الرسالة الرابعة
{ إن ربك حكيم عليم }
[ الأنعام : 83 ]
لفضيلة الشيخ
عبد العزيز بن ناصر الجليل
مؤسسة نور الإسلام
www.islamlight.net
إن ربك حكيم عليم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه، حيث يرجعون إليه سبحانه فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون،ثم إن الله سبحانه وتعالى قد ركب في فطر خلقه الاستعداد للتوحيد،والانجذاب إليه سبحانه فيما لوتركت النفس بدون مغير؛كما قال الله عزوجل في الحديث القدسي"إني خلقت عبادي حنفاء ...الحديث"(1)وقد أودع عز وجل في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل عليه سبحانه وأنه وحده الخالق المدبر لهذا الكون،وأنه هو المستحق للعبادة وحده.
ولكن مع كل هذا الاستعداد الفطري للتوحيد ومعرفة الله عزّ وجلّ بآياته إلا أنه سبحانه وتعالى وبواسع رحمته ، وعظيم إحسانه لم يكلنا إلى فطرتنا وحدها ؛ذلك لما يعتري الفطرة السليمة من الفساد والركام بفعل المؤثرات الخارجية أولاً ، وثانياً: لأن الفطرة الإنسانية مهما كانت سليمة وموحدة لبارئها وعالمة به في الجملة؛إلا أن هذا العمل والتوحيد سيبقى مجملاً وناقصاً .
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها (2865) .(1/1)
ومن أجل ذلك أرسل الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليزيلوا ركام الوثنية والشرك الذي تراكم على النفوس ليردوها إلى التوحيد الخالص لله عز وجل ويعرفوهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى والتي لا تدركها الفطرة بدون معلم، كما يعلمونهم الأحكام ، والتشريعات الربانية التي تُصلح أمور دينهم ودنياهم ،ويعلموهم أن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، وأن هناك جنة وناراً وللجنة أهلون لهم صفات يليقون بها ، وللنار أهلون لهم صفات يستحقون العذاب بسببها، وكل هذه المعارف والعقائد لا تعرف لولا رحمة الله عز وجل ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الانبياء:107].
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25].
ومن أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله لله أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ،ويعبدوه حق عبادته،ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا لله سبحانه ويدعونه بها، قال تعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف:180].
وإن توحيد الأسماء والصفات له شأن عظيم ، وأثر كبير في النفوس
والقلوب ، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ولكن ما معنى الإيمان بالأسماء والصفات ؟ .(1/2)
إن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته لا يتم على الوجه الصحيح إلا أن ينبني الفهم فيها على ثلاث أسس مهمة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في محاضرة له عن منهج دراسة لآيات الأسماء والصفات- ، قال في خاتمتها : إنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله :
الأولى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]؛ فنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق .
الثانية : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }[الشورى:11] ؛ فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة، على أساس التنزيه كما جاء { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } بعد قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
الثالثة : أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية ؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل،وهذا نص الله عليه في سورة طه؛حيث قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[طه:110].
وإن هذا الذي ذكره الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في المنهج الصحيح لفهم الأسماء والصفات ،لابد أن ينضم إليه الشعور بآثارها القلبية، والتعبد لله عز وجل ودعائه بها ، وإلا لن يتم الإيمان بالأسماء والصفات كما آمن به سلف الأمة الذين جمعوا بين الفهم والعمل ، ونظروا إلى كل اسم من أسماء الله عز وجل بأن فيه حقاً من العبودية لله عز وجل على العباد، يتعبدون لله سبحانه وتعالى به .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(1) :
»فصل« والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر ،اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها ، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح .
__________
(1) مفتاح دار السعادة ص424 .(1/3)
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً .
وعلمه بسمعه تعالى وبصره،وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأنه يعلم السر وأخفى ،ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله . وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطناً ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح .
ومعرفته بغناه، وجوده ،وكرمه،وبره ،وإحسانه، ورحمته ؛توجب له سعة الرجاء ،ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه ،وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي من موجباتها .
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة
بمنزلة أنواع العبودية ، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها ، فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضياتها .اهـ .
وقال رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين) :(1/4)
» والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء ، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص ، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة ،وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، موصوف بصفة الكمال ، مذكور بنعوت الجلال منزه عن الشبيه والمثال ، ومنزه عما يضاد صفات كماله ؛ فمنزه عن الموت المضاد للحياة ، وعن السِّنَةِ والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية ،وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها،من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، موصوف بالقدرة التامة منزه عن ضدها من العجز ، واللغوب ، والإعياء ، موصوف بالعدل منزه عن الظلم ، موصوف بالحكمة منزه عن العبث ، موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم، موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضداد ذلك ، موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه مستحق للحمد كله .
فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي وله الحمد كله واجب لذاته ، فلا يكون إلا محموداً كما لا يكون إلا إلهاً ورباً قادراً «(1) .
مما سبق من هذه النقول، يتبين أن المقصود من الإيمان بتوحيد الأسماء
والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فقط ، وإنما المقصود أن نفهمها كما فهمها رسول الله لله وصحابته الكرام لفظاً ومعنى ، والتعبد لله سبحانه وتعالى بها والعمل بمقتضاها .
__________
(1) طريق الهجرتين ص203 .(1/5)
ولقد أحدث أهل الكلام وتلامذتهم من المبتدعة حدثاً كبيراً في هذا الركن الركين من التوحيد ؛ حيث تحول التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته إلى جدل كلامي ، ودراسات فلسفية ، وانعكس ذلك بدوره حتى على الذين يدرسون أو يُدرِّسون الأسماء والصفات على منهاج أهل السنة والجماعة ، فقلما نجد من الدارسين أو المدرسين لهذا العلم العظيم من يشير إلى المقصود الأساسي من دراسة هذا العلم ؛ ألا وهو التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها كما مر بنا في كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ولكي يثبت لنا صحة هذه الملاحظة وأننا نمر على أسماء الله تعالى وصفاته ولا نقف عند مدلولاتها وآثارها في القلب وفي الواقع، نأخذ على سبيل المثال ـ لا على سبيل الحصر ـ اسمين من أسماء الله تعالى الحسنى طالما قرأناهما مقترنين في كتاب الله تعالى ، ومع ذلك لا نقف على سر اقترانهما، ولا على مدلول ولوازم كل اسم منهما ، وماذا يجب علينا من العبودية فيهما .
وهذان الاسمان هما المذكوران في عنوان هذا البحث : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
قال تعالى : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:83].
وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].(1/6)
وقال تعالى : {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6].
والآيات التي ختمت بهذين الاسمين الكريمين كثيرة جداً في كتاب الله عز وجل ، فما معنى هذين الاسمين الجليلين، وما مقتضاهما ومدلولهما ؟.قال الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } :
الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها ، فالله جل وعلا حكم لا يضع أمراً إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ، ولا يأمر إلا بما فيه الخير ، ولا ينهى إلا عما فيه الشر ، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو جل وعلا ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة .
وأصل الحكم في لغة العرب: معناه : المنع ؛ نقول : حكمه ، وأحكمه إذا منعه . قال الشاعر :
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
وقال آخر :
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
هذا هو أصل الحكم .
والحكمة: فعلة من الحكم ، وأظهر تفسير لها : العلم النافع ؛ لأن العلم النافع هو الذي يحكم الأقوال والأفعال؛ أي يمنعها من أن يعتريها الخلل ؛ فمن كان عنده العلم الكامل ؛ فإنه لا يضع الأمر إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ؛ لأن كل إخلال في الأحكام إنما هو من الجهل بعاقبة الأمور ، فترى الرجل الحاذق البصير يفعل الأمر ؛ يظن أنه في غاية الإحكام ، ثم ينكشف الغيب أنه فيه هلاكه؛ فيندم حين لاينفع الندم ؛ ويقول : ليتني لم أفعل ، أو لو أني فعلت كذا لكان أحسن .(1/7)
أما الله سبحانه العالم بعواقب الأمور وما تصير إليه والعالم بما كان ويكون ، فلا يضع أمراً إلا في موضعه . ومحال أن ينكشف الغيب عن أن ذلك الأمر على خلاف الصواب لعلمه سبحانه بما تؤول إليه الأمور .
والعليم : صيغة مبالغة ؛ لأن علم الله جل وعلا محيط بكل شيء؛ يعلم خطرات القلوب ، وخائنات العيون ، وما تخفي الصدور ؛ حتى إن من إحاطة علمه سبحانه علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد ، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون.
وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه ، ويتبعوا تشريعه؛لأن حكمته سبحانه تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير،ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر،ولا يضع أمراً إلا في موضعه ، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد؛بل هو في غاية الإحاطة والإحكام ، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير ، ولا ينهاك إلا عن ما فيه الشر ، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل "(1) اهـ .
مما سبق من كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى يتبين أن اسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله عز وجل حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه فهو حكيم في قضائه وقدره؛ لأن من المعلوم أن ما يحكم به سبحانه وتعالى ويقتضيه في هذا الكون نوعين من الحكم :
1 ـ حكم كوني قدري .
وهو قسمان :
ـ قسم يمكن مدافعته .
ـ قسم ليس في الوسع مدافعته .
2 ـ حكم ديني شرعي :
والله سبحانه وتعالى حكيم عليم في أحكامه الكونية القدرية ، وحكيم عليم في أحكامه الدينية الشرعية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين):
" بل الأحكام ثلاثة :
الحكم الأول : حكم شرعي ديني :
__________
(1) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله تعالى .(1/8)
فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة ؛ بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة ؛ فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ، ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة ، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول .
فإذا تلقي بهذا التسليم والمسالمة،إقراراً وتصديقاً بقي هناك انقياد آخر،
وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذاً وعملاً ؛ فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه ، كما لا تكون له شبهة تعارض إيمانه وإقراره ، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق ، وشهوة تعارض الأمر ، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات ، بل اندرج خلاقه تحت الأمر ، واضمحل خوضه في معرفته بالحق ، فاطمأن إلى الله معرفة به ، ومحبة له ، وعلماً بأمره ، وإرادة لمرضاته ، فهذا حق الحكم الديني الشرعي .
الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري، والذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة : والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه ، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة ، بل ينازع بالحكم الكوني أيضاً ، فينازع حكم الحق بالحق للحق ؛ فيدافع به وله،كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي :" الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة ، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق ، والعارف من يكون منازعاً للقدر لا واقفاً مع القدر " .
فإن ضاق ذرعك عن هذا ، فتأمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد عوتب على فراره من الطاعون ، فقيل له : أتفر من قدر الله ؟، فقال : " نفر من قدر الله إلى قدره ".
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه؛فإنه إذا جاء قدرالجوع والعطش أوالبرد نازعه وترك
الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر من الأكل والشرب واللباس ؛ فقد دفع قدر الله بقدره.(1/9)
وكذا إذا وقع الحريق في داره ، فهذا بقدر الله ، فما بالله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟، بل ينازعه ويدافعه بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله .
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بكل ما يمكنه ؛ فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى ، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه ، وأسباب معاشه ، ومصالحه الدنيوية ، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه ؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ؟!.
ولو أن عدواً للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ؛وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب،دفعاً لقدر الله بقدره ، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية ؛ اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة ، وخرج الأمر عن يده ، فحينئذ يبقى من أهل :
الحكم الثالث : وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته :
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة،وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل،وكمن انكسربه المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة ،وعن سبب يدنيه من النجاة ، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة؛مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخرى سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه ، وعدله في قضائه ، وحكمته في جريانه عليه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلب بما يلقاه كل عبد،فمن رضي، فله الرضا،ومن سخط فله السخط.(1/10)
ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة ، وأن القدر قد أصاب مواقعه ، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به ، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل ، فهو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، فله عليه أكمل حمد وأتمه ، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره"(1)اهـ.
وفي ضوء هذا الكلام البديع للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تبرز لنا حقيقتان مهمتان من لوازم ومقتضيات اسم الله عز وجل (الحكيم):
الحقيقة الأولى :
أن (اسم الحكيم) يلزم على الإيمان به لوازم قلبية تعبدية تقتضي الإيمان الجازم بأن الله عز وجل حكيم في جميع أحكامه الدينية الشرعية ، ليس لأحد من البشر أن يعارضها أو يأتي بما يناقضها أو يخلطها بغيرها.
بل إن اسم (الحكيم) لله سبحانه يفرض على العبد الاستسلام لشرع الله الحكيم، فيحكم به، ويتحاكم إليه،ويرفض كل شرع يخالف شرع الله حكماً وتحاكماً ، ويؤمن إيماناً جازماً أن من شرع ديناً ونظاماً لم يأذن به الله تعالى،وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم،أو ساواه بشرع الله ، أو جوز الحكم به ، فإنه قد أشرك بالله عز وجل ، ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضاً .
ذلك لأن في هذا الصنيع كفراً بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ومنها اسم (الحكيم)، فوق ما فيه من كفر بتوحيد الألوهية ، وبالذات توحيد الطاعة والاتباع. قال تعالى : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } [الأحزاب:36].
__________
(1) طريق الهجرتين، ص63.(1/11)
وقال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
وإن خطورة هذا الشرك لتظهر في عصرنا اليوم الذي أ ُقْصِي فيه شرع الله عز وجل جانباً،وحكم في الأنفس والعقول والأموال والأعراض بأنظمة البشر وأهواء البشر،التي تخلو من العلم والحكمة ، ومعرفة عواقب الأمور، وإنما الذي يسيطر عليها الجهل والهوى والتخبط . وإنه لم يظهر مثل هذا الشرك الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية كما ظهر في زماننا اليوم
ونظراً لخطورة هذا الأمر، وقلة من تكلم عنه أنقل كلاماً نافعاً للشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ،وهو يتحدث عن هذا الشرك الجديد في (أضواء البيان) عند قوله تعالى: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً }[الكهف:26].
قال رحمه الله تعالى : " قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر »ولا يشركُ« بالياء المثناه التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية ، والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا ، لا حكم لغيره البتة ، فالحلال ما أحله تعالى ،والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ، وقرأه ابن عامر من السبعة: "ولا تُشركْ " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ؛أي لاتشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا ، بل اخلص الحكم لله في شوائب شرك غيره في الحكم ، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل ـ في ذلك ـ التشريع دخولاً أولياً .(1/12)
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه، على كلتا القراءتين،جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف:40]، قوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت }[يوسف:67]، وقوله تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر:12].
وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، وقوله تعالى : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص:70]، وقوله تعالى : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }[المائدة:50]، وقوله تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[الأنعام: 114]، إلى غير ذلك من الآيات .
ويفهم من هذه الآيات كقوله:{وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخرى ؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121]فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم .(1/13)
وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يّس:60، 61]، وقوله تعالى تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44]، وقوله تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [النساء:117]، أي : ما يعبدون إلا شيطاناً ، وذلك باتباع تشريعه ؛ ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، في قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } [الأنعام:137].
وقد بين النبي لله هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ }الآية[التوبة:31]، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله ، فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً .
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ماشرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ؛ وذلك في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } [النساء:60].(1/14)
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، وأنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم"(1)اهـ .
وحول هذا الموضوع أيضاً قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى :{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء: 59]: " إن هذه الآية تتضمن أموراً ... " إلى أن قال :
"ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين؛فإنه من الطرفين،وكلاً منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه .
والطاغوت:كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [عَدَلُوا] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ،وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم،ولا قصدوا قصدهم ؛ بل خالفوهم في الطريق والقصد معاً .
__________
(1) أضواء البيان (4/90 – 92) .(1/15)
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء ، بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ،ولم يستجيبوا للداعي ،ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم ، وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول ، وتحكيم غيره، والتحاكم إليه ، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم} [المائدة:49]، اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ؛ أي بفعل ما يرضي الفريقين، ويوفق بينهما، كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول ، وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق .
والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ؛ فمحض الإيمان في هذه الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق.
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج، والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً ،وينقادوا انقياداً.
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ،ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً.(1/16)
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وروى العوفي عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
والقول الجامع في معنى الآية : لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يفعل .
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]. فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟ .
وقال تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا
مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}[النور:62]،فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه ، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب إلا بعد استئذانه ، وإذنه معروف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه"(1)اهـ .
الحقيقة الثانية :
__________
(1) إعلام الموقعين (1/50).(1/17)
ومن لوازم الإيمان باسم الله (الحكيم) الإيمان بأن ما يقضيه الله عز وجل من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة ،وفيها الصلاح والخير ، إما في الحال أو المآل ، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله سبحانه ، ففيه الخير والصلاح للناس ولو لم يظهر للبشر هذه الخيرية ؛ فلابد من الإيمان بأن الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما يقدر ، وهذا ما يقتضيه اسم الله (الحكيم).
يقول الله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
قال سيد قطب رحمه الله حول هذه الآية:"..إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً.إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده ،حيث لا يعلم الناس شيئاً"(1)اهـ
والمقصود أن الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في قضائه وقدره ؛ يفرض على المسلم الاستسلام والرضا بما يقدره الله عز وجل، من الأحكام الكونية القدرية،من مصائب وأمراض وغيرها،وما لا يستطيع دفعه بالأسباب الشرعية، أما ما يمكن دفعه ومنازعته بقدر آخر من أقدار الله عز وجل؛فإن هذا لا يعارض الإيمان بالقدر،كما سبق نقله عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(2)
__________
(1) في ظلال القرآن ص323 – دار المعرفة .
(2) انظر ص: 154 – 155 .(1/18)
فالإيمان بعلم الله عز وجل وكتابته لجميع المقادير قبل وقوعها ، ثم الإيمان بأنه سبحانه حكيم فيما يفعل ، ويقضي ويقدر كل هذا ببث الرُّوح والطمأنينة ويسكبها في قلب المسلم المخبت لربه ، المطمئن لقضائه وقدره ، الموقن بأن كل ما يكتبه الله عز وجل عليه من مصائب وغيرها فهي خير له إما عاجلاً أو آجلاً ، كما قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]،وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : " عجباً لأمر المؤمن!إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"(1)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : ".. والخير كله في يديك والشر ليس إليك"(2) .
فالشر ليس إليه سبحانه ولو ظهر لنا أن هذا الفعل شر ومكروه، فهو بالمآل خير وصلاح. ولقد كان أنبياء الله عز وجل يدركون ما في أسماء الله عز وجل من العبوديات وما يلزم عليها من الرضا والتسليم والطمأنينة لقضاء الله وقدره .
فهذانبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الخبر بحجز ابنه الثاني عند عزيز مصر-وقد سبق ذلك فقده ليوسف عليه السلام-توجه برجائه ودعائه لله عزوجل.قال تعالى يحكي حاله:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَىاللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[يوسف:83] وكذلك الحال ليوسف عليه السلام عندما جمعه الله بأبويه حيث قال : { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقائق (2999 ) .
(2) مسلم – كتاب صلاة المسافرين (771) .(1/19)
ومن خلال التأمل للآيتين السابقتين نلاحظ أن يعقوب وابنه عليهما الصلاة والسلام قد ختما تضرعهما لله عز وجل بعد المصائب التي حلت بهما بهذين الاسمين العظيمين (العليم الحكيم).
واختيار هذين الاسمين الجليلين في هذا المقيام له دلالته ومغزاه ؛ لأن أعرف الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله،ولقد ختما تضرعهما إلى الله عز وجل باسم العليم الحكيم- ، وذلك والله أعلم لما يبثه هذان الاسمان الكريمان في قلب المسلم من الرضا والطمأنينة والتسليم لقدر الله عز وجل ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يحدث إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة . وبينما كنت في نهاية هذا البحث وخاتمته قدر الله عز وجل الأحداث الموجعة التي تعيشها المنطقة الإسلامية هذه الأسابيع ، والتي تعرف بأحداث الخليج على إثر الاجتياح العراقي لدولة الكويت ، ومع ما تحمله هذه الأحداث من مصائب ونكبات، إلا أنه ظهر وسيظهر من مقتضيات اسم الله ( العليم الحكيم) دروس وعبر ومشاهد ، تزيد في إيمان المؤمن بأسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العليا .
ولذا أحببت أن أ ُدلي ببعض المعاني التي جالت في الخاطر إزاء هذه الأحداث بعد ربطها بهذين الاسمين الجليلين العظيمين من أسماء الله عز وجل الحسنى العليم- ، الحكيم- ، فأقول وبالله التوفيق :
إن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل، الإيمان بقضائه وقدره، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل وإرادته وخلقه له ؛ قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى : {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53].(1/20)
كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته ،لايحصل إلا بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون من ورائه حكمة بالغة ، ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه ؛ فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان والمكان ، ولأن من طبيعته الجهل والظلم ، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور وعواقبها ، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم ، خالق الأشياء ومقدرها ، وعالم الغيب والشهادة .
قال تعالى : {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]. وقال تعالى : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
إذ الأمر كذلك ؛ فلا شك ولا ريب،أن ما حصل من أحداث، وشرور في أحداث الخليج إثر الاجتياح البعثي للكويت لابد وأن نخضعه للأصول الآنفة الذكر ، وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً، وانحاز إلى معسكر الكفر والإلحاد ، الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق ، وإنما يفسرون أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره، وحكمته البالغة فيما يخلق ويقدر.
وعلى ضوء ما سبق ؛ فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن يؤمن إيماناً جازماً أن ماقدره الله عز وجل في أحداث الخليج، وإن كانت موجعة مؤلمة ؛ فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين والمرتبطة باسمه (الحكيم) سبحانه وتعالى .
ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من خلال هذه الأحداث المؤلمة ، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم والمصالح أكثر، ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي :(1/21)
الدرس الأول : التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير وهي التفسير الإسلامي للأحداث :
إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت ، وما ترتب على هذا الحدث من أمور ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً على حقيقة مهمة وسنة ثابتة لا تتغير ؛ ألا وهي : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }[الرعد:11]، وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منَّ الله عليهم باليقظة بعد الغفلة رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين ، وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث .
لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ، ولكنه إيمان ضعيف، أما الآن فقد تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية ؛ صار الخبر فيها عياناً، ولا شك أن الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها قبل وقوعها ، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد .
كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد ، وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم، ولم يأت ما يوقفهم ويحد من انحدارهم إذا لم يصلحوا أنفسهم، ويوقفوا فسادهم بالوسائل الشرعية للإصلاح ، فيقدر عليه أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار ، وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم .(1/22)
قال الله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم:41]، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة ،وإن كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال ، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر عند فقد الدين ، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبيرة ،لو استمرت عجلة الفساد في انحدارها الشديد ، ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا أنفسهم من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره من أحداث.
وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ، ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس ، والرجوع إلى الله عز وجل ، وتغيير الأحوال .
أما المنافق، والمادي، والعلماني، وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة، فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة ، والأصول الإيمانية الثابتة ، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه ، ولن
يزيدهم هذا إلا رجساً إلى رجسهم ، كما قال تعالى : {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:124- 126].
وقال تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].
الدرس الثاني : تمييز الخبيث من الطيب :(1/23)
يقول الله تعالى : {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [آل عمران:179]
إن من رحمته تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف ، وتتعرى فيها النفوس ، فتظهر على حقيقتها للناس . وهذا هو الذي ظهر من خلال هذه الأحداث ؛ حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس ، والدعاة منهم بصفة خاصة ، وذلك بحقيقة أعدائهم ، وتهافت راياتهم ، وانكشاف مخططاتهم ، وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس .وتعرت بذلك دول وأفكار ودعوات، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه، وكشف من خلال هذه الأحداث حقائق من حوله،ومن نفسه ،ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عزوجل مثل هذه الأحداث،وإن هذه الثمرة الكبيرة، من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم ، وبحقيقة الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ، ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً ، وبهذا الكم الهائل من المعلومات،لولا تقدير الله عز وجل لهذا الحدث.
وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية لتحصل عليها في عدة سنوات ، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة ؛ أليس هذا من رحمة الله وفضله ؟ ، بلى والله .
ولا يعني هذا أنا نتمنى المصائب والفتن ؛ معاذ الله ، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ ، وقد نهانا رسول الله لله عن ذلك بقوله : " لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموه فاصبروا"(1) .
ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، ويريد الله عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل .
الدرس الثالث : أهمية التوحيد والتربية عليه :
__________
(1) متفق عليه .(1/24)
لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة التوحيد الخالص ، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب المهم في حياة المسلم ، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية.
ولعل من أهم دروس هذا الحدث أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه والتربية بضعف هذا الجانب ، وما كان ليعرف هذا الخلل لولا تقدير الله
سبحانه وتعالى هذه الأحداث .
ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم العقدية،والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ، ولا تهتز ولا تتغير مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة ، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها الاهتزاز ،مفهوم الولاء والبراء،والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم وأفكارهم .
أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً ، وأما أن تبذل المحبة للكافر والعداوة للمسلم ، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين المصالح الشخصية ؛ فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة ، والتي تقوم الموالاة والمعاداة على أساسها ، وهذا هو أصل لا إله إلا الله ؛ الكلمة الطيبة التي وصفها الله عز وجل بقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [ابراهيم:24، 25].(1/25)
وهي الكلمة التي من أجلها أُرسِل الرسل وأ ُنزلت الكتب ، وجاهد من أجلها أنبياء الله عز وجل ودعاته الصادقين ، كما قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة:4].
أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية فليس لها صفة الثبات؛ بل إن أبرز خصائص المصالح والموازين الأرضية ؛ عدم الثبات والروغان ، فالذي يحب ويعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت ، فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء ، وقد يوالي في المساء من عاداه في الصباح ،وصدق الله العظيم: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ابراهيم:26، 27]، اللهم ثبتنا بقولك الثابت ، ولا تضلنا مع الظالمين .
ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد ؛ ما ظهر من النقص والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها ، وما نتج عن هذا الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين ، والثقة بما عندهم أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل .(1/26)
ولأجل كل ما سبق،ظهر أن الحاجة الماسة جداً إلى مزيد من التربية على العقيدة علماً وعملاً ؛بأن نتعلم أركان التوحيد ، وما يضاده من الشرك القديم والجديد،وألا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية ، فيستهووننا معهم ، ويركبوننا في ركابهم ، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم ، وأن نقبل على ديننا نتعلمه ، ونعمل به وندعو إلى الله ،ونصبر على الأذى فيه ، وألا نستطول الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد ، وكل متعلقاته .
كما يجب علينا أن نعي واقعنا، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا ، ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا ، وأن يكون للتربية الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر ،والتي تشن فيه العلمانية معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى.
أي أننا نريد منهجاً دعوياً يقوم على (سلفية المنهج وعصرية المواجهة)(1) ونقصد بالسلفية: العودة بأصول الفهم والاستدلال إلى الكتاب والسنة ، وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله لله ومن تبعهم بإحسان ؛ وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا،التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم ، وكانت فريضة الوقت يومئذ ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها الجاهلية في المجتمعات المعاصرة ؛ حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم وذلك في أكثر بلدان المسلمين.
إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بعض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات،والتمائم،وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم؛والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام ، وكلا الشركين خطير.
__________
(1) المراد (بعصرية المواجهة) أن يواجه أصحاب المنهج السلفي في كل عصر ما يكون في عصرهم من بدع وشركيات ومنكرات سواء كانت لها جذور قديمة أو كانت جديدة لم يسبق لها نظير بعينها وإن كان إنكارها له أصل شرعي .(1/27)
كما لا تقبل السلفية الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عزوجل وتقف عند ذلك،ولا تعلن الحرب على تعطيل الشريعة،وتحكيم القوانين الوضعية،وفصل الدين عن الدولة،وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة،نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز،كما هو الحاصل في هذه الأيام ،ولكنها الفتن ؛ نعوذ بالله منها ؛ ما ظهر منها وما بطن .
وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر)حول أهمية التربية والرد على من يستطول طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها،فقال ص684:" أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل)(1)؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً ؛ فنقول لهم : عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة من الآن!، فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، وإنما نستطيع أن نقول لهم : نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول ..." ثم يستمر وفقه الله حول هذا الموضوع إلى أن قال : " ... ونكتفي بثلاثة أبعاد ، ننتقيها من بين أبعاد كثيرة ومجالات عديدة ؛ لأنها ذات أهمية خاصة ؛ وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة .
يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58]، ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله ، ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق ، يقول : فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة ؟
__________
(1) الكلام هنا موجه لأولئك الشباب المتحمس الذي ينقضه التربية والعلم الشرعي والإمكانات ومع ذلك يطالب بإعلان الجهاد ضد الأنظمة التي تنكرت لشرع الله واستحلت ما حرم الله .(1/28)
دلالتها أن تلك البديهة ذهنية فحسب ، وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ؛لأنها ليست عميقة الجذور ... فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأن الله هو المحيي المميت، وأن الله هو الضار النافع ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء ...
ترى كم جلسة ؟!كم درساً؟! كم موعظة ؟!كم توجيهاً يحتاج إليها
الإنسان؟! ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر ، وأن المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله ، وأنها حين تضره فهي بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له ، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه وضرائه سواء ،ويعلم يقيناً أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً "اهـ .
الدرس الرابع:صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن :
في أيام الفتن تضطرب الأفهام ،وتحتار العقول أمام الشبهات ، كما أن القلوب تضعف أمام الشهوات ، ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح ،وفهم دقيق يدرأ بهما الشبهات ، وبدين وتقوى وصبر يدرأ بها الشهوات ، فبالعلم واليقين تدرأ الشبهات ، وبالصبر وحسن القصد تدرأ الشهوات .
ولا يسلم من الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين : الفهم الصحيح والقصد الصحيح ، ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين ؛ فقد عرض نفسه للفتن ، ولقد اتضح مظاهر فقد هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام، أيام الأحداث والفتن ، فسقط في هذه الفتن من سقط ، وهلك فيها من هلك ، ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر ؛ فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات ، وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر الشهوات .(1/29)
وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين : بالعلم بدين الله عز وجل وأحكامه وشرعه ، وبالعلم بالواقع وأبعاده؛ فمن فرط في أي من هذين العلمين والفهمين فسد فهمه ، وعرض نفسه للشبهات ، وأخذ الباطل يحسبه حقاً .
أما من تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ، ثم وقَّع الأول على الثاني ؛ فقد تمت له البصيرة ، ووصل إلىها الحق ، ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إلىها التقوى والصبر وحسن القصد، فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له ، وإلا لو كان الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً ؛ فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات ، فلا يصبر على الحق ، ويثبت عليه أمام المغريات والشهوات .
ولقد ساق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المعاني بأوضح عبارة وأدقها وأبلغها؛حيث قال رحمه الله تعالى في كتابه القيم(إعلام الموقعين)، في معرض شرحه لخطاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في القضاء؛ فقال في شرحه لقول عمر:"فافهم إذا أدلي إليك":
" صحة الفهم ، وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهو مهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة .
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمده حسن القصد، وتحري الحق ، وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى .
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :(1/30)
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات،والعلامات حتى يحيط به علماً .
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع؛وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله لله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده ، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله "(1) اهـ .
وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، وبعد النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام ، وبعد خوض من خاض ، وهلاك من هلك فيها ، إما بقلبه أو لسانه أو يده ، يتبين لنا أن هناك خللاً في منهاج الدعوة عند بعض الدعاة ، ونقصاً في التربية،لعل من دروس هذه الأحداث اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه .
ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط التالية :
1 ـ عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله المنضبطة.
2 ـ عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع ، والوعي الصحيح بسبيل المؤمنين فيه ، وبسبيل المجرمين .
3 ـ هناك خلل في القلوب ،وفساد في القصود، لابد من تداركه، والاهتمام بتزكية القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاءهم
الآخرة والزهد في الدنيا ، وعدم طلب محمدة الناس ، والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات.
وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ، ويربى الناس عليها، وعلى طلبها ؛ فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها ؛ فبالعلم بدين الله ، والعلم بالواقع تتقى الشبهات ، وبحسن القصد ، والإخلاص لله عز وجل والصبر أمام المغريات تتقى الشهوات ، والله أعلم .
وبعد :
__________
(1) إعلام الموقعين (1/87) .(1/31)
فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة ، وليس مقصود البحث هنا هو التفصيل فيها ، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا هذه الأيام، لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا يتم الإيمان إلا بها ، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الحكيم-، والذي هو موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل، والتعرف على العبوديات التي يتضمنها ، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح، وما يلزم عليه من لوازم ومقتضيات ، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية، لحدث واحد مما يقضيه الله عز وجل ويقدره، من بين أحداث وأحداث كثيرة،وكثيرة تصغر في حجمها وتكبر ، ولكنها كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره ، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره.
* * *الخاتمة
لقد تبين من خلال هذه الدراسة السريعة أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي إثباتها له سبحانه على الوجه الذي يليق به وعظمته من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولاتمثيل ، كما أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي التعبد لله سبحانه وتعالى بها والإيمان بلوازمها
ولقد اخترت في هذه الدراسة اسمين من أسماء الله عز وجل الجليلة هما ( العليم والحكيم ) وفصلت في الثاني وما فيه من العبوديات في اسم واحد من أسماء الله عز وجل، فكيف ببقية أسمائه سبحانه الحسنى وصفاته العلا؟.(1/32)
إنني أتوجه في نهاية هذه الدراسة إلى علمائنا ، وأرباب التوجيه والتربية، بأن يولوا هذا الجانب المهم من أسماء الله عز وجل عناية كبيرة في دروسهم وحلقاتهم التعليمية ، وأن تتم التربية من خلاله على تقوية الإيمان وتجريد التوحيد لله والثبات على الإسلام ، والجهاد في سبيله ، وألا يقفوا في دراسة توحيد الأسماء والصفات على الجوانب الذهنية المجردة أو الردود على أهل البدع والأهواء فقط ، وإنما يجمعون ـ في دراسة هذا الجانب المهم من توحيد الله عز وجل ـ بين الجانب العلمي والعملي والتعبدي.
أسأل الله عز وجل أن يحسن فهومنا ومقاصدنا وختامنا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *(1/33)