المجمع العلمى لبحوث القرآن والسنة
مؤسسة د/ أحمد شوقى إبراهيم العلمية
بحث حول قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -
" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
الباحث :
د . صيدلى / جمال محمد الزكي
سيف الدين ـ الزرقا ـ دمياط ـ مصر
ت : 690145 / 057
690169 / 057
محمول : 0164003360
E-Mail : Gamalziki@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له ، نحمده حمد الشاكرين ، ونشكره شكر الحامدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له صفات الكمال والجلال والجمال وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأسوة الحسنة كان خلقه القرآن فاجتمع فيه خصال الكمال ما لايحيط به حد ولا يحصره عد ، أما بعد :
لقد كانت العرب أحسن الناس أخلاقاً بما بقى عندهم من الشرائع السماوية السابقة ولكنهم ضلوا بالكفر عن الكثير منها وبقيت عندهم أثارة من هذه الفضائل ، فجاء الإسلام لا ليهدم هذه الفضائل الخلقية ولكن ليتبنى كل الفضائل المعروفة وغير المعروفة لديهم ويوازن وينسق بينها ، ويقلد كل فضيلة المكانة اللائقة بها ضمن رسالته الكاملة الصالحة والمصلحة للحياة البشرية ويوسع مجال تطبيقها لكى يغطى كل نواحى الحياة : الفردية والجماعية للبشر كافة . فكانت رسالته - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً على أهمية الأخلاق وإقامتها فى التعامل مع الخالق جل وعلا أولاً ، ثم فى التعامل مع المخلوق ؛ سواء أكان الإنسان وغيره من الناس ، أو الإنسان ونفسه ، أو الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (1)
ولقد امتدت هذه الأخلاق لتشمل علاقتها كل نواحى الحياة . فهناك علاقة العقيدة بالأخلاق ، وعلاقة الشريعة بالأخلاق ، وعلاقة السلوك بالأخلاق ، وعلاقة الضمير بالأخلاق ....(1/1)
وإذا كان الإسلام قد جاء ليقوم ما هو معروف من أخلاق ، فإنه أيضاً جاء بمجموعة من الفضائل تتميز بأنها أخلاق معللة مفهومة ، ليست تحكمية مجردة من أى تفسير ... أخلاق وسطية متوازنة جامعة بين الدنيا والآخرة ، والروح والمادة ، والعقل والقلب ، والحق والواجب ... أخلاق واقعية تراعى حالة الإنسان .... أخلاق تمتاز بالشمولية فى مجال تطبيقها .... أخلاق لها أهمية بالغة فى ارتقاء السلوك الفردى وارتقاء القدرة المعنوية للأمم والشعوب كما أن لها الأهمية البالغة كونها ميزان للأفعال والتروك والتفاضل .
ولأهمية الأخلاق فقد عدها الدين ركن من أركانه لا يقوم إلا به فقد سئل - صلى الله عليه وسلم - ما الدين ؟ قال : " حسن الخلق " (2) ولذلك نجد أن أهمية ما يميزها أن مصدرها " الوحى " فهى قيم ثابته ومثل عليا تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه ، وأنها أخلاق عملية هدفها التطبيق الواقعى وأن مصدر الإلزام فيها هو شعور الإنسان بمراقبة الله تعالى ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال : " تقوى الله وحسن الخلق " (3)
ولقد جاءت أحكام الأخلاق وتكاليفها على أقسام ثلاثة : حقوق إلهية تتمثل بما يجب علينا من الإيمان بالله وطاعة أوامره ، وحقوق شخصية تتمثل بحقوق التملك والتصرف ضمن حدود الأخلاق ، وحقوق جماعية تتمثل بحقوق التعاون والدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ...
هذا ما دفعنى لاختيار موضوع البحث حول قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وقد هدفت من كتابته عدة أهداف :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مالك فى الموطأ بلاغاً . وقال ابن عبد البر : متصل الإسناد من طرق صحاح عن أبى هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - .
(2) أخرجه مسلم .(1/2)
(3) أخرجه الترمذى ( 4/363 ) برقم 2005 ، وحسنه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى (2/194)، وأنظر جامع الأصول (11/694)
1ـ بيان مفهوم الأخلاق الإسلامية وطبيعتها من حيث أن لها طابع إلهى فهى مراد الله تعالى ولها طابع إنسانى ، للإنسان دوره فى تحديد واجباته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر سلوكه المعبره عن القيم الأخلاقية .
2ـ بيان مجالات حسن الخلق من حيث صلة حسن الخلق بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى ، والصلة بين الإنسان ونفسه ، وبين الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى .
3ـ بيان أصول الأخلاق الإسلامية وهى أربعة : الحكمة والشجاعة والعفة والعدل .
4ـ بيان الأسس الإسلامية فى تقويم الأخلاق ، وبيان أن الأخلاق منها ما هو فطرى ومنها ما هو مكتسب . وبيان منهج الإسلام فى تنمية هذه الأخلاق ثم دور الأخلاق وأهميتها للمجتمعات .
5ـ بيان كمال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفاته الخلقية فى التوراة ، والإنجيل ، والقرآن . وبيان صفاته الخلقية عند معاصريه والتى جعلته مؤهلاً لحمل الرسالة .
خطة البحث :
من المنظور السابق لموضوع البحث ، فقد تضمن ثلاثة فصول رئيسية وخاتمة :
الفصل الأول : الأخلاق الإسلامية ، مفهومها ، طبيعتها ، مصادرها وأصولها .
…ويشتمل على خمسة مباحث :
المبحث الأول : مفهوم الأخلاق الإسلامية .
المبحث الثانى : طبيعة الأخلاق الإسلامية .
المبحث الثالث : مجالات الأخلاق الإسلامية .
المبحث الرابع : مصادر الأخلاق الإسلامية .
المبحث الخامس : أصول الأخلاق الإسلامية .
الفصل الثانى : الأسس الإسلامية فى تقويم الأخلاق .
…ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الأخلاق ، فطرية ومكتسبة .
المبحث الثانى : منهج الإسلام فى تنمية الأخلاق .
المبحث الثالث : ضرورة مكارم الأخلاق للمجتمعات .
الفصل الثالث : كمال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
…ويشتمل على مبحثين :(1/3)
المبحث الأول : أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الكتب السماوية .
…ويشتمل على تمهيد ومطلبين :
المطلب الأول : وصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - فى التوراة والأنجيل .
المطلب الثانى : وصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن الكريم .
المبحث الثانى : صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلقية عند معاصريه :
……أولاً : يصل الرحم
……ثانياً : يحمل الكل
……ثالثاً : يكسب المعدوم
……رابعاً : يقرى الضيف
……خامساً : يعين على مصائب الحق
الخاتمة : وتتضمن أهم نتائج البحث ، وقائمة المراجع والمصادر ثم قائمة الفهرست .
هذا وكان منهجى فى البحث ما يلى :
1ـ الاعتماد على عون الله وتوفيقه ثم على الكثير من المراجع بمصادرها الأصلية للتأكد من صحة الروايات والأحاديث وعزوتها إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة والفقه وغيرها .
2ـ لم أهمل المصادر الحديثة ففيها من الرؤى والتحليلات ما أتاح لى الاستفادة الكبيرة منها والتزمت عند النقل من أى مصدر إلى الإشارة إليه وذكر طبعاته .
3ـ بينت مواضع الآيات بذكر اسم السورة ، ورقم الآية فى الهامش . وكل ما عرضته فى البحث قرنته بالآيات والأحاديث التى تثبته وتؤصله .
4ـ وما نقلته بنصه وضعته بين علامتي تنصيص ، ، وما تصرفت فيه بتغيير حرف من حروف العطف أو ضمير ، ونحوها كتبت فى هامش الصفحة أنظر كتاب كذا ... وما نقلته بالمعنى كتبت فى هامش الصفحة راجع كتاب كذا ... إلا أن تكون عبارة مشهورة فلم أشر إلى مرجعها لشهرتها .
والله تعالى أسأل أن يكون عملاً متقبلاً
وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم .
الباحث
د . صيدلى / جمال محمد الزكي
الفصل الأول
الأخلاق الإسلامية
مفهومها ، طبيعتها ، مجالاتها ، مصادرها وأصولها
ويشتمل على خمسة مباحث :
المبحث الأول : مفهوم الأخلاق فى الإسلام .
المبحث الثاني : طبيعة الأخلاق فى الإسلام .
المبحث الثالث : مجالات الأخلاق فى الإسلام .(1/4)
المبحث الرابع : مصادر الأخلاق فى الإسلام .
المبحث الخامس : أصول الأخلاق فى الإسلام .
المبحث الأول
مفهوم الأخلاق الإسلامية
يقتضى البحث أولاً أن نميز الأخلاق عن غيرها من الصفات الإنسانية وأن نميز أنواع السلوك التى هى آثار خلقية عن أنواع السلوك التى ليست آثاراً خلقية حتى لا يختلط علينا ما ليس من قبيل الأخلاق بما هو منها .
أولاً : الأخلاق لغة :
الأخلاق فى اللغة جمع خلق ، والخلق إسم لسجية الإنسان وطبيعته التى خلق عليها ، وهو مأخوذ من مادة ( خ ل ق ) التى تدل على تقدير الشئ .
يقول ابن فارس : ومن هذا المعنى ـ أى تقدير الشئ ـ الخلق : هو السجية لأن صاحبه قد قُدَّر عليه . يقال : فلان خليق بكذا : أى قادر عليه وجدير به ، وأخلق بكذا أى ما أخلقه ، والمعنى هو ممن يقدر فيه ذلك ، والخلاق : النصيب لأنه قد قدر لكل أحد نصيبه (1)
ويقول ابن منظور : الخُلُق : السجية .. فهو بضم الخاء وسكونها الدين والطبع والسجية (2) .
ثم يفسر ذلك بقوله : وحقيقته ، أنه لصورة الإنسان الباطنة ، وهى نفسه ، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة (3)
وقال الراغب الأصفهانى : الخَلْقُ والخُلُق فى الأصل واحد لكن خص الخَلْقُ بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر ، وخص الخُلُقُ بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة (4)
والخلاق : ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه (5) قال تعالى : ( مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) (6)
والخلاق أيضاً قيل : النصيب ، وقيل : الدين ، وقيل : القوام ، وقيل الخلاص ، وقيل القدر (7)(1/5)
قال سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (8) والخلق هنا ـ كما يقول الطبرى ـ الأدب العظيم ، وذلك أدب القرآن الذى أدبه الله به وهو الإسلام . وعن مجاهد فى قوله " خلق عظيم " قال : الدين . وعن عائشة رضى الله عنها : عندما سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان خلقه القرآن " (9)
قال قتادة : تقول : كما هو فى القرآن . (10)
وقال الماوردى : فى الخلق العظيم ثلاثة أوجه : أحدها : أدب القرآن ، والثانى : دين الإسلام ، والثالث : الطبع الكريم وهو الظاهر . قال : وحقيقته الخُلُق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب ، سمى بذلك لأنه يصير كالخِلْقه فيه (11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقاييس اللغة ، أحمد ابن فارس (2/214) ، دار الجيل ، بيروت ط1 بدون (ت)
(2) لسان العرب لابن منظور ( 2/244 ) ، دار صادر ، بيروت ……(3) لسان العرب (2/245)
(4) المفردات فى غريب القرآن ، الراغب الأصفهانى صـ164 ، المكتبة التوفيقية ( بدون تاريخ )
(5) المفردات صـ 164…(6) البقرة 102…(7) تفسير البحر المحيط ، لابن حيان (1/503) ، عالم الكتب للطباعة ط1 1989م .
(8) القلم 4……(9) أخرجه مسلم مطولاً ح (746) ……
(10) تفسير الطبرى ، الإمام الطبرى (28/13) ، دار إحياء التراث بدون (ت)
(11) تفسير الماوردى ( النكت والعيون ) أبو الحسن البصرى الماوردى (6/61ـ62) ، دار الكتب العلمية .
ومن خلال هذا العرض اللغوى يمكن ملاحظة ثلاثة أمور هى :
1ـ الخلق يدل على الصفات الطبيعية فى خلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة .
2ـ تدل الأخلاق على الصفات المكتسبة حتى أصبحت كأنها خلقت فيه فهى جزء من طبعه .
3ـ أن للأخلاق جانبين : جانب نفسى باطنى ، وجانب سلوكى ظاهرى (1)
ثانياً : الأخلاق اصطلاحاً :(1/6)
قال الجرجانى : " الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة سميت الهيئة : خُلقاً حسناً ، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سُمَّيت الهيئة التى هى مصدر ذلك خلقاً سيئاً ، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك فى نفسة " (2)
ويذهب الجاحظ إلى " أن الخلق هو حال النفس ، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار ، والخلق قد يكون فى بعض الناس غريزة وطبعاً ، وفى بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد ، كالسخاء قد يوجد فى كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل ، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة " (3)
أما الماوردى فقال : الأخلاق " غرائز كامنة ، تظهر بالاختيار ، وتقهر بالاضطرار " (4)
ولكن الإمام ابن تيمية كان أكثر شمولاً فى تعريفه للأخلاق حيث ربطها ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الإيمان حيث أن مفهوم الأخلاق يقوم على عدة عناصر هى :
1ـ الإيمان بالله وحده خالقاً ، ورازقاً بيده المُلك ( توحيد الربوبية ) .
2ـ معرفة الله سبحانه وتعالى ، معرفة تقوم على أنه وحده ـ سبحانه ـ المستحق للعبادة ( توحيد الألوهية ) .
3ـ حب الله سبحانه حباً يستولى على مشاعر الإنسان ، بحيث لا يكون ثمة محبوب مراد سواه سبحانه .
4ـ وهذا الحب يستلزم أن يتجه الإنسان المسلم نحو هدف واحد هو تحقيق رضا الله سبحانه ، والالتزام يتحقيق هذا الرضا فى كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة .
5ـ وهذا الاتجاه يستلزم من الإنسان سمواً عن الأنانية وعن الأهواء ، وعن المآرب الدنيا ، الأمر الذى يتيح له تحقيق أو الاقتراب من الرؤية الموضوعية والمباشرة لحقائق الأشياء ، وهذه جوهرية فى الحُكم الخلقى .(1/7)
6ـ وعندما تتحقق الرؤية المباشرة والموضوعية للأشياء والحقائق ، يكون السلوك والعمل خُلقاً من الدرجة الأولى .
7ـ وعندما يكون العمل خُلقاً من الدرجة الأولى ، نكون ماضين فى طريق تحقيق أو بلوغ الكمال الإنسانى (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علم الأخلاق الإسلامية ، مقداد يالجن صـ34 ، ط1 الرياض 1413هـ . (2) التعريفات للجرجانى صـ104 ، مكتبة القرآن بدون تاريخ
(3) تهذيب الأخلاق ، للجاحظ صـ12 ، دار الصحابة للتراث ط1 1410 هـ / 1989 م
(4) تسهيل النظر وتعجيل الظفر ، الماوردى ، تحقيق رضوان السيد ، صـ5 ، دار العلوم العربية للنشر ط1 1987 م .
(5) النظرية الخلقية عند ابن تيمية ، محمد عبد الله عفيفى صـ58ـ59 ، مطابع الفرذدق التجارية ، الرياض ط1 1408هـ / 1988م .
أما د/ عبد الرحمن الميدانى فقد قسم الأخلاق إلى نوعين : خلق محمود ، وخلق مذموم فقال :
الخلق المحمود : صفة ثابتة فى النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادى محمود عند العقلاء . كالأخذ بالحق أو الخير أو الجمال وإن خالف الهوى وترك الباطل والشر والقبح وإن وافق الهوى أو الشهوة .
ويمكن تمييز الأخلاق الحميدة عن غيرها بأنها كل سلوك فردى أو اجتماعى تلتقى النفوس البشرية على استحسانه ، مهما اختلفت أديانها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها ومفاهيمها . ويلحق به ما كان أثراً من آثاره أو فرعاً من فروعه .
والخلق المذموم : صفة ثابته فى النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادى مذموم عند العقلاء . كالأخذ بالباطل أو الشر أو القبح ، وترك الحق أو الخير أو الجمال ، اتباعاً للهوى أو الشهوة .
ويمكن تمييز الأخلاق الذميمة عن غيرها بأنها كل سلوك فردى واجتماعى تلتقى النفوس البشرية على استقباحه واستنكاره ، مهما اختلفت أديانها ومذاهبها وعاداتها وتقاليدها ومفاهيمها ، ويلحق به ما كان أثراً من آثاره ، أو فرعاً من فروعه (1)(1/8)
ثالثاً : مكارم الأخلاق :
المكارم : حالة فى النفس راسخة تصدر عنها أفعال الخير من غير حاجة إلى فكر وروية . وقد صرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهدف من بعثته ، وحدده تحديداً بقوله فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد والخرائطى فى مكارم الأخلاق ، والبيهقى فى شعب الإيمان ، والبخارى فى الأدب المفرد ، وغيرهم عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " والحديث صحيح الإسناد وقد رواه مالك فى الموطأ بلاغاً بلفظ : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وهذه هى الصيغة المشهورة على ألسنة الناس : " لإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " والحديث وإن كان رواه مالك باللفظ الأخير بلاغاً أى : أن مالكاً قال : بلغنى ؛ فإسناده عند مالك منقطع إلا أن الإمام ابن عبد البر قال : وهو متصل من طرق صحاح عن أبى هريرة مرفوعاً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فحين يحدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هدف البعثة بهدف واحد : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ليس المعنى بطبيعة الحال أن الرسول فقط بعث لإقامة الأخلاق بين الناس ، إذ أن المتبادر من معنى كلمة الأخلاق بين الناس هو المعاملة فيما بينهم ، فالمقصود بالحديث أحد أمرين : إنما أن يكون هذا خرج مخرج التأكيد على أهمية الأخلاق كما فى قول الرسول عليه - صلى الله عليه وسلم - : " الحج عرفة " أى أن الوقوف بعرفة من أركان الحج ، ولا يتم الحج إلا بها ، وإما أن يكون المقصود بالأخلاق معنى أشمل مما هو متعارف عليه بين الناس ، فيكون معنى الأخلاق يعنى معاملة العبد مع ربه ، ثم معاملته مع نفسه ، ثم معاملته مع الخلق ، أى : معاملته مع الحق ، ومعاملته مع الخلق ، وبهذا المعنى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث فعلاً إلا لتقويم أخلاق الناس مع ربهم أولاً : اعتقاداً ، وعبادة ، ثم مع الخلق ثانياً .(1/9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى (1/16) ، دار القلم ، دمشق ط1 1399هـ / 1979 م .
يقول الزرقانى فى شرح الموطأ : قال الباجى : كانت العرب أحسن الناس أخلاقاً بما بقى عندهم من شريعة إبراهيم - عليه السلام - ، وكانوا ضلوا بالكفر عن كثير منها فبعث - صلى الله عليه وسلم - ليتمم محاسن الأخلاق ببيان ما ضلوا عنه وبما خص به فى شرعه ، قال ابن عبد البر : " ويدخل فيه الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعثه ليتممه " (1)
ويقول أبو الأعلى المودودى : والإسلام لا يقدم للمسلمين فضائل خلقية جديدة ، فذلك تجديد زائف ، كما أنه لا يهون من قيمة المعايير الأخلاقية المعروفة ـ قبل الإسلام ـ ولا هو يبالغ فى تقديره لبعضها ولا يهمل البعض لحساب سائرها . إنه يتبنى كل الفضائل الخلقية التى عرفتها البشرية معرفة صحيحة ، ويوازن وينسق بينها ويقلد كل فضيلة المكانة اللائقة بها والوظيفة المناسبة لها ضمن مخططه الكلى للحياة البشرية وهو يوسع مجال تطبيقها لكى يغطى كل نواحى الحياة الفردية والجماعية للبشر . (2)
رابعاً : حسن الخلق :
الحسن : الجمال ، وهو نعت لما حَسُن وحَسَن يحَسُن حُسناً فيهما فهو حاسِنُ ُوحَسَنُ ُ . قال الجوهرى : تقول قد حَسُن الشئ وإن شئت خففت الضمة فقلت : حَسَن الشئ والحُسَّان بالضم أحسن من الحَسَن ، وأحاسٍنْ القوم وحٍسَانُهم وفى الحديث " أحاسنكم أخلاقاً الموطأون أكنافاً " (3) وهى الحسنى .
والمحاسن فى الأعمال ضد المساوئ يقول تعالى : ( وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) (4) أى يدفعون بالكلام الحسن ما ورد عليهم من سئ غيرهم . (5)
أما اصطلاحاً : قال القزوينى : ومعنى حسن الخلق : سلامة النفس نحو الأرفق الأحمد من الأفعال ، وقد يكون ذلك فى ذات الله تعالى ، وقد يكون فيما بين الناس " (6)(1/10)
وقال الماوردى : حسن الخلق أن يكون سهل العريكة ، لين الجانب طلق الوجة قليل النفور ، طيب الكلمة (7)
المبحث الثانى
طبيعة الأخلاق الإسلامية
إن الأخلاق الإسلامية هى السلوك من أجل الحياة الخيرة وطريقة للتعامل الإنسانى ، حيث يكون السلوك بمقتضاها له مضمون إنسانى ويستهدف غايات خيرة . (8)
وقد عرفها بعض الباحثين المحدثين بأنها : عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنسانى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح الزرقانى على موطأ الإمام مالك ، محمد بن عبد الباقى الزرقانى (4/339) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى ، دار الحديث بالقاهرة 1427 هـ / 2006 م
(2) منهج الحياة الإسلامية ، أبو الأعلى المودودى صـ39 ، ترجمة د/ أحمد عبد الرحمن ، دار التوزيع ط1 1427هـ / 2006 م .
(3) رواه الطبرانى ، وصححه الألبانى فى الصحيحة . وفى كنز العمال ح (5166) .……(4) الرعد 22
(5) معجم مقاييس اللغة ، ابن فارس (2/57) ، ولسان العرب لابن منظور (13/115/117)
(6) مختصر شعب الإيمان للقزوينى صـ116 ـ 117
(7) غذاء الألباب ، شرح منظومة الآداب ، محمد السافرينى الحنبلى (1/353 ـ 354 ) ، دار القلم للطباعة والنشر ط1 2006 م
(8) موسوعة نضرة النعيم فى أخلاق الرسول الكريم ، مجموعة علماء (1/66) ، دار الوسيلة جدة ط1 1418هـ / 1998 م .
التى يحددها الوحى لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره على نحو تحقيق الغاية من وجوده فى هذا العالم على أكمل وجه (1)
ويقول : وللنظام الأخلاقى فى الإسلام طابعان مميزان :
الأول : طابع إلهى من حيث أنه مراد الله ، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان فى هذه الحياة رغبة الله فى خلقه ، ولذلك جاء الوحى بصورة هذا النظام .(1/11)
الثانى : طابع إنسانى من حيث إن هذا النظام عام فى بعض نواحيه يتضمن المبادئ العامة ، وللإنسان دوره فى تحديد واجباته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنسانى المعبرة عن القيم (2)
لذا تعد الأخلاق " روح الإسلام " حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " الدين حسن الخلق " (3) وقد صرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهدف من بعثته وحددها تحديداً واضحاً فى قوله " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .
ولذلك نجد أن أهم ما يميز الأخلاق الإسلامية الآتى :
1ـ أن مصدرها " الوحى " : ولذلك فهى قيم ثابتة ومثل عليا تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه . يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً " (4) .
2ـ أن الأخلاق الإسلامية أخلاق عملية : هدفها التطبيق الواقعى ، وبيان طرق التحلى بها . يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : " أربع إذ كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة فى طعمة " (5)
3ـ مصدر الإلزام فى الأخلاق الإسلامية هو شعور الإنسان بمراقبة الله تعالى . فقد سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : " تقوى الله وحسن الخلق " (6)
وروى الحاكم عن سهل بن سعد مرفوعاً : " إن الله يحب الكرم ويحب معالى الأخلاق ويكره سفاسفها " (7)
4ـ لا تحكم على الأفعال بظاهرها فقط ولكن تمتد إلى النوايا والمقاصد والبواعث التى تحرك هذه الأفعال الظاهرة يقول - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات " (8)(1/12)
5ـ مبادئها تقنع العقل وترضى القلب والوجدان ، فما من نهى شرعى إلا معه مسوغات ودوافع تحريمه يقول سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (9) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) (10) وكذلك الأخلاق الإسلامية تقبلها الفطرة السليمة ولا يرفضها العقل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التربية الأخلاقية الإسلامية ، مقداد يالجن صـ75 ، مكتبة الخانجى ، القاهرة ط1 1977م .
(2) المرجع السابق صـ75
(3) أخرجه مسلم (16/110)
(4) أخرجه البخارى ، كتاب الأدب ح 6029 ، ومسلم فى كتاب الفضائل ح 2321 واللفظ له .
(5) أخرجه أحمد فى المسند بسند جيد (2/177) ، وانظر صحيح الجامع الصغير للألبانى (1/301) رقم 886 .
(6) أخرجه الترمذى (4/363) برقم 2005 وحسنه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى (2/194) ، وانظر جامع الأصول (11/694) .
(7) أخرجه الحاكم ( 1/ 48 ) وقال صحيح الإسناد واللفظ له ، والطبرانى فى الكبير (6/181) رقم 5928 .
(8) أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ح1 ، ومسلم فى كتاب الإمارة (1907/ 155)
(9) الإسراء 32……(10) المائدة 90 ـ 91
ولذلك فإن الأخلاق الإسلامية تمتد علاقتها لتشمل كل نواحى الحياة : فهناك علاقة العقيدة بالأخلاق ، وعلاقة الشريعة بالأخلاق ، وعلاقة السلوك بالأخلاق ، وعلاقة الضمير بالأخلاق :
أولاً : العقيدة والأخلاق :(1/13)
الأخلاق فى الإسلام تعتمد على أهداف العقيدة الإسلامية باعتبار أن العقيدة الإيمانية معيار توزن عليه الأعمال والأقوال وكافة التصرفات ، لحفظ كرامة الإنسان وصيانته وتحقيق سعادته فى حياته الدنيا والآخرة (1)
والأخلاق الإسلامية لا تصدر عن مصلحة مؤقته ذاتية ، ولما كانت الأخلاق تعتمد على أصل الشعور بها عند الإنسان ، بحيث يترجم عنها فى صورة أفعال أو انفعال أو لفظ ، فإن الإسلام يجعل الإنسان الأساس الذى تقوم عليه الأخلاق ، وهذه الأخلاق تهدف إلى تحقيق كرامة الإنسان بمراعاة طبيعته ، وقدراته ، وما سخر له فى السموات والأرض ، وبما أنزل عليه من كتب وما أرسل إليه من رسل ، وبذا تتحقق كرامة الإنسان ، ويتهيأ بها للعمل الصالح المحكوم بسياج العقيدة الصحيحة (2)
ولذلك كانت المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية تنحصر كلها فى حفظ حياة الإنسان وهى : المحافظة على الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال . (3) وجاءت الشريعة بوسائل للحفاظ عليها حسب أهميتها وتتمثل فى الحفاظ على الضروريات (4) والحاجيات (5) والتحسينات (6) .
والهدف من ذلك كله أن يعرف الإنسان الغاية من خلقه وهى معرفة الله عز وجل ولزوم موقف العبودية له حيث ينال بذلك الخلود فى جناته وظل مرضاته وهذه هى رابطة الحياة الآخرة بالدنيا (7)
ولما كان للأخلاق من علاقة وطيدة مع جانب العقيدة فقد ربط الله تعالى الإيمان بحسن الخلق فقال سبحانه : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) (8) وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أى المؤمنين أفضل إيماناً ؟ قال : " أحسنهم خلقاً " (9) وقال - صلى الله عليه وسلم - : " البر حسن الخلق " (10) فالبر صفة للعمل الأخلاقى وهو اسم جامع لأنواع الخير .(1/14)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موسوعة نضرة النعيم فى أخلاق الرسول الكريم (1/92) مرجع سابق .
(2) القيم الحضارية فى رسالة الإسلام ، محمد فتحى عثمان صـ42 ، الدار السعودية ط1 1402/ 1403 هـ
(3) الموافقات فى أصول الشريعة ، لأبى اسحق الشاطبى (2/6) ، المكتبة التوفيقية ، القاهرة بدون (ت)
(4) الضرورى : ما تقوم عليه مصالح الناس ولابد منه لاستقامة مصالحهم وإذا فقد اختل نظام حياتهم . وهى ترجع إلى حفظ خمسة أشياء : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .
(5) الحاجيات : الأمور التى تحتاج إليها الناس لرفع الحرج والمشقة عنهم وإذا فاتت لا يختل نظام الحياة ولكن يلحق الناس المشقة والضيق .
(6) التحسينات : الأمور التى تجعل أحوال الناس تجرى على مقتضى الأداب العالية والخلق القويم أى تجمل حياتهم وإذا فاتت لا يختل نظام الحياة ولا يلحق بالناس المشقة والضيق .
(7) راجع : ضوابط المصلحة فى الشريعة الإسلامية ، محمد سعيد البوطى صـ119 ـ 120 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ط4 1402هـ / 1982م .……(8) البقرة 177
(9) أخرجه الترمذى ح 1162 ، وأحمد فى المسند (2/250 ، 472 ) ، وابن حبان (1311) ، والحاكم (1/3) وسنده حسن .
(10) أخرجه الترمذى ح (2004) وقال صحيح غريب وقال محقق جامع الأصول (11/694) صحيح بشواهده .
والقاعدة الإيمانية فى الإسلام تدفع المؤمنين بها إلى أن يتحلوا بالفضائل الخلقية وأن يتخلوا عن الرذائل وأن يلتزموا فى حياتهم كل سلوك خلقى تدعو إليه مكارم الأخلاق وتعد على ذلك بالظفر برضوان الله واغتنام الأجر العظيم عنده سبحانه ، وتحذر من مغبة ممارسة الرذائل الخلقية المحظورة ، وممارسة ظواهرها فى السلوك وتنذر بسخط الله وبالعقاب الأليم عنده . ولذلك جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحياء شعبة من الإيمان وهو من مكارم الأخلاق (1)(1/15)
فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " (2)
ولذلك جاءت الأخلاق فى منهج العقيدة الإسلامية على أسمى درجات السمو والارتقاء لأن الله سبحانه وتعالى جعل نفسه " المثل الأعلى " لأخلاق المؤمنين ، وطلب منهم أن يتخلقوا على نمط ما أعلمهم من نفسه جل شأنه من : رحمة ، وود ، وحلم ، ووفاء بالعهد .... مع ملاحظة الفارق التام بين الخالق والمخلوق : ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (3) ففى جانبه سبحانه الكمال المطلق وهو وصف ثابت له سبحانه ، وفى جانب المخلوق الكمال نسبى إضافى .
وجعل سبحانه أيضاً " المثال البشرى الأعلى " وهم الرسل فى التخلق بما أمر ، وجعلهم خير قدوة وأحسن أسوة لقومهم وللناس أجمعين . (4)
ولما كان لله تعالى " الكمال المطلق " والرسل " المثال البشرى الأعلى " فقد أتيح للأخلاق أعلى قدر من السمو والثبات ، وصار الخلق هدفاً للمسلم يحرص عليه قربه لله تعالى وطلباً لرضاه .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم " (5)
ثانياً : الشريعة الإسلامية والأخلاق :
إن أحكام الشريعة وتكاليفها ـ إجمالاً ـ تنقسم إلى أقسام ثلاثة :
1ـ حقوق إلهية محضة : وتتمثل بما يجب علينا من الإيمان بالله ، والخضوع لجلاله وعبادته على ما يرضيه وطاعته فى أوامره ونواهيه .
2ـ حقوق شخصية : وتتمثل بحقوق التملك ، والتصرف ضمن حدود الخير ، وإدارة مملكة النفس وفق مصالحها العاجلة والآجلة وبالحقوق التى توجب على الإنسان أن يعمل لنفسه ما يكسب به السعادة الخالدة لها .(1/16)
3ـ حقوق جماعية : وتتمثل بحقوق التعاون والدعوة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والعدل ، وإقامة السلطان الصالح العادل ، وضبط المعاملات وحق الزكاة والصدقة (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (1/24/25) مرجع سابق .
(2) أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ح 9 ، ومسلم فى كتاب الإيمان (35/57، 58) ……(3) النحل 60
(4) راجع : الوسطية فى القرآن الكريم ، د/ على الصلابى ، صـ418 ـ 419 ، مكتبة الإيمان بالمنصورة ، ط1 بدون تاريخ .
(5) أخرجه الترمذى فى كتاب الإيمان ، باب ما جاء فى استكمال الإيمان (5/11) رقم 2612 .
(6) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (1/26ـ 27)
وبشى من التفصيل نوضح ارتباط هذه الأحكام بالأخلاق فى الآتى :
1ـ الحقوق الإلهية وهى الأحكام الاعتقادية والتعبدية ، فإن طاعة الله تعالى هى ظاهرة خلقية يدفع إليها أساس أولى من الأسس الأخلاقية ، وهو حب الحق وإيثاره ، لأن من تجب طاعته فحقه أن يطاع ومن يتمتع بخلق حب الحق وإيثاره فإن خلقه هذا يدفعه إلى تأدية هذا الحق لمستحقيه ، فهو إذن يؤدى حق الطاعة لمستحقيها فيعبد الله تبارك وتعالى حسب أمره ، وعلى ما يرضيه . وكذلك شكر المنعم ظاهرة خلقية يدفع إليها حب الحق وإيثاره وكذلك عدم الاستنكاف عن عبادة الله من فضائل الأخلاق . ولذلك وصف الله ملائكته بأنهم لا يستكبرون عن عبادته فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) (1)
2ـ ارتباط أحكام المعاملات المالية بالأخلاق : فالمعاملات المالية قائمة على أساس الحق والعدل ومن كان يتمتع بالحق والعدل يجد نفسه مدفوعاً بعامل خلقى للإلتزام بأحكام المعاملات المالية التى جاءت بها الشريعة الإسلامية (2)(1/17)
2ـ ارتباط أحكام المعاملات الاجتماعة بالأخلاق : فنظام الأسرة وحقوق أفرادها وواجباتهم قائمة على مبدأ التعاون بين أفرادها وتوزيع المسئوليات وفق مصلحة الجماعة كل بحسب وظيفته واستحقاقه . والتعاون مبدأ أخلاقى يدفع إليه الشعور بالحب تجاه الآخرين وكذلك الدافع الجماعى الذى يخفف من غلاء الأنانية الشخصية وكلا الأمرين من الأسس الأخلاقية العامة (3)
4ـ ارتباط أحكام الأحوال الشخصية بالأخلاق : وأحكام الأحوال الشخصية هى التى تنظم أحوال الزواج والطلاق والنفقة والميراث ، ... وهذه الأحوال ترجع إلى فئات : فمنها تنظيمات اجتماعية ، ومنها تنظيمات لضبط الحقوق المادية ، ومنها أمور تعبدية من قبيل تأدية حق الله على عباده ، ومنها ما يرجع إلى حق الإنسان على نفسه ، ومنها ما يرجع إلى حق الجماعة على الفرد .. وهذه كلها ذات دوافع أخلاقية ظاهرة .
5ـ ارتباط أحكام تنظيم العقود بالأخلاق : فالأصل فى تنظيم شكليات العقود والمعاملات أنه يهدف إلى ضمان الحقوق لأهلها ، وعدم تسرب الظلم والجور إليها وهى دوافع أخلاقية بالإضافة إلى كونها تنظيمات شرعية وتعليمات ربانية فكل تنظيم شكلى من شأنه أن يخدم غاية لابد أن نجده مرتبطاً بالأسس الأخلاقية .
6ـ ارتباط أحكام الآداب بالأخلاق : إن الآداب الأخلاقية ـ بالإضافة لكونها لوناً من ألوان الحكمة فى السلوك الشخصى الذى يمنع الإنسان بما فيه من جمال وذوق رفيع ـ فيها احترام وتقدير للآخرين وحسن تعامل معهم ، وفيها ابتعاد عن كل ما يجرح مشاعرهم التى تألف الجمال وتميل إليه . وهذا كله نابع من حب العطاء بوصفه أحد الأسس الأخلاقية العامة وكذلك خلق الشعور بالمحبة للآخرين ، وخلق الخير والحق وإيثاره . وكلها أخلاقيات ذات ارتباط وثيق بأحكام الآداب (4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأعراف 206……(2) المرجع السابق (1/30) ………(3) المرجع السابق (1/31)(1/18)
(4) راجع : الأخلاق الإسلامية وأسسها (1/32)
ثالثاً : السلوك والأخلاق :
تمتاز الأخلاق الإسلامية بشمولها لكل قطاع من قطاعات الإنسانية المختلفة ومن هذه القطاعات " السلوك الظاهر " وهى فى حقيقتها الصادقة تعبير عما فى داخل الإنسان من أخلاق .
والأخلاق تتناول السلوك سواء من جانبها الفردى أو الاجتماعى :
فمن الأخلاق التى تتناول جانب السلوك الفردى : الزهد المحمود ، التفاؤل ، النظام ، .....
ومن الأخلاق التى تتناول جانب السلوك الاجتماعى : الصدق ، والحلم ، والأمانة ، والصبر ، والعفة ، والتسامح ، والعفو ، والشجاعة ، والتواضع ، والوفاء ، وإكرام الضيف وعيادة المرضى ، ......
وهذه القاعدة ـ الأخلاق والسلوك الاجتماعى ـ تنبنى على : أن يعامل الإنسان الناس بما يحب أن يعامل . ولقد أبان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يومن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذى يحب أن يؤتى إليه " (1)
رابعاً : الضمير والأخلاق :
لقد أودع الله تعالى فى النفس الإنسانية ما تدرك به فضائل الأخلاق ورذائلها ، فالنفس الإنسانية منذ تسويتها وتكوينها أُلهمت فى فطرتها طريق الخير ، وطريق الشر . يقول سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (2) ويقول سبحانه : ( بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) (3) فالإنسان لدية بصيرة يحاسب بها نفسه محاسبة أخلاقية على أعماله .(1/19)
ويقول سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (4)
فالإنسان كما لديه أدوات الحس الظاهر لديه حس باطن يدرك به طريقى الخير والشر ، وهما النجدين الممتدان فى أرض حياته الدنيا ، يختار منهما لسلوكه ما يشاء ..... وهذا الحس الباطن يشمل ما تدركه الأفكار السليمة بموازينها التى فطرها الله عليها ، ويشمل ما تحس به الضمائر بمشاعرها الوجدانية التى فطرها الله عليها ومن ذلك يتكون فى الإنسان حسه الأخلاقى (5)
يقول الماوردى : وقد عرفت الإنسانية هذه المعايير ـ معايير الخير والشر ـ على امتداد العصور معرفة جيدة . فالخير والشر ليسا أشباحاً يطاردهما الإنسان ويتخبط فى مطاردتها . إنهما حقيقتان واقعيتان معروفتان ومفهومتان فهماً حسناً لكل إنسان . والحاسة الخلقية ملكة فطرية فى طبيعة الإنسان ذاتها ولهذا سميت الفضيلة فى المصطلح القرآنى بـ " المعروف " والمعروف هو : المعلوم جيداً وعلى العكس من هذا شئ غير معروف . ومعنى هذا أن البشر جميعاً يعرفون الفضيلة معرفة تمكنهم من الرغبة فيها ، ... ثم يقول : لذلك لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء ح 1884 .
(2) الشمس 7 ـ 10………(3) القيامة 14 ـ 15……
(4) البلد 4 ـ 10……(5) الأخلاق الإسلامية ( 1/ 74 )
يستطيع أن يُمْلى نفسه بأية طريقة من الطرق . هذه الحقيقة مذكورة فى القرآن فى قوله تعالى : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا )(1) (2)(1/20)
ولذلك كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى تعريفه للبر وتعريفه للإثم تعريفاً قيماً حيث قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " (3)
فحس النفس الإنسانية الخلقى بالإثم يكره فاعل الإثم أن يطلع عليه الناس لأنه يعلم أنهم يشعرون بمثل ما يشعر بحس خلقى فى أعماق نفوسهم أيضاً . وهذا الحس الأخلاقى هو ما أسماه المحدثين بـ " الضمير " .
عن وابصة بن معبد قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " جئت تسأل عن البر ؟ قلت نعم ـ فقال : " استفت قلبك " ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حال فى نفسك وتردد فى الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " (4)
فقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضائل الأخلاق تحت مسمى " البر " ، وجمع رذائل الأخلاق تحت مسمى " الإثم " فالبر يفعله الإنسان السوى وهو مطمئن القلب ، ومطمئن النفس ، أما الإثم فإن الإنسان السوى لا يقدم عليه وفى نفسه قلق منه ، وفى صدره تردد واضطراب ولذلك كان تأكيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدع الإنسان ما يريبه إلى ما لا يريبه ويدل عليه ما رواه الترمذى عن الحسن بن على بن أبى طالب - رضي الله عنه - قال : حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (5)
المبحث الثالث
مجالات حسن الخلق
إن الأخلاق الإسلامية ليست محصورة فى نطاق معين من نطاق السلوك البشرى ، وإنما تمتد مجالاتها لأبعد من ذلك بكثير فإن حسن الخلق كما يكون فى معاملة البشر يكون فى معاملة الخالق سبحانه وتعالى .
ولذلك فإن مجالات حسن الخلق ـ باعتبار علاقاتها ـ تنقسم إلى أربعة أقسام :
حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى .
حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وغيرة من الناس .
حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان ونفسه .(1/21)
حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى .
أولاً : حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى :
إن الفضيلة الخلقية فى هذا القسم تفرض على الإنسان كثيراً من السلوك الأخلاقى تجاه خالقه منها :
1ـ تلقى أخبار الله بالتصديق : بحيث لا يقع عند الإنسان شك ، أو تردد فى تصديق خبر الله تعالى ، لأن خبر الله تعالى صادر عن علم ، وهو سبحانه أصدق القائلين : ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ) (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشمس 8……(2) مفهوم الحياة الإسلامية ، أبو الأعلى المودودى صـ29 ـ 30
(3) أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ح (2553)
(4) صحيح : أخرجه الدارمى ، كتاب البيوع ح (2523) ، وأحمد فى مسنده (4/228) ح (17924)
(5) أخرجه الترمذى ح (518) وقال حسن صحيح ، والنسائى ح (2725) ، وأحمد فى المسند ، والحاكم فى المستدرك . (6) النساء 87
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها ، ومدافعاً عنها ، ومجاهداً بها وفى سبيلها (1) .
2ـ تلقى أحكام الله تعالى بالقبول والتنفيذ والتطبيق : فلا يرد شيئاً من أحكام الله ، فإذا رد شيئاً من أحكام الله فهذا سوء خلق مع الله عز وجل سواء ردها منكراً حكمها ، أو مستكبراً عن العمل بها ، أو متهاوناً بالعمل بها .
3ـ تلقى أقدار الله بالرضا والصبر : فأقدار الله تعالى منها ما يوافق رغبات الخلق ومنها ما لا يوافقهم ، ولذلك فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره ، هو أن يرضى الإنسان ويستسلم ويطمئن ولهذا امتدح الله الصابرين بقوله : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (2) (3)(1/22)
فكل هذه الأنواع من السلوك أمور تدعو إليها الفضيلة الخلقية ، أما دواعى المعصية والكفر بالله تعالى فهى تستند إلى مجموعة من رذائل الأخلاق ، منها الكبر ومنها ابتغاء الخروج على طاعة من تجب طاعته ـ استجابة لأهواء الأنفس وشهواتها ، ومنها نكران الجميل وجحود الحق ولذلك قال الله عنهم : ( إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (4)
ثانياً : حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وغيرة من الناس :
حسن الخلق مع المخلوق عرفه الحسن البصرى ـ رحمه الله ـ بقوله : كف الأذى، وبذل الندى ، وطلاقة الوجه.
ففى كف الأذى : فقد أعلن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرمة أذية المسلم بأى نوع من أنواع الأذى فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن دماءكم وأموالكم ، وأعراضكم حرام ، كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " (5) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " (6)
وبذل الندى : الندى هو الكرم والجود ، يعنى أن تبذل الكرم والجود . وهى خلق أصيل من أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - . عن جابر بن عبد الله قال : " ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال " لا " (7)
و عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً ، وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبى طلحة عري ، فى عنقه السيف ، وهو يقول : " لم تراعوا ، لم تراعوا " (8)(1/23)
وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس ، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن . فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة " (9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع : مكارم الأخلاق ، محمد بن صالح العثيمين صـ4ـ5 ، مكتبة الرشد بالرياض / السعودية د
(2) البقرة 155 ـ 156 ……(3) المرجع السابق صـ 5 ـ 7……(4) النحل 22
(5) أخرجه البخارى فى كتاب العلم ح (67) ومسلم فى كتاب القسامة ح (29 ، 30 ، 31 )
(6) متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ح (10) ، ومسلم فى كتاب الإيمان (40/64) .
(7) أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ح 6034 ، ومسلم فى كتاب الفضائل ح 2311 واللفظ له . وأحمد فى المسند (3/307)
(8) أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير ح (2820 ) ، ومسلم فى كتاب الفضائل ح 2307 واللفظ له .
(9) أخرجه البخارى كتاب بدء الوحى ح 6 واللفظ له ، ومسلم كتاب الفضائل ح 2308 .
أما طلاقة الوجه : وهو إشراقه حين مقابلة الخلق وهو ضد العبوس . ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " (1)
ثالثاً : حسن الخلق فى الصلة بين الإنسان ونفسه :
وصور السلوك الأخلاقى فى حدود هذا القسم كبيرة فمنها : الصبر على المصائب ، والأناة فى الأمور ، وإتقان العمل ، وعدم استعجال الأمور قبل أوانها وكل ذلك يدخل فى حسن إدارة الإنسان لنفسه وحكمته فى تصريف الأمور المتعلقة بذاته . (2)
رابعاً : حسن الخلق فى الصلة بين الإنسان وغيره من المخلوقات :
إن حسن الخلق فى الإسلام يمتد ليشمل كل الكائنات الحية ، فى الرحمة بها والرفق فى معاملتها ، وتأدية حقوقها الواجبة ولذلك غفر الله لبغى فى كلب سقته ، ودخلت امرأة النار فى هرة حبستها .(1/24)
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بينما كلب يُطيف بركيَّه ـ يدور حول بئر ـ كاد يقتله العطش ، إذ رأته بغىُّ ُ من بغايا بنى إسرائيل فنزعت موقها ـ خفها ـ فسقته فغفر لها به " (3)
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عذبت امرأة فى هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار ، لا هى أطعمتها وسقتها ، إذ حبستها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض " (4)
ولقد جمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حديث شريف قواعد السلوك الكبرى التى ترشد إلى المنهج الخلقى العام والشامل لجوانب العلاقة : علاقة الإنسان بربه ، وعلاقته بنفسه ، وعلاقته بالناس فى الحديث الذى رواه الترمذى بإسناد حسن عن أبى ذر وعن معاذ بن جبل رضى الله عنهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " (5)
فالقاعدة الأول : " اتق الله حيثما كنت " وهى تدعو إلى الواجب الأخلاقى بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربه . هو تقوى الله فى كل مكان : ظاهر أو خفى ، أى فى العلن والسر ، وفيها تكمن الروح الأخلاقية السامية البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة وطلب المدح والثناء ....
القاعدة الثانية : " واتبع السيئة الحسنة تمحها " وهى تدعو إلى الواجب الأخلاقى بالنسبة إلى علاقة الإنسان مع نفسه ، ففيها منهج إصلاح وتقويم للنفس البشرية بعد سقوطها بارتكاب رذائل الأخلاق بالعودة إلى محاسن الأخلاق وهذا يدل على أن لمحاسن الأخلاق ـ الحسنات ـ قوة سبق على رذائل الأخلاق ـ السيئة ـ بعد أن أصاب النفس ما أصابها من أدناس .
القاعدة الثالثة : " وخالق الناس بخلق حسن " وهى تدعو إلى الواجب الأخلاقى بالنسبة إلى علاقة الإنسان وسلوكه مع الناس ، أن يكون بالخلق الحسن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/25)
(1) أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ح 2626 .
(2) الأخلاق الإسلامية وأسسها (1/59) .
(3) أخرجه البخارى كتاب أحاديث الأنبياء ح 3467 ، ومسلم فى كتاب السلام ح (2245) .
(4) أخرجه البخارى فى كتاب الشرب والمساقاة ح (2365) ومسلم فى كتاب السلام ح (2243) .
(5) أخرجه الترمذى ح (1987) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
المبحث الرابع
مصادر الأخلاق الإسلامية
إن أى عمل يوجه إليه الإسلام لابد وأن يكون موصوفاً بالصفة الخلقية ، فالواجب والخير وغيرهما يقومان على فكرة القيمة ، التى تستمد من مثل أعلى ، وفى الأخلاق الإسلامية فإن الوحى ـ قرآناً وسنة ـ والعقل يعتبران المصدر الأساسى للإلزام الخلقى جنباً إلى جنب باعتبارهما مستويين للمصدر الخلقى (1)
فالمصدر الأول : الوحى الإلهى ـ قرآناً وسنة ـ :
الأخلاق الإسلامية آداب ربانية ، بمعنى أن الوحى الإلهى هو الذى وضع أصولها وحدد أساسياتها ، فالقرآن يحتوى على آيات تتصل بأحكام العقيدة والأخلاق ، والأعمال الصادرة عن المكلف وتسمى بالأحكام العملية وتنتظم على فرعين : العبادات والمعاملات ولذلك كان القرآن هو المصدر الأساسى للإلزام الأخلاقى .
فالقرآن يعتنى ويهتم بتوضيح السمات الأساسية لخلق المسلم ، من الإحسان بالوالدين ، وبذوى القربى ورعاية اليتيم وإكرام الجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ، والخدم والعناية بالفقراء والمساكين وتحرير الرقاب والصدق فى القول والإخلاص فى العمل وغض البصر وحفظ الفرج والتواصى بالحق والتواصى بالصبر والتواصى بالرحمة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وأداء الأمانات إلى أهلها واجتناب الموبقات من الشرك والسحر والقتل والزنى والسكر والربا وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات المؤمنات والتولى يوم الزحف وغيرها من كبائر الإثم وفواحشه إلى غير ذلك من الأخلاق الإيجابية والسلبية الفردية والاجتماعية . (2)(1/26)
يقول أبو الأعلى المودودى : النظام الأخلاقى فى الإسلام يجعل الوحى المصدر الأوَّلى للمعرفة الأخلاقية ضِمنَ الإسلام للمعايير الأخلاقية الثبات والخلود . هذه المعايير تفسح مجالاً معقولاً للتكيف والتجديد ، لكنها لا تدع فرصة للتحريفات والاختلافات الواسعة المدى ولا للنسبية ولا للتفلت الأخلاقى ، ولا للتنافر بين عناصر الأخلاق . (3)
وغاية الأمر فإن القرآن يحتوى على النسق القيمى الإسلامى بأبعاده المتعددة ، فهذا المصدر الأول للإلزام الخلقى ، وهو جامع لكل ما تحتاج إليه البشر من موعظة حسنة لإصلاح أخلاقهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة والحكم البالغة لإصلاح خبايا النفوس وشفاء أمراضها الباطنة وهداية واضحة للصراط المستقيم ، الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة وهذا مقتضى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (4) (5)
فضلاً عما زخرت به السنة من آداب تتعلق بالأكل والشرب واللباس والتجمل والنوم والتغطية والدخول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موسوعة نضرة النعيم فى أخلاق الرسول الكريم (1/100)
(2) أنظر الخصائص العامة فى الإسلام ، د/ يوسف القضاوى ، صـ43 ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ط3 1415هـ / 1985 م .
(3) منهج الحياة الإسلامية ، أبو الأعلى المودودى صـ38 .
(4) يونس 57……(5) موسوعة نضرة النعيم (1/101) .
والخروج والسفر والعودة والتحية والاستئذان حتى العطاس والتثاؤب وقضاء الحاجة وقضاء الشهوة .... فالسنة زاخرة بالأخلاق ، ولا غرو فهى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - والمجتمع الإسلامى المعاصر له ولأنها مصدر تشريعى لهذه الحياة كانت بالتوجيه ملازمة للقرآن الكريم وبالتالى فإن اعتبارها مصدر الإلزام الخلقى أمر واجب .
فالمصدر الثانى : العقل السليم :(1/27)
فالعقل السليم يرشد الإنسان إلى الأخلاق الحميدة السليمة واجتناب الرذائل وقد ذكر القرآن الكريم الكثير من البراهين العقلية التى تحتاج إلى تدبر وتفكر وإعمال كل ملكات العقل لمعرفة الحكمة فى كثير من العبادات والمعاملات من ذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) ومع هذا يظل العقل ناقصاً ، وغير قادر على تحقيق الكمال الإنسانى المنشود ومن ثم يأتى دور الشرع ليكمل الفطرة ويقوَّوم العقل ، ويرشد أحكامه ، وبذلك تصبح معالم الشرع وتوجيهاته مع صحة النظر العقلى ركائز تتظافر فى بناء الكمال الخلقى للإنسان .
المبحث الخامس
أصول الأخلاق
إن أمهات الأخلاق وأصولها ـ كما يقول الغزالى ـ أربعة : الحكمة ، والشجاعة والعفة والعدل .
ونعنى بالحكمة : حال للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ فى جميع الأفعال الاختيارية .
ونعنى بالعدل : حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة وتضبطها فى الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها .
ونعنى بالشجاعة : كون قوة الغضب منقادة للعقل فى إقدامها واحجامها .(1/28)
ونعنى بالعفة : تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع . فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها ، إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأى وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس ، ومن إفراطها تصدر الجريرة ـ الخبث ـ والمكر والخداع والدهاء ومن تفريطها يصدر البله والغمارة والحمق والجنون ...... وأما خلق الشجاعة فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتؤدة وأمثالها وهى أخلاق محمودة ، وأما إفراطها وهو التهور فيصدر منه الصلف والبزخ والاستشاطة والتكبر والعجب ، وأما تفريطها فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الواجب .
أما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع ، وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقصير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك ، فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة وهى : الحكمة والشجاعة والعفة والعدل والباقى فروعها ، ولم يبلغ كمال الاعتدال فى هذه الأربع إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 90…(2) إحياء علوم الدين ، للإمام الغزالى (3/47) ، دار الحديث ، القاهرة 1419هـ / 1998 م
الفصل الثانى
الأسس الإسلامية فى تقويم الأخلاق
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الأخلاق ، فطرية ومكتسبة .
المبحث الثاني : منهج الإسلام فى تنمية الأخلاق .
المبحث الثالث : ضرورة مكارم الأخلاق للمجتمعات .
المبحث الأول
الأخلاق ، فطرية ومكتسبة(1/29)
إن حظوظ الناس من الطبائع الفطرية تختلف وتتفاوت ، فتتفاوت حظوظهم من الذكاء الفطرى ، وحظوظهم الجسدية قوة وضعفاً وطولاً وقصراً .... فكذلك تتفاوت طبائعهم النفسية الخلقية وغير الخلقية وهو ما عبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذى : " إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى ، ألا وإن منهم البطئ الغضب سريع الفئ ، والسريع الغضب سريع الفئ ، والبطىء الغضب بطئ الفئ ، وشرهم سريع الغضب بطىء الفىء " (1)
وعن أبى موسى قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزْن والخبيث والطيب " (2)
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " (3)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الناس معادن " دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية وهذا الحديث الشريف يكشف عن أصلين جوهرين من أصول التكوين العام للناس :
الأصل الأول : ما يتعلق بالتكوين النفسى للناس : فيكشف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الناس ليسوا جميعاً كخليطة واحدة متماثلة من كل الوجوه ولكن بينهم فروق كبيرة من وجوه شتى وكل فرد منهم خليطة فذة لا تماثلها من كل الوجوه خليطة فرد آخر ولكن قد تقاربها وتشترك معها فى صفات كثيرة . ثم إن جميع الخلائط الفردية لأفراد الناس تشترك فى الصفات العامة الأساسية رغم الاختلاف بينها فى بعض العناصر على نظير ما نشاهده فى المعادن . ولذلك فإن خيارهم فى الجاهلية هم خيارهم فى الإسلام إذا استووا فى فهم الدين والفقه عن الله ، إذ التفاضل فى أصل التكوين سيظل ملازماً لهم .(1/30)
الأصل الثانى : يتعلق بالتكوين الروحى : " الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . فالأرواح فى أصل تكوينها مختلفة أيضاً فيما بينها فهى أصناف شتى وليست صنفاً واحداً وإن كانت تشترك فى صفات عامة تدخل تحت مسمى واحد أو نوع واحد (4)
وإن كان الناس مختلفون فى طبائعهم الخلقية فإن البعض منهم أخلاقه فطرية تظهر فيهم منذ أول حياتهم ومنذ نشأتهم ومنهم من يكون عنده استعداد فطرى لاكتساب الأخلاق عن طريق الكسب والمرونة وعلى ذلك يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين :
الأول : الأخلاق الفطرية .
وهى مكارم جبلَّية جبل عليها الإنسان تكون سجية وطبيعية له فلا يحتاج فى ممارسته إلى تكلف ولا يحتاج فى استدعائه إلى عناء ومشقة ولذلك قال النبى - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس : " إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناة " قال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذى فى كتاب الفتن ح (2192) وقال : حسن صحيح .
(2) أخرجه أبو داود ح (4693) ، والترمذى ح (2955) وقال : حسن صحيح ، وأحمد فى المسند .
(3) أخرجه مسلم فى البر والصلة ح (2638) ، وأبو داود فى الأدب ح (4834) .
(4) راجع : الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى ( 1/ 180 ـ 182 ) .
يارسول الله : أهما خلقان تخلقت بهما أم جبلنى الله عليهما ؟ قال : " بل جبلك الله عليهما " فقال : الحمد لله الذى جبلنى على خلقين يحبهما ورسوله " (1) .
وروى البخارى ومسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " قيل يا رسول الله : من أكرم الناس ؟ قال : أتقاهم فقالوا : ليس عن هذا نسألك ! قال : فيوسف نبى الله ابن نبى الله ابن خليل الله " قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فعن معادن العرب تسألونى ؟ خيارهم فى الجاهلية ، خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " (2)(1/31)
يقول المودودى : إن الحاسة الخلقية فطرية فى الإنسان وقد استخدمت على امتداد العصور بوصفها معيار السلوك الأخلاقى فزكَّت بعض الصفات وأدانت غيرها . وإذا كانت أحكام هذه الملكة الفطرية يمكن أن تتباين وتختلف من شخص إلى آخر ، فإن الضمير الإنسانى أصدر حكمه الثابت الذى لا يختلف لصالح بعض الصفات الأخلاقية واعتبرها خيّرة ، وأدان صفات أخرى وأعلن أنها سيئة أو شريرة . فمن ناحية الفضائل الأخلاقية ، نالت الثناء دائماً فضائل العدالة والشجاعة والصدق ولم يسجل التاريخ عهداً جديراً بالذكر نال فيه الكذب والظلم والخيانة ونكث العهد تأييد الضمير الإنسانى ورضاه (3)
الأصل الثانى : الأخلاق المكتسبة .
فكما أن هناك أخلاق فطرية ، كذلك بإمكان الإنسان اكتساب بعض الفضائل والأخلاق ، وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم والتصميم . والناس فى ذلك متفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم فى سلم الفضائل وهذا التفاوت لا ينافى وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار من الصفات الخلقية ووفق هذا الاستعداد جاءت التكاليف الشرعية بالتزام فضائل الأخلاق ، واجتناب الرذائل .
جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا رسول الله أوصنى قال : " لا تغضب " (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الشديد بالصرعة ؛ إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب " (5) .
وروى الخطيب عن أبى هريرة مرفوعاً : " إنما العلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، ومن يتحرَّ الخير يعطه ، ومن يتوقّ الشر يوقه " (6)
وروى الحاكم عن أبى أيوب مرفوعاً : " اللهم اغفر ذنوبى وخطاياى كلها ، اللهم واجبرنى ، اللهم اهدنى لصالح الأعمال والأخلاق فإنه لا يهدى لصالحها ولا يصرف عن سيئها إلا أنت " (7)(1/32)
يقول القاضى عياض ـ رحمه الله ـ : وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة ، والأداب الشريفة التى اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها وتعظيم المتصف بالخلق الواحد منها فضلاً عما فوقه وأثنى الشرع على جميعها وأمر بها ووعد السعادة الدائمة للمتخلقين بها ووصف بعضها بأنه من أجزاء النبوة وهى المسماة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسن : أخرجه أبو داود ح (5225) ، والبيهقى فى كتاب النكاح (7/102) ، وأورده التبريزى فى المشكاة (3/1328) .
(2) متفق عليه : أخرجه البخارى ح (3353) ، ومسلم ح (……)
(3) منهج الحياة الإسلامية ، لأبى الأعلى المودودى صـ27 .
(4) أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ح (6116) .
(5) أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ح 6114 ، ومسلم فى كتاب البر والصلة ح 107
(6) أخرجه الخطيب فى تاريخه (9/127) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - والطبرانى فى الكبير (19/395) عن معاوية - رضي الله عنه - وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع (1/2328)
(7) أخرجه الحاكم فى المستدرك ح (5942) عن أبى أيوب مرفوعاً
بحسن الخلق ، وهو الاعتدال فى قوى النفس وأوصافها ، والتوسط فيها دون الميل إلى منحرف أطرافها ، فجميعها قد كانت خلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على الإنتهاء فى كمالها والاعتدال إلى غايتها . (1)
المبحث الثانى
منهج الإسلام فى تنمية الأخلاق
لقد جاء الإسلام بمجموعة من الفضائل الخلقية تتميز بجملة من الخصائص هى :(1/33)
1ـ أخلاق معللة مفهومة : فهى ليست تحكمية غير معللة ولا مفهومة مجردة من أى تفسير . ولكنها جاءت معللة للأوامر كما فى قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (2) وقوله تعالى : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (3) وقوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (4)
2ـ أخلاق وسطية متوازنة (5) : فالإسلام جاء بالتوازن الأخلاقى جامعاً بين الدنيا والآخرة ، والروح والمادة ، والعقل والقلب ، والحق والواجب بعيداً عن الشهوانية المادية المجردة والرهبانية السلبية المصادمة للفطرة السليمة التى وقعت دائماً بين امتداد فاحش مدمر ـ الشهوانية ـ أو تقلص متلف مهلك ـ الرهبانية ـ فالقرآن أنكر الشهوانية المادية المجردة فقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (6) كما أنكر الرهبانية : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (7)
ولذلك كان من وسطية القرآن فى الجانب الخلقى جعل المولى عز وجل أمهات الأخلاق والفضائل واضحة فى أذهان المسلمين ، فأمهات الفضائل التى أمر الشارع بها ، وحث عليها معروفة منكورة ، وأمهات الرذائل التى حذر الشرع منها ، ونهى عنها معلومة غير مجهولة .(1/34)
يقول المودودى : والإسلام لا يدعو الناس لممارسة الفضيلة فحسب ، وإنما يدعوهم أيضاً ليقيموا الفضيلة ويمحوا الرذيلة ، ويدعوهم أيضاً إلى الدعوة إلى الخير ومنع الشر إنه يريد لحكم الضمير أن يسود ، ويوجب على المسلمين ألا يجعلوا دور الفضيلة ثانوياً ودور الشر أولياً فى حياتهم ..... والغاية الوحيدة التى تتأسس هذه الأمة من أجل بلوغها هى تحقيق الخيرات وتعزيزها ، واجتثاث الشرور ومحوها (8)
3ـ أخلاق واقعية : تراعى حالة الإنسان " البشرية " فلا تريده ملاكاً مطهراً جُبل على الطاعة ولكن عند الخطأ فُتحت له أبواب التوبة : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، القاضى عياض (1/89) ، المكتبة التوفيقية بدون (ت) .
(2) التوبة 103…(3) لقمان 17…(4) النور 30 …(5) الوسطية فى القرآن الكريم ، د/ على محمد الصلابى صـ432
(6) محمد 12…(7) الأعراف 32…(8) منهج الحياة الإسلامية صـ39 ـ 40……(9) الزمر 53
ولما كان كل ذلك كانت عناية الإسلام موجهه بالدرجة الأولى لتزكية النفس وتهذيبها بتنمية فطرة الخير لغرس فضائل الأخلاق فيها وتهذيب طبائع النفس حتى يتهيأ المناخ النفسى الصالح لتفجير منابع الخير فالإسلام لا يستثنى مجالاً من مجالات الحياة من تطبيق مبادئه الأخلاقية المطلقة الشاملة فيجعل السلطة العليا للأخلاق ، ويؤكد أن المعايير الأخلاقية يجب أن تنظم شئون الحياة بدلاً من تحكم الشهوات والأنانية والمصالح الضيقة .(1/35)
4ـ أخلاق تمتاز بالشمولية : يوسع الإسلام مجال تطبيق الأخلاق ليحتضن حياة الإنسان من المهد إلى اللحد فى كل قطاع من القطاعات الإنسانية المختلفة الداخلية والخارجية أخلاق ، للفكر أخلاق ، وللإعتقاد أخلاق ، وللقلب أخلاق ، وللنفس أخلاق وللسلوك الظاهر أخلاق ..... (1)
ولذلك كان منهج الإسلام فى تكوين القيم الخلقية يتأتى كما يلى :
أولاً : عرض المواقف الخلقية لجذب الإنتباه .
لقد عرض القرآن الكريم مواقف خلقية كثيرة وذلك لجذب انتباه الإنسان ، وإيقاظ إحساسه بالقيمة الخلقية فقد استخدم كافة الإمكانيات فى سبيل هذا الغرض بقصد الاستحواذ على انتباه المسلم ، وإثارة الرغبة فى الترقى ثم تأتى الاستجابة النشطة الطوعية النابعة من داخله (2)
والعبادة هى الأسلوب العلمى والوسيلة الأولى للتربية الخلقية :
فالصلاة : تربى الإنسان خلقياً وعقلياً ، فهى تربط الإنسان بالله ، كما أنها تقوى إرادة الإنسان وتعوده على ضبط النفس والمثابرة (3) يقول سبحانه : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (4) وكان من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى افتتاح الصلاة : " اللهم أهدنى لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت وأصرف عنى سوء الأخلاق لا يصرف سيئها إلا أنت " (5) .
كما أن تأدية الصلاة فى أوقاتها تعلم النظام والدقة فى حفظ المواعيد ، حتى إذا شب الطفل على إقامة الصلاة مع المحافظة عليها تعود الإقبال على العمل فى الوقت المناسب والمبادرة إلى انتهاز الفرصة قبل ضياعها وابتعد عن التثاقل وامتنع عن الكسل (6)(1/36)
والصوم : تربية خلقية على ضبط النفس ومكافحة الشهوات وتقوية الإرادة وحصول التقوى . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (2) وعن عائشة رضى الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " (8)
والزكاة : تربية روحية وخلقية على مكافحة الأنانية والشح البخل والإفراط وتطهير المال . ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (1/5) …(2) موسوعة نضرة النعيم ( 1/132 ـ 140 )
(3) نحو توحيد الفكر التربوى فى العالم الإسلامى ، محمد فاضل الجمال صـ105 ، الدار التونسية للطبع والنشر 1972 م .
(4) العنكبوت 45……(5) أخرجه مسلم ح (771) عن على بن أبى طالب - رضي الله عنه - .
(6) الترية فى الإسلام ، أحمد فؤاد الأهوائى صـ117 ، دار المعارف ، القاهرة ط2 1967 .
(7) البقرة 183……(8) أخرجه أبو داود ح (4798) ، والحاكم (1/60) ، وصححه ابن حبان ( 1927 ) .
(9) التوبة 103
والحج : تعويد للنفس على معان ، من استسلام وتسليم ، ومن بذل الجهد والمال فى سبيل الله ، ومن تعاون وتعارف ، ومن قيام لله بشعائر العبودية ، وكل ذلك له آثاره فى تزكية النفس (1) .
يقول سبحانه : ( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (2) ويقول سبحانه : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (3) .
ثانياً : تمجيد الإسلام لحسن الخلق والحث عليه .(1/37)
إن النصوص الإسلامية ـ قرآنا وسنة ـ توجه الاهتمام العظيم والعناية الكبرى لقيمة حسن الخلق فى الإسلام وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير .
فمن نصوص القرآن الكريم : قوله سبحانه : ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً ) (4) وقوله سبحانه : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) (5) وقوله سبحانه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (6) وقوله سبحانه : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) (7)
ومن الأحاديث الواردة فى حسن الخلق :
عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائكم خلقاً " (8)
وعن أبى أمامة الباهلى - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أنا زعيم ببيت فى ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت فى وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت فى أعلى الجنة لمن حسن خلقه " (9)(1/38)
ولقد تجلى حسن الخلق فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فعن عاشة رضى الله عنها أن يهود أتوا النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : السام عليكم ـ الموت ـ فقالت عائشة : عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم . قال : " مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش ......... " (10)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : " خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لى أفِ قط وما قال لشئ صنعته لم صنعته ، ولا لشئ تركته لم تركته ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً ، ولا مسست خزاً ـ ثوب من وبر دابة ـ قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المستخلص فى تزكية الأنفس ، سعيد حوى صـ65 ، دار السلام ، القاهرة ط10 1424 هـ / 2004م .
(2) البقرة 197…(3) الحج 22…(4) الإسراء 53…(5) المؤمنون 96…(6) فصلت 33 ـ 35……(7) لقمان 17ـ19
(8) أخرجه الترمذى ح 1162 واللفظ له وقال حديث صحيح (2615) ، وأحمد فى المسند ( 2/ 250 ، 472 ) وصححه ابن حبان ( 1311 ) ، والحاكم فى المستدرك (1/3) .
(9) أخرجه أبو داود ح 4800 . وقال النووى (233) : حديث صحيح بإسناد صحيح .
(10) جزء من حديث : أخرجه البخارى ح 6030 ، ومسلم ح 2165 .
(11) أخرجه البخارى ح 3561 ، ومسلم ح 2330 ، والترمذى ح 2015 واللفظ له .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " جمع النبى - صلى الله عليه وسلم - بين تقوى الله وحسن الخلق ، لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه ، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه ، فتقوى الله توجب له محبة الله وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته " (1)
ثالثاً : العلم .(1/39)
يقول ابن القيم فى مدارج السالكين : " وإنما يدرك إمكان ذلك ـ أى اكتساب الأخلاق ـ فى ثلاثة أشياء : فى العلم ، والجود ، والصبر .
فالعلم : يرشده إلى مواضع بذل المعروف ، والفرق بينه وبين المنكر ، وترتيبه فى وضعه مواضعه فلا يضع الغضب موضع الحلم ، ولا بالعكس ، ولا الإمساك موضع البذل ، ولا بالعكس . بل بعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق أين يضعه وأين يحسن استعماله .
والجود : يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه ، والإستقصاء منها بحقوق غيره فالجود هو قائد جيوش الخير .
والصبر : يحفظ عليه استدامة ذلك . ويحمله على الاحتمال ، وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، وعدم المقابلة ، وعلى كل خير ......(2)
فالعلم وسيلة لمعرفة أنواع الأخلاق الحسنة التى أمر بها الإسلام وأنواع الأخلاق الرديئة التى نهى عنها الإسلام وبدون العلم لا يدرى المسلم بأى خلق يتخلق ومن أى خلق يتجرد . (3)
رابعاً : ضرب الأمثال :
إن ضرب الأمثال وسيلة تربوية تلعب دوراً هاماً فى التأثير على سلوك الإنسان وفى غرس القيم الخلقية لدى النشىء المسلم فيما لو استعملت بحكمة وفى ظروف مناسبة . يقول سبحانه : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (4) ويقول سبحانه : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (5)
والرسول يؤكد هذه المعانى فى التربية الخلقية والروحية للمسلم . ففى الحديث الشريف عن أبى موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن مثل الأترجة ، ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن مثل التمر طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذى يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها " (6)
خامساً : الموعظة الحسنة والنصح .(1/40)
التربية بالوعظ لها دورها الهام فى غرس القيم الإسلامية بميادينها المختلفة ، وهى قد تكون فى صورة مباشرة على شكل نصائح (7) فالإنسان قد يصغى ويرغب فى سماع النصح من محبيه وناصحيه . فالنصح والوعظ يصبح فى هذه الحالة ذا تأثير بليغ فى نفس المخاطب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفوائد ، لابن قيم الجوزية صـ75 ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ـ لبنان بدون تاريخ .
(2) مدارج السالكين ، ابن قيم الجوزية (2/244) ، مكتبة الإيمان بالمنصورة 1419هـ / 1999 م .
(3) أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان صـ96 ، مؤسسة الرسالة ط9 1421هـ / 2001م .
(4) العنكبوت 43……(5) الحشر 21
(6) أخرجه البخارى ح 5020 ، ومسلم ح 797 ، والترمذى ح 2869 ، وأبو داود ح 4830 وغيرهم .
(7) موسوعة نضرة النعيم (1/142)
يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1)
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " (2)
سادساً : الأسوة الحسنة .
فالمربى أو الداعية ـ على وجه الخصوص ـيجب أن يكون قدوة ومثالاً يحتذى فى الأفعال والتصرفات ولذلك أشاد القرآن الكريم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة فقال سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3) وقال عن إبراهيم عليه السلام : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ )(4) .
ولقد استطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفضل تلك القدوة أن يحمل معاصريه قيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه ، لا بالأقوال فقط وإنما بالسلوك الواقعى الحى ، وقد حرص المسلمون على تتبع صفاته وحركاته ورصدها والعمل بها ، وما ذلك إلا حرصاً منهم على تمثيل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - . (5)(1/41)
وما امتازت التربية الإسلامية عبر عهودها إلا بصفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة ، ويوم أن فقدت وغابت عن بال الناس هذه الصفات فقدت فعاليتها فى حياتهم ولذلك فإن واجب التربية الخلقية هو توفير هذه القدوة حتى تعاود التأثير والإبداع .
سابعاً : البيئة الصالحة :
فمخالفة ذوى الأخلاق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم له الأثر الطيب فى نفس الجليس فيدفعه إلى اقتباس أخلاقهم . وقد ورد فى الحديث الشريف عن أبى سعيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقى " (6) ويقول - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن إلف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف " (7)
فالصحبة فى الله مبنية على التآلف والتحاب من أجل رضا الله وفى سبيله . فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى : " المتحابون فى جلالى لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء " (8)
ثامناً : التدريب العملى والتوجيه التربوى :
والتدريب العملى هو التدريب على مباشرة الأعمال الطيبة التى تساعد وتؤدى إلى تقويم الأخلاق ، وتسهل على النفس قبول الزكى منها والنفور من الخبيث منها . وهذا هو الواقع التطبيقى للعلم .
وإذا كان الإنسان قد فقد التمييز بين ما هو زكى وما هو خبيث من الأخلاق فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى " قاعدة علمية " مرشدة للبصيرة الأخلاقية لدى الإنسان لمعرفة : هل هو إلى جانب الخير أو إلى جانب الشر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يونس 57
(2) ذكره الألبانى فى الصحيحة (927) وعزاه إلى صحيح الترمذى (2497) ، وأحمد (2/303 ، 334 ) وأخرجه أبو داود والحاكم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - . ……(3) الأحزاب 21……(4) الممتحنة 4……(5) موسوعة نضرة النعيم (1/143)(1/42)
(6) حسن : أخرجه أبو داود ح (4832) ، وللترمذى ح (2395) ، وأحمد فى المسند ح (2057) ، والحاكم فى المستدرك (4/128) وصححه الذهبى
(7) رواه أحمد فى المسند (2/400) والطبرانى ، والقصاعى ، والعسكرى مرفوعاً عن جابر - رضي الله عنه - ورواه الحاكم مرفوعاً عن أبى هريرة كتاب الإيمان (1/23) وقال صحيح على شرط الشيخين .
(8) أخرجه الترمذى فى كتاب الزهد ، ح (2390) ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " حجبت النار بالشهوات ، وحجبت الجنة بالمكاره " (1) وفى رواية مسلم " حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره " (2) فإذا كان السلوك من الشهوات التى تلذها الأنفس ، كان ذلك مرجحاً لجانب المنع على جانب الإباحة لأن النار حفت بالشهوات . وإذا كان السلوك من الأمور الثقيلة على الأنفس والمكروهة لها ؛ لأنه يخالف هوى من أهوائها أو شهوة من شهواتها كان ذلك مرجحاً لجانب الخير لأن الجنة حفت بالمكاره (3)
ومن أهم وسائل التدريب العملى لكسب الأخلاق :
1ـ محاسبة النفس :
قال ابن المقفع : ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلاً ، فإنك إن فعلت ذلك ، آتاك الخير يطلبك ، كما يطلب المال السيل إلى الحدورة ـ أى المكان المنحدر . (4)
فعلى العاقل أن يحصى على نفسه مساوئها فى الأخلاق ، ويحاسب نفسه عليها فكلما أصلح شيئاً محاه من نفسه .
يقول ابن حزم فى الأخلاق والسير : " فمنها ـ أى عيوبه ـ كلف فى الرَّضى ، وإفراط فى الغضب فلم أزل أداوى ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط وامتنعت مما لا يحل من الانتصار وتحملت كم ذلك ثقلاً شديداً وصبرت على مضض (5) مؤلم ، كان ربما أمرضنى وأعجزنى ذلك فى الرضى وكأنى سامحت نفسى ؛ لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤم .......(6)
2ـ تكلف الأخلاق الحسنة :(1/43)
فيتكلف الإنسان الأخلاق الحسنة التى يريد التخلق بها كما لو أراد أن يكون حليماً فإنه يأتى به تكلفاً مراراً حتى تألفه نفسه وتعتاده ويصير لها كالطبع وكالسجية ويؤيده ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه " (7)
يقول الغزالى فى الإحياء : الأخلاق على ضربين فمنها ما هو غريزى جبلى ، ومنها ما هو اكتسابى يأتى بالدربة والممارسة والرياضة والمجاهدة ، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات " (8)
وهذا المسك يحتاج إلى تكرار ودوام حتى يؤتى أثره . وهذا الدوام يستلزم الصبر فعلى الإنسان الذى يريد التخلق بنوع من الأخلاق الحسنة أن يتجمل بالصبر فإذا صبر وداوم انقادت نفسه وألفت الفعل (9)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتبع الأسلوب التربوى العملى : تعليماً وتدريباً وتوجيهاً ، تربية عملية تتحول بها الكلمة إلى عمل بناء أو إلى خلق فاضل ، أو إلى تعديل فى السلوك على النحو الذى يحقق وجود ذلك الإنسان المسلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخارى ، كتاب الرقاق ح (6487) .……(2) أخرجه مسلم ، كتاب الجنة ح (2822)
(3) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى ( 1/79 ـ 80 )
(4) الأدب الصغير والكبير ، عبد الله بن المقفع صـ10 ، شرح سعيد محمود عقيل ، دار الجيل ، بيروت ط 1 2001 م .
(5) المضض : وجع المصيبة .…………(6) الأخلاق والسير ، لابن حزم صـ33ـ34 ، دار الآفاق الجديدة ط1 1998 م
(7) أخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخه (9/127) ، والطبرانى فى الكبير (19/395) ، وحسنه الألبانى فى الصحيحة (342) وفى صحيح الجامع (1/2328)
(8) إحياء علوم الدين ، الإمام الغزالى (3/55) .……(9) أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان صـ100 ـ مرجع سابق .(1/44)
فالعبرة فى العلم التطبيق والعمل لا مجرد المعرفة ولذلك كان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " …مثل ما بعثنى الله به من الهدى والعلم ـ كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء ، ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثنى الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذى أرسلت به " (1)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغتنم فرصة التصرفات العملية التى تقتضى توجيهاً تربوياً وعملياً ليأخذ المسلمون منه درساً إيجابياً . فعن أبى ذر - رضي الله عنه - قال : كان بينى وبين رجل كلام ، وكانت أمه أعجمية ، فنلت منها ـ يعنى بالقول ـ فذكرنى إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أساببت فلاناً " ؟ قلت : نعم . قال : " أفنلت من أمه " ؟ قلت : نعم . قال : " إنك أمرؤ فيك جاهلية " قلت على حين ساعتى : هذه من كبر السن ؟ قال : نعم ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه فليعنه عليه " (2)
.
المبحث الثالث
ضرورة مكارم الأخلاق للمجتمعات
إن للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير فى حياة الأفراد والجماعات والأمم ، فمكارم الأخلاق ضرورة إنسانية لا يستغنى عنها مجتمع ولا أمة من الأمم ، ومتى فقدت الأخلاق تفكك أفراد المجتمع وتصارعوا وتناهبوا مصالحهم ولهذا فقد حفل القرآن الكريم واعتنى بها أيما عناية فقد بينت آياته أسس الأخلاق ومكارمها واعتنت السنة المطهرة بالأخلاق والمعاملات فكانت حقيقة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكارم الأخلاق أو صالح الأخلاق يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (3) .(1/45)
ويمكن أن نبين أهمية الأخلاق وضرورتها فيما يلى :
1ـ للأخلاق أهمية بالغة فى ارتقاء السلوك الفردى للأفراد :
للأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير فى سلوك الإنسان وما يصدر عنه بل نستطيع أن نقول : إن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر فى نفسه من معانِ وصفات .
يقول الإمام الغزالى ـ رحمه الله ـ : " فإن كل صفة تظهر فى القلب يظهر أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة ..... " (4)
فأفعال الإنسان إذن موصولة دائماً بما فى نفسه من معانِ وصفات . ومعنى ذلك أن صلاح أفعال الإنسان بصلاح أخلاقه .. ولهذا أكد الإسلام على صلاح النفوس وبين أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء ويسر وعسر ورخاء وضيق وطمأنينة وقلق وعز وذل .. كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من معانِ وصفات (5) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخارى ، كتاب العلم ح (79) ، ومسلم ، كتاب الفضائل (2282)…
(2) أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ح (5703) ……(3) الجمعة 2……
(4) أحياء علوم الدين ، الغزالى (3 / 57)……(5) أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان صـ79 ـ 80
يقول سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (1)
يقول الماوردى : إذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه وقل معادوه فتسهلت عليه الأمور الصعاب ولانت له القلوب الغضاب . (2)
فالأخلاق تعمل على ضبط الفرد لشهوته ومطامعه كى لا تتغلب على عقله ووجدانه ؛ لأنها تربط سلوكه وتصرفاته بمعايير وأحكام يتصرف فى ضوئها وعلى هديها فى الحكم على الخطأ والصواب والحسن والقبيح والخير والشر .... (3)(1/46)
ولذلك وصفت عائشة رضى الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولها : " ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاًبيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد فى سبيل الله وما نيل منه شئ قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شئ من محارم الله فينتقم لله عز وجل . (4) .
2ـ للأخلاق أهمية بالغة فى ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب :
فكما أن للأخلاق الأهمية الكبرى فى ارتقاء السلوك الفردى فإن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها فى سلم الأخلاق الفاضلة وأن إنهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم أيضاً لانهيار أخلاقها ، " وذلك لأن الأخلاق الفاضلة فى أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التى تعقد بها الروابط الاجتماعية ، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت فى الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد عليه " (5)
والأخلاق الاجتماعية تحدد للمجتمع أهدافه ومثله العليا ومبادئه الثابتة والمستقرة وتساعد على مواجهة المتغيرات التى تحدث فيه ، بتحديدها الاختبارات الصحيحة التى تسهل على الناس حياتهم وتحفظ لهم استقرارهم وكيانهم فى إطار موحد ، كما أنها تقى المجتمع من الأنانية الفردية ونزعات الشهوات الطائشة حيث تحمل الأفراد على التفكير فى أعمالهم على أنها محاولات للوصول إلى الأهداف فى غايات فى حد ذاتها .
كما أن الأخلاق تزود المجتمع بالصيغة التى يتعامل بها مع العالم وتحدد له أهداف ومبررات وجوده ، وتعطى نمطاً معيناً من الشخصيات الإنسانية القادرة على التكييف الإيجابى فى المجتمع سواء المحلى أو الدولى (6)(1/47)
فالأخلاق الإجتماعية قد سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بـ " صلاح ذات البين " . فعن أبى الدرداء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ " قالوا : بلى ، قال : " صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هى الحالقة " (7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرعد 11 .
(2) أدب الدنيا والدين ، الماوردى صـ237 ، مكتبة الإيمان بالمنصورة ( بدوت تاريخ ) .
(3) القيم الدينية وثقافة العولمة .د/ الصاوى أحمد صـ32، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ، العدد (121) 1426 هـ / 2005م .
(4) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ح 2328 .
(5) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (1/34 ـ 35) .
(6) القيم الإسلامية والتربية ، د/ على خليل مصطفى أبو العنين صـ37 ، مكتبة إبراهيم حلبى ، المدينة المنورة 1408هـ / 1988 م .
(7) أخرجه الترمذى ح (2509) وقال : حديث صحيح . ويروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ...... هى الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين "
وعن عياض بن حمار المجاشعى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " (1)
ومن الأخلاق الإجتماعية التى حث عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : الصدق : سواء الصدق فى الأقوال ، أو الصدق فى الأعمال ، او الصدق فى الأحوال (2)(1/48)
ولقد كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - أفضل مثال للإنسان الكامل الذى اتخذ الصدق فى القول والأمانة فى المعاملة خطاً ثابتاً لا يحيد عنه ، وقد كان ذلك فيه - صلى الله عليه وسلم - بمثابة السجية والطبع فعرف بذلك حتى قبل بعثته وكان لذلك يلقب بـ " الصادق الأمين " . وقد اتخذ - صلى الله عليه وسلم - الصدق الذى اشتهر به بين أهله وعشيرته مدخلاً إلى المجاهرة بالدعوة إذ أنه لما نزل قوله تعالى : ( َأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) جمع أهله وسألهم عن مدى تصديقهم له إذ أخبرهم بأمر من الأمور فأجابوا بما عرفوا عنه قائلين : ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب أليم " (4)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك فى الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة فى طعمة " (5)
ولذلك كان الصدق ـ بوصفه خلقاً ثابتاً فى الفرد المسلم ـ معقد من معاقد الروابط الاجتماعية تقوم عليه وتنعقد تقة المجتمع بما يُحدّث به ويخبر عنه فى كل المجالات والمعاملات .
ومن كبريات القواعد الأخلاقية والتى تعتمد عليها معظم الأخلاق الاجتماعية والتى وضعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - هى قاعدة : " معاملة الناس بما تحب أن يعاملوك به " . والتى عبر عنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " ...... فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الأخر ، وليأت الناس الذى يحب أن يؤتى إليه " (6)
وروى البخارى ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه كما يحب لنفسه " (7)(1/49)
ومن هنا يندفع المسلم إلى أن يكون صادقاً مع أخيه لأنه يحب أن يصدقه الناس ويكره أن يكذبوه وكذلك أميناً على حال أخيه وعرضه وشرفه لأنه يحب أن يعامله الناس بأمانة على ماله وعرضه وشرفه وكذلك فى كل الصفات الخلقية يجد المسلم نفسه مدفوعاً إلى أن يتعامل بها مع المجتمع كله لأنه يحب أن يعامل بها أيضاً .
3ـ للأخلاق أهمية بالغة كونها ميزان الأفعال والتروك :
فالأخلاق هى ميزان الأفعال والتروك ، وإن الأفعال والتروك بميزان الأخلاق وصحة هذا الوزن أو فساده ، ومدى التزام الإنسان بمقتضاه ، وتنفيذه له كل ذلك يتوقف على نوع المعانى الأخلاقية التى يحملها من حيث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ح 2865 .
(2) مدارج السالكين ، ابن قيم الجوزية (2/281) ؛ مكتبة الإيمان بالمنصورة 1419هـ / 1999 م .
(3) الشعراء 214……(4) انظر السيرة النبوية لابن هشام (1/164) ، دار ابن رجب فارسكور ط1 1423هـ / 2003م .
(5) أخرجه أحمد فى المسند (2/177) واللفظ له وقال أحمد شاكر (10/6652) : إسناده حسن . والحاكم فى المستدرك (4/314) فى رواية عبد الله بن عمر وسكت هو والذهبى عليه .……(6) سبق تخريجه
(7) أخرجه البخارى ، كتاب الإيمان ح (13) ، ومسلم ، كتاب الإيمان (45/71، 72) .…
جودتها أو رداءتها . (1)
ولذلك كانت مكانة الأخلاق فى الإسلام مكانة عظيمة ، تظهر من وجوه نذكر منها :
أولاً : أن حسن الخلق ركن من أركان الدين لا يقوم إلا به . فقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله : ما الدين ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " حسن الخلق " (2) . وهذا ما يجعل المسلم يلتزم بمكارم الأخلاق . فالمسلم يحب ما يحبه الله ورسوله والله تعالى يحب مكارم الأخلاق . روى الحاكم عن سهل بن سعد مرفوعاً : " إن الله كريم يحب الكرم ، ويحب معالى الأخلاق ويكره سفاسفها " (3) .(1/50)
وروى الطبرى عن جابر بن عبد الله مرفوعاً : " إن الله جميل يحب الجمال ويحب معالى الأخلاق ويكره سفاسفها " (4) .
ولذلك كان من خلق المسلم أن يحب خصال الخير ويبغض أضدادها ويرى فى الإلتزام بها مرضاة لربه وإكراماً لنفسه وفى الخروج عليها معصية لربه وتدنيساً لنفسه .
ثانياً : أن تفاضل المؤمن بالإيمان وأفضلهم حسن الخلق . فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً " (5)
فالإيمان هو المنبع الأساسى لكل فضيلة ومقوم عظيم لسلوك الإنسان ولذلك ربط الإسلام بين الإيمان والأخلاق توحيداً للمنطق النفسى وللمنطق الفكرى فى سلوك الإنسان برجوعه إلى الفطرة السليمة السوية التى تقبل كل فضيلة وتنفر من كل رذيلة .
ثالثاً : أن الخلق أفضل ما يقرب العبد إلى الله تعالى . فالمسلم يلتزم بمكارم الأخلاق لأسباب نذكر منها :
1ـ أن المسلم من ذوى الفطرة السليمة على استقامتها : يصدق ويفى ويعدل ؛ لأنه يحب صفات الخير ويكره صفات الشر ويرى فى الإلتزام بها إكراماً لنفسه وفى الخروج عليها تدنيساً لها .
2ـ أن إيمان المسلم بربه وحبه لما يحب يقوى هذا الشعور الفطرى فيه . والمسلم حينما يجعل مرضاة ربه غاية لحياته فإنه يضع لنفسه أنبل وأعلى غاية ، ونتيجة لهذا تتوافر له إمكانات لا حدود لها للسمو الأخلاقى المنزه عن شوائب النقص .
3ـ أن المسلم يرجو ثواب ربه ولا سيما حين يقتضى الفعل الحسن قدراً من التضحية فالإيمان بالله تعالى كابح فعال فى منع المعاصى والرذائل الأخلاقية .(1/51)
يقول أبو الأعلى المودودى : وإذا كان الأمل فى نعيم الجنة ، وخشية النار ، راسخين بقوة فى أعماق قلب الإنسان فإنهما يمدانه ببواعث قوية على ممارسة الفضائل حتى فى الظروف التى تبدو له فيها نتائج تلك الممارسة شديدة الضرر له ويمدانه ببواعث تباعد بينه وبين الشرور حتى فى الظروف التى يبدو فيها الشر بالغ الجاذبية والفائدة (6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان صـ 80……(2) أخرجه مسلم (16/110)
(3) أخرجه الحاكم (1/48) وقال صحيح الإسناد واللفظ له ، والطبرانى فى الكبير ح (5928)
(4) أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ح (91) ……(5) أخرجه الترمذى ح (1162) .
(6) منهج الحياة الإسلامية ، أبو الأعلى المودودى صـ37
رابعاً : أن مكارم الأخلاق سبباً فى حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرب منه يوم القيامة . فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من أحبكم إلى وأقربكم منى مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم منى مجلساً يوم القيامة ، الثرثارون (1) ، والمتشدقون (2) ، والمتفيقهون (3) . قالوا : يارسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما بال المتفيقهون ؟ قال : " المتكبرون "(4).
خامساً : أن للأخلاق الدور الرئيسى والفعال فى معرفة الحلال والحرام والمشتبهات . فإن مجال الحلال والحرام فى الحياة كثيرة ، والنفوس بفطرتها تعرفها وتميز بينهما . فالحلال الذى لا تخالطه شبهة بيّن واضح ولا تتحرج منه النفوس ويطمئن إليه القلب . أما الحرام فهو ما حاك فى الصدر وتحرج الإنسان من أن يطلع عليه غيره .(1/52)
ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حديث من الأحاديث " الأصول الجوامع " فيما يرويه البخارى ومسلم من عدة طرق عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع فى الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ....." الحديث (5) .
فما بين الحلال والحرام أمور مشتبهات الأحكام لها شبهة من الحلال ولها شبهة من الحرام وهى تختلط على كثير من الناس فلا يعلمون حرامها من حلالها . وصاحب الخلق الحسن هو الذى يهتدى بخلقه إلى القاعدة النبوية لهذا السلوك بالنسبة إلى هذه المشتبهات وهى كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - البعد عن كل ما لا يعرف حلاله من حرامه لالتباس الأمر بينهما والأسلم والأبرأ للإنسان أن يتركها ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " (6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الثرثار : كثير الكلام تكلفاً ……
(2) المتشدق : المتطاول على الناس بالكلام ويتكلم بملئ فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه .
(3) المتفيقه / أصله من الفهق وهو الامتلاء . وهو الذى يملأ فمه بالكلام ويعرب به تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره .
(4) أخرجه الترمذى ح (2018) وقال : حديث حسن . وصححه ابن حبان ح (1917) .
(5) أخرجه البخارى ، كتاب الإيمان ح (52) ، ومسلم ، كتاب المساقاة (1599 / 107) وهو جزء من حديث طويل .
(6) أخرجه الترمذى فى كتاب صفة القيامة ح (2518) ، والنسائى فى كتاب الأشربة ح (5727) ، وأحمد فى مسنده (1/200) ، والحاكم فى المستدرك (4/99) . قال الذهبى : سنده قوى ، وقال أبو عيسى حديث حسن صحيح .
الفصل الثالث
كمال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ويشتمل على مبحثين :(1/53)
المبحث الأول : أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الكتب السماوية .
ويشتمل على تمهيد ومطلبين :
المطلب الاول : وصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - فى التوراة والإنجيل .
المطلب الثانى : وصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن الكريم .
المبحث الثاني : صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلقية عند معاصريه .
أولاً : يصل الرحم .
ثانياً : يحمل الكل .
ثالثاً : يكسب المعدوم .
رابعاً : يقرى الضيف .
خامساً : يعين على نوائب الحق .
المبحث الأول
أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الكتب السماوية
تمهيد :
اقتضت حكمة الله تعالى أن يختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه ، وأن يختصه لنفسه ويرتضيه دون غيره فإنه سبحانه وتعالى طيب لا يحب إلا الطيب .. فالطيب فى كل شئ هو مختاره سبحانه .
وقد اختار الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - واختصه لنفسه وأكرمه برسالته وبعثه إلى خلقه وارتضاه دون غيره للرسالة الخاتمة وجمع الله له صفات الكمال البشرى ، فكان أكمل الناس خلالاً ، وأفضلهم حالاً ، وأعلمهم بحدود الله وأخوفهم لله .
يقول د/ محمد الأنور البلتاجى : الكمال البشرى على ضربين : ظاهر وباطن . وكل واحد من هذين الضربين أيضاً على ضربين : ضرب يكون الإنسان مجبولاً عليه ، ولا اكتساب له فيه ، وضرب يكون مكتسباً للإنسان يحصل له بسعيه وتكسبه .
فقد انحصرت صفات الكمال فى أربعة أقسام : كمال ظاهرى ضرورى ، وكمال ظاهرى مكتسب ، وكمال باطنى ضرورى وكمال باطنى مكتسب ، وقد جمع الله تعالى هذه الأصناف للنبى محمد - صلى الله عليه وسلم - . (1)
المطلب الأول
وصف خلقه فى التوراة والإنجيل(1/54)
روى البخارى من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن على عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موصوف فى التوراة بما هو موصوف فى القرآن : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (2) وحرزاً للأميين ، أنت عبدى ورسولى ، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب فى الأسواق ولا يجزى السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يُقبض حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا " لا إله إلا الله ويفتح أعيناً عميا ، وآذاناً صما ، وقلوباً غلفا " (3)
وقد روى عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار : وكذلك نعته فى الإنجيل (4)
المطلب الثانى
وصف خلقه - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن الكريم
لقد وصف الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصفات خلقية عظيمة تصل إلى درجة الكمال البشرى الذى وجه القرآن له ورغب فيه ووجه المؤمنين إلى الاقتداء به واتخاذه أسوة حسنة ومن هذه الصفات :
أولاً : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ :
الخلق ـ كما ذكرنا ـ ملكة نفسية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة ، وقد وصف الله تعالى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد - صلى الله عليه وسلم - الخلق الكامل والرحمة المهداة ، محمد الأنور البلتاجى صـ488 ، مكتبة وهبة ، القاهرة ط1 1414 هـ / 1993 م .
(2) الأحزاب 45……(3) أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ح (2125) .
(4) البداية والنهاية ، ابن كثير (6/33) ، دار المنار ط1 1421هـ / 2001م .(1/55)
نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن بما يرجع إلى قوته العلمية والعملية : فما يرجع إلى قوته " العلمية " قال سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) وبما يرجع إلى قوته " العملية " قال سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه - صلى الله عليه وسلم - فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة (3)
وعن عروة - رضي الله عنه - عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت : " ما كان أحسن خلقاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهله إلا قال : " لبيك " ولذلك أنزل الله عز وجل : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) " (4)
ولما أجتمع فيه - صلى الله عليه وسلم - من خصال الكمال ما لا يحيط به حد ولا يحصره عد ، أثنى الله عليه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) . وكلمة " على " للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستولِ عليها .
وعن عائشة رضى الله عنها أن سعد بن هشام سألها فقال : يا أم المؤمنين : " أنبئينى عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : أليس تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق نبى الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن " (5)
قال الحليمى : وإنما وصف خلقه بالعظيم ( خُلُقٍ عَظِيمٍ ) مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم ، لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة ولم يكن خلقه - صلى الله عليه وسلم - مقصوراً على ذلك بل كان رحيماً بالمؤمنين رفيقاً بهم شديداً على الكفار غليظاً عليهم حبيباً فى قلوب الأحباء مهيباً فى صدور الأعداء منصوراً بالرعب منهم على مسيرة شهر ، فكان وصف خلقه بالعظيم أولى ليشمل الإنعام والانتقام .(1/56)
وروى البيهقى بسنده عن زيد بن بابنوس قال : قلت لعائشة : كيف كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن ثم قالت : أتقرأ سورة المؤمنون ؟ اقرأ : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إلى العشر . قالت : هكذا كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (6)
والحديث عن الأخلاق فى المفهوم القرآنى ـ كما يقدم محمد قطب ـ شئ شامل كل تصرفات الإنسان وكل مشاعره وكل تفكيره .. ولا يوجد فى الإسلام عمل واحد يمكن أن يخرج عن دائرة الأخلاق . (7)
فلا شك أن شهادة القرآن للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخلق العظيم عظيمة ، والدليل على ذلك أنها من عند الله تعالى ، ومن ناحية أخرى قبول النبى - صلى الله عليه وسلم - لها وهو ثابت لم يتزعزع مما جعله يقول عن نفسه : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (8) .
يقول صاحب الظلال : يلخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته فى هذا الهدف النبيل وتتوارد الأحاديث تترى فى الحض على كل خلق كريم . وتقوم سيرته الشخصية مثالاً حياً وصفحة نقية وصورة رقيقة تستحق من الله أن يقول عنها فى كتابه الخالد ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) فيمجد بهذا الثناء نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما يمجد به العنصر الأخلاقى فى ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 113……(2) القلم 4
(3) الجانب الخلقى للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، محمد يونس عبد الجبار صـ398 ـ 399 ، المكتبة العصرية ، بيروت .
(4) أخرجه أبو نعيم فى دلائل النبوة ، وفى الدر المنثور جـ6 ، وأخرجه ابن مردوية والواحدى .
(5) أخرجه مسلم ح (746) مطولاً .…(6) أخرجه البيهقى والنسائى عن قتيبة - رضي الله عنه - ، وأبو داود ح (1352) .
(7) دراسات قرآنية ، محمد قطب صـ136 ـ 139 ، دار الشروق ، القاهرة .
(8) سبق تخريخه .
منهجه الذى جاء به هذا النبى - صلى الله عليه وسلم - (1)(1/57)
ويقول ابن اسحق : كان يسمى الأمين بما جمع الله فيه من الأخلاق الصالحة . وقال تعالى ( مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (2) فأكثر المفسرين على أنه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثانياً : ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) :
لقد وصف الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرؤوف الرحيم فى قوله تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (3) والنبى - صلى الله عليه وسلم - ذو رحمة للناس جميعاً إلا أن رحمته بالمؤمنين أقوى وأشد وأعظم ولما كلن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رؤوفاً رحيماً بالمؤمنين كان من مظاهر ذلك وصفان :
الأول : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) : يشق عليه عنتكم ومشقتكم (4) أى غالب على صبره ذلك ولا يكون غالباً على صبره إلا مما فى قلبه من رأفة ورحمة نحو المؤمنين .
الثانى : ( حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ) : لا يلقى بكم فى المهالك ولا يدفع بكم إلى المهاوى (5) فكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على المؤمنين يدل على أنه شديد إرادة النفع وابتغاء الخير لهم وصيانتهم من كل ما يصرفهم عن طريق الجنة .
وجاء ذكر هذين الوصفين توطئة لتحليته بالدرتين الخلقيتين العظيمتين هما أنه : ( رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) . (6)
ثالثاً : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) : التواضع
مما أدب الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحلى بخلق التواضع وخفض الجناح للمؤمنين واللين لجانبهم ولذلك كان الأمر الإلهى بهذا الخلق العظيم للنبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (7) وقوله تعالى : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (8) .(1/58)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متواضعاً مع نبوته ، ومع علو منصبه ورفعة رتبته وغزارة علمه فإذا جلس بين أصحابه كان كأحدهم ، فيأتى قاصده فلا يعرفه فيقول : أيكم محمد ؟
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يتعالى على أصحابه ولا يترفع عليهم . فعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فى خطبة له ؛ : " إنا والله قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى السفر والحضر ، وكان يعود مرضانا ، ويتبع جنائزنا ، ويغزو معنا ويواسينا بالقليل والكثير " (9) ويصف أبو هريرة تواضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى مشيته فيقول : " ما رأيت أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن الشمس تجرى فى وجهه ، وما رأيت أحد أسرع مشية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن الأرض تطوع له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث " (10) .
وكان متواضعاً فى بيته : فعن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال : سأل رجل عائشة رضى الله عنها : " هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فى ظلال القرآن ، سيد قطب (6/3656) ، دار الشروق ط9 1400هـ / 1980م .
(2) التكوير 21………(3) التوبة 128……(4) فى ظلال القرآن (3/1743) .
(5) فى ظلال القرآن (3/1743) .…(6) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (1/439) .
(7) الشعراء 215………(8) الحجر 88
(9) أخرجه أحمد فى " مسنده " رقم (504) وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
(10) أخرجه أحمد فى مسنده (2/461) ، والترمذى وقال : حسن غريب .
يعمل فى بيته ؟ قالت : نعم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخصف النعل ، ويخيط الثوب ، ويعمل فى بيته كما يعمل أحدكم فى بيته " (1) .(1/59)
وكان متواضعاً فى طعامه وشرابه : فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرد من الطعام موجوداً ، ولا يتكلف مفقوداً ، فما قرب إليه شئ من الطيبات إلا أكله ، إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم ، وما عاب طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه . فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويعقل الشاة ، ويجيب دعوة الملوك على خبز الشعير " (2) وعن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد " (3)
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الإطراء : فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا خير البرية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ذاك إبراهيم عليه السلام " (4)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سمع عمر - رضي الله عنه - يقول على المنبر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " (5) .
رابعاً : ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) :
فلقد أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخلق العظيم فى أكثر من عشرين موضعاً منها قوله تعالى : ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (6) . " فلقد كان فى خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى فطر عليه خلق الصبر ، الذى كان يظهر فى تحمله ، وحلمه ، وأناته . وزاد هذا الخلق ونما فى نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بألوان التربية التى أدبه الله بها ، وبالتجارب الكثيرة التى مارسها فى حياته - صلى الله عليه وسلم - فكان أعظم قدوة حسنة للناس فى فضيلة خلق الصبر " (7)(1/60)
قال ابن القيم : " الصبر باعتبار متعلَّقة ثلاثة أقسام : صبر الأوامر والطاعات حتى يؤديها ، وصبر عن المناهى والمخالفات حتى لا يقع فيها ، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها " (8)
عن أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه - أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطالهم ، ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما عنده قال : " ما يكن عندى من خير فلن أدخره عنكم ، ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يصبر يُصبره الله ، وما أُعطى أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر " (9)
قال القاضى عياض فى صبر النبى - صلى الله عليه وسلم - : " من صبره على مقاساة قريش ، وأذى الجاهلية ، ومصابرته الشدائد الصعبة معهم إلى أن أظفره الله عليهم وحكمه فيهم ، وهم لا يشكون فى استئصال شأفتهم ، وإبادة خضرائهم ، فما زاد على أن عفا وصفح وقال : " ما تقولون أنى فاعل بكم " ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال : أقول كما قال أخى يوسف : ( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (10) . اذهبوا فأنتم الطلقاء "(11)(12)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البغوى فى شرح السنة ( 13/ 342 )، وقال محققه : إسناده صحيح .…
(2) رواه الطبرانى وصححه الألبانى ومعنى يعقل الشاة : أى يضع رجلها بين ساقه وفخذه فيحلبها .
(3) أخرجه البغوى فى شرح السنة (13/248) ، والهيثمى فى المجمع (9/19) وقال : رواه أبو يعلى وإسناده حسن . وهو فى الصحيحة للألبانى رقم (544) …(4) أخرجه مسلم ح (2369)……(5) أخرجه البخارى ح (3445)…(6) المدثر 74
(7) الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميدانى (2/470) …(8) مدارج السالكين ، ابن قيم الجوزية ( / )
(9) أخرجه البخارى ح (6470) ، ومسلم ح (1053) واللفظ له .…(10) يوسف 92(1/61)
(11) رواه البيهقى فى الدلائل (5/48) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - وذكره السيوطى فى الدر المنثور (4/578 ، 579 )
(12) أنظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، القاضى عياض (1/100 ـ 101)
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتخلق بصفات " المولى عز وجل " فى الصبر فعن أبى موسى الأشعرى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس أحدُُ ُ ـ أو ليس شئ ـ أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم " (1) ولذلك عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " (2)
خامساً : شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى قوله تعالى : ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ):
فقد ألمح القرآن إلى شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى مواقف البأس الشديد . فلقد ثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ولم يثبت معه إلا قلة . قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - فيما رواه الإمام أحمد " فلم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلاً " (3) وفى ذكر هذه الحادثة قال سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) (4)(1/62)
وقد سئل البراء بن عازب - رضي الله عنه - أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ؟ فقال : ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر ، كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام ، ولقد رأيته على بغلته البيضاء ، وأن أبا سفيان - رضي الله عنه - آخذ بزمامها وهو يقول : " أنا النبى لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " (5) وقال على بن أبى طالب - رضي الله عنه - : كنا إذا احمرت الحدق ، وادلهم الخطب ، لذنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو (6)
وروى البخارى ومسلم عن أنس قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس ، وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق الناس قبل الصوت ، فاستقبلهم النبى - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد سبق الناس إلى الصوت ـ وهو يقول : " لن تراعوا ، لن تراعوا " وهو على فرس لأبى طلحة عرى ما عليه سرج ، وفى عنقه سيف ، فقال : " لقد وجدته بحراً " (7)
سادساً : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) :
روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) سأل جبريل عليه السلام عن تأويلها فقال له : " حتى أسأل العالم . ثم ذهب فأتاه ، فقال أيا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفوا عمن ظلمك " (8)
وقد اشتمل هذا النص على توجيه من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكل مؤمن بالتحلى بثلاث ظواهر من السلوك الخلقى الحميد وهى :(1/63)
1ـ أخذ العفو عن إساءة المسئ : وفيه دلالة عظيمة فى إعلاء قيمة العفو بوصفه أحد مكارم الأخلاق . ولقد تمثلت هذه المكرمة بجلاء بين فى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما كسرت رباعيته ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخارى ح (6099) ، ومسلم ح (2804) واللفظ للبخارى .……
(2) أخرجه الترمذى ح (2507) ، وابن ماجة (4032) واللفظ له ، وأحمد فى مسنده ح (5022) وقال محققه : إسناده صحيح .
(3) رواه أحمد فى مسنده (1/86 ، 126) ورجاله ثقات .……(4) آل عمران 153
(5) أخرجه البخارى فى كتاب المغازى ح ( 4317 ) .
(6) أخرجه أحمد فى " مسنده " ، والطبرانى فى الأوسط ومثله عند مسلم ح ( 1776 ) عن البراء - رضي الله عنه - .
(7) أخرجه البخارى ح ( 2627 ) ، ومسلم ح ( 2307 ) .
(8) رواه ابن أبى حاتم فى تفسيره ح ( 8682 ) تفسير سورة الأعراف ( 5/ 1638 ) ، وابن جرير فى تفسيره ( 9 / 105 ) وفى الدر المنثور ( 3 /628 ) وقال : أخرجه ابن أبى الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم وأبو الشيخ .
وشج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه شديداً ، وقالوا : لو دعوت عليهم ! فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنى لم أبعث لعاناً ، ولكن بعثت داعياً ورحمة . اللهم أهد قومى فإنهم لا يعلمون " (1)
يقول الميدانى فى الأخلاق : وإذا حللنا الاحتمالات التى يمكن أن يلجأ إليها الإنسان فى المواقف المحرجة التى يتعرض فيها لعدوان غيره عليه وإيذائه له فإنها لا تعدو عن ثلاثة :
الاحتمال الأول : إما أن يقابل العدوان بمثله ، وهذا هو الانتقام بالعدل .
الاحتمال الثانى : وإما أن يقابل العدوان بأشد منه ، وهذا انتقام بإجحاف ، وهو يولد فى المجتمعات شروراً لا حد لها .(1/64)
الاحتمال الثالث : وإما أن يعفو وهذه هى خطة الرشد التى تأمر بها مكارم الأخلاق ، لأنها من الفضائل التى تقطع الشرور ، وتشيع السلم ، وتطفىء نيران الغضب والحمق . (2)
وفيما رواه البخارى : قال حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبى حدثنا الأعمش قال : حدثنى شقيق قال عبد الله كأنى أنظر إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - : " يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " (3)
قال القاضى أبو الفضل : انظر ما فى هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان ، وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر النبى - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ورحمهم ، ودعا وشفع لهم ، فقال : " أغفر " أو " اهد " ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله " لقومى " ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال " فإنهم لا يعلمون " (4)
2ـ الأمر بالعرف : والعرف أو " المعروف " فضيلة تتبع أخذ العفو ، فبعد العفو عن المسئ ، يتم تعليمه بشكل عملى فضيلة البر والإحسان وإصلاحه بتوجيه النصح إليه وأمره بالمعروف لعل ذلك يعيده إلى الحق فينقله إلى ما يجب أن يلتزم به من الكف عن الإساءة والظلم والعدوان .
ولقد كانت هذه الفضيلة سبباً فى إسلام أبى سفيان - رضي الله عنه - فقد قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد سيق إليه بعد أن جلب إليه الأحزاب وقتل عمه وأصحابه ومثل بهم ، فعفا عنه ولاطفه فى القول : " ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ، : فقال : بأبى أنت وأمى ! ما أحلمك ، وأوصلك وأكرمك " (5)
3ـ الإعراض عن الجاهلين : وهى فضيلة تتبع فضيلة العفو ، وذلك لأنه قد يوجد فى المسيئين أقوام جاهلون ، يسيئون ولا يقبلون النصيحة ، ولا يؤثر فيهم الأمر بالمعروف مهما كان حكيماً ، رغم العفو عنهم وعدم مجازاتهم على إساءاتهم ، وألطف وسيلة لمعالجة هؤلاء الإعراض عنهم . (6)(1/65)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم ح ( 2599 ) ، والبغوى فى شرح السنة (13/240)، والطبرانى فى الكبير (9/189) والبخارى فى الأدب المفرد ح (321)
(2) الأخلاق الإسلامية وأسسها (2/462) .
(3) أخرجه البخارى فى كتاب أحاديث الأنبياء ح 3477 ، ومسلم فى الجهاد والسير ح 1792 .
(4) الشفا ، للقاضى عياض (1/98)
(5) أخرجه الطبرانى فى الكبير ح (264) عن ابن عباس مطولاً ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (3/321) ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (6/166) وقال : رواه الطبرانى ورجاله رجال الصحاح .
(6) الأخلاق الإسلامية وأسسها (2/463 ـ 464)
سابعاً : ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) :
من خلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجود وحب العطاء لأن الله تعالى هو الأجود الأجود . فعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم عن الأجود الأجود ، الله الأجود الأجود ، وأنا أجود ولد آدم " (1) ولذلك وجهه الله تعالى إلى أكمل صور العطاء وهو العطاء الذى لا يتبعه بالمن مهما كثر العطاء ، وبأن لا يستكثر ما يعطيه ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) (2) وهى أكمل مراتب الجود والكرم الإنسانى . فعن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلاً سأله فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، وقال : " أسلموا فإن محمداً يعطى عطاء من لا يخشى فاقة " (3)
ثامناً : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ) زهده - صلى الله عليه وسلم - :
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعف خلق الله ـ كما أدبه ربه ـ عما فى أيدى الناس من زهرة الحياة الدنيا قانعاً بما قسمه الله له فكان أزهد الناس وأقنعهم وكان يدعو ربه أن يجعل رزقه قوتاً .(1/66)
فعن أبى هرير ة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم أجعل رزق آل محمداً قوتاً " (4) وفى الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض " (5)
وفى الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما حلف على نسائة أن لا يقربهن شهراً ، اعتزل فى غرفة صغيرة ليس فيها شئ من متاع الحياة الدنيا ، فدخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرآه متوسداً على حصير ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما يبكيك ياعمر ؟ فقال : يارسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه ، فقال : " أو فى شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا " (6)
وقالت عائشة رضى الله عنها : " ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً " (7) وهو الذى خير بين أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً ولكنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " .... أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فأما الذى أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك ، وأما اليوم الذى أشبع فيه فأحمدك وأثنى عليك " (8)
تاسعاً : ( فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ) :(1/67)
وصف الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كثير الحياء فى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ) (9)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال ح (2877) وقال أخرجه أبو يعلى والبيهقى .……(2) المدثر 6
(3) أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل ح 2312 ، وأبو يعلى فى " المسند " ح 3302 ، وأحمد فى مسنده (3/108) ، والبغوى فى شرح السنة ح 3291 ، وابن حبان فى صحيحه ح 6373 .
(4) أخرجه مسلم فى كتاب الزكاة ح (1055) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - والترمذى فى الزهد ح (361)
(5) أخرجه البخارى فى كتاب الأطعمة ح (5374) ، ومسلم فى الزهد والرقائق ح (2976)
(6) أخرجه البخارى فى كتاب التفسير ح (4913) ، ومسلم فى الطلاق ح (1479) .
(7) أخرجه مسلم فى كتاب الوصية ح (1635) ، وأبو داود ح 2863 ، وابن ماجة ح 2695 وأحمد فى " مسنده " (4416) .
(8) أخرجه الترمذى فى الزهد ح (2347) . ……(9) الأحراب 53
والحياء من صفات الله تعالى " الحيىُّ " كما فى الحديث : " إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده .... " (1)
قال ابن علان : الحياء خلق يبعث على ترك القبيح من الأقوال والأفعال والأخلاق يمتنع صاحبه من التقصير فى حق ذى الحق .(2)(1/68)
والحياء قسمان : غريزى ومكتسب . والحياء هو الذى جعله الشارع من الإيمان وهو المكلف به دون الغريزى ، وقد ينطبع الشخص بالمكتسب حتى يصير كالغريزى . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جُمع له النوعان ، فكان فى الغريزى أشد حياء من العذراء فى خدرها وكان فى المكتسب فى الذروةالعليا (3) فعن أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء فى خدرها " (4) كما أن الحياء خلق الإسلام . فعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء " (5)
المبحث الثانى
صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلقية عند معاصريه
إن جوانب العظمة فى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تكمن فى درجة تأثيره كعظيم فقط ، ولكن فى مقوماتها الذاتية ، وعناصرها التى تتكون منها . فكل عظيم ذكره التاريخ لنا إنما يشتهر غالباً فى ميدان واحد أو اثنين من ميادين العظمة ، كاشتهار الفاتح بفتوحه ، والشجاع بشجاعته ، والمخترع بفرط ذكائه ، ... ولكن أن تجتمع كل دعائم العظمة الشاملة وصفاتها لتكون نموذجاً يحتذى للكمال البشرى والحياة الصالحة فهذا لا يكون إلا لشخص كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو العظيم فى الشجاعة ، والحرب ، والسلم ، والعدل ، والصدق ، والعقل ، والحزم ، والحكمة ، والتدبير ، والأخلاق ، والعلم ، والجود ، والزهد ، والإخلاص ، والإيثار ، وحب الغير ، والبلاغة ، وجوامع الكلم ، والتشريع ، والقضاء ، و ..... وبحيث يكون هو الشاب المثالى منذ شبابه ، والأمين المثالى ، والصادق المثالى ، والتاجر المثالى ، والصديق المثالى ، والزوج المثالى ، والأب المثالى ، والقائد المثالى ، والمحارب المثالى ، والمربى المثالى ، و ..... فإن هذه العظمة الشاملة هى فوق مراتب العظماء !! إنها عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . (6)(1/69)
قال أحد المؤرخين : يجب أن يحكم بعظمة الرجل من خلال ثلاثة اختيارات :
1ـ هل كان عند معاصريه ذو عزم صادق ؟
2ـ هل كان من العظمة بحيث يرتفع فوق مستوى من هم فى سنة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزء من حديث : أخرجه أبو داود ح (1488) ، والترمذى ح (3556) ، وقال الألبانى : صحيح (1/279) ، وابن ماجة ح (3865) ، والحاكم (1/497) وصححه على شرط الشيخين .…
(2) دليل الفالحين ، ابن علان الأشعرى (3/158) .
(3) فتح البارى ، ابن حجر العسقلانى ( 10/522 ـ 523 ) ، نهضة مصر للطباعة .
(4) أخرجه البخارى ح ( 9/61) ، ومسلم ح (2320) واللفظ للبخارى .
(5) أخرجه ابن ماجة ح ( 4181 ، 4182 ) ومالك فى الموطأ مرسلاً وقال محقق جامع الأصول : والحديث بطرقه يرتقى إلى الحسن (3/622)
(6) راجع : عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم رسل الله ، مصطفى الزرقا صـ38 ـ 40 ، دار القلم ، دمشق ط1 1417هـ / 1997 م .
3ـ هل ترك شيئاً كتراث دائم للعالم كافة ؟
وإذا نظرنا إلى حالة محمد - صلى الله عليه وسلم - العظيم فيمكن أن تمتد هذه القائمة إلى أبعد مدى ، فهذه الخيارات تتحقق بوضوح ولأعلى درجة فى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا ما جعل مايكل هارث أن يضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأس قائمة أعظم مائة شخصية ممن ظهروا وأثروا فى التاريخ ـ فى كتابه العظماء مائة ـ واعتبره أعظم العظماء فى تاريخ البشرية ولقد وضع ـ د/ مصطفى الزرقا ـ مقاييس صحيحة للشخصية العظيمة ، وأنها تقوم على مقومات ودعائم أهمها أربع :
الأولى : الصفات النفسية والأخلاق الشخصية فى الشخص العظيم .
الثانية : مدى الإبداع والسمو فى المبادئ والأعمال التى أتى بها .
الثالثة : مدى كفايته ونجاحة فى تحقيق منهاجه الإصلاحى ، أى مدى قدرته التنفيذية .(1/70)
الرابعة : مدى نجاح العظيم فى تكوين جيل قيادى صالح ، مؤهل لحمل مسئولية المحافظة على المبادئ ومتابعة تنفيذها . (1)
هذه المقومات بالإضافة إلى الاختيارات السابقة تتحقق بجلاء ووضوح وسطوع لا ينكره إلا معاند أو مكابر فى شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وإذا جاز لناأن نعدد بعضاً من هذه الصفات فإننا نذكر منها :
أولاً : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - عند معاصريه ذو عزم صادق .
ثانياً : تمتعه - صلى الله عليه وسلم - بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة .
ثالثاً : نجاحه فى تحقيق ما جاء به وله .
رابعاً : أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتى بمنهج دائم للبشر كافة وهو " القرآن الكريم "
أولاً : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - عند معاصريه ذو عزم صادق :
إن معاصرى محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ الأصدقاء والأعداء ـ اعترفوابالشمائل النقية والاستقامة الخالصة والفضائل الكريمة والإخلاص المطلق والأمانة المطلقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى جميع مناحى الحياة وفى كل مجال النشاط الإنسانى ، حتى أن اليهود أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته قبلوه حكماً فى نزاعاتهم الشخصية بسبب ما عرفوه عنه من تحريه عدم التحيز (2) وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف فى قوله سبحانه : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ) (3) وحتى الذين لم يؤمنوا برسالته ويعلمون يقيناً أنه أمين وصادق فيما جاء به أعلنوا أنهم لا يتهمونه بالكذب ولكنهم جحدوا بآيات الله : ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) (4) .(1/71)
وإذا قرأنا سير الأولين السابقين إلى الإسلام لوجدنا المقربين منه - صلى الله عليه وسلم - كخديجة ، وأبى بكر ، وعلى ... رضى الله عنهم الذين عرفوه معرفة وثيقة وعرفوا أمانته وصدقه قد صدقوا رسالته وأيقنوا بأصالة ما أوحى إليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم رسل الله ، مصطفى الزرقا صـ9 ـ 10 مرجع سابق .……
(2) محمد - صلى الله عليه وسلم - المثال الأسمى ، أحمد ديدات ، ترجمة محمد مختار صـ37 ـ 38 .……
(3) المائدة 43 ……(4) الأنعام 33
وها هو الخباب بن الأرت جعلوه يرقد على جمر محترق مما جعل جلده ينصهر ، وهذا ياسر يُمزق وزوجته سمية تطعن بالحربة ، وخباب بن عدى يُقتل ويمثل بجسده ، وحينما كان يسأل وهو يعذب إذ كان يرجو لو أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان مكانه وهو ـ أى خباب ـ آمن فى بيته وبين أهله ، كان يعلنها صريحة بأنه يفتدى محمداً بنفسه وأهله ومن فى الأرض لينجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وخز شوكة حتى لا يشاكها .
يقول ـ ديدات ـ معلقاً على هذه الأحداث : ما السبب فى أن أبناء وبنات الإسلام هؤلاء لم يسلموا لنبيهم طاعة وتسليماً فحسب ، وإنما جعلوا أجسامهم وقلوبهم وأنفسهم فداه ؟ ألم يكن إيمان أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - المباشرين واقتناعهم الشديد أرفع شهادة على صدقه واستغراقه التام فى المهمة التى قام بها ؟! (1) .
تقول دائرة المعارف البريطانية : " إن محمداً هو الأكثر نجاحاً وتوفيقاً من كل الأنبياء والشخصيات الدينية " وأن هذا النجاح لم يكن نتيجة مصادفة مجردة . لم يكن ثمرة أسقطتها الرياح . لقد كان اعترافاً بحقيقة أن معاصريه وجدوه ذو عزم صادق . وكان نتيجة لشخصيته التى تدعو إلى الإعجاب وتدفع بشدة إلى الانتباه . (2)(1/72)
إن أول الناس مسارعة إلى تصديقه - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به هم أصحاب العقول الراجحة وأولوا الألباب السليمة كخديجة رضى الله عنها ، وأبى بكر الصديق - رضي الله عنه - و ...... وهو الذين عايشوه عن قرب . وهناك من لم يعرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته ولكنهم أهل عقل وحجة لما عملوا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - أمثال أبو ذر الغفارى ، وضماد - رضي الله عنه - . ومنهم من آمن به لأنهم وجدوه مكتوباً عندهم فى الكتب القديمة كعبد الله بن سلام الذى كان على ملة اليهود ، وجرير الرومى الذى كان على ملة النصارى .
إن خديجة رضى الله عنها أول من آمن بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وكان إيماناً عن دليل وبرهان ، لم يكن مجرد تقليد وإتباع لزوج . فقد عرفت فيه الصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الخلق والرحمة بالخلق ومثله لا يخزيه الله أبداً . ولقد برهنت على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتمتع بأخلاق كثيرة ذكرت منها الأخلاق الأساسية التى لمستها عن قرب خلال خمسة عشر عاماً قضتها فى كنفه الشريف - صلى الله عليه وسلم - . وهذه الأخلاق لو توفرت فى إنسان كمحمد - صلى الله عليه وسلم - لن يخزيه الله أبداً .
روى البخارى بسنده عن عائشة رضى الله عنها فى حديث بدء الوحى .... فقال لخديجة وأخبرها الخبر : " لقد خشيت على نفسى " فقال خديجة رضى الله عنها : كلا والله لا يحزنك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق " (3)
إنها الأخلاق الأساسية لكل داعية إلى الله تعالى ، وعلامة صدق لرجل حمل الأمانة : أمانة الدعوة وبلغها إلى الناس جميعاً .
وباستطراد سريع لهذه الصفات " المحمدية " النبوية التى أهلته لحمل الرسالة :
أولاً : يصل الرحم .(1/73)
الصلة والوصل فى اللغة مصدر وصل صلةً ووصلاً وتدل على ضم الشئ إلى شئ حتى يعلقه ، والوصل خلاف الفصل ، واتصل الشئ بالشئ لم ينقطع (4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع : محمد - صلى الله عليه وسلم - المثال الأسمى لأحمد ديدات صـ41……(2) المرجع السابق صـ 41 ـ 42
(3) أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ح (3)………(4) مقاييس اللغة (6/115) ، ولسان العرب (8/4850)
قال النووى : صلة الرحم هى الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال ، وتارة بالخدمة ، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك (1)
وصلة الرحم أفضل أخلاق أهل الدنيا ، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبدرته وأخذت بيده وبدرنى فأخذ بيدى فقال : " يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة . تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك ألا ومن أراد أن يمد فى عمره ويبسط فى رزقه فليصل ذا رحمه " (2)
وكان من وفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحسن عهده وصلته لرحمه أنه كان يصل رحم زوجته خديجة وودها .
فعن أنس - رضي الله عنه - : كان النبى إذا أتى بهدية قال : " اذهبوا بها إلى بيت فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة ، إنها كانت تحب خديخة " (3) وعن عائشة رضى الله عنها قالت : ما غرت على نساء النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا على خديجة ، وإنى لم أدركها ، قالت : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح شاة فيقول : " أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة . قالت : فأغضبته يوماً فقلت : خديجة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنى قد رزقت حبها " (4)
ووصفه بعضهم فقال : كان يصل ذوى رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم (5) وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن آلى أبى فلان ليسوا بأولياء غير أن لهم رحماً سأبلها ببلالها " (6)
ثانياً : يحمل الكل :(1/74)
الكل بفتح الكاف : هو من لا يستقل بأمره (7) كما قال سبحانه : ( وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) (8) ويدخل فيها الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك وهو من الكلال وهو الإعياء (9)
فمن رحمته بالأولاد :
كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعامل الصبية معاملة كلها رحمة ورقة وتلطف بهم وكان يلوم على القسوة والجمود ، فكان يحمل الصبيان ويقبلهم ويتركهم يركبونه ويضعهم فى حجره ويحملهم على عاتقه حتى وهو بين يدى ربه فى الصلاة .
عن أبى قتادة - رضي الله عنه - قال : خرج علينا النبى - صلى الله عليه وسلم - وأُمَامَةُ بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها . (10)
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : " قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن أو الحسين بن على ، وعنده الأقرع بن حابس التميمى ، فقال الأقراع : إن لى عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : " من لم يرحم لا يُرحم " (11)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسلم بشرح النووى (16/113) ، مكتبة فياض بالمنصورة ط1 1418هـ / 1997م .
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك ح (7285) وسكت عنه الذهبى فى التلخيص .
(3) رواه البخارى فى الأدب المفرد (232) والحاكم فى المستدرك ح (7339) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
(4) أخرجه البخارى ح (3818) ، ومسلم ح (2435) واللفظ له .…(5) الشفا ، للقاضى عياض (1/118)
(6) أخرجه البخارى ح (5990) ، ومسلم ح (215) ، ومعنى أبلها ببلالها : أنديها بما يبل به الحلق ونحوه ( كناية عن الصلة والايتاء ) . والبلال جمع بلل وهو النداوة .
(7) فتح البارى فى شرح صحيح البخارى لابن حجر (1/37) ، دار مصر للطباعة ط1 1421هـ / 2001م …
(8) النحل 76……(9) صحيح مسلم على شرح النووى (2/353)
(10) أخرجه البخارى ح (5996) ، ومسلم ح (543) .(1/75)
(11) أخرجه البخارى ح (5997) واللفظ له ، ومسلم ح (2318) . ومن هنا شرطية
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدَّىْ أحدهم واحد واحد . قال : وأما أنا فمسح خدى فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار " (1)
ومن رحمته بالضعيف واليتيم :
لقد أولى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفالة اليتيم المنزلة العظيمة ووضع قاعدة للتصور الإسلامى فى العناية باليتامى بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا " (2)
قال النووى فى كفالة اليتيم : كافل بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه أو من مال اليتيم بولاية شرعية . (3)
وقال الفخر الرازى : واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز : عجز نتيجة صغره ، وعجز نتيجة عدم الإنفاق على نفسه وأن من هذه حالة كان فى غاية العجز واسحقاق الرحمة (4)
وللرسول - صلى الله عليه وسلم - مواقف طيبة مع اليتيم نذكر منها :
أخرج البخارى من حديث ابن أبى ملكية : قال ابن الزبير لابن جعفر - رضي الله عنه - : أتذكر إذا تلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأنت وابن أبى عباس ؟ قال : نعم ، فحملنا وتركك . (5)
فالثلاثة صبية صغار كانوا خرجوا لتلقى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عائد من إحدى غزواته فحمل عبد الله بن جعفر على دابته ـ حيث أن جعفر كان قد استشهد فى مؤتة ـ هو وابن عمه وترك ابن الزبير لأبيه .
ويقول عمر بن أبى سلمة - رضي الله عنه - كنت غلاماً ـ يتيماً ـ فى حجر النبى - صلى الله عليه وسلم - فكانت يدى تطيش فى الصفحة فقال لى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " فما زالت تلك طعمتى بعد (6)(1/76)
وهذا توجيه عملى سريع يربى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا اليتيم الصغير على آداب الطعام وما كان من هذا اليتيم إلا سرعة الاستجابة لتعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودوام استقامته على الأمر .
وفى رحمتة بالنساء :
أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف بينهن وقد جئن يبايعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يأتمرن بأوامر الله ويجانبن نواهيه ، فقال لهن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " فيما استطعتن وأطعتن ، فقلن : الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا " (7) وكان يقول - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إنى أحرج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة " (8)
وكانت حياته - صلى الله عليه وسلم - بين نسائه فى بيته كانت المثل الأعلى فى المودة والموادعة وترك الكلفة ، وبذل المعونة ، واجتناب هُجْر الكلام ومره .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم ح (2329) .
(2) أخرجه البخارى ح (5006) ، وأبو داود ح (5150) ، والترمذى ح (1918) وابن حبان (2/207/460) .
(3) صحيح مسلم على شرح النووع (18/413) .
(4) النفسير الكبير ، الفخر الرازى ، ( 31/212) ، المكتبة التوفيقية بدون (ت) .
(5) أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد والسير ح (3082) ومسلم فى كتاب فضائل الصحابة ح 2427
(6) أخرجه البخارى فى كتاب الأطعمة ح (4957) .
(7) أخرجه الترمذى ح (1597) ، والنسائى ح ( 4192 ) ، وابن ماجة ح (874) وقال الترمذى : حسن صحيح .
(8) أخرجه ابن ماجة فى كتاب الأدب ح 3678 ، وأحمد فى المسند ح (9374)
وسئلت عائشة رضى الله عنها : ما كان عمل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بيته ؟ فقالت : " كان فى مهنة أهلة حتى يخرج إلى الصلاة " (1) تريد بذلك أن يعاونهن ويعمل معهن .(1/77)
وعن عمرة قالت سألت عائشة رضى الله عنها كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا مع نسائه ، قالت : " كان كالرجل من رجالكم ، إلا أنه أكرم الناس ، وألين الناس ، ضاحكاً بساماً " (2)
وفى رحمته بالأرقاء :
خرج أبو ذر - رضي الله عنه - إلى الناس يوماً ومعه غلاماً يرتدى حلة مثل حلته فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هم أخوانكم وخولكم ، جعلهم الله تعالى تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " (3)
وجاء فى وصيته - صلى الله عليه وسلم - فى آخر خطبته : " ... فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا ، ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ، ولو شاء لملكهم إياكم .... " (4)
ثالثاً : يكسب المعدوم :
قال النووى : قيل معناه تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق وقال معناه أيضاً : تكسب المال العظيم الذى يعجز عنه غيرك ثم تجود به فى وجوه الخير وأبواب المكارم .(5)
ولقد عرف النبى - صلى الله عليه وسلم - بأخلاق الكرم والجود ، فعن المقداد - رضي الله عنه - قال : أقبلت أنا وصاحبان لى وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد ، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس أحد منهم يقبلنا ، فأتينا النبى - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بنا إلى أهله ، فإذا ثلاثة أعنز فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : " احتلبوا هذا اللبن بيننا " قال : فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ، ونرفع للنبى - صلى الله عليه وسلم - نصيبه ...... " الحديث (6)
والكرم : قيل إفادة ما ينبغى لا لغرض فمن يهب المال لغرض جلباً للنفع ، أو خلاصاً عن الذم فليس بكريم ، فالكرم من يوصل النفع بلا عوض (7)(1/78)
والكرم أنواع : فإن كان بمالٍ فهو جود ، وإن كان بكف ضرر مع القدرة فهو عفو ، وإن كان ببذل النفس فهو شجاعة (8)
قال الفيروز أبادى فى البصائر : والكرم إذا وصف الله به فهو اسم لإحسانه ، وإنعامه وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التى تظهر منه (9)
والفرق بين الكرم والجود أن الكرم يكون مسبوقاً باستحقاق السائل والسؤال منه . أما الجود : صفة ذاتية للجواد ولا يستحق بالاستحقاق والسؤال (10)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخارى ح (6039)…
(2) أخرجه الخرائطى ، وابن عساكر وفى كنز العمال ح 18327 وعزاه إلى ابن سعد وابن عساكر عن عائشة .
(3) سبق تخريجه ……………(4) إحياء علوم الدين ، للغزالى (2/195)
(5) صحيح مسلم على شرح النووى (2/352)……(6) أخرجه مسلم فى كتاب الأشربة ح (2055)
(7) التعريفات للجرجانى صـ184 ، وانظر : التوقيف على مهمات التعاريف لابن المناوى صـ281 .
(8) الكليات أبو البقاء الكفوى صـ53 ، تحقيق د/ عدنان درويش ومحمد المصرى ، من منشورات وزارة الأوقاف السورية ط2 1982م
(9) بصائر ذوى التمييز ، للفيروز آبادى (4/343) ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة .
(10) الكليات أبو البقاء الكفوى صـ54
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : " ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه . قال : فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال : يا قومى أسلموا فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعطى عطاءً لا يخشى الفاقة " (1)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : " ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال : لا " (2)
رابعاً : يقرى الضيف :
قرى الضيف يقريه ( قرى ) و ( قراء ) : أحسن إليه ، والقِرىَ ما قُرى به الضيف (3)(1/79)
ولقد كانت العرب تقرى الضيف ، بل تبالغ فى قراه وتفخر بذلك وتعده محمدة ولم تكن تعد الجود إلا قرى الضيف وإطعام الطعام ولا تعد السخى من لم يكن فيه ذلك . فمن عرف بالضيافة عرف بشرف المنزلة وعلو المكانة وانقاد له قومه فما ساد أحد فى الجاهلية إلا كان من كمال سؤدده إطعام الطعام .
ولقد جاء الإسلام وأشاد بهذا الخلق الكريم ورغب فيه فعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " (4) وعن أبى شريح خويلد بن عمرو - رضي الله عنه - قال : أبصرت عيناى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعته أذناى حين تكلم به قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته " قالوا : وما جائزته ؟ قال : " يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، وما كان بعد ذلك فهو صدقة عليه " (5)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - فى قوله تعالى : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (6) قال : نزلت فى رجل من الأنصار أرسل النبى - صلى الله عليه وسلم - معه ضيفاً من أضيافه ، فأتى به منزله فقالت له امرأته : ما هذا ؟ قال : هذا ضيف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : والذى بعث محمداً بالحق ، ما أمسى عندنا إلا القرص ، فذلك القرص لى أو لك ، أو للضيف ، أو للخادم ، قال : أثردى هذا القرص ، وأدميه بسمن ثم قربيه ، وأمرى الخادم أن يطفئ السراج وجعلت تتلمظ حتى رأى الضيف أنهما يأكلان ، وأصبح ، فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أين صاحب الضيف ؟ " ـ ثلاث مرات ـ والرجل ساكت ، قال : أنا صاحب الضيف . قال : " حدثنى جبريل أن الله تعالى عز وجل ضحك حين قلت لخادمك اطفئ السراج " ونزلت ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) إلى قوله : ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (7)(1/80)
وعلى المضيف عدم احتقار القليل لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " يا نساء المسلمات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسن شاة " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كفى بالمرء شراً أن يتسخط ما قرب إليه " (8) قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : " هلاك بالرجل يدخل عليه الرجل من إخوانه فيحتقر ما فى بيته أن يقدمه ، وهلاك بالقوم أن يحقروا ما قدم إليهم " (9)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل ح (2312)……
(2) أخرجه البخارى ح (6034) ، ومسلم ح (2311) واللفظ له . وأحمد فى المسند (3/307) …………
(3) مختار الصحاح للرازى صـ290 ، دار الحديث بالقاهرة بدون (ت)
(4) أخرجه البخارى فى كتاب االأدب ح (6136) وهو جزء من حديث طويل .
(5) أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ، باب إكرام الضيف ح (6135)…(6) الحشر 9
(7) أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب قرى الضيف ح 10 ، مكتبة أضواء السلف الرياض ط1 1418هـ / 1997م والحديث عند البخارى فى كتاب مناقب الأنصار ح (3798) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - ومسلم فى كتاب الأشربة ح (2054) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أيضاً
(8) أخرجه ابن أبى الدنيا فى قرى الضيف ح 55 ، وأبو يعلى (1981) (2201) والبيهقى فى شعب الإيمان (5872) وضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع الصغير ح ( 4093 ) فى الضعيفة ……
(9) أخرجه أحمد فى مسنده (3/371) ، والبيهقى فى السنن (7/279) وابن أبى الدنيا ح (56) وضعفه الألبانى
خامساً : يعين على نوائب الحق :
النوائب : جمع نائبة وهى الحادثة ، وإنما قالت نوائب الحق لأن النائبة قد تكون فى الخير وقد تكون فى الشر . (1)
إن تقديم العون والنصرة لمن يحتاج إليها سلوك إسلامى أصيل وخلق رفيع تقتضيه الأخوة الصادقة وقد كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - خير مثال يحتذى فيما يتعلق بإغاثة الملهوف وإعانة المظلوم وتقديم العون لكل من يحتاج إليه .(1/81)
عن أنس - رضي الله عنه - أن امرأة فى عقلها شئ جاءت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت إن لى إليك حاجة ، قال اجلسى يا أم فلان ، فى أى طريق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك . قال : فجلست ، فجلس النبى - صلى الله عليه وسلم - إليها حتى فرغت من حاجتها (2)
وعن أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر فى الدنيا يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم ستر الله عليه فى الدنيا والآخرة ، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه " (3)
قال ابن علان فى دليل الفالحين معلقاً على الحديث : وفيه عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو جاه أو نصح أو دلالة على خير أو إعانة بنفسه ، أو سفارته أو وساطته أو شفاعته أو دعائه له بظهر الغيب (4)
ومن فوائد إغاثة المسلم : (5)
1ـ الإغاثة رضا لله تعالى وتفتح لصاحبها طريقاً إلى الجنة .
2ـ الإغاثة كفيلة بتحقيق السلام الاجتماعى بين أفراد الأمة وتحقيق التضامن والتكافل بين المسلمين .
3ـ فى إغاثة المحتاجين ما يجعلهم يحبون أخوانهم ويتفانون فى خدمتهم ويحافظون على أموالهم .
4ـ الإغاثة نوع من الصدقة خاصة لمن لا يجد ما يتصدق به لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " على كل مسلم صدقة " ، فقالوا يا نبى الله فمن لم يجد ؟ قال : " يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق " قالوا فإن لم يجد ؟ قال : " يعين ذا الحاجة الملهوف " قالوا فمن لم يجد ؟ قال : " فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة " (6)(1/82)
فهذه هى أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - التى عرفتها فيه زوجته السيدة خديجة رضى الله عنها وعلمت مدى صدقه فى دعوته فلم تسمعه إلا ما يعينه على دعوته وهى تعلم ما يترتب على هذه الدعوة من تبعات ومشقة كما أخبره ورقة بن نوفل : " .... لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى وإن يدركنى بومك أنصرك نصراً مؤزراً ... " (7)
أما أبو بكر - رضي الله عنه - فهو من أوائل الناس إسلاماً وتصديقاً برسالته - صلى الله عليه وسلم - عن يقين ودليل وبرهان تحقق بفضل صحبته الطويلة قبل البعثة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولمعرفته اليقينة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد كان ثبات الصديق على هذا الدين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم على شرح النووى (2/353) .
(2) الشفاء ، القاضى عياض (1/128( والحديث رواه مسلم فى الفضائل ح (2326) وأبو داود ح 4818
(3) أخرجه مسلم ح 2699 ، والترمذى ح 1930 ، واللفظ له . وأبو داود ح 4946 ، وابن ماجة ح 225 ، وأحمد (2/252) والحاكم وقال صحيح على شرطهما .
(4) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين ، ابن علان الأشعرى (3/34 ـ 35 ) ، دار الحديث بالقاهرة ط1 1419هـ / 1998م .
(5) موسوعة نضرة النعيم فى أخلاق الرسول الكريم (1/430)
(6) أخرجه البخارى ح (1445) ، ومسلم ح (1008) . واللفظ للبخارى .
(7) أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ح (3)(1/83)
وضربه المثل الكامل للمؤمن الصادق ، وتطبيقه الفريد لحقائق الدين لهو دليل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - . قد علم أبو بكر صدقه علماً ضرورياً لما أخبر به ، وقرأ عليه ما أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وبقى القرآن الذى قرأه آية أخرى على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع الصدق والأمانة مع القرآن ومع القرائن الأخرى فوجب علماً بالضرورة أنه صادق . وكما قال ابن تيمية : وخبر الواحد المجهول من أحاد الناس قد تقترن به قرائن يعرف بها صدقه بالضرورة ، فكيف بمن عرف صدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذى لا يقوله إلا من أصدق الناس من أكذبهم ، وهو يعلم أنه من الصف الأول دون الثانى . (1)
ومن عظمته - صلى الله عليه وسلم - التى اشتهر بها وتفوق بها على أقرانه ومن هم فى مثل سنه " حكمته - صلى الله عليه وسلم - " . وتجلت يوم وضع الحجر الأسود عندما تنازعت قبائل قريش فيما بينهم ـ عند بناء الكعبة ـ من الذى يضع الحجر مكانه ؟ فقالوا : نحكم أول من يدخل من باب بنى شيبة ، فكان أول من دخل منه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر وسطه ، وأمر كل فخذ من قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه بيديه الشريفتين فوضعه مكانه. (2)
لقد ربط أرثر جيلمان فى كتابه ـ الشرق ـ بين هذه الحادثة التى منعت اقتتال القبائل التى هى بطون قريش ووحدت إرادتهم فى بناء الكعبة وبين المرحلة اللاحقة لبدء البعثة ، والتى تشكل مقدمة للنبوة وعلامة من علاماتها بقوله " هذه الفكرة التى بسطت السلام بين مختلف القبائل ، وقد اتفق المؤرخون على أن محمد كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة : من صدق الحديث والأمانة ، والكرم ، وحسن الشمائل والتواضع ، حتى سماه أهل بلده " الأمين " وكان من شدة ثقتهم به يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، وكان لا يشرب الأشربة المسكرة ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً " (3)(1/84)
وهذه عصمة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - عن كل أسباب التلوث العقائدى ، والتلوث الفكرى ، والعملى ، وتمهيداً لما هو مقبل عليه من حمل الرسالة وإصلاح البشرية كلها .
وكان محباً للفقراء ، عطوفاً على الضعفاء ، ناصراً للمظلوم ، حتى إنه دخل فى حلف الفضول الذى تعاهد فيه فريق من ذوى الكرم والنجدة من قريش فى الجاهلية على إغاثة الضعفاء ، والمظلومين وتخليص حقوقهم التى يهضمها الأقوياء المستعبدون من زعماء العشيرة .
ولما سألته عائشة رضى الله عنها : هل أتى عليك يوماً كان أشد من يوم أحد ؟ ـ حيث وقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حفرة حفرها المشركون ليقع فيها المسلمون وشج وجهه ، وكسرت رباعيته ودخلت حلقتان من المغفر الذى يستر به وجهه فى وجنته وجرحت شفتاه وسال دمه الشريف الطاهر على وجهه ولحيته ، فأخذ يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدماء ؟ ! " ومع ذلك رفع يديه إلى السماء وقال : " اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " ـ عند ذلك أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل " وذكر لقاء الطائف وما لقاه من ثقيف من صد وظلم وتكذيب وعدوان وطغيان ، من أجل هذا الخلق العظيم والصبر الجميل يرسل له رب العالمين ملك الجبال يستأمره أن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبوات ، لابن تيمية صـ312 ، مكتبة فياض بالمنصورة ط 2005م
(2) رواه أحمد فى المسند وأبو داود الطياليسى ، والبيهقى ، وأبو نعيم فى الحلية .. وحسنه البيهقى .
(3) الشرق ، أرثر جيلمان صـ117
يطبق عليهم الأخشبين فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً " (1)(1/85)
فهذه أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذى ما عرفت البشرية بأسرها كمحمد - صلى الله عليه وسلم - بهر الدنيا بسيرته ، وملأ التاريخ بعظمته ، وشمل الخلائق كلها برحمته حتى أثنى عليه ربه بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ، يقول إدوارد مونتيه أستاذ اللغات الشرقية فى جامعة جينيف ( 1856 ـ 1927 ) : " أما محمد فكان كريم الخلق حسن العشرة ، عذب الحديث ، صحيح الحكم ، صادق اللفظ ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هى صحة الحكم ، وصراحة اللفظ والإقناع التام بما يقبله ويقوله . إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص ... " (2)
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى حسن الخلق الذى يوجب التحاب والتآلف والتوافق بين جميع البشر بعيداً عن التحاسد والتدابر والتباغض ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - فى وصية جامعة شاملة لمعاذ - رضي الله عنه - قال معاذ : أوصانى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا معاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه فى القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح ، وأنهيك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصى إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً ، وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر وأن تحدث لكل ذنب توبة . السر بالسر والعلانية بالعلانية " (3)(1/86)
وفى حديث سفيان بن وكيع أن الحسين - رضي الله عنه - سأل أباه علياً عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - فى جلسائه فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهى ولا بؤس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، والإكثار ، وما لا يعنيه . وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحداً ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فى ما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، وإذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ويصبر للقريب على الجفوة فى المنطق . ويقول : " إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (4) ، ولا يقطع على أحد حديث حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام " (5)
( صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم ح (512،513) ، وأحمد فى مسنده (6/91،163) ، والبيهقى فى سننه (2/499) ، والبخارى فى الأدب المفرد ح (308)
(2) حاضر الإسلام ومستقبله ، ادوارد مونتيه . عن كتاب : ( محمد فى الدراسات الاستشراقية المنصفة ) ، لمحمد الشيبانى صـ137
(3) اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ، محمد بن محمد الحسينى الزبيدى (7/95)، دار الكتب العلمية ، بيروت ط1 1980م
(4) أى مقتصد فى ثنائه ومدحه وقيل إلا من مكافئ : أى إلا من مسلم
(5) الشفا ، للقاضى عياض (1/146 ـ 147)
الخاتمة
وتشتمل على :
1ـ نتائج البحث .
2ـ فهرس المراجع والمصادر .
3ـ فهرس الموضوعات
نتائج البحث
يطيب لى فى نهاية المطاف حول قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما بعثت لأتتم مكارم الأخلاق " أن أذكر ثمرات البحث وأضعها فى نقاط :(1/87)
1ـ أن الخلق اسم لسجية الإنسان وطبيعته التى خلق عليها وقد ذهب الجرجانى فى تعريفه للخلق على أنها عبارة عن هيئة راسخة للنفس يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر غير حاجة إلى فكر وروية . أما الجاحظ فعرفها بأنها حال للنفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار أما الإمام ابن تيمية فكان أكثر شمولاً فى تعريفه للأخلاق حيث ربطها ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالله ، ومعرفته ، وحبه وهذا الحب يتجه بالإنسان إلى تحقيق رضا الله تعالى لإلتزام بتحقيق هذا الرضا فى كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة .
والأخلاق منها ما هو محمود ، ومنها ما هو مذموم . فالخلق المحمود صفة ثابتة فى النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادى محمود عند العقلاء . أما الخلق المذموم فهو صفة ثابتة فى النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادى مذموم عند العقلاء .
أما المكارم فهى حالة فى النفس راسخة تصدر عنها أفعال الخير من غير حاجة إلى فكر أو روية ولقد صرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الهدف من بعثته هو تتميم صالح الأخلاق ومكارمها ، وليس ذلك أن الإسلام فقط بعث لإقامة الأخلاق وإنما خرج المعنى مخرج التأكيد على أهمية الأخلاق وأهمية تقويمها : مع الله أولاً اعتقاداً وعبادة ثم مع الخلق ثانياً .
2ـ أن للنظام الأخلاقى طابعان مميزان هما :
أ ـ طابع إلهى من حيث أنه مراد الله تعالى ، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان فى هذه الحياة رغبة الله فى خلقه ، ولذلك جاء الوحى بصورة هذا النظام .
ب ـ طابع إنسانى من حيث أن هذا النظام عام فى بعض نواحيه وللإنسان دوره فى تحديد واجباته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنسانى المعبرة عن القيم .
3ـ أن أهم ما يميز الأخلاق الإسلامية ما يلى :
أ ـ أن مصدرها الوحى : ولذلك فهى قيم ثابتة ومثل عليا تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه .(1/88)
ب ـ أن الأخلاق الإسلامية أخلاق عملية : هدفها التطبيق الواقعى وبيان طرق التحلى بها .
حـ ـ أن مصدر الإلزام فيها هو شعور الإنسان بمراقبة الله تعالى .
د ـ مبادئها تقنع العقل وترضى القلب والوجدان .
هـ ـ لا تحكم على الأفعال بظاهرها فقط وإنما تمتد إلى النوايا والمقاصد والبواعث .
4ـ أن الأخلاق الإسلامية تمتد علاقتها لتشمل كل نواحى الحياة ، فهناك علاقة العقيدة والأخلاق باعتبار أن العقيدة الإيمانية معيار توزن عليه الأعمال والأقوال وكافة التصرفات . وهذا ما يجعل المسلم أن يتحلى بالفضائل الخلقية وأن يتخلى عن الرذائل . وهناك علاقة بين الشريعة الإسلامية والأخلاق فهناك ارتباط أحكام المعاملات المالية بالأخلاق ، وهناك ارتباط أحكام المعاملات الاجتماعية بالأخلاق وهناك ارتباط أحكام الأحوال الشخصية بالأخلاق وكذلك أحكام تنظيم العقود ، وأحكام الآداب أيضاً بالأخلاق . وهناك علاقة بين السلوك والأخلاق حيث تتناول الأخلاق السلوك سواء من جانبها الفردى أو الاجتماعى . وهناك علاقة الضمير بالأخلاق فالإنسان كما أن لديه أدوات الحس الظاهر ـ السلوك ـ لديه أيضاً حس باطنى ـ الضمير ـ يدرك به طريقى الخير والشر وهما النجدان الممتدان فى أرض حياته الدنيا ، يختار منهما لسلوكه ما يشاء .
5ـ أن مجالات حسن الخلق ـ باعتبار علاقاتها ـ تنقسم إلى أقسام أربعة :
أ ـ حسن الخلق فى الصلة القائمة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى . فالفضيلة الخلقية تفرض على الإنسان كثيراً من السلوك الأخلاقى تجاه خالقه منها
تلقى أخبار الله تعالى بالتصديق .
تلقى أحكام الله تعالى بالقبول والتنفيذ والتطبيق .
تلقى أقدار الله تعالى بالرضا والصبر .
ب ـ حسن الخلق فى الصلة بين الإنسان وغيره من الناس . وهى كما قال الحسن البصرى كف الأذى ، وبذل الندى ـ الكرم والجود ـ ، وطلاقة الوجه .(1/89)
حـ ـ حسن الخلق فى الصلة بين الإنسان ونفسه .. ومنها الصبر على المصائب ، والأناة فى الأمور ، واتقان العمل ، وعدم استعجال الأمور ....
د ـ حسن الخلق فى الصلة بين الإنسان وغيره من المخلوقات . فحسن الخلق فى الإسلام يمتد ليشمل كل الكائنات الحية ولذلك غفر الله لبغى من بنى إسرائيل سقت كلباً يلهث من العطش ، ودخلت امرأة النار فى هرة حبستها لا هى أطعمتها وسقتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض .
6ـ أن الوحى الإلهى ـ قرآناً وسنة ـ والعقل بعتبران المصدر الأساسى للإلزام الخلقى جنباً إلى جنب باعتبارهما مستويين للمصدر الخلقى فى الإسلام .
7ـ أن أمهات الأخلاق وأصولها ـ كما ذكرها الغزالى فى الإحياء ـ أربعة : الحكمة : وهى حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ . والعدل : وهى حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة . والشجاعة : وبها تنقاد قوة الغضب للعقل فى إقدامها وإحجامها . والعفة : وبها تتأدب قوة الشهوة بتأدب العقل والشرع . فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها . ولم يبلغ كمال الاعتدال فى هذه الأربع إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
8ـ أن حظوظ الناس من الطباع الفطرية تختلف وتتفاوت فكذلك تتفاوت طبائعهم النفسية الخلقية وغير الخلقية فالبعض أخلاقه فطرية تظهر فيهم منذ نشأتهم ومنهم من تكون عنده استعداد فطرى لاكتساب الأخلاق عن طريق الكسب والمرونة ولذلك فإن الإخلاق يمكن تقسيمها إلى قسمين :
أ ـ أخلاق فطرية : وهى مكارم جبلية جبل عليها الإنسان تكون سجيه وطبيعية له .
ب ـ أخلاق مكتسبة : وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم والتصميم . والناس فى ذلك متفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم فى سلم الفضائل .
9ـ أن الإسلام جاء بمجموعة من الفضائل الخلقية تتميز بجملة من الخصائص هى :
أ ـ أخلاق معللة مفهومة : فهى ليست تحكمية مجردة من أى تفسير ولكنها معللة للأوامر .(1/90)
ب ـ أخلاق وسطية متوازنة : جامعة بين الدنيا والآخرة ، والروح والمادة ، والعقل والقلب ، والحق والواجب .
حـ ـ أخلاق واقعية : تراعى حالة البشر فلا تريد الإنسان ملاكاً جبل على الطاعة ولكن عند الخطأ فتحت له أبواب التوبة والرجوع إلى الخلق الحسن ، وتزكية النفس وتهذيبها .
د ـ أخلاق تمتاز بالشمولية : فى كل قطاع من القطاعات الإنسانية المختلفة .
10ـ أن منهج الإسلام فى تكوين القيم الخلقية يتأتى فيما يلى :
أ ـ عرض المواقف الخلقية لجذب الإنتباه : فقد استخدم القرآن كافة الإمكانات فى سبيل هذا الغرض بهدف الاستحواذ على انتباه المسلم ، وإثارة الرغبة فى الترقى ثم تأتى الاستجابة النابعة من داخله .
ب ـ تمجيد الإسلام لحسن الخلق والحث عليه : فالنصوص الإسلامية ـ قرآناً وسنة ـ توجه الإهتمام والعناية الكبرى لقيمة حسن الخلق ، وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير .
حـ ـ العلم : وهو وسيلة لمعرفة أنواع الأخلاق الحسنة التى أمر بها الإسلام ، وأنواع الأخلاق الرديئة التى نهى عنها الإسلام وبدون العلم لا يدرى الإنسان بأى من الخلقين يتخلق ومن أيهما يتجرد .
د ـ ضرب الأمثال : وهى وسيلة تربوية تلعب دوراً هاماً فى التأثير على السلوك الإنسانى وغرس القيم الخلقية لدى النشء المسلم .
هـ ـ الموعظة الحسنة والنصح : فالإنسان يصغى لنصح من يحبه وهو بذلك يكون له تأثير بليغ فى نفس المخاطب .
و ـ الأسوة الحسنة : فالرسول - صلى الله عليه وسلم - " القدوة الحسنة " بفضل تلك القدوة الحسنة استطاع أن يحمل معاصريه قيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه ليس بالقول فقط وإنما بالسلوك الواقعى الحى وما امتازت التربية الإسلامية عبر عصورها المختلفة إلا بصفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - القدوة ويوم أن غابت عن بال الناس فقدت فعاليتها فى حياتهم .(1/91)
ز ـ البيئة الصالحة : فمخالطة ذوى الأخلاق الحسنة ومجالستهم والاستماع منهم له الأثر الطيب فى نفس المخاطب فيدفعه ذلك إلى اقتباس أخلاقهم .
ح ـ التدريب العملى والتوجيه التربوى : ومن أهم وسائل التدريب العملى : محاسبة النفس ، وتكلف الأخلاق الحسنة فإنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه كما قال القدوة - صلى الله عليه وسلم - .
11ـ أن للأخلاق أهمية بالغة فى حياة الأفراد والجماعات والأمم فهى ضرورة إنسانية لا يستغنى عنها مجتمع ولا أمة من الأمم وتتضح أهميتها فى الآتى :
أ ـ للأخلاق أهمية بالغة فى ارتقاء السلوك الفردى للأفراد ، وما يصدر عنها بل نستطيع القول أن سلوك الإنسان موافق لما هو مستقر فى نفسه من معانٍ وصفات .
ب ـ للأخلاق أهمية بالغة فى ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ، وانهيار القوى المعنوية أيضاً ملازم لانهيار أخلاقها . فالأخلاق تزود المجتمع بالصيغة التى يتعامل بها مع العالم وتحدد له أهداف ومبررات وجودة ، وتعطى نمطاً معيناً من الشخصيات الإنسانية القادرة على التكيف الإيجابى فى المجتمع سواء المحلى أو الدولى ، وهذه الأخلاق هى الأخلاق الاجتماعية التى سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " صلاح ذات البين "
حـ ـ للأخلاق أهمية بالغة كونها ميزان الأفعال والتروك : فإن وزن الأفعال والتروك بميزان الأخلاق وصحة هذا الوزن أو فساده ، ومدى التزام الإنسان بمقتضاه ، وتنفيذه له كل ذلك يتوقف على نوع المعانى الأخلاقية
التى يحملها من حيث جودتها أو رداءتها .(1/92)
12ـ أن الله تعالى قد اختار النبى - صلى الله عليه وسلم - واختصه لنفسه ، وأكرمه برسالته وبعثه إلى خلقه وجمع له صفات الكمال البشرى فكان أكمل الناس خلالاً وأعلمهم بحدود الله وأتقاهم لله وأخوفهم لله فجمعت له - صلى الله عليه وسلم - صفات الكمال : كمال ظاهرى ضرورى ، وكمال ظاهرى مكتسب ، وكمال باطنى ضرورى ، وكمال باطنى مكتسب ولذلك جاءت أوصافه - صلى الله عليه وسلم - فى الكتب السماوية على أكمل الوجوه :
أولاً : جاءت أوصافه - صلى الله عليه وسلم - فى التوراة والإنجيل بأنه لا يجزى بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح وليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب فى الأسواق ..... ولن يقبض حتى يقيم به الله الملة العوجاء .
ثانياً : جاءت أوصافه - صلى الله عليه وسلم - فى القرآت الكريم بصفات بلغت درجة الكمال البشرى ومن هذه الصفات :
أ ـ الخلق العظيم .……ب ـ ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ……حـ ـ التواضع ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ )
د ـ الصبر ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) …هـ ـ الشجاعة ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ )……
و ـ العفو ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )………ز ـ الجود والكرم ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ )
ح ـ الزهد ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ )………ط ـ الحياء ( فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ )(1/93)
13ـ أن الرسول تمتع بصفات خلقية ونفسية عظيمة أهلته لحمل الرسالة ، فكان عند معاصريه ذو خلق كريم وعزم صادق حتى أن الذين لم يؤمنوا به ـ كاليهود ـ قبلوه حكماً فى نزاعاتهم الشخصية بسبب ما عرفوه عنه من تحريه الصدق وأمانة الكلمة وقول الحق والصدق ومن قبلهم كانت قريش فى نزاعها حول حمل الحجر الأسود عند بناء الكعبة لأمانته وصدقه ... وهذه الصفات هى التى جعلت المقربين منه كزوجه السيدة خديجة أن تجعل من أخلاقه دليلاً وبرهاناً على نبوته وصدقه فيما بلغ عن ربه حيث دللت على ذلك بصفاته التى لمستها منه عن قرب فكان إيماناً ليس مجرد تقليد واتباع لزوج ولكنها عددت له صفاته الخلقية والتى بسببها لن يخزيه الله أبداً ومنها : أنه يصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويكسب المعدوم ، ويقرى الضيف ، ويعين عن نوائب الحق .
ولقد تعرض الرسول لأشد أنواع البلاء ولكنه حمل الرسالة فى صبر جميل وحكمة وكان لسان حاله يقول فى أخلاق عظيمة " اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " .. فهذه كانت أخلاق النبى - صلى الله عليه وسلم - والذى ما عرفت البشرية بأسرها كمحمد - صلى الله عليه وسلم - بهر الدنيا بأخلاقه وسيرته وملأ التاريخ بعظمته ، وشمل الخلائق برحمته حتى أثنى عليه أرحم الراحمين بقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )
هذا وقد بذلت جهداً أحتسبه عند الله ، فما كان من توفيق فمنه وبه سبحانه ، وما كان من تقصير فمنى ومن الشيطان واستغفر الله منه .
( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )
………………………… الباحث
……………………… د . صيدلى / جمال محمد الزكى
فهرس المراجع والمصادر
القرآن الكريم
( أ )
1 ـ إحياء علوم الدين , الإمام الغزالي , دار الحديث 1419هـ / 1998م
2ـ اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ، محمد بن محمد الحسينى الزبيدى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ط 1 1980م .(1/94)
3ـ الأخلاق الإسلامية وأسسها ،عبد الرحمن حسن حنبكة الميدانى ، دار القلم ، دمشق ط1 1399هـ / 1979م .
4ـ الأخلاق والسير ، ابن حزم الأندلسى ، دار الآفاق الجديدة ط1 1998م .
5 ـ أدب الدنيا والدين , أبو الحسن الماوردي , مكتبة الإيمان بالمنصورة ( بدون تاريخ )
6ـ الأدب الصغير والأدب الكبير ، عبد الله بن المقفع ، شرح سعيد محمود عقيل ، دار الجبل بيروت ط1 2000م .
7ـ الأدب المفرد , الإمام البخاري , دار السلام للطباعة والنشر ط2 1425هـ / 2005م .
8ـ أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان ، مؤسسة الرسالة ط9 1421هـ / 2000م .
( ب )
9ـ البداية والنهاية , الحافظ ابن كثير , دار المنار بالقاهرة ط1 1421هـ / 2001م .
10ـ بصائر ذوى التمييز ، الفيروز آبادى ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة
( ت )
11ـ التربية الأخلاقية الإسلامية ، مقداد يالجن ، مكتبة الخانجى ، بالقاهرة ط1 1977م .
12ـ التربية فى الإسلام ، أحمد فؤاد الأهوائى ، دار المعارف بالقاهرة ط2 1967 م .
13ـ تسهيل النظر وتعجيل الظفر ، أبو الحسن الماوردى ، تحقيق رضوان السيد ، دار العلوم العربية للنشر ط1 1987 م .
14ـ التعريفات ، الجرجانى ، مكتبة القرآن ، بدون ( ت )
15ـ تفسير البحر المحيط ، أبو حيان ، عالم الكتب للطباعة ط1 1989م .
16ـ تفسير الطبرى ، ابن جرير الطبرى ، دار إحياء التراث .
17ـ التفسير الكبير " مفاتيح الغيب " ، الفخر الرازى ، المكتبة التوفيقية بدون ( ت ).
18ـ تفسير الماوردى " النكت والعيون " ، أبو الحسن البصرى الماوردى ، دار الكتب العلمية بيروت .
19ـ تهذيب الأخلاق ، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، دار الصحابة للتراث ط1 1410هـ / 1989م .
( ج )
20ـ الجانب الخلقى للنبى الكريم ، محمد يونس عبد الجبار ، المكتبة العصرية ، بيروت
( خ )
21ـ الخصائص العامة فى الإسلام ، د/ يوسف القرضاوى ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ط3 1415هـ / 1985م.
( د )(1/95)
22ـ دليل الفالحين شرح رياض الصالحين ، ابن علان الأشعرى ، دار الحديث ط1 1419هـ / 1998م.
( س )
23 ـ سنن أبي داود , الحافظ أبي داود سليمان السجستاني الأزدي , دار الحديث 1420هـ / 1999م .
24 ـ سنن ابن ماجة , الحافظ أبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني , دار الحديث ط1 1419هـ / 1998 م .
25 ـ سنن الترمذي , محمد بن عيسى بن سورة الترمذي , دار ابن الهيثم بالقاهرة ط1 1425هـ / 2004.
26 ـ سنن الدارمي , عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي , دار الحديث ط1 1420هـ / 2000م .
27 ـ سنن النسائي , أحمد بن شعيب بن دينار الخراساني النسائي , دار الحديث ط1 1420هـ / 1999م .
28ـ السيرة النبوية ، ابن هشام ، دار ابن رجب فارسكور ط1 1423هـ / 2003م .
( ش )
29ـ شرح الزرقانى على موطأ مالك ، محمد عبد الباقى الزرقانى ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى ، دار الحديث ، 1427هـ / 2006م .
30ـ شرح السنة ، الحسن بن مسعود البغوى ، تحقيق شعيب الأرناؤوط ، المكتب الإسلامى ، بيروت .
31ـ الشف بتعريف حقوق المصطفى ، القاضى عياض ، المكتبة التوفيقية ، بدون ( ت ) .
( ص )
32ـ صحيح البخاري , الإمام البخاري ، دار المنار للطبع والنشر 1422هـ / 2001م .
33ـ صحيح مسلم , الإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج, مكتبة الإيمان بالمنصورة , بدون ( ت ) .
( ض )
34ـ ضوابط المصلحة فى الشريعة الإسلامية ، محمد سعيد البوطى ، مؤسسة الرسالة بيروت ، ط4 1402هـ / 1982 م .
( ع )
35ـ عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم رسل الله ، مصطفى الزرقا ، دار القلم ، دمشق ط1 1417هـ / 1997 م .
36ـ علم الأخلاق الإسلامية ، مقداد يالجن ، الرياض / السعودية ط1 1413هـ .
( غ )
37ـ غذاء الألباب ، شرح منظومة الآداب ، محمد السافرينى الحنبلى ، دار القلم ، دمشق ط1 2006 م .
( ف )
38ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري , ابن حجر العسقلاني , مكتبة نهضة مصر للطباعة .(1/96)
39ـ الفوائد ، ابن قيم الجوزية ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، بدون ( ت ) .
40ـ فى ظلال القرآن ، سيد قطب ، دار الشروق ط10 ، 1400هـ / 1980 م .
( ق )
41ـ قرى الضيف ، ابن أبى الدنيا ، مكتبة أضواء السلف ، الرياض / السعودية ط1 1418هـ / 1997م .
42ـ القيم الإسلامية والتربية ، د/ على خليل مصطفى أبو العنين ، مكتبة إبراهيم حلبى ، المدينة المنورة 1408هـ / 1988م .
43ـ القيم الحضارية فى رسالة الإسلام ، محمد فتحى عثمان ، الدار السعودية ط1 1402/ 1403 هـ .
( ك )
44ـ الكليات ، أبو البقاء الكفوى ، تحقيق د/ عدنان درويش ، ومحمد المصرى ، من منشورات الأوقاف السورية ط2 1982م .
45ـ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال , المتقى الهندي , مؤسسة الرسالة , بيروت 1409هـ / 1989م .
( ل )
46ـ لسان العرب , ابن منظور , دار صادر , بيروت , بدون ( ت ) .
( م )
47ـ محمد - صلى الله عليه وسلم - الخلق الكامل والرحمة المهداة ، محمد الأنور البلتاجى ، مكتبة وهبة ، القاهرة ط1 1414هـ / 1993م .
48ـ محمد - صلى الله عليه وسلم - المثال الأسمى ، أحمد ديدات ، ترجمة محمد مختار .
49ـ مختار الصحاح , محمد بن أبي بكر الرازي , دار الحديث بالقاهرة بدون ( ت ) .
50ـ مدارج السالكين , ابن قيم الجوزية , مكتبة الإيمان بالمنصورة 1419هـ 1999م .
51ـ المستخلص فى تزكية الأنفس ، سعيد حوى ، دار السلام ط10 1424هـ / 2004 م.
52ـ مسند الإمام أحمد ، الإمام أحمد بن حنبل ، دار الحديث بالقاهرة .
53ـ معجم مقاييس اللغة ، أحمد بن فارس ، دار الجيل ،بيروت بدون ( ت ) .
54ـ المفردات في غريب القرآن , الراغب الأصبهاني , المكتبة التوفيقية بدون ( ت ) .
55ـ مكارم الأخلاق ، محمد بن صالح العثيمين ، مكتبة الرشد ، الرياض / السعودية .
56ـ منهج الحياة الإسلامية ، أبو الأعلى المودودى ، ترجمة د/ أحمد عبد الرحمن ، دار التوزيع للطباعة والنشر ، ط1 1427هـ / 2006م .(1/97)
57ـ الموافقات فى أصول الشريعة ، أبو إسحق الشاطبى ، المكتبة التوفيقية بدون ( ت ) .
58ـ موسوعة نضرة النعيم فى أخلاق الرسول الكريم " مجموعة علماء " دار الوسيلة ، جدة / السعودية ط1 1418هـ/ 1998م .
59ـ الموطأ ، الإمام مالك بن أنس
( ن )
60ـ النبوات ، ابن تيمية ، مكتبة فياض بالمنصورة ط 2005 م .
61ـ نحو توحيد الفكر التربوى فى العالم الإسلامى ، محمد فاضل الجمال ، الدار التونسية للطبع والنشر 1972م .
62ـ النظرية الخلقية عند ابن تيمية ، محمد عبد الله عفيفى ، مطابع الفرزدق التجارية ، الرياض / السعودية ط1 1408هـ / 1988م .
( و )
63ـ الوسطية فى القرآن الكريم ، د/ على الصلابى ، مكتبة الإيمان بالمنصورة ، ط1 بدون ( ت )
فهرس الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
المقدمة
الفصل الأول : الأخلاق الإسلامية ، مفهومها ، طبيعتها ،مجالاتها، مصادرها وأصولها .
المبحث الأول : مفهوم الأخلاق الإسلامية .
المبحث الثانى : طبيعة الأخلاق الإسلامية .
المبحث الثالث : مجالات الأخلاق الإسلامية .
المبحث الرابع : مصادر الأخلاق الإسلامية .
المبحث الخامس : أصول الأخلاق الإسلامية .
الفصل الثانى : الأسس الإسلامية فى تقويم الأخلاق .
المبحث الأول : الأخلاق ، فطرية ومكتسبة .
المبحث الثانى : منهج الإسلام فى تنمية الأخلاق .
المبحث الثالث : ضرورة مكارم الأخلاق للمجتمعات .
الفصل الثالث : كمال خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
المبحث الأول : أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الكتب السماوية .
المطلب الأول : أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى التوراة والأنجيل .
المطلب الثانى : أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن الكريم .
المبحث الثانى : صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخلقية عند معاصريه :
الخاتمة :
نتائج البحث
فهرس المصادر
فهرس الموضوعات ... 1
4
5
8
14
17
18
19
20
22
28
33
34
34
34
41
51
52
56
59(1/98)