فضل هذه النعمة العظيمة إلا عند فقدها ومثله السمع والكلام والشهوة للطعام والنكاح وسائر نعم الله التي قال عنها: { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلهمه ذكره وحمده وشُكره.(1/146)
والشكرُ يكون بأمور، منها: أن يحمد الله بلسانه وأن يشكره، ثانيًا: أن يعتقد أن النعم كلها من الله فضلاً وإحسانًا.
ثالثًا: أن لا يعصي الله فيها، رابعًا: أن يطيع الله فيها، خامسًا: أن يُقبل على طاعة الله بجدٍ واجتهادٍ.
غربةُ الصادقين بين أهل الرِّيَاءَ والنفاق.
وغربة العلماء بين أهل الجهل وسَيِّيِيْنَ الأخلاق.
وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلِبُوا الخشية والإشفاق وأحَبُّوا الشُّهْرَة و الظهور والرياء والسمعة.
وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفذُ وليس بباق.
وغربة أهل الصلاح بين الفُسَّاق والمرجةِ وأهل المنكرات، كأهل التلفاز والفيديو والكورة والدخان وحالقِي اللِّحا، والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال أحد العلماء: من صفات العالم المطبق للشرع: أن يأمن شره من خالطه، ويأمل خيره من صاحبه، ولا يؤاخذ بالعثرات، ولا يُشيع الذنوب عن غيره، ولا يُفشي سرَّ من عاداه، ولا ينتصر منه بغير حق ويعفو ويصفح عنه، ذليلٌ للحق، عزيزٌ في الباطل، كاظم للغيظ عمن آذاه، شديد البغض لِمَنْ عَصَى مولاه.
يجيب السفيه بالصمت عنه، والعالم بالقبول منه، لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا فخور، ولا حسود، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، خَالٍ بيتُهُ من المنكرات والكافرين والكافرات، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه ونهاه عما يكره مولاه، ويخالق بالجميل من لا يأمن شرَّهُ، إ بقاءً على دينه، سليم القلب للعباد مِن الغل والحسد، يغلب على قلبه حسنُ الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر.
لا يُحبُّ زوال النعم عن أحد من العباد، يداري جهل من عامله برفقه، إذا تعجب من جهلِ غيره ذكر أنَّ جهله فيما بينه وبين ربه أكثر.
لا يتوقع له بائقة، ولا يخاف منه غائلة، الناس منه في راحة، ونفسه منه في جهد.(1/147)
ومن صفته أيضًا أن يكون شاكرًا لله وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور مُنَعَمُ القلب بمُناجاة الرحمن يَعُدُ نفسه مع شدةِ اجتهاده مذنبًا مُوقرًا من المعاصي والآثام.
ومع الاستمرار على حسن العمل مقصرًا لجأ إلى الله فقوى ظهره ووثق بالله فلم يخف غيره مستغن بالله عن كل شيء ومفتقر إلى الله في كل شيء أنسه بالله وحده ووحشته ممن يشغله عن ربه.
إن ازداد علمًا خاف توكيد الحجة مشفق على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه همه في تلاوة كلام الله الفهم عن مولاه، وفي سُنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفقه لئلا يضيع ما أمر به.
مَتأدب بالقرآن والسُّنة لا يُنافِسُ أهل الدنيا في عِزِّهَا ولا يجزعُ من ذلها يمشي على الأرض هونًا بالسَّكينة والوقار ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار والتفكير فيما يقربه إلى الله.
إن فرغ قلبه عن ذكر الله فمصيبة عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهم فخسران عنده مبين.
يذكر الله مع الذاكرين، عالمٌ بداء نفسه ومُتَّهمٌ لها في كل حال شُغْلُه بالله مُتصلٌ وعن غيره مُنفصِل.
فإن قال قائل: فهل لهذا النعت الذي نعت به العلماء ووصفتهُم به أصل في القرآن أو السُّنة أو أثر عمن تقدم.
قيل له: نعم، قال الله جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
وصف العلماء بالبكاء والخشية والطاعة والتذلل فيما بينه وبينهم. اهـ بتصرف واختصار.(1/148)
قال أحد العلماء: الحكايات جُنْدٌ من جنود الله يُثبت الله بها قلوبَ العارفين من عباده، وقال: مصداق ذلك قول الله جل وعلا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: { وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } كان يقال: من أعطي أربعًا لم يمنع أربعًا: من أعطى الشكر لم يمنع المزيد، قال تعالى: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } .
ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب، ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة.
هذه قصيدة لبعضهم فيها غلو صلحنا ما فيها من الغلط الاعتقادي وجعلنا على ما فيه تصليح أقواسًا:
تَيَقَّضْ لِنَفْسٍ عَنْ هُدَاهَا تَوَلتْ
فَحَتَّامَ لا تَلْو ى لِرُشْدٍ عِنَانَهَا
وأمَّارَةٌ بالسُّوءِ لَوَّامَةٌ لِمَنْ
إذا أزْمَعَتْ أمْرًا فَلَيْسَ يَرُدُّهَا
وَإنْ مَرَّ فِعْلُ الخَيْرِ في بَالِهَا أنْثَنَى
وَلي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةِ
لَكْنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ
وَقَائَلةٍ لَمَّا رَأتْ مَا أصَابَني
رُوَيْدَكَ لا تَقْنُطْ وإن كَثُرَ الخَطَا
مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ والتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ
«وكَمْ عَامِلِ أعْمَالَ أهْل جَهَنَّمٍ
فَقُلْتُ لهَا جُوِزيتِ خَيْرًا على الذي
فَهَلْ مِنْ سَبيلِ لِلنَّجَاةِ مِنَ الرَّدَى
«فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا
«فَكَمْ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ فالتْجَا
«فَدَيْتُكَ فَأقْصِدْهُ بذلٍّ فَإنه
«إذا مَا أتوهُ تَائِبيْنَ مِن الذي ... وَبَادِرْ فَفِي التَّاخِيرِ أعْظَمُ خَشْيَةِ
وَقْدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلَّ بُغْيَةِ
نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطْمَئِنَّةِ
عَن الفِعْلِ إخْوَانُ التُّقَى وَالمَبَرَّةِ
أبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّةِ
لَطَارَتْ وَلَوْ أنِّي دُعِيتُ لِقُرْبَةِ(1/149)
وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشلَّتِ
ومَا أنَا فِيهِ مِنْ لهِيبٍ وَزَفْرَتي
ولا تَيْأسَنْ مِنْ نَيْلِ رَوْحٍ ورَحْمَةِ
ولا فَرَجٌ إلا بشِدَّةِ أزْمَةِ
فَلَمَّا دَعَى المَوْلى أعِيدَ لجَنَّةِ»
مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ
وَمَا حِيلَتي في أنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتي
لِربَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوارٍ وخَيْبَةِ»
إليه فَحُطَّتْ عَنْهُ كُل خَطِيئَةِ»
يُقِيلَ بَني الزلَّاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرَةِ»
جَنْوهُ مِن الآثَامِ تَوْبَةَ مُخْبتِ»
فصل
عن أبي الدرداء قال: إن الذين ألسنتهُم رطبة بذكر الله عزَّ وجل يدخلُ أحدهم الجنة وهو يضحك.
خرج زيدُ بنُ ثابت يُريد الجمعة فاستقبلهُ الناسُ راجعين، فدخل دارًا، فقيل له، فقال: إنه من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله.
صلى تميم الداري ليلةً حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرؤ آيةً ويُرددها ويبكي: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } .
وقام مرة بعدَ أن صلى العشاء في المسجد فمرَّ بهذه الآية { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح.
وسأله رجل عن صلاته بالليل، فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في سرٍ أحبُّ إليَّ من أن أُصُّلي الليل كلُه، ثم أقُصُّهُ على الناس بَلِّغَْ مَن يَعُدَّكم جَجَّ مِن مَرّةٍ وكم اعْتَمَر وحَذِره مِن الرياءِ والسمعةِ.
وقال آخر: قليل في سُنة خيرٌ من كثير في بدعة، كيف يقلُ عمل مع تقوى، أقوى القُوة غلبتُك نفسَك.
ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز، ومن خاف الله خافه كلُ شيء.
وقال: إن اغتممت بما ينْقُص مِن مالكَ فابْكِ على ما يَنْقُصُ مِن عمرك في غير طاعة الله.
ولن يكْمُلَ رجلٌ حتى يؤثر دينه على شهوته ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ومن علامة الاستدراج العمى عن عيُوب النفس.(1/150)
كان الربيع بن خيثم بعد ما سقط سِقّثه يعتمدُ على رجلين إلى المسجد، وكان أصحاب عبدالله يقولون له: لقد رخَّصَ الله لك لو صليت في بيتك.
فيقولُ: إنه كما تقولون ولكني سمعتُ الأذان حيَّ على الفلاح، فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفًا ولو حبوًا.
قال بعضهم: يا أخي، إن الشفقة لم تزل بالمؤمن حتى أوفدته على خير حال، وإن الغفلة لم تزل بالفاجر حتى أسلمتهُ إلى شرِ حال.
وما خيرُ عُمرِ امرئٍ لا يدري ما عاقبة أمره، وما خيرُ عيشٍ لا يكملُ ما حُفظ منه، ولئن كانت الرغبةُ في الدنيا هي المستولية على قلوبنا كما استولت على أبداننا لقد خبنا غدًا في القيامة وخسِرْنَا.
مرض خيثمة وثقل وجاءته امرأته، فجلست عنده فبكت، فقال لها: ما يبكيك؟ الموت لابد منه، فقالت: الرجالُ عليَّ حرا، فقال لها: ما كل هذا أردتُ منك إنما كنتُ أخاف رجُلاً واحدًا وهو أخي، وهو رجل فاسق يتناول الشراب، فكرهتُ أن يشربَ في بيتي الشراب بعد إذ القرآن يُتلى فيه كلَّ ثلاث.
وعن الأعمش عن خيثمة، قال: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا، وتعرضه للبلاء، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه، فإذا رأوا ثوابه، قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا.
قال: ويقولون عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا، قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، قال: فإذا رأوا عقابه، قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدنيا.
ولما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنتُه، فقال: لا تبكي فقد ختمتُ القرآن في هذا البيت أربعةَ آلاف ختمة.
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: ذهب صفو الدُّنيا وبقي كدرها، فالموت اليوم تحفةٌ لكل مسلم.
وعظ الحسنُ أصحابهُ، فقال: والله لقد صحبنا أقوامًا كانُوا يقولُون: ليس لنا في الدنيا حاجةٌ ليس لها خلقنا، فطلبوا الجنة بغُدوهم ورواحِهم.(1/151)
نعم، والله حتى أهرقوا فيها دماءهم فأفلحوا ونجحوا هنيئًا لهم لا يطوى أحدُهم ثوبًا ولا يفْترشُه ولا تلقى إلا صائمًا ذليلاً متبايسًا خائفًا إذا دخل على أهله إن قِرُب إليه شيء أكلُه وإلا سكت لا يسألهُم عن شيءٍ ما هذا؟ وما هذا؟ ثم قال:
ليسَ مَن مَات فاسْتراحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الميتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
قال حذيفة في مرضه الذي مات فيه: لولا أني أرى أن هذا اليوم آخرُ يوم من الدنيا وأولُ يومٍ من الآخرة لم أتكلم به.
اللهم إنَّك تعلم أني كنت أحب الفقر على الغنى، وأحبُّ العُزْلَةَ على العِز وأحبُّ الموت على الحياة حبيبٌ جاء على فاقة لا أفلحَ من ندِم، ثم مات - رضي الله عنه -.
قال بعضُهم: من عرف ربَّهُ أحبَّهُ، ومن أحبَّهُ ترك الدنيا إلا لما لابُدَّ له منه.
وقال آخر: يا ويحَ نفسي كيف أغفلُ ولا يُغفلُ عني! أم كيف تهنُؤني معيشتي واليوم الثقيلُ ورائي! أم كيف يشتدُ عُجبي بدار في غيرها قراري وخلدي!
وعن عون بن ذكوان قال: صلى بنا زرارةُ بنُ أبي أوفى صلاة الصبح حتى بلغ: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } فخرَّ ميتًا وكنتُ فيمن حملهُ إلى داره.
قال الشيخ تقي الدين: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه ولا يرجون أحدًا غيره.
فتتعلق قلوبهم به لا بغيره فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم من زوال المرض والخوف والجُدْب والضر. اهـ.
علامات الشَّقَاوَةِ أربعة: نسيان الذنوب الماضية وهي عند الله محفوظة، وذكر الحسنات الماضية ولا يدري أقبلتْ أم رُدَّت، ونظره إلى من فوقه في الدنيا، ونظره إلى من دُونه في الدين.
وعلامات السعادة أربعة: ذكر الذنوب الماضية، ونسيان الحسنات الماضية، ونظره إلى من فوقه في الدين، ونظره إلى من دُونه في الدنيا.(1/152)
قال بعضهم: الأدبُ أدبُ الدين وهو داعية إلى التوفيق، وسببٌ إلى السعادة وزادٌ من التقوى.
وهو أن تعلم شرائع الإسلام وأداء الفرائض وأن تأخُذ لنفسك بحظها من النافلة وتزيد ذلك بصحة النية وإخلاص النفس وحُب الخير مُنافسًا فيه مُبغضًا للشر نازعًا عنه.
ويكون طلبك للخير رغبةً في ثوابه ومُجانبة للشر رهبةً من عقابه فتفوز بالثواب وتسلم من العقاب ذلك إذا اعتزلت رُكوب المُوبقات وآثرت الحسنات المنجيات. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
حكم وفوائد منوعة
ما شيء أضعفُ من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته، وما شيء أضعف من جاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته التي بناها على غير أساس.
كان أحد الحكماء قليل الأكل خشن اللباس، فكتب إليه بعض الفلاسفة: أنت تحسبُ أن الرحمة لكل ذي رُوح واجبة وأنت ذو روح ولا ترحمها بترك قلة الأكل وخشن اللباس.
فكتب إليه: عاتبتني على لبس الخشن وقد يعشق الإنسان القبيحة ويترك الحسناء وعاتبتني على قلة الأكل وأنا إنما أريدُ أن أكل لأعيش وأنت تُريد أن تعيش لتأكل والسلام.
فكتب إليه الفيلسوف: قد عرفتُ السبب في قلة الأكل فما السبب في قلة الكلام.
فكتب الحكيم إليه: أمَّا ما احتجتُ إلى مفارقته وتركه للناس فليس لك، والشغل بما ليس لك عبث.
وقد خلق الحقُّ سبحانه وتعالى لك أذُنين ولسانًا لتسمعَ ضِعف ما تقول لا لتقول أكثر مما تسمع والسلام.
تقدمت امرأة إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكر فجاءت ببينة تشهد لها به.
فقالوا: نُريد أن تسفُر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا.
فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه.
فأقر بما أدعت ليصُونَ زوجتَهَ عن النظر إلى وجهها.
فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه أقرَّ ليصُونَ وجْهَهَا عن نظر الرجال إليه: هو في حِلٍّ من صداقي الذي عليه في الدنيا والآخرة.(1/153)
مَن خَلا قلبُه من ذكر أخطار أربعة فهو مُغْتَر فلا يأمن الشقاء:
الأول: خطر الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان.
والثاني: حين خَلِقَ في ظلمات ثلاث، فنادى الملك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء.
والثالث: ذكرُ هول المطلع، فلا يدري أيبشر برضاء الله أم بسخطه.
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا، فلا يدري أي الطريقين يسلك به. اهـ.
قال علي بن الموفق: كان لي جار مجوسي اسمه شهريار، فكنتُ أعرض عليه الإسلام، فيقول: نحن على الحق، فمات على المجوسية، فرأيته في النوم، فقلتُ له: ما الخبر؟ فقال: نحن في قعر جهنم، قال: قلتُ: تحتكم قوم؟ قال: نعم، قومٌ منكم، قال: قلتُ: من أي الطوائف مِنَّا، قال: الذين يقولون إن القرآن مخلوق. اهـ من «طبقات الحنابلة» المجلد (2).
قيل للأعمش: قد أحببت العلم بكثرة من يأخذه عنك؟ قال: لا تعجبوا، فإن ثلثا منهم يموتون قبل أن يدركوا وثلثًا يلزمون السلطان فهم شرٌ من الموتى.
ومن الثلث الثالث قليل من يفلح، وقال: شرُّ الأمراء أبعدهم من العلماء، وشرُّ العلماء أقربُهم من الأمراء.
وقال آخر: اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلين، والقُراء المُداهنين، والمتصوفة الجاهلين.
وقال الخليل بن أحمد: أيامي أربعة: يوم ألقى فيه من هو أعلم مني فأتعلم منه، فذاك يومٌ فائدتي وغنيمتي، ويوم ألقى فيه من أنا أعلم منه فذاك يوم أجري، ويوم ألقى فيه من هو مثلي فأذاكِرُهُ فذلك يومُ درْسي، ويوم ألقى فيه من هو دوني وهو يرى أنه فوقي فلا أكلمه وأجعله يوم راحتي.
قال ابن المسيب: لقد أتى علي ثمانُون سنة وذهبتْ إحدى عينيَّ وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى وأصم يُريدُ ذكرهُ و إني أخاف من فتنة النساء.(1/154)
وقال عبادة بن الصامت: ألا تروني لا أقُوم إلا رفْدًا (يعني إنه يساعد على القيام) ولا آكل إلا ما لُوقَ لي (يعني ماليّن وسُخنّ) وقد مات صاحبي منذ زمان (يعني ذكرهُ).
وما يسرني أني خلوتُ بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلعُ عليه الشمسُ مخافةَ أن يأتيني الشيطان فيحركُه عليَّ؛ لأنه لا سمع له ولا بصر، وكان من السلف في السوق لا ينظر إلا إلى قدمه.
وقال سعيد بن المسيب: لو أتمنتُ على بيت مال لأديتُ الأمانة، ولو أتمنتُ على امرأة سوداءَ لخفتُ أن لا أؤدي الأمانة فيها.
وكذلك المال لا يؤتمن عليه أصحاب الأنفس الحريصة على أخذه، وهذا كله يبين أن النفس تخون أمانتها إلا من عصمهُ الله.
فَرَاكَ مشن الأيامِ نَابٌ ومِخْلَبُ
فحتَّام لا تَنْفَكُ جَامِحَ هِمَّةٍ
تُسَرّث بعَيْش أنْتَ فيه مُنَغَصٌّ
تُغَذِّيْكَ والأوْقَاتُ جِسْمَكَ تَغْتَذِي
وتَعْجَبُ من آفاتِهَا مُتَلَفِتًا
وتحْسِبُهَا بالبشْر تُّبْطِنُ خلَّةً
إذا رَضِيْتْ أعْمَتْكَ عن طُرُقِ الهُدَى
وفي سَلْبَها ثوبَ الشَّبَاب دَلالَةٌ
أتَرْضَى بأن يَنْهَاكَ شَيْبُكَ والحجا
أجدَّكَ لا تَسمَعْ لِدُنْيَاكَ مَوْعدًا ... وخانَكَ لَونُ الرأسِ والرأسُ أشْيَبُ
بَعْيد مَرَامي النفسِ والموتُ أقْرَبُ
وتَسْتَعْذِبُ الدنيا وأنتَ مُعَذَّبُ
وتَسْقيْكَ والساعَاتُ رُوْحَكَ تَشْرَبُ
إليْهَا لَعَمْرُ الله فِعْلُكَ أعْجَبُ
فيَظْهَرُ منها غَيْرُ ما تَتَحَسَّبُ
فما ظنُّ ذيْ لُبٍّ بها حْينَ تَغْضَبُ
على أنها تُعْطِي خِدَاعًا وتَسْلِبُ
وأنْتَ مَعَ الأيامِ تَلْهُو وتَلْعَبُ
ولا تَتَرجَّ الرِّيَّ والبَرْقُ خُلَّبُ
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: إخواني الأيام لكم مطايا، فأين العُدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم؟ أترضون الدنايا؟(1/155)
إنَّ بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وإن سريَّة الموت لا كالسرايا، وقضية الأيام لا كالقضايا، وملك الموت لا يقبل الهدايا.
فيا مستورين ستطهر الخبايا، أيها المستوطن بيت غُروره، تأهب لإزعاجكْ، أيها المسرور بقصوره، تهيأ لإخراجْك.
خُذْ عُدَّتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك، وأزواجك، ما الدنيا دار مقامك، بل محثًا لإدلاجك.
وللدَّهْر تَارَاتٌ تَمرُ على الفَتَى
ومَنْ يَكُ في الدنيا فلا يَعْتَبنَّها
أجدَّكَ ما الدنيا ومَاذَا مَتَاعُهَا
فَدَعْهَا ونَعْمَاهَا هَنِيْئًا لأهلها
هَب إنَّ مَقَاليدَ الأمُور مَلكْتَهَا
ومُتِّعْتَ باللَّذاتِ دَهْرًا بغِبْطَةٍ
فَبَيْنَ البرَايَا والخُلُوْدِ تَبَايُنٌ
قَضِيَّةٌ انْقَادَ الأنامُ لحُكْمِهَا
ضَرُوْرِيَّةٌ تَقْضِي العُقولُ بصِدْقِهَا
سَلِ الأرض عن حَالِ الملوكِ التي خَلَتْ
بأبْوَابِهِمْ لِلْوَافِدِيْنَ تَرَاكثمٌ
تجبْكَ عن أسْرَار السُيُوفِ التي جَرَتْ
بأنَّ المنَايَا أقْصَدَتْهُم نِبَالُهَا
وسِيْقُوا مَسَاقَ الغابرينَ إلى الرَّدَى
وحَلُوا مَحَلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُوْنَهُ
ألَمَّ بهم ريْبُ المنُونِ فَغَالَهُمْ ... نَعِيْمٌ ويُؤْسٌ صِحَّةٌ وسَقَامُ
فليسَ عليها مَعْتِبٌ وملَامُ
وماذا الذي تَبْغِيْهِ فَهْوَ حُطَامُ
ولاتَكُ فيها راعيًا وسوَامُ
وَدَانَتْ لَكَ الدنيا وأنْتَ هُمَامُ
ألَيْسَ بحَتْمٍ بَعد ذاكَ حِمَامُ
وبَيْنَ المنايا والنُفُوسِ لِزَامُ
وما حَادَ عنها سَيّدٌ وغُلامُ
وما كان فيها مِرْيةٌ وخِصَامُ
لَهُمْ فَوْقَ مَرَقْى الفَرْقَدِيْن مَقَامُ
بأعْتابِهِم لِلْعَاكِفِيْنَ زِحَامُ
عَليهم جَوَابًا لَيْسَ فيه كَلَامُ
وما طاشَ عَن مَرْمىً لَهُنَّ سِهَامُ
وأقْفَرَ منهم مَنْزِلٌ وَمَقَامُ
فليس لهم حَتى القِيام قِيام
فَهُمْ بَيْنَ أطْبَاقِ الرُغَامِ رُغَامُ(1/156)
اللهم يا عظيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة يا ذا الجلال والإكرام فرغْنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، وهب لنا العافية في الدنيا والآخرة، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تارةً يُحملُ على رجاء ثوابه، وتارة على خوف العقاب في تركه، وتارة الغضب لله، وتارة النصيحة للمسلمين والرحمة لهم.
ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض للعقوبة وغضبه في الدُّنيا والآخرة وتارة يحمل عليه إجلالاً لله وعظمته ومحبته وأنه أهل أن يُطاع فلا يُعْصَى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وأن يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال، كما قال بعض السلف: ودِدْتُ أن الخلْقَ كلهم أطاعوا الله وأن لَحْمِي قُرِض بالمقاريض.
وكان عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز يقول لأبيه: ودِدْتُ أني غلتْ بي وبكَ القدور في الله تعالى.
ومَن لحظَ هذا المقام والذي قبله هَان عليه كل ما يَلقى من الأذى في الله تعالى وربما دَعَا لمن آذاه كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه، ويقول: «اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون» اهـ.
أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه وهو يعمل بطاعة الله عز وجل.
فقال لها: نِعْمَ الزوجُ زوجُك فجعلتْ تُكَرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب، فجاء كعبُ الأسدي، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مُباعدته إيَّاها عن فراشه، فقال عمر: كما فهمتَ كلامها، فاقض بينهما، فقال عليَّ بزوجها، فأتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك، قال: أفي طعامٍ، أم شراب، قال: لا.
فقالت المرأة:
يا أيُّها القَاضِي الحَكيمُ رُشْدُهُ
زَهَّدي في مَضْجَعِي تعبُدُهُ(1/157)
نهارُهُ ولَيْلُه ما يَرْقُدُهْ ... ألْهَى خَليلي عن فِرَاشِي مَسْجدُهُ
فاقْضَ القَضَا كعْبٌ ولا تُرَددُهْ
وَلَسْتُ في أمْرِ النِساء أحْمَدُهُ
فقال زَوْجُهَا:
زَهَّدَني في فُرشِها وفي الحَجَلْ
في سُوْرَةِ النَّحْلِ وفي السَّبْعِ الطِّولْ ... أني امْرؤ أذْهَلَني مَا قَدْ نَزَلْ
وفي كتاب الله تَخْوِيْفٌ جَلَلْ
فقال كعب:
إنَّ لهَا عَليْكَ حَقًا يَا رَجُلْ ... نَصْيُبَها في أرْبَعٍ لِمَنْ عَقَلْ
فأعْطِهَا ذَاكَ وَدَعْ عَنْكَ العِلَلْ
ثم قال: إن الله عز وجل قد أحلَّ لك النساءَ مثنى وثُلاث ورُباع، فلك ثلاثةُ أيام ولياليُهنَّ تعَبَّد فيهنَّ لربك.
فقال عمر: والله ما أدري من أي أمريك أعجبُ أمن فهمك أمرهما أم من حُكمك بينهُما، اذهب فقد ولَّيتُك قضاء البصرة.
قال بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من كيد الشيطان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } ، وقال سبحانه في النساء: { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } .
كان بعض العلماء يقول: إذا رأيت الليل مقبلاً فرحتُ وأقول أخلُو بربي، وإذا رأيت الصباح استوحشتُ كراهة لقاء من يُشغلني عن ربي.
قال ابن عباس: غي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد الله ذلك الوادي للزاني المصر على الزنا، والشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولدًا ليس منه.
قال عمر بن ذر: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم، قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مُستبشرين بما قد وهبهم الله من السهر وطُول التَّهجُدِ، فاستقبلوا الليل بأبدانِهم وباشر ظلمتَهُ بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليلُ وما انقضت لذَّاتهُم مِن التلاوة ولا ملَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى بربحٍ وغبن.(1/158)
فاعملوا لأنفسكم في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الدنيا والآخرة.
يا رُفْقَةَ اللَّيلِ طَابَ السَّيْرُ فاغْتَنِمُوْا ... الْمَسْرَى فَمَنْ نامَ طُوْلَ لم يَصِلِ
اجتمع الزهري وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية لما حج، وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمه فأعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا وما جالستُه ولا عرفت أن هذا عنده، فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنتُ من الأغنياء لعرفتني، فوبخه بذلك.
وفي رواية أنه قال: لو أحببتَ الله أحببتني؛ ولكن نسيت الله فنستيني، يُشير إلى أن من أحب الله أحبَّ المساكين من أهل العلم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله غفل عن أوليائه من المساكين.
وقد كان علماء السلف يأخذون العلم عن أهله والغالب عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدنيا ويدعون أهل الرياسات والولايات إذا لم يكونوا أهلاً.
وأما إذا كانوا أهلاً، فإن الرئاسة لا تمنع، بل تزيد العالم شرفًا وحسن اعتقاد ويكون علمه أنفذ؛ لأنه لا لطمع، كالخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم -.
و قال ابن الجوزي: إخواني، إن الذنوب تغطي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم.
يا من أعماله إذا تُؤمِّلتْ سقط، كم أثبت له عمل فلما عدم الإخلاص سقط، يا حاضر الذهن في الدنيا، فإذا جاء الدين خلطْ، يجعل همَّهُ في الحساب فإذا صلى اختلط.
يا ساكتًا عن الصواب فإذا تكلم لغط، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمَطْ.
يا من لا يعظه وهنُ العظم ولا كلامُ الشَّمطْ، يا من لا يرعوى ولا ينتهي، بل على منهاج الخطيئة فقط، ويحك بادر هذا الزمان فالصحة غنيمة والعافية لقطْ.
فكأنك بالموت قد سلَّ سيفهُ عليك واخترط، أين العزيز في الدنيا؟ أين الغني المغتبط؟ خيَّم بين القبور، وضرب فسطاطه في الوسط، وبات في اللحد كالأسير المرتبط.(1/159)
واستلبت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر فكأنه ما رجله وكأنه ما امتشط ورضي وُرَّاثُه بما أصابُوه وجعلُوا نصبه السخط.
وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط وكم حُدِّثَ أن سعد بن معاذ في القبر انضغط، وكم حُذِّر من المعاصي، وأخبر أن آدم بلقمة زل فهبط.
نادِ القُصورَ التي أقوَتْ مَعالِمُها
أيْنَ المُلُوكُ وأبناءُ الملوكِ ومَن
أينَ الأسودُ التي كانَت تُحاذِرها
أينَ الجُيوشُ التي كانت لَو اعْتَرضَتْ
أينَ الحِجَاب ومَن كان الحجابُ لَهُ
أينَ الذين لَهْوا عمَّا لَهُ خُلِقوا
أينَ البيُوت التي مِن عَسْجدٍ نُسجَتْ
أينَ الأسِرَّةُ تَعْلوها ضراغِمها
هذِي المعَاقِلُ كانَت قبلُ عَاصِمَةً ... أينَ الجسُوم التي طابَتْ مَطَاعمها
ألهاه ناضِرُ دُنياهُ وناعِمُها
أسْدُ العَرينِ ومِن خَوفٍ تُسالُمِهَا
لَهَا العُقَابُ لخانَتْها قَوادِمُهَا
وأيْنَ رُتْبتُه الكبرىَ وخادمُها
كما لَهتْ في مَراعيها سَوَائِمُها
هَلْ الدنَانيرُ أغنَتْ أمْ دَرَاهِمُهَا
هَلِ الأسِرَّةُ أغْنَتْ أمْ ضَرَاغِمُهَا
ولا يَرَى عِصَمٍ المغرورِ عاصمُها
اللهم أنقذنا من سنة الغفلة ووفقنا لاغتنام أيام المهلة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
قال ابن الجوزي: إنما فضل العقل على الحس بالنظر في العواقب، فإن الحس لا يرى الحاضر والعقل يلاحظ الآخرة ويعمل على ما يتصور أن يقع.
فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمُح العواقب.
فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يُوجبُ حسرات دائمة لا تفي لذةُ البطالة بمعشار تلك الحسرة.
ومن ذاك أن الإنسان قد يجهل بعض العلم فيستحي من السؤال والطلب لكبرَ سِنِّه.
ولئلا يُرى بعين الجهل فيلقى من الفضيحة إن سُئل عن ذلك أضعاف ما آثر من الحيا.(1/160)
ومن ذلك أن الطبع يطالب بالعمل بمقتضى الحالة الحاضرة مثل جواب جاهل وقت الغضب.
ثم يقع الندم في ثاني الحال على أن لذة الحلم أوفى من الانتقام، وربما أثر الحقد من الجاهل فتمكن فبالغ في الأذى له.
ومن ذلك أن يعادي بعض الناس ويأمن أن يرتفع المعادى فيؤذيه وإنما ينبغي أن يضمر عداوة العدو.
ومن ذلك أن يحب شخصًا فيفشي إليه أسراره ثم يقع بينهما عداوة فيظهر ذلك عليه.
ولي رجل تبالةً فصعد المنبر فما حمد الله ولا أثنى عليه حتى قال: إن الأمير أعزنا الله وإياه ولاني بلادكم هذه، وإني والله ما أعرف من الحق موضع سَوْطِي، ولن أوتي بظالم ولا مظلوم إلا أوجَعْتُهُمَا ضربًا، فكانوا يتعاملون بالحق بينهم ويتصالحون ولا يرتفعون إليه.
ومن ذلك أن يرى المال الكثير فينفق ناسيًا أن ذلك يفنى فيقع له في ثاني الحال حوائج فيلقى من الندم أضعاف ما التذَّ به في النفقة.
فينبغي لمن رزق مالاً أن يصور كبر السن والعجز عن الكسب، ويتصور ذهاب الجاه في الطلب من الناس ليحفظ ما معه.
ومن ذلك أن ينبسط ذو دولة، فإذا عُزِلَ ندمَ على ما فعل، وإنما ينبغي أن يُصور العزل ويعمل بمقتضاه.
ومن ذلك أن يؤثر لذة مطعم فيشبع فيفوته قيامُ الليل، أو يؤثر لذة النوم فيفوته التهجد، أو يأكل أو يجامع بشره فيمرض.
أو يشتهي جماع سوداء وينسى أنها ربما حَمَلتْ فجاءت بنت سوداء، فكم من حسرةٍ تقعُ له على مدى الزمان، كلما رأى تلك البنتَ.
وقد كان في زمننا من جامع سوداء فجاءت بولد أسود فافتضح به منهم صاحب المخزن وقاضي القضاة الدامغاني، وكان تاجرًا قد ولد له ابن أسود، فلما رآه قال: لعن الله شهوتي.
ومن ذلك الاشتغال بصورة العلم، وإنما يُراد العمل به والإخلاص في طلبه فيذهب الزمان في حب الصيت وطلب مدح الناس فيقع الخسران إذا حُصِّلَ ما في الصدور، قُلتُ: ما أكثر هذا في وقتنا، نسأل الله الحي القيوم أن يعصمنا وإخواننا المسلمين.(1/161)
ومن ذلك إقناع العلم بطرف من العلم فأين مزاحمة الكاملين والنظر في عواقب أحوالهم.
ومن ذلك الإكثار من الجماع ناسيًا مغبته وأنه يضعف البدن ويؤذي، فالطبع يرى اللذة الحاضرة والعقل يتأمل.
ولقد جئت يومًا من حر شديد فتعجلتُ راحة البرودة فنزعت ثوبي فأصابني زكام أشرفت منه على الموت، ولو صبرت ساعة ربحت ما لقيت فقِسْ كل لذة عاجلة ودَع العقْل يتلمح عواقبِهَا، والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في «شرح الخمسين»: «فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به.
فإنه يحرم بيعه وأكل ثمنه كما جاء مصرحًا به في الرواية المتقدمة أن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنه.
وهذه كلمةٌ عامةٌ جامعةٌ تطردُ في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حرامًا، وهو قسمان: أحدهما: ما كان الانتفاع به حاصلاً مع بقاء عينه كالأصنام، فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله وهو أعظم المعاصي على الإطلاق.
ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال، وكذلك الصور المحرمة وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور وكذلك شراء الجواري للغناء.
وفي «المسند»: عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات» يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية.
وأقسم ربي بعزته لا يشربُ عبدٌ من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم مُعذَّبًا أو مغفورًا له ولا يسقاها صبيًا صغيرًا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبًا أو مغفورًا له.
ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته إياها في حظيرة القدس ولا يحل بيعُهُنَّ ولا شراؤهُنَّ ولا تعليمهن ولا تجارة فيهن وأثمانهن حرام» اهـ.(1/162)
ذكر ابن القيم في «الهدي»: أنه من صح له يومُ جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجَّته وسلمت له صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر.
وصى بعضهم ابنه، فقال: عليك بالمشاورة فإنك واجد في الرجال من ينصح لك الكي ويحسمُ عنك الدَّاء ويُخرج لك المُستكن ولا يدع لك في عدوك فرصة إلا انتهزها ولا لعدوك فيك فرصة إلا حصَّنَها.
ولا يمنعك شدة رأيك في ظنك، ولا عُلو مكانك في نفسك من أن تجمع إلى رأيك رأي غيرك، فإن أحمدت أجتنيت وإنَّ ذمَمْتَ نَفَيْت.
فإن في ذلك خصالاً، منها: أنه إن وافق رأيك ازداد شدةً عندك، وإن خالف رأيك عرضتهُ على نظرك، فإن رأيته مُعتليًا لما رأيت قبلت، وإن رأيته متضعًا عنه استغنيتَ.
ومنها: أنه يجدد لك النصيحة ممن شاروت وإن أخطأ ويمحض لك مودته وإن قصَّر.
إذا كان الرأي عند من لا يُقبل منه، والسلاحُ عند من لا يستعمله، والمالُ عند من لا ينفقه ضاعت الأمور.
وأوصى آخر ابنه، فقال: يا بني، كن على حذر من اللئيم إذا أكرمته ومن الكريم إذا أهنته، قال الشاعر:
واخْشَ الأذَى عندَ إكْرَام اللَّئِيم كما ... تَخْشَى الأَذَى إنْ أهَنْتَ الحُرَّ ذَا النُبَل
وكن على حذر من الجاهل إذا صاحبته، ومن الفاجر إذا خاصمته.
ومن الرشد مشاورة الناصح ومدارة العدو والحاسد، قال الشاعر:
مَن يَدْارِ دَارَى ومَن لم يَدْر سَوفَ يُرَى ... عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيْمًا لِلنَّدَامَاتِ
يا بُنَّي، احذر الحسد فإنه يُفسدُ الدين ويُضعفُ النفس ويعقب الندم، والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
ومن وصايا أبي حنيفة لأبي يوسف: لا تتكلم بين يدي العامة إلا بما تسأل عنه، قلت: (أو فيما يعود عليهم بما ينفعهم وإن لم يسألوا).
ولا تكثر الخروج إلى السوق، ولا تكلم المراهقين فإنهم فتنة (قلت إلا لضرورة أو حاجة).(1/163)
ولا تمش في قارعة الطريق مع المشايخ والعامة، فإنك إن قدَّمتهم ازدري بعلمك، وإن أخرتهم ازدري بك من حيثُ أنهم أسَنُّ منك.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليسَ مِنَّا».
ولا تقعد على قوارع الطريق فإن دعاك ذلك فاقعد في المسجد.
ولا تأكل في الأسواق والمساجد، قلتُ: إلا لضرورة أو حاجة.
ولا ترض لنفسك من العبادات إلا بأكثر مما يفعله غيرك وتعاطاها، فإن العامة إذا لم يروا منك الإقبال عليها أكثر مما يفعلون اعتقدوا فيك قلة الرغبة واعتقدوا أن علمك لا ينفعك إلا ما نفعهم الجهل الذي هم فيه.
وإذا دخلت بلدة فيها أهل العلم فلا تتخذها لنفسك، بل كن كواحد من أهلها ليعلموا أنك لا تقصد جاههم ولا يخرجون عليك بأجمعهم ويطعنون في مذهبك وتصير مطعونًا عندهم بلا فائدة.
وإن استفتوك فلا تناقشهم في المناظرة والمطارحات.
ولا تذكر لهم شيئًا إلا عن دليل واضح.
ولا تطعن في أساتذتهم فإنهم يطعنون فيك، قلت: إلا أن يكونوا مبتدعين كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية والرافضة فيحذر عنهم.
وكن من الناس على حذر.
وكن لله تعالى في سرك كما أنت له في علانيتك.
ولا يصلح أمر العلم إلا بعد أن يجعل سره كعلانيته.
وإذا أولاك السلطان عملاً فلا تقبل ذلك منه إلا بعد أن تعلم أنه إنما يُوليك ذلك لعلمك.
وإياك أن تتكلم في مجلس النظر على خوف، فإن ذلك يُورثُ الخلل في الألفاظ، والكلل في اللسان.
وإياك أن تكثر الضحك، فإنه يميت القلب.
ولا تمش إلا على طمأنينة، قلتُ لقول الله تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا } .
ولا تكن عجُولاً في الأمور، قلت: إلا فيما حث الشارع على الإسراع والمبادرة فيه.
وإذا تكلمت فلا تكثر التصويت، ولا ترفع صوتك، قلت: لأنه يدل على قلة العقل، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } .(1/164)
واتخذ لنفسك السكوُن وقلة الحركة، ليتحقَّقَ عند الناس ثباتُك، ولأنه يدل على رزانة العقل.
وأكثر من ذكر الله تعالى فيما بين الناس، ليتعلَّمُوا ذلك منك، قلت: وليكون له مثل أجورهم؛ لحديث: «من دلَ على خير فله مثل أجر فاعله».
واتخذ لنفسك وردًا خلف الصلوات تقرأ فيه القرآن، وتذكر الله تعالى وتحمده وتشكره.
واتخذ أيامًا معدودةً من كل شهر تصوم فيها، ليقتدي بك غيرك.
ولا تطمئن إلى دُنياك وإلى ما أنت فيه، فإن الله سائلك عن جميع ذلك.
وإذا عرفت إنسانًا بالشر فلا تذكره به، بل اطلب منه خيرًا فاذكره به، إلا في باب الدين فإنك إن عرفت في دينه ذلك فاذكره للناس كي لا يتبعوه وليحذروه، قال –عليه الصلاة والسلام-: «اذكروا الفاجر بما فيه حتى يحذره الناس»، وإن كان ذا جاه ومنزلة فاذكر ذلك ولا تبال من جاهه، فإن الله تعالى مُعينك وناصرك وناصر الدين.
فإذا فعلت ذلك مرة هابوك ولم يتجاسر أحد على إظهار البدعة في الدين.
ولا تجالس أحدًا من أهل الأهواء إلا على سبيل الدعوة إلى الدين ولا تشاتم.
وإذا أذن المؤذن فتأهب لدخول المسجد لئلا تتقدم عليك العامة، قلتُ: بل للمبادرة إلى أداء الفريضة وليقتدي بك غيرك.
ولا تتخذ دارك في جوار السلطان.
وما رأيت على جارك فاستره فإنه أمانة، قُلتُ: إلا أن يكون مُجاهرًا بالمعاصي.
ولا تظهر أسرار الناس، قلتُ: إلا أن يكون فيها ضررٌ على مسلم.
ومن استشارك في شيء فأشر عليه بما يقربك إلى الله تعالى.
وإياك والبخل فإنه تنقص به المروءة ولا تكن طماعًا ولا كذابًا، قلتُ: ولا جاسوسًا ولا غيابًا ولا نمامًا ولا غشاشًا ولا صاحب مقابلة.
وأظهر غنى القلب مظهرًا في نفسك قلة الحرص والرغبة وأظهر من نفسك الغنى، ولا تظهر الفقر وإن كنت فقيرًا.
وكن ذا هِمَةٍ فإن من ضعفت همته ضعفتْ منزلته.
وإذا مشيت مع الطريق فلا تتلفت يمينًا ولا شمالاً، بل داوم النظر في الأرض، قلتُ: إلا لضرورة أو حاجة.(1/165)
ولا تماكس بالحبات والدوانق وحقر الدنيا المحقرة عند أهل العلم (أي علماء الآخرة العاملون بعلمهم لا علماء الدنيا).
وَولِّ أموركَ غيرَكَ ليمكنك الإقبال على العلم، وإياك أن تكلم المجانين ومن لا يعرف المناظرة والحجة من أهل العلم والذين يطلبون الجاه ويستغرقون بذكر المسائل فيما بين الناس، فإنهم يطلبون تخجيلك ولا يبالون منك وإن عرفُوك على الحق.
وإذا دخلت على قوم كبار فلا ترتفع عليهم ما لم يرفعوك لئلا يلحق بك منهم أذية.
وإذا كنت في قوم فلا تتقدم عليهم في الصلاة ما لم يقدموك على وجه التقدير، قلت: إلا أن يكون أقرأهم لكتاب الله فيتقدم. اهـ.
قال ابن عباس في أمر عزير { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ } : يعني لبني إسرائيل وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب؛ لأنه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شابًا كهيئته يوم مات.
وقيل في معنى ما قاله ابن عباس:
وأسْودُ رَاسٍ شاب من قبْلِهِ ابنُه
يَرَى ابْنَهُ شْيخًا يدِبُّ على العَصَا
ومَا لابِنِه حَيْلٌ ولا فَضْلُ قُوَّةٍ
يَعُدُّ ابنُه في الناسِ تِسْعِيْنَ حجَّةٌ
وعُمْرُ أبِيْهِ أرْبَعُوْنَ أمَرَّهَا
فما هو في المَعْقُولِ إنْ كُنْتَ دَارِيًا ... ومن قَبْلِهِ ابنُ ابْنِهِ فهْوَ أكْبَرُ
ولِحْيَتُهُ سَوداءُ والرأسُ أشْقَرُ
يَقُوم كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُ فَيْعثرُ
وعشرينَ لا يَجْريْ ولا يَتبَخْتَرُ
ولابن إبِنِه تَسْعُونَ في الناسِ عَبَّروا
وإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فبِالجَهْلِ تُعْذَرُ
عن بعض أصحاب جعفر الصادق قال: دخلت على جعفر وموسى بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية فكان مما حفظت منها أنه قال: يا بُني، اقبلٍ وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدًا وتمت حميدًا.
يا بني، إنه من قنع بما قسم الله له استغنى ومن مدَّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومن لم يرضَ بما قسم الله عزَّ وجلَّ له اتَّهم الله تعالى في قضائه.(1/166)
ومن استصغر زلّة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه، يا بني، من كشف حجاب غيره انكشفتُ عوراتُ بيته، ومن سل سيف البغي قُتل به.
ومن احتفر لأخيه بئرًا سقط فيها، ومن داخل السفهاء حُقر، ومن خالط العلماء وقِّرْ، ومن دخل مداخل السوء أتهم.
يا بني، قُل الحق لك وعليك، وإياك والنميمة فإنها تزرعُ الشحناء في قلوب الرجال، يا بني، إذا طلبت الجود فعليك بمعادِنه. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ومن نصيحة والد لولده
اعمل أن من تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدةً طويلةً، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا نهاية لهُ.
فإذا أعاد إلى النظر في مقدار بقائه فرضنا ستين سنة مثلاً، فإنه يمضي منها ثلاثون سنة ي النوم، ونحو من خمس عشر في الصِّبا.
فإذا حسب الباقي كان أكثر في الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا، فماذا تشتري الحياة الأبدية وإنما الثمنُ هذه الساعات؟
فانتبه يا بنيُ لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة، واسق غُصنك ما دامت فيه رُطوبة.
واذكر ساعتكَ التي ضاعتْ فكفى بها عظة، ذهبتْ لذةُ الكسل فيها وفاتت مراتبُ الفضائل، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يحبون جمع كُل فضيلة ويبكون على فوات واحدةٍ منها.
قال إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ دخلنا على عاد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: عليّ يوم مضى ما صُمتُه، وعليّ ليلة ذهبت ما قمتها. والله أعلم، وصل الله على محمد.
حكم وآداب ومواعظ
قال الحسن البصري في قول الله جل وعلا: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } نزلت في الثقلاء.
وقال السري أحد رجال الحديث: ذكر الله جل وعلا الثُقلاء في القرآن في قوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } .(1/167)
وكان أبو هريرة إذا استثقل رجلاً، قال: اللهم اغفر لنا وله وأرِحْنَا منه.
وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقلُه قال: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } .
قيل لأبي عمرو الشيباني: لماذا يكون الثقيل أثقل على الإنسان من الحمل الثقيل؟ فقال: لأن الثقيل يقعد على القلب، والقلبُ لا يحتملُ ما يحتملهُ الرأسُ والبدنُ من الثِقَلِ.
قال حبيب بن أوس:
يا مَن تَبَرَّمِتِ الدنيا بطَلْعَتِه
يَمشِي على الأرضِ مُخْتَالاً فأحْسِبُه ... كَمَا تَبَرَّمَتِ الأجْفَان بالسَّهَدِ
مِن بُغْض طَلْعَتِهِ يَمْشي على كَبِدِي
قيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ قال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم وأدنوا أعداءهم تألفًا لهم، فلم يصر العدُوُّ صديقًا بالدنو وصار الصديق عدوًا بالإبعاد.
نظر عبدالملك بن مروان عند موته وهو في قصره إلى قصارٍ يضرب بالثوب في المغسلة، قال: يا ليتني كنتُ قصارًا ولم أتقلد الخلافة.
فبلغ كلامه أبا حاتم، فقال: الحمد لله الذي جعلهمُ إذا حضرهم الموت يتمنون ما نحن فيه، وإذا حضرنا الموت لم نتمنى ما هم فيهم.
عن وهب بن منبه قال: قال الحواريون: يا عيسى، من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركُوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحُهم بما أصابوا منها حُزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه.
خلقت الدنيا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يُحْيُوها.
يهدمُونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها وكانوا برفضها فرحين، وباعوها وكانوا ببيعها رابحين.(1/168)
نظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره.
لهم خبر عجيب، و عندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب وبه علموا فليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا ولا أمانًا دون ما يرجون ولا خوفًا دُونَ ما يحذرون، رواه الإمام أحمد، والله أعلم.
قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية
عن عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسًا من أعرابي فاستتبعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومون بالفرس ولا يشعرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه.
حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن كنتَ مبتاعًا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.
فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع نداء الأعرابي، فقال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» قال الأعرابي، لا، والله ما بعتُك.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بلى قد ابتعتُه منك» فطفق الناس يلوذُون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والأعرابي، وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك.
فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويْلَكَ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليقول إلا حقًا.
حتى جاء خزيمة فاستمع لمُراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُراجعة الأعرابي، وطفق الأعرابي يقول: هلمَّ شهيدًا أني بايعتُك.(1/169)
فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خُزيمة، فقال: «بم تشهد؟» قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل النبيُ - صلى الله عليه وسلم - شهادة خُزيمة شهادة رجلين.
وقد روي في بعض طرق هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخزيمة: «بِمَ تَشْهدُ ولم تكن مَعَنا؟» قال: يا رسول الله، أنا أصدقك بخبر السماءَ أفلا أصدَّقُكَ بما تَقُولُ؟
قال الخطابي: ووجه هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم على الأعرابي بعلمِه إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صادقًا بارًا وجرت شهادةُ خزيمة في ذلك مجرى التوكيد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - والاستظهار بها على خصمه.
فصارت في التقدير مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كشهادة رجلين في سائر القضايا ـ رحمه الله ـ.
قال الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كان يُحدِّثُ عن إسلامه، فيقول: ما رأيتُ أعجب ممَّا كُنّا فيه من لُزُوم ما مضى عليه آباؤُنا من الضّلالات.
فلما كان عام الفتح ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - عُنوةً، قلتُ: أسيرُ مع قُريش إلى هوازن بحُنين فعسى إن اختلطوا أن أُصيب من محمدٍ غرةً فأثارُ منه فأكون أنا الذي قمتُ بثأر قُريش كُلِّها، وأقولُ: ولو لم يبق من العرب والعجم أحدٌ إلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا.
فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته وأصلت السيفَ فدنوت أُريدُ ما أريدُ منه ورفعتُ سيفي، فرفع لي شواظٌ من نارٍ كالبرق حتَّى كاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفًا عليه، فالتفت إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وناداني: «يا شيب، ادْنُ مني»، فدنوت منه فمسح صدري، وقال: «اللهمُ أعِذهُ مِن الشيطان».
فوالله لهَوُ كان ساعتئذٍ أحبَّ إليَّ من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله عز وجل ما كان بي.(1/170)
ثم قال: «ادْنُ فَقَاتِلْ»، فتقدَّمْتُ أمامه أضربُ بسيفي، الله يعلمُ أني أحبُّ أن أقيهُ بنفسي كُلَّ شيء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيًا لأوقعتُ به السيف.
فلما تراجع المسلمون وكروا كرَّة رجلٍ واحد قرَّبْتُ بغْلَةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستوى عليها فخرج في أثرهم حتى تفرقُوا في كُل وجه، ورجع إلى مُعسكره فدخل خباءهُ، فدخلتُ عليه، فقال: «يا شيْب، الذي أراد الله بك خيرٌ مما أردتَ بنفسك».
ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أكُنْ أذكرُهُ لأحدٍ قط، فقلتُ: فإني أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله، ثم قلتُ: استغفر لي يا رسول الله، فقال: «غفر الله لك».
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كم مشن ضَعِيف مُتَضَعّف ذِي طِمْرَيْن لو أقْسَمَ على الله لأبرهُ، منهم البراءُ بنُ مالك».
وإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقد أوجع المشركون في المسلمين، فقالوا له: يا براءُ، إن رسول الله قال: «إنك لو أقْسَمْتَ على الله لأبركَ» فأقسم على الله، فقال: أقسمتُ عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم فمُنحوا أكتافهُم.
ثم التقوا على قنطرة السُوس فأوجعُوا في المسلمين، فقالوا: أقسمْ على ربكَ، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك - صلى الله عليه وسلم -، فمُنحوا أكتافهم، وقُتل البراء شهيدًا. والله أعلم.
فصل
أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون عليه خيرًا حتى سُئل عنه رجل من بني عبس، فقال: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كان لا يخرج في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية.
فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عره وعظم فقره وعرضه للفتن.
فكان يُرى وهو شيخ كبير قد تدلَّى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزُهُنَّ في الطرقات، ويقول: شيخ كبير مفتُون أصابتني دعوة سعْد.(1/171)
وكذا سعيد بن زيد كان مجاب الدعوة، فقد روي أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد، وقالت: سرق من أرضي وأدخله في أرضه.
فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأذهب بصرها وأقتُلها في أرضها، فذهب بصرُها وماتت في أرضها.
قال إبراهيم بن أدهم: مرض بعضُ العُبَّاد فدخلنا عليه نعُوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلتُ له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتُها، ويوم أفطرته، وساعةٍ غفلتُ فيها عن ذكر الله عز وجل.
وبكى بعضُ العباد عند موته، فقيل له: ما يبُكيك؟ فقال: أن يصوم الصائمون ولستُ فيهم، ويذكر الذاكرون ولستُ فيهم، ويصلي المصلون ولستُ فيهم. تأمل يا أخي، هذه الأماني لله دره.
عن ابن أبي مُليكة قال: لما كان يوم الفتح ركب عكرمةُ بن أبي جهل البحر هاربًا فخبَّ بهم البحرُ، فجعلت الصرَّارِي (أي الملاحون) يدعُون الله ويُوحِّدُونَهُ، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله، قال: هذا إلهُ محمدٍ الذي يدعونا إليه، فارجعُوا بنا، فرجع فأسلم.
وعن مصعب بن سعد، عن عكرمة بن أبي جهل، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم جئته: «مَرْحَبًا بالراكبِ المُهَاجرِ، مَرْحَبًا بالراكبِ المهاجرِ»، قلت: والله يا رسول الله، لا أدعُ نفقةً أنفقتُها عليك إلا أنفقتُ مثلها في سبيل الله.
وعن عبدالله بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجّاني يوم بدرٍ، وكان يضعُ المُصحف على وجهه، ويقول: كتابُ ربي، كتابُ ربي.
استشهد عكرمة يوم اليرمُوك في خلافة أبي بكر، فوجدُوا فيه بضعًا وسبعين من بين ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ.
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عبدالله قال: جاء الإسلام ودارُ الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها بعدُ مِن معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.(1/172)
فقال له عبدالله بن الزبير: بعتَ مكرمة قريش؟ فقال حكيمُ: ذهبت المكارمُ إلا التقوى، يا ابن أخي، إني اشتريت بها دارًا في الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله.
وعن أبي بكر بن سليمان قال: حجّ حكيم بن حزام معه مائة بدنة قد أهداها وجلَّلها الحبرة وكفَّها عن أعجازها ووقَّف مائةَ وصيفٍ يوم عرفةَ في أعناقِهم أطوقهُ، الفضَّة قد نُقش في رُؤُسِها: «عُتقاء الله عزّ وجلّ عن حكيم بن حزام»، وأعتقهم وأهدى ألف شاة.
وعن محمد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فقال هل ابنه: ما يُبكيك؟ قال: خصالٌ كلها أبكاني: أما أولها: فبطءُ إسلامي حتى سُبقتُ في مواطن كلها صالحة، ونجوتُ يوم بدر واحدٍ، فقلت: لا أخرج أبدًا من مكة ولا أوضعُ مع قُريش ما بقيت.
فأقمت بمكة ويأبى الله عز وجل أن يشرح صدري للإسلام، وذلك أني أنظرُ إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين لما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم، فما أهلكنا إلا الإقتداء بآبانا وكُبرائنا.
فلما غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة جعلتُ أفكرُ، فخرجتُ أنا وأبو سفيان نستروح الخبر، فلقي العباسُ أبا سفيان، فذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجعتُ فدخلتُ بيتي، فأغلقتُه عليَّ ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة فآمن الناس، فجئتُه فأسلمت وخرجتُ معه إلى حنين.
وعن عُروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير.
قال ابن سعد: قال محمد بن عمر: قدم حكيم بن حزام المدينة ونزلها وبنى بها دارًا، ومات بها سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة ـ رحمه الله ـ.
عن أبي برزة الأسلمي أن جُلَيْبِيْبًا كان امرأ من الأنصار وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لأحدهم أيّم (أي لا زوجَ لها) لم يزوجها حتى يُعلمَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل لهُ فيها حاجةً أمْ لا؟(1/173)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ لرجُل من الأنصارِ: «يا فُلَانُ، زَوَّجْني ابْنَتَكَ»، قال: نعم ونعمةُ عَيْن، قال: «إني لَسْتُ لِنَفْسِي أرْيدُهَا» قال: لِمَنْ؟ قال: «لجُلَيْبِيْبْ»، قال: يا رسول الله، حتى أستأمِرَها (أي أشاورُهَا) وأمَهّا، فأتاها، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ابنتكِ، قالت: نَعمَ ونِعْمِةُ عَيْن، زَوِجْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إنه ليس لنفسه يُريدُها، قالت: فلِمَنْ؟ قال: لجُلَيبيب، قالت: حَلْقَي ألجُليبيب؟ لا لعَمْرُ الله لا أزَوِجُ جُليبيًا.
فلما قام أبوها ليأتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت الفتاةُ من خدرِها لأبويْها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: أفترُدُونَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ؟ ادْفَعُوني إلى رسول الله فإنَّهُ لَنْ يُضيِّعَني.
فذهب أبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: شأنَكَ بِها، فزوَّجَهَا جُليبيبًا.
قال إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: وما دعا لها به النبي ـ عليه السلام ـ؟
قال: «اللهم صُبّ عَلَيها الخَيرَ صَبًّا ولا تجْعَلْ عَيشَهَا كَدًّا كَدًّا».(1/174)
قال ثابتُ: فزوَّجها إيَّاهُ، فبينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مغزى له، قال: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِن أحَدٍ؟» قالوا: نفقدُ فُلانًا ونفقدُ فلانًا ونفقدُ فلانًا، ثم قال: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِن أحَدٍ؟» قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا، ثم قال: «هَلْ تَفْقِدُونَ مِن أحَدٍ؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقدُ جُلَيْبِيْبًا، فطلبُوه في القتلى»، فنظروا فوجدُوْهُ إلى جنب سبعةٍ قد قتلهمُ ثم قتلُوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا مني وأنا منه، أَقَتَلَ سبعةً! ثم قتلوه، هذا مِنّي وأنا مِنْهُ، أقتلَ سبعةً! ثم قتلوْه هذا مني وأنا منه»، فوضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساعديه، ثم حفرُوْا لهُ ما له سريِر إلا ساعدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وضعه في قبره.
لله در هذه الأنفس فما أعزَّها، وهذه الهمم ما أرفعها!
وَلَمَّا رَأوَا بَعْضَ الحياةِ مَذلةً
أبْوْا أنْ يَذُوقُوا العَيْشَ والذَمُّ واقعٌ
ولا عَجَبٌ لِلأسْدِ إنْ ظَفِرَتْ بها
فَحَرْبةُ وحْشِيٍّ سقَتْ حَمزةَ الردَى ... عليهم وعِزَّ الموتِ غَيرَ مُحَرَّمِ
عليه وماتُوا مِيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
كِلابُ الأعادِي مِن فَصِيحْ وأعجَمِ
وحَتْفُ عليٍّ في حُسَام ابن مُلْجمِ
فصل
روى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بدر حتى سبقوا المشركين، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا إلى جنةٍ عَرْضُها السمواتُ والأرضُ».
قال عُمَيْر بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنةٍ عَرْضُها السموات والأرض؟! قال: «نعم»، قال: بَخٍ بَخٍ يا رسول الله، فقال: «ما يحملك على قولك بَخِ بَخِ؟» قال: لا، والله يا رسول الله إلا رَجَاءَ أن أكونَ مِن أهلها، قال: «فإنك من أهلها».(1/175)
قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكُلُهنَّ، ثم قال: إنْ حضيِيْتُ حتى آكُلَ تَمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة، فرمى بما كان معهُ من التمر، ثم قاتل حتى قُتل.
قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجمُوح الخروج إلى أحد، منعه بنُوه، وقالوا: قد عذرك الله، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن بني يريدون حبسي عن الخروج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الجنة، فقال: «أمّا أنت فقد عذَرك الله»، ثم قال لبنيه: «لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة» فخلوا سبيله.
قالت امرأته هند بنت عمرو بن خُزَام: كأني انظر إليه مولِّيًا، قد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني إلى خربي، وهي منازل بني سلمة.
قال أبو طلحة: فنظرتُ إليه حين انكشف المسلمون ثم ثابوا، وهو في الرَّعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله، وهو يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة!
ثم انظر إلى ابنه خَلَّاد [وهو] يَعْدو [معه] في إثْره حتى قتلا جميعًا.
وفي الحديث: أنه دُفن عمرو بن الجمُوح وعبدالله بن عُمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرَّب السيلُ قُبورهم، فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغيروا كأنهم ماتوا بالأمس.
عن أنس بن مالك قال: كنا جُلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يَطْلُعُ الآن عليْكُمْ رجُلٌ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ» فطلعَ رجُلٌ مِن الأنصار تنظفُ لحيتهُ من وضُوئه قدْ علق نعليه بيده الشمال.
فلما كان الغدُ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مِثْلَ ذلك، فطلع ذلك الرجُلُ مثْلَ المرَّة الأولى.
فلما كان اليوم الثالثُ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعهُ عبدالله ابنُ عمرو، فقال: إني لا حَيْتُ أبي، فأقسمتُ أني لا أدخُلُ عليه ثلاثًا، فإن رأيْتَ أن تؤويَني إليكَ حتى تَمْضِي فَعَلْتَ، قال: نعم.(1/176)
قال أنس: فكان عبدالله يُحدِّثُ أنهُ بات معهُ تلك الثلاث الليالي فلمْ يرَهُ يقُومُ من الليل شيئًا غير أنهُ إذا تعارَّ تقلَّب على فراشه ذكرَ الله عز وجل، وكبر حتى لصلاة الفجر.
قال عبدالله: غيرَ أني لم أسمعهُ يقولُ إلا خيرًا، فلمَّا مضت الثلاثُ الليالي، وكِدْتُ أنْ أحتقرَ عملهُ، قلتُ: يا عبدالله، لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هُجْرَةٌ، ولكن سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مرات: «يَطْلُعُ عليكُمُ الآنَ رَجْلٌ مِن أهل الجنة» فطلعتَ أنت ثلاث مرَّاتٍ، فأردتُ أن آوي إليك، فانظر ما عملُك، فأقتدي بك، فلم أرَك عملتَ كبيرَا عَمَلٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما هو إلا ما رأيْتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دَعَاني، فقال: ما هُوَ إلا ما رأيْتَ غيرَ أني لا أجدُ في نفسي لأحَدٍ مِن المسلمين غِشًّا ولا أحْسُدُ أحدًا على غيرٍ أعطاهُ الله إيَّاهُ.
فقال عبدالله: هذه التي بلغتْ بِكَ، رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي.
عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا فيهم رجل يقال له: حُدَيْر، وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونَسِيَ أنْ يُزَوِّدَ حُديرًا.
فخرج حدير صابرًا محتسبًا، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعْم الزّاد هو يارَب، فهو يردّدها وهو في آخر الركب.(1/177)
قال: فجاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن ربيّ أرسلني إليك يُخبرك أنك زوَّدْتَ أصحابك ونسيتَ أن تزوِّدَ حُدَيْرًا، وهو في آخر الركب، يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فدفع إليه زاد حُدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يُقُول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقرئك السلام ورحمة الله، ويُخبرك أنه كان نِسَيَ أن يَزُوِّدَكَ، وإن ربي تبارك وتعالى أرسل إليّ جبريل يذكرّني بك، فذكّره جبريل وأعلمه مكانك.
فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله و الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب، قال: فدنا منه، ثم قال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقرئك السلام ورحمةَ الله وقد أرسلني إليك بزادٍ معي، ويقول: إني إنما نسيتُك، فأرسل إليّ جبريل من السماء يُذكِّرُني بك، قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سمواتٍ، ومن فوق عرشه، ورحِم جُوعي وضعفي، يا ربّ كما لم تنس حُديرًا فاجعل حُديرًا لا ينساك.
قال: فحفظ ما قال، ورجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيتَ لكلامه ذلك نورًا ساطعًا ما بين السماء والأرض».(1/178)
عن محمد بن سعد قال: كان ذو البجادين يتيمًا لا مال له، فمات أبوه ولم يورثه شيئًا، وكفله عمه حتى أيسر، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدرُ عليه من عمه حتى مضتْ السنُون والمشاهد، فقال لعمه: يا عمُّ، إني قد انتظرتُ إسلامك فلا أراك تريد محمدًا، فأذن لي في الإسلام، فقال: والله لئن اتبعتَ محمدًا لا أترك بيدك شيئًا كُنْتُ أعطيتُكَهُ إلا نزعْتُه منك، حتى ثوبيك.
قال: فأنا والله متبعٌ محمدًا وتاركٌ عبادة الحجرِ، وهذا ما بيدي فَخُذْهُ، فأخذ ما أعطاه حتى جرَّدَهُ من إزاره، فأتى أمه فقطعتْ بجادًا لها باثنين فأتزر بواحدٍ وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان فاضطجع في المسجد في السَّحَرِ.
وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتصفحُ الناس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه، فقال: «مَنْ أنْتَ؟» فانتسب له، وكان اسمه عبدُالعزّى، فقال: «أنتَ عبدُ الله ذُوْ البجَادَين»، ثم قال: «انْزِلْ مِنيَ قَريْبًا»، فكان يكون في أضْيَافِهِ حتى قَرأ قرآنًا كثيرًا، فلما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تَبُوكَ، قال: ادْعُ لي بالشهادة، فربطَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على عضُدِه لَحِي سَمُرة، وقال: «اللهم إني أحرم دَمَهُ على الكفار».
فقال: ليسَ هذا أرَدْتُ.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك إذا خَرَجْتَ غازيًا فأخَذَتْكَ الحُمَّى فَقَتَلتْكَ فأنْتَ شهيْد، أو وَقَصَتْكَ دَابَّتُكَ فأنْتَ شَهِيد» فأقامُوا بتبُوكَ أيامًا ثم تُوفَي.
قال بلالُ بنُ الحارث: حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَعَ بلال المؤذنُ شُعْلةٌ من نار عند القبر واقفًا بها.
وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «أدْنيا إليَّ أخَاكُما» فلما هَيأه لِشِقِّهِ في اللَّحْدِ، قال: «اللهم إني قد أمْسَيتُ عنه راضيًا فارْضَ عنه».
فقال ابنُ مسعود: لَيتني كُنتُ صاحبَ اللَّحْدِ.(1/179)
وعن أبي وائل، عن عبدالله قال: والله لكأني أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبر عبدالله ذي البجادين، وأبُو بكر وعُمر يقول: «أدْنِيَا إلي أخَاكُمَا».
وأخذهُ من القبلةِ حتى أسكنهُ في لَحْدِه ثم خرَجَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وَوَلَّيَاهُمَا العَمَلَ، فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يقول: «اللهم إني أمسيتُ عنه راضيًا فارْضَ عنه».
وكان ذلك ليلاً، فوالله لوددتُ أني مكانه، ولقد أسلمتُ قبلهُ بخمسَ عشرَ سَنَة. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
عن محمد بن سعد قال: أتى واثلةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى معه الصبح، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى وانصرف تصفَّحَ أصحابهُ، فلما دَنا من واثلة، قال: «من أنت؟» فأخبره.
فقال: ما جاء بكَ؟ قال: جئتُ أبايع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فيما أحْبَبْتَ وكَرِهْتَ؟» قال: نعم، قال: «فِيما أطَقْتَ؟» قال: نَعَمْ، فأسلم وبَايَعَهُ.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهزُ يومئذٍ إلى تَبُوكَ فَخَرَجَ واثلةُ إلى أهلِهِ فَلَقِي أبَاهُ الأسقعَ فلما رَأى حَاله، قال: قد فعلتها؟ قال: نعم، قال أبوه: والله لا أكلمُك أبدًا.
فأتى عمه فسلَّم عليه، فقال: قَدْ فَعَلْتَهَا؟ قال: نعم، قال: فلامهُ أيسر من ملامة أبيه، وقال: لم يكُن ينبغي لك أن تسبقنا بأمرٍ.
فسمعت أخت واثلة كلامهُ فخرجت إليه وسلَّمَتْ عليه بتحَّية الإسلام، فقال واثلة: أنَّي لك هذا يا أخيَّةُ؟ قالت: سمعتُ كلامك وكلام عمك فأسلمتُ.
فقال: جهزِّي أخاك جهاز غازٍ فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جناح سفر، فجهزتهُ فلحِقَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدْ تحمَّلَ إلى تبُوكَ وبقي غُبَّراتٌ مِن الناسِ وهم على الشُخُوص.
فَجَعَل يُنادي بسوقِ بني قينقاع: من يحملُني وله سهمِي؟ قال: وكُنتُ رجُلاً لا رُحلةَ بي.(1/180)
قال: فدعاني كعبُ بنُ عجرة، فقال: أنا أحملُك عُقبةً بالليل وعُقْبةً بالنهار ويدُكَ أسوةُ يدي وسهْمُكَ لي، قال واثلة: نعم.
قال واثلة: جزاهُ الله خيرًا لقد كان يحملُني ويزيْدُني وآكُلُ معهُ ويرفعُ لي حتى إذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أكيِدرِ بن عبدالملك بدوْمَةِ الجَنْدَل.
خرجَ كعب في جيش خالد وخرجتُ معه، فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالدُ بيننا فأصابني ستُ قلائص فأقبلتُ أسوقُها حتى جئتُ بها خيمة كعب بن عجرة، فقلتُ: اخرُج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها.
فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتكَ وأنا أريدُ أن آخذ منك شيئًا.
عن بشر بن عبدالله عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: كُنَّا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فينا رجلٌ له ثوبٌ.
ولقد اتخذ العرقُ في جُلُودنا طُرقًا من الغبار، إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ليْبشِرْ فُقراءُ المهاجرين» ثلاثًا.
عن نعيم بن ربيعة بن كعب قال: كنتُ أخدمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يُصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة.
فأجلسُ على بابه إذا دخل بيته، أقولُ: لعلها أن تحدث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة، فما أزالُ أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أملُّ فارجعُ أو تغلُبني عيني فأرقُد.
فقال لي يومًا لما رأى من حفّتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إيَّاه، يا ربيعةُ، سَلْني أعْطِك، قال: فقلتُ: انظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمُك ذلك.(1/181)
فقال: ففكرتُ في نفسي فعلمتُ أن الدنيا مُنْقطعةٌ وزائلةٌ وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقلتُ: أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآخرتي، فإنه من الله عزَّ وجل بالمنزل الذي هو به، فجئتُه، فقال: «ما فَعَلْتَ يا رَبِيعَةُ؟» فقلتُ: أسألُكَ يا رسولَ الله أن تشفعَ لي إلى رَبِكَ فَيَعْتِقَني مِن النار، فقال: «مَنْ أمَرَكَ بهذا يا ربيعة؟» فقلتُ: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحدٌ ولكنك لمَّا قلتَ سلني أعطكَ وكُنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرتُ في أمري، فعرفتُ أن الدنيا منقطعة وزائلةُ وأنَّ لي فيها رزقًا سيأتيني.
فقلتُ: أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لآخرتي، قال: فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً، ثم قال لي: «إني فاعلٌ فأعِنِّي على نَفْسكَ بكثرةِ السُجُود».
وأخرجا في «الصحيحين» من حديث قيس بن عبادة قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة في ناس فيهم بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل في وجهه أثرُ خشوع، فقال بعضُ القوم: هذا رجلُ من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوَّزَ فيهما، ثم خرج فابتعتُه، فدخل منزله فدخلتُ فأخبرتُه.
فقال: لا ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لِمَا ذاك؟ رأيتُ رُؤيًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه، رأيتني في روضة، وسط الروضة عمود من حديد، أسفلُه في الأرض وأعلاهُ في السماء، في أعلاه عُروة، فقيل لي: إرقه، فقلتُ: لا أستطيعُ، فجاءني منصفٌ يعني خادمًا، فقال: بثيابي من خلفي، فأخذتُ بالعروة، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «تلك الروضةُ الإسلام، وذاكَ العَمُودُ عَمُودُ الإسلام، وتلك العُروةُ، العُروة الوثقى، وأنْتَ على الإسلام حتى تموت» والرجلُ عبدالله بن سلام.(1/182)
وعن أبي بُردة بن أبي موسى قال: قدمتُ المدينة فأتيتُ عبدالله بن سلام، فإذا رجلٌ متخشعٌ، فجلستُ إليه، فقال: يا بنَ أخي إنكَ جَلَسْتَ إلينا وقَدْ حَانَ قِيامُنا، أفتأذَنُ؟ والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
بعث عمر بن الخطاب عمير بن سعد عاملاً على حمص فمكث حولاً لا يأتيه خبره، فقال عمر لكاتبه: أكتب إلى عمير، فوالله ما أراه إلا قد خاننا، إذا جاءك كتابي هذا، فأقبل وأقبلْ بما جبيتَ من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا.
قال: فأخذ عمير جرابه فوضع فيه زاده وقصعتهُ وعلق إداوته وأخذ عنزتهُ، ثم أقبل يمشي من حمص حتى قدم المدينة.
قال: فقدم وقد شحُب لونه واغبر وجههُ وطالت شعرتُه، فدخل على عمر، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، قال عمر: ما شأنك؟ قال: ما ترى من شأني ألست تراني صحيح البدن ظ اهر الدم، معي الدنيا أجُرُّهَا بقُرونها؟
قال عمر: وما مَعَك؟ وظنَّ عمر أنه جاءهُ بمال، قال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكلُ فيها، وإدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوًا إن عرض لي، فوالله ما الدنيا إلا تبعٌ لمتاعي.
قال عمر: فجئتَ تمشي؟ قال: نعم، قال: أما كان لك أحدٌ يتبرعُ لك بدابةٍ تركبُها؟ قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك، فقال عمر: بئس المسلمون خرجت من عِندهم.
فقال عُمير: اتق الله يا عمر، قد نهاك الله عن الغيبة، وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة، قال عمر: فأين بعثتك؟ وأي شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: سبحان الله، فقال عمير: أما إني لولا أخشى أن أغُمك ما أخبرتُك، بعثتني حتى أتيت البلد فجمعتُ صُلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم حتى إذا جمعُوهُ وضعْتُه مواضِعَه ولو مالكَ منه شيء لأتيتُكَ به.(1/183)
قال: فما جئتنا بشيء؟ قال: لا، قال: جَدِّدُوا لعُمير عَهْدًا، قال: إن ذلك شيءٌ لا أعملهُ لك ولا لأحدٍ بعدك، والله ما سَلمتُ بَلْ لم أسْلَم، لقدْ قلتُ لنصراني أخزاك الله، فهذا ما عرَّضْتَني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خُلفْتُ معك.
ثم استأذنه فأذن له فرجع إلى منزله وبينه وبين المدينة أميال، فقال عمر حين انصرف عمير: ما أراه إلا قد خاننا.
فبعث رجلاً يقال له الحارث، وأعطاه مائة دينار، وقال: انطلق إلى عمير حتى تنزل به كأنَّك ضيْف فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالاً شديدًا فادفع إليه هذه المائة الدينار.
فانطلق الحارث فإذا هو عمير جالس يفلي بقميصه إلى جنب الحائط، فقال له عمير: انزل رحمك الله، فنزل ثم سألهُ، فقال: مِن أين جئت؟ فقال: من المدينة.
فقال: كيف تركت أمير المؤمنين؟ فقال: صالحًا، قال: فكيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: أليْسَ يُقيم الحدود؟
قال: بلى ضرب ابنًا له على فاحشة فمات من ضربه، فقال عمير: اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلا شديدًا حبُّه لك.
قال: فنزل به ثلاثة أيام وليس لهم إلا قُرصةٌ من شعير كانوا يخُصُّونهُ بها ويطوون حتى أتاهُم الجَهْدُ، فقال له عُميرُ: إنكَ قَدْ أجعتنا فإنْ رأيْتَ أن تتحَّول عنَّا فافْعَلْ.
قال: فأخرج الدَّنانير فدفعها إليه، فقال: بعثَ بها أميرُ المؤمنين فاستعن ها، قال: فصاح، وقال: لا حاجة لي فيها فرُدَّهَا.
فقالت لهُ امرأته: إن احتجت إليها وإلا فضعها في مواضعها.
فقال عمير: والله ما لي شيءٌ أجعلُها فيه، فشقَّت المرأةُ أسفل درعها فأعطتهُ خرقةً فجعلها فيها، ثم خرج فقسَّمهَا بين أبناءِ الشُهداء والفُقراء.
ثم رجع والرسولُ يظنُ أنهُّ يُعطيه منها شيئًا، فقال له عمير: أقرئ مني أمير المؤمنين السلام.
فرجع الحارث إلى عُمر، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين، حالاً شديدًا، قال: فما صنع بالدنانير؟ قال: لا أدري.(1/184)
قال: فكتب إليه عُمَرُ: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تُقبل.
فأقبل إلى عُمر، فدخل عليه، فقال له عمر: ما صنعتَ بالدنانير؟ قال: صنعتُ ما صنعت، وما سؤالك عنها؟ قال: أنشدُ عليك لتُخبرني ما صنعت بها.
قال: قدّمتُها لنفسي، قال: رحمك الله، فأمر له بوسقٍ من طعام وثوبين، فقال: أما الطعامُ فلا حاجة لي فيه قد تركت في المنزل صاعين من شعير.
إلى أن آكل ذلك قد جاء الله بالرزق ولم يأخُذ الطَّعام وأما الثَّوبان فإنَّ أمَّ فلان عارية، فأخذهُمَا ورجعَ إلى منزله.
فلم يلبث أن هلك ـ رحمه الله ـ فبلغ ذلك عمر فشق عليه وترحم عليه وخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقَد.
فقال لأصحابه: ليتمنّ كل رجل منكم أمنية، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، وددت أن عندي مالاً فأعتق لوجه الله كذا وكذا.
وقال آخر: وددت أن عندي مالاً فأنفق في سبيل الله.
وقال آخر: وددت أن لي قوة فأميح بدلو زمزم لحجاج بيت الله.
فقال عمر بن الخطاب: وددت أن لي رجلاً مِثْلَ عمير بن سعدٍ أستعينُ به في أعمال المسلمين ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ .
ألا رُبَّ ذِي طِمْرَيْن أشْعَثَ أغْبَرا
مُطِيْعٌ يَخَافُ الله في كُلِّ أمِرهِ
وَلَوْ أقْسَمَنْ يَوْمًا عليه أبَرَّهُ ... يُدَافَعُ بالأبْوَابِ إذْ ظَلَّ مُعْسِرًا
يَكَادُ مِن الأحْزَان أنْ يَتَفَطَّرا
وكان حَريًا أن يُجَابَ ويُجْبَرَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عن ابن قمادين قال: لم يكن أحد من كُبراء قريش الذين تأخر إسلامهم، فأسلموا يوم فتح مكة، أكثر صلاةً ولا صومًا ولا صدقةً، ولا أقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة من سهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شحُبَ لونه، وكان كثير البكاء رقيقًا عند قراءة القرآن.(1/185)
لقد رُئي يختلفُ إلى مُعاذ بن جبل حتى يُقرئهُ القرآن وهو بمكة، حتى خرج مُعاذُ من مكة، فقال له ضرارُ بنُ الخطاب: يا أبا يزيد، تختلفُ إلى هذا الخزرجي يُقرئُك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجُلٍ من قومِكَ مِن قريش؟
فقال: يا ضرار هذا الذي صنع بنا ما صَنَع (يشير إلى الكبر والعجب) حتى سبقنا كلَّ السَبْق.
أيْ لعمري اختلفُ [إليه] لقد وضعَ الإسلامُ أمرَ الجاهلية ورفعَ الله بالإسلام قومًا كانوا لا يُذكرون في الجاهلية فليتنا كنَّا مَعَ أولئك فتقدَّمْنَا.
وعن الحسن قال: حَضر باب عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُهيلُ بن عمرو، و الحارثُ وبلال، وتلك الموالي الذين شهدوا بدرًا، فخرج آذن عمر، فأذن لهم وترك هؤلاء.
فقال أبو سُفيان: لم أر كاليوم قط، يأذنُ لهؤلاء العبيد ونحنُ على بابه لا يلتفتْ إلينا؟
فقال سهيل بنُ عمرو: وكان رجُلاً عاقلاً، أيها القوم إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم، إن كُنتُم غضابًا فاغضبُوا على أنفسكم.
دُعي القومُ ودُعيتُم فأسْرعُوا وأبطأتُم، فكيف بكم إذا دُعُوا يوم القيامة وتُركتُم؟
أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل ممَّا لا ترون أشدُّ عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي كنتم تنافسونهم عليه، قال: ونفضَ ثوبهُ وانطلق.
قال الحسن: وصدق والله سهيل، لا يجعل الله عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
وعن أبي قدامة السرخسي قال: قام العمري للخليفة على الطريق، فقال له: فعلتَ وفعلتَ، فقال له: ماذا تريد؟ قال: تعملُ بكذا وتعمل بكذا، فقال له هارون: نعمْ يا عمّ، نعم يا عمّ.
وعن سعيد بن سليمان قال: كنت بمكة في زقاق الشطوى وإلى جنبي عبدالله بن عبدالعزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد.(1/186)
فقال له إنسان: يا أبا عبدالرحمن هو ذا أمير المؤمنين يسعى قد أخلى له المسعى، قال العمري للرجل: لا جزا ك الله عني خيرًا، كلفتني أمرًا كنت عنه غنيًا، ثم تعلَّق نعليه (أي لبسهما).
وقام فتبعته وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح به: يا هارون، فلما نظر إليه، قال: لبيكَ يا عمّ، قال: ارْقَ الصّفا، فلما رقيه، قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال: قد فعلتُ، قال: كم هُم؟ قال: ومن يُحصيهم؟ قال: فكم في الناس مِثْلُهُم؟ قال: خلقٌ لا يُحصيهم إلا الله.
قال: اعلم أيُها الرجل أنَّ كُلَّ واحدٍ منهم يُسألُ عن خاصَّة نفسه وأنت وحدك تسألُ عنهم كلّهم فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلسَ وجعلُوا يُعطُونه مِنديلاً منديلاً للدموع.
قال العُمري: وأخرى أقولها، قال: قُلْ يا عَم، قال: والله إن الرجل ليُسْرفُ في ماله فيستحقُّ الحَجْرَ عليه، فكيف بمن يُسْرِفُ في مال المسلمين؟ ثم مضى وهارون يبكي.
قال محمد بن خلف: سمعتُ محمد بن عبدالرحمن يقول: بلغني أن هارون الرشيد قال: إني لأحبّ أن أحجّ كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولدِ عمر ثم يُسمعني ما أكره.
وقد روي لنا من طريق آخر أنه لقيهُ في المسعى فأخذ بلجام دابتّه فأهْوت إليه الأجناد فكفّهم عنه الرشيد فكلمه فإذا دموع الرشيد تسيل على معرفة دابتّه.
ثم انصرف، وأنه لقيه مرّةً، فقال: يا هارون، فعلتَ وفعلتَ، فجعل يسمعُ منه، ويقول: مقبولٌ منك يا عم على الرأس والعين.
فقال: يا أمير المؤمنين من حال الناس كيتَ وكيتَ، فقال: عن غير علمي وأمري وخرج العمري إلى الرشيد مرّة ليعظه فلما نزل الكوفة زحف العسكر حتى لو كان نزل بهم مائة ألف من العدوّ ما زادوا على هيبته، ثم رجع ولم يصلْ إليه.(1/187)
وعن أبي يحيى الزهري، قال: قال عبدالله بن عبدالعزيز العُمري عند موته: بنعمة ربي أحدّث أني لم أصبح أملك إلا سبعة دراهم مِن لحاء شجرٍ فتلته بيدي، وبنعمة ربي أحدّث: لو أن الدُّنيا أصبحت تحت قدمي ما يمنعني أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها، ما أزلتها.
استسقى مُوسى بن نُصير في الناس في سنة 93 حين أقحطُوا بإفريقية فأمرهم بصيام ثلاثة أيام، ثم خرج بهم ومَيَّز أهل الذمة عن المسلمين وفَرَّقَ بينَ البهائِم وأولادها ثم أمَرَ بالبُكاء وارْتفَاع الضَّجِيْجِ وهو يَدْعُو الله تعالى حتى انتصفَ النهار، ثم نزَل، فقيْل لَه: ألا دعوتَ لأمير المؤمنين؟ فقال: هذا موطنٌ لا يذكَر فيه إلا الله عزَّ وجل فسقاهُم الله عزَّ وجل لما قال ذلك.
كتب زر بن حُبيش إلى عبدالملك بن مروان كتابًا يعظُهُ فيه فكان في آخر: ولا يُطْمِعَكَ يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يَظْهَرُ من صحة بدنك فأنت أعلى بنفسك واذكرْ ما تكلَّم به الأولون.
إذَا الرجَالُ وَلَدَتْ أوْلادُهَا
وَجَعَلَتْ أسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... وبليت مِن كِبَر أجْسَادُهَا
فذِي زُوْعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فلما قرأ عبدالملك الكتب بكى حتى بلَّ طرف ثوبه بدموعه، ثم قال: صدق زرٌ ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق بنا.
آخر:
إذَا رَأيْتَ بُرُوْقَ الشَّيْبِ قَدْ بَسَمَتْ
يَلْقَى المَشِيْبَ بإجْلالٍ وتَكْرِمةٍ ... بِمَفْرق فَمُحَيَّا العَيْشِ قَدْ كَلَحَا
مَنْ قَدْ أعَدَّ مِن الأعمالِ ما صَلحُا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
وعن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني، فخرجت مسرعًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: ويحك قدْ حَاكَ في نفسي شيء، فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة.(1/188)
فقال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله.
فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، فقال: أبا عباس اقض دينه، فلما خرجنا، قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا، انظر لي رجلاً أسأله.
فقلت له: هاهنا عبدالرزاق بن همام، قال: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعًا، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك، قال: خذ لما جئناك له.
فحادثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا عباس، اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئًا انظر لي رجلاً أسأله.
قلت: هاهنا الفُضَيْلُ بن عياض، قال: امض بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة! أليس قد روى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس للمؤمن أن يُذل نفسه» فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كفَّ هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل.
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبدالله، ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتُليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ، فعدَّ الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبدالله: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فصُم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت.(1/189)
وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبًا وأوسطهم أخًا وأصغرهم عندك ولدًا فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله عز وجل فأحبَّ للمسلمين ما تُحبّ لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مُت إذا شئت.
وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشدّ الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟
فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غُشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابنْ أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفُق به أنا ثم أفاق، فقال له: زدْني رحمك الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبدالعزيز شكا إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي، أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن يُنصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء.
قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبدالعزيز، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية أبدًا حتى ألقى الله عز وجل.
قال: فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أمرني على إمارة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل».
فبكى هارون بكاء شديدًا، وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حَسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتُمسي وفي قلبك غشٌ لأحد من رعيتك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصبح لهم غاشًا لم يرحْ رائحة الجنة».(1/190)
فبكى هارون، وقال له: عليك دَيْن؟ قال: نعم دَين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني ديْن العباد.
قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحّده وأطيع أمره، فقال عزّ وجل: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } .
فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنه أدُلُّكَ على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك.
ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما ضربا على الباب، قال هارون: أبا عباس إذا دَلَلْتَني على رجل فدُلّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه، فقال: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قومٍ كان لهم بعير يأكلون من كسْبه فلما كبرِ نْحَروه فأكلُوا لحمه.
فلمَا سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء، فقالت: يا هذا قد أتعبت الشيخَ منذ الليلة فانصرف رحمك الله، فانصرف، تأمل يا أخي، هل يُوجَد في زَمَنِنِا مَن يَردُ حُطَامَ الدنيا إذا عُرضَ عليه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، بَلِّغْ يا أخي من يأكلون بالكتُب الدينية باسم تحقيق ونشرٍ، وقل لهم قال الله تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } .
اعْلَمْ بأنَّ طَريْقَ الحَق مُنْفَردٌ
لا يَطلبُونَ ولا تُطلَبْ مَسَاعِيهُم
والناسُ في غَفْلةٍ عَمَّا له قَصَدُوْا ... والسَّالِكُونَ طَرِيْقَ الحَق أفْرَادُ
فَهُمُ على مَهَل يمشوُنَ قُصَّادُ(1/191)
فَجُلُهُم عن طريقِ الحَقِّ رُقَّادُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
دخل سليمان بن عبدالملك المدينة فأقام بها ثلاثًا، فقال: أما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا؟ فقيل له: هاهنا رجل، يقال له: أبو حازم، فبعث إليه فجاء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ فقال له أبو حازم: وأيُ جفاءٍ رأيت مني؟ فقال له: أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني.
فقال: ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها، قال: صدق الشيخ يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت.
يا أبا حازم، فكيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحًا مسرورًا، وأما المسيء فكالأبق يقدم على مولاه خائفًا محزونًا.
فبكى سليمان، وقال: ليت شعريّ ما لنا عند الله يا أبا حازم، فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله.
قال: يا أبا حازم، وأني أصيب تلك المعرفة من كتاب الله، قال: عند قوله تعالى: { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } .
قال: يا أبا حازم، فأين رحمة الله، قال: قريب من المحسنين.
قال: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قال: مَن تعلم الحكمة وعلمها الناس.
قال: فمن أحمق الناس؟ قال: من حط نفسه في هوى رجل وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره.
قال: فما أسمع الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين، قال: فما أزكا الصدقة؟ قال: جهد المقل.
قال: يا أبا حاتم ما تقول فيما نحن فيه، قال: أعفني من هذا، قال سليمان: نصيحة تلقيها.
قال أبو حازم: إن ناسًا أخذوا هذا الأمر عنوة مِن غير مشاورة المسلمين ولا إجماع من رأيهم فسفكوا فيها الدماء على طلب الدُنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم.
فقال بعض جلسائهم: بئس ما قلتَ يا شيخ.(1/192)
فقال أبو حازم: كذبْتَ إن الله أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
قال سليمان: يا أبا حازم، أصبحنا تُصيبُ منا ونصيبُ منكَ، قال: أعوذ بالله من ذلك، قال: ولِمَ؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئًا قليلاً فَيُذيقني الله ضعفَ الحياة وضعفَ المماتِ.
قال: فأشرْ عليَّ، قال: اتق الله أن يراك حيثُ نهاك أو يفقدك حيثُ أمرك.
قال: يا أبا حازم، ادع لنا بخير، فقال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره للخير وإن كان غير ذلك فخُذْ إلى الخير بناصيته.
فقال: يا غلام هات مائة دينار، ثم قال: خُذْ هذا يا أبا حازم، قال: لا حاجة لي بها لي ولغيري في هذا المال أسوة فإن واسيت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون لما سمعتَ مِن كلامي أيْ ثمنًا له.
فكأن سليمان أعجبَ بأبي حازم، فقال الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته قط.
فقال أبو حازم: إنك نسيتَ الله فنسيتني، قال الزهري: أتشْتُمني؟
قال سليمان: بل أنْت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقًا.
قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء.
فلما رأى قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأوتوا به الأمراء استغنت الأمراء عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطُوا وهلكوا.
ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم لكانت الأمراء تهابهم وتعظمهم، فقال الزهري: كأنك إيَّايَّ تريد وبي تعرض، قال: هو ما تسمع. اهـ.
أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء، فقال له: إني لا أحسن القضاء ولَسْتُ بفقيه.
قال الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف، والشرف يمنع صاحبه من الدناءة، وفيك حلم يمنعك من العجلة، ومن لم يعجل قل خطؤه، وأنت تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فنظُمُ إليك من تتفقهُ عليه فولاه فما وجد فيه مطْعنًا.(1/193)
دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبدالعزيز، فقال له: عِظْنِي يا يزيد، قال: اعلم يا أمير المؤمنين، أنك أول خليفة تموت، فبكى عمر، ثم قال: زدني يا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين، ليس بينك وبين آدم إلا أبٌ مَيِّت فبكى عمر، وقال: زدني يا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين، ليس بين الجنة والنار منزلة، فسقط عمر مغشيًا عليه ـ رحمه الله ـ.
وقال الرشيد لابن السماك: عظني وكان في يد الرشيد شربة من ماء، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيْتَ لو حُبستْ عَنْكَ هذه الشَّرْبَةَ أكُنْتَ تفديها بملكك؟ قال: نعم، قال: فلو حُبِسَ عَنْكَ خُروجُهَا أكُنْتَ تَفْدِيها بمُلْكِكَ؟ قال: نعم.
قال: لا خير في ملك لا يُساوي شربةَ ماء ولا بَوْلَةَ، فبكى الرشيد.
وقال علي - رضي الله عنه - لأسْقُفٍ قد أسلم: عِظني، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان الله معك فمن تخاف، قال: أحسنت زدني.
قال: هب إن الله غفر ذنوب المسيئين أليس قد فاتهم ثواب المحسنين، قال: حسبي حسبي.
وقال سليمان بن عبدالملك لحميد الطويل: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، إن كُنْتَ إذا عصيت الله تعالى ظننت أنه يراك فقد إجترأت على رب عظيم، وإن كننت تظن أنه لا يراك فقد كفرت برب كريم. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله» يعني دمعة مثل رأس الذباب.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى: { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ } ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ.(1/194)
قال شقيق البلخي لحاتم الأصم: قد صحبتني مدة فماذا تعلَّمْتَ مني؟ قال: ثمان مسائل:
الأولى: نظرت إلى الخلق فإذا كان لشخصٍ محبوبٌ، عندما يصل إلى القبر يفارقه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون معي في القبر.
والثانية: نظرت إلى قول الله تعالى: { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى } فاجتهدت في دفع الهوى عن نَفْسِي حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، فنظرت في قوله تعالى: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } فكلما وقع معي شيء له قيمة وجّهْتُه إليه ليبقى عنده.
وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، فنظرتُ إلى قول الله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون فنظرتُ في قول الله تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ } فتركتُ الحسد.
وأما السادسة: فإني رأيتهم يتعادون، فنظرت في قول الله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًا } فتركتُ عداوتهم واتخذتُ الشيطان عدوًا.
والسابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق، فنظرت في قول الله تعالى: { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } فاشتغلتُ بما له علي وتركت ما لي عنده.
وأما الثامنة: فإني رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم فتوكلتُ على الله تعالى.
فائدة
اعلم أن ذكر الله تارة يكون لعظمته فيتولد منه الهيبة فالإجلال، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن، وتارة لنعمته فيتولد منه الحمد والشكر؛ ولذلك قيل: ذكر النعمة شكرها، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر، فحق على المؤمن أن لا ينْفَكَّ أبدًا من ذكره على أحد هذه الأوجه.
سأل بعضهم وكيعًا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد، فقال: كان أول مَن دَعَا به أنا.(1/195)
فقال لي هارون: يا وكيع، إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وسَمُوْكَ لي فيمن سمَّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي.
فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير وإحدى عينيَّ ذاهبة والأخرى ضعيفة، فقال هارون: اللهم غفرًا خذ عهدك أيها الرجل وامض.
فقلت: يا أمير المؤمنين، والله لئن كُنْتُ صادقًا إنه لينبغي أن لا يُقبل مني ولئن كُنتُ كاذبًا فما ينبغي أن تولي القضاء كذَّابًا، فقال: اخرُج فخرجتُ.
ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برَكَ وما سمعناه يُسلم إلا سلامًا خفيًا.
فقال له هارون: أتدري لما دعوتُك؟ قال: لا، قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وإنهم سمُّوك لي فيمن سمَّوا.
وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلُك في صالح ما أدخُل فيه من أمر هذه الأمة فخذْ عهدكَ وامضِ.
فقال له ابن إدريس: وأنا وددتُ أني لم أكُنْ رأيتُك فخرج، ثم دخل حفصُ فقبل عهده، فأتى خادمٌ معه ثلاثةُ أكياس في كل كيس خمسةُ آلاف.
فقال: إن أمير المؤمنين يُقْرؤكَ السلامَ، ويقولُ لكم: قد لزمتكم في شخوصكم مؤُنةٌ فاستعينُوا بهذه في سفركم.
قال وكيعُ، فقلت: أقرئ أمير المؤمنين السلام، وقُل له قَدْ وقعتْ مني بحيث يحبُ أمير المؤمنين، وأنا مُستغن عنها.
وأما ابنُ إدريس فصاح به مُرَّ من هاهنا أي رُدَّهَا وقبلها حفصُ. لله در وكيع وابن إدريس من رقم (1) في «الزهد».
وخرجَت الرقعةُ إلى ابن إدريس من بيننا عافانا الله وإيَّاكَ سألناك لأن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل.
فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله.
فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله.,
قام صالح بن عبدالجليل بين يدي المهدي، فقال: إنه لما سُهِّل علينا ما توعَّرَ على غيرنا ن الوصول إليه، قُمنا مقام الأداء عنهم، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/196)
بإظهار ما في أعناقنا من فريضَةِ الأمر والنهي، عند انقطاع عُذْر الكتمان، ولاسيَّمَا حين اتسمت بميسم التَّواضع وَوَعَدْتَ الله وحَمَلّةَ كتابه بإيثار الحق على ما سواه.
فجمعنا وإيَّاك مشهدٌ من مشاهد التمحيص، ليتم مُؤدينا على موعود الأداء وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية.
وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه الله على الجهل وأشد منه من أقبل عليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علمًا فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها.
فاقْبَلْ مَا أهْدَى الله إليكَ من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل أو مواطئة على ما تعمل أو تذكير من غفلة.
فقد وطَّن الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - على نزولها تعزية عما فات وتمحيصًا من التمادي ودلالةً من المخرج، فقال جل وعلا: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } .
اطلع الله على قلبك ما يُنوِّرُهُ على إيثار الحق ومنابذة الأهواء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، خرج أحدُ الزهاد في يوم عيد في هيئة رثة، فقيل له: أتخرج في هذا اليوم في مثل هذه الهيئة والناس يتزينون، فقال له: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على أن أكون أملك لشيئك منك، فقال: لا، فقال إبراهيم: أعجبني صدقك، والله أعلم، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فصل
قام عمرو بن عبيد بين يدي المنصور، فقال له:ن إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها واذكر ليلةً تمخض عن يوم لا ليلة بعده.
فوحم أبو جعفر ن قوله، فقال له الربيع: يا عمرو، غَمَمْتَ أمير المؤمنين، فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه أن ينصحك يومًا واحدًا وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سُّنة نبيه.(1/197)
قال أبو جعفر: فما أصنع قد قلتُ لك: خاتمي في يدك فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: أدْعُنَا بعَدْ لِك تَسخُ أنْفُسُنَا بِعَونك.
ببابك ألف مظلمة أردُدْ منها شيئًا نعلم أنك صادق.
سُئل بعضهم: أيُّ شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس للنَّفْس فيه نصيب.
وقال آخر: أعز شيء في الدنيا الإخلاص (والإخلاص أن يكون العمل مقصودًا به وجه الله خال من الرياء وجميع المفسدات والمنقصات)، قلتُ: هذا يحتاج إلى تيقظٍ دائمٍ في كل الأعمال.
قال بعضهم: لستُ أستبشع ولا أستنكر ما يرد علي من الألم؛ لأني قد أصلتُ أصلاً وهو أن الدنيا دارُ همٍ وغمٍ وبلاءٍ وفتنةٍ وكدرٍ ومصائبٍ وأن كله شر، ولابد أن يلقى الإنسان بكل ما يكره وإن تلقاه بما يحب فهو فضل، وإلا فالأصل الأول وهو كثرة النكد والهموم والأحزان والأذى.
تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضرُ حتى الفْتُه
وَوَسَّعَ صَدْرِي للأذَى كَثْرةُ الأذَى ... وأسْلَمني طولُ البَلاءِ إلى الصَّبْرِ
وكان قَدِيمًا قد يَضِيْقُ به صَدْرِي
دخل ابن السماك على الرشيد، فقال له: اتق الله وحده لا شريك له واعلم أنك واقف بين يدي ربك ثم مُنْصَرفٌ إلى إحدى منزلتين لا ثالث لهما جنة أو نار.
فبكى الرشيد حتى خضل لحيته، فأقبل الفضل بن الربيع على ابن السماك، فقال: سبحان الله وهل يتخالج شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله لقيامه بحق الله وعدله في عباده.
قال: فلم يحفل ابن السماك بقوله ولم يلتفت إليه وأقبل على الرشيد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يعني الفضل بن الربيع ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، قلت: ولو كان عنده ومعه ماذا يفيد؛ لأن الحكم لله وحده.
فاتق الله وانظر لنفسك، فبكى هارون بكاءً شديدًا حتى أشفقوا وأفحم الفضل فلم يَنْطق بحرف.
كان يحيى بن يحيا النيسابوري يحضر مجلس مالك، فانكسر قلمه فناوله المأمون قلمًا من ذهبً فامتنعَ عن قبوله.(1/198)
فقال له المأمون: ما اسمُكَ؟ قال: يحيى بن يحيى النيسابُوري، فقال: تَعْرفُني؟ قال: نعم أنت المأمون ابنُ أمير المؤمنين، قال: فكتب المأمون على ظهر جزئه: ناولتُ يحيى بن يحيا النيسابوري قلمًا في مجلس مالك فلم يقبلهُ.
فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله بنيسابور وأمره أن يولي يحيى بن يحيى القضاء فبعث إليه يستدعيه.
فقال بعض الناس: إنه يمتنع من الحضور، فذهب إليه الرسول فأنفذ إليه كتاب المأمون فقرئ عليه فامتنع من القضاء، فردَّ إليه ثانيًا، وقال: إن أمير المؤمنين يأمرك بشيء وأنتَ تمتنع عليه؟ فقال: قُل لأمير المؤمنين ناولتني قلمًا وأنا شاب فلم أقبله فتجبرُني الآن على القضاء وأنا شيخ.
فرفع الخبر إلى المأمون، قال: قد علمتُ امتناعه ولكن نُولي القضاء رجلاً يختاره، فاختار رجُلاً فوُلي القضاء.
ودخل على يحيى فضم يحيى فراشًا كان جالسًا عليه كراهية أن يجمعه وإيَّاه، فقال: أيُّهُ الشيخ ألم تخترني؟
قال: إنما قلتُ اختاره وما قُلتُ لك تقلَّدَ القضاء.
عن محمد بن عبدالكريم المروزي، قال: لما ولي يحيى بن أكثم القضاء كتب إليه أخوه من مرُو وكان زاهدًا:
ولُقَمَةٌ بجَرِيش الملح تأكلها
وَأكلةٌ قَرَّبْتْ لِلْمَلْكِ صَاحِبَها ... ألذُّ مِن تمرة تُحْشَى بزُنْبُوْرِ
كحَبَّةِ الفَخِّ دَقَّتْ عُنْقَ عُصْفُوْر
قال ابن سيرين: كنا عند أبي عُبيدة بن أبي حذيفة في قبة له وبين يديه كانون فيه نار فجاءه رجل فجلس معه فساره بشيء لا ندري ما هو.
فقال له أبو عبيدة: ضع لي أصبعك في هذه النار، فقال: سبحان الله تأمرني أن أضع أصبعي، فقال أبو عبيدة: أتبخل علي بأصبع من أصابعك في نار الدنيا وتسألني أن أضع لك جسدي كله في نار جهنم، قال: فظننا أنه دعاه للقضاء.
بنى أحد الأغنياء دارًا وكان في جواره بيت لعجوز يساوي عشرين دينارًا وكان محتاجًا إليه لملاصقته لداره ليتوسَّع به، فبذل لها فيه مأتي دينار فلم تبعه.(1/199)
فقيل له: إن القاضي يحجر عليك بسفهك حيثُ تركتِ مأتي دينار لما يُساوي عشرين دينارًا، قالتْ: لِمَ لَمْ يَحْجُر القاضي على من يشتري بمأتين ما يساوي عشرين دينارًا.
فأفحَمَت القاضي ومن معه جميعًا وترك البيتَ في يدها حتى ماتت.
كان رجل مُتَعَبدٌ بالبصرة فعُرض عليه القضاء فتولاه، فلقيه الجنيد يومًا، فقال: من أراد أن يستودع سرًا لِمَنْ لا يفشيه فعليه بفلان وسمَّاه، فإنه كتم حُبَّ الدنيا أربعين سنة حتى قدر عليه.
قال رجل لداود الطائي: أوصني، فدمعت عيناه، وقال: يا أخي، إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة بعد مرحلة، حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تُقدِّمَ كُلَّ يوم زادًا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجلُ من ذلك، فتزود لنفسك واقض ما أنت قاض، فكأنك بالأمر قد بغتكَ، إني لأقول لك هذا، وما أعلم أحدًا أشدَّ تقصيرًا مني!! ثم قام وتركه.
يا لاهيًا بالمنايا غَرَّةُ الأملُ
تبغي اللُحُوقَ بلا زادٍ تُقَدِّمُهُ
لا تركننَّ إلى الدنيا وزُخرفها
أصْبَحتَ تَرجُو غدًا يأتي وبعدَ غدٍ
هذا شَبابُك قَدْ ولَّتْ بشاشتُه
ماذا التعلُّلُ بالدنيا وقد نَشَرَتْ ... وأنْتَ عَمَّا قَليلٍ سَوفَ تَرْتَحِلُ
إن المخفِّينَ لما شَمَّرُوا وَصَلُوا
فأنْتَ مِن عاجلِ الدنيا سَتَنْتَقلُ
ورُبَّ ذِي أملٍ قَدْ خَانَه الأمَلُ
ما بَعْدَ شَيْبك لا لهَوٌ ولا جَذَلُ
لأهْلِهَا صِحَّةً في طيّها عِلَلُ
كان محمد بن السَّمَّاك يقول: يا ابن آدم، أنت في حبس منذ كنت، أنت محبوس في الصُّلْب، ثم في البطن، ثم في القمّاط، ثم في المكتب، ثم تصير محبوسًا، في الكدِّ على العيال، فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت، لا تكون في حَبْس أيضًا!
وكان أبو حازم يقول: اضمنوا لي اثنين، أضمن لكم الجنة: عملاً بما تكرهون إذا أحبه الله، وتركًا لما تحبون إذا كرهه الله.(1/200)
وقال: انظر كلَّ عمل كرهت الموت لأجله فاتركه، ولا يضرك متى مِتَّ. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قيل: إن رجلاً نادى المأمون باسمه فغضب المأمُونُ، وقال له: أتدعُوني باسمي، فقال: نحنُ ندعُوا الله جل جلاله باسمه، فسكت المأمون، وقضى حاجة الرجل وأنعم عليه.
حكي أن المأمون كان يجلس للمظالم يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلس نظره و الشمسُ قد زالت، فتلقته امرأةٌ في ثياب رثةٍ، وقالت:
يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْدَى لَهُ الرَّشَدُ
تَشْكُو غليه حَفِيْدَ المُلْكِ أرْمَلَةٌ
فابْتَزَّ مِنها ضَياعًا بَعْدَ مِنْعَتِهَا ... ويَا إمامًا بِهِ قَدْ أشَرْقَ البَلَدُ
عَدَا عَلَيهَا فما تَقْوَى بِهِ أسَدُ
لَمَّا تَفَرَّقَ عَنها الأهْلُ والولَدُ
فأطرق المأمون مُفكرًا في مقالتها ثم رفع رأسه، وقال مجيبًا لها:
مِن دُوْنِ ما قُلْتِ عِيْلَ الصبْرُ والجَلَدُ
هذا أوانُ صلاةِ الظهرِ فانْصَرِفي
المجلسُ السبتُ إن يُقْضَى الجُلوسُ لَنَا ... وأقْرَحَ القلبَ هَذا الحُزْنُ والكَمَدُ
وأحْضِرِي الخَصْمَ في اليَومِ الذِي أعِدُ
أنْصِفْكِ منه وإلَّا المجْلِسُ الأحَدُ
فانصرفت وحضرت يوم الأحد أوَّل الناس، فوقفت في مجلس المتظلمين، فقال لها المأمون: من خَصمُك؟ فقالت: القائمُ على رأسك العباسُ بنُ أمير المؤمنين، فقال: المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم: أجلسها معه، وانظر بينهما، فأجلستْ معه والمأمون ينظر إليها فجعل كلامها يعلُو، فزجرها بعضُ الحُجَّاب، فقال المأمون: دعْهَا فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه، وأمر بردِّ ضياعها إليه، ففعل المأمون في النظر بينهُما ما يلزم.
وردَّ النظر بمحضر منه إلى من كفاه محاورة المرأة في استيضاح الدعوى والحُجة، وباشر بنفسه تنفيذَ الحُكمِ، وإلزام ابنه الحقَ وسلوكَ المحجَّة.
قال المأمون لابن إدريس: يا عم، إلى جانب مسجدك دار إن أذنت لنا اشتريناها ووسعنا بها المسجد.(1/201)
فقال: ما لي إلى هذا حاجة قد أجزأ من كان قبلي وهو يجزوني، فنظر إلى قرحةٍ في ذراع الشيخ، فقال: إنَّ معنا مُتطببين وأودية، أتأذن أن يجيئك من يُعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ.
فأمر له بمال، فأبى أن يقبله، تأمل يا أخي، هل يوجد مثل هذا في عصرنا ما أظن يوجد ولا رقم ثلاثة، ولمَّا نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته، فقال: لا تبكي فقد ختمتُ القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
بلغ يا أخي من ضاعت أعمارهم فرطًا عند التلفاز والمذياع والكورة والجرائد والمجلات والورق والملاهي، والقيل والقال.
قال عبدالأعلى بن حماد أحد رجال الحديث: دخلتُ على بشر بن منصور وهو في الموت، فرأيته مُسْتَبْشرًا، فقلت: ما هذا السرور؟ قال: أخرُجُ من بين الحاسدين والباغين والمغتابين، وأقدَمُ على رب العالمين ولا أفرح.
قيل لبعض الصالحين وهو يجودُ بنفسه: كيف تجدك؟ وكيف حالُك؟ فقال: كيف حالُ من يريدُ سفرًا بعيدًا بلا زاد، ويدخل قبرًا موحشًا بلا مُؤنس، وينطلق إلى رب ملك عادلٍ بلا حُجَّة!!
وكَيْفَ تَنامُ العَينُ وهْيَ قَرِيرةٌ ... ولَمْ تَدْرِ في أَيِّ المكَانَيْنِ تَنْزِلُ
موعظة
قال الله جل وعلا: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول، والمعنى: تَدَبُّرُوْا.
إخواني، الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا؟ أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا؟ أين من ذكرناه بالمحاسن ووصفنا؟ ما نعرفهم لو عنهم كشفنا ما ينطقون لو سألناهُم والحفنا.
وسنصيرُ كما صاروا فليتنا أنفصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا؟ كم ذكرتنا مصارعُ من فنى من يفنى؟ كم عزيز أحببنا دفناهُ وانصرفنا؟ كم مُؤنسٍ أضجعناهُ في اللحد وما وقفنا؟ كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا؟(1/202)
ما لنا نتحقَّقُ الحقَّ فإذا أيقنَّا صدفنا، أما ضرَّ أهلهُ التسويف، وها نحن قد سوَّفْنا، أما التُرابُ مصيرنا فلماذا منه أنفنا، إلام تغرُّنا السلامة وكأن قد تلفنا.
أين حبيبنا الذي كان وانتقل؟ أما غمسهُ التلفُ في بحره وارتحلْ أما خلا في لحده بالعمل، أين من جرَّ ذيل الخيلاء غافلاً ورفل أما سافر عنا وإلى الآن ما قفلْ.
أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأن بالدار ما كان، وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا الكنوز العُتاة الأول، ملك الأموال سواهُم والدنيا دُول.
عَجَبًا لِعَيني كَيْفَ يَطْرقُها الكَرى
ألْهُوْ وأعلَمُ أنُّهُ قَدْ فُوِّقَتْ
وإذا هَمَمْتُ بتَوبَةٍ وإنَابَةٍ
كم قد سَمِعْتُ وقَدْ رأيتُ مَوَاعِظًا
أيْنَ الذين طَغَوْا وجَارُوا واعتَدَوْا
أوَ لَيْسَ أعْطَتْهُمْ مَقَالِيد العُلا
وتمسَكُوا بحِبَالها لكِنّهَا
ما أخْلَدَتْهم بَعدَ سالِفِ رِفْعَةٍ
وإلى البلَى قد نُقِّلُوا وتَشَوَّهَتْ
لَوْ أخْبَروْكَ بحالهم ومَآلهِم
أفْنَاهُم مَن لَيْسَ يَفْنى مُلْكثهُ
فاصْرِفْ عن الدنيا طِماعَكَ إنما
وصِلِ السُّرَى عنها فما يُنْجِيْكَ مِنْ ... ولِحْيلَتي وقد انْجلَى عنِّي المِرَا
نَحْوي سِهامُ الحْتَفِ أمْ حَيْني كَرَى
عَرضَتْ ليّ الدُنيا فعُدْتُ القَهْقَرَي
لَوْ كُنْتُ أعقلُ حِينَ أسْمَعُ أوْ أرَى
وعَتْوا وطَالُوا واسْتَخفُّوا بالوَرَى
حتى لقد خَضَعَتْ لهم أسْدُ الشَّرَى
فَصَمَتْ لهم منها وثيقات العُرَى
بل أنْزَلَتْهُم مِن شَمارِيْخِ الذُّرَى
تِلْكَ المحاسنُ تَحتَ أطَباقِ الثَّرى
أبْكاكَ دَهْرَكَ ما عليهم قَدْ جَرَى
ذُو البَطْشة الكُبْرَى إذا أخَذَ القُرَى
مِيْعَادُهَا أبَدًا حَدِيْثٌ يُفتَرى
آفاتِها إلا مُواصَلةُ السُّرَى(1/203)
قال يحيى بن أكثم: كان للمأمون وهو أمير إذ ذاك مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة.
فلما تقوض المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال: أسلم حتى أفعل بك وأصنع ووعده، فقال: ديني ودين آبائي، وانصرف.
قال: فلما كان بعد سنة جاء مُسلمًا فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام فلما تقوض المجلس دعاه المأمون، وقال: ألستَ صاحِبَنا بالأمس؟ قال: بلى، قال: فما كان سببُ إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسنُ الخط، فعمدتُ إلى التوراة، فكتبتُ ثلاث نُسخ، فزدتُ فيها ونقصتُ وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، المعنى: ما بارتْ تصرَّفت وطافت ما حُقِّقَ فيها.
وعمدتُ إلى الإنجيل، فكتبتُ ثلاثَ نسخ فزدتُ فيها ونقصتُ وأدخلتُها البيعة فاشتريت مني أي كالتوراة.
وعمدتُ إلى القرآن، فعملتُ ثلاثَ نسخ وزِدْتُ فيها ونقَصَتُ وأدخلتُها الورَّاقين فتصفحُوها.
فلما وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها، فعلمتُ أن هذا كتابٌ محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم، فحججتُ تلك السنة، فلقيت سُفيان بن عُيينة، فذكرت له الخبر، فقال لي: مصداقُ هذا في كتاب الله، قال: قلتُ: في أي موضع؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ } فجعل حفظهُ إليهم، فضاع، وقال عز وجل: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فحفظه الله جل وعلا علينا فلم يَضع. اهـ.
قلتُ: ومن الأدلة أيضًا قوله تعالى: { لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } .(1/204)
قيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن من جهل شيئًا عاداه؟ قال: نعم في موضعين: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ } ، وقوله: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } .
قال عثما ن بن مرة الخولاني: لما ابتدأ الوليد ببناء مسجد دمشق وجد في حائط المسجد لوحًا من حجارة فيه كتابة باليونانية، فعرضه على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته.
فوجه به إلى وَهْب بن مُنبه، فقال: مكتوب في أيام سليمان ابن داود –عليهما وعلى نبينا السلام-، فقرأه، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت م ا بقي من يسير أجلك لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصَّرت عن رغبتك وحيلك، وإنما تلقى ندمك إذا زلتْ بك قدمك وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرْتَ تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد ولا في عملك زائد، فاغتنم الحياة قبل الموت والقوة قبل الفوت، وقبل أن يُؤخذ منك بالكظم ويحال بينك وبين العمل» وكُتبَ زمَنَ سليمان بن داود.
فأمر الوليد أن يكتب بالذهب على الأزورد في حائط المسجد: ربنا الله لا نعبد إلا الله، أمر ببناء هذا المسجد وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبدالله الوليد أمير المؤمنين، في ذي الحجة سنة سبع وثمانين، وهذا الكلام مكتوب بالذهب في مسجد دمشق إلى وقتنا هذا وهو سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ورد كتاب علي بن الجهم: أن أمير المؤمنين –يعني المتوكل- قد وجّه إليك يعقوب المعروف بصُرَّةٍ، ومعه جائزة ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفى أو ترد المال، فيتسع القولُ لمن يُبغضك.
فلما كان من الغد ورد يعقوب فدخل عليه، فقال: يا أبا عبدالله، أمير المؤمنين يُرئك السلام، ويقول: قد أحببتُ أن آنسَ بُقربك وأن أتبرك بدعائك، وقد وجّهتُ إليك عشرة آلاف درهم معونةً على سفرك.(1/205)
أخرج صُرّةً فيها بدرة نحو مائتي دينار والباقي صحاح، فلم ينظر إليها ثم شدّها يعقوب، وقال له: أعودُ غدًا حتى أبصر ما تعزم عليه وانصرف.
فجئت بإجّانة خضراء فكببتُها على البدْرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح، خذ هذا صيّرة عندك، فصيرّتها عند رأسي فوق البيت، فلما كان سحرًا إذا هو ينادي: يا صالح، فقمتُ فصعدتُ إليه، فقال: ما نمت ليلتي هذه.
فقلت: لِمَ يا أبتِ؟ فجعل يبكي، وقال: سلمتُ من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بُليت بهم، قد عزمت على أن أفرّق هذا الشيء إذا أصبحتُ.
فقلت: ذاك إليك، فلما أصبح، قال: جئني يا صالح بميزان، وقال: وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار، ثم قال: وجه إلى فلان يفرق في ناحية، وإلى فلان فلم يزل حتى فرّقا كلها ونفضت الكيس، ونحن في حالة الله تعالى بها عليم.
فجاء بُني لي، فقال: يا أبت أعطني درهمًا، فنظر إليّ فأخرجت قطعة فأعطيته وكتب صاحب البريد: إنه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدّق بالكيس.
قال علي بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال؟ وإنما قُوتُه رغيف، فقال لي: صدقت يا عليّ.
عن محمد بن موسى بن حماد الزيدي، قال: حملَ الحسن بن عبدالعزيز الحروي من ميراثه من مصر مائة ألف دينار، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألفُ دينار، فقال: يا أبا عبدالله هذه ميراث حلالٌ فخذها فاستعنْ بها على عائلتك.
وعن إسحاق بن راهويه، قال: لما خرج أحمد بن حنبل إلى عبدالرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين، إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه فعرضوا عليه المواساة فلم يقْبَل مِن أحد شيئًا.(1/206)
وعن الرمادي، قال: سمعتُ عبدالرزاق –وذكر أحمد بن حنبل فدمعتْ عيناهُ-، فقال: بلغني أن نفقته نفدت فأخذتُ عشرةَ دنانير وأقمتُه خلف الباب، وما معي ومعه أحدٌ، وقُلتُ: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير وقد وجدتُ الساعة عند النساء عشرة دنانير، فخذها فأرجُو ألا تنفقها حتى يتهيأ عندنا شيء، فتَبسَّمَ وقال لي: يا أبا بكر، لو قبلتُ شيئًا من الناس قبلتُ منك.
وعن صالح بن أحمد بن حنبل، قال: دخلتُ على أبي في أيام الواثق والله يعلم في أي حالة نحنُ وخرج لصلاة العصر، وكان له جلد يجلسُ عليه، قد أتت عليه سنون كثيرةٌ حتى قد بلى فإذا تحته كتاب فيه: «بلغني يا أبا عبدالله ما أنت فيه من الضيق، وما عليك من الدين، وقد وجهتُ إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي بها دينك وتُوسِّعْ بها على عيالك، وما هي مِن صدقةٍ ولا زكاةٍ، إنما هُو شيء ورثُته من أبي» .
فقرأت الكتاب ووضعته، فلما دخل، قلتُ له: يا أبت، ما هذا الكتاب؟ فاحمر وجهه، وقال: رفعتُه منك، ثم قال: تذهب بجوابه إلى الرجل، وكتب:
«بسم الله الرحمن الرحيم. وصَل كتابك إليّ ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يُرهقنا، وأما عيالنا فهم بنعمة الله والحمد لله».
قال صالح: وأمر المتوكل أن تُشترى لنا دار، فقال: يا صالح، لئن أقررت لهمن بشراء دار لتكوننّ القطيعةُ بيني وبينك فلم يزل يدفع شري الدار حتى اندفع.
وقال الشافعي لأحمد بن حنبل وهو يتردد إليه في جملة: من يأخذ عنه العلم ألا تقبل قضاء اليمن، فامتنع من ذلك امتناعًا شديدًا.
وذلك أن الرشيد قال للشافعي: إن اليمن يحتاج إلى قاضي.
وبالتالي قال أحمد - رضي الله عنه - للشافعي: إني أختلف إليك لأجل العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء ولولا العلم لم أكملك بعد اليوم، فاستحي الشافعي منه.
وروي أنه كان لا يصلي خلف عمه إسحاق ولا خلف بنيه ولا يكلمهم أيضًا؛ لأنهم أخذوا جائزة السلطان.(1/207)
ومكث مرةً ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله حتى بعث إلى بعض أصحابه فاستقرض منه دقيقًا فعرف أهلُه حاجته إلى الطعام فعجلوا، وعجنوا وخبزوا له سريعًا.
فقال: ما هذه العجلة كيف خبزتُم؟ فقالوا: وجدنا تنُور بيت صالح مسجورًا فخبزنا لك فيه، فقال: ارفعوا ولم يأكل وأمر بسد بابه إلى دار صالح؛ لأن صالح أخذ جائزة السلطان وهو المتوكل على الله.
وقال ابنه عبدالله: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يومنًا لم يأكل فيها إلا ربع مد سويق يفطر بعد كل ثلاث ليال على قبضة منه حتى رجع إلى بيته ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر. لله دره ما أورعه وأزهده، العفاف.
قال البيهقي: وقد كان الخليفة يَبْعث إليه المائدة فيها أشياء كثيرة من الأنواع، وكان أحمد لا يتناول منها شيئًا.
قال: وبعث المأمون مرة ذهبًا يقسم على أصحاب الحديث، فما بقي منهم أحد إلا أخذ إلا أحمد بن حنبل، فإنه أبى أن يأخذ.
قال المروزي: دخلت على أحمد بن حنبل، فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السُّنة، والمالكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسُه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يطالبه بقبض روحه، وعياله يطلبونه بنفقتهم. والله أعلم وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل(1/208)
حُجب رجلٌ عن باب السلطان فكتب إليه: «نحن نعوذُ بالله من المطاع الدَّنيَّة، والهمم القصيرة، وابتذال الحُريَّة، فإن نفسي ولله الحمد أبية ما سقطت وراء همَّةٍ، ولا خذلها صبرٌ عند نازلة، ولا استرقها طمعٌ ولا طبعت على هلع، وقد رأيتك وليت عرضك من لا يصُونه، ووصلت ببابك من يشينُه، وجعلت ترجُمان عقلك من يكثر من أعدائك ويتعدَّى أوليائك ويُسيء العبارة عنك، ويوجهُ وفدَ الذم إليك، ويُضغنُ قُلوب إخوانك عليك؛ لأنه لا يعرف لشريفٍ قدرًا، ولا لصديق منزلةً، ويُزيل المراتب عن جهل بها وبدرجاتها، فيحط العليَّ إلى مرتبة الوضيع، ويرفعُ الدَّنيَّ إلى مرتبة الرفيع، ويحتقر الضعيف لضعفه وتنبو عينه عن ذي البذاذة، ويميلُ إلى ذي اللباس والزينة ويُقدِمُ على الهوى ويقبلُ الرُشا».
لما مات جالينوس وُجد ي جيبه رقعة مكتوب فيها: «أحمق الحمقى من يملأ بطنه من كل ما يجد، وما أكلته فلجسمك، وما تصدقت به فلروحك، وما خلَّفْتَهُ فلغيرك، والمحسن حي وإن نقل إلى دار البلى، والمسيء ميت وإن بقي في الدنيا، والقناعة تستر الخلةَ، وبالصبر تدرك الأمور، وبالتدبير يكثر القليل، ولم أرى لابن آدم شيئًا أنفع له من التوكل على الله».
قيل لبعض العلماء: ما خير المكاسب؟ قال: خير مكاسب الدنيا طلب الحلال لزوال الحاجة، والأخذ منه للقوة على العبادة وتقديم فضله الزائد ليوم القيامة.
وأمَّا خير مكاسب الآخرة فعلمٌ معمول به نشرته، وعملٌ صالح قدمته، وسُّنةُ حسنةٌ أحييتهَا.
قيل: وما شر المكاسب؟ قال: أمَّا شر مكاسب الدنيا فحرام جمعته، وفي المعاصي أنفقته، ولمن لا يطيع ربه خَلَّفْتَه.
وأما شر مكاسب الآخرة: فحق أنكرته حسدًا، ومعصية قدمتها إصرارًا، وسُّنة سيئة أحييتها عُدوانًا.(1/209)
قيل: إنه ظهر إبليس –لعنه الله- لعيسى ـ عليه السلام ـ، فقال له: أفلست تقول؟ لن يصيبك إلا ما كتب الله عليك؟ قال: بلى، قال: فارم نفسك من ذروة هذا الجبل، فإذا قدَّرَ الله لك السلامة تسلم، فقال له: ملعون، إن الله تعالى يختبر عباده، وليس للعبد أن يختر ربه.
خير الرزق ما سلم من خمسة: من الإثم في الاكتساب، والمذلة والخضوع في السؤال، والغش في الصناعة، وأثمان آلات المعاصي، ومعاملة الظلمة.
جعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه الرغبة في الدنيا.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
قصة
روى ابن عساكر عن أبي الحسين النوري أنه اجتاز بزورق فيه خمر مع ملاح، فقال: ما هذا؟ ولمن هذا؟ فقال: هذه خمر للمعتضد، فصعد أبو الحسين إليها، فجعل يضرب الدنان بعمود في يده حتى كسرها كلها إلا دنا واحدًا تركه.
واستغاث الملاح فجاءت الشرطة، فأخذوا أبا الحسين، فأوقفوه بين يدي المعتضد.
فقال له: من أنت؟ فقال: المحتسب، فقال: ومن ولاك الحسبة؟ فقال: الذي ولاك الخلافة يا أمير المؤمنين، فأطرق رأسه ثم رفعها.
فقال: ما الذي حملك على ما فعلت؟ فقال: شفقةً عليك لدفع الضرر عنك، فأطرق رأسه ثم رفعها، فقال: ولأي شيء تركت منها دنًّا واحدًا لم تكسره؟ فقال: لأني إنما أقدمتُ عليها فكسرتها إجلالاً لله تعالى، فلم أبالي بأحدٍ حتى إذا انتهيت إلى هذا الدَّنِ دخل نَفْسِي إعجاب من قبيل أني قد أقدمتُ على مثلك فتركته.
فقال له المعتضد: اذهب فقد أطلقتُ يدك، فغيِّرْ ما أحببتَ أن تغيره من المنكر، فقال له النوري: الآن انتقض عزمي عن التغيير.
فقال: ولِمَ؟ فقال: لأني كُنتُ أغيرهن لله وأنا الآن تغيرت النية، فقال: سل حاجتك، فقال: أحُبُّ أن تخرجني من بين يديك سالمًا فأمر به فأخرج فصار إلى البصرة، فأقام بها مختفيًا خشية أن يشق عليه أحد في حاجة عند المعتضد، فلما توفي المعتضدُ رجع إلى بغداد.
قصة(1/210)
دخل المنصور يومًا إلى قصر الذهب، فقام الناس إلا فرجُ بنُ فضالة، فقال له وقد غضب عليه: لِمَ لَمْ تقم؟
قال: خفتُ أن يسألني الله عن ذلك ويسألك لم رَضِيْتَ بذلك، وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القيام للناس.
قال: فبكى المنصور وقربه وقضى حوائجه.
وقال الأصمعي: قال المنصور لرجل من أهل الشام: احمد الله يا أعرابي الذي دفع عنكُم الطاعون بولايتنا، فقال الأعرابي: إن الله أحكم الحاكمين لا يجمع علينا حشفًا وسُوء كَيل ولايتكم والطاعُون.
وقال: أتي برجل ليُعاقبه، فقال: يا أمير المؤمنين، الانتقام عدلٌ، والعفو فضْل، ونعوذْ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين، وأدنى القسمين دُونْ أرفع الدرجتين فعفا عنه.
وقال المنصور لابنه المهدي: إن الخليفة لا يُصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يُصلحُها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهُم على العُقوبة، وأنقصُ الناس عَقلاً من ظلم من هو دُونه.
وقال: يا بُني استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتأليف، والنَّصر بالتواضع والرحمة للناس، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.(1/211)
كتب سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن العزيز لمَّا ولي عُمر الخلافة: أما بعد يا عمر، فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام، فماتوا على ما قد رأيت ولقُوا الله فرُادًا بعد الجُموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزعَ الموت الذي كانوا منه يفرُون فانفقأت أعينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها واندفنت رقابُهم غير مُوسدين بعد لين الوسائد وتظاهر الفُرش والمرافق والسُرُر والخدم وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الأموال والأطعمة وصارُوا جيفًا بعد طيب الروائح العطرة حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممَّنْ كانوا يحقرُونَه وهم أحياء لتأذَّى بهم ولنفر منهم بعد إنفاق الأموال إلى أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة كانوا ينفقوا المال إسرافًا في أغراضهم وأهوائهم، ويُقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهُم يوم القيامة وهم محبوسُون بما عليهم وأنت غير محبوس ولا مُرتهنٌ بشيء، فافعل واستعنْ بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله سبحانه.
وما مَلكٌ عَمَّا قَليل بسَالمٍ
ومَن كان ذَا بَابٍ شَدِيْدٍ وحاجب
وما كان غَيرُ الموتِ حَتَّى تَفَرَّقَتْ
فأصْبَحَ مَسْرُوْرًا به كُلُ حَاسِدٍ ... ولو كَثُرَتْ أحْرَاسُهُ ومَوَاكِبُهْ
فَعَمَّا قَليلٍ يَهْجُرُ البابَ حَاجِبُهْ
إلى غَيْرِه أعْوَانُهُ وحَبَائِبُهْ
وأسْلَمَهُ أصْحَابُه وحَبائبُهْ
عن عُمر بن ذر عن مجاهد، قال: إذا أراد أحدكم أن ينام فليستقبل القبلة ولينم على يمينه، وليذكر الله وليكن آخر كلامه عند منامه لا إله إلا الله، فإنها وفاء لا يدري لعلها تكون ميتته، ثم يقرأ: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } .
كان محمد بن طارق يطوف في البيت العتيق في اليوم والليلة سبعين أسبوعًا، وكان كرز يختم القرآن في كل ليلة ويوم، وفي ذلك يقول ابن شبرمة:
لو شِئتُ كُنْتُ كَكُرزٍ في تَعَبُّدِهِ(1/212)
قَدْ حَالَ دُوْنَ لَذِيْذِ العَيْشِ خوْفُهُمَا ... أو كابْنِ طارق حَولَ البيتِ والحَرَمِ
وسَارَعَا في طِلاب الفَوز والكَرَمِ
فائدة
من أحبَّ أن يكون للأنبياء وارثًا، وفي مزارعهم حارثًا فليتعلم العلم النافع.
وهو ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو علمُ دين الإسلام، ففي الحديث: «العُلماء ورثة الأنبياء».
وليحضر مجالس العُلماء فإنها رياضُ الجنة.
ومن أحبَّ أن يعلم ما نصيبه من عناية الله فلينظر ما نصيبه من الفقه في دين الله.
ففي الحديث: «مَن يُرد الله به خيرًا يفقهْهُ في الدينِ» ومن أحب أن لا ينقطع عمله بعد موته فلينشرُ العِلْمَ بالتَّدْوِيْن والتَعْليم.
ففي الحديث: «إذا مات الإنسان انقطَع عَمَلُه إلا مِن ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ بِهِ، أو ولد صالح يَدعو له».
ومن سأل عن طريق تَبلغه الجنة، فليمشِ إلى مجالسِ العلم، ففي الحديث: «مَن سَلَكَ طَرِيْقًا يلتمس فيه عِلْمًا سَلَكَ الله به طَرِيْقًا إلى الجنةِ».
وقال عمر بن الخطاب: من حدَّثَ بحديْث فعُمِلَ به فله أجر مثل ذلك العمل.
وقال الحسنُ البصري: لولا الله ثم العُلماء لصَار الناس أمثال البهائم.
ألا رُبَّ مَن قَدْ أنْحَلَ الزُهْدُ جِسْمَهُ
يَرُوْمُ وِصَالاً وهْوَ بالطُّرْقِ جَاهِلٌ
قَلِيْلٌ مِنَ الأعمالِ بالعِلْمِ نافِعٌ ... كثيرُ صَلاةٍ دَائِم الصوم عابدُ
إذا جُهِلَ المَقْصُودُ قد خابَ قاصِدُ
كثيرٌ مِن الأعمالِ بالجَهْلِ فاسدُ
فائدة عظيمة
أربعة أعمال قطعتْ أعناق الرجال، فاستعذ بالله منها:
أولها: الكفر، وهو قسمان: الأول: كفر الشك وهو كفر الظن، والثاني: كفر السَّخَطِ والإباء والاستكبار، وهو أعظم البليتين؛ لأن الشاك قد يؤمن إذا اتضح له اليقين، وأما الساخط فعلى بصيرة كفر برب العالمين.(1/213)
ثانيًا: البدعة، وهي قسمان: مكفرة، ومُظلِّلَة، فمن سلم منهما فقد سلم له إسلامهُ، ومن ابتلي بأحدهما فقد حاد عن طريق الإسلام أو تاه عن سبيل النجاة.
ثالثًا: الغفلةُ عن ذكر الله، فإن المعصية إلى الغافل أسرعُ من انحدار الصَّخْرةِ إلى المكان النازل.
رابعًا: حُبُّ الدنيا إذا تمكَّن من القلْب ولو كان عابدًا فبدنُه مُشتغلٌ بالعبادة وقلبُهُ في أودية الدنيا فتراهُ طُولَ عُمره يتقربُ إلى الله بظواهره ويبعدُ عنه بقلبه.
أنْتَ الأمِيْرُ على الدنيا بزُهْدِكَ في
وأنْتَ عَبْدٌ لهَا ما دُمْتَ تَعشِقُهَا ... حُطَامِهَا وطَريْقُ الحَقِّ مَسْلُوكُ
إنَّ المُحِبَ لمنَ يَهْوَاهُ مَمْلُوْكُ
موعظة
عباد الله الثواءُ في الدنيا قليل، ولنا عليها حسابٌ طويل فتهيئُوا للنقلة عنها قبل أن يُزعجكم الرحيل، ليس لكم في سفر الآخرة إلا ما قدمتموه ليوم المعاد.
اسمع يا من أحياه الله على الإسلام اسأله أن يتوفاك عليه، ويا من سربلهُ الله قميص الإيمان، اجتهد أن يكون بالنقاءِ مُعلمًا، ويا من استحفظه الله القرآن كُن به مُؤمنًا، القرآن يَدُلنا على المتاجر الرابحة ونحنُ متأخرون، ويُزهدنا في الدنيا الفانية ونحن فيها راغبون.
عباد الله ينبغي للحاضر أن يكون سامعًا، وللسامع أن يكون واعيًا، وللدّاعِي أن يكون بما دعا إليه عاملاً، وللعامل في عمله أن يكون مخلصًا.
واعلم يا ابن آدم، أنك مريض القلب من جهتين، إحداهما: مخالفتك لأمر الله، والأخرى: غفلتك عن ذكر الله.
ولن تجد طعم العافية حتى تكون على طاعة مُقيمًا، ولذكر الله مُديمًا، فعالجْ مرض المخالفة بالتوبة، ومرض الغفلة بالإنابة والرجوع إلى الله.
يَا مُعْرضًا عن عَرْضِهِ وحِسَابِهِ
مُتَعَلِّلاً بعيَالِهِ وبِمَالِهِ
مُتَنَاسِيًا لِمَمَاتِهِ وضرِيْحِهِ
القولُ قَوْلُ مُصَدِّقٍ والفِعْلُ
مَن قَالَ قَوْلاً ثم خَالفَ قَوْلَهُ ... لا يَسْتَعدَث ليَوْمِ نَشْرِ كِتَابِهِ(1/214)
مْتَلَهيًا في أهْلِهِ وصِحَابِهِ
ونُشُورِهِ وَوُقُوفِهِ ومآبِهِ
فعْلُ مُكَذِّبٍ بثوابه وعقَابِهِ
بِفِعَالِهِ فَفِعَالُه أوْلَى بِهِ
قصة:
كان شريك بن عبدالله القاضي الكوفي لا يجلس للحكم بين الناس حتى يتغدى، ثم يخرج ورقةً فينظر قبل أن يحكم بين الناس، ثم يأمر بتقديم الخُصُومَة إليه، فحرس بعض أصحابه على قراءة ما في تلك الورقة التي يقرؤها قبل الحكم بين الناس، فإذا فيها: «يا شريك بن عبدالله، اذكر الصراطَ وحِدَّتَه، يا شريك، اذكر الموقف بين يد الله عز وجل».
تأمل يا أخي، هل يُوجَد في زمننا أمثال هؤلاء!!
قصة:
ذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عدالواحد الهاشمي عن شيخ من التجار، قال: كان لي على بعض الأمراء مال كثير، فما طلني ومنعني حقي وجعل كلما جئتُ أطالبه حججني عنه، ويأمر غلمانه يُؤذونَني، فاشتكيتُ عليه إلى الوزير، فلم يفد ذلك شيئًا وإلى أولي الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئًا، وما زاده ذلك إلا منعًا وجحودًا، فأيست من المال الذي عليه ودخلني همٌ من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي، إذ قال لي رجل: ألا تأتي فلانًا الخياط إمام مسجد هناك؟
فقلت: وما عسى أن يصنع خياط من هذا الظالم وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه، فقال: الخياط هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجًا.
قال: فقصده غير محتفلٍ في أمره (يعني مستبعدٌ النجاح) فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم.
فقام معي، فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانِيْه كاملاً من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر.
غير أنه قال له: ادفع إلى هذا الرجل حقه، وإلا أذَّنْتُ فتغير لونُ الأمير ودَفَعَ إلي حقي.
قال التاجر: فعجبتُ من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف انطاع وانقاد ذلك الأميرُ لهُ!(1/215)
ثم إني عرضتُ عليه شيئًا من المال فلم يقبل، وقال: لو أدرتُ هذا لكان لي من المال ما لا يحصى، فسألته عن خبره، وذكرتُ له تعجبي منه وألححتُ عليه.
فقال: إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن (أي جميل)، فمرت به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها تقول: يا مُسلمين، أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجل يُريدين على نفسي ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله ومتى بت هاهنا طلقت منه ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع.
قال الخياط: فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من بين يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي وغلب المرأة على نفسها فأدخلها منزله قهرًا.
فرجعت وغسلت الدم عني وعصبتُ رأسي وصليت بالناس صلاة العشاء، ثم قلت للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لِنُنْكِرَ عليه ونخلص المرأة منه.
فقام الناس معي، فهجمنا عليه في دار فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصى والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم فضربني ضربًا شديدًا مُبَرِّحًا حتى أدماني وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة والذل.(1/216)
فرجعتُ إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمتُ على فراشي فلم يأخذني النوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع عليها من زوجها الطلاق، فألهِمْتُ أن أذن للصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدت المنارة وجعلت انظر إلى باب داره وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان هل أرى المرأة خرجت، ثم أذنتُ فلم تخرج، ثم صمَّمْتُ على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباح، فبينما أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا؟ إذ امتلأت الطريق فرسانًا ورجالة.
وهم يقولون: أين الذي أذَّن هذه الساعة؟ فقلتُ: أنا ذا وأنا أريد أن يعينوني عليه، فقالوا: انزل، فنزلت، فقالوا: أجب أمير المؤمنين.
فأخذوني وذهبوا بي إليه ولا أملك مِنْ نفسي شيئًا حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسًا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعًا شديدًا.
فقال: ادن، فدنوت، فقال لي: ليسكن روعك وليهدأ قَلبك، وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي.
فقال لي: أنت الذي أذَّنْت هذه الساعة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي و غيرهم.
فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟ فقال: أنت آمنٌ، فذكرتُ له القصَّة.
قال: فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا فأحضرا سريعًا، فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات ومعهن ثقة من جهته.
وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة.
ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير، فقال له: كم لك من الرزق؟ وكم عندك من المال؟ وكم عندك من الجواري والزوجات؟ فذكر له شيئًا كثيرًا.(1/217)
فقال له: ويحك، أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته فلم يكن له جواب، فأمر به فجعل في رجله قيد وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخِلَ في جوالق، ثم أمر به فضرب بالدبابيس ضربًا شديدًا حتى خفت.
ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد ثم أمر بدرًا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال.
ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كل ما رأيت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ولو على هذا وأشار إلى صاحب الشرطة فأعلمني.
فإن اتفق اجتماعك بي وإلا، فعلى ما بيني وبينك الأذان فأذن في أي وقت كان أو في مثل وقتك هذا.
قال: فلهذا لا آمرُ أحدًا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفًا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلا الآن.
قال بعضهم مُوَبِّخًا نَفْسَهُ:
دَع التَّشَاغُلَ بالْغِزْلاَنِ والغَزَلِ
ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفِرْتَ بهَا
تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كالشمسِ واضِحَةٍ
ولم تَكُنْ نَاظَرًا في أمْر عَاقَبَةٍ
يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى في مُتَابَعَةِ النَّفْسِ
هلا تَشَبَّهْتَ بالأكياسِ إذْ فَطْنُوا
فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ
هلْ أنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِهَا
هَيْهَات هَيْهَاتَ مَا الدُّنْيَا ببَاقِيةٍ
لا تَحْسَبَنَ اللَيالي سَالَمَتَ أَحَدًا
ولا يَغُرَّنْكَ مَا أولِيتَ مِنْ نِعَمٍ
كَمْ مِنْ فَتىً جَبَرتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ
إلَامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ على
والشَّيْبُ وَافَاكَ مِنْهُ نَاصِحٌ حَذِرٌ
ولَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أصْبَحْتَ تَنْشُدُهُ
وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ
وَمَالَ عَصْرُ التَّصَابي مِنْكَ مُرْتَحِلاً(1/218)
أقْسَمْتُ بالله لو أنْصَفْتَ نَفْسَكَ مَا
أمَا عَلِمْتَ بأنَّ الله مُطَّلِعٌ
وكُلُّ خَيْرٍ وشَرٍّ أنْتَ فَاعِلُهُ
أمَا اعْتَبَرْتَ بِتَرْدَاتدِ المَنُونِ إلى
وسَوْفَ تأتي بلا شَكٍّ إليك فَمَا
لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ
دَع البطَالَةَ والتَّفْريطَ وَابْكِ على
ولَمْ تُحَصِّلْ بِهِ عِلْمًا ولا عَملاً
وابْخَل بدِينَكَ لا تَبْغِي به عِوَضًا
واتْلُ الكِتَابَ كِتِابَ الله مُنْتَهيًا
وكُلُّ مَا فِيه مِنْ أمْر عَلَيْكَ بِهِ
ولازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بهَا
وَجَانِبِ الخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ
وكُنْ حَريصًا على كَسْب الحَلالِ ولَوْ
واقنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عن كُلِّ مَسْألَةٍ
واطُلُبْ مِنَ الله واتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجدْ
ولا تُدَاهِنْ فَتىً مِنْ أجْلِ نِعْمَتِهِ
واعْمَلْ بعِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ
ومَنْ أتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ ولا
عَسَاكَ بالعَفْوِ أنْ تُجْزَى إذَا نُشِرَتْ
ولا تَكُنْ مُضِمرًا مَا لَسْتَ تُظْهرُهُ
ولا تَكُنْ آيسًا وارْجُ الكَريمَ لما
وَقِفْ على بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا
وارْفَعْ لَهُ قِصَّةَ الشَّكوَى وَسَلْهُ إذا
ولازِمِ البَابَ واصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً
ونَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا
فَإنَّني عَبْدُ سَوْءِ قَدْ جَنَى سَفَهًا
وغَرَّهُ الحِلْمُ والإمْهَالُ مِنْكَ لَهُ
ولَيْسَ لي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنِّ فِيكَ فَإنْ
حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مَثْلي خَائِبًا جَزِعًا
ولَمْ أكُنْ بِكَ يَومًا مُشْركًا وإلى
وكَانَ ذَلِكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ ... يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أيَّامِكَ الأوَلِ
وَكُنْتَ عَنْ صَالحِ الأعمَالِ في شُغُلِ
وَمِلْتَ عنها لِمُعْوَجٍّ مِنَ السُّبُلِ
أأنْتَ في غَفْلَةٍ أم أنْتَ في خَبَلِ
اللجُوجِ ويَرْجُو أكْرَمَ النُّزلِ
فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ العَمَلِ(1/219)
إن المَنِيَّةَ لا تَأتي على مَهَلِ
أوْ بَشَّرَتْكَ بعُمْر غَيْر مُنْفَصِلِ
ولا الزَّمَانُ بمَا أمَّلْتَ فيه مَلي
صَفْوًا فَمَا سَالَمَتْ إلا على دَخَلِ
فَهَلْ رَأيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ
فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ
بِسَاطِ لَهْوكَ بين التِّيهِ والجَذَلِ
فَمَا بِهِ كُنْتَ إلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ
إنِّي أتِّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ
فَبَهْجَةُ العُمْرِ قِدْ وَلَّتْ ولَمْ تَصِلِ
وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ
تَرَكْتَهَا باكْتِسابِ الوِزْرِ في ثِقلِ
على الضَّمَائِرِ والأسْرَارِ والحِيلِ
يُحْصَى ولو كُنْتَ في الأسْتَارِ والكِلَلِ
هَذي الخَليقَةِ في سَهْلٍ وفي جَبَلِ
أخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إلا إلى أجَلِ
بالحزْمِ وانْهَضْ بِعَزْمٍ مِنْكَ مُكْتَمِلِ
شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى ولَمْ يَطُل
يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحَادِثِ الجَلَلِ
ولضوْ تَعَاظَمَ واحْذَرْ بَيْعَةَ السِّفَلِ
عَمّا نَهَى وتَدَبَّرْهُ بِلا مَلَلِ
فَهْوَ النَّجَّاةُ لتَاليهِ مِنَ الظُلَلِ
وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأهْوَاءِ واعْتَزِلِ
واحْفَظْ لِسَانَكَ واحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ
حَمَّلْتَ نَفْسَكَ فيه غَيْرَ مُحْتَمَلِ
فَفِي القَنَاعةِ عِزٌّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ
مَا تَبْتَغِيهِ بلَا مَنٍّ ولا بَدَلِ
يَوْمًا ولَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأمَلِ
وانْشُرهُ تَسْعَدْ بِذِكْرٍ غَيْرِ مُنْخَذِلِ
تَحْقِدْ عَلَيْهِ وفي عُتْبَاهُ لا تطُلِ
صَحَائفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ في خَجَلِ
فَذَاكَ يَقْبحُ بَيْنَ النَّاسِ بالرَّجُل
أسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لكِنْ على وَجَلِ
تَجْزِمْ بِتَسْكينِ مَا في النَّفْسِ مِنْ عِلَلِ
جُنَّ الظَّلامُ بِقَلْبً غَيْرِ مُشْتغِلِ
واخْضَعْ لَهُ وتَذَلَّلْ وادْعُ وابْتَهِلِ
عَسَاكَ بِالعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لي
وضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّوْمِ والكَسَلِ(1/220)
حَتَّى غَدَا في المَعَاصِي غَايَةَ المُثُلِ
رَدَدْتَني فَشَقَاءٌ كَانَ في الأزَلِ
والعَفْوُ أوْسَعُ يَا مُوْلاي مِنْ زَلَلَي
دينٍ سِوَى ديْنِكَ الإسْلامِ لَمْ أَملَ
ولَيْسَ ذَاك بِسَعْيٍ كَانَ مِنْ قِبَلِي
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وسلم.
فصل في ذكر قصص من نوادر الأذكياء والملوك
من ذلك ما حكي أنه قدم رجل إلى بغداد ومعه عقد يساوي ألف دينار، فأراد بيعه فلم يتفق، فجاء إلى عطّار موصوف بالخير والدِّيانة، فأودع العقد عنده، وحجَّ، وأتى بهديَّة للعطار، وسلم عليه، فقال له: من أنت ومن يعرفك؟ فقال: أنا صاحبُ العقد، فلما كلمه رفسه وألقاه عن دكانه، فاجتمع الناسُ، وقالوا: ويلك! هذا رجل صالح، فما وجدت من تكذب عليه إلا هذا! فتحيَّر الحاج، وتردد عليه، فما زاده إلا شتمًا وضربًا، فقيل له: لو ذهبت إلى عضُد الدولة لحصل لك من فراسته خيْر.
فكتب قصته، وجعلها على قصبةٍ ورفعها إليه، فقال: ما شأنُك؟ فقصَّ عليه القصة، فقال: اذهب غدًا واجلس على دُكان العطَّار ثلاثة أيَّام حتَّى أمرَّ عليك في اليوم الرابع، فأقف وأسلم عليك فلا ترُدَّ عليَّ إلا السلام.
فإذا انصرفتُ فأعِدْ عليه ذكر العقد، ثم أعلمني بما يقولُ لك، ففعل الحاجُ ذلك، فلما كان في اليوم الرابع، جاء عضدُ الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الحاجَّ وقفَ، وقال: سلامٌ عليكم، فقال الحاجُّ –ولم يتحرك-: وعليكم السلام.
فقال: يا أخي، تقدمُ من العراق ولا تأتينا، ولا تعرضْ علينا حوائجك! فقال له: ما اتَفَقَ هذا، ولم يزد على ذلك شيئًا، هذا والعسكرُ واقف بكماله، فانذهل العطارُ، وأيقنَ بالموت.(1/221)
فلما انصرف عضدُ الدولة، التفت العطار إلى الحاجِّ، وقال له: يا أخي، متى أودعْتني هذا العقد؟ وفي أيِّ شيءٍ هُو ملفوفٌ؟ فذكرِّني لعلِّي أتذكَّر، فقال: من صفته كذا وكذا، فقام وفتَّش، ثم فتح جرابًا وأخرج منه العقد، وقال: الله أعلم أنَّني كُنتُ ناسيًا، ولو لم تذكرني ما تذكَّرتُ.
فأخذ الحاج عقده ومضى إلى عضد الدولة، فأعلمهُ [فبعث به مع الحاجب إلى دكان العطّار] فعلّقه في عنقه، وصله على بابُ دكانِهِ ونُودِيَ عليه: هذا جزاء من استودع فجحد! ثم أخذ الحاج العقد ومضى إلى بلاده.
ومثله ما نُقل عن ذكاء إياس الذي سارت به الرُّكبان، قيل: إن رجلاً استودع أمين إياس مالاً، وخرج المودعُ إلى الحجاز، فلما رجع طلبه فجحدهُ فأتى إياسًا فأخبرهُ، فقال إياس: أعلم أنَّك أتيتني؟ قال: لا، قال: أفنازعته عند غيري؟ قال: لا، قال: فانصرف واكتُم سرك، ثم عُدْ إليَّ بعد يومين.
فمضى الرجل، ودعا إياسٌ أمين، فقال: قد حضر عندنا مالٌ كثير أريدُ أن أسلمهُ إليك، أفحصينٌ منزلُكَ؟ قال: نعم, قال: فأعد موضعًا للمال، وقومًا يحملونه، وعاد الرجل إلى إياس، فقال: انطلقْ إلى صاحبك، فإن أعطاكَ المال فذَاكَ، وإن جحد فقُل له: إني أخبرُ القاضي بالقصَّة.
فأتى الرجلُ صاحبه، فقال: تُعطيني الوديعة أو أشكوك إلى القاضي، وأخبره بالحال، فدفع إليه المال، فرجع الرجُلُ وأخبرَ إياسًا، وقال: أعطاني الوديعة ثم جاء الأمين إلى إياس ليأخذ المال الموعود به، فزجرهُ، وقال له: لا تَقْرَبْني بعد هذا يا خائن.
ومن لطائف المنقول من كتاب الأذكياء: أن يحيى بن أكثم القاضي ولي القضاء بالبصرة وسنه عشرون سنة، فاستصغره أهل البصرة، فقال أحدُهم: كم سِنُّ القاضي؟ فَعَلِمَ يحيى أنه استصغرَ.(1/222)
فقال: أنا أكبر من عتَّاب بن أسيد حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبرُ من مُعاذ بن جبل حين وجههُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا على أهل اليمن، وأنا أكبرُ من كعُبِ بن سُور حين ولاه عُمر بن الخطاب قاضيًا على أهل البصرة، قال: فعظُمَ في أعينُ أهل البصرة وهابُوه.
ومن المنقول من كتاب «الأذكياء»: أن بعض اللصوص دخل بيتًا ومعه جماعة تت أمره ونهيه في القتل والسرقة، فظفرُوا بصاحب البيت، وأوْقفوه للقتلِ فدخل عليهم في إبقاء رُوحه، وأخذ ما في البيت بكماله، فقال كبيرهم: حَلِّفُوه بالطلاق الثلاث، وعلى المصحف [الشريف ألا يذكرنا إلا بخير، فحلف لهم بالطلاق الثلاث وعلى المصحف] ألا يعلمَ بهم أحدًا.
فأصبح الرجل يرى اللصُوصَ يبيعون متاعهُ، ولا يقدر أن يتكلمَ لأجل اليمين، فجاء إلى الإمام أبي حنيفة وأعلمهُ حاله، فقال له: أحضر أكابر حيِّكَ، وأعيان جيرانك، وإمام جماعتك، فلما حضروا، قال لهم أبو حنيفة: هلْ تُحبّون أن يَرُدَّ الله على هذا الرجل متاعهُ؟ قالوا: نعم.
فقال: أجمعُوا كلَّ ذي عرقٍ منهم، فأدخلوهم الجامِعَ، ثم أخرجوهم واحدًا واحدًا، وكُلمَّا خرجَ منهم واحدٌ قُولوا: هذا لصكَ، فإن كان ليس بلصٍّ، قال: لا، وإن كان لصَّهُ فيسكتُ، فإذا سكت فاقبضوا عليه، ففعلوا، فردَّ الله عليه جميع ما سُرق له.
ومنه أنَّ الربيع صاحبُ المنصور كان يعادي أبا حنيفة، فحضر يومًا عند أمير المؤمنين، فقال الربيعُ: يا أمير المؤمنين، إن أبا حنيفة يُخالف جدك ابن عباس، وك ان جدُّك يقول: إذا حلف الرجل على شيء يمينًا ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين كان ذلك جائزًا، وقال أبو حنيفة: لا يجُوزُ الاستثناء إلا مُتصلاً باليمين، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعُمُ أن ليس لك لي رقاب جُندكَ عهدٌ، قال: كيف [ذلك]؟(1/223)
قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطلُ أيمانُهم، فضحك المنصورُ، وقال: يا ربيع، لا تتعرضْ لأبي حنيفة.
ومنه أن الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - قال: دخلتُ البادية فاحتجتُ إلى الماء، فجاءني أعرابيٌّ ومعه قربةٌ ملآنة، فأبى أن يبيعها إلا بخمسة دراهم فدفعتُها إليه، ثم أخذت القربة.
فقلتُ: ما رأيك يا أعرابي في السويق؟ فقال: هات، فأعطيته سويقًا ملتوتًا بزيت، فجعل يأكل حتى امتلأ، ثم عطش، فقال عليَّ بشربة، فقلتُ له: بخمسة دراهم على قدحٍ من ماءٍ، فاسترددتُ الخمسة، وبقي الماء.
ومنه أن رجلاً استودع رجلاً مالاً، وحجَّ ورجع، فطلبه فجحده وجعل يحلف له، فانطلق الرجُل إلى أبي حنيفة، فخلا به وأخبرهُ بأمره، فقال له الإمام: لا تُعلِمْ أحدًا بجحوده، وكان الرجل يُجالسُ أبا حنيفة، فقال له وقد خلا لهُما المكان: إن هؤلاء بعثوا يستشيرونني في رجُل يصلحُ للقضاء، وقد اخترتُكَ، فانصرف من عند الإمام وقد طمع بذلك.
ثم جاء صاحب الوديعة، فقال له الإمام: ارجعْ إلى صاحبك وذكرهُ لاحتمال أن يكون ناسيًا فذهب إليه، وسأله فلم يحتج معه إلى علامة، بل دفع إليه متاعه، وتوجه بعد ذلك إلى أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: إني نظرتُ في أمرك، فأردتُ أن أرفع قدرك، ولا أسميَّكَ حتى يحضر ما هُو أنفسُ مِن هذا.
ومنه أنه كان بجوار أبي حنيفة شابٌّ يغشى مجلسه، فقال له يومًا من الأيام: يا إمام، إني أريدُ التزويج إلى فلان من أهل الكوفة، وقد خطبتها من وليِّها فطلب مني من المهر فوق وسعي وطاقتي، فقال أبو حنيفة: فاستخر الله تعالى، وأعطِهِمْ ما طلبُوه مِنْكَ.
فأجابهم إلى ما طلبوا، فلما عقدوا النكاح جاء إلى أبي حنيفة، فقال: إني سألتهم أن يأخذوا مني البعض، ويدعوا البعض عند الدخول، فأبوا، فما ترى؟ قال: احتل، واقترض حتى تدخل بأهلك، فإن الأمر يكون أسهل عليك من تعقيدهم، ففعل ذلك.(1/224)
فلما زُفَّتْ إليه، ودخل بها، قال له أبو حنيفة: ما عليك أن تُظْهِر الخروج بأهلك عن هذا البلد إلى موضع بعيد، فاكترى الرجل جملين وأحضر آلات السَّفر وما يحتاجُ إليه، وأظهر أنَّهُ يُريدُ الخروج من البلد في طلب المعاش، وأن يصحبَ أهلهُ معهُ.
فاشتدَّ ذلك على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يستشيرونَهُ، فقال لهم أبو حنيفة: له أن يخُرجها إلى حيث شاء، فقالوا: لم نصبر على ذلك، قال: فارضوه بأن ترُدّثوا عليه ما أخذتُم منه، فأجابُوه إلى ذلك.
فقال أبوُ حنيفة للفتى: إن القوم قد سمعوا، وأجابوا إلى أن يرُدوا عليك ما أخذوا منك من المهر، ويبرئوك منه، فقال الفتى: لابُدَّ من زيادة آخذُها منهم، فقال أبو حنيفة: أيُّما أحبُّ إليك، أن ترضى بما بذلوا لك.
وإلا أقرت المرأة لرَجُلٍ بدين عليها يزيدُ على المهر، ولا يُمكنك حملُها، ولا السَّفرُ بها حتى تقضي ما عليها من الدَّين؟ قال: فقال الفتى: الله الله يا إمام! لا يسمعُ أحدٌ منهم بذلك، ثم أجاب وأخذ ما بذلوه من المهر.
ومنه أن رجلاً جاء إلى أبي حنيفة، وقال: يا إمام، دفنتُ مالاً من مدة طويلة، ونسيتُ الموضعَ الذي دفنته فيه، فقال الإمام: ليس في هذا فقهٌ فأحتال لك، ولكن اذهب فصلِّ الليلة إلى الغداةِ، فإنك ستذكره إن شاء الله تعالى.
ففعلَ، فلمْ يَمْض إلا أقل من رُبع الليل حَتَّى ذكر الموضع الذي فيه، فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال: قد علمتُ أن الشيطان لا يدعُكَ تصلِّي الليلَ كُلَّه، فهلا أتممت ليلتك كُلَّها شُكرًا لله تعالى.
ومنه أن بعضهم كانت له زوجةٌ جميلة، وكان يحبُّها حبًّا شديدًا، وتبغضه بغضًا شديدًا، ولم تزُل المُنافرة بينهما البتة، فأضجره ذلك، وطالت مُدة تجرُّئها عليه في تغليظ الكلام، فقال لها يومًا: أنت طالق ثلاثًا بتاتًا إن خاطبتني بشيء، ولم أخاطبك بشيء مثله، فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاثًا بتاتًا.(1/225)
فأبلسَ الرجلُ، ولم يدر ما يُجيبُ! وخاف في جوابها من وقُوع الطلاق، فأرشد إلى أبي جعفر الطبري، فأخبره بما جرى، فقال لهُ: إذا طالبتك بالجواب، فقُلْ لها: أنت طالق ثلاثًا بتاتًا إن أنا طلَّقُتك، فتكون قد خاطبتها ووفيت بيمينك، والله أعلم.
فصل
ومن المنقول عن أذكياء الصبيان أنهُ وقف إياس بنُ مُعاوية وهو صبيٌّ إلى قاضي دمشق ومعه شيخ، فقال: أصْلَحَ الله القاضي! هذا الشيخُ ظلمني، [واعتدى عليَّ]، وأكل مالي، فقال القاضي: ارفَق بالشيخ: ولا تستقبله بمثل هذا الكلام.
فقال إياس: [أصلح الله القاضي!] إن الحقَّ أكبرُ مني ومنه ومنك، قال: أسكت، قال: فإن سكت فمن يقوم بحُجَّتي! قال: فتكلَّم، فوالله لا تتكلم بخير، فقال: لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، فبلغ ذلك الخليفة، فعزل القاضي.
ومنه أن المتوكل قال يومًا لجلسائه: نقم المسلمون على عثمان أشياء، منها: أن الإمام أبا بكر - رضي الله عنه - لما تسنَّم المنبر هبط عن مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مبرقاة، ثم قام عُمرُ دون مقام أبي بكر، وصعد عثمانُ ذروة المنبر.
فقال عباد: ما أحدٌ أعظم منه عليك من عثمان يا أمير المؤمنين، وكيف ويلك! قال: لأنه صعد ذورة المنبر، ولو أنه كُلما قام خليفة نزل مرقاةً، ونزل عُثمان عمن تقدمه، كنت أنت تخطبنا من بئر! فضحك المتوكل ومن حوله.
ومن دهاء المنصور أنه كان جالسًا في بعض الليالي، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر، فدعا بأحد الفرسان، وقال له: انهض الآن إلى فج طليارش وأقم فيه، فأول خاطر يخطر عليك سقه إلي.
قال: فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفًا على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ومعه آلة الحطب، فقال له الفارس: إلى أين تريد يا شيخ؟ فقال: وراء حطب.(1/226)
فقال الفارس في نفسه: هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبًا، فما عسى أن يريد المنصور منه؟ قال: فتركته فسار عني قليلاً، ثم فكرت في قول المنصور، وخفت سطوته، فنهضت إلى الشيخ، وقلت له: ارجع إلى مولانا المنصور.
فقال: وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي، سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي؟ فقال له الفارس: لا أفعل، ثم قدم به على المنصور ومثله بين يديه، وهو جالس لم ينم ليلته تلك.
فقال المنصور للصقالبة: فتشوه، ففتش فلم يوجد عنده شيء، فقال: فتشُوا برذعة حماره، فوجدوا داخلها كتابًا من نصارى كانوا قد نزوعُوا إلى المنصور يخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى، ليُقبلوا ويضروا في إحدى النواحي المعلومة، فلما انبلج الصبح، أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة، فضُربت أعناقهم، وضربتْ رقبةُ الشيخ معهم.
ومن ذلك قصة الجوهري التاجر، وذلك أن رجلاً جوهريًا من تجار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ودفع إلى التاجر الجوهري صرته، وكانت قطعة يمانية، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شط النهر.
فلما توسطها –واليوم قائظ وعرقه منصب- دعته نفسه إلى التبرد ي النهر، فوضع ثيابه وتلك الصرة على الشط، فمرت حدأة فاختطفت الصرة تحسبها لحمًا، وصاعدت في الأفق ذاهبة، فقطعت الأفق التي تنظر إليه عين التاجر، فقامت قيامته، وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة، فأسر الحزن في نفسه، ولحقه لأجل ذلك علة اضطرب فيها.
وحضر الدفع إلى التجار، فحضر الرجل لذلك بنفسه، فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة، فسأله المنصور عن شأنه، فأعلمه بقصته.(1/227)
فقال له: هلا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر فكنا نستظهر على الحيلة، فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟ قال: مر مشرقًا على سمعت هذا الجبل الذي يلي قصرك –يعني الرملة- فدعا المنصور شرطيه الخاص به، فقال له: جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة.
فمضى وجاء بهم سريعًا، فأمرهم بالبحث عن من غير حال الإقلال منهم سريعًا، وانتقل عن الإضافة دون تدريج، فتناظروا في ذلك، ثم قالوا: يا مولانا، ما نعلم إلا رجلاً من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السبق بأقدامهم عجزًا عن شراء دابة، فابتاع اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسطة، فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر بالغدو إلى الباب.
فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور، فاستدناه والتاجر حاضر، وقال له: سبب ضاع منا وسقط إليك ما فعلت به؟ قال: هو ذا يا مولاي، وضرب بيده إلى حجزة سراويله فأخرج الصرة بعينها.
فصاح التاجر طربًا وكاد يطير فرحًا، فقال له المنصور: صف لي حديثها، فقال: بينما أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي فأخذتها وراقني منظرها، فقلت: إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار، فاحترزت بها ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونًا كانت معها مصرورة، وقلت: أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها.
فأعجب المنصور ما كان منه، وقال للتاجر: خذ صرتك وانظرها واصدقني عن عددها، ففعل، وقال: ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها وقد وهبتها له، فقال له المنصور: نحن أولى بذلك منك، ولا نُنَغِّصُ عليك فرحك، ولولا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورًا عليه، ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضًا عن دنانيره، وللجنان بعشرة دنانير ثوابًا لتأنيه عن فساد ما وقع بيده.
و قال: لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء، قال: فأخذ التاجر في الثناء على المنصور وقد عاوده نشاطه.
الدْهرُ يُعب ما يَضُرُّ وينفعُ
والمَرْءُ فيما منه كان مَصِيرهُ(1/228)
فاحذر مفَاجأة المَنون فإنه
أيْنَ الذين تجمَّعُوا وتحَصَّنُوا
وتَعظَّمُوا وتحَشَّمُوا وتَجَبَّرْوا
صاحَتْ بهم نُوَبُ الزمان فأسْرَعُوا
ألا احْتَمَوْا عنه بِعَضْبٍ بَاتِرٍ
كانَتْ مَنَازِلهُم بهمْ مأنُوسَةً
واسْتَوْطَنُوا الأجْدَاثَ بَعْدَ قُصُورهم
ماذا أعَدّثوا في الجواب لِمُنْكَرٍ
وجَدُوا الذي عَملُوا، فَوَجْهٌ أبْيَضُ
أبُنَيّ كُن مُتَمَسِّكًا بنَصِيْحَتي
واحْذَرْ مُجَاوَرةَ الحَسوُدِ فإنَه
وعَلَيْكَ بالحقِّ الجميل فإنه
وتَجَنَّب الدُنيا وكُن مُتَعَفَّفًّا
وخُذ الكتابَ بقُوَّةٍ واعْمَلْ بما
واسْلَكْ سَبيلَ رَسُولِهِ في أمْرِهِ
واعْلَمْ بأنَّ الله لَيْسَ كمِثْلهِ
حَيٌّ قَدِيرٌ واحدٌ مُتَنَزِّهٌ
مُتَكلِّمٌ عَدْلٌ جَوَادٌ مُنْعِمٌ
ذُو العَرْش لا تخفى عليه سَريرَة
في الحشرِ يَظْهَرُ لِلْعِباد بلُطْفِهِ
العَدْلِ يحكمُ في القيامةِ بِيْنَنَا
خَيْرُ البريَّةِ بَعْدَهُ صِدِّيقُه
وكَذَلِكَ الفاروقُ أكْرَمُ صَاحبٍ
ومُجَهِّز الجيشِ العظيم، ومن ثوَى
وحَسِيْبُهُ ونِسيْبُهُ وصَفِيُّهُ
لَهُم المنَاقِبُ والمواهِبُ والعُلا
وهم الذين بهِم يَفُوزُ مُحِبُّهُمْ ... والصبرُ أحمدُ ما إليه يُرْجَعُ
حينًا، وليس عن المنيةِ مَدْفعُ
لا يُلْتِجَى منها ولا يُسْتَشْفعُ
وتوثَّقُوا وتجيَّشُوا وتمنَّعُوا
وتَكَبَّرُوا وتمَوَّلُوا وتَرفَّعُوا
وحَدَا بهم حَادِي البِلىَ فتقطَّعُوا
أو مانَعُوهُ بالذي قدَ جَمَّعُوا
فَتفرَّقَتْ أوْصَالهُم وتَضَعْضَعُوا
وسَفَتْ على الآثارِ ريحٌ زَعْزَعُ
أنْ غَرَّهُم فيه وماذَا يُصْنَعُ
بجَمِيلِ طاعَتِهِ وَوَجْهٌ أسْفَعُ
ما دُمْتَ حَيًا فالنصيحةُ تنفعُ
بِخلافِ ما في نفسِهِ يَتَذَرَّعُ
مِن كُل شيءٍ يُقْتَنَى لكَ أنْفَعُ
فالحرُّ يَرْضَى بالقليلِ ويَقْنَعُ
أمَرَ المهيمنُ فهو حقٌّ يُتْبَعُ
تَنْجُو به فهو الطَّرِيقُ المهْيَعُ
شيءٌ، إليه مَصِيرُنَا والمرْجعُ(1/229)
صَمَدٌ تَذِلُّ له الرقابُ وتَخْضعُ
بالقِسْطِ يُعْطِي من يشاء ويمَنَعُ
منَّا ويَعْلَمُ ما نَقُولُ ويَسْمَعُ
كُلٌّ يَذِلُّ لَهُ وَكُلٌّ يَضْرَعُ
ونَبِيُنَا فِينَا إليه يشفَعُ
هو في الخلافةِ سَابقٌ مُسْتَتَبِعُ
مِن بَعدِهِ حَبْرٌ جَوَادٌ سَلفَعُ
مُسْتَسْلِمًا في الدارِ وهو يُبَضَّعُ
وحُسَامُهُ ذاكَ البَطينُ الأنْزَعُ
وهُمُ الصَّواحبُ والنجُومُ الطُّلعُ
يومَ المعَادِ وكُلُّ ذُخْرٍ يَنْفَعُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال بعضُ العلماء: تأملتُ التحاسُد بين العُلماء، فرأيتُ منشأةُ من حُب الدنيا، فإن علماء الآخرة، يتوادون ولا يتحاسدون، كما قال عز وجل: { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
وقال جل وعلا: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا } .
وقد كان أبو الدرداء يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه.
وقال الإمام أحمد لولد الشافعي: أبُوكَ من الستة الذين أدعُو لهُم كل ليلة وقتَ السَّحَر.
والأمرُ الفارقُ بين الفئتين أن علماء الدنيا ينظرُون إلى الرياسة فيها ويحبون كثرة الجمع والثناء، وعلماء الآخرة بمعزلٍ من إيثار ذلك، وكانوا يتخوفونهُ، ويرحمون من بُلي به.
وقال علقمة: أكره أن يُوطأ عقبي.
وكانوا يتدافعون الفتوى، ويحبون الخُمول، وهو عكس الشُهرة فهم لا يطلبُون جاهًا ولا منصبًا.
فمثل القوم كمثل راكب البحر إذا خبَّ أي هاجَ واضطربَتْ الأمواج، فعنده شُغْلٌ إلى أن يُوقِنَ بالنجاة.
وإنما كان عُلمَاء السَّلفِ يَدْعُو بعضهم لبعض؛ لأنهم ركبٌ تصاحبُوا وتحابوا في طاعة الله فالأيام والليالي مراحلُهم إلى سفر الجنة.(1/230)
ماتوا وغيّبَ في التُراب شخوصُهم ... فالنشرُ مِسْكٌ والعِظامُ رَمِيْمُ
وقال: رأيتُ جماعةً من العُلماء يتفسَّحُون (أي يتوسعون في أمرهم ويترخصون) ويظنون أن العلم يدفع عنهم.
وما يدرون أن العلم خصمهم وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يغفر للعالم ذنب؛ وذلك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق والعالم لم يتأدب معه.
ووجه الأدب مع الله أن يعمل العالم بعلمه فيستفيْد ويفيد ويخشى الله، قال الله جل وعلا: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ } ، قال: فتفكرت.
فإذا العلم الذي هو معرفة الحب وما يجب له ومعرفة الحقائق والنظر في سير القدماء والتأدب بآداب القوم ليس عندهم.
وإنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل وما يحرم وليس كذلك العلم النافع، إنما العلم النافع فهم الأصول، ومعرفة المعبود.
والنظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسير صحابته والتأدب بآدابهم وفهم ما نقل عنهم هذا هو العلم النافع الذي يدعُ أعظمَ العلماءِ عند نفسه أحقرَ مِن أجْهَلِ الجُهَال.
يا مَنْ بغَير رضَاهُ لا أسْتَبْشِرُ
حُزْني على مَا فاتَ لْم أعْمَل بِهِ
وإذا اغتذى قَلْبٌ بطيب مَطَاعِم
وإذا تَقَرَّبَ ناسكٌ بِضَحِيَّة
يا مَن خَزَائِنُ جُوده في قول كُنْ
إن كُنْتَ تُعطِي السائِلينَ لِفَقْرهم
إن كان بالجُرْمِ الكبير خَطِيْئَتي
هَبْنِي أتَيْتُكَ بالجَرَائِمِ كُلِهَا ... أترى بقُربي مِن جَنَابِكَ أظْفُرُ
عَمَلاً به ترضى عَليَّ وتَغْفِرُ
فَغِذَاءُ قلبي أنّهُ لَكَ يَذكرُ
فضَحِيَّتي أني لِنَفْسِي أنْحَرُ
أمْنُنْ فإنَّ الفضِلَ عندك أغزرُ
فأنا إلى جَدْوَاكَ منهم أفْقَرُ
فأنا الشهيدُ بأن عَفوَك أكْبَرُ
أنْتَ الذي كُلَّ الجَرَائمِ تَغْفِرُ
وقال: من أحب تصفية الأحوال، فليجتهد في تصفية الأعمال.
قال الله عز وجل: { وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا } .(1/231)
وقال تبارك وتعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «لو أنَّ عبادي أطاعوني لَسَقَيْتُهُمُ المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «البر لا يَبْلىَ، والإثم لا يُنْسَى، والديان لا ينام، وكما تدين تُدان». والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
موعظة
عباد الله، يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مُستعدًا لهُ ولا يغترَّ بشبابه وصحته، فإن أقل من يموتُ الشيوخُ الطاعنين في السن.
وأكثرُ من يموت الشُبانُ خُصوصًا في زمننا الذي كثُرتْ فيه الحوادث؛ ولهذا ينذرُ من يكبرُ وقد أنشدوا:
يُعَمَّرُ واحدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا ... ويُنْسَى مَن يَمُوتُ من الشَّبَابِ
آخر:
لا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ ناعِمٍ خَظِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبَ شُبَّانُ
ومما يعينك على الجد والاجتهاد في الطاعة: تصور قصرَ عُمُركَ وكثرة الأشغال، وتصور قُوة الندم على التفريط والإضاعة عند الموت، وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.
وتصور عظم ثواب السابقين الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل، واجعلْ نصب عينيكَ ما يلي:
قوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } .
وقوله تعالى: { يَوْمَ يَنظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } .
وقوله تعالى: { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } .
وقوله تعالى: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فتصور الحسرة والندامة والحُزن عندما ترى الفائزين.
إذا أنْتَ لم تَرْحَلْ بِزادٍ مِن التُقى(1/232)
نَدِمْتَ على أنْ لا تَكُونَ كمِثْلِهِ ... وأبْصَرْتَ بَعْدَ الموتِ مَن قد تزوَّدَا
وأنَّكَ لم تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أرْصَدَا
فالبدارَ البدارَ والحذر والحَذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل، فإنَّهُ لولا طولُ الأمل ما وقع إهمالٌ أصْلاً.
وإنما يُقْدِمُ على المعاصي ويُؤخر التوبةَ لِطُول الأمل وتبادر الشهوات.
وتنسى التوبة والإنابةُ لطُول الأمل وتفقد أوقاتك وما عملتَ فيها من الذنوب.
وتنسى التوبة والإناة لطول الأمل فيا أيُّها المُهْمِلُ وكُلُّنا كذلك انتهز فرصة الإمكان وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب.
فبادر في محوها بالتوبة النصوح وأكثر من الدعاء والاستغفار كل وقت خصوصًا في أوقات الإجابة.
ومن أوقات الإجابة ثُلثُ الليل الآخر، قال تعالى: { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر للخطبة.
وفي آخر ساعة من يوم الجمعة وعند دخول الإمام للخطبة.
وعندما تسمع الأذان إلى أن يفرغ.
وبين الأذان والإقامة.
وبعد الصلاة الفريضة وبعد النافلة.
وعند الفطر للصائم وفي أيام رمضان ولياليه.
وعند نُزُول الغيث.
عشية عرفة.
وفي السجود.
وعند ختم القرآن وفي ليلة القدر.
وعند البكاء والخشية من الله.
فعلى الإنسان أن يُكثر من الدعاء والإلحاح فيه، فإن الدعاء له أثرٌ عظيم، وموقعٌ جسيم، وهو مخُ العبادة.
لاسيما مع حضور قلب، وإخباتٍ، و خشوع، وذلٍ، وانكسار، ورقةٍ، وتضرعٍ، وخشيةٍ، واستقبال القبلة حال دُعائه، وعلى طهارة، ويجدد التوبة، ويكثر من الاستغفار، ويبدأ بحمد الله وتنزيهه، وتمجيده، وتقديسه، والثناء عليه، وشكره، ثم يصلي على النبي بعد الثناء على الله.(1/233)
ويدعو بالدعاء المشروع باسم من أسماء الله الحسنى، مناسب لمطلوبه، فإن كان يُريد عِلمًا، قال: يا عليم علمني، وإن كان يطلب رحمةً قال: يا رحمنُ ارحمني، وإن كان يسأل رزقًا، قال: يا رزاق أرزقني ونحو ذك، ويُوقنُ بالإجابة، فإن الله جل وعلا أصدقُ القائلين، وقد قال سبحانه وتعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، وقال عَزَّ من قائل: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، وقال: { أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ، وهو سبحانه أوفى الواعدين، قال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ، وقال جل وعلا: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } ، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } ، وقال أهل الجنة: { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } .
وإذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها، فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزَّلل يُوجبُ العقوبة، قال الله جل وعلا: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } .
فإذا زال الذنبُ بالتوبة الصادقة النصوح، ارتفع السَّبَب، فإذا أثبت ودعوتَ ولم تر لإجابة الدُعاء أثرًا، فتفقدْ نفسك فربما كانت التوبة ما صحَّت فصحِّحْها.
ثم ادعُ ولا تضجر ولا تمل من الدعاء فإنه عبادة، وربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، قال تعالى: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } .
فأنت تثاب وتُجابُ إلى منافعك، ومن منافعك أن لا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره.(1/234)
فإذا جاءك الشيطان، فقال: إلى متى تدعو ولا تجاب، فقل: أنا أتعبد بالدعاء، الدعاء مخ العبادة، وأنا واثق كل الثقة بالإجابة؛ لأن الله أصدق القائلين.
وقد قال جل وعلا وتقدس لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، وقال تبارك وتعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
وعلم أنه ربما كان التأخير لبعض المصالح فهو يجيءُ في وقت مناسب، وإذا سألت شيئًا فاقرنه بسؤال الخيرة فربما كان المطلوبُ سببًا للهلاك.
وإذا كُنتَ قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليُبين لك صاحبُك في بعض الآراء ما يعجزُ رأيك عنه ثم ترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربَّك الذي أحاط بكل شيء علمًا، والاستخارة من حسن المشاورة.
كُلُ الوُجُوْدِ لِعِزِّ قَهْركَ خَاضِعُ
يا مَعْشَر الفُقَراءِ أمُّوْا بَابَهُ
يُعْطِي العَطَاءَ فلا يُمَانِعُ مَانِعٌ
ما لِلْعِبَادِ عَليه حَقٌ واجِبُ
إن عُذِّبُوا فبعَدْ له أو نُعِّمُوْا
إلزَمْ طَريْقَ الذِكْرِ عُمْركَ دَائِبًا ... والكُلُ في صَدقاتِ جُودكَ طَامعُ
فَهُنَاكَ فَضْلٌ لِلْبَريَّةِ وَاسِعُ
يَقْضِي القَضَاءَ فلا يُدَافِعُ دَافِعُ
كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
فبِفَضْلِهِ وهْوَ الكريْمُ الواسِعُ
فالذِكْرُ في القَلْبِ المحَبَّةَ زَارِعُ
قال أحدُ الوعاظ: هذا نذير الموت قد غدا يقول الرحيل غدًا، كأنكم بالأمر وقد قرُب ودنا، فطوبى لعبدٍ استيقظ من غفلته ووعا.
كيف بكم إذا صاح إسرافيل ونفخ في الصور، قال جل وعلا: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } .
فتصور خروجك مذعورًا تسعى من تحت المدر، وقد رُجت الأرض ويُست الجبال، وشخصت الأبصار لتلك العظائم والأهوال والمزعجات { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا } .(1/235)
ففلق الخائفُ، وشاب الصغيرُ، وزفرت النارُ، وأحاطت الأوزار، ونُصب الصراط، وُوُضع الميزان، وحضر الحساب.
وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى: { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } .
وشهد الكتاب وتقطعت الأسباب، فكم من كبير يقول: واشيبتاه، وكم من كهل يُنادي بأعلى صوته: واخيبتاهْ، وكم من شاب يصيح: واشباباه.
وبرزت النار، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } ، وقال جل وعلا وتقدس: { وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرَى } .
وسمع الخلائقُ حسيسها إلا من سبقت له الحُسنى من الله، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .
وأيقن بالردى والهلاك كل فاجر، قال تعالى: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ } وقامت ضوضاءُ الجدَل، وأحاط بصاحبه العملْ، قال جل وعلا وتقدس: { وَرَأَى المُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } .
وحالت الألوان، وتوالت المحنُ على الإنسان، فأين عُدَّتُك، يا غافل عن هذا الزمان، أين تصحيح اليقين والإيمان.
أترضى بالخسران والهوان، أما علمت أنك كما تدين تُدان، أما تخاف أن تقول: { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } أما علمت أعظم الخسران.
قال جل وعلا وتقدس: { قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ } .(1/236)
كم في كتابك من خطأ وزلل! وكم في عملك من سهو وخلل! هذا وشمس عُمرك على أطراف الذوائب وقد قرُب الأجل! كم ضيَّعْتَ واجبًا وفرضًا! وكم نقضت عهدًا محكمًا نقضًا! وكم أتيت حرامًا صريحًا محضًا! يا أجسادًا صحاحًا فيها قلوبٌ مرضى.
عباد الله أطول الناس حُزْنًا في الدنيا أكثرهم فرحًا في الآخرة، وأشد الناس خوفًا في الدنيا أكثرهم أمنًا في الآخرة.
إخواني، المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر من نيران الخوف، يرهب العاقبة، ويحذرُ المُعاقبةَ، فالخوفُ من النار مُتمكنٌ من سويداء قلبه.
فإن هفا بأن حصل منه زلةٌ توقدت في قلبه نارُ النَّدم، وإن تذكر ذنبًا اضطرمت نارُ الحُزْنِ في باطنه، وإن تفكر في مصيره ومُنقلبه التهبتْ نارُ الحذرِ في قلبِهِ، وصار لا يهنؤهُ طعامٌ ولا شراب.
خُذْ ما صَفَا لَكَ فالحَيَاةُ غُروْرُ
لا تَعْتِبَنَّ على الزمانِ فإنَّهُ
تَعْفُو السُطوْرُ إذا تَقَادَمَ عَهْدُهَا
كلٌ يَفرُ من الرَّدَى لِيَفُوْتَهُ
فانظُرْ لنَفْسِكَ فالسّلامة نُهْزَهٌ
مِرْآةُ عَيْشِكَ بالشَّبَابِ صَقِيْلَةٌ
بَادِرْ فإنَّ الوَقْتَ سَيْفٌ قاطِعٌ ... والموتُ آتٍ واللَّبيْبُ خَبِيْرُ
فَلَكٌ على قُطْب الهلاكِ يَدورُ
والخَلْقُ في رِقَ الحَيَاةِ سُطُوْرُ
وله إلى مَا فر منهُ مَصِيْرُ
وزَمَانُها ضَافي الجَنَاحِ يَطِيْرُ
وجَنَاحُ عُمْرَكَ بالمشِيْبِ كسِيْرُ
والعُمْرُ جَيْشٌ والشَبابُ أمِيْرُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فائدة عظيمة النفع
قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى في ابتداء الأقوال والأفعال أنسةٌ من الوحشة وهداية من الضلال.
وحمدُه جل وعلا فرضٌ لازمٌا لكُلِّ أحد على كُلِّ حال؛ لأنه أهلٌ أن يُحمد إن ابتلى، وإن منع، وإن أنال.
ففضلُه جل وعلا عمَّ النساء والرجال والكهُولَ والأطفال.
ولطف في قدره وقضائه بأهل أرضه وسمائه، فلم يخْلُ من لُطْفِهِ سافلٌ ولا عال.(1/237)
اللهم يا من لا تُمدُّ الأيدي بالرغبة والمسألة إلا إليه، ولا يُعول في كشف الشدائد والكروب في الدنيا والآخرة إلا عليه.
يا مَن كُلُ الرغائب والمطالب لديه، وجميع المواهب لديه، ليس لضُرنا سواك كاشف، ولا على ضعفنا سواك عاطف.
المعافى من عافيته، فعافنا يا مولانا من مُوجبات سخطِك وعقابك، والمهديُ من هديته، فاهدنا يا ربنا سُبُل الواصلين إلى مرْضاتك.
بذكر الله تحيا القُلوُب من موت غفلتها، فالله الله بالمداومة على ذكر الله سرًا وجهارًا ليلاً ونهارًا قيامًا وقُعودًا ماشين ومُضطجعين.
ذاكر الله لا يستطيع الشيطان في ظلَّه مقيلاً، ذاكر الله لا يجد الشيطان إلى إغوائه سبيلاً، ذاكر الله لا يزال شيطانُهُ مدحُورًا ذليلاً، ذاكر الله قد تكفل الله بحفظه، وكيف يضيعُ من كان الله به كفيلا! بذكر الله تطمئن القلوب وتحيا، قال الله تعالى: { أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ } ، وقال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } .
ذِكْرُ إله الزَمْ هُدِيْتَ لِذِكِرهِ ... فيه القلوبُ تَطِيْبُ والأفْوَاهُ
آخر:
والذكرُ فيه حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كما ... تحيا البِلادُ إذا ما جَاءَهَا المَطرُ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: أعظمُ عذاب أهل النار حجابُهُمْ عن الله عزَّ وجلَّ، وإبعادهم عنه، وإعراضُه عنهم، وسخطُه عليهم، كما أن رضوان الله على أهل الجنة أفضلُ من كل نعيم الجنة، وتجليه لهُم، ورؤيتهم إياهُ، أعظمُ من جميع أنواع نعيم الجنة، قال الله تعالى: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } .(1/238)
فذكر تعالى لهُم ثلاثة أنواع من العذاب، حجابُهم عنه، ثم صليهُم الجحيم، ثم توبيخهِّم بتكذيبهم به في الدنيا، ووصفهم بالرَّان على قُلُوبهم، وهو صدأ الذنوب الذي أسودَّتْ به قُلُوبهم، فلمْ يصلْ إليها بَعْدَ ذلك في الدُنْيَا شيءٌ من معرفَةِ الله، ولا من إجلاله ومهابته، وخشيته ومحبته.
فكما حُجِبَتْ قُلُوبُهُمْ في الدنيا عن الله، حُجِبُوا في الآخرة عن رُؤيته، وهذا بخلاف حال أهل الجنة، قال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } والذين أحسنُوا هُمْ أهلُ الإحسانِ، والإحسانُ «أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراه» كما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سَألَهُ عنه جِبْريْلُ ـ عليه السلام ـ، فجعل جزاءَ الإحسان الحُسْنَى، وهو الجنة، والزيادةُ وهي النظرُ إلى وجه الله عز وجل، كما فسَّرَهُ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صهيبٍ وغيره، انتهى.
وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
أوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِيَ الإيْمَانِ
يا أهْلَها لَكُمُ لدى الرحمن وَعْدُ
ثالوا أمَا بَيَّضْتَ أوْجُهَنَا كَذَا
وكَذَاكَ قَدْ أدْخَلْتَنَا الجَناتِ حِيْنَ
فيقولُ عِنْدِي مَوْعِدٌ قَدْ آنَ أنْ
فَيَروْنَهُ مِن بَعْدِ كَشْفِ حِجَابِهِ
ولقَدْ أتَانا في الصَّحِيْحَيْن اللذين
بِروَايَةِ الثِّقةِ الصُدُوْقِ جَريرٍ
أَنَّ العِبَادَ يَروْنَهُ سُبْحَانَهُ
فإنْ اسْتَطَعْتُمْ كُلَّ وَقْتٍ فاحْفَظُوا
ولقد رَوَى بِضْعٌ وعَشْرُوْنَ امْرُوءٌ
أخْبَارَ هذا الباب عَمَّنْ قَد أتَى
وَألَذُ شَيءٍ لِلْقُلُوَبِ فَهَذِهِ الأخبارُ
والله لَولا رُؤْيَةُ الرَّحْمَن في الجَنَّاتِ
أعْلَى النَّعِيْمِ نَعِيْمُ رُؤْيَةِ وجْههِ
وأشدُ شيءٍ في العَذَابِ حِجَابُهُ
وإذا رَآهُ المُؤمِنُونَ نَسُوْا الذِيْ
فإذا تَوَارَى عَنْهُم عَادُوا إلى
فَلَهُم نَعِيْمٌ عند رُؤْيَتِهِ سِوَى(1/239)
أو مَا سَمِعْتَ سُؤَالَ أعْرفِ خَلْقِه
شَوقًا إليه وَلَذَةِ النَّظَرِ الذِي
فالشَّوْقُ لَذَةٌ رُوُحه في هذه الدُّنْيَا
تَلْتَذُ بالنَّظَرِ الذي فَازَتْ به
والله مَا في هذه الدُنْيَا ألَذُ
وَكَذَاكَ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ ... يُخْبرُ عن مُنَادِي جَنّةِ الحَيَوانِ
هَو مُنْجِزُهُ لكُمْ بضَمَانِ
أعْمَالنَا ثَقَّلْتَ في المِيْزَانِ
أجَرْتَنَا مِنْ مَدْخَلِ النِيرانِ
أعْطِيْكُمُوهُ بِرَحْمَتيْ وحَنَانيْ
جَهْرًا رَوَى ذَ مُسْلِم بِبَيَانِ
هُمَا أصَحُّ الكُتْبِ بعد قُرآنِ
البجليِّ عَمَّن جَاء بالقُرْآنِ
رُؤْيا العِيَانَ كَمَا يُرَى القَمَرَانِ
البَرْدَيْنِ ما عِشْتُم مَدَى الأزمانِ
مِن صَحْب أحْمَدِ خِيْرةِ الرّحْمَنِ
بالوَحْي تَفْصِيْلاً بلا كِتْمَانِ
مَعْ أمْثَالِهَا هي بَهْجَة الإيْمَانِ
مَا طَابَت لذِي العِرْفَانِ
وخِطَابُه في جَنَّةِ الحَيَوانِ
سُبْحَانَه عن سَاكِني النِيْرَانِ
هُمْ فيه مِمَّا نَالَت العَيْنَانِ
لَذَاتِهم مِن سَائِرِ الألْوَانِ
هذا النَّعِيْمِ فَحَبَذا الأمْرَانِ
بِجَلَالِهِ المَبْعُوثِ بالقُرْآنِ
بجَلَالِ وَجْهِ الربِ ذِي السُلْطَانِ
وَيَوْمَ قِيَامَهِ الأبْدَانِ
دُوْنَ الجَوارحِ هَذِهِ العَيْنَانِ
مِن اشَتيَاقِ العَبْدِ لِلرَّحْمَنِ
هي أَكْمَلُ اللذَّاتِ للإنْسَانِ
اللهم انفعنا بما علّمتنا، وعلمنا ما ينفعُنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهُمَّ إن كُنَّا مُقَصِّريْنَ في حفظ حقك، والوفاء بعهدكَ، فأنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا في رجاء رفْدِكَ، وخالص ودِّكَ، اللهُمَّ أنت أعلمُ بنا منَّا، فبكمال جُوْدَكَ تجاوز عَنَّا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل(1/240)
قال بعضهم: بينما أنا سائر في بعض جبال بيت المقدس إذْ هبطت إلى وادٍ هناك وإذا أنا بصوت عالٍ ولتلكَ الجبالِ دَوِيٌ منه فاتَّبَعْتُ الصوت.
فإذا أنا بروضةٍ فيها شجر مُلْتَفٌ وإذا برجل قائم يُرددُ هذه الآية: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } .
قال: فوقفت وهو يُردد هذه الآية ثم صاحَ صَيْحةً خَرَّ مغشيًا عليه فانتظرتُ إفاقته، فأفاق بعد ساعة، وهو يقول: أعوذَ بكَ مِن أعمال البطالين وأعوذُ بك من إعراض الغافلين.
لك خشعت قلوبُ الخائفين وفزعتْ أعمال المقصرين، وذلَّتْ قلوبُ العارفين ثم نفضَ يديه، وهو يقول: مالي وللدُّنْيَا وما للدُنْيَا ولي أيْنَ القرونُ الماضية وأهلُ الدُهور السَّالِفة في التراب يبْلَوْن وعلى مر الدهُور يفنون.
فناديتُهُ: يا عبدالله، أنا مُنْذُ اليوم خلفك انتظرُ فراغك، قال: وكيف يفرغُ من يبادر الأوقات وتبادرُه كيف يفرغَ من ذهبت أيامُه وبقيتْ آثامُه.
ثم قال: أنت لها ولكل شدة أتوقع يُرددُها ثم لهى عني ساعة، وقرأ: { وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } ثم صاح صِيحةً أشد من الأولى وخَر مغشيًا عليه، فقلتُ: قد خرَجت نَفْسُه.
فدنوت منه، فإذا هُو يَضْطَرب ثم أفاقَ وهو يقولُ: مَن أنا مَا خطري هبْ لي إساءتي بفضك وجللني بستركَ واعْفُ عني بكرم وجِهْكَ إذا وقفتُ بَيْن يَدَيَك.
فقلتُ له: يا سيدي بالذي ترجوه لِنَفْسِكَ وتثقُ به إلا كلمتين، فقال: عليك بكلام من ينفعكَ كلامُه، ودع كلام من أوبقتهُ ذُنُوبه أنا في هذا الموضع ما شاء الله أجاهدُ إبليسَ ويجاهدني، فلم يجد عونًا علي ليُخرجني مما أنا فيه غيرك فإليك عني، فقد عطَّلْتَ لساني، ومَالتْ إلى حديثك شُعْبَةٌ من قلبي فأنا أعوذ من شرك بمن أرجو أن يعيذني من سخطه.(1/241)
فقلت في نفسي: هذا ولي من أولياء الله أخاف أن أشغلُه عن ربه، ثم تركته ومضيتُ لوجهتي، انتهى.
وصَى رجلٌ رجُلاً وأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: إذا قدمتَ المدينة، فانظر أفقرَ أهل بيت بالمدينة فأعطهم إيَّاها فدُلَّ على أهل بيت، فطرق الباب، فأجابتهُ امرأةٌ قائلةً من أنْتَ؟
فقال: أنا رجلٌ من أهل بغداد أودعتُ عشرة آلاف، وأمرتُ أن أسَلَّمهَا إلى أفقر أهل بالمدينة وقَدْ وصفهُم لي.
فقالت: يا عبدالله، إن صاحبك اشترط أفقر أهل بيتٍ وهؤلاء الذين بإزائنا أفقر منا فتركتهم وأتيت أولئك فطرقتُ الباب، فأجابتني امرأة، فقلت لها مثل الذي قُلتُ لتلك المرأة، فقالت: يا عبدالله، نحنُ وجيرانُنَا في الفقر سواء، فاقسمها بيننا وبينهم.
أيا رَاضِعَ الدُنيا انْفَطِمْ عن فَطَامِهَا
ألا عَاملٌ فيها لِينْقِذَ نَفْسَه
ألا آسِفٌ ذُوْ لَوْعَةٍ وتَخرُّقٍ
ألا مُذْنِبُ مُسْتَغْفِرُ من ذُنُوبِهِ
ألا خَاشِعٌ مِن خَشْيَةِ الله خَاضِعٌ
سَتَلْقون ما قدَّمْتُم اليومَ في غَدٍ ... فقد آن تَنْهَاكَ عَنْهَا الشوائِبُ
إلا مُخْلصٌ في طاعة الله رَاغِبُ
ألا نَائِحٌ في مَأتَمِ الحُزْنِ نادِب
ألا خائِفٌ مِن خَشْيَةِ الله رَاهِبُ
ألا ناحِلٌ شَوْقًا إلى الله ذَائبُ
وكُلُ امْرئٍ يُجْزَى بما هُوَ كَاسِبُ
قال القرطبي في «تفسيره» في سورة النمل: عند قول الله تعالى: { وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ } ، قال مقاتل بن سليمان: بينما سليمان بن داود جالس ذات يوم إذ مَرَّ به طائرٌ يطوف.
فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ إنها قالت لي: السلام عليك أيها الملك المُسَلَّط، والنبي لبني إسرائيل، أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى أفراخي، ثم أمر بك ثانية و إنه سيرجع إلينا الثانية.(1/242)
ثم رجع، فقال: إنه يقول السلام عليك أيها الملك المسلط إن شئت أن تأذن لي كيما اكتسبُ على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له فانطلق.
وقال فرقد السبخي: مَرَّ سُليمان على بُلبلٍ فوق شجرة يُحركُ رأسه ويُميلُ ذنبهُ، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: لا يا نبي الله، قال: إنه يقول: أكلتُ نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء.
ومرَّ بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخًا، فقال له سليمان: احذَرْ يا هُدْهُدُ، فقال: يا نبي الله، هذا صبي لا عقْلَ لَهُ فأنا أسْخَر به.
ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالةِ الصبي وهو في يده، فقال هُدهد: ما هذا؟ قال: ما رأيتُها حتى وقعتُ فيها يا نبي الله، قال: ويحكَ فأنْتَ ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخَّ؟ قال: يا نبي الله إذا نزل القضاء عَمِيَ البصرُ.
وقال كعب: صاح ورشان عند سليمان بن داود، فقال: أتدرون ما يقول؟, قالوا: لا، قال: إنه يقول لدُوا للموت وابنوا للخراب.
وصاحت فاختةٌ، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول ليْتَ هذا الخلق لم يُخلقُوا وليتهُم إذ خلقوا علمُوا لما خُلِقُوا له.
وصاح عنده طاوس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول كما تدين تدان.
وصاح عنده هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول مَن لا يرحم لا يرحم.
وصاح صُرَد عنده، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول استغفروا الله يا مذنبين، فمن ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله.
وقيل: إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت وهو أول من صام، ولذلك يقال للصرد الصوام.
روي عن أبي هريرة، وصاحت عنده طيطوي، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول كلُ حَي مَيِّت وكلُ جديد بَالٍ.(1/243)
وصاحت خَطَّافة عنده، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول قدِّمُوا خيْرًا تجدُوه، فمنْ ثم نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْلِها.
وقيل: أن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة فآنسه الله تعالى بالخطاف والزمها البيوت، فهي لا تفارق بني آدم أنسًا لهم.
قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ } إلى آخرها وتمد صوتها بقوله العزيز الحكيم.
وهدرت حمامة عند سليمان، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى عدد ما في سمواته وأرضه.
وصاح قمري عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال، إنه يقول سبحان ربي العظيم المهيمن.
وقال كعب: وحدثهم سليمان، فقال: الغراب يقول: اللهم الْعَن العَشار، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول: من سَكَتَ سَلِمْ.
والببغاءُ تقول: ويل لِمَن الدنيا همُّه، و الضفدعُ يقول: سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان.
وقال مكحول: صاح دراج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: «الرحمن على العرش استوى»، وقال الحسن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صاح الديك: قال اذكروا يا غافلين».
وقال الحسن بن علي ابن أبي طالب: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النسر إذا صاح قال: يا ابن آدم عِش ما شئتَ فآخِركَ الموت».
وإذا صاح العقاب، قال: في البعد عن الناس الراحة.
وإذا صاح الخطاف، قرأ الحمد لله رب العالمين إلى آخرها، فيقول: ولا الضالين ويمد بها صوته، كما يمد القارئ، قال قتادة والشعبي: إنما هذا الأمر في الطير خاصة؛ لقوله: { عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ } ، والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة، قال الشعبي: وكذلك كانت هذه النحلة ذات جناحين.(1/244)
وقال: فرقة، بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير؛ لأنه كان جندًا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس، وفي البعث في الأمور، فخص بالذكر لكثرة مداخلته، ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير.
وقال أبو جعفر النحاس: والمنطق يقع لما يفهم بغير كلام، والله جل وعز أعلم بما أراد، قال ابنُ العربي: مَن قال: إنه لا يعلم إلا منطق الطير، فنقصان عظيم.
إلهي إني شاكرٌ لَكَ حَامِدٌ
وأنَّكَ مَهْمَا زَلَّتِ النَّعْلُ بالفَتَى
تَبَاعَدْتَ مَجْدًا واَّنَيْتَ تَعَطُفًا
وما لي على شيءٍ سِوَاكَ مُعَوَّلٌ
أغَيْرَكَ أدْعُو لي إلهًا وخَالِقًا
وقِدْمًا دَعَى قومٌ سِوَاكَ فَلم يَقُمْ
وكم لَكَ في خَلْقِ الوَرى مِن دَلائِل
كَفَى مُكْذِبًا لِلْجَاحِدِيْكَ نُفُوسُهُمْ ... وإني لَسَاعٍ في رضَاكَ وَجَاهِدُ
على العَائِدِ التَّوبِ بالعفوِ عائد
وحِلْمًا فأنْتَ المُدَّني المُتَبَاعِدُ
إذا دَهَمَتْني المُعْضِلاتُ الشدائدُ
وقد أوضحَ البُرْهَانُ أنَّكَ واحِدُ
على ذَاكَ بُرْهانٌ ولا لاحَ شاهِدُ
يَرَاها الفَتَى في نفسه ويُشَاهِدُ
تُخَاصِمُهُمْ إنْ أنْكَرُوْا وتُعَانِدُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
موعظة
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ:
استمعْ يا رهين الآفات والمصائب، يا أسير الطارقات النوائب، إياك وإياك الآمال الكواذب، فالدنيا دارٌ وليست بصاحب أما أرتْكَ في فعلها العجائب.
فيمن مشى في المشارق والمغارب، ثم أرتك فيك شيب الذوائبْ.
أما علمتَ أنَّ سهامَ الموت صَوَائِبْ، لا يَرُدُّهَا مُحَارِبْ، ولا يفوتُها هاربْ، تدبُّ إلينا دبيب الحيَّات والعَقارِبْ، بينما أنْتَ تسمعُ صوتَ مزْهِر صار صَوْت نادِبْ.
يا أسير حُبِّ الدنيا إن قتلتك من نطالب كأني بك قدْ بتَّ فرحًا مسرورًا، فأصبحت ترحًا مثبورًا، وتركتَ مالك لِغَيَركَ مَوْفُورًا.(1/245)
وخرج من يدك فصار للكُلِّ شُوْرَى، وعَايَنْتَ ما فَعْلَتَ في الكتاب مَسْطْورًا.
وعَلِمْتَ أنك كنتَ في الهوى مَغْرُورًا، واستحالتْ صَبَا الصَّبَا فعادتْ دَبُورًا، وأسكنتَ لحدًا تصيرُ فيه مأسورًا، ونزلت جدثًا خربًا وتركتَ قصرًا معمورًا، ودخلت في خبر كان { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا } .
وما هذه الدُنْيَا بَدارِ إقَامَة
هي الدَّارُ إلا أنَّهَا كَمَفَازَةٍ
وإنَّا لمنْ مَرِّ الجدِ يْدين في الوغَى
تُجَرِّدُ نَصْلاً والخَلائِقُ مِفْصَلٌ
وما خَلْفَنَا منها مَفَرٌ لها رب
وكُلٌ وإنْ طَالَ الثَّوَاءُ مَصِيْرهُ ... فَيَحزَنُ فيها القاطنُ المترحِّلُ
أنَاخَ بها رَكْبٌ ورَكْبٌ تَحَمَّلُوا
إذا مَرَّ منها جَحْفَلٌ كَرَّ جَحْفَلُ
وتُنْبِضُ سَهْمًا والبَريَّة مَقْتَلُ
فكيَف لمن رام النجاة التخيل
إلى مَوْرِدٍ ما عنه للخلق مَعْدِلُ
أين الوالدان وعما ولدوا؟ أين الجبارون؟ وأين ما قصدوا؟ أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا؟ أمَا جَنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا، أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا، أما خلوا في ظلمات القبور.
بكوا والله على تفريطهم وانفردوا أما ذَلُّوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا أما طلبو ا زادًا يكفي في طريقهم ففقدوا.
عاينوا والله كلَّ ما قدَّموا ووجدُوا، فمنهم أقوام شقوا، ومنهم أقوام سعدوا.
كان ابنُ السماك يقول: ألا منتبه من رقدة؟ ألا مستيقظ من غفلة؟ ألا مفيق من سكرته؟ ألا خائف من صرعته؟
أقسم بالله لو رأيت القيامة تخفق بزلازل أهوالها وقد عَلت النار مِشرفة على أهلها وجيء بالنبيين والشهداء لسرَّكَ أن يكون لك في ذلك الجمع منزلة وزلفى. اهـ.
سَبَقَ القَضَاءُ بكل ما هُو كائِنُ
تَعْنِي بما تُكْفَي وتَتْركُ ما بِهِ
أو مَا تَرىَ الدُنيَا ومَصْرعَ أهلِهَا
واعْلَمْ بأنَّكَ لا أبالَكَ الذي
يا عَامِرَ الدنيا أتِعْمُرُ مَنْزلاً
الموتُ شيءٌ أنْتَ تَعْلَمُ أنّهُ(1/246)
إنَّ المِنيَّةَ لا تُؤامِر مِن أتَت ... والله يا هَذَا لِرِزْقِكَ ضَامِنُ
تُعْنَي كأنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ
فاعْمَلْ لِيَومِ فِرَاقِها يَا آمِنُ
أصْبَحْتَ تجمَعُهُ لِغَيْركَ خَازنُ
لم يَبْقَ فيهِ مِن المنيةِ سَاكِنُ
حَقٌ وأنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ
في نَفْسِهِ يَومًا ولا تَسْتَأذِنُ
فصل في ذكر طرف مما حدث في بعض السنين من الأوبية والأمراض
أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة فكانت الريح تسفي ترابًا كالرماد فسمي عام الرمادة، وجعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، فآلى عمر ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناس، واستسقى العباس، فسقوا.
وفيها كان طاعون عمواس مات فيه أبو عبيدة ومعاذ وأنس، وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها.
وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف هلك في ثلاث أيام سبعون أ لفًا ومات فيه لأنس ثمانون ولدًا وكان يموت أهل الدار فيطين الباب عليهم.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعونة سبعون ألفًا، وفي الثاني نيِّفٌ وسبعون ألفًا، وفي اليوم الثالث خمد الناس.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذُبِحَ الأطفال وأكلت الجيف وبيع العقار برغفان واشترى لمِعزِ الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أصاب أهل البصرة حَرٌ فكانوا يتساقطون موتى في الطرقات.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عم القحط فأكلت الميتة وبلغ المكوك من بزر البقلة سبع دنانير، والسفرجلة والرمانة دينارًا والخيارة واللينوفرة دينارًا، وورد الخبر من مصر بأن ثلاثة من اللصوص نقبوا دارًا فوجدوا عند الصباح موتى أحدهم على باب النقب، والثاني على رأس الدرجة، والثالث على الثياب المكورة.
وفي السنة التي تليها وقع وباء، فكان تحفر زبية لعشرين وثلاثين فيلقون فيها، وتاب الناس كلهم وأراقوا الخمور ولزموا المساجد.(1/247)
وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وقع الوباء وبلغ الرطل من التمر الهندي أربعة دنانير، وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجوع والوباء بمصر حتى أكل الناس بعضهم بعضًا وبيع اللوز والسكر بوزن الدراهم والبيضة بعشرة قراريط، وخرج وزير صاح مصر إليه فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصلبوا فأصبح الناس لا يرون إلا عظامهم تحت خشبهم وقد أكلوا، وفي سنة أربع وستين وأربعمائة وقع الموت في الدواب حتى إن راعيًا قام إلى الغنم وقت الصباح ليسوقها فوجدوها كلها موتى. انتهى.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم.
وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحدٌ أحدًا، بل يُتركون على الطرق فيأكل كثيرًا منهم الكلاب.
وبيعت الدور بالخبز وانتجع الناسُ إلى البصْرة فكان منهم من مات في الطريق.
وذكر ـ رحمه الله ـ أن في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في جماد الأولى غلت الأسعار ببغداد جدًا وكثُرت الأمطار حتى تهدم البناء، و مات كثير من الناس تحت الهدم وتعطَّلت أكثر المساجد من قلة الناس.
ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما يُساوي الدينار وخلت الدُور وكان الدَّلالُون يُعطُون من يسكنُها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليُخربُوْها.
وكثرت الكبساتُ من اللصوص بالليل حتى كان الناس يتحارسُون وكثُرت الفتنُ من كل جهة { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } . اهـ.
وفي سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بسببها مائتا ألف وثلاثون ألفًا وصار مكانها ماء أسود عشرة فراسخ في مثلها.
وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة، فوضع السلطان محمود مكوسًا كثيرة عن الناس وكثُرت الأدعية له.
قال: وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلزلة عظيمة بالشام هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله.(1/248)
وتهدَّم أكثرُ حلب وحماة وشيرز وحمص وكفر طاب وحصن الأكراد والمعرَّة وقامية واللاذقية وأنطاكية وطرابُلس.
قال: وقال ابنُ الجوزي: وأما قامية فساخت قلعتها وتل حران انقسم قسمين فأبدى نواويس وبيوت كثيرة في وسطه.
وتهدَّمت أسوار أكثر مدن الشام حتى أن مكتبًا من مدينة حماة انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم.
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفًا.
وفي السنة التي تليها رجفت الأهواز وتصعدت الجبال وهرب أهل البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يومًا.
وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطرًا وبردًا كالبيض، فقتل به 370 إنسانًا.
وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك.
ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع وعرضها شبرٌ وبين الخطوتين خمس أذرع أو ستة.
فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا.
وفي سنة 233 رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها فمات خلق كثير.
وانكفأت قرية في الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد.
وزلزلَت أنطاكية فمات منها عشرون ألفًا.
وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفًا وخمسين يومًا.
وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان وهوازن.
ثم ذهبت إلى همدان فأحرقت الزرع.
ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي وتعطلت الأسواق.
وزلزلت هراة فوقعت الدور.
وذكروا أشياء كثيرة غريبة عجيبة يطول ذكرها اقتصرنا منها على هذا الطرف اليسير الذي ربما يكون سببًا للاعتبار والتيقظ والرجوع إلى الله.
نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
أن يوقظ قلوبنا ويستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا ويثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، إنه سميع قريب على كل شيء قدير.
صَرَفْتُ إلى رِبّ الأنامِ مَطَالبي
إلى المَلِكِ الأعْلَى الذّي ليسَ فَوقَهُ(1/249)
إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فَاضَ جُوْدُهُ
مُقِيْليْ إذا زَلَّتْ بيَ النَّعْلُ عَاثِرًا
فَمَا زَالَ يُوْلِيْني الجَمِيْلَ تَلَطُّفًا
ويَرْزُقُني طِفْلاً وكهلاً وقَبْلَهَا
إذا أغْلَقَ الأمْلَاكُ دُوْني قُصُورَهُمْ
فِزعْتُ إلى بَاب المُهَيْمِن طارقًا
فلم ألْف حُجَّابًا وَلم أخْشَ مِنْعَةً
كَريْمٌ يُلَبْي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا
سَأسْألهُ مَا شِئتُ إنَّ يَمِيْنَهُ
فَحَسْبِيَ رَبيْ في الهَرَّاهِزِ مَلْجًَا ... وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآربي
مَليْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في المْتَاعِبِ
وعَمَّ الوَرَى طُرًا بجَزْلِ المَوَاهِبِ
وأسْمَحَ غَفَّارٍ وأكْرمَ وَاهِبِ
ويَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ
جَنِيْنًا ويحْمِيْني وَبيَّ المكاسِبِ
ونَهْنَه عن غِشْيانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ
مُدِلاً أُنادِي بإسْمِهِ غير هائِبِ
ولو كَان سُؤْلِيْ فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ
نَهَارًا ولَيْلاً في الدُجَى والغَياهِبِ
تَسِحُّ دِفَاقًا باللُّهَى والرَّغَائِبِ
وحِرْزًا إذا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوائِبِ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فوائد نافعة حول الإفتاء والاستفتاء
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الفُتْيَا أمرها عظيم، ولقد كان السلف –رحمهم الله- يأبون الفُتيا، ويُشددون فيها، ويتدافعون عكس ما عليه علماء هذا العصر.
فعن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسئلُ أحدهم عن المسألة فيرُدَّهَا هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وفي رواية ما منهم من يُحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا، وأنكر الإمام أحمد وغيره على من يهجمُ على الجواب؛ لخبر: «أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار».(1/250)
وقال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستفتى فيه، وقال: لا ينبغي للرجل أن يُعرض نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أحدها: أن تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسةً ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدَّى له من بيان الأحكام الشرعية.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عرَّض نفسه لخطر عظيم.
الرابعة: الكفَّاية، وإلا أبغضهُ الناس؛ لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه.
الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلاً يوقعوه في المكروه.
وإليك ما ورد في ذلك، نقل الميموني عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - أنه سُئل عن حديث، فقال: سلوا أصحاب الغريب فإني أخاف أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن فأخطئ.
وقال أبو داود الطيالسي: سمعتُ شُعبة قال: سألتُ الأصمعي عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لَيُغَانُ على قلبي» ما معنى يُغَان؟
قال: فقال لي هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: نعم، فقال: لو كان عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لفسَّرْتُ ذلك، ولكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أجترئ عليه.
وعن الأصمعي عن مُعتمر بن سُليمان عن أبيه قال: كانوا يتقون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتقون تفسير القرآن.
وكان الإمام أحمد يجيء إلى أبي عبيد يسأله في الغريب روى ذلك الخلال.
وقال ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقالته، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء.
وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم.(1/251)
وقال أحمد في رواية المروذي: كان مالك يَسْئلُ عن الشيء فيقدِّم ويؤخر يتثبت، وهؤلاء يقيسون على قوله، ويقولون: قال مالك.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: من عِلْم الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم؛ لأن الله عز وجل قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ } .
وصح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: العلم ثلاثة: كتاب ناطقٌ، وسُّنة ماضية، ولا أدري.
وقال أحمد في رواية المروذي: ليس في كل شيء ينبغي أن يُتكلم فيه، وذكر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل فيقول لا أدري حتى أسأل جبريل.
وقال عبدالله: سمعتُ أبي يقول: كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق، ويقول: مَنْ يُحسنُ ذا من يُحسنُ ذا.
وقال في رواية الحارث: وددتُ أنه لا يسألني أحد عن مسألة أو ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل البلاء يُخرجُه الرجلُ عن عُنُقِه ويُقَلِّدك.
وخاصَّة مسائل الطلاق والفُروج، ونقل الأثرم عنه أنه سأله عن شيء، فقلتُ: كيف هو عندك، فقال: وما عندي أنا.
وسمعتُه يقول: إنما هو يعني العلمَ ما جاء من فوق، وقال سفيان: من فتنة الرجل إذا كان فقيهًا أن يكون الكلام أحبَّ إليه من السكوت.
وقال المروذي: قُلتُ لأبي عبدالله إن العالم يظنون عنده علمُ كل شيء، فقال: قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن الذي يُفتي الناس في كل ما يستفتُونه لمجنُون، وأنكر أبو عبدالله على من يتهجَّم في المسائل والجوابات.
قال: وسمعتُ أبا عبدالله يقول: ليتَّقِ الله عبدٌ ولينظر ما يقول وما يتكلم، فإنه مسئول.
وقال: من أفتى الناس ليس ينبغي له أن يُحيل الناسَ على مذهبه، ويُشدِّد عليهم.
وقال في رواية القاسم: إنما ينبغي أن يُؤمر الناسُ بالأمر البين الذي لا شك فيه وليت الناس إذا أمروا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه.(1/252)
ونقل محمد بن أبي طاهر عنه أنه سُئل عن مسألة في الطلاق، فقال: سلْ غيري ليس لي أن أفتي بالطلاق بشيء.
وقال في رواية ابن منصور: لا ينبغي أن تُجيبَ في كل ما يُستفتى، وصح عن مالك أنه قال: ذلٌ وإهانةٌ للعالم أن تجيب كُلَّ من سألَكَ.
وقال أيضًا: كلُ مَن أخبرَ الناسَ بكل ما يسمعُ فهُو مجنُون، وقال أحمد في رواية أحمد بن علي الأبار، وقال له رجل: حَلَفْتُ بيمينْ لا أدري أيش هي؟ قال: ليتَ أنك إذا دَرَيْتَ دَرَيْتُ أنا.
وقال في رواية الأثرم: إذا هاب الرجل شيئًا فلا ينبغي أن يحمل على أن يقول.
وقال في رواية المروذي: إن الذي يُفتي الناس يتقلدُ أمرًا عظيمًا، وقال: يُقدم على أمر عظيم ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا بقول من تقدم وإلا فلا يُفتي.
وقال في رواية الميموني: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ.
وقال الثوري: لا نزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا، وقال أحمد: نحن الساعة نتعلم، وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» ما معناه.
قال أبو عبدالله: يُفتي بما لم يسمع، وقال محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبدالله، وسُئل عن الرجل يفتي بغير علم، قال: يروى عن أبي موسى، قال: يمرق من دينه.
ونقل المروذي: أن رجلاً تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبدالله، قال: هذا من حبه الدنيا يُسئلُ عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب.
ونحو هذا عن حماد، وقال: كنت أسائل إبراهيم عن الشيء، فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم، روى ذلك الخلال وغيره.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال ابن وهب عن يونس عن الزهري: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - حدث رجلاً بحديث فاستفهمهُ الرجل، فقال الصديق: هو كما حدَّثتُك، أي أرْضٍ تُقِلُني إذا قلتُ بما لا أعلم.(1/253)
وروى نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعًا: «من أفتي بفتيا غَيْر ثِبْتٍ فيها، فإنما إثمه على الذي أفتاه»، وفي لفظ: «من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه» رواهما أحمد، وروى الثاني أبو داود، والأول ابن ماجه، وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي «المنتقى».
وقال الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود، قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون، وقال مالك: عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله.
وقال الزهري عن خالد بن أسلم، قال: كنا مع ابن عمر، فسأله أعرابي أترثُ العمة؟ فقال: لا أدري، قال: أنت لا تدري، قال: نعم إذهب إلى العلماء، فاسألهم، فلما أدبر الرجل قَبَّلَ ابنُ عمر يدهُ، فقال: نعم ما قال أبو عبدالرحمن، سُئل عما لا يدري، فقال: لا أدري.
وقال سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما منم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه.
ولا يُستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتوى، هذا لفظ رواية الثوري، ولفظ ابن عيينة إذا سُئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقال أبو حُصَين عثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يُفتي في المسألة ولو وردتْ على عمر لجمع لها أهْلَ بَدْرٍ.
وقال القاسم وابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلاً خير له من أن يقول ما لا يعلم، وقال مالك عن القاسم بن محمد: إنَّ مِن إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه.
وقال سعيد بن جبير: ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم، وقال مالك: من فقه العالم أن يقول لا أعلم، فإنه عسى أن يهيأ له الخير.(1/254)
وقال أحمد بن حنبل: سمعتُ الشافعي ـ رضي الله عنهما ـ سمعت مالكًا، سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله، ورواه إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة عن داود بن أبي الزُبَير الزبيري عن مالك بن عجلان، قال: قال ابن عباس، فذكره وقد سبق.
وقال عبدالرزاق عن معمر، قال: سأل رجل عَمْرَو بنَ دينار عن مسألة فلم يجبه، فقال الرجل: إن في نفسي منها شيئًا فأجبني.
فقال: إن يكن في نفسك منها مثل أبي قُبيس أحب إليَّ أن يكون في نفسي منها مثل الشعرة.
وقال ابن مهدي: سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة فطال ترداده إليه فيه وألح عليه، فقال: ما شاء الله يا هذا، إني لم أتكلم إلا فيما احتسبُ فيه الخير ولستُ أحسنُ مُسألتَكَ هذه.
وقال ابنُ وهب: سمعتُ مالكًا يقول: العجلة في الفتوى نوعٌ من الجهل والخُرق.
وقال يحيى بن سعيد: كان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فُتيًا ولا يقول شيئًا إلا قال: اللهم سلِّمْني وسَلَّمْ مني، ذكره البيهقي وغيره.
ولاسيما إن كان من يُفتي يعلم من نفسه أنه ليس أهلاً للفتوى لفوات شرط أو وجود مانع ولا يعلم الناس ذلك منه.
فإنه يحرم عليه إفتاء الناس في هذه الحال بلا إشكال فهو يسارع إلى ما يحرم لاسيما إن كان الحامل على ذلك عرض الدنيا.
وأما السف فكانوا يتركون ذلك خوفًا، ولعل غيره يكفيه وقد يكون أدنى لوجود مَن هو أولى منه.
قال ابن معين: الذي يحدث بالبلدة وبها من هو أولى منه بالحديث فهو أحمق.
وقال مالك: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك.
وقال ابن عُيينة وسحنون: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، وقال سحنون: أشقى الناس من باعَ آخرتَهُ بدنيا غيره.
وقال: فتنةُ الجواب بالصواب أشدُ من فِتنة المال.
وقال سفيان: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفُتيا حتى لا يجدوا بُدًّا من أن يُفتُوا، وقال: أعلمُ الناس بالفُتيا أسكتُهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم فيها.(1/255)
وبكى ربيعة، فقيلَ: ما يُبكيك؟ فقال: استُفْتِي مَن لا عِلْمَ له، وقال: ولبعض من يُفتى هاهنا أحقُّ بالسَّجْن من السُّراق.
وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل؛ ولكن ليكن همُّكَ تخليص نفسك، وقال عمرو بن دينار: لما جلس قتادة للفتيا تدري في أي عمل وقعت؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه، وقلتُ: هذا يصلح، وهذا لا يصلح.
وقال بعضهم: إن العالم داخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم!
وكان ابن سيرين إذا سُئل عن الشيء من الحلال والحرام تغيَّر لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة، ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري؟
وقال آخر: إذا سُئلت عن مسألة فتفكر، فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم، وإلا فاسكت.
وعن مالك: أنه كان إذا سُئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
وقال النخعي: قد تكلمتُ ولو وجدتُ بُدًا ما تكلمت، وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وقال ابن عيينة: ليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه، إنما هذا الأمر لمن ود أن وجد من يكفيه.
وسُئل عمر بن عبدالعزيز عن مسألة، فقال: ما أنا على الفتيا بجريء، انتهى.
ضَوُوْا العلم في الدنيا نجومُ هِدَايَةً
بِهِمْ عَزَّ دِيْنُ الله طُرًا وهُمْ لهُ
ولو لم يَقُمْ أهلُ الحديثِ بنقِلهِ
هُمُوا وَرِثوا عِلْمَ النُّبوةِ واحْتَووْا
وهُمْ كَمَصَابِيْحِ الدُّجَى يُهْتَدَى بِهِمْ ... إذا غاب نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيْدُ
مَعَاقِلُ من أعْدَائه وجُنُودُ
فَمَنْ ك ان يَرْوِي عِلْمَهُ ويُفِيْدُ
مِن الفضلِ ما عنه الأنامُ رُقُوْدُ
وَمَا لهمُوْا بَعْدَ الممات خُمُوْدُ
آخر:
ألا رُبَّ مِنْ قَدْ أنْحَلَ الزُّهدُ جِسْمَهُ
يَرُومِ وِصَالاً وهو بالطُرْقِ جَاهِلٌ
قليلٌ من الأعمالِ بالعلمِ نَافِعٌ
جج ... كَثِيْرُ صَلاةٍ دَائِمِ الصومِ عابِدُ
إذا جُهِلَ المَقْصُودُ قد خَاب قاصِدُ(1/256)
كَثيرٌ من الأعمالِ بالجَهْلِ فاسِدُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
أسئلة وأجوبة الله أعلم بالسائل عنها والمسئول:
السؤال الأول عن واحد لا ثاني له.
وعن دين لا يقبل الله غيره.
وعن مفتاح الصلاة وبم تختم.
وعن غراس الجنة وعن صلاة كل شيء.
وعن أربعة فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرجال ولا أرحام النساء.
وعن رجل لا أب له.
وعن رجل لا أم له ولا أب.
وعن حيوان جرى بصاحبه.
وعن بقعة من الأرض طلعت عليها الشمس مرة واحدة ولم تطلع عليها قبل ذلك ولا بعده.
وعن ظاعِن ظعن مرَّةً ولم يظعن قبلها ولا بعدها.
وعن شجرة نبتت على إنسان.
وعن شيء يتنفس ولا روح له.
وعن الحكمة في المحو الذي في القمر.
وعن ميت مات ألف شهر ومائتي شهر.
وعن جبل ارتفع ثم رجع.
وعن اثنان لا ثالث لهما.
وخمسة لا سادس لها.
وستة ليس سابع.
وسبعة ليس لها ثامن.
وثمانية لا تاسع لها.
وتسعة لا عاشر لها.
وعشرة ليس لهم حادي عشر.
واثنا عشر لا ثالث عشر لها.
وثلاثة عشر لا رابع لها.
وعن أحب كلمة إلى الله.
وما الموضع الذي ليس له قبلة.
وعن شيء حل بعضه وحرم بعضه.
وعن نبي نهى الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل مثل عمل عمله.
وعن مَنْ بعثه الله وليس من بني آدم ولا من الجن ولا من الملائكة.
وعن نفس ماتت وضُرب ببعضها ميت فحيا بإذن الله.
وعن كافر لم تأكل الأرض لحمه.
وعن نفسٍ خرجت من نفسٍ ولا نسبة بينهما.
وعن اثنين تكلما في الدهر مرةً واحدة فقط ثم هما سكوت إلى يوم القيامة.
وعن أنفع كلمة وأرفع كلمة وأحسن كلمة وأزكى.
وعن جماعة شهدوا بالحق وهمُ كاذبون.
وعن جماعة شهدوا بالحق فأدخلوا النار ومن شهدوا عليه.
وعن شيء في الأرض من الجنة.
وعن صيدين صادهما رجل فحل أحدهما له وحرم عليه الآخر.
وعن امرأة أوحى الله إليها.
وعن خمسة مشوا على وجه الأرض ولم يولدوا.
وعن أم لم تلد.
وعن أم لم تولد.(1/257)
و7عن ماء لم يذكر أنه نبع من الأرض ولم يذكر أنه نزل من السماء.
الجواب:
الواحد الذي لا ثاني له فالله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأما الدين الذي لا يقبل غيره فدين الإسلام، قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } .
وأما مفتاح الصلاة فالتكبير وتختتم بالتسليم.
وأما غرس الجنة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأما صلاة كل شيء سبحان الله وبحمده.
وأما الذي فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء، فهم: آدم وحواء، وناقة صالح ـ عليه السلام ـ، وعصا موسى لما قلبها الله حية، والكبش الذي فدى به إبراهيم ابنه، قال الله تعالى: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، وأما الموضع الذي ليس له قبلة فظهر بيت الله (أي سطح الكعبة).
وأما الرجل الذي لا أب له فعيسى –عليه وعلى نبينا السلام-.
وأما الرجل الذي لا أم له ولا أب فآدم ـ عليه السلام ـ.
وأما الحيوان الذي جرى بصاحبه، فالحوت الذي سار بيونس في البحر.
وأما البقعة التي طلعت عليه الشمس مرةً واحدة فأرض البحر الذي فلقه الله لموسى ومن معه من بني إسرائيل.
وأما الاثنان اللذان ليس لهما ثالث فالليل والنهار.
وأما الثلاث التي ليس لها رابع فالطلاق الثلاث.
وأما الخمس التي لا سادس لها فالصلوات الخمس المفروضة.
وأما الستة الذين لا سابع لهم فالأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
وأما السبعة التي لا ثامن لها فأيام الأسبوع.
وأما الثمانية الذين ليس لهم تاسع فحملة العرش يوم القيامة، قال الله جل وعلا: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .
وأما التسعة الذين لا عاشر لهم، فالتسعة الرهط الذين ذكرهم الله في سورة النمل، قال تعالى: { وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } .(1/258)
وأما العشر التي ليس لها حادي عشرة، فقوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } .
وأما الأحد عشر فإخوة يوسف.
وأما الاثنا عشر فشهور السنة.
وأما الثلاثة عشر فإخوة يوسف وأبوه وأمه.
و ما أحب كلمة إلى الله فكلمة الإخلاص «لا إله إلا الله».
وأما الشيء الذي أحِلَّ بعضُه وحُرِّمَ بعضُه فهو نهر طالوت، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } .
وأما الذي بعثه الله ولسي من الإنس ولا من الملائكة ولا من الجن، فهو الغراب، قال الله تعالى: { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ } .
وأما النفس التي ماتت وضرب ببعضها ميتًا آخر فحيا بإذن الله، فهي بقرة بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى } .
وأما الشجرة التي نبتت على إنسان فالتي أنبتها الله على يونس بن مَتَّى، قال تعالى: { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } .
وأما النفس التي دخلت في نفس أخرى وخرجت وليس بينهما مناسبة فهو يونس بن متى ـ عليه السلام ـ دخل في بطن الحوت وخرج، قال تعالى: { فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ } .
وأما الكنز من كنوز الجنة فلا حول ولا قوة إلا بالله، كما في الحديث.
وأما الماء الذي لم يذكر أنه نبع من الأرض ولم يذكر أنه نزول من السماء، فالماء الذي نبع بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الحكمة التي في محو آية الليل القمر، فالله أعلم أنه لأجل تمييز الليل من النهار، ولمنافع أخرى تتعلق بالنبات والزروع والأشجار.
وأما أنفع كلمة وأرفع كلمة وأحسن كلمة، فكلمة الإخلاص: «لا إله إلا الله».(1/259)
وأما النبي الذي نهى الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل مثل عمل عمله، فهو يونس، قال الله جلا وعلا وتقدس: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } .
وأما الشهود الذين شهدوا حقًا وهم كاذبون فهم المنافقون، قال الله تعالى: { إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .
وأما الشهود الذين شهدوا بالحق وأدخلوا النار، ومن شهدوا عليه فالجوارح، قال الله جل وعلا وتقدس: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، وقال تعالى: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الآيات.
وأما الجبل الذي ارتفع وعاد فجبل الطور، أعاده الله، قال الله جل وعلا: { وَإِذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } .
وأما الكافر الذي لم تأكل الأرض لحمه فقارون.
وأما الذي في الأرض وهو من الجنة فالحجر الأسود.
و أما الصيدان اللذان صادهما رجل، فأحِل له أحدهما وحرم عليه الآخر، فمحرم صاد صيدين من البر واحد ومن البحر واحد، فالذي من البر حرام، والذي من البحر حلال.
وأما الذي مات ألف شهر ومائتي شهر ثم أحياه الله، فالعزيز ـ عليه السلام ـ، قال الله جل وعلا وتقدس: { فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } .
وأما المرأة التي أوحى الله إليها فأم موسى، قال الله جل وعلا: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .
وأما الأم التي لم تولد فحواء –عليها السلام-.
وأما الأم التي لم تلد فمكة المكرمة أم القرى، قال الله جل وعلا: { لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى } . اهـ.(1/260)
سُئل الشافعي عن رجلين خطبا امرأة فحلت لأحدهما ولم تحل للآخر، فقال: إن الذي لم تحل له، له أربع زوجات فحرمت عليه الخامسة.
فقال: ما تقول في رجلين شربا خمرًا فوجب على أحدهما الحد، ولم يجب على الآخر وكانا مسلمين؟ فقال: إن أحدهما كان حرًا بالغًا فوجب عليه الحد، والآخر صغير لم يبلغ.
قال: فما تقول في خمسة زنوا بامرأة فوجب على أحدهم القتلُ، وعلى الآخر الرجمُ، وعلى الثالث الحدُ، وعلى الرابع نصف الحدِ، ولم يجب على الخامس حَدٌّ.
فقال: أمَّا الأول فمشرك زنى بمُسلمة فوجب عليه القتل، وأما الثاني فمسلم مُحصن زنى فوجب عليه الرجم، وأما الذي وجب عليه الحد فمسلمٌ بكر زنَى، وأما الرابع فمملوكَ زنى فوجب عليه نصفُ الحد، وأما الذي لم يجب عليه شيء فالصبيُّ والمجنون.
قال: فما تقول في رجل أخذ كأسًا من ماء فشرب بعضه وحرُم عليه الباقي؟
قال: هذا لما شرب بعضه وقع على الباقي نجاسة فحرم عليه.
قال: فما تقول في رجل دفع إلى امرأته كيْسًا مختومًا، وقال لها: أنتِ طالقٌ إن لم تُفرغيه ولا تفتحيه ولا تقطعيه ولا تفتقيه، ففرغته على ذلك الحكم ولم يلحقها طلاق؟
فقال: إن الكيس مملوءًا سكرًا أو ملحًا فوضعته في الماء فذاب وتفرَّغَ.
قال: فما تقول في جماعة صلحاء سجدوا لغير الله تعالى وهم في فعلهم مُطيعون؟ قال: الملائكة سجدوا لآدم.
قال: فما تقول في رجل لقي جارية فقبَّلها، وقال: فديتُ من أبي جدُّها وأخي عمها وأنا زوج أمها، فما تكون منه؟ قال: هي ابنته.
قال: فما تقول في امرأة لقيت غُلامًا، فقبلته، قالت: فديتُ من أُمي ولدت أمهُ وأخُوْ زوْجِي عمُّهُ وأبُوه ابن حماتي وأنا امرأة أبيه؟ قال: هي أمُّهُ.
وقال: ما تقول في رجل تزوَّج امرأةً وزوَّج ابنهُ أمَّها، فجاءت الأم والبنتُ بولدين، فما يكون الولدُ من ذلك وذلك؟ فقال: ابنُ الأم خالُ لابن البنت، وابنُ البنت عمٌّ لابن الأم.(1/261)
وقال: ما تقول في رجل مات وخلَّف ستَّمائة درهم وله من الورثة أختٌ فأصابها درهمٌ واحد.
فقال: هذا شخص مات وخلف ستَّمائة درهم وترك بنتين أصابهُما الثُلُثان أربعمائة درهم وخلَّفَ والدته أصابها السُدُسُ مائة درهم وخلَّفَ زوجة أصابها الثمنُ وهو خمس وسبعون درهمًا، وله اثنا عشر أخًا لكل واحد منهم درهمان، ففضل للأخت درهم.
وقال آخر مُلغزًا:
تَزَوَّجَ شَخْصٌ أمَّ شَخْصٍ وأخُتَه
وشَخْصٌ أتَى أيضًا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ... كذا أخْتَهُ الأخرى وليسَ بِبَاطِلِ
وقالوا له أجْرٌ لدى كُلِّ فاضل
وقال آخر:
ألا فاسْألُوا مَن كان بالعلمِ بَارِعًا
عن المرءِ يُوْصِي قَاصِدًا وَجْهَ رَبِّهِ
فإنْ يَكُنْ الموصى له مُتَمَوِّلاً
وإن كان ذا فَقْرٍ وقِلٍّ وفَاقَةٍ
أيُحْرَمُ ذُوْ فَقْرٍ ويُعْطَاهُ ذُو الغنى
فلا تعْتَمِدْ إلا على الله وَحْدِهُ ... وفي الفقهِ أفْنَى عُمْرَهُ بابْتِذَالهِ
لِزَيْدٍ كما سَمَّاهُ مِن ثلث مَالِهِ
دَفَعْنَا له الموصى له بكمالهِ
حَرَمْنَاهُ ذَاكَ المالَ فارْث لَحِالِهِ
لَعَمْرُكَ ما رِزْقُ الفتى باحْتيالِهِ
ولا تسْتَنِدْ إلا لِعِزّ جَلالِهِ
وحلها موجود في الأسئلة والأجوبة الفقهية في الجزء السابع.
وقال آخر: هل ينوب الماء عن التراب؟ فقيل: نعم إذا ماتَ ميتٌ في البحر ولم يتسَّرْ دفْنُه في البر، يُجعل فيه مُثقِل ويُلْقَى في البحر، ويَنُوبُ الماءُ عن التراب.,
ومَن مَاتَ لي بَحْرٍ وقد عَزَّ دَفْنُهُ ... فَفِي البَحرِ يُلْقَى وهو بالتُرْبِ بُدِّلَا
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
موعظة
عن الزهري قال: سمعتُ علي بن الحسين يُحاسبُ نفْسَه ويُناجي ربَّهُ.
يا نفسُ حتَّامَ إلى الدنيا سُكوتك، وإلى عمارتها رُكُونكِ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارتهُ الأرض من الأفك، ومن فُجعت به مِن إخوانك.
ونُقل إلى الثرى من أقرابك، فهم في بُطُون الأرضِ بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوالٍ دواثر.(1/262)
خَلَتْ دُوْرُهم منهم وأقْوَتْ عراصُهُم
وخَلَّوْا عن الدنيا وما جَمَعُوْا لَهَا ... وسَاقَهُم نَحْوَ المنايَا المَقَادِرُ
وضمَّتْهُمُ تحت التراب الحَفَائرُ
كم خرَّبت أيدي المُنون من قُرون بعد قُرون! وكم غبَّرَت الأرض! وغيبتْ في تُرابها ممَّنْ عاشرتَ من صُنوف وشيَّعتهُم إلى المهَالِك ثم رجعت عنهم إلى أهل الأفلاس!
وأنْتَ على الدُنيا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ
على خَطَرٍ تَمْشِي وتُصْبِحُ لاهِيًا
وإنَّ امْرءًا يسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائبًا ... لخُطَّابها فيها حَريْصٌ مُكَاثِرُ
أتدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
ويَذْهَلُ عن أخُرَاهُ لا شَكَ خَاسِرُ
فحَتَّام على الدنيا إقبالُك وبشهواتها اشتغالك، وقد وخطك الشيب وأتاك النذير وأنت عما يُرادُ بك ساهٍ وبلذة يومك وغدك ولاهٍ وقد رأيت انقلابَ أهل الشهوات وعايَنْتَ ما حَلَّ بهم مِن المُصيبات.
أبعد اقْتَراب الأربَعِيْنَ تَربصٌ
كأنَّك مَعْنيَّ بما هُو ضَائرٌ ... وشيب قَذَالٍ مُنْذِر للأكَابرِ
لِنفْسِكَ عَمْدًا أو عن الرشدِ حائر
انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عُقْبَانُ الأيام ووافاهم الحمامُ فانمحتْ من الدنيا آثارهُم وبقيت فيها أخبارهم وأضحوا رممًا في التراب إلى يوم الحشرِ والمآب والحساب.
فأمْسَوْا رَمِيْمًا في الترابِ وعُطِّلَتْ
وحَلُوا بدَار لا تزاور بَيْنَهُمْ
فما أن تَرى إلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ... مَجَالسَهُم منهم وأخْلى المَقَاصِرُ
وأنَّى لسُكَّان القُبُورِ التَّزَاوُرُ
مُسَطَّحَةً تسْفِي عليها الأعاصِرُ
كم مِن ذي منعةٍ وسُلطانٍ وجنُود وأعوان تمكن من دُنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القُصُورَ والدسَاكِرُ، وجمع فيها الأموال والذخائر، ومُلَحَ السَّرِاري والحَرائِر.
فما صَرَفَتْ عنه المَنِيَّةَ إذا أتَتْ
ولا دَفَعَتْ عنه الحُصُونُ التي بَنَى
ولا قارَعَتْ عنه المَنِيَّةَ حِيْلةٌ ... مُبَادَرَة تهوى إليها الذَخَائِرُ(1/263)
وحَفَّ بها أنهارُهُ والدَّسَاكِرُ
ولا طَمِعَتْ في الذَّب عنه العَسَاكِرُ
أتاهُ من الله ما لا يُردّ ونزَلَ به من قضائه ما لا يُصدّ فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار قاصم الجبارين ومُبيْد المتكبرين الذي ذلَّ لعِزِه كلُ سلطان وأبادَ بقُوتِه كُلَّ ديَّان.
مَلِيْكٌ عَزيْزٌ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ
عَنَى كلُ ذِي عِز لِعِزِة وجْهه
لَقَدْ خَضَعَتْ واسْتَسْلَمَتْ وتضَألَتْ ... حكيمٌ عليمٌ نافذُ الأمْرِ قاهرُ
فَكَمْ مِن عَزِيْزٍ للْمُهَيْمن صاغرُ
لِعِزِة ذِي العرشِ الملوكُ الجَبَابِرُ
فالبدارَ البدارَ والحِذارَ الحِذارَ من الدنيا ومكائدها، وما نصبتْ لك من مصائدها، وتحلَّتْ لك من زينتها، وأبرزتْ لكَ مِن شهواتِها وأخفتْ عنك من قواتِلِها وهَلَكَاتِهَا.
وفي دُوْن مَا عَايَنْت من فَجَعَاتها
فَجُدَّ ولا تَغْفُلْ وكن مُتَيِقظًا
فَشمِّرْ ولا تفّتُرْ فَعُمْركَ زَائِلٌ
ولا تَطْلُبَ الدنيا فإنَّ نعِيْمَهَا ... إلى دَفْعهَا دَاعٍ وبالزُهْدِ آمِرُ
فعَمَّا قليلٍ يَتركُ الدارَ عَامِرُ
وأنْتَ إلى دار الإقامةِ صَائِرُ
وإنْ نِلْتَ منه غِبُّةُ لَكَ ضَائرُ
فهل يحرصُ على الدنيا لبيب، أو يُسرُّ بها أريب، وهو على ثقةٍ في فنائها، وغيرُ طامع في بقائها! أم كيف تنام عينُ من يخشى البيات! وكيف تسكُنُ نفسُ من توقَّعَ فلي جميع أموره الممات!
ألا لا ولَكِنَّا نَغُرُّ نُفوسَنَا
وكيف يَلَذُ العَيْشَ مَن هُو مُوقِنٌ
كأنا نَرَى أنْ لا نُشُورَ وأننا ... وتَشْغَلُنَا اللَّذَاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
بِمَوْقِف عَرْضٍ يَومَ تُبُلى السَّرائرُ
سُدٍّى ما لنا بَعْدِ الممات مَصَادرُ
وما عسى أن ينال صاحبُ الدنيا لذتها ويتمتع به من بهجتها مع صُنوف عجائبها وقوارع فجائعها وكثرة عذابهِ في مصائبها وفي طلبها وما يُكابدُ من أسقامها وأوصابها وآلامها.
أمّا قَدْ نَرى في كُلِّ يومٍ ولَيْلَةٍ
تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وهُمُومُها(1/264)
فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بدُنْيَاهُ آمِنٌ ... يَرُوْحُ علينا صَرْفُها ويُبَاكرُ
وكم قَدْ نَرى يَبْقى لَهَا المُتَعَاورُ
ولا هُوَ مِن تطْلا بها النَفْسَ قاصِرُ
كم غرَّت الدنيا من مُخْلد إليها، وصرعتْ مِنَ مُكبٍ عليها، فلم تنعَشْهُ مِن عثْرَتِه، ولم تُنْقِذْهُ من صَرْعَتِه، ولم تشفهِ مِن ألمِهِ، ولم تُبْرهِ من سَقَمِهِ، ولم تُخَلِّصْهُ مِن وصَمِه.
بَلَى أوْرَدَتْهُ بَعدَ عزٍ ومِنْعَةٍ
فلما رأى أنْ لا نَجَاةَ وأنَّهُ
تَنَدَّمَ إذ لم تُغْنِ عنه نَدَامَةٌ ... مَوَارِدَ سُوْءٍ ما لهُنَّ مَصَادرُ
هُوَ الموتُ لا يُنْجِيْهِ مِنهُ التَّحَاذُرُ
عليه وأبكَتْهُ الذُنُوبُ الكَبَائِرُ
إذا بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسَّر على ما خلَّف من دُنْيَاه، واستغفر حتى لا ينفعهُ الاستغفار، ولا يُنجيه الاعتذار عند هول المنية ونزُول البلِيَّة.
أحَاطَتْ به أحْزَانُهُ وهُمُومُه
فليسَ له مِن كُرْبَةِ الموتِ فارِجٌ
وقد جَشَأتْ خَوفَ المنِيَّةِ نفْسُه ... وأبْلَسَ لمَّا أعْجَزَتْه المَقَادِرُ
وليسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ ناصِرُ
تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَا والحَنَاجِرُ
هُنَالِكَ خلَّفَ عُوَّادَهُ وأسلمهُ أهلُه وأولاده وارتفعت البريَّة بالعويل وقد أيسُوا مِن العليل، فغمَّضُوا بأيديهم عينيه ومَدَّ عند خروج رُوْحه رجليه وتخلىَ عنه الصِّديق والصاحب الشفيق.
فَكَمْ مُوْجَعٌ يَبْكِي عليه مُفَجَّعٌ
ومُسَتْرِجعٌ دَاعٍ له الله مُخْلصًا
وكم شامِتٌ مُسْتَبْشِرٌ بوَفَاتِهِ ... ومُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا ومَا هُوَ صَابِرُ
يُعَدّدُ منه كُلَّ ما هو ذَاكِرُ
وعما قَليل للَّذي صَارَ صَائِرُ
فشقَّتْ جُيُوبَها نساؤه، ولَطَمَتْ خُدُوْدَهَا إمَاؤه، وأعْوَلَ لِفقده جيرانُه، وتوجَّعَ لرزيَّتِهِ إخوانه، ثم أقبلُوا على جهازه وشمروا لإبرازه كأن لم يكُنْ بينهم العَزيز المُفَدَّى ولا الحبيب المُبَدَّى!
وحَلَّ أحَبُّ القوم كانَ بَقُرْبه(1/265)
وشمَّرَ مَن قَدْ أحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ
وكُفَّنَ في ثَوبَيْنِ واجتَمَعُوا لَهُ ... يَحُثُ على تَجْهِيْزه ويُبَادِرُ
وَوجَّه لمَّا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ
مُشَيِّعُهُ إخْوَانُهُ والعَشائِرُ
فلو رأيت الأصْغَر من أولاده، وقد غلب الحُزْنُ على فؤاده، ويُخشى من الجزع عليه وقد خضبت الدموع عينيه وهو يندُبُ أباه، ويقول: يا ويلاه واحرْبَاه.
لَعَايَنْتَ مِن قُبْحِ المنيةِ مَنْظرًا
أكابرُ أوْلادٍ يَهِيج اكتئابهم
ورَيِّةُ نسوان عليه جوازع ... يُهَالُ لَمِرْآهُ ويَرْتَاعُ ناظِرُ
إذا ما تَنَاسَاهُ البَنُونُ الأصاغِرُ
مَدَامِعُهُم فَوقَ الخدود غوازِرُ
ثم أخرج من سعة قصره إلى مضيق قبره، فلما استقرَّ في اللحد، وهيئ عليه اللَّبن احتوشتهُ أعمالُه وأحاطتْ به خطاياه وأوزاره، وضاقَ ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثرُوا عليه البُكاء والانْتِحَابَ، ثم وقَفُوا ساعة عليه وأيسُوا من النظر إليه، وتركُوهُ رهْنًا بما كسب وطلبَ.
فَوَلَّوا عليه مُعْولِيْنَ وكُلُّهُم
كَشَاءٍ رعَاءٍ آمِنِيْنَ بَدَالها
فَرِيْعَتْ ولم تَرْعَى قَلِيْلاً واجْفَلَتْ ... لِمِثْل الذي لاقَى أخُوْهُ مُحَاذِرُ
بِمُدْيِتِه بادِي الذِّرَاعَين حَاسِرُ
فَلَمَّا نأى عنها الذي هو جازرُ
عادت إلى مرعاها، ونسيتْ ما في أختها دهاها، أفا بأفعال الأنعام اقْتَدَيْنَا أم على عادتها جرينا، عُدْ إلى ذكر المنقُول إلى دار البلَى، واعتبره بموضعه تحتَ الثرى، المدفُوع إلى هول ما ترى.
ثوى مُفْرَدًا فَي لحْدِهِ وتَوَزَّعَتْ
وأحْنَوا على أمْوَالِهِ يَقْسِمُونَها
فيا عامِرَ الدنيا ويَا ساعيًا لها ... مَوَاريْثَهُ أولادُهُ و الأصَاهِرُ
فلا حَامدٌ منهم عليها وشاكِرُ
ويا آمنًا مِن أن تدُورَ الدَّوَائِرُ(1/266)
كيف آمنتَ هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة؟ أمْ كيف ضيَّعْتَ حياتَكَ، وهي مَطيَّتُكَ إلى مماتك؟ أمْ كيفَ تشبع مِن طَعَامِك، وأنْتَ مُنتظِرَ حِمَامَكْ؟ أم كيف تهنأُ بالشهوات وهي مطيَّة الآفات؟
ولم تتَزَوَّدْ لِلرَّحِيل وَقَدْ دنا
فَيَالَهْف قلبي كم أسوِّفُ توبتي
وكل الذي أسْلفْتُ في الصُحْفِ مُثْبَتٌ ... وأنْتَ على حَالٍ وشِيْكٌ مُسَافِرُ
وعُمْرِيَ فانٍ والرَّدَى ليَ ناظِرُ
يجَازي عليه عادِلُ الحكمِ قادِرُ
فكم تُرتعْ بآخرتك دُنياك، وتركب غيَّك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مُؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا نزل القرآن؟ أما تذكرُ ما أمامك من شدّة لحساب وشر المآب، أما تذكرُ حال من جمع وثمَّر، ورفع البناء وزخْرَفَ وعمَّرْ، أما صار جمعُهُم بُورًا ومساكنُهم قبورًا.
تُخَرِّبُ ما يَبْقَى وتَعْمُرُ فَانِيًا
وهَلْ لَكَ إنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً
أتَرْضَى بأنْ تَفْنَى الحَيَاةُ وتَنْقضِي ... فلا ذَاكَ مَوْفُورٌ ولا ذَاكَ عَامِرُ
ولم تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى الله عَاذِرُ
ودِيْنُكَ مَنْقُوصٌ ومَالُكَ وافِرُ
وقال ـ رحمه الله ـ: اللهم إني أعوذ بك أن تُحسِّنَ في لَوَامعِ العُيُون علانيتي وتُقَبِّحَ في خفيَّات الغُيوب سريرتي.
اللهم كما أسأت وأحسنت إليَّ فإذا عُدْتُ فعُدْ إليَّ، اللهم ارزقني مُواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت عليَّ من فضلك.
وقال يومًا لمن كان معه: إني اتكأت على هذا الحائط وأنا حزين فإذا رجلٌ حسنُ الوجه حسنُ الثياب ينظرُ في تجاه وجهي، ثم قال: يا عليُ بنُ الحسين، ما لي أراك كئيبًا حزينًا على الدنيا، فهي رزق حاضر يأخذ منه البر والفاجر، فقلت: ما عليها أحزن؛ لأنها كما تقول.
فقال: على الآخرة فهي وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، فقلت: ما على هذا أحزن؛ لأنه كما تقول.
فقال: فعَلامَ حُزنك؟ فقلت: ما أتخوف من الفتنة، يعني فتنة ابن الزبير.(1/267)
فقال لي: يا علي، هل رأيت أحدًا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا، قال: ويخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا ثم غاب عني.
وقيل: إنه لمَّا مات ـ رحمه الله ـ فغسَّلُوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سوادٍ في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحملُ جُرا الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فُقراء المدينة.
وقال ابنُ عائشة: سمعتُ أهل المدينة يقولون: ما فقدنا الصَّدقة حتى مات علي بن الحسين.
وروى الطبراني عنه، قال: إذا كان يوم القيامة نادى مُنادٍ ليُقمْ أهلُ الفضْل فيقومُ ناسٌ من الناس.
فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهُم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة فيقوُلُون قبل الحساب، قالوا: نعم.
قالوا: ما أنتمُ؟ قالوا: نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جُهل علينا حملنا، وإذا ظُلمنا صبرنا، وإذا أسيئ إلينا غفرنا، قالوا لهم: أدخُلُوا الجنة، فنِعْمَ أجْرُ العاملين.
ثم يُناد مُنادٍ ليقُمْ أهل الصبر، فيقُوم ناسٌ من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهُم الملائكة، فيقولون لهم مثلَ ذلك.
فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرنا على البلاء، فقالوا لهم: أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.
ثم يُناد مناد ليُقم جيرانُ الله في داره، فيقوم ناس من الناس وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهُم الملائكة، فيقولون لهم: مثل ذلك.
فيقولون: بم استحقَقْتُم مجاورة الله عز وجل في داره، فيقولون: كُنَّا نتزاورُ في الله ونتجالسُ في الله، ونتبادلُ في الله عز وجل، فيقال لهم: أدخلوا الجنة فنِعم أجر العاملين.
يُسَرَّ الفتى بالعَيْشِ وهو مُبِيْدُهُ
وفي عِبَر الأيامِ لِلْمَرءِ واعظٌ
فلا تَحْسَبنْ يا غافلُ الدَّهْرَ صَامِتًا
أصَحْ لُمِنَاجَاةِ الزمانِ فإنَّهُ
أدَارَ على الماضِينَ كأسًا فَكُلُّهُمْ(1/268)
ولم يَحْمِهم من أن يُسَقُّوْا بكَأسِهمْ ... ويَغْتَرُّ بالدنيا وما هيَ دَارُهُ
إذَا صَحَّ فيها فِكْرهُ واعْتِبارُهُ
فأفْصَحُ شيءٍ لَيْلُه ونَهَارُهُ
سَيْغْنِيْكَ عن جَهْر المقالِ سِرَارُهُ
أبُيْحَتْ مَغَانِيْهِ وأَقْوَتْ دِيَارُهُ
تَنَاوُشُ أطْرافِ القَنَا واشْتِجَارُهُ
اسمع يا مُضيعَ الزَّمَانَ فيما ينقصُ الإيمان، مُعْرضًا عن الأرباح ومُتعرضٌ للخسران، لقد سُرَّ بفعلكَ الشامتْ.
يا من يفرحُ العيد لتحسين لباسه، ويُوقِنُ بالموت وما استعدَّ لباسه ويغتر بإخوانه وأقرانه وجُلَّاسِه، وكأنه قد أمن سُرْعَةَ اختلاسِهْ.
يا غافلاً قد طُلِبْ، ويا مُخاصمًا قد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاك والدنيا فما الدنيا بدائمة، لقد أبانت للنواظرِ عُيُوبْهَا، وكشفتْ للبصائر غيُوبها، وعدَّدَتْ على المسامع ذُنُوبها، وما مرَّتْ حتى أمرَّت مشرُوبها.
فلذاتها مثلُ لمعانِ البرقْ ومُصيبتُها واسعةُ الخرقْ، سوَّتْ عواقبُها بين سُلطان الغرب والشرق، فما نجا منها ذو عدَدْ، ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ، مزَّقَت الكُلَّ بكفِّ البُدَدْ ثم ولَّتْ فما الْوَت على أحدْ.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يُظللُّهُم الله في ظِلِّه، منهم رجل دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجمال، فقال: إنِّي أخافُ الله».
اسمع يا مَنْ أجابَ عَجُوزًا هتْمَا عَمْيَا صَمَّا جَرْبَا سوداءَ شَوْهَاء مُقْعَدة على مَزْبَلَة ولكن غَلَبَتْ عليكَ مَحَبَّتُهَا عُرضَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء مكة ذَهَبًا فأبَى أن يَقْبَلهَا.
مَا هذه الدنيا بدَارِ مَسَرةٍ
لَيْنَا الفَتى فيْهَا يُسرُّ بنفْسِه
حَتَّى سَقَتْهُ مِن المنِّيةِ شرْبةً
فَغَدًا بمَا كسَبَتْ يَداهُ رَهِيْنَةً
لو كان يَنْطِقُ قال مَنْ تحْتَ الثرى ... فَتَخَوَّفي مَكْرًا لَها وخِدَاعَا
وبمالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا
وحَمتْه فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا(1/269)
لا يَسْتَطِيْعُ لما عَرَتْهُ دِفَاعَا
فلْيُحْسِن العمَلَ الفَتَى مَا اسْطَاعَا
فائدة عظيمة النفع
اعلم أن من كان داؤُهُ المعصية، فشفاؤهُ الطاعة، ومن كان داؤُه الغفلة، فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرةُ الأشغال، فشفاؤه في تفريغ المال.
فمن تفرَّغ من هموم الدنيا قلبُه، قلَّ تعبُه، وتوفَّر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس.
ومن كثر في الدنيا همه، أظلم طريقُه، ونصب بدنُه، وضاع وقته، وتشتت شمله، وطاش عقلُه، وانعقد لسانُه عن الذكر، لكثرة هُمومه وغمُومه، وصار مُقيَّدَ الجوارح عن الطاعة من قلبهِ في كل وادٍ شُعْبَة، ومن عُمرهِ لكلِ شغل حصَّة.
فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم، فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئومن ومن فاته رضا مولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر لو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض في جسدك لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدُق وقد يكذب، وقد يصيبُ وقد يُخطئ وقد ينصحُ وقد يغشُ، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصحُ الناصحين وأصدق القائلين وأولى الواعدين لأجل مرضِ القلب الذي إذا لم تشفَ منه فأنت من أهلك الهالكين.
تَبْغِي الوُصُولَ بسَيْرَ فيه تَقْصِيْرُ قَدْ سَارَ
بْلَكَ أبْطَالٌ فما وَصِلُوا
يا مُدَّعِي الحُبَّ في شَرْع الغَرامِ وقَد
أفْنَيْتَ عُمَركَ في لَهْو وفي لِعبٍ
لو كانَ قَلْبُكَ حَيًا ذُبْتَ مِن كَمَدٍ ... لا شَكَّ أنَّكَ فيما رُمْتَ مَغْرُوْرُ
هَذا وفي سَيْرهم وجدٌ وتشْمِيْرُ
أقَامَ بَيِّنَةً لَكِنَّهَا زُوْرُ
هَذا وأنْتَ بَعْيِدُ الدارِ مَهْجُوْرُ
ما لِلْجِرَاحِ جِسْمِ المَيْتِ تأثِيْرُ(1/270)
اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمنُ بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المُبارك الأحبِّ إليك الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا استُرحمتَ به رحمت، وإذا استفرجت به فرَّجتْ أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وختامًا فالواجب على الإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة، وأنْ ينتهز فرصة الإمكان قبل هجوم هادم اللذات.
وأن يستعين بالله ويتوكل عليه ويسأله العون في تسيير الأعمال الصالحة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها.
وليحرص على حفظ القرآن، وتدبره، وتفهمه، والعمل به، وكذلك السُّنة، ويحرص على أداء الصلاة في جماعة.
ويحرص على مجالس الذكر، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وجميع الأعمال والأخلاق السيئة.
ويتهيأ للرحيل، ويتفقد نفسه بما عليه، وما له فإن كان عنده حُقُوقٌ لله كزكاة، أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسُرْعَةٍ خشية أن يفجَاءَهُ الموتُ وهي عنده.
فإذا لم تُؤدها أنت في حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إخوان يَبْعُدُ اهتمِامُهم بذلك؛ لأنهم يهتمون ويشتغلون بما خلَّفْتَهُ لهم وضيَّعْتَ بسببه نفسك.
فالله الله البدارَ بالتفتيش على النفس، والمباردة بالتوبة والإكثار من الاستغفار.
ومما يحثُك على ذلك ذكرُ مرارة الموت الذي سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكر في الموتى الذي حُبسُوا على أعمالهم ليُجازوا بها فليس فيهم من يقدرُ على محو خطيئةٍ، ولا على زيادة حسنة.
وعاد بعضهم مريضًا، فقال له: كيف تجدُك؟
قال: هو الموت، قال له: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدُني أجْتذَب اجتذابًا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنوُرٌ مُحْمىً يتلهَّب.
قال له: فاعهد (أي أوصي)، قال: أرى الأمر أعجل من ذلك فدعا بدواة وصحيفة، وقال: فوالله ما أتى بها حتى شخص بصرُهُ فمات.(1/271)
وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي، فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نُحْدِثُ بقربهم عَهْدًا.
فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق، ما ترى هذا مُتمنيًا لو مُنِّء، قلت: أن يُرَدَّ والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويُصلح.
قال: فها نحنُ، ثم نهض فجدَّ واجتَهَد، فلم يلبث إلا يسرًا حتى مات.
ومما يَحُثُكَ على التأهب والاستعداد لهادم اللذات أن تُصَوِّر لنفسك عرضَهَا على رَبِكَ وتخجيله إياك بمضيضِ العتاب على فعلِ ما نهاكَ عنه، قال جلَ وعلا: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا } .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيُكلمُهُ ربه تبارك وتعالى يس بينه وبينه ترجمان».
وعن صفوان بن محرر قال: كنتُ آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجُل، فقال: كيف سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟
فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يُدْني المؤمن فَيَضَعُ عليه كَنَفَه، ويَسْتُره من الناس، ويُقَرّرُهُ بذُنُوبه، ويقُولُ له: أتَعْرفُ ذَنْبَ كذا، أتعرف ذنب كذا، حَتَّى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سَتَرْتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
ومما يحثُك على الاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تتخايل وتتصوَّر شهادة المكان الذي تعصي فيه عليك يوم القيامة.
فعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } ، فقال: «أتدرون ما أخبارها! أن تشهَدَ على كل عبد بما عمل على ظهرها، أن تقول عَمِلَ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهو أخبارها».
ومما يحثك على التأهب والاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أنْ تُمَثِلَ نَفْسَكَ عند بعض زَلَلِكَ كأنه يُؤمَرُ بك إلى النار التي لا طاقةَ لمخلوق بها.(1/272)
وتصور نفاذ اللذة وذهابَهَا وبَقَاءَ العار والعذاب.
تَفنى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ شَهْوَتَهُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوْءِ في مَغَبَّتِهَا ... مِن الحَرَامِ ويَبْقى الإثم والعَارُ
لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِن بَعْدِهَا النَارُ
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ناركم هذه ما يُوقِدُ بَنُوا آدَمَ جُزْءٌ واحدٌ مِن سَبْعِيْنَ جزءًا من حر جَهَنَمَّ»، قالوا: والله إن كانت لكافية.
وقال بعض السلف: ربما مُثِّلَ لي رأسي بين جبلين من نار وربما رأيتني أهوى فيها حتى أبلغ قعرها فكيف تهنا الدنيا من كانت هذه صفته.
وكان عمر - رضي الله عنه - ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب، هل لك على هذا صَبر!
ومما يحثك على الاستعداد وتفقد شؤونك وأمرك ذكر أحوال كثير من السلف الصالح الذي أقلقهم خوفُ الحساب والعذاب في البرزخ والنار.
لما أهديت مُعاذة العدويةو إلى زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله بيتًا مُطيبًان فقام يصلي حتى أصبح، وفعلتْ زوجتُه معاذة مثله، فلما أصبح عاتبهُُ ابنُ أخيه على فعله ليلة الزواج، فقال له: أدخلتني الأمس بيتًا ذكَّرتني به النار، ثم أدخلتني بيتًا ذكرتني به الجنة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.
ونظر عمر بن عبدالعزيز إلى رجل عنده مُتغيرُّ اللون، فقال له: ما الذي بك؟ فقال: إني ذُقْتُ حلاوة الدنيا فصغُر في عيني زهرتها وملاعبُها، واستوى عندي حجارتُها وذهبُها، ورأيتُ كأن الناس يُساقون إلى الجنة، وأنا أساقُ إلى النار، فأسهرتُ لذلك ليلي، واظمأتُ نهاري، وكلُ ذلك صغيرٌ حقيرٌ في جنبِ عفو الله، وثوابه عز وجل وجنْب عقابه.
وقال إبراهيم التيمي: مثلتُ نفسي في النار آكل من زقُومِها، وأشْربُ من صديدها وأعالجُ سلاسلها وأغلالها.
فقلتُ لنفسي: أيُّ شيءٍ تُريدين، قالت: أريدُ أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فقلت: أنت في الأمنيَّةِ فاعملي.(1/273)
وسمع عُمر بن الخطاب رجلاً يتهجدُ في الليل ويقرأ سورة الطور، فلما لغ قوله تعالى: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ } .
قال عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثم رجعَ إلى يته فمرض شهرًا يعُوده الناس، ولا يدرُونَ ما سببُ مرضه.
وكان جماعة من السلف مَرِضوا مِن الخوف ولزِمُوا مَنَازِلهم وبعضُهم وصار صاحب فراش.
وكان الحسنُ يقول في وصف الخائفين: قد براهُم الخوفُ فَهم أمثالُ القداح ينظر إليهم الناظر، فيقول: مَرْضَي وما بهم مَرَضٌ، ويقولُ: قد خُولِطُوا وقد خَالَطَ القومَ من ذِكر الآخرةِ أمرٌ عظيم.
هذه القصيدة عدَّلنا فيها بعض الأبيات:
وحَقِّك يا ذَا الجُودِ مَالي مَلْجَؤٌ
إذا لم تَكُنْ لي عِندَ غَيْرِكَ حَاجَةُ
إذ لم يَكن مُعْطٍ سِوَاكَ بِمَطْلَبِي
عَذُوْ لي فيهِ مَا يَرَى مَا رَأيْتُهُ
سَلَكْتُ سَبيْلاً ما اهْتَدى لسُلُوْكِهَا
وَكَيْفَ سُلُّوٌ عن جَمَالٍ مُحَجَّبٍ
إذ اسْتَانَسَ الحَادُوْنَ لِلرَّكْبِ باسْمِهِ
يَطيْبُ ويَحْلُوْ لِلْمُحِبِّيْنَ ذِكْرُهُ
فإنْ قُلْتُ شَهْدًا فهو أحْلَى مَذَاقَةً
سَألْتُكَ يَا حَادِي الرَكَائِب حَاجَةً
فَسَلِّم على مَنْ قَدْ حَوَتْهُ قِبَابُهَا
مُحَمَّدٌ المُخْتَارُ والماجِدُ الذي
هو الصادِقُ الدَّاعِي إلى الله وَحْدَهُ
فَصَلوا عليه دائمًا فَصَلاتكم ... ولا لي إلى أبْوابِ غَيركَ مَطْلَبُ
فَكَيْفَ إلى أبْوَابِ غَيْرَكََ أذْهَبُ
فكيفَ سِوَى مَعْرُوْفِ جُوْدِكَ أطْلُبُ
فَيُكْثِرُ مِن لَوْمِي عَلَيه ويُطْنِبُ
فأعْجَبُ مِنْهُ وَهْوَ مِنِّيَ يَعْجَبُ
أيَادِيْه عن كُلِ الوَرَى ليس تُحْجَبُ
فكُلُّهُمُوْا حتى الركائبِ تَطْرَبُ
فَلا طَيِّبٌ إلا وذكْرُكَ أطْيَبُ
وإنْ قُلْتُ ماءً فهو أصْفَى وأعْذَبُ
إذا مَا بَدَتْ يومًا لِعَيْنَيْكَ يَثْربُ
وشِرْعَتُه في الكَونِ تُمْلَى وتُكْتَبُ
إلى فَخرْهِ كُلُ المناسِبِ تُنْسَبُ(1/274)
فَمَنْ لم يُجِبْهُ فَهْوَ في الحَشْرِ يُنْدَبُ
ثَوابُكُمُوا فيها مِن الله يُطْلَبُ
وختامًا: فالواجب على العاقل المبادرة إلى الأعمال الصالحة ما دام في قيد الحياة وخصوصًا الصلاة التي فرضها الله جل وعلا على عباده آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد.
فكما أن لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا دين لمن لا صلاةَ له وهي خاتمةُ وصيَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آخر عهدهِ من الدنيا.
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت عامةُ وصيَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرتْهُ الوفاةُ وهُو يُغرغر بنفسه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» رواه أحمد وأبو داود.
وهي أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة مِن عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر» الحديث رواه الترمذي.
والصلاة أكبر عون للعبد على مصالح دينه ودنياه، قال الله تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } الآية.
فالصلاة سعادة وسرور للمؤمن الخاشع المحب لربه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» وكان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، فالصلاة جسدٌ وروْح.
أما جسدها فهو كلام اللسان وحركات الأعضاء، وأما روحها فهو الخشوع، قال الله جل وعلا: { قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } .
والخشوع حضور الذهن وأن يتصوَّر الإنسانُ أن ره أمامهُ يسمعه ويناجيه، فلا يشغل فكره بشيء من الدنيا ما دام في صلاته ويجمع فكره إلى تأمل ما يتلو وما يسمع من الإمام ويحرص كل الحرص على طرد الهواجيس.(1/275)
قال أحد العلماء: إن من المعلوم أن المنتصب لخطاب ملك من مُلوك الدنيا يجمعُ قلبهُ للإقبال عليه ويُحسن التودد إليه ويتحرزُ التحرز الكلي عن أن تفرط منه كلمةُ مستهجنةً أو التفاتهُ غير مُستحسنةٍ أو ذهُول عمَّا يُخاطبه به أو يتلقاهُ من خطابِهِ وإن ك ان لا يخاف نقمتهُ ولا يرجُو نعمته.
فيا عجبًا من منتصبٍ لمُناجات ملك السموات والأرض وهو يعلمُ أنه حاضرٌ لديه ورقيب عليه وأنه مُحتاجٌ في كُل لحظةٍ إليه غير مُستغنٍ عنه وإن إحسانهُ إليه فوق كُل إحسان.
وعاقبة عصيانه إنه الخلودُ في قعر النيران وإن عظمتهُ لا تُدانيها عظمة سُلطان، ومع ذلك يتركُ الإقبال عليه ويعرض له الذهولُ عنهُ لخواطر دنيويةٍ ووساوس غير نافعة ولا مرضيَّة حتى لا يشعر بمعاني ما يتلوه في صلاته ولا يعقل ما المطلوبُ بها ويسهو عن أركانها وأذكارها هذا مما تحارُ فيه العقول.
ولعل السبيل إلى ذلك هو التحفظ عن تلك الشواغل في حالة الصلاة التي هي عماد الدين والفارقةُ بين الكفرة والمؤمنين التي فرضها الله ليتطهَّر بها عبادُهُ عمَّا اقترفوه فيما بين أوقاتها من الذنوب ويغسلُوا بها أبدانهم وأرواحهم عن درَنِ الحُوْب.
كما يشِعرُ به قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الصلواتِ الخمسَ كَمَثَلِ نَهْرٍ جارِ يَمُرُ على باب أحدكم يَغتسل منه كُلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ»، وفي رواية: «فماذا تِرَوْنَ أيَبْقَى عليه من الدَرَنِ بعد ذلك».
والمهم أن يصرف العبدُ ذهنهُ إلى أن قيامَهُ للوضوء والصلاة إنما هو لخطاب ملك المُلُوكِ والاعتذار إليه من التقصير في الحيَاءِ مِنه في أحْواله السابقة، وليطلب منه العفو والمسامحة والإحسان ولأداءِ ما كلَّفَهُ مِن العبادة.
فصل(1/276)
ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ: أن أحد العلماء حَضرَ مجلسَ مُبتدع وهو يتكلم على الناس فلما نام، قال: رأيتُ ربَّ العِزة والجلال في الليلة، وهو يقول لي: وقفتَ على مُبتدع وسمعتَ كلامه لأحْرمَّنَكَ النظر في الدنيا، فأصْبَحَ لا يُبْصر وعَيْناهُ مفتوحتان كأنه بصير. اهـ.
قطاع الطريق على أرباب السلوك أربعة: مُبْتدِعٌ يُزِيْغُكَ عن سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفاسق يُجَرؤكَ على مَعَاصي الله، غافلٌ يُنسيك صُحبة ذكر الله، وكافر يَصُدَّكَ عن دِيْن الإسلام.
إذا ما عَزَمْتَ السَّيرَ في نَيْل مَتْجَرٍ
فأرْبَعَةٌ لا تَسلُكَنَّ سَبْيلَهُمْ ... يكوُنُ له مِن صَفْقَةِ الرَبحِ حَاصِلُ
كَفُورٌ وبِدْعِيٌ وعَاص وغَافِلُ
آخر:
إذا أثقَلَتْكَ السِّيئاتُ بِحِمْلِهَا
ولحَّتْ عَليكَ النفسُ في شَهوَاتِها
وضَاقَ عَليكَ الرزقُ في كلِّ مَدْخَلٍ
وأمْسَيْتَ ذَا دَيْن وفَقْرٍ وغُرْبَةٍ
وأحْضَرْتَ ذِكْرَ الموتِ والقَبْرِ والبلىَ
وفَكَّرْتُ في يوم الحِسَابِ ومَا حْتِوى
وخِفْتَ مِن النارِ التي مَن ثَوى بها
هُنَالِكَ فارْفَعْ قِصَّةَ الحَالِ ثُم قِفْ
وقُلْ يا كَريْمُ أنْظُرْ إلى حَالِ عَاجِزٍ
خَزِائِنُهُ فيها المَطَالِبُ كُلُّهَا
وصلى على خير البرية أحْمَد ... وَاوْقَعَكَ الشَيْطانُ فيها بِجُهْدِهِ
وصرْتَ لها شبْه الأسيْر بقَيْدِهِ
ولم تَلْقَ ذَا رِفْدٍ يَجُودُ بِرِفْدِهِ
وهَمٍ وغَم قدْ أحَاطَا بجُنْدِهِ
بِقَلْبِكَ حَتَّى ضِقْتَ صَدْرًا بِرَدِّهِ
عليه مِن الهَوْلِ الشَّدِيْدِ وادِّهِ
فَذَاكَ مِن الخَيْراتِ آخِرُ عَهْدِهِ
على باب مَوْلى سَامعٍ صَوْتَ عَبْدِهِ
فَقِيْر عَمىً لا يَهْتَدِي طُرْقَ رُشْدِهِ
تَوكَّلْ عليه ثُم سَبِحْ بِحَمْدِهِ
وأصحابِهِ والمهتدِيْنَ بَهَدْيِهِ
فصل
قيل: إنه زر حاتمُ الأصمُ محمد بن مقاتل قاضي الري فلما وصل إلى الباب، فإذا بابٌ مُشرف فبقي حاتم مُتفكرًا يقولُ: عالمٌ على هذا الحال.(1/277)
ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دارٌ قوراء (أي مزخرفة) وإذا بزَّة وسعةٌ وستورٌ وبذخٌ فبقي حاتم مُتفكرًا.
ثم دخلوا إلى المجلس الذي فيه القاضي فإذا لفُرش وطيئةٍ (أي لينةٍ جميلةٍ) وإذا هو راقد عليها وعند رأسه غُلامُه بيده مذَبَّةٌ.
فتقدم التاجر الذي عند القاضي يسأله عن حاله وحاتم واقف، فأومأ القاضي محمد بن مقاتل إلى حاتم أن أقعد، وقال له: لعَلَّ لك حاجة!
قال حاتم: نعم، قال القاضي: وما هي؟, قال: مسألةٌ في العلم أسألك عنها، قال: سلني، قال: فقم واستوى جالسًا حتى أسألُكها فأمر غلمانهُ فأسندُوه.
فقال حاتم: علمُكَ هذا من أين جئت به؟ قال الثقاة: حدثوني، قال: عن مَن؟ قال: عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَمَّنْ؟
قال: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أينَ جَاء به؟
قال: من عند الله بإملاء جبريل ـ عليه السلام ـ.
قال: أفيما آتاه جبريل عن الله وأدَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وأداه الصحابة الثقاة إليكَ.
فهل سمعتَ في العلم المؤدى إليك أن من كان في داره كأنَّهُ أميرًا في إمارته وحوله الأثاث والرياض تكون له المنزلة عند الله أكثر؟ قال: لا.
قال حاتم: فكيف سمعتَ؟ قال: من زهدِ في الدنيا ورغِبَ في الآخرة وأحَبَّ المساكين وقدَّم من دُنياه لآخرَته كان له عند الله من المنزلة أكثر.
قال: نعَمْ، قال حاتم الأصم: فأنْتَ بمن اقتديتَ في ذلك أبي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أو بصالحي تلك الأمة، أم بفرعون والنمرود؟ فقال: رجعْنا إلى الله وتُبْنَا إليه.
فقال حاتم: غفر الله لي ولك وعفا عني وعنك.(1/278)
فبلغ أهل الري ما جرى بين حاتم الأصم وابن مقاتل، وقالوا: بقزوين أكثر من هذا الإسراف، وأشاروا به إلى الطنافُسي، فسار إليه حاتم، فدخل عليه، فقال: رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تُعلِّمَني أوَّل مبدأ ديني، ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة؟
قال: نعَمْ يا غلامُ هاتِ ماءً، فقعد الطنافُسي وتوضأ ثلاثًا ثم قال: هكذا توضأ.
قال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك، فيكون أؤكدَ لما أريدُ فتوضأ حاتم ثم غَسَل الذراعَين أربع مرات.
قال له الطنافسي: أسرفت يا هذا، قال له حاتم: في أي شيء أسرفت؟ قال: غسلت ذراعك أربعًا.
قال حاتم: سبحان الله أنا في كفٍ من ماءٍ أسرفتُ وأنت يا هذا في بذْخِك في هذا الجمع لم تسرف.
فعرف الطنافُسي أنه أراده بذلك ولم يُرِدْ منه التَّعَلُم، فدخل البيتَ ولم يخرجْ إلى الناس أربعين يومًا.
فالعالمُ إذا خالف علمُه عملهُ وكذَّب قولُهُ فِعْلَهُ كان ممْقُوْتًا في الأرض والسماء يُضلُ من أراد أن يقتدي به.
وإذا أمر بغير ما يعمل مجَّت الأسماعُ كلامهُ، وقلَّتْ عند الناس مهابتُه وزَلَتْ من القلوبِ مَوْعِظَتُهُ ومكَانتُه.
كما قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه تَزِلُ موعظته مِن القُلوبِ كما يزلُ القَطْر عن الصفاةِ.
وحكى الأوزاعي عن بلال بن سعد أنه كان يقول: ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله منه.
وينظر إلى علماء الدنيا المتصنعين للخَلْق المتشوقين إلى الرياسة فلا يمْقُتُهمْ هذا أحَقُ بالمَقْتِ من هذا الشُرطَي.
قيل: إنه أصاب الناس قُحْطٌ في بعض السنين، فأمر الملك عبدالرحمن الأموي القاضي منذر البلوطي ـ رحمه الله ـ أن يَسْتَسْقى للناس.
فلما جاءته الرسالة مع البريد، قال للرسول: كيف تركتَ الملك؟ فقال: تركته أخشعَ ما يكون وأكثر دعاء وتضرعًا.(1/279)
فقال القاضي: سُقِيتم والله إذا خشع جبار الأرض رَحِمَ جبَّار السماء، ثم قال لغلامه: نَادِ في الناس الصلاة، فجاء الناس إلى محل الاستسقاء، وجاء القاضي مُنذِر، فصعد المنبر والناس ينظرون إليه ويسمعون ما يقول، فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به، قال: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ثم أعادها مرارًا فأخذ الناس في البكاء والنحيب والدُعاء والتضرع والتَّوبة والإنابة والاستغفار، فلم يزالوا كذلك حتى سُقُوا ورجعوا يَخُوضُون الماء بأرجلهم.
اللهم هب لنا ما وهبته لعبادك الأخيار، وأنظمنا في سلك المقربين والأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل
قال العلماء –رحمهم الله-: أمهاتُ المعاملة: التوبة، والعبودية، والزهد، والاستقامة، تمامُ هذه الأربع بأربعة: إقلال الطعام، وإقلال الكلام إلا بذكر الله وما ولاه، وإقلال النوم؛ لأن الأعمال تَنْقَطعُ به، والعُزلة عن الناس إلا لما لابُدَّ منه؛ فإنه أصوَن لدينه وعرضه.
الأولى: مُعاملةُ النفس وذلك بمنعها هواها وإذلالها، ورد جماحها بالطاعة وكسرها، فإنها في الحقيقة أكبر الأعداء.
وذلك بأن ينظر في القلب فيطهره من الأخلاق المذمومة كالرياء، والسُمعة، والحسد، والكبر، والعُجب، والبُخل، والحَرِص، والطَّمعِ، والمكر، والخديعة، والنفاق، والغش، وحُبِّ المدح، والثناء.
ويُطهِر لِسَانَه وجميع أعضائِهِ عن الغِيْبَةِ، والنميمة، والسِعَاية، والسُخرية، والاستهزاء، والكذب، والبهت، والولوع بالشهوات، ومحبة الدنيا والغفلة عن الآخرة، وغير ذلك من غرائزه المذمُوْمَةِ.(1/280)
ويغرس في قلبه الإخلاص لله، والتواضع، والنصيحة، والحلم، والشفقة، وحُسْنَ الخُلق، والصبر واعتماد الشكر، والسَّخاء، ومحبة الدار الآخرة والدعوة إليها.
والإعراض عن الدنيا وشهواتها الحرام، وينظر في حل مطعمه وملبسه ومشربِه ومسكنه وسائر تصرُفه.
ولا يطيع نفسه في شيء من هواها، قال الله جل وعلا وتقدس: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى } .
الثانية: معاملة الله جل وعلا، وهي الالتجاء إليه والتوكل عليه ورؤية أن لا سواه وأن العمل خالصًا له.
وليحذر أن يفقده أمره أو يراه حيث نهاه ويثق به غاية الثقة لا بغيره، فمن عامله جل وعلا ربح وأفلح ورشد ونجح وأصلح.
الثالثة: معاملة عدو الله الشيطان الرجيم، وذلك بأن يبني على أنه عدوه اللدود فلا يطيعه أبدًا ويستشعر أنه يأتيه من طرق كثيرة، فعليه أن يتنبه له ويحذره أشد الحذر، فإن له حيلاً ومكرًا وخداعًا، قل من يسْلم منها، فإذا خطر بقلبه ما لم يعلم أنه منه عرضه على الشريعة المطهرة، ثم تثبت وتأنى واستخار الله سبحانه وتعالى وتعوذ بالله من كيده ومكره وسأل الله أن يكشف له ما لتبس عليه.
وذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ: أن من كيده العجيب أنه يُشَام النفس حتى يعلم أيَّ القُوَّتينْ تغلبُ عليه قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه جملةً أو يقصر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يُقَلِّلُ عنده المأمورَ ويُوهمُه أنه لا يكفيه وأنه يحتاجُ معه إلى مُبالغةٍ وزيادة ينقص بالأول ويتجاوز بالثاني.
كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتَان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وعلو، ولا يُبالي بأيِّهما ظَفر.(1/281)
وقد اقْتَطَعَ أكثر الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الوَاديَيِنْ، وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي.
والقليل منهم جدًّا الثابت على الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
فقومٌ قصَّرَ بهم عن واجبات الطهارة.
وقومٌ تجاوز بهم إلى مُجاوزة الحد بالوسواس.
وقومٌ قصَّرَ بهم عن إخراج الواجب من المال.
وقومٌ تجاوزَ بهم حتى أخرجوا جميع ما بأيديهم.
وقومٌ قصَّر بهم حتى عن تناول ما يحتاجُونَ إليه مِن الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبْدَانهم وقُلوبهم.
وقومٌ تجاوزَ بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقصَّرَ بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم.
وتجاوز بآخرين حتى عبدُوهم.
وقصَّرَ بقوم في خُلْطَةِ الناس حتى اعتزلُوهُم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلُّم العِلْم.
وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصَّرَ بقوم حتى امتنعُوا من ذبح عُصْفُورٍ أو شاةٍ ليأكلهُ.
وتجاوز بآخرين حتى جرأهُم على الدماءِ المعْصُومَةِ.
وقصَّرَ بقوم حتى منَعَهُم مِن الاشتغال بالعلم النافع.
وتجاوزَ بآخريْنَ حتى جعَلوا العِلْمَ وحْدَهُ هُوَ غايتُهم دُونَ العَملَ به.
وقصَّرَ بقومٍ حتى أطعمهم مِن العُشب ونبَاتِ البرية دونَ غذَاءِ بني آدم.
وتجاوزَ بآخرين حتى أطعمهم الحرامَ الخالصَ.
وقصَّرَ بقوم حتى زين لهم ترك سُّنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من النكاح فرغبوا عنه بالكلية.
وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.
وقصَّرَ بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدِين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم.
وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله.
وقصَّرَ بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم.
وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حلَّلُوه والحرام ما حرموه، وقدموا أقوالهم على سُّنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة.(1/282)
وعد ـ رحمه الله ـ أشياء كثيرة يطول ذكرها اقتصرنا على ذكر بعضها.
الرابعة: معاملة الدنيا والضابط لذلك أن كل ما لا نفع فيه في الآخرة فهو دنيوي وما فيه نفع في الآخرة فأخروي.
ومعاملة الدنيا أن يعرف الإنسان أن لا راحة فيها فلا يطلبها ولا يتعلق قلبه بالتنعم والترفه والرياسة فيها وليس له منها كفاية.
فليطلب منها ما يطلب المسافر وهو ما يبلغه منزله ولا يتم إلا بالبناء على قُرْبِ الأجل وترقُبِ هادم اللذات، فإنه من أطال الأمل أساءَ العمل.
ما زُخْرُفُ الدنيا وزُبْرُجُ أهْلِهَا
ولَرُبَّ أقْوَامٍ مَضَوْا لِسَبِيْلِهِمْ
ولَرُبَّ ذِي فرشٍ مُمَهَدَةٍ لَهُ
والموتُ يَعْمَلُ والعُيونُ قَرِيْرَةٌ
كُلٌ يَدُوْرُ على البَقَاءِ مُؤمِلاً
والدَّائِمُ الملكوتُ رَبٌ لَمْ يَزَلْ
فالحمدُ لله الذي هُوَ دَائِمٌ ... إلّا غُرُوْرٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ
ولَتَمْضِيَنَّ كَمَا مَضَى الأقْوَامُ
أمسى عليه مِن التُرابِ رُكَامُ
تَلْهُوْا وتَلْعَبُ بالمنى وتَنَامُ
وعلى الفَنَاءِ تُديْرُهُ الأيَامُ
مَلِكًا تَقَطَّعُ دُوْنَهُ الأوْهَامُ
أبدًا وليس لمَا سِوَاهُ دَوَامُ
الخامسة: معاملة الخلق، وقد عظمت البلوى بهم، فإن لهم حقوقًا، ومنهم وبسببهم تنشأ أكثر الشرور، فليقم بحقوقهم ويتسامح عن حقوقه ما أمكن.
وليبتعد عنهم ما أمكن إن صلحت له العزلة، وإن لم تصلح فليجالس من فيه خير وصلاح.
فجليس الخير خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء.
ويحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه.
ويكره لهم ما يكره لنفسه وتكون محبته في الله ومولاته ومعاداته كذلك.
ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بقدر طاقته ويملك نفسه عند الشهوة والغضب.
ولا يعجل في شيء من الأمور فيخطي إلا ما يستحسن فيه المبادرة ولا يتوانى فتبطل.
ولا يداهن على المعصية ولا يخل بالمداراة الجائزة عند خوف الضرر.
وليحسن الظن بهم ما أمكنه وينظر إلى من فوقه في الدين فيقتدي به.(1/283)
وينظر إلى من دونه في الدنيا فيأمن الازدراء والاحتقار لِنعم الله عليه.,
ويكثر من حمد الله وشكره على أن فضله على غيره.
وبالجملة فما عرف رشده اتبعه، وما عرف قبحه اجتنبه، وما أشكل عليه والتبس توقف فيه واجتهد في معرفته، وسأل الله تعالى أن يدله على ما فيه الخير والصلاح.
فوائد وقصص ومواعظ مُنوَّعَة
قال بعضهم: ما زاولت شيئًا أيسر من الورع إذا رابني شيء تركتُه.
أوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين، فلما مات أنس قيل لمحمد بن سيرين، فقال: أنا محبوس في السجن، قالوا: استأذنا الأمير فأذن لك، قال: إن الأمير لم يحبسني إنما حبسني الذي له عليِّ الحق.
عن إبراهيم عن علقمة قال: خرجنا ومعنا مسروق وعمرو بنُ عُتبة ومعضد غازين فلما بلغنا ماء سندان وأميرها عتبة بن فرْقَد، قال لنا ابنه عمرو بن عُتْبَة: إنكم إنْ نزلتم عليه صنع لكم نُزلاً ولعلهُ يظلم فيه أحدًا ولكن إن شئتم قلْنَا في ظِلِّ هذه الشجرة فأكلنا كسرَنا (أي كِسَر خُبز يابس) ثم رجعنا ففعلنا.
عن الحسن قال: كان عطاء سلمان الفارسي خمسة آلاف وكان أميرًا على زُهاء ثلاثين ألفًا من المسلمين وكان يخطب الناس في عباءةٍ يفترش بعضها ويلبس بعضها، فإذا خرج عطاؤه أمضاه (أي تصدق به) ويأكل مِن شُغْل يديْه. لله دره من رقم (1) في الورع والزهد.
عن وهب بن كيسان قال: مر رجل برجل يتصدق على المساكين، فقال أبو همام: شريك درهم أصيبُه بكدٍ يعرقُ به جبيني أحبُ إلى من صدقة هؤلاء مائة ألف ومائة ألف.
قيل لأبي عبدالله: ما تقول فيمن بنى سُوقًا وحشر الناس إليها غصْبًا ليكون البيعُ والشراء بها ترى أن يشتري منها، فقال: يجدُ موضعًا غيره وكره الشراء منها، تأمل يا أخي هذا الورع لله درُّهُم على هذا التدقيق ما أكثر هذه المواضع المشتبهة.
عَجِبْتُ لِلْمَرْءِِ في دُنْيَاهُ تُطْعِمُهُ
يُمْسِي ويُصْبِحُ في عَشْواء يَخْبِطُهَا
يَغْتَرُّ بالدُنْيَا مَسْرُوْرًا ِصُحْبِتهَا(1/284)
ويَجْمَعُ المال حِرْصًا لا يُفَارِقُهُ
تَرَاهُ يَشْفَقُ مِنْ تَضْيِيْعِ دِرْهَمِهِ
وأسْوَأ الناسِ تَدْبِيْرًا لِعَاقِبَةٍ ... في العَيْشِ والأجلُ المحتُوم يَقْطَعُهُ
أعْمَى البَصِيْرة والآمالُ تَخْدَعُهُ
وقَدْ تَيَقَّنَ إنَّ الموتَ يَصْرَعُهُ
وقَدْ دَرَى أنه لِلْغَيْرِ يَجْمَعُهُ
وليسَ يَشْفَقُ مِن دِيْنَ يُضَيعُهُ
مَنْ أنْفَقَ العُمْرَ فيمَا ليس يَنْفَعُهُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ذكر نموذج من أكاذيب القصاص للتحذير
ذكر ابن الجوزي في كتاب «الموضوعات»، قال: صلى الإمام أحمد ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاصٌّ، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بنُ معين قالا: حدثنا عبدالرزاق عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة منها طيرًا منقاره من ذهب وريشه من مرجان وأخذ في قصه نحوًا من عشرين ورقة».
فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين، ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال له: أنت حدَّثْتَهُ بهذا؟ فقال: والله ما سمعت بهذا إلا هذه الساعة، فلمَّا فرغ من قصصه، قال له يحيى بن معين بيده: تعال، فجاء مُتوَّهِمًا لنوال (أي يظنُ أنه يُعطيه شيئًا)، فقال له يحيى بن معين: من حدَّثَك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال: أنا يحيى بن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان لابُدَّ والكذب فعلى غيرنا.
فقال له: أنت يحيى بن معين، قال: نعم، قال: لم أزلْ أسمعْ أنَّ يحيى بن معين أحمق ما تحققتُه إلا الساعة، فقال يحيى: كيف علمت أني أحمق؟
قال: كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
فوضع أحمد كمَّهُ على وجهه، وقال: دعه يقُوم، فقام كالمُستهزئ بهما.(1/285)
وفي الحوادث والبدع للطُرطُوشي لما دخل سليمان بن مهران الأعمش البصرة نظر إلى قاصٍّ يقصُّ في المسجد، فقال: حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي وائل فتوسَّط الأعمشُ الحلقة وجعل ينتفُ شعرَ إبْطِهِ، فقال له القاصُّ: يا شيخ، ألا تستحي نحنُ في علمٍ وأنت تفعلُ مثل هذا؟
فقال الأعمش: الذي أنا فيه خير من الذي أنت فيه.
قال: كيف؟ قال: لأني في سُنَّةٍ وأنتَ في كذبٍ، أنا الأعمشُ وما حدثتُكَ مما تقول شيئًا.
موعظة
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: الفرحُ بالمعصيةِ دليلٌ على شدةِ الرغْبَةِ فيها والجهل بقدر من عصاه، وهو الله جل جلاله.
ثانيًا: الجهل بسوء عاقبتها وعظم خطَرها.
ففرحُهُ بها غطى عليه ذلك كلَّه وفرحُه بها أشد ضررًا عليه من مُواقعتها.
والمؤمن لا تتم له لذةٌ بمعصية أبدًا ولا يكملُ بها فرحُهُ، بل لا يُباشرُها إلا والحُزْنُ مخالط لقلبِهِ.
ولكن سُكْرُ الشهوة يحجبُهُ عن الشعور به ومتى خلي قلبه من هذا الحُزْن واشتدت غبطته وسروُرْهُ فليتهم إيمانهُ وليبكِ على موْتِ قلبه، فإنه لو كان حيًا لأحزنَهُ ارتكابُ الذنْب وغاضَهُ وصَعُبَ عليه ولا يُحسُّ القلبُ بذلك فحيثُ لم يحُسَّ به فما لجُرْح بميِّت إيلام.
وهذه النكتة في الذنب قلَّ مَنْ يهتدي إليها أو يتنَّبُه لها وهي موضعٌ مخُوفٌ جدًا مُترام إلى الهلاك إن لم يتدرك بثلاثة أشياء: خوف من الموافاةً عليه قبل التوبة، وندمٍ على ما فاته من الله بمُخالفته أمره، وتشمير للجد في استدراكه.
خليليَّ ودَّعْتُ التَّصَابيْ وقَوَّضَتْ
وأذَّنَ صُبْحُ الشَّيْبِ في لَيْل لمتِّيْ
وبَاعَدَ مَنْ كنَّا نُسَرُّ بِقُرْبِهِ
رِجَالٌ وأوقاتٌ وشرْخُ شَبيبةٍ
فَقُلْ مَا تَشَا في مُهْجَةٍ قَدْ تصَدَّعَتُ
جَعَلْتُ سَمِيْريْ حِيْنَ عَزَّ مُسَامِري
فَطَورًا أناجي كُلًّ حَبْرٍ مُوَفقٍ ... مآربُ ليْ في رَبْعِهِ ومَوَاقِفُ
فَفِئْتُ ولكني على الليل آسِفُ
وآخرُ مَطْويٌ عليه اللفَائِفُ(1/286)
مَضَوا وزَمَانٌ بالحَبيْبِ مُسَاعِفُ
بلوْعَة مَوْتُوْرٍ بمَا أنا واصِفُ
دَفَاتِرَ أمْلَتْهَا القُرُوْنُ السَّوَالِفُ
إذا ما دَعَا لبَّتْ دُعَاهُ المَعَارِفُ
مجالسة العارف الزاهد تدعو من ست إلى ست:
من الشك إلى اليقين.
ومن الرياء إلى الإخلاص.
ومن الغفلة إلى الذكر.
ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة.
ومن الكبر إلى التواضع.
ومن سوء الطوية إلى النصيحة.
الأفضل في أوقات السحر الاشتغال بقراءة القرآن والصلاة والاستغفار.
وفي وقت الأذان إجابة المؤذن والدعاء.
وفي وقت الصلوات الخمس الاستعداد لها والجد والاجتهاد والحرص على طرد الأفكار الصادة عن تأمل معاني الآيات والتسبيح.
والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إلى تأديتها في أول وقتها والخروج إلى الجامع وإنْ بَعُدَ كان أفضل لكثرة الخُطَا.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالمال أو الجاه أو البدن، الاشتغالُ بمساعدته وإغاثته.
والأفضل في وقت قراءة القُرآن الحرص على تدبره وتفهمه حتى كأنَّ الله يخاطبه به، ويعزم على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
و الأفضل في عشر ذو الحجة الاجتهاد والحرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والدعاء والتضرع والإكثار من قراءة القرآن وذكر الله.
والأفضل في الوقوف بعرفة الاجتهاد في الدعاء والتضرع والإكثار من قول لا إله إلا الله.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المساجد والخلوة والاعتكاف وتلاوة القرآن.
والإكثار من الباقيات الصالحات والحرص على إخراج الزكاة في هذا الشهر المبارك وإفطار الصوام.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلواتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس له أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم.
فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.(1/287)
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالِهم فيه، واعتزالهم في الشر أفضل، فإن علم أنه إذا خالطهم أزالهُ أو قلَّلَهُ فخلطتهم حينئذ أفضلُ من اعتزَالِهم.
قلتُ: وفي زمننا هذا تترجح العزلة لفُشو المنكرات وكثرتها، وموت الغيرة الدينية عند الكثير هذا فيما يترجح عندي، والله أعلم؛ لأنه كما قال العلماء: من اتصل الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم مقتوهُ واستثْقَلُوهُ واغتَابُوه ويذهبُ دينهم فيه، ويذهبُ دينُه ودُنياه في الانتقام منهم ومُسارقةُ الطَّبْع من أخلاقِهم الرَّدِيْئةِ، وهُو داءُ دَفين قلما ينتبه لهُ العُقلاء فضلاً عن الغافلين.
وذلك أنه قلَّ أن يُجالس الإنسانُ فاسقًا مدة مع كونه مُنكرًا عليه في باطنه إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فرقًا في النُفور عن الفساد؛ لأن الفساد يصير بكثرة المُباشرة هيِّنًا على الطبع ويسقط وقعُهُ واستعظامُهُ.
ومهما طالت مُدَّةُ الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف في الزهد والتعبد احتقر نفسه واستصغر عبادته.
فيكون ذلك داعية إلى التشمير والجدِّ والاجتهادِ في الطاعات والابتعادِ عن المنكرات.
ومما يدُلُ على سُقوط وقع الشيء بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلمًا قد أفطر في رمضان استعظموا ذلك حتى يكادُ أن يُفضي إلى اعتقادهم فيه الكفرَ.
وقد يشاهدون من يُؤخر الصلاة عن أوقاتها فلا ينفرون عنه نفورهم عن تأخير الصوم ولا سبب لذلك إلا أنَّ الصلاة تتكرر والتساهل فيها يكثر.
وكذلك لو لبس الفقيه ثوبًا من حرير أو خاتمًا من ذهب لاشْتَدَّ إنكار الناس لذلك.
وقد يشاهدونه يغتابُ فلا يستعظمونَ ذلك والغيبةُ أشدُ من لبسِ الحرير.
ولكن لكثرة سماعها ومُشاهدةُ المُغْتَابين سقطَ عن القلوب وقعُها.
إذا ألِفَ الشيءُ اسْتَهَانَ بِهِ الفَتَى
كإنفاقِهِ مِن عُمْرهِ وَمَسَاغِهِ ... فَلَمْ يَرَهُ بُؤسًا يُعَدُّ ولا نُعْمَا
مِن الرِيْقِ عَذْبًا لا يُحسُّ له طَعْمَا(1/288)
فالحذر الحذر من الاتصال بالناس ومجالستهم إلا فيما ينفعكَ في الآخرة، فإنك لا تكادُ ترى منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وفي غفلتك عن الآخرة، وتهون عليك المعاصي وتضعف رغبتُك في الطاعات؛ لأن مخالطة الكثير اليوم ضرر وإن وجدْتَ أناسًا يذكرون الله فلا تفارقهم.
لِقَاءُ الناسِ ليسَ يُفِيْدُ شَيْئًا
فأقْلِلْ مِنْ لقاءِ الناسِ إلا ... سوى الهَذَيانِ مِن قِيْلٍ وقَالِ
لأخْذِ العِلْم أوْ إصلاحِ حَالِ
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: مُفْسداتُ القلب خمسةٌ: الخُلْطَةُ والتَّمِنيْ، والتَّعَلُقُ غير الله، والشِّبعُ، والنَّومُ.
والضابطُ النافعُ في أمر الخُلطةِ أن يخالط الناس في الخير، كالجُمُعَةِ، والجماعة، والأعياد، والحج، وتعلم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلُهم ي الشر.
قلت: ومن الشر مجامع الكورة، والتلفزيون، والفيديو، والتمثيليات، واللعب بالورق، ومجالس شرب الخمر، والدخان، والحفلات التي تحتوي على التصوير، والإسراف، والاختلاط بالنساء الأجانب.
قال –رحمه الله تعالى-: وفضول المباحات، فإذا دعت الحاجةُ إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم.
فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابُدَّ أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر.
ولكن أذى يَعقِبُهُ عِزٌ ومحبةٌ له وتعظيم وثناء عليه منهم، ومن المؤمنين، ومن رب العالمين، فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلاً.
وإن دعت الحاجةُ إلى خُلطتهم في فضول المباحات، فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه، ويُشجِّعُ نفسه ويُقوي قلبه.
ولا يلتفت إلى الوارد الشيطان القاطع له عن ذلك، بأن هذا رياء، ومحبة لإظهار علمك، وحالِك، ونحو ذلك.
فليُحاربْهُ وليستعنْ بالله، ويُؤثر فيهم من الخير ما أمكنه.(1/289)
فإن أعجزته المقاديرُ عن ذلك، فليسُلَّ قلبهُ من بينهم، وليكن فيهم حاضرًا غائبًا بعيدًا نائمًا يقظان ينظر إليهم ولا يُبْصِرهُم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبهُ من بينهم ورَقى به إلى الملأ الأعلى يُسبحُ حولَ العرشِ مع الأرواح العلويَّةِ الزّكية وما أصعب هذا وأشقهُ على النفوس وإنه ليسيرٌ على من يسَّرهُ الله عليه.
فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى ويُدِيْمَ اللجَاءَ إليه ويُلْقِي نفسه على بابه طريحًا ذليلاً.
ولا يُعين على هذا إلا محبةٌ صادقةٌ الذكر الدائمُ بالقلب واللسان وتجنُّبُ المُفْسداتِ.
وقال: كُلُ علمٍ صحبةُ عملٌ يُرضي الله فهو منَّةٌ وإلا فهو حُجَّةٌ.
وكل قوةٍ ظاهرة وباطنةٌ صحبها تنفيذٌ لمرضات الله وأوامره، فهي منَّة وإلا فهي حُجَّةٌ.
وكلُ ما اقترن به إنفاقٌ في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكر فهو منَّةٌ من الله وإلا فهو حجةٌ.
وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبَّة لهُ اتصل به خُضُوعٌ للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النَّصيحة للخلق فهو منة، وإلا فهو حجة.,
وكل بصيرة، وموعظة، وتذكير، وتعريف من تعريفات الحق إلى العبد اتصل به عبرة ومزيد في العقل ومعرفة في الإيمان فهي منة، وإلا فهي حجة.
وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله، وإيثار مراده على مراد العبد فهو منة من الله.
وإن صحبه الوقوف عنده والرضا به وإيثار مقتضاه من لذة النفس به وطمأنينتها إليه وركونها إليه فهو حجة من الله عليه.
فليتأمل العبد هذا الموضوع العظيم الخطير، ويميز به مواقع المِنَن والمِحَن والحُجج والنِعم.
فما أكثر ما يلبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك { وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .(1/290)
وقال: وحاصل هذا كله أن الله سبحانه أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم، لا مع مراد أنفسهم، فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مُرَادِهم فاستحقوا كرامته.
وأهل معصيتِه آثروا مُرادهم على مُراده وعلم سبحانه منهم أنهم لا يؤثرون مراده البتة وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم، فأمرهم ونهاهم، فظهر بأمره ونهيه من القدر الذي قدَّرَ عليهم من إيثارهم هوى نفوسهم ومرادهم على مرضاة ربهم ومراده، فقامت عليهم حُجَّةُ عدله فعاقبهم بظلمهم.
قال: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ» إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلبُ والصورة عن دخول البيت.
فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبتُه وحلاوةُ ذكره والأنس بقربه في قلب مُمَتلئٍ بكلاب الشهوات وصُورها! فهذا من إشارة اللفظ الصحيح.
ومن هذا أن طهارة الثوب والبدن إذا كانت شرطًا في صحة الصلاة والاعتداد بها، فإذا أخل بها كانت فاسدة.
فكيف إذا كان القلب نجسًا ولم يطهره صاحبه! فكيف يعتد له بصلاة وإن أسقطت القضاء!
وهل الطهارة الظاهرة إلا تكميل لطهارة الباطن! ومن هذا أن استقبال في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب.
فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط، فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن، بل وجَّهَ بَدَنَه إلى البيت ووجَّهِ قلبهُ إلى غير رب البيت.
وأمثال ذلك من الإشارات التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل، والله أعلم.
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن مصل إلا وملك عن يمينه وملك عن يساره، فإن أتمها عرجا بها، وإن لم يتمها ضربا بها وجْهَهُ».
تُصلي بلا قلب صلاة بمثلها
تظل وقد أتْمَمْتَهَا غير عالم
فويلك تَدْريْ مَن تناجيه مُعْرضًا
تخاطبه إيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبلاً
ولو رَدَّ مَن ناجَاكَ للغير طرفهَ(1/291)
أما تَسْتَحِي مِن مالك الملك أنْ يرى
إلهِيْ اهْدِنَا فيمن هدَيْتَ وخُذْ بنا ... يكون الفتى مستوجبًا للعقوبة
تَزِيد احْتِيَاطًا رَكْعَةً بعد رَكعةِ
وبينَ يَدي مَن تنحَني غير مخبتَ
على غيره فيها لِغَير ضَرُوْرَةِ
تَمَيَّزْتَ مِن غَيْظٍ عيه وغَيْرَةِ
صُدُودَك عنه يا قليلَ المُرُوْءَةِ
إلى الحقِ نَهْجًا في طريقِ السَّويَّةِ
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فَضِيحةُ البهرج تبينُ عند المحك، لو أبصرت طلائع الصديقين في أوائل الركب، أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب، أو شاهدت ساقة المُستغفرين في آخر الرَّكْب، لعلمتَ أنك قد انقطعت تحتَ شجرة أم غَيْلَان.
واحسرتَاه لمُنقطعٍ دُوْن الرَّكْبِ يَعُدُّ المنازلَ إلى الرواح في الهوى والتفليس وحتَّامَ السعُي في صُحْبَةِ إبليْسِ.
وكم بهرجةٍ في العملِ وتدليس أينَ أقرانُكَ هل تسمعُ لهم من حسِيْس أعلمتَ أنُهمْ اشتد ندمُهم وحسرتهم على إيثار الخسِيس.
تالله لقد ودُوا أن لو كانوا طلَّقُوا الدنيا قبل المَسِيْس.
أتلهُوا بَيْنَ باطِيَةٍ وزِيْرِ
فيَا مَن غَرَّهُ أمَلٌ طَوِيلٌ
أتَفْرَحُ والمَنِيَّةُ كُلَّ يَومٍ
هي الدُنْيَا وإنْ سَرَّتْكَ يَوْمًا
سَتَسْلِبُ كُلَّ ما جَمَّعْت فيها
وتَعْتَاضُ اليَقيْنَ مِن التَظَنِي ... وأنتَ مِنَ الهلاكِ على شَفِيْرِ
به يُرْدى إلى أجَلٍ قَصِيْرِ
تُرِيْكَ مكانَ قَبْرِكَ في القُبُوْرِ
فإنَّ الحُزْنَ عَاقِبةُ السُرُورِ
كَعَارِيةٍ تُرَدُّ إلى مُعِيْرِ
ودَارَ الحَقِّ مِن دَار الغُرُوْرِ
قيل: إنه دخل أعرابيٌ على سليمان بن عبدالملك، فقال: يا أمير المؤمنين، إني مُكلِّمُكَ بكلام فاحتمله وإن كرهتهُ، فإن وراءهُ ما تُحِبُ إن قبلتهُ.
قال: قُلْ، قال: يا أمير المؤمنين، إنَّه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دُنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله ولم يخافُوهُ فيك.(1/292)
خربوا الآخرة وعمَّروا الدنيا فهم حربٌ للآخرة، سِلمٌ للدنيا فلا تأمنهم على ائتمنك الله عليه، فإنهمن لم يألوا الأمانة تضييعًا والأمة خسفًا.
وأنت مسؤولٌ عما اجترحُوا وليسوا بمسئولين عمَّا اجترحت، فلا تُصلحْ دُنياهم بفساد آخِرَتِكَ فإنَّ أعظمَ الناسِ غبنًا بائع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: أما أنت فقد سللت لسانك وهو أقطعُ من سيفك.
فقال: أجل يا أمير المؤمنين، لك لا عليك.
قال: فهل مِن حاجةٍ في ذات نفسك، قال: أما خاصَّة دون عامة فلا ثم قام فخرج، لله دره هذا من رقم (2) في «الزهد».
فقال سليمان: لله دره، ما أشرف أصله وأذرب لِسانه وأصدق نيتَّه وأروع نفسه، هكذا فليكن الشرفُ والعقلُ.
ولمَّا رَأيْتُ الشَيْبَ حَلَّ بعَارضي
رَجَعْتُ إلى نَفْسِي فَقُلْتُ لهَا انظري
دَعى لهواتِ اللهو قد فَاتَ وَقْتُهَا
دعي مَنْزِلَ اللذَاتِ ينزلُ أهلُهُ ... نذِيْرًا بَتْرحَال الشَّبَابِ المُفَارقِ
إلى ما أتى هذا ابتداءُ الحقَائِقِ
كما قَدْ أزالَ الليلُ نورَ المَشَارقِ
وجُدِّي لمَا تُدْعَيْ إليْهِ وسابقي
دخل عطاء بن أبي رباح على هشام، فرحب به، وقال: ما حاجتك يا أبا محمد، وكان أشرافُ الناس يتحدثون فسكتوا.
فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وعطياتهم، فقال: نعم يا غلام، اكتبْ لأهل المدينة وأهل مكة بعطاءِ أرْزَاقِهم.
ثم قال: يا أبا محمد، هل من حاجة غيرها، فقال: نعم فذكَّرهُ بأهل الحجاز وأهل نجد وأهل الثغور ففعل مثل ذلك، حتى ذكره بأهل الذمَّة أن لا يكلفُوا ما لا يُطيقُون.
فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك: هَلْ من حاجة غيرها؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإن خُلقْتَ وحدك، وتموتُ وحدك، وتُحشر وحدك، وتحاسبُ وحدك، لا والله ما معك ممَّن ترى أحدًا.
قال: فأكب هشامٌ يبكي، وقام عطاء، فلما كان عند الباب إذا رجلٌ قد تبعه بكيس، ما ندري ما فيه أدراهم أم دنانير؟(1/293)
وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال: { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ } ثم خرج ولا والله ما شرب عندهم حَسْوَة مَاء، لله دره سلك طريقة الرسل عليهم السلام، هذا من رقم (1) في «الزهد».
ولما رجع الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين، قد حج شيبان، قال: اطلبُوه لي فأتوه به، فقال: يا شَيْبانُ، عظني!
قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجلٌ ألكنٌ لا أفصحُ بالعربية، فجئني بمنْ يفهم كلامي حتى أكلمه، فأتي برجُل يفهم كلامهُ.
فقال له: قُلْ له يا أمير المؤمنين، إن الذي يُخَوّفُكَ قبْل أن تبلُغَ المأمن أنصحُ لك من الذي يُؤمِّنُكَ قبل أن تبلغ الخوف.
قال له: أي شيء تفسير هذا؟ قال: قُلْ لهُ الذي يقولُ لك: اتَّق الله فإنك رجلٌ مسئول عن هذه الأمة التي استرعاك الله عليها وقلَّدكَ أمورها وأنت مسئولٌ عنها.
فاعدل في الرعية واقسم بالسوية وانفذ في السرية، واتق الله في نفسك هذا الذي يخوفك فإذا بلعتَ المأمَنَ أمنْتَ.
هذا أنصحُ لك ممَّنْ يقول: أنتُم أهلُ بيتٍ مغفورٌ لكم وأنت قرابةُ نبيكم، وفي شفاعته فلا يزال يُؤمِّنُكَ حتى إذا بلغتَ الخوفَ عطِبْتَ.
قال: فبكى هارون حتى رحمه من حَوْلَه، ثم قال: زدني، قال: حسبك.
رُوي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابنًا له، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أُسِرَ ابني وشَكَا إليه الفَاقَة.
فقال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أمسْى عند آل محمد إلا مُدُّ، فاتق الله، واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فعاد إلى بيته، وقال لامرأته: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن تستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/294)
فقالت: نعم ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذا يقولان ذلك فبينما هو في بيته إذْ قرعَ ابنُه الباب، ومعهُ مائةٌ من الإبل تغَفَّلَ عنها العدُوَّ، فاستاقها وأتى بها إلى والديه، فنزلت هذه الآية: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
قيل لبعض العُقلاء: لِمَ اعتزلت الناس؟ فقال: خشيتُ أنْ أسلبَ ديْني ولا أشعُر، وهذا دليل على مسارقَة الطبع كما هو مُشاهد، ودليل على ذكاء العاقل ودقة نظره وزهده.
قال الحسن البصري: إنما الفقيه الزاهدُ في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه.
الورع الكاف من أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم.
لكل شيء آفة تفسده فآفة العبادة الرياء، وآفة الحلم الظلم، وآفة الحياء الضعف، وآفة العلم النسيان، وآفة العقل العجب بالنفس، وآفة الحكمة الفُحشُ، وآفةُ القَصْدِ الشُخُ، وآفةُ العُمُر الكبَرُ, وآفة الجودِ التبذير.
سُئل علي بن أبي طالب: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: أربعُ أصابع، قيل: وكيف ذلك؟ قال: الإيمانُ كُلُ ما سمعتهُ أذنَاكَ وصدَّقهُ قلبُك، واليقينُ ما رأتهُ عيناك، فأيقن به قلبُك وليْسَ بين العين والأذُن إلا أربعُ أصابع. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال شيخُ الإسلام بن تيمية، وفي الآثار يقول الله تعالى: أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك ونواصيها بيدي.
فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة ومن عصاني جعلتُهم عليه نقمة.
فلا تشغلوا أنفسك بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ وأطيعون أعطفهم عليكم.
وقال ابن القيم: لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام، يتطهَّرون بها في الدنيا، فإن لم تَفِ بطُهرهم طُهِّرُوْا في نهر الجحِيْم يوم القيامَةِ.
نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفرة.(1/295)
فإذا أراد الله بعبده خيرًا أدخلهُ أحد هذه الأنهار الثلاثة، فورد القيامة طيبًا طاهر، فلم يحتج إلى التطهير الرابع.
من غلب عليه حُبُّ الجاه صار مقصور الهم على مُراعاة الخلق مونعًا بالتردد عليهم والمرآت لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتًا إلى ما يُعظّمُ منزلته عندهم وذلك بذرُ النفاق.
وأصل الفساد؛ لأن كل من طلب المنزلة في قلوب الناس اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه.
ويجرُّ ذلك إلى المراآت في العبادات، واقتحام المحظورات والتوصل إلى اقتناص القلوب.
تَفَكَّرُ في نُقْصَانِ مَالِكَ دَائِمًا و
ويَثْنِيْكَ خوفُ الفَقْر عن كلِ طَاعَةٍ و ... وتَغْفُل عن نُقُصَانِ دِيْنِكَ والعُمْرِ
خِيْفَةُ حَال الفَقْرِ شَرٌ مِن الفَقْرِ
كان السلف –رحمهم الله- ومن سار على نهجهم من الخلف أحرص الناس على حفظ الوقت، وتعبيته بالأعمال الصالحة سواء في ذلك العالم، وطالب العلم، والعابد.
وكانوا يقتدي بعضهم ببعض ويوصي أحدهم الآخر على صيانته وملئه بالخير وكانوا يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصًا منهم على الوقت، وأن لا يذهب هدرًا، لَعِلْمِهم أنه يمُر مرَّ السحاب ويجري جريَ الريح.
قيل: إن نوحًا –عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام- جاء ملك الموت ليقبض روحه بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر، الله أعلم، فسأله ملك الموت، قال له: يا أطول الأنبياء عُمْرًا كيف وجدتَ الدنيا؟ فقال: كدارٍ لها بابان دخلتُ مع أحدهما وخرجتُ من الآخر.
قال الله جل وعلا وتقدس: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } .
وقال تبارك وتعالى: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } .
وقال تبارك وتعالى وتقدس: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } .(1/296)
ومن خصائص الوقت أن كل ساعة أو يوم أو لحظة تمر ليس يمكن استرجاعها.
وقال الحسن البصري: ما مِن يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد، فتزوَّدْ مني فإني إذا مضيتُ لا أعود.
وما المرءُ إلَّا رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمْره
يَبِيْتُ ويُضْحى كل يَومٍ ولَيْلَةٍ ... على سَفَرٍ يُفْنِيْه باليومِ والشهرِ
بَعِيْدًا عن الدنيا قَرَيْبًا إلى القَبْرِ
آخر:
وما نَفَسٌ إلا يُبَاعِد مَوْلِدًا ... ويُدْنِي المَنَايَا للنُّفُوسِ فَتَقْرُبُ
فالذي ينبغي للإنسان أن يحافظ على وقته أعظم من مُحافظته على ماله، وأن يحرص على الاستفادة منه في كل لحظة فيما ينفعه في دينه وفي دُنياه، ممَّا هو وسيلةٌ إلى الدار الآخرة.
قال عمر بن عبدالعزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
وقال حكيم: من أمضى يومًا من عُمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسَّسَه، أو اعلم اقتبسه، فقد عقَّ يومهُ وظلمَ نفْسَه.
والذي يعين على اغتنام الزمان، العزلة مهما أمكن، إلا لضرورة، أو حاجَةً لمن يلقاهُ، أو يزُورهُ، وقلَّةُ الأكل؛ لأن كثرته تُكسلُ البدنَ، وسببٌ للنَّومِ الطَّوِيْل، وضيَاعِ الليل، وفوات التجهد، أو تقليله، وعمارةُ القلب في أربعة: في العلم، والتقوى، وطاعة الله وذكره، وخرابُه من الجهل والمعصية والاغترار والغفلةْ. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
ولقد كانت هممُ السلف عالية يدل عليها كثرة مُصنفاتِهِمْ التي هي خلاصة أعمارهم.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى باستباق الخيرات والمسارعة إليها قبل أن تشغل عنها الشواغل أو تعوق العوائق.
قال الله جل وعلا: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } .
وقال عز من قائل: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } .(1/297)
وقال جل وعلا: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } .
ومدح الصالحين من أهل الكتاب بأنهم { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على المبادرة بالعمل قبل حلول العوائق والفتن، فقال: «هَلْ تَنْتَظِرُوْنَ إلا غنًى مُطْغِيًا أو فقرًا مُنْسِيًا أو مرضًا مفسدًا أو هَرَمًا مفندًا أو موتًا مجْهِزًا أو الدَّجَالَ فشر غَائِبٍ ينتظر أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر» رواه الترمذي.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وعمارة الوقت الاشْتِغَالُ في جميع آنَائهِ بما يُقَرِّبُ إلى الله تعالى أو يُعينُ على ذلك من مأكل ومشرَبٍ أو منكح أو منام أو راحة.
فإنَّهُ متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنُّب ما يسخطه كانتْ من عمارة الوقت.
وإن كان له فيها أتمَّ لذَّةٍ فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات المباحة.
قال بعض العلماء: أُغلق بابُ التَّوفيق عن الخلق من ستةِ أشياء:
انشغالُهم بالنعمة عن شكرها.
ورغبتُهم في العلم وتركهم العمل.
وإقبال الآخرة وهم معرضون عنها.
والاغترارُ بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم.
وإدبار الدنيا عنهم وهُمْ يتبعُونها.
والمسارعة إلى المعاصي والذنوب وتأخير التوبة.
وكَمْ ذِيْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً
تَصَرَّمُ لذَّاتُ المعَاصِي وتَنْقَضِي
فَيَا سَوْءَتَا واللهُ رَاءٍ وَسَامِعٌ ... ومَاتَ وخَلَّاهَا وذَاقَ الدَّوَاهِيَا
وتَبْقَي تبَاعَاتُ الْمَعَاصِي كَمَا هَيَا
لِعَبْدٍ بعَيْنِ اللهِ يَغْشَى المعَاصِيَا
آخر:
تَوَارَى بِجُدْرَانِ البُيِوتِ عَنِ الورى ... وأنْتَ بعَيْنْ الله لا شك تُنْظرُ(1/298)
وقال آخر: إن لله عبادًا جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالاً بينَ أعينهم وقطعُوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا فهم أنضَاءُ عبادته حُلفاءُ طاعته.
قد أنضجُوا خُدُودهم بوابل دُمُوعِهم وافترشُوا جباههُمْ في محاريبهم يُناجُون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم.
ومرَّ إبراهيم بنُ أدهم بجرل يتحدَّثُ فيما لا يَعْنِيْه فوقف عليه، فقال: كلامُكَ هذا ترجو به الثواب؟ قال: لا، فقال: أفتأمنُ عليه العقاب؟ قال: لا.
قال: فما تصنعُ بكلام لا ترجُو عليه ثوابًا وتخاف منه عقابًا.
قال بعضهم: لو بعت لحظةً من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكُنْتَ مغبونًا في العقد.
قال سفيان الثوري: دخلت على جعفر الصادق، فقلتُ له: ما لي أراك سكنت دارك ولا تُخالطُ الناس؟ قال: نعم يا ابن سعيد، في العُزلة دعة، وفي الدعة القناعة، وما قُدّرَ لك يأتيك.
يا سُفيان، فسد أهل الزمان وتغيَّر الأصدقاء فرأيتُ الانفراد أسكن للفؤاد.
تَغَيَّرَ إخْوَانُ هذا الزَّمَانْ
قَضَيْتُ التَّعَجُّبَ مِن بَابِهِم ... وكُلُ صَدِيق عَراه خَلَلْ
فَصِرْتُ مُنْتَظِرًا لِبَاب البَدَلْ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
كتب العمري العابد إلى مالك يحضُهُ على الانفراد والعمل ويرغبه عن الاجتماع إليه في العلم.
فكتب إليه مالك إن الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق فرُبَّ رجُلٍ فُتح عليه في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم.
وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يُفتح له في الصوم.
وآخر فُتح له في الجهاد ولم يُفتح لهُ في الصلاة.
ونشرُ العلم وتعليمه من أشرف أعمال البر.
وقد رضيتُ بما فتح الله عزَّ وجلَّ عليَّ فيه من ذلك.
وما أظنُ ما أنا فيه بدُوْن مِنْ مَا أنت فيه.
وأرجو أن يكونَ كلانا على خيرٍ وبرٍ ويجبُ على كُلٍ منَّا أن يرضى بما قسِم له، والسلام.(1/299)
قيل: أصاب عبدالرحمن بن مدين مالاً عظيمًا وكان رجل صدقٍ، وصاحب دين فجهَّزَ سبعين مملوكًا بأسلحتهم إلى هشام بن عبدالملك ثم أصبحُوا معهُ يوم الرَّحِيْل.
فلما استوى بهم في الطريق نظر إليهم، وقال في نفسه: ما ينبغي لرجُل أن يتقرَّب هؤلاء إلى غير الله عزَّ وجلَّ، ثم قال لهم: اذهبُوا فأنتم أحرار وما معكم لكم.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إن الذي يحسمُ مادة رجاءِ المخلوقين من قلْبِكَ هو الرضا بحكْم الله عز وجل وقسمهِ لك.
فمن رضي بحُكْمِ الله وقسْمِهِ لم يبق لرجاء الخلقِ في قلبه موضِع.
والذي يحسمُ مادة الخوف هو التسليمُ لله، فإنَّ من سلَّمَ لله واستسلم لهُ وعلم أنَّ ما أصابهُ لم يكنْ ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يُصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضًا.
فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمّها إلى وليّها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله.
والذي يحسمُ مادة المبالات بالناس شهود الحقيقة، وهو رؤية الأشياء كلها من الله، وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسُلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته، ولا ينفع ولا يضر شيءٌ إلا بإذنه ومشيئته، فما وجه المبالات بالخلق!
شعرًا:
إن كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الله يا عُمَرُ
وأنتَ في غَفْلةٍ عَن ذَاكَ تركبُ ما
تُجَاهِرُ اللهَ إقْدامًا عليه ومِنْ ... يَرَى ويَسْمَعُ مَا تأتِي وما تَذَرَ
نَهَاكِ عنه فأيْنَ الخَوفُ والحَذَرُ
حُثَالَةِ الناسِ تسْتَحِيْي وتَعْتَذِرُ
اشترى عبدالله بن عامر من خالد بن عُقبة دارهُ التي في السوق بتسعين ألف درهم، فملا كان الليل سمع بكاء أهل خالد مُتأسفين على بيع الدار، فقال: ما لهؤلاء يبكون، قالوا: يبكونَ على دارهم التي اشتريتها، قال: يا غلام ائتهم فأعلمهم أن الدار والمال لهم جميعًا.(1/300)
وكان لعُثمان على طلحة ـ رضي الله عنهما ـ خمسون ألف درهم، فخرج إلى المسجد، فقال طلحة: قد تهيأ مالُك فاقبضهُ.
فقال: هُو لك يا أبا محمد، معُونةً على مرُوءتك.
ودخل عليُ بن الحسن على محمد بن أسامة بن زيدٍ في مرضه، فجعل يبكي، فقال: ما شأنك؟
قال: عليَّ دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار أو بضعة عشر ألف دينار، قال: هيَ عليَّ.
لَهُم سَحَائِبُ جُودٍ في أنَامِلِهم
في العُسر قالوا إذا أيْسَرنَ ثَانِيَةً
حتى إذَا عَادَ أيَّامُ اليَسَارِ لهُمْ ... أمْطَارُهَا الفِضَّةُ البَيْضَاءُ والذَّهَبُ
أقصرَن عَن بَعْضِ ما نُعْطِي ومَا نَهَبُ
رَأيْتَ أمْوالهمْ للناسِ تُتَّهَبُ
آخر:
قَالَتْ طُرَيفَةُ ما تَبقْىَ دَرَاهِمُنَا
لَكِنْ إذَا اجْتَمَعَت يَومًا دَرَاهِمُنَا
لا يألَفُ الدِّرْهَمُ المَضْرُوْبُ صُرَّتنا ... وما بِنَا صَلَفٌ فيها ولا خَرَقُ
ظَلَّتْ إلى طُرُقِ المعروفِ تَسْتَبِقُ
لَكِنْ يَمُر عَليَها وهْوَ مُنْطَلقُ
لما ولي عُمرُ بن عبدالعزيز الخلافة كتب إلى الحسن البصري إني قد ابتُليتُ بهذا الأمر، فانظر لي أعوانًا يعينوني عليه، فأجابه الحسنُ أما أبناءُ الدنيا فلا تريدهمُ، وأما أبناء الآخرة فلا يُريدُونكَ فاستعن بالله.
روي أن عمر بن عبدالعزيز كان في سفر مع سليمان بن عبدالملك، فأصابهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة حتى فزعوا لذلك، وجعل عُمرُ يضحكُ، فقال له سليمان: ما يُضحكَ يا عمر؟ أما ترى ما نحنُ فيه!
فقال له: يا أمير المؤمنين، هذه آثارُ رحمتِهِ فيها شدائدُ ما ترى، فكيف بآثار سخطهِ وغضبِهِ!
أرسل المنصور إلى سفيان الثوري، فلما حضر قال له: سلْنِي حاجتك يا أبا عبدالله.
قال سفيان: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: لا تطْلُبني حتى آتيك، ولا تعطيني حتى أسألُكَ، ثم خرج مِن عنده.
فقال المنصور: ألقينا الحبَّ إلى العُلماءِ، فالتقطُوا إلا سُفيان.
إن الوُقُوفَ على الأبْوَابِ حِرْمَانُ(1/301)
فلا تُؤمِّلُ مَخْلوُقًا وتَقْصُدُهُ
ثقْ بالذيْ هُوَ يُعْطِي ذَا ويَمْنَعُ ذا ... والعَجْزُ أن يَرجُوَ الإنسانَ إنْسَانُ
إن كانَ عِنْدَكَ بالرحْمن إيْمَانِ
في كُلِّ يَوْمٍ لَهُ في خَلْقِهِ شَانُ
آخر:
إذا انقَطَعَتْ أطماعُ عبدٍ عَن الوَرَى
فأصَْحَ حُرًا عِزَّة وقَنَاعَةً
وإنْ عَلِقَتْ بالخَلْقِ أطْمَاعُ نَفْسِهَ
فلا تَرْجُ إلّا الله لِلْخَطْب وحْدَه ... تعَلَّقَ بالرَّبِ الرَّحِيْمِ رَجَاؤُهُ
عَلى وجْهِهِ أنْوَارُهُ وضِيَاؤُهُ
تَبَاعَدَ مَا يَرجُوْ وَطَالَ عَنَاؤُهُ
ولو صَحَّ في حلِّ الصَّفاءِ صَفَاؤُهُ
دخل عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - المسجد، فرأى رجلاً مُعتكفًا فيه للعبادة، فسأله عمن يعوله؟
فقال: أخي يعمل ويسعى لرزقه ورزقي ورزقِ عياله، فقال لهُ عُمر: أخوُكَ أعبدُ منك.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: سأل موسى ربه عز وجل، فقال: أيْ ربّ أيُّ عبادك أحب إليك؟
قال: الذي يذكرني ولا ينساني.
قال: فأي عبادك أقضَى؟
قال: الذي يقضي بالحق، ولا يتبع الهوى.
قال: أيْ رب، أي عبادك أعلم؟
قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كَلِمة تهديه إلى هدى أو ترده عن رَدَى.
قال: أي رب، فهلْ في أرضك أحدٌ أعلم مني؟
قال: نعم، قال: فمن هُو؟ قال: الخضر، قال: فأين أطلُبه؟
قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلتُ عندها الحُوتُ.
قال: فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله.
يُروى أن أبا حنيفة دخل عليه طائفة من الخوارج شاهرين سُيُوفهُم، فقالوا: يا أبا حنيفة، أفتنا في مسألتين، فإن أجبت جوابًا صحيحًا نجوت وإلا قتلناك.
قال: أغمدوا سُيُوفكم، فإن بِرُؤْيتهَا ينشغلُ القلبُ، قالوا: وكيف نغْمِدُها ونحنُ نحتسبُ الأجرَ بإغمادها في رقبتك؟(1/302)
قال: اسألوا؟ قالوا: جنازتان بالباب، أحدُهما رجلٌ شرب خمرًا فمات سكران، والأخرى امرأة حملت من الزنا، فماتت في ولادتها قبل التوَّبَة، أهما مؤمنان أم كافران؟
فسألهم: من أي الفِرقَ كانا من اليَهُود؟
قالوا: لا، قال: من النصارى؟ قالوا: لا.
قال: من المجُوس؟ قالوا: لا.
قال: ممَّنْ كانا؟ قالوا: من المسلمين، قال: قد أجبتُمْ.
قالوا: هما في الجنة أمْ في النار.
قال: أقول فيهما ما قال الخليل ـ عليه السلام ـ فيمن هو شر منهما: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وأقول كما قال عيسى ـ عليه السلام ـ: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } .
فنكَّسُوْا رؤوسهم وانصرفوا.
وسأل أبا حنيفة ناسٌ من الزنادقة عن وجُود الله، فقال: ذكرُوا لي أن سفينةً في البحر مُوقَرة، وليس بها أحدٌ يحرسُها ولا يسوقُها وهي مع ذلك تذهبُ وتجيء وتسيرُ بنفسها من غير سائق يسُوقها.
فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكُمْ هذه الموجُودات بما فيها من العالم العلوي والسُفلي.
وما اشتملتْ عليه من الأشياء المُحْكَمَة ليس لها صانع فَبُهَتَ القومُ ورجعُوْا إلى الحق.
وقال ابن القيم: إن السُنَّة الذات تمحقُ البدعةَ ولا تقوُمُ لها وإذا طلعت شمسُها في قلب العبد قطعتْ من قلبه ضُبَابَ كلِ بِدْعَةٍ وأزَالَت ظلمة كل ضلالة.
إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس، ولا يرى العبدُ الفرقَ بين السنة والبدعة.
ولا يُعينُه على الخروج من ظلمتِهَا إلى نور السُنَّة إلا المُتابعة، والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله بالاستعانة والإخلاص وصدق اللَّجاء إلى الله.(1/303)
والهجرةُ إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسُنته، «فمن كانت هجرته إلى اللهِ ورسولهِ فهجرته إلى الله ورسوله» ومن هاجَرَ إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه من الدنيا والآخرة والله المستعان.
وقال: وأشدُ العقوبةُ العقوبةُ بسلب الإيمان، ودُونها العقوبةُ بموت القلب، ومحو لذة الذكر والقراءة والدعاء والمناجاة.
وربما دبَّتْ عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة، إلى أن يمتلي القلبُ بها فتعمي البصيرة.
وأهونُ العقوبَة، ما كان واقعًا بالبدن في الدنيا، وأهونُ منها ما وقع بالمال.
وربما كانت عقوبةُ النظر في البصيرة أو في البصر أو فيهما.
حذار حِذار من أمرين لهما عواقب سُوءٍ:
رد الحق لمخالفته هَوَاك، فإنك تُعاقبُ بتقليب القلب.
وردّ ما يردُ عليك من الحق رأسًا ولا تقبلهُ إلا إن برز في قالب هواك.
قال الله جل وعلا: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } فعاقبهم على رَدِ الحق أوَّل مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم.
والثاني: التهاون بالأمر إذا حظر وقته، فإنك إن تعاونت به ثبطك اللهُ وأقعدكَ عن مراضيهِ وأوامره عُقُوبةً لك.
قال تعالى: { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ } فمن سَلِم من هاتين الآفاتين فليهْنِهِ السلام.
قال يحيى بن معاذ: يخرج العارفُ من الدنيا ولم يقضي وطرهُ من شيئين:
بكائه على نفسه، وثنائه على ربه.
وهذا يدل على معرفته نفسه وعيُوبه وآفاته.
وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله، فهو شديد الإزدراء على نفسه ولهجٌ بالثَّنَاءِ على ربه.(1/304)
قال رجل للحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ: إني أكرهُ الموتَ، فقال: لعلك أخرتَ مالكَ، ولو قدَّمْتَهُ لسرَّك أن تلحقَ به.
ذكر أن رجلاً مدح رجلُا آخر في وجهه ، وكان الممدوحُ عاقلاً ذكيًا ورعًا، فقال: لما مدحتني أجربتني عند الغضب، فوجدتني حليمًا؟ قال: لا.
قال: أجربتني في السفر، فوجدتني حسنُ الخُلُق؟ قال: لا.
قال: أجربتني عند الأمانة، فوجدتني أمينًا؟ قال: لا.
قال: فلا يحلُ لأحدٍ أن يمدحَ آخر ما لم يُجَرّبُهُ في هذه الأشياء.
قلت: لأنها محك ينكشف فيها الخبايا خصوصًا السَّفر؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
أثنى رجلٌ على زاهد، فقال: يا هذا، لو عرفت مني ما أعرفُه من نفسي لأبغضتني!
فالنفسُ في الوطن لا تظهَر خبائثُ أخلاقِها لاسْتِئنَاسِها بما يُوافقُ طبعها من المألوفات المعهودة.
فإذا حملت وعثاء السفر وصُرفتْ عن مألوفاتِها المعتادة وامتحُنَتْ بمشاق الغُربة انكشفتْ غوائلها ووقعَ الوقوف على عُيوبها. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قيل: إنه شُكي أحد الولاة إلى المأمون، فكذبهم، وقال: قد صحَّ عندي عدله فيكم، وإحسانه إليكم، فاستحيوا أن يرُدُّوا عليه، فقام شيخ منهم، وقال: يا أمير المؤمنين، إذا كان قد عدل فينا خمسة أعوام، فانقلهُ إلى مصر آخر حتَّى يسع عدلُهُ جميع رعيَّتك وتربح الدُعاء، فضحك المأمُونُ واستحيا منهم، ونقلهُ عنهم.
قال حكيم: للقلب ستة مواطنَ يجُول فيها ثلاثةٌ سافلة، وثلاثةٌ عالية، فالسافلة: دُنْيا تتزين له، ونفسٌ تحدثه، وعدُوٌ يُوَسْوِسُ لَهُ.
والعاليةُ: علمٌ يتبينُ له، وعقلٌ يُرشده، وإله يعبدهُ.
أشدُ الأعمال ثلاثة: الجودُ من قِلّضة، والورع في الخلوة، وكلامُ الحقِ عند من يُرجى ويُخاف.
احذر سؤال البخيل، فإنَّه إن منعك أبغضته، وإن أعطاك أبغضك.
احذر صحبة الأشرار والفسقة، فإنهم يمنون عليك بالسَّلامة منهم.(1/305)
واحرص على صحبة الزُّهاد في الدنيا من أهل العلم والورع إن وجدتهُم تسعدْ في الدنيا والآخرة.
وإذا أرَدْتَ تَرى فَضِيْلَةَ صَاحِبِ
فالمَرْءُ مَطْوِيٌ عَلىَ عَلَّاتِهِ ... فانْظُرْ بَعِيْنِ البَحْثِ مَنْ نُدَمَاؤه
طَيَّ الكِتَابِ وصَحْبُه عُنْوانُهُ
آخر:
تَحَّرَ إذ صَادَفْتَ مَن ودُّهُ مَحْضُ
فَكُلُ خَلِيْلٍ مُنْبِئٌ عَنْ خَلِيْلِهِ
وبالصِدْقِ عَامِلْ مَن تُحِبُ مِن الوَرَى ... يُصَانُ لَدَيْهِ الدِّيْنُ والمالُ والعِرْضُ
كَمَا عَنْ شُؤُونِ القَلْبِ قَدْ أنْبَأَ النَّبْضُ
وإلَّا فَذَاكَ الحُبُّ آخِرُهُ البُغْضُ
كان لإبراهيم بن طهمان جراية من بيت المال فسُئل عن مسألة في مجلس الخليفة، فقال: لا أدري، فقالوا له: تأخذ في كل شهر من بيت المال كذا وكذا، ولا تُحسِن مسألة، فقال: إنما آخُذُ على الذي أحسنُ فقط، ولو أخذت على ما لا أحسنُ لفنَي بيتُ المال، ولا يفنى ما لا أحسن.
فأعجب الخليفة جوابه وأمر بجائزة وزاد في جرايته أي ما يجري له من بيت المال.
قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني قطُ غيرُ غُلام من بني الحارث، فإني ذكرتُ امرأةً منهم وعندي شابٌ من بني الحارث، فقال: أيها الأمير، إنه لا خير لكَ فيها، فقُلتُ: ولِمَ؟ قال: رأيتُ رجُلاً يقبِّلُهَا، فأقمتُ أيامًا ثم بلغني أن الفتى تزوج بها، فأرسلتُ إليه، فقُلتُ: ألم تُعلمني أنك رأيت رجُلاً يُقبِّلُها؟
قال: بلى رأيت أباها يُقبِلُهَا، فإذا ذكرت الفتى وما صنعَ غمَّني ذلك.
خطب معاوية فأعجبتهُ خطبتُه، فقال: أيُّها الناس، هَلْ مِن خَلَل؟ فقال رجل: نعم، خللٌ كخللَ المُنْخل، فقال: وما هو؟ فقال: إعجابك بها ومدحكَ إيَّاها.
وما حَسَنٌ أنْ يَمْدَحَ المَرْءُ نَفْسَهُ ... ولَكنَّ أخْلاقًا تَذُمُّ وتَمْدَحُ(1/306)
يُروى أنه لما وصل الرشيد الكُوفة قاصدًا الحج خرج إليه أهلُ الكوفة، فناداه البهلول: يا هارون، فقال الرشيدُ: من هذا؟ فقالوا: البهلُول، فقال: يا أمير المؤمنين، روينا بالإسناد عن قدامة بن عبدالله العامري، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمْرةَ العقبة لا ضرْبَ ولا طَرْدَ، ولا قال: إليْكَ إليْكَ وتواضُعُكَ يا أمير المؤمنين هذا خيرٌ لك من تكبُّرك.
فبكى الرشيد حتى جرتْ دمُوعُه، وقال: أحسنت يا بُهْلُول زدْنا.
فقال: أيُّما رجُل آتاهُ الله مالاً وجمالاً وسلطانًا فأنفق مالهُ وعفَّ جمالهُ وعدلَ في سُلطانه كُتب في ديوان الله من الأبْرَار.
فقال له الرشيد: أحسنتَ وأمرَ لهُ بجائزة، فقال: لا حاجةَ لي فيها رُدَّها إلى من أخذتها منه.
قال الرشيدُ: فنجري عليك رزقًا يقومُ بك، فرفع البُهْلُولُ طرفهُ إلى السماء، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا وأنت عيال الله فمحُال أن يذكُرك وينساني.
جاء عبدالرحمن بن زيد رجلٌ من أهل بيته، فسألهُ أن يمُدَّهُ بشيء من المال معُونةً عل الزواج، فأجابه بجواب يدل على قِلةِ ما سَيُسَاعِدُهُ به، فلما مضى الرجل من عنده قال لصاحب خزانته: أعطه أربعمائة دينار فاستكثرها أحدُ من حوله، وقال: لقد رددت ردًا ضعيفًا حتى ظننا أنك تُعطيه شيئًا قليلاً، فقال عبدالرحمن: أحبُّ أن يكون فعلي أعظم من قولي.
جاء يومًا بعض خدم الخليفة المُعتضد إلى مجلس القضاء مع خصم له فترفَّع في المجلس على خصمه، فأمره حاجب القاضي يوسف بن يعقوب أن يساوي خصمهُ فامتنع إدلالاً بجاهه عند الخليفة فزجره القاضي، وقال: ائتوني بالدلال النَّخاس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة.
وجاء صاحب القاضي فأخذ بيده وأجلسهُ مع خصْمِه، فلما انقضت القضيَّة رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه، فقال له: مالك؟ فأخبره بالخبر وما أراد القاضي من بيعه.(1/307)
فقال: والله لو باعكَ لأجزتُ بيعهُ ولما استرجعتُك أبدًا، فليس خصُوصِيَّتك عندي تُزيلُ مرتبة الشرع، فإنَّه عمُودُ السلطان وقوامُ الأديان.
وذكروا أن أحد التجار قدم إلى العراق من خراسان فتأهَّبَ للحَج وبقي معه ألف ديْنار لا يحتاجُ إليها.
فقال: إن حَمَلْتُهَا خاطرتُ بها وإن أودعتُها خفتُ جحدِ المُودعِ.
فمضى إلى الصحراء فرأى شجرة خروع فحفر تحتها ودفنها، ثم خرج إلى الحج وعاد فحفر المكان فلم يجد شيئًا.
فجعل يبكي، فإذا سُئل عن حاله؟ قال: الأرض سرقت مالي، فقيل له: لو قصدتَ عضد الدولة، فإن له فطنةٌ فقصده فأخبره بقصته، فجمع الأطباء، وقال: هل تداوي عندكم في هذه السنة بعُرُوق الخرْوع أحدٌ؟
فقال أحدهُم: أنا داويت فُلانًا وهو من خواصك، فقال: عَليَّ به، فجاء.
فقال له: هل تداويْتَ هذه السنة بعُروق الخروع، قال: نعمْ.
قال: من جاءك به؟ قال: فلان الفراش، قال: عليَّ به، فلما جاء، قال له: من أين أخذت عروقَ الخروع؟ فقال: من المكان الفلاني.
فقال: اذهب بهذا معك فأره المكان الذي أخذَ منه، فذهب بصاحب المال إلى تلك الشجرة، وقال: من هذه الشجرة أخذتُ.
فقال: هاهُنا والله تركتُ مالي فرجعَ إلى عضد الدولة، فأخبره، فقال للفراش: هلمَّ المال فتلكأ فأوعده، فأحضر المال.
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
ويروى أن المهدي الخليفة لما دخل البصرة رأى إياس بنَ مُعاوية وهو صبيٌ وخلفه جماعةٌ من العُلماء وإياسُ قُدامَهُم.
فقال المهدي: أما كان في هؤلاء شيخ يتقدمُهم غير هذا الحدث! ثم التفت المهديُ إلى إياس، وقال: كم سنُّكَ يا فتى؟
فقال: سني أطالَ اللهُ بقاء الأمير سِنَ أسامة بن زيد بن حارثة لمَّا ولاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فيهم أبو بكر وعُمر، فقال له المهدي: تقدَّمْ بُوركَ فيْكْ.(1/308)
ويُروى أن يحيى بن أكثم وليَّ قضاء البصرة وسنُّهُ قريبًا من عشرين سنة فاستصغروه، فقالوا: كم سنُ القاضي؟ فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجَّهَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا بمكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجَّهَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاضيًا لليمن، وأكبر من كعب بن سُوْر الذي وجَّهَ به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قاضيًا للبصْرَةِ.
حَبَسَ أحدُ الملوك أحدَ الحُكَماء وأمَرَ أن لا يزيْدَ طعَامُه اليومي على قرصين من شعير، فأقام الحكيم على هذه الحالة دُوْن أن يتكلم، فأمر الملك أصحابه أن يسألُوه عن ذلك، فقالوا: أيُّها الحكيم، أنت في شدة وضيق ولم تتأثر صحَّتُك، فما هُوَ السببُ في ذلك؟
فقال: عملتُ ستةَ أخلاطِ آخُذُ منه كلَّ يوم شيئًا:
الأول: الثقَّةُ بالله جل جلالهُ.
والثاني: علمي أن كل ما قدرهُ الله كائنٌ لا محالة.
والثالث: علمي أن الصَّبر خَيْرُ ما يستعملُه المُمْتَحَن.
والرابعُ: الثباتُ على الصبر.
والسادس: ترويحي على نفسِي في قولي من ساعة إلى ساعَة فرجٌ، فبلغ الملكَ ذلك، فعفا عنه.
قال بعضهم: انتفعت بأعدائي أكثر مما انتفعت من بأصحابي؛ لأن أعدائي يُعيِّرُوْنَني بالخطأ ويُنَبِّهُونَنِي عليه فأتجَنَّبُه، وأصحابي يمدحُونني ويُزينُون لي الخطأ ويُشجِّعُونَنِي عليه بنفاقهم، وليْسَ كذالك يكُونُ الأصْحاب.
عُدَاتي لَهُم فَضْلٌ عَليَّ ومنةٌ
هُمُوْا بَحَثُوا عن زلَّتي فاجْتَنَبْتُهَا ... فَلَا أَذْهَبْ الرحمنُ عَني الأعَاديا
وهُمْ نافسُوني فاكْتَسَبُتُ المَعَالِيَا
وقال آخر:
عَدُّوْا عَليَّ مَعَائِبي فَحذِرْتُها
ولَرُبَّمَا انتفَعَ الفَتَى بِعَدُوَّهِ ... ونَفَيْتُ عن أخْلَاقِي الأَقذَاءَ
كَالسُمِّ أَحْيَانًا يَكُونُ شِفَاءَ
وقال آخر: لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية الخالصة.(1/309)
ولا في المال إلا مع الجود فيما يرضى الله، ولا في الصدق والوعد والعهد إلا مع الوفاء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومعلوم عند الخاصة و العامة أن فتنة سماع الغناء والمعَازف أعظم من فتنة النَّوْحَ بكثير.
والذي شاهدناه نحنُ وغيُرنا وعرفنَا بالتجارب أنه ما ظهرت المعازفُ وآلات اللهو في قومٌ وفشتْ فيهم واشتغلُوا بها إلا سَلَّطَ الله عليهم العدو.
ويُلُو بالقُحْط والجُدب ووُلاة السُوء والعاقل يتأمل أحوال العَالَم وينظُر، والله المستعان.
وقال شيخنا عبدالرحمن الناصر السعدي ـ رحمه الله ـ: اعلموا رحمكم الله، أن المعازف والغناء وآلات اللهو من المحرمات.
فاجتنبوها، فقد جاءت نصوص الشر بتحريمها وحذر منها العلماء وحرموها.
وقد تهاون بذلك بعض الذين يفتحون الراديو على إذاعات العزف والغناء وذلك لا يحل ولا يجوز.
وفيه مفاسد وشرور كثيرة تصد القلوب عن الخير وترغبها في الشر، ويؤذون المارين والسامعين والجيران.
فمن فتح على الغناء والمعازف، فقد باء بإثمه وإثم كل من سمع.
يقول سبحانه وتعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } . والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال شيخ الإسلام: فالعبد لابُدَّ لهُ من رزق وهو مُحتاجٌ إلى ذلك، فإذا طلب رزقهُ من الله صارَ عَبْدًا لله فقيرًا إليه، وإذا طلبهُ من مخلُوقٍ صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه؛ ولهذا كانت مسألة (المخلُوق) أي سؤاله (مُحرمة) في الأصل.
وإنما أُبيْحَتْ للضَّرُورةِ، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة.
وقال ـ رحمه الله ـ: ولنْ يستغْن القلبُ عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون اللهُ هُو مولاهُ الذي لا يعبُد إلا إيَّاهُ ولا يستعين إلا به.
ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يُحبُه ويرضاه ولا يكره إلا ما يُبغضهُ الربُ ويكْرِهُهُ.
ولا يوالي إلا من والاه الله ولا يعادي إلا من عاداهُ اللهُ.(1/310)
ولا يُحبُ إلا لله ولا يُبغضُ شيئًا إلا لله ولا يُعطي إلا لله ولا يمنعُ إلا لله.
فكلما قوي إخلاصُ دينه لله كَمُلتْ عُبُوديتُه واستغناؤهُ عن المخلوقين.
وبكمال عُبوديته لله تكمل تبرئتُه من الكبر والشرك.
والشرك غالب على النصارى والكبر غالب على اليهود.
قال الله تعالى في النصارى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وفي اليهود: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } .
وقال ـ رحمه الله ـ: أرجح المكاسب التوكلُ على الله تعالى والثقة بكُفْيَتِهِ وحُسْنُ الظن به، ويأخذُ المال بسخاوة نفسٍ من غير أن يكون له في القلب مكانة؛ ولكن يسعى في تصليحه وتنميته لإقامة ما عليه من واجبات ومستحبات وللاستغناء به عن الخلق.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: أعجبُ العجَب أن تعرفَ الله ثم لا تحُبُه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدْرَ الربح في مُعَامَلته ثم تُعَامِل غَيْرَهُ، وأن تعرف قدْر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذُوق ألم الوحشة في معصيته، ثم لا تطلبُ الأنسَ بطاعته.
وأعجب من هذا علمك أنَّك لابُدَّ لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه مُعْرِض وفيما يُبعدك عنه راغب. اهـ.
فوائد جمة:
من أهان خمسةً خسر خمسةً، ومن استحفَّ العُلماء خسر الدين.
ومن استخفَّ بالأمراء خسر الدنيا.
ومن استخفَّ بالجيران خسرَ المنافع.
ومن استخفَّ بأهله خسرَ طيبَ المعيشة.(1/311)
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يُعْطِي اللهُ لأحَدٍ خْمسًا إلا وقَدْ أعَدَّ لَهُ خمسًا أخرى: لا يُعْطِيْهِ الشكرَ إلا وقَدْ أعَدَّ لَهُ الزيادَة، ولا يُعْطِيه الدُّعَاء إلا وقدْ أعَدَّ لَهُ الاسْتجَابَة، ولا يعطيه الاستغفار إلا وقد أعَدَّ لَهُ الغُفْران، ولا يُعْطِيه التوبة إلا وقد أعَدَّ لَهُ القَبُول، ولا يُعْطِيه الصُّدقَةَ إلا وقد أعَدَّ لَهُ التَّقَبُّل».
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
اعلم وفقنا الله وإياك أن من أكثر ذكر الموت وزيارة المستشفيات والمستوصفات والمقابر والمرضى استفادة عدّة فوائد:
الأولى: المبادرة على التوبة.
الثانية: القناعة بالرزق اليسير.
الثالثة: النشاط في العبادة.
الرابعة: الوصية.
الخامسة: ترجيع العواري.
السَّادسة: أداء الحقوق التي عليه لله أو لخلق الله.
السابعة: استحلال من بينه وبينه مُعاملة أو مخاصمة قديمة أو حديثة من جار أو زوجة، أو مُعَامل، أو صديق، أو شريْكٍ، أو أجير، أو نحو ذلك.
شعرًا:
وَرُبَّ نِيَامٍ في المقابرِ زُرْتُهُمْ
وقَفْتُ على الأجْدَاثِ وقْفَةَ عَاشِقٍ
فما سَالَ فَيْضُ الدَّمْعِ حَتَّى قَرَنْتُهُ
أسُكَانُ بَطْن الأرضِ هلَّا ذَكَرْتُمُ
رَضيْتُمْ بأكْفَانِ البِلىَ حُللاً لَكُمْ
وقَدْ كُنْتُمُ تُوذِي الحَشَايَا جُنُوبكُم
ألا يَا قُبُورًا زُرْتُهَا غَيْرَ عَارفٍ
لَقَدْ حَارَ فِكْرِي في ذويْكِ وإنَّهُ ... بَمُنْهَلِّ دَمْعٍ لا يُنَهنَهُ بالزَّجْرَ
على الدار يَدْعُو دَارسَ الطَّلَلِ الفَقْرِ
إلى زَفَراتٍ قَدْ تَصَاعَدْنَ مِن صَدْري
عُهُودَا مَضَتْ مِنكُمُ وأنْتُم عَلى الظَّهْرِ
وَكُنُتُم أولى الدِّيْبَاجِ والحُلَلِ الحُمْرِ
فكَيْفَ رَقَدْتُم والجُنُوبُ على الصَّخْر
بهَا سَاكِنَ الصَّحْراءِ من سَاكِن القَصْرِ
لَيَحْتَارُ في مَثْوىَ ذَويْكِ أُولُوْ الفِكْرِ(1/312)
لا تحملْ ما لا تطيق، ولا تعملْ عملاً لا ينفعُك، ولا تغتر بالمرأة وإن كانتْ عفيفةً، ولا تثِقْ بالمال وإن كثُر.
السُعاة والنمامُون لصوص المودات فاحذرهم، لا تُصدِّقْ كثير الحلف وإن اجتهد في اليمين، واحذر كل الحذر من الخدامين والخدامات والسائقين غير المؤمنين.
من قصَّر في حقك قبلَ أن يعرفكَ فلا تَلُمْهُ، قال بعضهم موصيًا: عليك بالعلم لا تبغي به بدلاً، ثانيًا: الحلم، ثالثًا: التقوى، رابعًا: الثقة بالله والاتكال عليه في جميع الحالات، خامسًا: الإخلاص في العمل، سادسًا: القناعة بما قسم الله لك، سابعًا: الصدق، والوفاء بالوعد والعهد، ثامنًا: الإلحاحُ في الدعاء في أوقات الإجابة، وتقدم ذكرها.
شعرًا:
ولَيْسَ بمَنْسُوبٍ إلى العِلْمِ وَالحِجَا
فَواحِدَةُ تَقْوى الإلهِ الَّتي بها
وثانِيةٌ صِدْقُ الحَيَاءِ فَإنَه
وثالثُهَا حِلْمٌ إذَ الجَهْلُ اُطْلِعَتْ
ورابعةٌ جُودٌ بمُلْكِ يَمِيْنِهِ ... فَتًى لا تُرىَ فيه خَلَائِقُ أربَعُ
يُنَالُ جَسِيْمُ الخَيْر والفَضْلُ أجْمَعُ
طباعٌ عَليه ذُوْ المُروُءة يُطْبَعُ
إلَيْهِ خَبَايًا مِن فُجُورٍ تَسَرُّعُ
إذَ نَابَه الحَقُ الذي لَيْسَ يُدْفَعُ
فصل
نُبْذَةٌ مما جرى لأولياء الله من المِحَن والقَتِل والضرب مِن الظلمة والطُغاة والمُجرمين جازاهُم الله بما يستحقون.
لما قتل الحجاج بنُ يوسف عبدالله بن الزبير، أمر بخشبةٍ فصلبه عليها، فلما أقبلت أمُّهُ أسماءُ بنتُ أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ إلى الخشبة فعانقتها وجلست تبكي، وتقول: واغوثاه، يا لله ما أعظم ما نزل بنا بعدك يا محمد يا رسول الله، لو تُدرك ما نزل بعدك بأصهاركَ وأرْحَامك وأبناء المهاجرين لرأيتَ أمرًا عظيمًا.(1/313)
اللهم فبلغ عنا نبيك - صلى الله عليه وسلم - في عظيم ما نزل بنا، فأخبر بمقالتها عبدالله بن عُمر، فبكى حتى كادتْ نفسُه تفيض، ثم قال لابنه: قُدني إليها وقد كَبُرَ وكان يرتِعش من الكبرِ، وكانت قد عُمِّر فقاده ابنهُ إليها، فلما أشرف على الخشبة نظر إليه مصلوبًا، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليَقْتُلُني أمِيْرٌ جَائِر على طَاعَة أحَبُّ إليَّ من أَمُوْتَ مُجاهدًا في سبيل الله»، فأتى شقيٌ من الأشقياء، فبلَّغ ذلك إلى الحجاج، فبلغ منه قولُ ابن عمر كلَّ مبلغ، فركب إلى خشبة بن الزُبير فأصاب أمهُ عندها تبكي وابن عُمر وابنه سالمًا، فقال: ليْس مِثلُه يُبكى عليه، فقال ابنُ عمر: قومي، فقامت ولم تكلِمْهُ وانصْرَف ابنُ عُمر إلى منزله.
فدعا الحجاج رجاله، فقال: إن ابن عُمر بن خليفة وصاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخاف إن خرجنا أن يستحل مِنَّا ما استحَل ابنُ الزير وعُلماءُ العراق، قالوا: فما ترى؟ قال: هذا أعظم مما كان منَّا إنما عمدنا إلى جبل الإسلام وحاجب محمد ومن عُرضت عليه الخلافة فلم يقبلها، ومن حج أربعين حجة، ومن سمتهُ قريش حمامة البيت يُريد ابن عمر، وقَدْرُوُه في العرب كما علمتُم وحُبُّ الأوس والخزرج لأبيه عُمر بن الخطاب، نعوذُ بالله من الظَّلمة وأعْوانَهم.
فبعث الحجاجُ غلامهُ أن يركب فرسًا جامحًا وأمرهُ أن يطحنهُ بالفرس ويقتله.
فركب الغُلام الفرس فنظر إلى ابن عمر وهو سائرٌ يومَ الجمعة فحمل عليه وصدمهُ ورضَّهُ، فبادر الناس إليه، وقالوا: يا غُلام، أهلكت المُسلمين في علمهم، فطلبك الله وأقام الحجاجُ ينتظر موتَه.(1/314)
فلما أبطأ عليه عمد إلى الحديدة التي في الرمح فسمَّهَا سُمًا ناقعًا وجعلها في عصا، وقال لأحد رجاله: ضعُه على ظهر قدمِهِ واتكئ عيه حتَّى يدخُل، فإنت قال: أهلكْتَني، فقل: ما عَلِمْتُ أن رجْلَكَ هاهُنَا، ففعل ذلك ثم خرج عنه فاشتعل جسدُ ابن عُمَر سُمًا فأقام ثلاثة أيام فمات، رحمةُ الله عليه.
ودخل الحجاج على ابن عمر يعُوده قبل موته، فقال ابنُ عُمر: أنت قتَلْتني، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن الذين آذُوا في سبيل الله وقتلوا سعيد بن جبير وقصته أشهر من تذكر فلا نطيل بذكرها، وكان قد دعا من قبل أن يذبحهُ الحجاج، فقال: اللهم لا تُسلِّطْه على أحدٍ يقتُلهُ بعدي.
وقيل: إنه عاش بعد قتله لسعيد ستة عشر يومًا فقط وقعتِ الآكلة في بِطنِه، وكان ينادي في بقية حياته مالي ولسعيد بن جبير كُلَّما أردْتُ النوم أخذ برجْلي.
وقيل: دعا عليه بالزَّمهرير البردِ العظيم، فكانُوا يجعلون حوله الكوانِبن تلتَهبُ جمرًا مع ما عليه من الثياب التي يُدَثِّروْنَه بها.
فما زالَ في العذاب الأليم، ثم أرسل في طلب الحسن البصري التابعي المشهور، فأتاه واشتكى إليه ما نزل به من الألم، فقال: قد نهيتُك مرةً بعد أخرى لا تتعرَّضْ للصَّالحين، ولا تكن منهم إلا بسبيل خير، فأبيت ولججت { لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً } .
وذكر في كتاب «المحن»: أن الحجاج أرسل إلى أبي صالح ماهان المُسبِّحُ، فلما أتاه، قال: بلغني عنك صلاحٌ وخيرٌ وإني أريدُ أن أولِّيُكَ القضاء.
قال لَهُ: أنا، قال: نَعَمْ، قال: أنا لا أحُسِن أعُدُ عشرة، قال: يا مُرائي علي تَتَبَالَهْ، وقال: والفُراتُ قدْ مَدَّ فَعَدا من بين يديه وهو شيخ كبير يجنح حتى وقفَ على جُرْف الفُرات، فقال: اللهم إن كنتُ مُرائي كما زعم الحجاج فغرقني، قال: فرمى بنفسه، فقام على متن الماء فلم تغِبْ قدماهُ، قال: فوالله ما نَهْنَهَهُ ذلك فأخذهُ وصلبَه على بابه.(1/315)
وممَّن ضرب مالك بن أنس - رضي الله عنه - وذلك أن الحُسَّادَ دَسُّوْا إلى أبي جعفر بن سليمان، من قال له: إن مالكًا يُفتي الناس أن أيمان البيعة لا تلزمهم لمخالفتك واستكارهك إيَّاهُم عليها.
فَدسَّ عليه جعفرُ من يسأله عن ذلك فأفتاهُ مالك طُمأنينةً إليه وحسبة منه، فجاءهُ رسُولُ جعفر بن سليمان، وأتى به مُنْتهك الحُرْمَةِ مُهانًا فأمر به جعفر فضربه سبعين سوطًا.
ومن ما جرى على عبدالله بن عون البصري الذي قيل ما كان بالعراق أعلم بالسُّنة منه.
وكان ورعًا تزوج امرأة عربية فضربه بلال بنُ أبي بردة عشرة أسواط، وقال له: انزل عنها، قال: لا أفعل، فقال له بلال: والله لا أبرح أضربك حتى تطلقها.
فقال ابن عون: والله لا أبرح أصبر ولا أطلقها حتى أعْجز، قال: وكان رجلاً نحيفًا لا يحتمَل الضرَّب بالسوط، قال: فضربه أيضًا عشرة أسواط، وقال بلال: هو ما ترى.
قال: فأمر به فضرب عشر أسواط، وقال: يا ابن عون، هو ما ترى حتى تطُلقِها، قال: هي طالق، قال: بتتها.
وممن أمتحن عطاء بن أبي رباح وذلك أن رجلاً أتى من الحجاج إلى مسجد بمكة.
فنام فكشفت الريح الثوب عن بطنه، فظهر جراب الفلوس فمر به أصحابه فخافوا عليه فنزعوا الجراب.
وبعد قليل انتبه الرجل فنظر، فإذا جرابه مأخوذ فنظر يمينًا وشمالاً فلم يرى حولُه إلا عطاء بن أبي رباح قائمًا يُصلي.
فجاءهُ فأخذ بتلابيبه وضيَّق عليه، وقال له: يا عدوَّ الله، فعلت الذي فعلتَ بي! فلمَّا رهقتُك قُمت تُصلي.
فقال له: ما بالُك يا هذا؟ قال: منطقتي حللتها (أي الجراب) قال له: وكم فيها؟ قال: مائتا دينار، قال: فهل سمع بهذا غيرُك؟ قال: لا.
قال: فاذهب معي حتى أعطيك ما ذهب لك، قال: فذهب فَعَدَّ لهُ مائتي دينار، فذهب إلى أصحابه فأخبرهم الخبر.
فقالوا له: ظلمتَ والله الرجل كان من قصتنا كيت وكيتَ، ثم حللنا عنك خوفًا عليها وها هي هذه.(1/316)
فقامُوا بأجمعهم إلى الرجُل فوقفُوا عليه، فسألوا عنه، فقيلَ لهُم: هو عطاء بن أبي رباح فقيهُ أهل مكة وسيدِّهم.
فاعتذروا إليه وسألوهُ أن يجعل الرجل في حَلِّ ويقْبَلَ الدَّنَانِير.
فقال لهم: هَيْهاتَ ما كانت بالتي ترجَع إليَّ اذْهَبْ فأنْتَ في حِل وهَي لك.
شَمَّر عَسَى أنْ يَنْفَعَ التَّشْمِيرُ
طوَّلْتَ آمالاً تكَنَّفَهَا الهَوَى
قد أفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عن غدَرَاتِها و
دَارٌ لَهَوْت بِزَهْوهَا مُتَمَتِّعًا
واعْلَمْ بأنكَ رَاحِلٌ عَنْهَا ولَوْ
لَيْسَ الغِنَي في العَيْشِ إلا بُلْغَةَ
لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجِلٌ عن آجلٍ
ولَقَدْ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثرَّى ... وانْظُرْ بِفِكْركَ ما إليْهِ تَصِيْرُ
ونِسيتَ أنَّ العُمْرَ منكَ قصِيْرُ
أتَى مَشِيْبُك والمَشِيُبُ نَذِيْرُ
تَرْجُوْ المقامَ بهَا وأنْتَ تسيْرُ
عُمِّرْت فيها مَا أقامَ ثَبِيْرُ
ويَسِيْر ما يَكْفِيْكَ منه كَثيْرُ
أبَدًا فَمُلْتَمِسُ الحَقِيْرِ حَقِيْرُ
في الأَرْضِ مأمُوْرٌ بهَا وأمِيْرُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
بعث أبو جعفر في طلب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق، فقيل له: إن أمير المؤمنين متغيظ عليك فدخل وهو يُحرِّكُ شفتيه، فلما رآه أبو جعفر نهض إليه واعتنقهُ وأجلسَه معه ثم عانقه، وقال له: يا أبا عبدالله، ما هذا الذي يبلغُني عنك لقد هممتُ؟ فقال له: إن أيوب ابْتُلي فصبر، وإن سليمان أعطى فشكر، وأنت من ذلك النَسْج.
قال: فيُرفعُ إليَّ أن الأموال تُجْبَى إليك بلا سَوُطٍ ولا عَصَا، ثم أمر بالرافع فأحْضِرَ.
فقال أبو عبدالله: أحقًا رفعتَ إلى أمير المؤمنين، قال: نَعَمْ، قال: فاستحلفهُ يا أمير المؤمنين، قال أبو عبدالله: رد اليمين عليه.(1/317)
فقال أبو جعفر: احلف، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، فقال له أبو عبدالله: ليس هو كذا، إنَّ العبد إذا مجَّد الله في يمينه أمهلهُ في العُقُوبة؛ ولكن قُلْ: أنا بريءٌ من الله، واللهُ بريءٌ مني، وأنا خارجٌ من حول الله وقوته راجعٌ إلى حول نفسي وقوتها.
قال: فحلف فوالله ما رُفع إلا ميتًا، فراع ذلك أبا جعفر، وقال: انصرف يا أبا عبدالله، فلستُ أسألُك بعدها.
وسُئل عمَّا حرَّك به شفتيه حينما دخل عليه، فقال: قلتُ: اللهم بك استفتح وبك استنتج اللهم ذِلل حزونته وكل حزونة وسهِّل لي صعُوبته وكلَّ صُعُوبة.
اللهم أعطني منه من الخير ما أرجو واصرف عني منه من الشر ما أحذر، فإنك تمحُو ما تشاءُ وتثبتُ وعندك أمُّ الكتاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان صفوان بن سيم قد كفَّ بصرهُ في آخر عمره فبينما هو ذات يوم بالسوقِ يُقاد إذ دخل بلال بن أبي بُردة فسمع الطريق والجلاوزة بين يديه.
فقال: ما هذا؟ فقيل: بلال، فقال: سحائب صيف عن قريب تقشع فسمعه بلال.
فقال: والله لأذيقنَّكَ مِن برْدكَ شُؤْبُوْنَا، فلما نزل بهيكله بعث في طلبه ثم ضربهُ بالسِّياط نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.
عن مالك بن أنس أنه قال: لو قْيلَ لصفوان بن سليم غدًا يومُ القيامة ما قدر على أن يزيد على ما هو فيه من العبادة شيئًا.
ومن ذلك ما امتحن به أبو مسلم الخولاني لما ألقي في النار وذلك أن الأسود العنسي تنبأ اليمن فدعا أبا مُسلم الخولاني، فقال: اشهد أني رسول الله، قال: لا أسمع، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: نعم، فأمر الأسودُ بنار فقذَفَ فيها أبا مسلم فخرجَ يرشَحِ عَرقًا، فقيل للأسود: إنفه عنك لا يُفْسدُ عليك الناس فأخرجُوهُ ثم قدم المدينة، وبها أبو بكر وعُمر ـ رضي الله عنهما ـ.(1/318)
فقال له عمر: من أين أقبل الرجُل؟ قال: من اليمن، قال: ما فعل الرجلُ الذي أحرقهُ الكذاب؟ قال: ذلك عبدُ الله بنُ ثوب، قال له عُمر: أنشدُك بالله أنت هُر؟ قال: نعم، قال: فأدخله وأجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمدُ لله الذي أراني في هذه الأمة مَن فُعِلَ به مثلَ مَا فُعلَ بإبراهيم خليل الرحمن.
وممَّنْ قُتِلَ صبرًا كُميل بن زياد النخعي الكُوفي كان شجاعًا زاهدًا قتلهَ الحجاجُ بنُ يُوسف، وذلك أن الحجاج نقم عليه؛ لأنه طلب من عثمان بن عفان القِصَاص من لطمةٍ لطمها إيَّاه، فلما مكَّنَهُ عثمان من نفسه عفا عنه.
فقال له الحجاج: أو مثلكَ يسألْ مِن أمير المؤمنين القصاص! ثم أمر به فضربت عنقهُ، نسأل الله العافية.
وذكر أن رياح بن يزيد على أتانه في سفر إذ غشيتهُ السَّلَابةُ (أي قطاع الطريق) وهو يسِيْرُ فأخذوا أتانَهُ ونزعُوا ثيابه إلّا واحدًا ثم ذهبوا عنه.
فمال رياح إلى موضع فأحرمَ بتكبيرةٍ ثم أقبل يُصلي فبينما هُو يُصلي إذا أظلمت السماء فلم تدْري السَّلابةُ أيْنَ يتوجَّهُون.
فلمَّا طَوَّل في الصلاة، قالوا: أحسنْ صلاتَكَ يا عبدَالله أما تَرى ما نَزَل بنا ولا نَحْسِبُ ذلك إلَّا من أجْلِكَ.
فَسلَّم ثم التفت إليهم، فقال: ما تريُدُوْنَ أخذْتُوا ثيابي وحماري فَرَدُّوا عليه ثيابه ودابتهُ فانجلتْ عَنهم الظُلمة.
فرغبُوا عند ذلك إليه وسألوهُ من هُو وأقسمُوا عليه، فقال لهم: رياح بن يزيد.
طَالِعْ تَواريْخ مَن في الدهرِ قد وُجدُوا
تجدْ أَكَابرَهُمْ قَدْ جُرِّعُوا غُصَصًا
عَزْلٌ ونَهْبٌ وضَرْبٌ السِّياط يَلِيْ
وإنْ وُقِيْتَ بحَمْد اللهِ شِرَّتَهُمْ ... تَجِدْ خُطُوْبًا تُسَلِّيْ عَنْكَ مَا تَجدُ
مِنَ الرَّزَايا بِهَا قَدْ فُتِّتَتْ كُبُدُ
حَبْسٌ وَقَتْلٌ وتَشْرِيْدُ لِمَنْ زَهِدُوْا
فَلْتَحْمدِ اللهَ في العُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوْا
آخر:
إنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الكَرِيْمَ لأنْ(1/319)
كَمُبْرِد القَيْنِ إذْ يَعْلُوْ الحَدِيْدَ بِهِ ... تُبيْنُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وتُوْضِحُهُ
وليْسَ يأكُلهُ إلَّا لِيُصْلِحَهُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل
قال ابن القيم: ومن تجريبات السَّالكين التي جرَّبُوْهَا فألفَوْهَا صحيةً أن من أدمنَ (أي أكثر) من قول: «يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت» أورثهُ ذلك حياة القلب والعقْل.
وكان شيخ الإسلام شديدَ اللَّهْج بها جدًا، وقال لي يومًا لهذين الاسمين وهما «الحي القيوم» تأثير عظيم في حياةِ القلْب.
وكأنَّه يُشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سُنَّةِ الفجر وصلاة الفجر «يا حَيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث» حَصَلتَ لهُ حياةُ القلبِ ولم يمتْ قلبُه.
قال العلماء: اعلم أنه لا يقفُ على الدواء من لا يقفُ على الداء إذْ لا معنى للدواء إلا مناقضةُ أسباب الداء ولا يبطل الشيء إلا بضده.
وسببُ الإصرار الغفلة والشهوة ولا تضادُ الغفلة إلا بالعلم، ولا تُضادُّ الشَّهْوةُ إلا بالصبر على قَطْعِ الأسْبَابِ المُحَرِّكَةِ للشَّهوة.
والغفلة رأس الخطايا فلا دواء إذًا للتوبة إلا بمعجُونِ يُعجن من حلاوة العلْم ومرارة الصَّبْر.
والأطباءُ لهذا المرض هم العُلماء؛ لأنه مرضُ القُلوب ومرض القلوب أكثر وأعظم من مَرَض الأبدان.
وذلك لأمور: أحدها: أن مرض القلب بالذُنُوب لا يدرى صاحبه أنه مريض.
الثاني: أن عاقبته غير مشاهدة في الدنيا بخلاف مرض الأبدان فإن عاقبته موت مشاهد ينفر الطَّبْعُ عنه.
وما بعد الموت غير مشاهد، فقلَّتِ النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها.
فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب.
ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال.(1/320)
والأمر الثالث: وهو الداء العضال، فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضٌ مخُوفْ؛ لأن الداء المهلك هو حب الدنيا ومع الأسفِ الشديد أنَّهُ قد غلَبَ هذا الداءُ على الأطباء أي العلماء، فلم يقدروا على تحذير الخلق خوفًا من أن يقال لهم: فما لكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم أما تقرؤون قول الله جل وعلا وتقدس: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فبهذا السبب عمَّ الداءُ وانقطع الدَّواءُ.
القائل في القرن الخامس فكيف لو رأى أكثر علماء هذا العصر، وما هم فيه من التكالب على الدنيا وإهمالهم القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والنصيحة لله ولكتابه ورسوله والأئمة والمؤمنين.
قال العلماء: من نتائج المعصية قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر وإضاعة الوقت، ونفرت الخلق، والوحشة مع الرب وقلَّة السَّداد وتشتيتُ الفكر، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، ولِبَاس الذل، وضيق الصدر.
كيف يسلم من له زوجةُ لا ترحمه، وولد لا يَعْذُرُه، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريكٌ لا يُنصفُه، وعدوٌ لا ينام عن مُعاداتِهِ، ونفسٌ أمَّارةٌ السُوء، ودُنيا مُتزيِّنة، وهوىً مُرْدِي، وشهوةٌ غالبةٌ لَهُ، وغضبٌ قاهرٌ، وشيطان مُزَيِّن، وضعْفٌ مستولٍ عليه، فإن تولاه اللهُ وجَذَبَه إليه انقهرتَ له هذه كُلُها وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعتْ عليه فكانت الهلكة.
الرأيُ أخْذُكَ بالحَزَامةِ في الذي
غَلَبَ الفَسَادُ على العُقولِ فَكُذِّبَتْ
ضَرَبُوا الجَمَاجِمَ بالسُيُوفِ على الذي(1/321)
وتَغُرُّنَا آمالُنَا فَنَخَالُهَا ... تَبْغي فَقَصْرُكَ مِيْتَةٌ وذَهَابُ
صُدْقُ الأنامِ وصُدِّقَ الكَذَابُ
يَفْنَى وطَال عَن الهَوَى الإضْرَابُ
مَاءً يَمُوْجُ وكُلُهُنَّ سَرَابُ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
موعظة لابن الجوزي
اسع يا غائب في صلاته، يا شتيت الهم في جهاته، يا مشغولاً بآفاته عن ذكر وفاته، يا قليل الزاد مع قُربِ مماته.
يا من يَرحَلُ عن الدُنيا في كُلِّ لحظةٍ مرحلة، وكتابهُ قد حوى حتَّى مقدارَ الخرْدَلَةْ، وما ينتفعُ بالنَّذِيْر والنُذُرُ مُتَّصِلةْ.
وما يرعوي لنَصِيْح وكم وقد عذله، ودرعه متخرقةٌ والسهامُ مُرسلة، ونور الهُدى قد يُروى وما رآه ولا تأمله، وهو يأمل البقاء وقد رآى مصيرَ من أمَّلَهْ.
وأجله قددني ولكن أملهُ قد شغله، وقد عكف على العيب بعد الشيب بصبابةٍ وولهْ، ويحضرُ بدنه في الصلاة، وأمَّا القلبُ فقد أهملْه.
كُنْ كيف شئت فبين يديك الحساب والزَّلْزَلَةْ، ونعِّمْ جِسْمَكَ فلابُدَّ للدُّوُدِ أنْ يأكُلَهْ.
يا عجبًا من فُتُور مُؤمنٍ بالجزاء والمسألة، أيقينٌ بالنَّجاة أم غُرورٌ ويله! بادر ما بقي من عمرك واستدركْ أوَّلَهْ، فبقية عُمر المؤمن لا قيمة له.
ومُسْنَدُونَ تَعاقَروا كأسَ الرَّدى
بَرَكَ الزَّمانُ عَلَيْهمُوْا بجِرَانِهِ
خُرُسٌ إذَا نَادَيْتَ إلَّا أنَّهُمْ
والدَّهْرُ يَفْتِكُ بالنُفُوسِ حِمَامُهُ
عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِيْ ذَخَائِرَ مَالِهِ
ولِغَافِلٍ ويَرَى بكُلِّ ثَنِيَّةٍ
أتراه يحْسُب أنَّهُم مَا أسْأَرُوْا ... ودَعَا بِشُرْبهمُ الحِمَامُ فأسُرَعُوْا
وهَفَتْ بِهم رِيِحُ الخُطُوب الزَّعْزَعُ
وعَظُوْا بِمَا يَزِعُ اللِبيْبَ فَأسْمَعُوا
فَلِمَنْ تَعَدُّ كَريْمَةٌ أَوْ تُجْمَعُ
ويَظَلُّ يَحْفْظُهُنَّ وهْوَ مُضَيَّعُ
مُلْقًى لَهُ بَطْنُ الصَّحَائِفِ مضْجَعُ
من كَأسِهِ أضْعَافَ مَا يَتَجرَّعُ(1/322)
عبادَ اللهِ كَمْ أخْلى الموتُ دارًا، وتركَ المعمُور قِفَارَا، كم أوقد من الأسف في الجوانح نارًا، وكمْ أذاقَ الغُصَصَ المُرَّة مرارًا.
لقد جال يمينًا ويسارًا فما حابى فقرًا ولا يسارًا، أين الجيشُ العرمرم؟ أين الكبيرُ المعظم؟ ألحق الأخير بمن تقدم!
قال محمد بن كعب القرظي: إنما الدنيا سوق خرج الناسُ منها بما يضُرهُم وبما ينفعُهم.
وكم اغتر ناسٌ فخرجوا ملومين واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم.
فيحقُ لنا أن ننظُرَ إلى ما نغبطهم به من الأعمال فنعملُها، وإلى ما نتخوَّفُ فنتجنبُها.
ذَهَبَ الشَّبَابُ بَجْهلِهِ وبعارِهِ
شَتَّانَ بَيْنَ مُبِعِّدٍ مِن رَبِّهِ
ما زِلْت أمُرَحُ بالشبابِ جَهَالَةً
وسَحَبْت أثواب البَطالَةِ لاهِيًا
حتى تَقَلْصَ ظِلُه فتكشَفَتْ
لم أُحْظَ منه بِطَائِلٍ غَيُر الأسَى
والآن قدْ خَطَّ المشيبُ بِمَفْرِقي
والنَّفْسُ تَركبُ غَيَّهَا لا تَرعَوي
لَهَفِي على عُمْرٍ يَمُرُّ مُضَيَّعًا ... وأتَي المَشِيْبُ بحِلْمِهِ وَوَقَارِهِ
بِغُرورهِ ومُبَشِّرٍ بجوارِهِ
كَالَطِّرْفِ يَمْرَحُ مُعْجَبًا بِعِذَارِهِ
وجَررت مِن بَطَرٍ فُضولَ أزارِهِ
عَوْرَاتُه وبَدَا قبيحُ عَوَارِهِ
وتَنَدمٌ مِنِّي عَلَى أَوْزَارِهِ
بَمَواعِظٍ والحقُ في تَذْكَارِهِ
عن ولا تُصْغِ إلى إنْذَارِ
مُحْصًى على بلَيْلِهِ ونَهَارِهِ
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ميدانكُم نفوسكُم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز، فجربُوا معها الكفاح أولاً.
كان سفيان الثوري ما ينام إلا أوَّل الليل، ثم ينتفضُ فزعًا مرعوبًا ينادي النار النار شغلني ذكُر النار عن النَّوم والشهوات.
ثم يتوضأ ويقولُ على أثر وضُوئه: اللهم إنك عالمٌ بحاجتي غير مُعلَّم وما أطلبُ إلا فكاك رقبتي من النار.(1/323)
قال عمر بن عبدالعزيز: أيها الناس، إنما يُراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشدَّ من الجهل، ولا داء أخبثُ من الذنوب، ولا خوف أخوفُ من الموت.
يُروى عن الأصمعي، قال: قرأت { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } (والله غفورٌ رحيم).
وبجنبي أعرابي، فقال: كلامُ من هذا؟ فقلت: كلام الله.
قال: أعدْ فأعدتُ، فقال: ليس هذا كلامُ الله، فانتبهت، فقرأتُ: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
فقال: أصبتَ هذا كلامَ الله، فقلتُ: أتقرأُ القرآن؟ قال: لا، فُقُلتُ: من أين علمت؟
فقال: يا هذا، عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحمَ لما قطع.
كان أحد العلماء له وظيفة يأخذ عليها راتبٌ جيدٌ فاتفق أنه كان يأكل يومًا مع أصحابه طعامًا فجاء قط فرموا له شيئًا فأخذه وذهب سريعًا.
ثم رجع فرموا لهُ أيضًا شيئًا، فانطلق به سريعًا ثم جاء أيضًا فرموا له شيئًا فعلموا أنه لا يأكلُ هذا كله فتبعوهُ فإذا هو يذهبُ به إلى قطٍ آخرَ أعمى في سطحٍ هُناك فتعجبُوا من ذلكَ.
فقال الشيخ: يا سُبْحانَ الله هذا حيوان بهيم قد ساق اللهُ إليه رزقهُ على يد غيره، أفلا يَرْزُقُني وأنا عَبْدُهُ واعْبُدُه.
ثم ترك ما كان لهُ ن الرَّاتب وجمع حواشيه، وأقبل على العبادة والمُلازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات.
تَنَامُ وَقَدْ أُعِدَّ لكَ السُهَادُ
وتُصِبْحُ مِثْل ما تٌمْسِيْ مُضِيْعًا
أَتَطْمَعُ أنْ تَفُوْزَ غَدًا هَنِيًا
إذا فَرَّطْتَ في تَقَدِيمِ زَرْعٍ ... وتُوقِنُ بالرَّحِيْل وَلَيْسَ زَادُ
كَأنَّكَ لَسْتَ تدْرِيْ مَا المُرَادُ
ولَمْ يَكُ مَنْكَ في الدُنْيَا اجْتِهضادُ
فَكَيْفَ يَكونُ مِن عَدَمٍ حَصَادُ(1/324)
قال بعض العلماء: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهلُ حُسْن الظَّنِّ بالله ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرر بُخْلهم ومَذَمَّةِ الناس لَهُم وإطْبَاق القلوب على كراهَتِهم إلَّا سُوءُ ظَنِّهِمْ برَبِّهِم في الخَلَفِ لَكَانِ عَظِيْمًا. والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل في ذكر بعض مسائل فيها ترويح للنَّفْس وإجمام لها وتسلية
قال رجل من اليهود –لعَنَهُم الله- لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب: ما دفنتُم نبيكم حتى قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير.
فقال عليُ - رضي الله عنه -: أنتم ما جفَّتْ أقدامُكم من البحر حتى قلتم { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } .
أخذ زيادُ رجُلاً فأفْلت منه فأخذ أخاهُ، فقال: إن جئتَ بأخيكَ وألا ضرَبْتُ عُنقَكَ.
قال: أرأيت إن جئتُ بكتاب من أمير المؤمنين تُخَلي سبيلي، قال: نَعَم.
قال: فأنا آتيك بكتابٍ من العزيز الرحيم وأقيمُ عليه شاهدين إبراهيم وموسى –عليهما السلام- { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } قال زياد: خَلُّوا سبيلهُ هذا لُقِّيَ حُجَّتَه.
قيل لأسم بن زُرعة: إن انهزمتَ من أصحاب مِرْدَاس يغضب عليك الأمير عبيدالله بن زياد، فقال: لأن يغضب عليَّ وأنا حيٌّ أحبُّ إليَّ من أن يرضى عني وأنا ميِّت.
وقع النزاع بين أهل السُّنة والرافضة في المفاضلة بين أبي كر وعلي –رضي الله عنهما، فحكموا بينهم ابن الجوزي وأمروا شخصًا أن يسأله عن ذلك، فقال: مَن كانت ابنته تحته؟ فقال: أهل السُّنة هو أبو بكر؛ لأن بنته عائشة كانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقالت الرافضة: هو علي؛ لأن فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تحته.
أجوبة مُسكّتة.
قال عمرو بن العاص لعدي بن حاتم: متى فُقِئَتْ عينُك: قال: يوم طُعنتَ وأنت مُول في صفِّين.(1/325)
شهد أعرابي بشهادةِ عِنْدَ مُعاوية على شيء، فقال له مُعَاويةُ: كَذَبْتَ.
فقال الكاذبُ: والله مْزَمَّلٌ في ثِيابكَ.
فتبسَّم مُعاويةٌ، وقال: هذا جزاءُ مَنْ عَجِل.
دخل عديُ بنُ حاتم على مُعاويةُ وعنده عبدُالله بنُ عَمْرو، فقال عبدالله: يا عدي، متى ذهبتْ عينُكَ؟
قال: يوم مثل أبُوْكَ هاربًا وضُرِبَ على قفاه مُوَليًا وأنا يومئذٍ على الحق وأنتَ وأبوك على الباطلِ.
قال الحسنُ لابن سيرين: تُعَبِّرُ الرؤيا كأنكَ مِن آلِ يَعُقوب، فقال ابن سيرين: وأنت تُفسِر القرآن كأنك شهَدْت التنزيل.
قال أبو الزناد لابن شبرمة في مُناظرتِهِ لَهُ مِن عندنا خرَجَ العِلْمُ.
فقال ابنُ بشُبْرُمَةَ ثم لم يَعُدْ إليكم.
قال مُعاوية لعقيل بن أبي طالب أين ترى عمَّك أبا لهَب.
قال: في النارِ هو وعمتُكَ حمالةَ الحطَب.
قال الرَّشِيْدُ لشريْك القاضِي: آيةٌ في كتاب الله ليسَ لكَ ولا لِقَوْمِكَ فيها شيء.
قال: وما هي؟ قال قولهُ تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } .
فقال: آيةٌ أُخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء، قال: وما هي؟ قال: قول الله جل وعلا: { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ } .
قال معاوية بكلام عرض فيه بعبدالله بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يكن حقنا منك أن تُمْسكَ يدَكَ مغلولة إلى عنقك وتُعْملْ لِسَانَكِ في قومِك.
اشتكى عبدالله بن صفوان ضرسهُ، فأتا رجُل يعُودُه، وقال: ما بِك؟ قال: وجع ضِرْس.
فقال: أما علمتَ ما يقوُل إبليسُ؟ قال: قال: يقولُ دواؤهَ الكسر.
قال: إنما يطيعُ إبليس أولياؤُهُ.
وقال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أما كان جمعُ الشملِ خيرًا لهُم.(1/326)
فقال اليماني: قومُكَ أحمقُ منهم حِيْنَ قالوا: { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
قال الربيعُ الحاجبُ لِشريْكَ القاضِي بحَضْرَةِ المهْدِي بلغني أنك خُنْتَ أميرَ المؤمنين.
فقال شريكٌ: لا تقلْ ذلك لو خُنتُه لأتاك نَصِيْبُكَ.
مرض الشعبي فعادهُ رجلٌ ثقيل الدَّم، فأطال الجُلوسَ جدًّا.
فقال للشعبي: ما أشدَّ ما مَرَّ عليك في مرضك؟
قال: قُعُوْدُكَ عنْدِي.
ودخَل لِصٌ بيتًا لأحد الظُرفاء الأذكياء، فقال للصِّ: إن الذي تطلبُه بالليل ما وجدناهُ بالنهارِ.
سُئل إنسان عن نسبه، فقال: أنا ابنُ أُخت فلان، فسمعهُ رجلٌ، فقال: الناس ينتسبُون طولاً وهذا ينتسب عرضًا.
قال بعضهم يوصي إخوانه: عاشروا الناس مُعاشرة الكرام إن غِبْتُم حَنُوا إليكم وذكرُوْكم بخير وإن مرضتم عادوكم ودعوى لكم بالشفاء وإن متم ترحموا عليكم، ولا تعاشروهم مُعاشرة اللّئام إن غبتم، قالوا: الحمد لله الذي أزَال عنا نقمة، وإن مِتُم، قالوا: تخفيف ورحمة، وإن مرضتم فرحوا، وقالوا: نسأل الله أن يريحنا، واعلموا أن الناس ما منهم سلامة إن انقبضتُم أو انبسَطْتُم فكونوا منهم على حذر.
الناسُ داءُ دفين لا دواءَ له
إن كُنْتَ مُنْبسطًا مَسْخرةً
وإنْ تُخَالِطَهُم قالُوا به طَمَعٌ
وإن تَهَوَّرْ لَاقَوْكَ بمَنْقَصَةٍ ... العقلُ قد حَارَ منهم فهو مُنْذَهل
أوْ كُنْتَ مُنْقَبِضًا قالوا به ثِقَلُ
وإنْ تُجَانبهَم قالُوا بِهِ مَلَلُ
وإنْ تَزَهَّدَ قالوا زُهْدُه حِيَلُ
وفد أعرابي على أحد الوُلاة وأنشدهُ قصيدةً يثني عيه فيها وكان في فمه ميلان فلم يأمر له بشيء وكان ملتمسًا للمُكافأةِ.
فقال له الوالي: ما بالُ فَمِكَ مُعْوَجًا؟ فقال: لعلهُ عِقَابٌ من الله تعالى.(1/327)
فقال الوالي: على أي شيء عاقبك، فقال: لكثرة ما كذبت بالمدح والثناء بالباطل على الناس، يعني وأنتَ منهم.
وجد يهوديٌ مُسلمًا يأكل في نهار رمضان وهو غير مسافر فطلب منه أن يُطعمهُ.
فقال المُسلم: يا هذا، إنَّ ذبيحتنا لا تحِلُ على اليهود.
فقال اليهودي: أنا في اليهود مثلك في المسلمين.
سأل رجل حكيمًا عن أخ له: كيف حاله؟ فقال: مَاتَ، فقال: ما سببُ موته، قال: حياتُه.
يُرْوَى أن رجلاً عنده زوجةٌ مات عنها أربعةُ أزواج، فمرض الخامسُ فجلست عند رأسه تبكي، وقالت: إلى من تُوصِي بي، فقال: إلى السَّادس.
ودخل الخليلُ بن أحمد على مَريْض نحْوي وعندهُ أخٌ له ما يُحسنُ النَّحوَ، فقال أخو المريض لِلْمَريض افْتْحَ عيناك وحرِّك شفتاك إنَّ أبو محمد عندك جالسًا.
فقال الخليل: إن أكثر مرض أخيكَ من كلامِكَ؛ لأن كلامَهُ لَحْنٌ.
وجاء رجلٌ إلى الجاحظُ، وقال له: سمعتُ أن لك ألفَ جَوابٍ مُسْكتٌ فعلمني منها، فقال له الجاحظ: لك ما تريد.
فقال الثقيلُ: إذا قال لي رجُلٌ: يا ثقيلَ الدَّمَ ويا خفيفَ العقلِ فَبمَاذا أجيبُهُ؟ فقال لهُ الجاحظ: قُلْ لهُ صدقْتَ.
رُوي أن صهيبًا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين يديْه تَمْرٌ وخُبزٍ، فقال: أدْنُ فَكُلْ فأخذ يَأكلُ مِن التمرِ.
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ بعَيْنِكَ رَمَدًا؟» فقال: يا رسول الله، أنا آكُلُ مِن النَّاحِيةِ الأخرَى فتَبسَّمَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم -.
وسمعَ أعرابيٌ رجُلاً يروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: مَن نوى الحجِّ وعاقَه عائقَ كِتُبَ له الحَج، فقال الأعرابي: ما وَقَعَ أرْخَص مِن هَذا.
وعن أمِّ سلمة قالت: خَرجَ أبو بكر في تجارة إلى بُصْرى، قَبل مَوْتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعام ومَعَهُ نعيْمان وسُوَيْبط بن حرمَلة.(1/328)
وكانا قَدْ شِهَدَا بَدْرًا وكان نعَيْمان على الزاد وكان سُويبط رجُلاً مَزَّاحًا، فقال لَنُعَيْمانِ: أطْعِمْني، قال: حَتَّى يجيء أبو بكر.
قال: أما لأغيْظَنَّكَ، قال: فمروا بقوم، فقال لهم: سُويْبطُ تشترون مني عبدًا لي، قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام فهو قائل لكم إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا عليَّ عبدي.
قالوا: لا بل نشتريه منك فاشتروه بعشر قلائص ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نُعَيْمانُ: إن هذا يستهزئُ بكم وإني حر ولَسْتُ بعبد، فقالوا: قد أخرنا خبرك فانطلقوا به فجاء أبو بكر فأخبروه بذلك فاتبع القوم، فرد عليهم القلائص وأخذ نعيمان.
فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منه.
إنَّا عَلى قَلْعَةٍ مِن هَذِهِ الدارِ
نَبْكِيْ ونَنْدبُ آثارَ الذينَ مَضَوْا
طَالَتْ عِمَارتَنُا الدُنْيَا على غَرَرٍ
يا مَنْ يُحَثُ بَتْرِحَالٍ على عَجَلٍ
فاتْرُكْ مُفَاخَرَةَ الدُنيا وزيْنَتَهَا ... نُسَاقُ عنها بإمْسَاءٍ وإبْكَارِ
وسَوْفَ تَلْحَقُ آثارٌ بآثارِ
ونَحْنُ نَعْلَمُ أنَّا غَيْرُ عُمَّارِ
لَيْسَ المَحَلَّةُ غَيْرَ الفَوْزِ مِن نارِ
يَوْمُ القِيامَةِ يَومُ الفَخَرِ وَالعَارِ
والله أعلم، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
موعظة لله درُّ أقوام تركُوا الدنيا فأصابوا، وسمعوْا مُناديَ الله فأجابوا، وحضروا مشاهدَ التُّقَي فما غابُوا، واعتذرُوا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقَصَدُوْا باب مولاهُم فما رُدُّوا ولا خابُوا.
قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنُوا إلى فُرشِهِمْ ورجعُوا إلى ملاذِّهم، قَامُوْا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مُستبشرين بما قدْ وهَبَ اللهُ لَهُمْ مِن السَّهَر وطول التَّهَجُدِ.(1/329)
فاستقبلوا الليل بأبْدِانهِم، وباشروُا ظلمتهُ بصفاح وجوجهم، فانقضى عنهم الليلُ، وما انقضتْ لذَّتُهم مِن التلاوة، ولا ملَّتْ أبْدَانُهُم من طُول العِبَادَة، فأصبِحَ الفَرِيْقَانِ وَقَدْ ولَّى الليل بربح وغبن.
فاعملوا في هذا الليل وسواده، فإنَّ المغبُون من غُبن الدنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حُفْرَتِه.
قال بعض العارفين: ما أُحبُ أنَّ حسابي يوم القيامة يُجْعَلُ إلى أبويَّ؛ لأني أعلم وأتيقنُ أن الله جل وعلا أرحمُ بي منهم.
شعرًا:
أَفِقْ وابْكَ حَانَتْ كَبْرَةٌ ومَشِيْبُ
أيَا مَن له في باطِن الأرضِ مَنْزلٌ
وما الدهر إلّا مَرُّ يَومٍ وليْلَةٍ ... أمَّا للتُّقَي والحَقِّ فيكَ نَصِيْبِ
أتَأْنَسُ بالدُنْيَا وأنْتَ غَريْبُ
وما الموتُ إلا نازلٌ وقَرِيْبُ
فصل
عباد الله قد نقلنا في كتاب «إرشاد العباد» عن النار وأهوالها وغمومها وأنكالها وشراب أهلها وطعامهم وما إلى ذلك مما أعده الله جل وعلا لأهلها من أنواع العذاب الأليم الأبدي السرمدي ما فيه كفاية.
ويقابل دار الأشقياء دارُ أخرى دارُ قرارٍ ونعيمٍ وسُرُور وحُبُور وأمْنٍ وصحةٍ وحياةٍ أبديةٍ فيها ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُ الأعينُ ممَّا لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بَشرٍ.
دارٌ جعلها الكريم جل وعلا دارَ ضيافةٍ، يُكرم فيها عبادهُ الأخيَار الذين وفَّقَهم لخدمته والعمل بطاعته.
ولا تظن هذه الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي، بل كل ما تحبه وتتمناه أمامك إن كُنْتَ من أهل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضَّل الله عليك بالعفو والتجاوز (أي تصور مَمَرَّكَ على الصراط).
ونُورُكَ يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابُكَ بيمينكَ مُبْيَّضَ الوَجْهِ.
قال الله جل وعلا: { يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ } ، وقد أيقنت برضاه عنك وأنت على الصراط مع زمرة العابدين ووفود المتقين.(1/330)
والملائكةُ تُنادي: سلِّمْ سَلِّمْ، والوجَلُ مع ذلك لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تُنادي وينادون: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نُورُهُم، وهاج الوجلُ في قُلوبهم، فدَعَوا بتمام النُور والمغفرة.
فتوهّم أي تصورْ وتخيل نفسك، وأنت تمُرُ خفيفًا مع الوجل، وتصوَّرْ ممرَّك على قدر خفَّة أوزارك وثقلها وقد انتهيتَ إلى آخِره.
فغلبَ على قلبك النجاةُ، وقد عاينت نعيمَ الجنانِ وأنتَ على الصراط، فحَنَّ قلبُكَ على جوار الله عز وجل، واشتاق إلى رضا الله.
حتى إذا صِرْتَ إلى آخره خَطَواتٍ بأحَدِ رجليك إلى العرصةِ (أي عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الجنة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدمُ الأخُرى على الصراط، والخوفُ والرجاءُ قد اعْتَليَا في قلبك وغَلبا عليك.
ثم ثنيت بالأخرى، فجُزْتَ الصِراطَ كُله واستقرَّتْ قدماكَ على تلك العرصة، وزِلْتَ عن الجسَرْ ببدنكَ، وخلَّفْتَهُ وراء ظَهْرِك.
وجَهَنَّمُ تضطربُ من تحت من يمُر عليها، وتَثِبُ على مَن زلَّ عنه مُغْتاظةً تزفُرُ عليه وتشْهَقُ إليه.
ثم التفت إلى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إلى الخلائقِ من فوقِهِ، وإلى جهنَّم من تحته تثبُ وتزفرُ على الذين زُلْزِلُوا عن الصراطِ.
لها في رؤوسهم وأنحائهم قصيفٌ، فطار قلبكَ فرحًا إذْ نجوت بضعفك من النار و خلَّفْتَ النارَ وجسرها من وراء ظهرِكَ، متوجهًا إلى جوار ربكَ.
ثم خطوتَ آمنًا إلى باب الجنة امتلأ قلبُكَ سُرورًا وفرحًا، فلا تزالُ في مَمَرِّكَ بالفرح والسرور حتى تُوافي أبوابها.
فإذا وفيت بابها استقبلك بحسنه، فنظرت إلى حسنه ونوره وحسن صُورة الجنة وجُدرانها.
وقلبك مستطير فرحٌ مسرورٌ متعلقٌ بدُخُولِ الجنة حين وافيت بابها أنت وأولياءُ الرحمن.(1/331)
فتوهم أي تخيَّل وتصور نفسك في ذلك الموكب، وهُمْ أهلُ كرامة الله ورضوانه، مُبيضةً وجوههم، مُشرقة برضا الله، مسرورون فَرحُونَ مُسْتَبْشِرُون، وقد وافيت باب الجنة بغبارِ قبركَ، وحرِّ المقَامِ ووَهجِ ما مرَّ بك.
فنظرت إلى العين التي أعدَّها الله لأوليائه وإلى حُسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبه، فوجدت له بردًا وطيبًا، فذهب عنك بحُزْنِ المقام.
وطَهَّركَ من كُلِ دنس وغُبار، وأنت مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرتهُ، وقد أفلتَّ من وهج الصراط وحرِّه؛ لأنه قد يوافي بابها من أحرقت النار بعض جسده بلفحها، وقد بلغت منه.
فما ظنك وقد انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهُّج حرِّ الصراط فوافيت باب الجنة بذلك، فلما نظرت إلى العين قذفت بنفسك فيها.
فتوهَّمْ (أي تصوَّر وتخيَّل) فرحة فُؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأنت فرحٌ لمعرفتك أنك إنما تغتسلُ لتتطَّهر لدخول الجنة والخلود فيها.
فأنت تغتسل منها دائبًا، ولونُكَ مُتغيرٌ حسنًا، وجسدُك يزدادُ نضرةً وبهجةً ونعيمًا، ثم تخرجُ منها في أحسن الصُور وأتم النُور.
فتوهم (أي تصور وتخيل) فرح قلبك حين خرجت منها فنظرت إلى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحُسنه، وأنت عالم مُوقن بأنك تتنظفُ للدخول إلى جوار ربك.
ثم تقصد إلى العين الأخرى، فتتناولُ من بعض آنيتها، فتوهَّمْ نظرك إلى حُسن الإناء، وإلى حُسن الشراب، وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنَّما تشربُ هذا الشراب لِتطهِّرَ جوفك من كلِّ غلٍ، وجسدك ناعمٌ أبدًا.
حتى إذا وضعتَ الإناء على فيكَ ثم شربتهُ، وجدت طعم شراب لم تذق مثله، ولم تعوَّدْ شُربهُ، فيسلس من فيْكَ إلى جَوِفك، فطار قلبُك سُرورًا لما وجدت من لذَّتِهِ، ثم نقي جوفك من كُلِّ آفةٍ.(1/332)
فوجدت لذة طهارة صدرك من كُلِّ طبعٍ كان فيه يُنازعُه إلى الغُموم والهُموم والحرص والشدة والغضب والغلِّ، فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذلك على فؤادك.
حتى إذا استكملت طهارةُ القلب والبدنِ، واستكمل أحباءُ الله ذلك معك، والله مُطلعٌ يراك ويراهُم.
أمر مولاك الجادُ المتحنن خوان الجنة من الملائكة، الذين لم يزالوا مُطيعين خائفين منه مُشفقين وجلين من عقابه إعظامًا له وإجلالاً، وهيبةً لهُ، وحذرًا من نقمهِ، وأمرُم أن يفتحُوا باب جنته لأوليائه.
فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحاتها، وأتوا باب الجنة فمدُوا أيديهم ليفْتحُوا أبوابها.
وأيقنت بذلك، فطار قلبك سُرورًا، وامتلأت فرحًا، وسمعتَ حُسن صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فُؤادك، فيا سُرور قُلوب المفتوح لهم باب جنة رب العالمين.
فلما فتح لهم بابُها، هاج نسيمُ طيب الجنان، وطيب جرى مائها، فنفح وجهك، وجميع بدنك، وثارت أراييح الجنة العبقة الطيبة.
وهاج ريحُ مسكها الأذفر، وزعفرانها المُونِع، وكافُورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وأرياحُ طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها.
فتداخلت تلك الأراييح في مشامِّكُ حتى وصلتْ إلى دماغِك، وصار طيبُها في قلبك، وفاض من جميع جوارحك.
ونظرت بعينك إلى حُسن قصورها، وتأسيس بُنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزُمُردِ، والياقوت الأحمرِ، والدُر الأبيض قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه.
فقد أكمله الله في الصفاء والنور، ومازجهُ نُورُ ما في الجنان، ونظرتَ إلى حُجُب الله، وفرح فؤادُك لمعرفتك أنك إذا دخلتها فإنَّ لك فيها الزيادات، والنظرُ إلى وجه ربك، فاجتمع طيبُ أراييحِ الجنة وحسنُ بهجة منظرها، وطيبُ نسيمها، وبردُ جوها.
فتصور نفسك إن تفضل الله عليك بهذه الهيئة، فلو مُتَّ فرحًا لكان ذلك يحقُ لك، حتى إذا فتحوا بابا، أقبلوا عليك ضاحِكين في وجهك ووُجُوه أولياء الله معك.(1/333)
ونادوكم { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم في كمال صورهم، وشدة نورهم.
ثم أتبعوا السلام بقولهم: { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } فأثنوا عليهم بالطيب والتهذيب من كل دَنَس ودَرَنٍ وغلٍ وغشٍ، وكل آفةٍ في دين أو دُنيا، ثن أذنُوا لهم على الله بالدُخُول في جواره.
ثم أخبروهم أنهم باقُون فيها أبدًا، فقالوا: { طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } ، فلما سمعت الأذنُ وأولياءُ الله معك، بادرتم الباب بالدخول، فكضَّت الأبوابُ من الزحام.
فتصور نفسك إن عفا الله عنك في تلك الزحمة مُبادرًا مع مُبادرين، مسرورًا مع مسرورين، بأبدانٍ قد طهرَتْ، ووجُوهٍ قد أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قد سطع من أعراضهم كشُعاعِ الشمس.
فلما جاوزت بابها، وضعت قدميك على تُربتها، وهي مسك أذفرُ ونبتُ الزعفران المونع، والمسكُ مصبوبٌ على أرضٍ من فضةٍ، والزعفران نابتٌ حولها.
فذلك أول خطوةٍ خطوتها في أرض البقاء بالأمن من العذاب والموت، فأنت تتخطَّى في تُراب المسك، ورياضِ الزعفران، وعيناك ترمقان حُسن بهجة الدُر، مِن حُسن أشجارها، وزينة تصويرها.
فينما أنت تتخطَّى في عرصات الجنان، في رياض الزعفران، وكُثبان المسك، إذ نُودي في أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانًا قد أقبل، فأجابُوا واستبشروا لقُدُومكَ، كما يُبشرُ أهلُ الغائب في الدنيا بقُدُومِهِ، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فبينما أنْتَ تَنْظُرُ إلى قُصُورك، إذ سمعت جلبتهُم وتبشِيْشَهُم، فاستطرتَ لذلك فرحًا، فبينما أنت فرحٌ مسرورٌ بغبطتهم لقُدومِكَ لمَّا سمعتَ إجلابَهَمُ فرحًا بك.
إذ ابتدرت القهارَمَةُ إليك وقامت الولدان صُفُوفًا لقُدومك، فبينما أتت القهارمةٌ مُقبلة إليك، إذ استخفَّ أزواجك للعجلة، فبعثت كُلُ واحدةٍ منهن بعض خُدَّمها لينظر إليك مُقبلاً.(1/334)
ويُسرع بالرجُوع إليها بقُدومك، لتطمئنَّ إليه فرحًا، وتسكُنَ إلى ذلك سُرورًا، فنظر إليك الخدمُ قبل أن تلقَاكَ قَهَارَمُتكَ.
ثم بادر رسولُ كُل واحدة منهنَّ إليها فلما أخبرها بقُدومِكَ، قالت كُلُ واحدةٍ لرسولها: أنت رأيتهُ من شدة فرحها بذلك، ثم أرسلت كلُ واحدة منهنَّ رسُولاً آخر.
فلما جاءت البشارات بقُدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الخُروج إليك مُبادراتٍ إلى لقائك لولا أن الله كتبَ القصرَ لهنَّ في الخيام إلى قُدُومِكَ، كما قال مليكك: { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ } .
فوضعهن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهنَّ برُؤوسِهنَّ ينظرن متى تبدو لهن صفحةُ وجهك، فيسكنُ طولُ حنينهن، وشدةُ شوقهن إليك، وينظرون إلى قرير أعينُهنَّ، ومعدن راحتهن، وأنُسَهَّن إلى ولي ربهنَّ وحبيب مولاهُنَ.
فتوهم ما عاينت، حين فُتحت أبواب قُصُورك، ورفُعت سُتُورُهُ من حُسن بهجة مقاصيره، وزينةو أشجارهن وحُسْنِ رياضه، وتلألؤ صحنه، ونور ساحاته.
فبينما أنت تنظر إلى ذلك، إذ بادرت البشرى من خُدَّامِكَ يُنادون أزواجكَ هذا فُلانُ بنُ فلان قد دخل من باب قصره، فلما سمعنَ نداءَ البشراء بقدومك ودُخُولِكَ، توثَّبْنَ من الفُرش على الأسرة في الحجال.
وعينُك ناظرةٌ إليهن في جوف الخيام والقباب، فنظرت إلى وُثُوبهنَّ مُستعجلات، قد استخفهُنَّ الفرحُ، والشوقُ إلى رُؤيَتِكَ.
فتخيَّل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثَّبْنَ بالتهادي والتَّبَخْتُر.
فتصور كُلَّ واحدةٍ منهن، حين وثبت في حُسْن حُللها وحليتها بصباحة وجهها، وتثني بدنها بنعمته.
فتوهم انحدارها مُسرعةً بكمال بدنها، نازلةً عن سريرها إلى صحن قُبَّتِها، وقرار خيمتها، فوثَبْنَ حتى أتيْنَ أبوابَ خِيامِهنَّ وقبابهنَّ.
ثم أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الذي ضُرِب عليهنَّ إلى قدومك، فقمنَ آخذاتٍ بعضائدِ أبوابهن.(1/335)
ثم خرجن برؤوسهنَّ ووُجُوهِهنَّ ينحدرن من أبواب قبابهن، مُتطلعاتٍ ينظرن إليك، مُقْبِلات قد مُلئن منكَ فرحًا وسرورًا.
وتخيل نفسك بسُرور قلبكَ وفرحِهِ، وقد رمقتهُنَّ على حُسْن وجوههن، وغنج أعيُنهِنَّ.
فلما قابلت وجوههنَّ حار طرفُك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوتِ الذاهل من عظيم ما هاج في قلبك من سُرور ما رأتْ عيناك، وسكنتَ إليه نفسُك.
فبينما أنت ترفُلُ إليهن، إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مُبادرات قد استخفهن العشقُ، مُسرعاتٍ يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادَيْنَ من كمال الأجسام.
ثم نادتكَ كُلُّ واحدةٍ منهن: يا حبيبي ما أبطأك علينا؟ فأجبتها بأن قلت: يا حبيةُ ما زال الله عزَّ وجلّ يُوقفني على ذنْبِ كذا وكذا حتى خشيتُ أن لا أصل إليكُن.
فمشين نحوك في السُندسِ والحرير ، يُثْرِنَ المِسْكَ، وشوقًا وعِشْقًا لك.
فأول من تقَّدمتْ منهنَّ مَدَّتْ إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمَّتْكَ إلى نحْرهَا فانثنيتَ عليها بكفكَ وساعدكَ حتى وضعتهُ على قلائدها من حلقِها، ثم ضممتُها إليك وضمَّتْكَ إليها.
فتوهمن نعيم بدنها لمَّا ضمَّتْك إليها كاد أن يُداخل بدنُك بدنها من لينه ونعيمه.
فتوهم ما باشر صدرك من حُسْن نُهُودها، ولذَّة مُعانقتها، ثم شممت طيب عوارضها، فذهب قلبُك من كُلِّ شيء سواها حتى غرق في السُرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إلى رُوْحك من طيب مسيسها، ولذةَ روائح عوارضها.
فلما استمكنتْ خفَّة السرور من قلبك، وعمَّتْ لذةُ الفرح جميع بدنك، وموعد الله عزَّ وجلَّ في سُرورك، فناديت بالحمد الله الذي صدقك الوعد، وأنجز لك الموعد، ثم ذكرت طلبك إلى ربك إيَّاهُنَّ بالدُؤوبِ والتَّشْمير.
فأين أنت في عاقبة ذلك العمل الذي استقبلته وأنت تلتثمُهُنَّ وتشمُ عوارضهنَّ { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ } .(1/336)
فتوهم صعودها على السرير بعظيم بدنها ونعيمه، حتى استوت عليه جالسة، ثم ارتقيت على السرير، فاستويت عليه معها، فقابلتك وأنت مُقابلُها، فيا حُسنَ منظرك إليها جالسةً في حالها وحليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور في معاصمها، والخواتم في أكفها، والخلاخيل في أسواقها، والقلائد في عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذلك على رأسها، والذوائب من تحت التاج، قد حل من مناكبها، وبلغ أردافها، تَرى وجْهَكَ في نحرها، وهي تنظر إلى وجهها في نحرك.
وقد تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتِكَ، واطردتِ الأنهارُ حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل.
وقد كمل حُسنُك وحُسنها، و أنت لابس الحرير والسُندسُ، وأساور الذهب واللؤلؤ على كل مفْصِل من مفاصلك، وتاجُ الدُر والياقوت مُنتصفُ فوق رأسك، وأكاليل الدُر مفصَّصَةً بالنور على جبينك.
وقد أضاءت الجنة وجميع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأنت تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وخُدَّمِكَ وجميع أبنية مقاصيرك.
وقد تدلَّتْ عليك ثمارُ أشجارك، واطَّردت أنهارُكَ من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسلُ من فوقك، وأنت جالس مع زوجتك على أريكتك، وقد فُتحتْ مصاريع أبوابك، وأرخيت عليك حجال خيمتك، وحفت الخدام والولدانُ بقُبتك، وسمعت زجلهمُ بالتَّقْدِيس لربك عزَّ وجل.
وأنت وزوجُك بأكمل الهيئة وأتم النعمةِ، وقد حارَ فيها طرفُك تنظُر إليها مُتعجبًا من جمالها وكمالها، طرٌ قلبُكَ بملاحَتها، وأنسٌ قلبك بها من حُسنها، فهي مُنادمة لك على أريكتك، تُنازعُكَ وتُعاطيك الخمرَ والسَّلْسْبِيلَ والتَّسنيم في كأساتِ الدُر وأكاويْبِ قوارير الفضَّةِ.(1/337)
فتوهم الكأس من الياقوت والدُر في بنانها، وقد قرُبت إليك ضاحكة بحُسن ثغرها، فسطع نُورُ بنانها في الشراب، مع نُور وجهها ونحرها، ونُور الجنان، ونُور وجهك وأنت مُقابلها، واجتمع في الكأس الذي في بنانها نُورٌ الكأس، ونُور الشراب، ونُورُ وجهها، ونُورُ نحرها، ونُورُ ثغرها، انتهى بتصرف.
وقال ابن القيم:
فَاسْمَعْ صضفَاتِ عَرَائِسِ الجَنِّات ثُمْ
حُورٌ حسانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا
حَتَّى يَحَارُ الطِّرْفُ في الحُسْن الذي
وَيَقولُ لَمَّا أنْ يُشَاهدَ حُسْنَهَا
والطَّرفُ يَشْرَبُ مِن كؤسِ جَمَالِهَا
كَمُلَتْ خَلَائِقُهَا وأكْمِلَ حُسْنُهَا
والشَّمْسُ تَجْرِيْ في مَحَاسِنِ وَجهِهَا
فَتَراهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن
فَيَقُولُ سُبْحَانَ الذيْ ذَا صُنْعُه
وَكِلَاهُمَا مِرْآةُ صَاحِبِه إذا
فَيَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ في وَجْهِهَا
حُمْر الخُدُوْدِ ثُغُورُهُنَّ لآليءٌ
والبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا
وَلَقَدْ رَوَيْنَا أنَّ بَرْقًا ساطِعًا
فَيُقَالُ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ
لِِلهِ لاِثمُ ذَلِكَ الثَّغْرِ الذي
رَيَانَةُ الأعْطَافِ مِن مَاءِ الشَّبَابِ
لما جَرَى مَاءُ الشبابِ بغُصْنِهَا
فالوَرْدُ والتُّفَاحُ والرُّمَانُ في
القَدُّ منها كالقَضِيبِ اللذان في ... اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أخَا العِرْفَانِ
وَمَحَاسِنًا مِن أجْمَلِ النِّسْوَانِ
قَدْ ألْبسَتْ فالطَّرْفُ كالحَيْرَانِ
سُبْحَانَ مُعْطِي الحُسْن والإحْسَانِ
فَتَراهُ مِثْلَ الشاربِ النَشْوَانِ
كالبَدْرِ لَيلَ السِّتِ بَعْدَ ثَمَانِ
والليلُ تَحتَ ذوائِبِ الأغْصَانِ
لَيلٍ وَشَمْسٍ كَيفَ يَجْتَمِعَانِ
سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإنسانِ
مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ
وَتَرَى مَحَاسِنَهَا به بِعَيْنَانِ
سُودُ العُيُونِ فَوَاتِرُ الأجْفَانِ
فَيُضِيءُ سَقْفُ القَصْر ِ بالجُدْرَان
يَبْدُوْ فَيَسْألُ عنه مَن بِجِنَانِ(1/338)
في الجنةِ العُلْيَا كَمَا تَريَانِ
في لَثْمِهِ إدْرَاكُ كُلِ أمَانِ
فَغُصْنِهَا بالماءِ ذُو جَرَيَانِ
حَمَلَ الثِمَارَ كَثِيْرَةَ الألْوَانِ
غُصْنٍ تَعَالى غَارِسُ البُسْتَانِ
حُسْنِ القوامِ كأوْسَطِ القُضبانِ
إلى أن قال ـ رحمه الله ـ:
وإذَا بَدَتْ في حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا
تَهْتَزُّ كَالغُصْنِ الرَّطِيْبِ وحَمْلُه
وَتَبَخْتَرَتْ في مَشْيهَا ويَحقُ ذَاكَ
وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِهَا وَأمَامِهَا
كالبَدرِ لَيلةَ تِّمِهِ قَدْ حُفَّ في
فَلِسَانُهُ وَفُؤادُهُ والطَّرفُ في
فَالقَلبُ قَبلَ زِفافِهَا في عُرْسِهِ
حَتَّى إذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا
فَسَلِ المُتَيَّمَ أيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ
وَسَلِ المُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُه وَقَدْ
مِن مَنْطِق رَقَّتْ حَوَاشِيْهِ وَوَجْه
وَسَل المُتِيِّم كَيْفَ عِيشَتُهُ إذًا
يَتَسَاقَطَانِ لَئِآلئًا مَنْثُورَةً
وَسَل المُتَيَّمَ كَيَفَ مَجْلِسُه مع
وَتَدورُ كاسَاتُ الرَحِيْقِ عَلَيْهِمَا
يَتنَازَعَانِ الكَأسَ هَذَا مَرَّةً
فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أرَأيْتَ
غابَ الرَّقِيْبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكِّدٍ
أتَرَاهُمَا ضَجِرَيْن مِن ذَا العَيْشِ لا
وَيَزِيْدُ كُلٌ مِنْهُمَا حُبًا لِصَا
وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًا بَعْدَهُ
فالوَصْلُ مَحْفُوْفٌ بحُبٍ سَابقٍ
فَرْقٌ لَطِيْفٌ بَيْنَ ذَاك وَبَيْنَ ذَا
وَمَزِيْدُهُم في كُلِّ وَقْتٍ حَاصِلٌ
يا غَافلاً عَمَّا خُلِفْتَ لَهُ انْتَبِهْ
سَارَ الرِفَاقُ وَخَلفُوكَ مَعَ الأولى
وَرَأيْتَ أكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا
لَكنْ أتَيْتَ بخُطَّتيْ عَجْزٍ وَجَهْلٍ
مَنّتْكَ نَفْسُكَ بالحُو قِ مَعَ القُعُودِ
وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغِطَا ... وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النِّشْوَانِ
ورْدٌ وتَفَاحٌ على رُمَانِ
لِمِثْلِهَا في جَنَّةِ الحَيَوانِ
وعلى شَمَائِلِهَا وَعَن أيْمَانِ
غَسَقِ الدُّجَى بكَواكِبِ المِيْزَانِ(1/339)
دَهَشٍ وإعْجَابٍ وفي سُبْحَانِ
والعُرَسُ إثْرَ العُرْسِ مُتَّصِلَانِ
أرَأيْتَ إذْ يَتَقَابَلُ القَمَرَانِ
في أي وَادٍ أمْ بأي مكَانِ
مُلِئَتْ له الأذُنَانِ والعَيْنانِ
كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِن جَرَيَانِ
وَهُمَا على فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ
مِن بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ
الْمَحْبُوْبَ في رَوْحٍ وفي رَيْحَانِ
بأكُفٍ أقمارٍ مِن الولْدَانِ
والخُودُ أخْرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ
مَعْشُوْقَيْن بَعدَ البُعْدِ يَلْتقِيانِ
وَهُمَا بثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ
وَحَياةِ ربِكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ
حِبِه جَدِيْدًا سَائِرَ الأزْمَانِ
مُتَسَلْسِلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانِ
وَبلاحِقٍ وَكِلاَهُمَا صِنْوَانِ
يَدْريْهِ ذُوْ شُغْلٍ بَهذَا الشَّانِ
سُبْحانَ ذِي المَلَكُوَتِ والسُلْطَانِ
جَدَّ الرَّحِيْلُ وَلستَ باليَقْظَانِ
قَنعُوا بِذَا الحَظِ الخَسِيْسِ الفَانِ
فَتَبَعْهُم فَرَضِيْتَ بالحِرْمَانِ
بَعْدَ ذا وَصحِبْتَ كُلَّ أمَانِ
عَن المَسِيْر وَرَاحَةِ الأبدَانِ
ماذا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمْكَانِ
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
فَيَا سَاهيًا في غَمْرِة الجَهْلِ والهَوَى
أفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الذِيْ لَيْسَ بَعْدَهُ
وبالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا
تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ البَخِيْلِ بمَالِهِ
وَدِعْ عَنْكَ مَا قَدْ أحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا
وَهَيءْ جَوَابًا عنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا
بِهِ رُسُلِيْ لَمَّا أتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ
وَخُذْ مِن تُقَى الرَّحْمنِ أعْظَمَ جُنَّةٍ
وَيُنْصَبُ ذَاكَ الجَسْرُ مِنْ فَوْق مَتْنِهَا
وَيَأتيْ إلَهُ العَالَمِيْنَ لِوَعْدِهِ
وَيَاخُذُ لِلْمَظْلومِ رَبُكَ حَقَّهُ
وَيُنْشَرُ دِيْوَانُ الحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْمَوازِيْنُ
فَلَا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلَامَةَ ذَرَّةٍ
وَتَشْهَدُ أعْضَاءُ المُسِيء بمَا جَنَى
فَيَالَيْتَ شِعْرِيْ كَيْفَ حَالِكُ عِنْدَمَا(1/340)
أتَأخُذُ باليُمْنَى كِتَابَكَ أمْ تَكُنْ
وَتَقْرَأ فِيْهَا كُلَّ شَيءٍ عَمِلْتَهُ
تَقُوْلُ كِتَابِي فاقْرَؤُهُ فإنَّهُ
وإن تَكُن الأخْرَى فإنَّكَ قَائِلٌ
فَبَادِرْ إذًا مَا دَامَ في العُمْرِ فُسْحَةٌ
وَجُدُّ وَسَارِعْ واغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا
وَسِرْ مُسْرِعًا فالموتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... صرَيْعَ الأمَانيْ عَنْ قَرِيْبٍ سَتَنْدَمُ
سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ
هِيَ العُرْوَةُ الوُثْقَى التي لَيْس تُفْصَمُ
وَعَضَّ عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ تَسْلَمِ
فَمَرْتَعُ هَاتِيْكَ الحَوَادِثِ أوْخَمُ
مِنَ الله يَوْمَ العَرْض مَاذَا أجَبْتُمُ
أجَابَ سوَهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَندَمُ
لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُوْ عِيَانًا جَهَنَّمُ
فَهَاوٍ وَمَخْدُوْشٌ وناجٍ مُسَلَّمُ
فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ العِبَادِ وَيَحْكُمُ
فَيَابُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ
بالقِسْطِ الذي لَيْسَ يَظْلِمُ
ولا مُحْسنٌ مِن أجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ
كذَاكَ على فِيْه المُهَيْمِنُ يَخْتُمُ
تَطَايَرُ كُتْبُ العَالِميْنَ وتُقْسَمُ
بالأخْرى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ
فَيُشْرِقُ مِنْكَ الوَجْهُ أوْ هُوَ يُظْلِمُ
يُبَشِّرُ بالفَوْزِ العَظِيْمِ وَيُعْلِمُ
ألا لَيْتَنِيْ لَمْ أوْتَهُ فَهُوَ مَغْرَمُ
وعَدْلُكَ مَقْبُوْلٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ
ففِي زَمْنِ الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ
وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمُ(1/341)
عن النعمان بن بشير أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الحلالَ بيِّنٌ وإن الحرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا أمُورٌ مشتبهاتٌ لا يَعْلمَهُنَّ كثيرٌ مَن الناس فَمَن اتَقَى الشُبهاتِ فَقَد اسْتَبْرَأ لِدِيْنِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وَقَعَ في الشُبَهَاتِ وَقَع في الحَرِام كالراعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوْشِكُ أن يَرْتَعَ فيه، ألا وَإن لِكُل مَلِكٍ حَمى ألا وإن حِمىَ الله مَحَارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَد مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَح الجَسَدُ كُلُه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُه ألا وَهي القَلْبُ» رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس أن البني - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرةً في الطريق، فقال: «لولا أني أخاف أَنْ تَكُوْنَ مِن الصدقِة لأكَلْتُهَا» متفق عليه.
وعن عُقبة بن الحارث: «أنهُ تزوَّج ابنةً لأبي إهاب فأتته امرأة، فقالت: إني أرضعتُ عقبة والتي تزوَّج بها، فقال عُقبة: ما أعلمُ أنك أرضعتني ولا أخبرتِني، فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ وقَد قِيل؟» ففارقَهَا عُقْبَةُ ونكحَتْ زوجًا غيره» رواه البخاري.
وعن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: حفظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْ ما يَريْبُك إلى ما لا يَرِيْبُك» رواه الترمذي، ومعناه: اتْرُكْ ما تشكُ فيه وخُذْ ما لا تَشُكُ فيه.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «كان لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - غُلامٌ يُخرجُ له الخراج، فجاءه يومًا بشيء فأكل منه أبُو بكرٍ، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال: كُنْتُ تَكهَنْتُ لإنسان في الجاهلية، فأعطاني لذلك (أي لأجْلِ) تَكَهُّني هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يدهُ فقاءَ ما في بطنه» رواه البخاري.(1/342)
وعن نافع أن عمر بن الخطاب كان فرضَ للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابنه عبدالله ثلاثة آلاف فقط، فقِيلَ لعُمر: ابنُكَ من المُهاجرين، فلِمَ نقصتَهُ الرُّبُعَ، فقال: «إنما هاجر به أبُوهُ» أي ليس كمنَ هاجر بنفْسِهِ.
وعن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: اشتريتُ إبلاً وارتجَعْتُها إلى الحمى فلما سَمنَتْ قدِمْتُ بها، قال: فدخل عُمرُ السوق فرأى إبلاً سمانًا، فقال: لِمَن هذه؟ فقيل: لعبدالله ابن عمر، فجعل يقول: يا عبدالله بَخٍ بَخٍ ابن أمير المؤمنين.
قال: فجئته اسعى، فقُلتُ: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ فقُلتُ: إبلٌ هزيلة اشتريتها وبعثتُ بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: ارعَوا إبل ابنِ أمير المؤمنين، أُسْقُوا إبل ابن أميرِ المؤمنين.
يا عبدالله بن عُمر، أغْدُ على رأسِ مالك واجعلْ باقيه في بيت مال المسلمين.
ورهنَ الإمامُ أحمدُ سطلاً له عند بقَّالٍ بمكة، فلما أراد فكاكهُ أخرج البقالُ سَطْلَين، وقال: خُذْ سطلكَ، فقال أحمد: أشكل عليَّ سطلي لا أدري أيَّهُما؟ هو لك والدراهم لك، فقال البقال: سطلُك هذا وأشار إلى أحدهما، وقال: أردتُ أن أجَرِّبَكَ أيْ أختبرُكَ، فقال: لا آخُذُه وترَكَهُ عنَده.
ورجعَ عبدُالله بنُ المبارك مِن مَرْوْ إلى الشام في قلمٍ استعارَهُ ليرُدَّهُ على صاحبه، وحُمِلَ إلى عُمر بن عبدالعزيز مِسْكٌ من الغنائم فلما أدخله إلى بيت المال أَمْسَكَ بأنفه، وقال: إنما يُنتفع منه بريْحِهِ وأنا أكرهُ أنْ أجدَ ريحَهُ دُوْن المسلمين.
شعرًا:
القَلْبُ أَعْلَمُ يا عَذُوْلُ بِدَائِهِ
والذَّنْبُ أَوْلَى مَا بَكَاهُ أَخُوْ التُقَى
فَومَنْ أُحِبُّ لأَعَصْيَنَّ عَواذِلِي
مِن ذَا يَلُومُ أَخَا الذُنُوبِ إذا بَكَىَ
فَوَحِقِّ مَن خَافَ الفُؤادُ وعِيْدَهُ
ما كِنتُ مِمَّنْ يَرتَضِي حُسْنَ الثَّنَا
مَن ذَا الذي بَسَطَ البَسِيْطَةَ لِلْوَرَى(1/343)
مَن ذَا أَتَى بالشمسِ في أُفُق السَمَا
أَسواهُ سَوَّاهَا ضِيَاءً نَافِعًا
مَن أطلعَ القَمَرَ المُنِير إذَا دَجَى
مَن طَوّلَ الأيامَ عندَ مَصْيفِهَا
مَن ذَا الذي خَلَقَ الخَلائِقَ كُلّهَا
وأدَرَّ لِلطِّفْلِ الرَّضِيْعِ مَعَاشَهُ
يا وَيْحَ من يَعْصِي الإلهِ وقَدْ رَأَى
ورَأَى مَسَاكِنَ مَن عَصَى مِمَّنْ خَلَا
ودَع الجِبابَرةَ الأكَاسِرَةالألَي
كم شَاهَدَتْ عَينَاكَ مِن مَلِك غَدَا
مَلأتْ لَهُ الدُنيا كُؤوسًا حُلْوةً
ما طَلَّقَ الدُنْيَا اخْتيارًا إنَّما
جَعَلتْ له الأكفانَ كِسْوةَ عُدَّةٍ
ويَضُمُّهُ لا مُشْفِقًا في ضِمِّهِ
وهُنَاكَ يُغْلَقُ لَحْدُهُ عن أهلِهِ
ويَزُوْرُهُ المَلَكَانِ قَصْدَ سُؤَالِهِ
فإذا أجَابَ بـ «لَسْتُ» أَدْرِيْ أَقْبِلا
ويَرىَ مَنَازلَهُ بِقَعْر جَهَنَّمٍ
يا ربِّ ثبِّتْنَا بقَوْلٍ ثابتِ
أَنَا مُؤْمَنٌ ِاللهِ ثُمَّ بِرُسْلِهِ
ثم الصلاةُ على الرسولِ مُحَمَّدٍ ... ما غَيرُ دَاءِ الذَّنْبِ مِن أَدْوَائِهِ
وأَحَقُّ مِنكَ بجَفْنِهِ وبِمائِهِ
قَسَمًا بِهِ في أرْضِهِ وسَمائِهِ
إنَّ المَلامةَ فِيهِ مِن أعْدَائِهِ
ورَجَا مَثُوبَتَهُ وحُسْنَ جَزَائِهِ
بِبَدِيعٍ نَظْمِي في مَدِيحٍ سِوَائِهِ
فُرُشًا وتَوَّجَهَا بِسِقْفِ سَمِائِهِ
تَجْري بَتقْدِيرٍ على أَرْجَائِهِ
لا والذِي رَفَعَ السَّمَا بِبَنَائِهِ
لَيْلٌ فَشَابَهَ صُبْحَهُ – بِضِيائِهِ
وأَتَتْ قِصَارًا عندَ فَصْلِ شِتائِهِ
وكَفَى الجَمِيعَ بِبِّرهِ وعَطائِهِ
مِن أمِّهِ يَمْتصُّ طِيْبَ غِذَائِهِ
إحْسَانَهُ بِنَوالِهِ وندائِهِ
خِلْوًا تَصِيْحُ البُومُ في أرْجَائِهِ
وانْظُرْ لِمَنْ شَاهَدْتَ في علوائِهِ
يَخْتَالُ بَيْنَ جِيُوشِهِ ولِوَائِهِ
وَسَقَتْهُ مُرَّ السُّمِ في حَلْوائِهِ
هِيَ طَلَّقَتْهُ وَمَّتَعَتْهُ بِدائِهِ
واللَّحْدَ سُكْنَاهُ وبَيْتَ بَلائِهِ
حَتَّى تكونَ حَشَاهُ في أَحْشَائِهِ(1/344)
بِحِجَارَةٍ وبِطِيْنَةٍ وبمَائِهِ
عن دِيْنِهِ لا عَنْ سُؤالِ سِوَائِهِ
ضَرْبًا لَهُ في وَجْهِهِ وقَفَائِهِ
ويُقيمُ في ضِيْقٍ لِطُولِ عَنَائِهِ
عِندَ امْتِحَان العَبدِ تَحْتَ ثَرَائِهِ
وبِكُتُبْهِ وبِبَعْثِهِ ولِقَائِهِ
والآلِ أهلِ البيتِ أهلِ كِسَائِهِ
اللهم إنا نسألُك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيةً، وعيشةٍ نقية، وميتةً سويَّة، ومردًا غير مُخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاة والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
{ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يا ودُودُ يا ذا العرش المجيد يا مُبديءُ يا معيد يا فعالٌ لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرتَ بها على جميع خلقكَ وبرحمتك التي وسِعَت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذُنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوف رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
نختم هذا الكتاب بنبذة من زهده - صلى الله عليه وسلم -
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس، ويكفيك في تعريف ذلك أن فقره - صلى الله عليه وسلم - كان فقر اختياري لا فقر اضطراري؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فُتحت عليه الفتوحُ وجُلبت إليه الأموالُ، ومات ودرعُهُ مرهونةٌ عند يهودي في نفقة عياله، وهو يدعو: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا.
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما شبعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعًا من خُبزٍ حتى مضى لسبيله، ولو شاء لأعطاهُ الله ما لا يخطر ببالٍ.(1/345)
وعنها قالت: ما تركَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا ولا شاةً ولا درهمًا ولا بعيرًا، ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبدٍ إلا شطر شعير في رَفِّ لي.
وقال لي: إني عرض عليَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلتُ: لا يارب أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا، فأما اليومُ الذي أجُوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبعُ فيه فأحمدُك وأثني عليك.
وعنها قالت: إنْ كُنَّا آلُ محمد لنمكثُ شهرًا ما نستوقِدُ نارًا، إن هو إلا التمرُ والماء.
وعنها قالت: لم يمتلئ جوفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبعًا قط، ولم يبُث إلى أحدٍ شكوى.
وكانت الفاقة أحبَّ إليه من الغنى، وإن كان ليظلُ جائعًا يلتوي طُول ليلته من الجوع، فلا يمنعُه من صيام يوم ولو شاء لسأل ربه جميع كنُوز الأرض وثمارها ورغد عيشها.
ولقد كنتُ أبكي له رحمةً مما أرى به وأمسحُ بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء، لو تبلّغْتَ من الدنيا بما يقوتك.
فيقول: يا عائشة مالي وللدُنْيَا إخواني أولو العزم من الرسل صبرُوْا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهُم وأجزل ثوابهم.
وأجدني أستحي إن ترفَّهْتُ في معيشتي أن يُقصِّرني غدًا دُونهم.
وما من شيء أحب إلي من اللحُوق بإخواني وأخلائي، قالت: فما أقام بعد إلا شهرًا ثم توفى - صلى الله عليه وسلم -.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطُّ غداءً لعشاءٍ ولا عشاءَ قطُّ لغداء.
ولا اتخذ من شيء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين، ومن النعال ولا رئى قط فارغًا في بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوبًا لأرملة.(1/346)
وعن أنس بن مالك أن فاطمة –عليها السلام- جاءتْ بكسرةٍ خُبز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟»، قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتُك بهذه الكسرة، فقال: «أما إنه أوَّلُ طعامٍ دَخَل فَمَ أبِيْكِ مُنْذُ ثلاثة أيام».
وروى مسلم عن النعمان قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل يلتوي ما يجد من الدقل ما يَمْلا بطنه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن كان ليمر بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأهِلَّة ما يُسرجُ في بيت أحد منهم سراج ولا يوقد فيه نار إن وجدوا زيتًا ادهنوا به وإن وجدوا ودكًا أكلوه، رواه أبو يعلى ورواته ثقاة.
عن عبدالله بن مسعود، قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء.
فقال: مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب أستظل تحت شجرة ثم راح وتركها، رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه.
قال عمر بن الخطاب: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حصير فجلستُ فإذا عليه إزارُهُ وليس عليه غيره وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِهِ.
وإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية الغرفة، وإذا أهاب معلق (الإهاب: الجلد) فابتدرت عيناي.
فقال: «ما يُبكيك يا ابن الخطاب؟» فقلتُ: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتُك لا أرى إلا ما أرى.
وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوتُه وهذه خزانتك.
قال: «يا بن الخطاب، أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والحاكم، وقال: على شرط مسلم.(1/347)
وروي عن جابر - رضي الله عنه - قال: حضرنا عرس علي وفاطمة، فما كان عرسًا كان أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف، وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش، رواه البزار. الإهاب: الجلد.
عن عامر الشعبي قال: قال علي - رضي الله عنه -: لقد تزوجتُ فاطمة، وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها.
وعن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوَّجَهُ فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورَحَيَيْن وسقاءِ وجرَّتَين.
فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله سَنَوْتُ حتى اشتكيتُ صدري (المعنى تعبتُ من إخراج الماء من البئر) وقد جاء الله بسبي فاذهبي فاستخدمِيْهِ (أي اطلُبي منه خادمًا).
فقالت: وأنا والله لقد طحنْتُ حتى مجلتْ يدي من العمل، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما جاءَ بِكِ ومَا حَاجَتَكِ أيْ بُنَيَّة؟» قالت: جئت لأسلمَ عليك واستحَيَتْ أنَ تَسْألَهُ فَرجَعَتْ.
فقال علي: ما فعلتِ؟ قالت: استحييتُ أن أسأله، فأتياه جميعًا، فقال عليُّ: يا رسول الله، والله لقد سنوتُ حتى اشتكيتُ صدري.
وقالت فاطمة: لقد طحنتُ حتى مجلتْ يداي، وقد جاءكَ الله عز وجل بسبي وسعة فأخدمْنَا.
فقال: «والله لا أعْطِيْكُمَا وَأدَعُ أهل الصُّفَّةِ تطْوى بُطونُهم لا أجدُ ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم».
فرجعا، وأتاهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غَطَيا رُؤُسَهُمَا تكَشَّفَتْ أقدامُهما، وإذا غَطَيَا أقدامَهما تكَشَّفَتْ رُؤسُهما فثارا، فقال: «مَكَانكما».(1/348)
ثم قال: «ألا أخبركما بخيرٍ ما سألتماني؟» قالا: بلىَ، قال: «كلمات عَلَّمَنِيْهُنَّ جبْريلَ تُسبحَّانِ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عشر وتَحْمَدانِ عَشْرَا، وتُكَبِّرانِ عشرَا، وإذَا أويْتُما إلى فراشِكُما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، وأحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين»، قال: فوالله ما تَركْتُهُنَّ منذ عَلمنْيهُنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
عن بريدة قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجُلاً يقول: اللهم أني أسألك بأني أشهد أنكَ أنتَ الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: دعا رجل، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» أخرجه أصحاب السُّنَن.
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذْ دَعَى وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سُبْحَانَكَ إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» رواه الترمذي والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وعن معاوية بن أبي سُفيان قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دَعَا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه الطبراني بإسناد حسن.(1/349)
وعن معاذ بن جبل، قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو يقول: «يا ذا الجلال والإكرام»، فقال: «قد اسْتُجِيْبَ لَكَ فَسَلْ» رواه الترمذي.
اللهم اجعلنا مُكثرين لذكرك مُؤدِّيْن لحقِّك حافظين لأمرك راجين لِوَعْدِكَ راضينٍ في جميع حالاتنا عَنك.
راغبين في كُلِّ أمُورنا إليك مُؤمِّلينَ لِفضْلِك شاكرين لِنِعَمِك.
يا مَن يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعفُ عنا، وأحسِنْ إلينا.
فإنك بالذي أنت له أهلٌ من عَفوك أحق منا بالذي نحن له أهل مِن عُقُوبتك.
اللهم ثبت رجاءك في قلوبنا، واقطعه عَمَّنْ سِوَاك، حتى لا نرجُوا غيرك ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك.
واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا.
اللهم أغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجمَّلْنَا بالعافية.
اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزُقنا طاعتَك وطاعةَ رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسُّنة رسولك.
اللهم إنا نسألك الهدى، والتُّقّى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاءِ، ومن جهد البلاء ومن سوء القضاء ومن شماتة الأعداء.
اللهم لك الحمدُ كُلَّه، ولك الملكَ كُلَّه، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، أهلُ الحمد والثناء أنت، لا إله إلا أنت سُبحانك إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا.
اللهم يا سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشتبهُ عليه الأصوات يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنت الغفور الرحيم.
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.(1/350)
اللهم يا حيُّ ويا قيُّوم فرِّغْنَا لما خَلقْتَنَا له، ولا تُشغلنا بما تكَفَّلْتَ لنا به، واجعلنا ممن يؤمنُ بلقائك، ويرضى بقضائك ويقنعُ بعطائك، ويخشاكَ حقَّ خشيتِك.
اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمتْ بنا أحدًا.
اللهم رغَّبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعوَّلُ في الدين عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يُرام وملكك الذي لا يُضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء، يا مَن تغنُوْا له الوجُوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قُلُوبنَا، وتجمعُ بها شملنا، وتلمُ بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظُ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.
اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومُقِيْلَ عثرات العاثرين، نسألك أن تُلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غفر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأفَ الرائفين وأكرم الأكرمين.
اللهم اعتقنا من رقِّ الذُنُوبْ، وخلِّصنا من أشر النُّفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهِّرنا من دنس الذنوب، وباعدْ بيننا وبين الخطايا وأجرْنا من الشيطان الرجيم.(1/351)
اللهم طيبنا للقائِكْ، وأهلْنَا لولائِكْ وأدخلنا مع المرحُومين من أوليائك، وتوفنا مُسلمين وألحقنا بالصالحين.
اللهم أعنَّا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتِكْ، وتلاوةِ كِتَابِكْن واجعَلْنَا من حزبك المُفلحين، وأيدنا بجنْدِك المنصوري، وازرقْنَا مُرافقة الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم يا فالق الحب والنَّوى، يا مُنْشِئ الأجسادِ بعدَ البلَى، يا مُؤْيْ المنقطعين إليه، يا كافي المتُوكِّلين عليه، انقطع الرَّجَاءُ إلا مِنْكْ، وخابت الظُنُون إلا فيْكْ، وضعُفَ الاعتماد إلا عَليكْ نسألُك أن تُمطر محلَ قُلُوبِنَا من سحائب برِّكْ وإحسانِكْ وأن توفقنا لمِوجبات رحمتك وعزائِمَ مغفرتك إنكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.
اللهم إنَّا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة.
اللهُمَّ إنا نسألك باسمك الأعظم الأغرَّ الأجلَّ الأكرم الذي إذا دُعيت به أجبت وإذا سُئِلْتَ به أعطيْتَ.
ونسألُك بوجهكَ الكريمِ أكرم الوجُوه، يا من عَنَتْ لهُ الوجوهُ، وخضعتْ لهُ الرقاب، وخشعتْ لهُ الأصواتُ، يا ذا الجلالِ والإكرام.
يا حيُّ يا قيُّومُ، يا مالك الملك، يا من هُوَ على كُلِّ شيءٍ قديْرٌ، وبكل شيءٍ عليمِ، لا إله إلا أنْتَ، برحْمِتكَ نستغيْث، ومِن عذابِكَ نستجير.
اللهم اجعلنا نخشاكَ حتَّى كأننا نَراكَ، واسْعِدْنا بتقْواك، ولا تُشْقِنَا بِمَعْصِيتَك.
اللهم إنك تسمعُ كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا وعلانيتنا لا يخفى عليك شيءٌ من أمرنا نحن البؤساءُ الفُقراءُ إليك، المُسْتغيثُون المُستجيرون الوجلُون المشفقُون المعترفُون بذُنُوبنا.
نسألك مسألة المسكين، ونبتهلُ إليك ابتهالَ المذنبِ الذَّليْل، وندعُوْك دُعاء الخائف الضرير.(1/352)
اللهم يا من خضعتْ لهُ رقابِنَا، وفاضَتْ له ُعباراتُنَا، وذَلَّت له أجسامنا، ورغمتْ لهُ أنوفُنَا لا تجعلنا بدُعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفًا يا خير المسئولين.
اللهم إنا نسألُك نفسًا مطمئنةً، تُؤمنُ بلقائِكْ وترضَى بقضائِكْ، وتَقْنَعُ بعطائكْ، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُكَ التوفيق لما تُحِبُّه مِن الأعمالِ، ونسألُك صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَّنِّ بك يا ربَّ العالمين.
اللهم اجعلنا مِن عبادِكَ المُخْبِتين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبَّلِين.
اللهم إنا نسألُك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيَّة، وعيشةٍ نقية، وميتةً سوية، ومردًا غير مُخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
{ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يا وَدُوْدُ يا ذا العرش المجيد يا مُبْدِئُ يا مُعيد، يا فعالٌ لما تُريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوفٌ رحيم.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبدالعزيز بن محمد بن سلمان.(1/353)