إليك أخي المسلم
إليكَ أنت ... نعم إليك ، لا لغيرك ، وإنما لك، نعم أنت من أريدُ ... أنتَ أنتَ ... من أبحث عنه، من طويل السنين.. أنت من أرَّق عيني التفكير فيه، ومن أوجل قلبي شفقة عليه.. أنت الذي آمل منك أن أجد عندك شفاء العليل، وإرواء الغليل أنت الذي آمل عنده التقدير...أنت الذي آمل أن أجد عنده القبول.. أنت نعم ...
اخترتك لرجاحة عقلك، وطلاقة لسانك، أنت اخترتك، لأني أدخرك ليوم الشدة في الدنيا، أنت اخترتك لأنك حفيد العزة وصاحب ميدان الإباء والطموح، أنت الذي في قلبك شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أنت الذي أقول عنده فلاح أقبح،وأكتب له فلا يتملل، ويقرأ ما كتبت ولا يسأم.
أكتب هذه الكلمات من قلب مفعم بالحب لك وحدك ... كلمات هي قطرات دم، وآهات نفس، ودموع عين، وزفرات قلب، أصابني الهم فأعرض المشكلة عسى أن تجد عندك الحل ... ؟
كم هي الحياة جميلة، كم هي الدنيا حلوة نضرة، كم هي الساعات سريعة .
يعيش من أكتب له هذه الكلمات في هذه الدنيا المريرة، تتصارعه أمور وتحاول أن تجذبه إليها، ولكن فتى الإباء والشموخ يأبى أن يلين إلا بعد النظر لما يجذبه إليه، هل هو من طبعه وجنسه ؟ أم أنه مخالف لهدفه ومراده ؟..
لذلك أنت أيها الحبيب أشكو إليك همَّ أحد الأحباب والأصدقاء، أشتكي من عدم معرفته لمراده لهذه الدنيا ...جرب أمورًا كثيرةً فلم يهتد سبيلا بل ازداد حيرة فقال لي: أيها المحب الكريم، هل لي معك من كلمة؟ فقلتُ له: أهلاً ومرحبًا بكلماتٍ من أخٍ حبيب، فقال لي: كم أنا حيران في هذه الدنيا.(1/1)
قلت له: وأيّ شيءٍ حيرك فيها ؟ قال:لقد طوفت جميع ما فيها فلم أجد لي سعادة، فقلت له:وما جربت ؟ قال: جربت كل شيء ، وقلت له: هل بإمكاني أن أعرف كل شيء هذا ؟ قال: نعم... لقد جربت السفر والتطواف ... جربت السياحة ... جربت غيبة العقل وحضرته ... جربت الإهمال والجد ...جربت القراءة و الكتابة ... جربت العشق والغرام ... جربت كل شيء، ولكن في حيرة ... في حيرة ... في حيرة ...؟!!
فهل أجُد عندك حلاً ؟
( فلذلك أيها الحبيب، يا من تقدمه التعريف أطرقت حزينًا لكلامه وتأففت لضياعه وبكيت نشيجًا لحيرته ).
قلت له: أيُّها الصديق ... ما أنا بالطبيب النفسي، ولا بالعالم الروحاني، ولكن قد أكون صديقًا مخلصًا فأفوق الاثنين. كما قال الحكيم: «الصديق من صَدَقَك، ولا من صدَّقك» ... فلذلك أرى أيها الصديق الأوفى أن مشكلتك متشبعة الآراء ... متنوعة الأدواء ...فلذلك قد يطول حلي، ولكن إياك والسآمة.
فقال لي: وهو مصفر اللون، غائر العين، متلعثم اللهجة ... العرق متصفد على جبينه، والدموع تنحدر على وجنتيه من الهم الذي يعيشه، ومن الغم الذي لم يعرف له علاجًا.
أسرع أيُّها الحبيب . مع تقدمة الشكر العميم، والثناء الجزيل، مع تقديمي لك سائر الخدمات إذا وجدت عندك حلي.
قلت له: إنك أيها الحبيب تعيش مشكلة تتعدد على الشباب وتتنوع، فلذلك أنت الشاب الفتي صاحب القلب الواعي، عليك أن تصمد أمام هذه المشكلة ريثما تسمع علاجي لعلك تنتفع به..(1/2)
أيها العزيز: ليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرحه عن نفسه ... فلذلك ترى طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم، وإنَّما طلب الصوت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن نفسه هم قوتها، وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هشَّ إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه، وإنما أكل من أكل وشرب من شرب، ولبس من لبس ولعب من لعب وركب من ركب ومشي من مشي ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه العلوم وسائر الهموم، فلهذا كل الناس في طرد الهموم ... ولكن أيها الحبيب هم متنوع فهلم نطرده بأنواع العلاج.
يا عزيزي: منا من هو موفق لدفع همه ومنا غير ذلك، ولكن هل تُرى يا أخي وفقت لطرد همك بالطريقة السليمة التي تجعلك مطمئن النفس مرتاح البال واسع الصدر، أم لم توفق.
يا أخي إن ما ذكرته عن تجربتك في طردك لهمومك أثبت بنفسك أنها طرق غير مجدية، هل يا ترى إثباتك هذا حقيقي أم لا؟ ... فهل بالإمكان أن نرى ما هي حلولك التي أنت طرقتها ؟
قال لي وهو يتنهد تنهدًا عميقًا، وكأنما يخرج الكلمات من مكان غائر بعيد، وكأنما الكلمات أثقل من حجر الرحى، وكأنما وهو يتكلم جبل فوقه، ونفسه ضيق كأنما هو جمل يتنفس من ثقب إبرة، والعينان متأرقتان، والأطراف مرتعدة، واللسان متلعثم مما هو فيه من ضيق الصدر وضنكه:
لقد قلت لك إني جربت أمورا كثيرا جدا وقد سئمت كثرة الكلام.
فبادرته قائلاً:إن الأمور الكثيرة أحب أن أعرف مجرياتها بالتفصيل إن أمكن.
قال لي: وقد بدأ يسرد قصة حياته، وتجاربه، فيا هذا إن كنت ذا لب واعٍ فانظر إلى حياة هذا الشخص بعين الروية، وفرق بين حياته وحياة الآخرين ممن يبحثون عن السعادة الحقيقية:(1/3)
كنتُ شابًا يافعًا في زهرة الشباب وحيويته يمتلئ صدري بالحماس لكل شيء ... كان والدي المسكين يعتاد أخذي إلى المسجد ويأمرني بالذهاب إليه ... وكان يحثني على الدراسة أكثر من أي شيء، حتى إنه كان يضربني إذا تأخرت عنه أو قصرت فيها، ولقد كان يضربني إذا غبت عنها، ويغضب عليَّ أكثر من أجل الدراسة.
وكأي طالب يدرس في مقاعد الدراسة كان لابد لي من أصدقاء، فكنت أمنع من الذهاب معهم إلى أن سمح لي ... فبدأت أخرج معهم، حتى تكون ما يسمى بالفريق أو نادي الحي المصغر ، وكنت أشارك فيه، فبدأ يبدد وقتي ويعرفني على أناس جدد، متشعبي الآراء والمفاهيم، أخذت الكرة جل وقتي، فبدأت أقصر في الدراسة وعادت شدة والدي علي ولكن بعد أن تعرفت على الأصدقاء، فإذا كان هو في المنزل جلست وإذا خرج خرجت عقبه مباشرة، أذهب إلى أصدقائي، بدأنا نتعلم كل غريب ونحب البحث عن كل مجهول، كان فينا من يشرب الدخان فعرفنا عليه فشربناه، وأخذنا في شربه كثيرًا، حتى أخذنا نتنافس فيه، وكم أحرق الدخان عليَّ من ثوب، وكم أطفأ علي من بصيرة ... ؟
دارت الأيام وكبرت السن وفشلت في الدراسة وتركتها بعد أن أعيا أهلي إقناعي بالاستمرار ولكن باءت المحاولات بالفشل ... أخذت أبحث عن الحرية وعن إبراز الشخصية والرأي بأي طريقة كانت، فأخذت أجدد الصداقة والزمالة ولا سيما وقد توفرت لدي سيارة فتعرفت على زملاء جدد، فبدؤوا يعرفونني على جديد عندهم وقيمتي عند أهلي تنزل رويدًا رويدًا.
أخذنا في التفحيط وإزعاج الناس ولكن لا مناص، لأن المرور ضيَّق علينا ... فبحثنا عن حل آخر نشغل به هذا الوقت الطويل ونقتل الفراغ، دخلنا في المخدرات عسى أن نجد فيها مخرجًا مما نحن فيه، ولا تسل عن حالنا ونحن في المخدرات، فالضياع كل الضياع ... ولو ضربت لك الأمثلة والقصص لما صدقت أن ذا عقلٍ يستخدمه.(1/4)
كنا ذات مرة في أحد مجالسنا، وكنا نشرب ما يسمى بالحشيشة وكانت آلة تصوير الفيديو تصورنا، فلما أفقنا رأينا أنفسنا ونحن نتصرف غير تصرفات البشر، ولقد رأينا أحدهم وقد سجد للآخر ويقول له:أنت ربي الأعلى ... !! ومرة شربنا المسكر فدخل أحدنا بيته وهو غائب العقل مخمور فضرب أمه ضربًا مبرحًا من غير شعور ... !!!ومرة أحدنا دخل وهو مخمور العقل ووجد أخته نائمة في سريرها فهمَّ أن يقع بها ويفعل بها الفاحشة ... !! وقد استفاقت وهو يحاول تجريدها من ملابسها ... ولكنها صاحت صيحة استفاق والدها على إثرها فأنقذها ...وفي ذات مرة كنا قد أدمنا على ذلك المسكر وكان أحدنا ممن أدمن ولكن ليس لديه مال ... فقال للبائع: أعطني وأسدد لك فيما بعد فقال له البائع : لا...حتى تعطيني الثمن، فقال: أعطني وأعد بالتسديد في الوقت القريب، فقال البائع: لا...حتى تمكنني من ابنتك وأعطيك ما تريد...فلا تسأل عن عمرها فإنَّها ذات سبع سنوات، فما كان منه إلا أن مكنه من ابنته ونحن نراه ...!!
ثم مللت حياة السكر والعربدة، فجربت الغزل والعشق والغرام ومعاكسة الهاتف، فلا تسأل عني يومئذ فليلي ليس بليل، إنما هو شغل في المكالمات وأنا أجري خلف هؤلاء البنات .. يوم يكون سراب خادع، ويوم أظفر بالعيد.
ولكن لم أزدد في ذلك إلا حيرة لأنني كلما تمكنت من شابة ازددت ضيقة صدر وكراهية لها ومللا منها وحقارة في نفسي لها، فأذهب أبحث عن غيرها، فلا تسل عن ضياع البنات - والبعض للأسف منهن متزوجات، وإذا سألتهن لماذا تصنعن ذلك قلن: أرواجنا يصنعون ما نصنع فلابد أن نمتع أنفسنا كما يتمتعون ...!!(1/5)
أخذت أهيم على وجهي في هذه الأرض طردًا من مدرسة بنات إلى مدرسة ومن كلية إلى كلية عسى أن أظفر بالمقصود وبالغائب المفقود ... ولكن لا تسأل عن الأمراض المخزية المعدية ومن ذلك أني قد غنمت ذات يوم شابة فلما فرغت منها ثم رجعت فإذا أنا بعد أيام أصاب بالزهري والسيلان مما جعلني أتضايق من العلاج وأهرب منه خشية الفضيحة ...!!
ثم قيل لي جرب السفر والترحال ... فجربت السفر ودرت العالم ورجعت وأنا يا سامعي متشكك فيما كنت أعتقد ...قرأت من المنشورات ورسائل التبشير ما شككني في عقيدتي - أستهزئ بالدين وأهله وأتضايق منهم ومن حديثهم.
وفي سفري كان السكر ملازمًا عقلي والمومسة ملازمة ساعدي طول سفري ...!!
وهكذا يا أيها المحب هذه تجربتي في الحياة، عدت من سفري ووالدي مغضب - طردني وقلاني، أمي أبعدتني وهجرتني ...إخوتي شتموني وحذروا مني .. ذهبت إلى الأصدقاء طلبت منهم المساعدة فوجدت الكثير لا يريدون مساعدتي .. كرهوني...(1/6)
فلما ضاقت بي الدنيا ذرعًا ولم أملك فضة ولا ذهبًا كرهت بعد ذلك الأصدقاء، وأصبحت أحتاط ... وفي، ذات ليلة أعياني الجهد وطلبت مكانًا أنام فيه .. فدخلت مسجدًا صغيرًا والوقت برد شديد، ثم نمت فيه فأيقظني رجل في جوف الليل، وقال لي: «الصلاة الصلاة» وأنا لا أعرف أي صلاة هذه، فخرجت وتوضأت خجلاً من هذا الرجل، فصليت معهم فقرأ علينا الإمام آيات تصف حالي وضنكي: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } .
فأتيتك خائفًا ذرعًا، وجلاً أريد نجاتي وأريد هذا الهدى ولا أريد الشقاوة، فإنما صنعت ما صنعت طلبًا للسعادة يا سامعي...!!
انتهت كلمات هذا الرجل وكأنما هي صواعق مرسلة،على قلبي وقلب القارئ ... والله ما حياة ذكرها بحياة، ولا طريقة ذكرها بطريقة، ولكن كما قرأت فلنكن على حذر ...
قلت له: بعد أن سمعت قصته كاملة،وقد رأفت بحالته النفسية، يا أخي إنَّ ما صنعته له أسباب أدت إلى تلك الأعمال وهذه الأسباب متعددة وأمورك هذه غير مجدية فهذا أوان المقصود.
يا محب الخير، ويا متطلعًا إليه، لا تيأس عن بحث العلاج والجري وراءه، فإن لكل داء دواء علمه من علمه،وجهله من جهله، لهذا إن الدواعي والشرور التي تعرضت لها، لها أسباب عديد منها:
1- عدم معرفة قدر نفسك:(1/7)
إن الإنسان في هذه الحياة الدُّنيا يدب على وجه الأرض ماشيًا مكبًا على وجهه يطغى ويتكبر ويتجبر، لا يفكر كيف كان، ولا كيف منشأه ومبدأه.
ولكن ... يا عزيزي ... لي معك وقفة في ماضيك، ووقفة مع حاضرك.
أما ماضيك الذي أنت نسيته ولم يُنس .. أنك خرجت من بطن أمك عُريانًا باكيًا، جائعًا فمن الذي يسر لك الكوسة وكساك من عدم ؟ ومن الذي منَّ عليك بالاطمئنان وطيبة النفس؟ ومن الذي أشبعك من جوع ... ؟ إنه الله ... إذا علمت الآن فقرك لمن يكون .. إنه له وحده، ليس الفقر يا محب الخير هو فقد المال، لا، إن الفقر الحقيقي هو الفقر إلى الله.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } .
فاعلم أن فقرك إلى الله فقر ملازم لك لا ينفك عنك، كما أن غناه سبحانه غنى ذاتي له، فحاجتك إلى الله دائمة، حينما ابتعدت عن الله واستغنيت عنه، سرت خلف من سرت ولو استشعرت حق الفقر، لما تجرأت على الغني الحميد، ولو علمت فقرك إلى الله لما استغنيت إلا بالعزيز الحميد، فلذلك يا باغي الخير أقبل على الله، واستغن به في كل الأمور، واجعله من تستعين به في النوائب والشدائد والسرَّاء والضرَّاء، فإذا استشعرت فقرك إلى الله، استشعرت ما قابلت به ربك من أعمال، ليكن شعارك:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في جموع حالاتي
وقوله:
والفقر وصف لازم لي أبدًا ... كما الغنى وصف له ذاتي
أما وقفتي مع حاضرك المعلوم فليس المبخر كالمعاين، فحاضرك تجبر وإظهار للقوة، فإني سائلك من الذي أعطاك هذه القوة ؟ أليس هو الله ؟...على من تتجبر؟ وعلى من تظهر قوتك وسطوتك ؟ أليس الذي أعطاك قادرا أن يسلبك؟ بلى ورب الكعبة .. فأنت تجبرت على مولاك، وأظهرت غناك عنه، فنسيته فنسيك، ومن نسيه الله ضاع حيرانًا في الأرض { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .(1/8)
وأضرب لك مثلاً .. أليس من صنع هذه السيارة بقادر على أن يبطل نشاطها وحركتها وأن يسلب منها قوتها...؟ بلى ولله المثل الأعلى .
فالذي أعطاك القوة والفتوة قادر على أن يسلبها منك، فكن على حذر أن تؤخذ على غِرَّة : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } .
وقارون هذا آتاه الله من المال ما يُعجز عن وصفه إلا بقوله تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } .
ولكن هذه الدنيا لم تكن لتصلح للتجبر والتسخط، إنما هي التواضع وعدم العلو، فذلك هو الغنى الحقيقي، إنما الغنى غنى النفس .. { تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
2 - الغنى:(1/9)
«ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس» قاله عليه الصلاة والسلام، فلذلك يا عزيزي ليس الغنى بكثرة الأموال والأرصدة، وليس الغنى بكثرة السيارات، والعمارات، وليس الغنى بكثرة الأصدقاء والمعارف والواسطات والوجهاء، إنما الغنى أسمى معنى من ذلك، وأعلى درجة من كل ذلك، الغنى هو غنى النفس، هو أن تستغني نفسك بنفسك، أن تحكم عقلك في أمورك وأن تحكم النقل قبل شروعك...الغنى هو أن لا ينزل الإنسان من إنسانيته، وأن لا يدين نفسه بعمل كسبته يداه اليوم ثم يوفى ما كسب في دنياه بعقوقه لوالديه ...إن الغني يا محب الإصلاح والصلاح، هو أن ترتفع بنفسك من مواطن الريب وأن تغني نفسك بما ينفعك يوم التعب، إن الغنى أن نستغني بالعزيز الحميد، تعلم أنه هو أغناك وأنه هو الذي إليه الفقر وحده فتستغني
به فلا سعادة إلا من طريق هو أمرك بالتزامه وخط لك السعادة في ارتسامه، هو طريق وصاك به، لم يوصيك مخلوق مثلك به، إنما وصاك الذي خلقك ويعلم أين سعادتك ؟ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
إذًا الغني في التقوى، والسعادة في التقوى، والتقوى هي أن تجعل بينك وبين ما يغضب ربك وقاية بعملك للأعمال الصالحة وابتعادك عن الأعمال السيئة المشينة.
إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعًا وريا
فكن رجلاً رجله في الثرى ... وهامًا همَّته في الثريا
أبيا لنفسك عن باخل ... تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحياة ... دون إراقة ماء المحيا
3- الاتصال:
إيه يا محب الخير ... كيف لو كان الإنسان في معزل في هذه الحياة الدنيا ... أرأيت لو كان في برج عاجي، لا يصل إليه أحد كيف يكون حال ذلك الرجل ... ؟(1/10)
من أجل ذا لا بد من المخالطة واتصال الأرواح والأبدان، فلذلك تألف هذا وتنفر من هذا، وذلك لاتصال الروح مع الأول وألفها له ونفورها من الآخر وكذلك الأبدان ولكن قد ترى إنسانًا يألف إنسانًا ويحبه، ويحب صحبته وذلك لتآلف الأرواح ... إذًا لا يستقيم الجسم من غير استقامة الروح، فاستقامة الروح هي عين استقامة البدن ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).
فلهذا سلامة الروح هي عنوان سلامة البدن وطمأنينته ولكن بماذا يا ترى تسعد الروح وتهنأ ؟ وبماذا تطمئن وتنشرح ؟...
إنها تسعد باتصالها بخالقها وتنشرح بلزومها شرعة ومنهج سيدها ... فبمقدار قربها منه تكون سعادتها وأعظم ما يتقرب به العبد إلى مولاه الصلاة.
فالصلاة هي الصلة بين العبد وربه، فبالصلاة تهنأ النفس وتطمئن .. كيف لا وهي خطاب بين المربوب وربه ... كيف لا ... ؟وهو مناجٍ للخالق من غير.
ترجمان .. كيف لا؟ وهي تطهير من الذنوب والقبائح.. كيف لا ؟ وهي إن صلحت صلح العمل كله،وإن فسدت فسد العمل كله ... كيف لا ؟..وهي ذخيرة الشاكرين، وعدة الصابرين، كيف لا؟ وهي محفوفة بالملائكة الأبرار الأطهار ...كيف لا ؟ وهي أحب الأعمال إلى الله.
ضيعنا الصلاة فضاع عنا طريق السعادة، وحينما عرف الرعيل الأول قيمة الصلاة عرفوا السعادة فلذلك كانوا يخرجون من كل شيء إليها، وعند ذلك قالوا: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف ... " كيف لا تكون كذلك ؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي... فانظر يا بن آدم هل يطلبنك الله من ذمته بشيء».
قم الليل يا هذا لعلك ترشد ... إلى كم تنام الليل والعمر ينفد
أراك بطول الليل ويحك نائم ... وغيرك في محرابه يتهجد
أترقد يا مغرور والنار توقد ... فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمد
ألا إنها نار يقال لها لظى ... فتظلم أحيانا وحينا توقد(1/11)
فيا راكب العصيان ويحك خلها ... ستثمر عطشانًا ووجهك أسود
ولو علم البطال ما نال زاهد ... من الأجر والإحسان ما كان يرقد
فصام وقام الليل والناس نوم ... ويخلو برب واحد يتعبد
فلو كانت الدنيا تدوم لأهلها ... لكان رسول الله حيا يخلد
فكم بين مشغول بطاعة ربه ... وآخر بالذنب الثقيل مقيد
فهذا سعيد بالجنان منعم ... وذاك شقي في الجحيم مخلد
كأني بنفسي في القيامة واقف ... وقد فاض دمعي والمفاصل ترعد
4 - خير عند ربك ثوابًا وخير مردًّا:
الوقت إن لم تشغله بالطاعة شغلته بالمعصية، والوقت إن لم تشغله بالخير استعملته في الشر، فلذلك كان لزامًا علينا أن نراعي أوقاتنا ونحافظ عليها.
فالوقت يا طالب طريق السعادة هو العمر، وهو أسرع ما تفوته، وأصعب ما تسترجعه.
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوان
ولهذا هيهات .. هيهات أن ترجع ما مضى من الأيام والليالي، ومن الساعات والثواني، فكل ما مضى لا يعود ، وكل شيء يرجى عودته إلا العمر.
فيا حسرات ما إلى رد مثلها ... سبيل ولو وردت لهان التحسر
هي الشهوات الألى كانت تحول ... إلى حسرات حين عز التصبر
فلو أنها ردت بصبر وقوة ... تحولن لذات ذو اللب يبصر
الوقت لا يعود ومن أعظم تضييع الوقت الندم على الوقت الضائع، لا الندم على ما عمل في ذلك الوقت فهذا فضيلة، فالوقت كما قيل:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وقال آخر:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع(1/12)
فالوقت أسهل ما يضيع على الفتى، إن لم يستغله، وأنت عن ماذا يوم اللقاء تسأل، إلا عن وقتك ماذا صنعت به؟ فانتظر يا باغي السعادة ما أحدثت في وقتك ؟...فإن كان كما أسلفت، فهو حسرة وندامة يوم القيامة؛ فاستغل وقتك فيما ينفعك، وإلا سوف تندم ولات ساعة مندم ... واستغلاله بأمور كثيرة جدا منها طلب الرزق.. فطلبه من الحلال فضيلة،وطلبه من الحرام رذيلة، ومنها قراءة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
فهذا هو أولى ما بذلت الأوقات في قراءته وفي تدبره وحفظه وفهمه وتطبقيه في واقع الحياة العلمية، ومنها قراءة كتب السنة النبوية المشرفة، ومعرفة أحوال المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومعرفة أيامه، وغزواته، وذكره، وعبادته، وأحوال أصحابه الغر الميامين، أصحاب القصص العجيبة التي تشبه الأساطير، وغير ذلك من أمور مفيدة، وعلوم مجدية ولغوية مقومة، فبذلك يستغل الوقت وأعظم ما يستغل الوقت بالذكر فإن الذكر خفيف المحمل، ثقيل الوزن والأجر يوم القيامة، «كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» كم من الغراس فوتنا ويكفي أن الله جل وعلا قال: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } ، وهي: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر».
فلنستغل الأوقات بما ينفع ولنملأها بما يزين الصحائف يوم القيامة فإنها لا تعود إلا يوم العرض الأكبر.
ترجوا البقاء بدار لا بقاء لها ... وهل سمعت بظل غير منتقل
وقال آخر:
وما المرء إلا راكبٌ ظهر عمره ... على سفر يطويه باليوم والشهر
يبيت ويضحى كل يوم وليلة ... بعيدًا عن الدنيا قريبًا من القبر
5 - حامل المسك ونافخ الكير:(1/13)
جُبِلَ الإنسان على حب الاختلاط والمعاشرة وجبل على حب الميل إلى من كان قريبًا من جنسه، وهكذا نحن معشر بني الإنسان، كل منا يبحث عن صديق يناسبه، فلذلك قيل:ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء، فإن ذلك فضيلة تامة مركبة لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستطلاع والمشاركة والعفة وحسن الدفاع وتعلم العلم وبكل حالة محمودة، لا نعني المصادقين لبعض الأطماع ولا المتنادمين على الخمر، ولا المجتمعين على المخدرات، ولا المتآلفين من أجل هتك الأعراض، ولا من جمعهم حب المعاصي والقبائح ونيل أعراض الناس والفضول وما لا فائدة فيه، فليس هؤلاء أصدقاء لنيل بعضهم من بعض وانحرافهم عند فقد تلك الرذائل التي جمعتهم، وإنما نعني إخوان الصفاء لغير معنى إلا الله عز وجل فهؤلاء بحق هم الأصدقاء والذين جمعتهم محبة الله فحبهم فيه. واجتماعهم فيه ومزاورتهم فيه، الذين صفتهم هو أن يكون المرء يسوؤه ما ساء الآخر، ويسره ما سر الآخر، فما سفل عن هذا فليس صديقًا، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق، والذين شعار صداقتهم لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذله له من نفسك، فإن طلبت أكثر فأنت ظالم، هذه الصداقة أو المحبة هي التي لها البشائر في الدنيا والآخرة، هذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحدث عنه ربه: «وحُقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء».(1/14)
ومن السبعة الذين يظلمهم الله في ظله يوم لا يظل إلا ظله،: «رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه»، فلهذا الصديق صفات لا بد أن تتوفر فيه وأنت يا محدثي قد أخبرتني عن علاقاتك مع الناس ، وكيف قلوك وطردوك، لما انتهت علاقتك معهم، التي جمعتك وهي كانت لغير الله، حتى إنهم تركوك في وقت أحوج ما تكون إليهم، وانطبق عليهم قول القائل:
وما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
فلما انقلبت عليك الدنيا ذهبوا وتركوك وصدق عليك قول القائل:
الناس أتباع من دامت له النعم ... والويل للمرء إن زلت به القدم
المال زين ومن قلت دراهمه ... حي كمن مات إلا أنه صنم
مالي رأيت أخلائي وخالصتي ... إثنان مستكبر عني ومحتشم
لما رأيت الذي يبدون قلت لهم ... أذنبت ذنبًا ؟ فقالوا ذنبك العدم
فصحبتك لأهل الخير هي الصحبة الحقيقية يوم يتفرق الأصدقاء إلا أخلاء التقوى، فهم لا يتفرقون { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } ، وصدق من قال:ما خلق الله خلقًا أضر من الصاحب السوء، فلهذا ضرر صاحب السوء أشد من ضرر السباع في الفلاة ففرق بين موت الجسد وموت الروح، ولذلك لزامًا عليك أن تختار لنفسك من الأصدقاء من يعنيك على أمر دينك ودنياك فلذلك قيل:
إذا كنت في قوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وأنت تقاس بمن تصاحب كما قيل:
أنت في الناس تقاس ... بمن اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكرا جميلاً(1/15)
فهلاكك كان على يد أصدقائك فاستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى واشتر الهدى بالضلالة، وصاحب أهل الخير فهم زينة في الرخاء، وعدة في الضراء وكما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، هؤلاء يسروا لك الهداية فصاحبهم تنجو في الدنيا بالأخلاق الحميدة.
هؤلاء الذين إن أسررت إليهم حفظوا سرك، وإن اعوججت قوموا اعوجاجك وإن ضللت يسروا لك الهداية فصاحبهم تنجوا في الدنيا بالأخلاق الحسنة والمعاملة الطيبة، وفي الآخرة على نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «المرء يحشر مع من أحب».. فإن أحببت الفساق من أهل الغناء والبغي والعقوق والخنا حشرت معهم والعياذ بالله يوم القيامة، وإن صحبت المصلين الراكعين الساجدين الصائمين الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر حشرت معهم - جعلنا الله وإياكم من المتقين.
لا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليما حين واخاه
قياس النعل بالنعل ... إذا ما هو حاذاه
وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وقال آخر:
ما نالت النفس على الشهوة ... ألذ من ود صديق أمين
من فاته ود أخ صادق ... فذلك المحروم حق اليقين
6 - وفي بضع أحدكم أجرًا:
الناس خلقوا من ذكر وأنثى، وجبل الله الخلق على أن يميل الرجل للأنثى، والعكس: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
فالذكر يميل بطبعه إلى الأنثى وكذلك العكس، فلهذا النَّاس متسابقون إلى هذا الميل، فمنهم من يأخذه بالحرام، ومنهم من يأخذه بالحلال.(1/16)
يا عزيزي، إن من نال تلك الشهوة بالحرام إنه لفي غاية الشقاوة ... حدثتني أن كثيرًا منكم يتسابقون إلى نيل مرادهم من الفتيات عبر سماعة الهاتف، وبطريقة إغرائها واللعب عليها وخداعها، حتى تقع في فخ الجريمة، ثم ترمونها كشارب علبة العصير يشربها ثم يرمي بها في القمامة ... إن هذا الجرم يا عزيزي في غاية الدناءة وذلك لأمور:
إن الرجل جبل على الغيرة على محارمه، إلا من حُرِمها من أهل الدياثة، فلذلك قال القائل: «الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل، لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وأن يتعدى غيره إلى حرمته ومن كان النجدة له طبعا حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتضام» فلذلك يصدق قولي حينما أقول إن من يعاكس في الهاتف ويتعرض لمحارم الناس في الأسواق ليس بغيور على محارمه، وهذا الطبع الخبيث أحدث ويلات وهنات في نفوس البشر.(1/17)
أحكي لك قصة وهي أنَّ أحد أولئك الشباب تعرف على شابة حتى أظهر حبه لهاكما لا يخفى عليك كذبه، ثم بعد طول علاقة عن طريق الهاتف، استخرجها معه إلى بيته فوقعت هي في الفخ، وإن كانت هي لا تريد العمل المشين، فلما جرها إلى بيته اغتصبها، ثم أحضر عصابة ليكملوا جريمته فإذا هم قرابة الخمسة، فلما انتهى أربعة من وطرهم ودخل الخامس عليها فإذا هي أخته، فما تمالك إلا أن أخذ سكينًا وقتل أخته وأصحابه، فها هو يغدو ويروح في جنبات مستشفى الصحة النفسية، وقد سلب عقله، وسوف عن قريب تسلب حياته، وآخر يتبع أفلام الزيجات والتي فيها رقص الفتيات المشروع، ويتتبع بذلك عورات المسلمين، وذات مرة أحضر أحدهم شريطًا ينظر إليه هو وأصحابه، فلما نظر إلى الشريط فإذا بأحد الحاضرين يكون أخا لإحدى اللائي يرقصن في ذلك الشريط وقد تشهى الشباب على مفاتنها، فلقد رؤي ذلك الشاب تسيل عيونه دمًا لا دمعًا .. فسبحان من عجل عقوبة البغي في الدنيا وأخر عذابها في الآخرة. فلذلك إن من يعتدي على محارم المسلمين لابد أن يعتدي على محارمه والعياذ بالله - فحاذر أخي المسلم أن تهتك سترك وعرضك بنفسك.
ويحكى لي أحدهم وهو يشكي لي همَّه أنه كان مع صديق له في بيته - أي الصديق - وصديقه يحادث فتاة عن طريق الهاتف فعرض عليه صديقه أن يكلمها في تلك اللحظة، فلما كلمها فإذا هي أخته ... !!؟
أي حياة هذه والله لا يرضاها القردة والخنازير، فلهذا يا محب الخير لنحافظ على عوائلنا ومحارمنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وذلك بعدم التعرض لمحارم المسلمين وفي ذلك يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : «إنه ليس أحد أغير من الله، أن يزني عبده أو تزني أمته، وغيرة الله أن تنتهك محارمه».
فلا نتعرض لمحارم الله، فينتقم منا، ولا نغتر أنه أمهلنا، أو ستر علينا فترة من الزمان، فحذارِ أن يأخذنا الله بغتة.
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيك
غرك من ربك طول إمهاله وستر مساويك؟(1/18)
كيف يا عزيزي والله أبدلنا الزواج بدل البغي ..؟
فلنحرص على بناء بيت يجتمع فيه بالمعروف وبالحلال رجل وامرأة ليبنوا بيتًا حميدًا وينتجوا جيلا فريدًا، فإنما انتصر أعداء الله علينا حينما سلطوا علينا ما يجعل الشباب والشابات يعزفون عن الزواج، حتى يقعوا في الحرام، ثم يسيطروا على عقولنا، ومن ثم على أموالنا وبلادنا.
إنما العقل أساس فوقه الأخلاق سور
فحل العقل بالعلم وإلا فهو بور
جاهل الأشياء أعمى، لا يرى كيف يدور
وتمام العلم بالعدل وإلا فهو زور
وتمام العدل بالجود وإلا فيجورُ
وملاك الجود بالنجدة والجبن غرور
وكمال الكل بالتقوى وقول الحق نور
ذي أصول الفضل عنها حدثت بعد النذور
7 - التطاير:
لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان
إيه يا صاحبي ... عبر هذه الكلمات، إني سائلك سؤالاً، هل تذكر ما صنعته من لذات وشهوات ؟...هل لذاتك وشهواتك مازالت باقية في ذاكرتك . أم أنها طارت وذهبت أدراج الرياح ؟
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الذل والعار
تبقى عواقب سوء لا مصير لها ... لا خير في لذة من بعدها النار
إن اللذات وإن تعاقبت على الفتى، إلا أنها تنسى عقب الانتهاء منها، وهكذا سائر الأمور في هذه الحياة الدنيا حتى الهموم والغموم والمصائب والأمراض، كلها تذهب وتنسى ولكن هل إذا نسيتها لا تعود علينا في يوم من الأيام ؟ .. ولا نذكرها ... كلا بل سوف نذكرها في يوم لا ينفع فيه التذكر ... { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .(1/19)
هذا الكتاب الذي سوف نلقاه في يوم ... !! في يوم نسيناه وغفلنا عنه، وكأننا لم نؤمر بالاستعداد له ... نسيناه وغفلنا عنه، وكأننا لم نؤمر بالاستعداد له .. أتعلم يا سيدي أي يوم هذا ؟ إنه يوم ترجف القلوب ذرعًا وخوفًا مما يحصل فيه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } . هذا اليوم الذي تعجز الألسنة عن وصفه والأقلام عن نعته يوم هو كما قال سيده: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا } ... هذا اليوم هو الذي حينما غفلنا عنه دخلنا في الحرام ظننا ألا رقيب ولا عتيد فارتكبناها من غير شعور، ومن غير حيطة، ولم نتمثل قول الموحد:
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها ... إن الذي خلق الظلام يراني
لهذا يا باغي الخير هل نفكر بحق حينما نلقى الصحائف، وأي صحائف ؟ ... سودت بالخطايا والذنوب: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } .(1/20)
أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم، أولئك من استشعروا مراقبة الله في السر والعلن فأدخلوا الجنة بسلام، لما دعاهم داعي الهوى والطغيان قالوا: { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } ، عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يرونه فهو يراهم فكان مولاهم في الدنيا والآخرة. فقيل لهم: { أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ، وقيل لهم: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } .
أحسنوا في الدنيا، فأحسن إليهم في الآخرة ..وأما من فرط وقدم العاجلة الفانية على الآجلة الباقية فاستبدل الدور بالجنة والقصور والمومسات بحور الجنة، والسكر والعربدة بشراب الجنة ... استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، كان الجزاء من جنس العمل { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ } .
يا ترى ما مصير هذا المسكين الذي استعجل لذة فانية فأورثته حسرة وندامة باقية ... يا ترى كيف مصيره في المحشر بين الخلائق أجمع ... وقد كشف عنه الستر، وافتضح بين الخلق، وقيل هذه غدرة فلان بن فلان، كيف والله يناقشه ويحاسبه حسابًا عسيرًا، إنه ليوم توجل القلوب حقًّا من ذكره، وترتعد الفرائص من تذكره، يا باغي الشر أما تخشى الفضيحة بين الخلائق ؟ فتكون عارًا، ألم تعلم أن الأب يفر من ابنه، والأم من وليدها ؟ أي يوم هذا غفلنا عنه ؟(1/21)
كيف إذا وردنا على حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طردنا عنه وأبعدنا، لأننا أحدثنا بعده ما لا يرضى، والصراط ممدود على جهنم، ثم تتخاطفنا كلاليبها، فمنا ناج مسلم، ومنا مخدوش مكروس على وجهه في جهنم .. نار جهنم التي أ عدها الله لأهل الشقاوة، أما أهل الخمر فشرابهم عصارة أهل النار، وأما أهل الزنا فهم في تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } ، ويقال لهم: { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } ، أي حياة هذه لم نستعد فيها لهذا اليوم؟ فلنكن على حذر أن نؤخذ على غره ثم نقول: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } ، أو نقول: { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .(1/22)
فلنعد لذلك اليوم توبة صادقة عسى أن تمحو ما مضى وذلك بالإقلاع عن الذنب أولاً، وبالندم على الذنب ثانيًا، وبالعزم على عدم العودة ثالثًا وأن نستغفر لمن اعتدينا عليه سواء في مال أو جسد أو عرض عسى الله أن يقبل التوبة ويسكننا منازل الصالحين، عند ذلك عزيزي القارئ لم يتمالك سامعي مكامن نفسه وعواطفها فانطلق كالمطر المنهمر يبكي بشدة، ويرفع صوته بالبكاء، فقلت له هون عليك يا أخي فلعلي أولاً وفقت في علاجك ؟ ...فهزَّ إليَّ رأسه مشيرًا إلى أني قد وفقت فقلت: هذا من فضل الله وحده، ولكن عليك يا أخي أن تقبل وصية ربك لك، وهي بلزوم هذا الصراط المستقيم: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وكذلك عليك أن تقبل بشرى ربك لك وهي أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
فالحمد لله الذي رزقك الاستدراك قبل الفوات، وأسأله جلَّ شأنه أن يرزقك التوبة قبل فراق الأرواح .. فلهذا عد إلى ربك أيها المسكين فإن الله أشد فرحًا بتوبة عبده من أم أضاعت ولدها ثم وجدته بعد التعب، والله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .. أسأله تعالى أن يغفر لي ولك الزلات، وأن يتجاوز لنا عن السيئات، وأن يرزقنا عمل الحسنات قبل الممات، وأن يرفع لنا الدرجات في الجنات، أو أن يعيذنا برحمته من الدركات، إنَّه سميع قريب مجيب الدعوات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
يا سلعة الرحمن لست رخيصة ... بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها ... في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها ... إلا أولوا التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد ... بين الأراذل سفلة الحيوان(1/23)
يا سلعة الرحمن هل من خاطب ... فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ ... خطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها ... حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف ... وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ... ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى ... رب العلى بمشيئة الرحمن
فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد ... راحاته يوم المعاد الثاني(1/24)