إلى حامل الدعوة
هل من نهوض بعد كبوة؟
تأليف
أبي عاصم
هشام بن عبد القادر آل عقدة
دار الصفوة للطباعة والنشر
الطبعة الأولى
مقدمات ضرورية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ليس بصواب أن يضع داعية نفسه فوق التربية:
(فليس بصواب أن يضع داعية نفسه فوق التربية، ويستعلي على حديث يزجره عن السوء ولو سمعه مائة مرة، فإن في النفوس ـ كل النفوس ـ قابلية لطيش في أوقات الغفلة، فتنزل إلى مستوى العوام، وإن استقام صاحبها على دين الخواص الفقهاء العباد دهرًا، أو حاز على أعلى شهادة وأرقى منصب وأضخم رصيد مالي، بل وإن ابيضت لحيته وتجاوز الكهولة سنه)(1).
لن ينزل الطغاة إلى نهاياتهم حتى نعود إلى بداياتنا:
(وليس من شأننا أن نخطط سياسيًا واقتصاديًا فقط، أو نبث علم اللسان فحسب، فإن طريقنا يمر قبل السياسة والاقتصاد وخلاف الفقهاء بتطهير الجنان... ولن ينزل الطغاة إلى نهاياتهم ما لم تتسام أخلاقنا صعدًا ونعود إلى بداياتنا)(2).
الدعوة تؤثر في الناس بمضمونها وحاملها معًا:
(نعم إن على حامل الدعوة أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية، ويتحرى الصدق في المواقف، والإخلاص في النية، ويلاحق نفسه في كل ذلك)(3).
(
__________
(1) نحو المعالي لمحمد أحمد الراشد ص26.
(2) السابق ص27.
(3) ... حمل الدعوة وحاملها ص5.(1/1)
إن على الدعاة أن يشكلوا النموذج الحي للمشروع الذي يريدون تنفيذه... من هنا كان الكلام على حامل الدعوة يأخذ أهمية بالغة في مجال الدعوة، وفي مجال الحياة كلها، بل لا يقل أهمية عن الكلام على أفكارها. فما لم يشكل حملة الدعوة القدوة والأسوة، وما لم يستمدوا نورهم من مشكاة النبوة، وأخلاقهم من أخلاق النبوة، ويصبحوا كالصحابة نجومًا يهتدى بهم في ظلمات هذه الأيام فإن دعوتهم تبقى ناقصة، وتحتاج إلى سد هذا النقص ليأخذوا قيادة الناس بالفكر وبالعقل، وليحققوا في أنفسهم ما يمكنهم فكريًا وسلوكيًا من هذه القيادة بأمانة وإخلاص.
فحامل الدعوة هو حامل الأمانة التي يعمل على تأديتها بأمانة، فعليه أن يكون من الأمناء الصادقين، لقد اختار الله سبحانه وتعالى لدعوة الإسلام ابتداءً رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - اختيارًا، ثم كان الصحابة رضوان الله عليهم بما نالوه من فضل الصحبة وصدق الدعوة، وهم لم يبلغوا هذا الشأو وهذه المرتبة إلا بعد أن استقامت عقولهم على تعاليم الإسلام، وصفت قلوبهم وزكت نفوسهم. واليوم لا يقوم بحقها إلا من تعهد عقله وقلبه وجوارحه للقيام بأمر الله. إنه لا يكفي في مجال الدعوة صواب العمل ما لم يرافقه إخلاص القائمين به وصدقهم وثباتهم على الحق وصبرهم على أمر الله... وإنه إذا كانت الأفكار هي الماء الذي يروي ويحيي، فإن حاملها هو الإناء الذي يحوي، لذلك يجب أن يحافظ عليه نظيفًا حتى يبقى ما في داخله نقيًا صافيًا) (1).
صفاء بلا ابتداع وإخبات بمحراب:
وتحت عنوان (كتاب ومحراب) يجعل صاحب (نحو المعالي) شرطي تأثير العلم في حامليه وفي الآخرين هما صفاء بلا ابتداع وإخبات في محراب، فيقول في تفصيل هذين الشرطين:
الشرط الأول: صفاء بلا ابتداع:
__________
(1) ... حمل الدعوة وحاملها ص1.(1/2)
بأن يكون على السنية المحضة، والاتباع الصارم، والانتساب إلى ما كان عليه السلف فهمًا وعملاً... إنها إذن دعوة إلى العلم مرتبطة بمنهجية صارمة هي وحدها القادرة على أن تتكفل بتحجيم (المنهجية العقلية) التي رفعت رأسها مجددًا على طريقة التوسع في التأول في إطار المدرسة الاعتزالية المعروفة، والتي ربما ستجلب مزايدات غير محدودة في الترخص والتسهيل والتجانس مع الحياة العلمانية السائدة تبعًا لاختلاف عقول المشاركين في الإفتاء والتوصيف والتعليل...
ولسنا نقبل الجمود والتقليد وإلغاء العقل والوقوف عند أقوال الفقهاء الذين لا تسند النصوص ما ذهبوا إليه، ولكن الاجتهاد الذي نرومه إنما هو اجتهاد منضبط، ومحروس بسنن... وقد ألزم نفسه أن يقترب ما أمكن من منطق الشاطبي في موافقاته مثلما يقبس من جرأة ابن حزم في محلاه متجنبًا غرائبه... وأن يقترب من احتياطات ابن حجر في فتحه، ومن ترددات النووي بين التهيب وإحداث قول جديد في مجموعه، مثلما يساير ويماشي توسيعات ابن تيمية في فتاواه، وأمثال ذلك مما أتى به علم فطاحل آخرين كأن القدر جمع علم بعضهم إلى بعض لتكتمل صورة فقهية ناضجة تفرض نفسها علينا بقوة حججها ووضوح تقعيدها.(1/3)
وغاية اجتهادنا أن يستجيب للمستجدات التي أتت بها الحياة المعقدة المعاصرة من خلال الارتباط الوفي باجتهادات السلف الأولين، وليست غايته نبش وقلب صورة الفقه التي تكونت في قرون الفضل الأولى من خلال ظنون وتأولات تترك الناس في فوضى أمام زخم العقلانيات التي قد تكون متضادة بنفس حجم تضاد العقول البشرية والخلفيات التي ينطلق منها الخائضون، حتى أن رغبات السلاطين باتت تشكل إحدى أهم هذه الخلفيات التي تحاول التمرد، فتحيص حيصة مفضوحة كلما حاصرتها عوازم الفقه وجوازم الإيمان. ثم يحرس اجتهادنا نفسه مرة أخرى بمظلة من العقيدة السنية النصية في وفاء ثان لحدود عقيدة الإمام أحمد بن حنبل التي ميزها عن الاستطرادات البدعية التي أوغلت في التمثيل والتعطيل، ونحن ندرك أن المدرسة العقلية الفقهية التي يريدها الاعتزال الجديد ستقوده إلى نزعة في الاعتقاد ولابد؛ لأن المحركات واحدة.
الشرط الثاني: إخبات بمحراب:
كما قال بعض الصالحين: "ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب"(1) واستشهد بدعاء زكريا وكيف أن الله تعالى وهبه يحيى وبشره به وهو قائم يصلي في المحراب.
والتأثير في الآخرين هو أسمى هذه الصور السنية التي نطمح لها، ولن تكون إلا من خلال المحاريب.
وإنما يحرك المحراب فينا معاني الرجاء والخوف معًا، وهي أحوال قلبية وممارسات عملية معًا.
أما الرجاء: فرجاء الكرامة والفوز والنجاة، وطريق هذه النعم معروف، بينته معادلة شرطية في القرآن في قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة: 40].
__________
(1) ... نقله عن تفسير النسفي (1/213).(1/4)
وأما الخوف: فمن فزع يومئذ، وأقل هذا الفزع ما صوره صالح المري لما قرأ قارئ { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر:18] فقطع صالح عليه القراءة وقال: كيف لظالم حميم أو شفيع والمطالب له رب العالمين؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم، حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقة عيونهم، ذائبة أجسادهم، ينادون: يا ويلنا يا ثبورنا، ماذا نزل بنا؟ ماذا حل بنا؟ أين يذهب بنا؟ ماذا يراد منا؟ والملائكة تسوقهم بمقامع النيران، فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين، ومرة يقادون إليها مقرنين، من بين باكٍ دمًا بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخ حائر القلب مبهوت. إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظرًا لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك. ثم نَحِبَ وصاح: يا سوء منظراه! يا سوء منقلباه! وبكى وأبكى الناس.
فقام فتى فقال: أكل هذا في يوم القيامة يا أبا بشر؟ قال: نعم والله يا ابن أخي، وما هو أكثر. فصاح الفتى: إنا لله، واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة، واأسفا على تفريطي في طاعة الله، واأسفا على تضييعي عمري في دار الدنيا! ثم بكى واستقبل القبلة فقال: اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك، اللهم فاقبلني على ما كان فيّ، واعف عما تقدم من فعلي، وأقلني عثرتي. ثم استقام حتى مات)(1).
نصر الله منوط باستقامة حملة الدعوة:
__________
(1) ... نحو المعالي (48ـ 55) ببعض الاختصار.(1/5)
وتلك نقطة قد نغفل عنها أحيانًا حيث نركز على صحة أفكارنا وما نقدمه للناس ثم تدور في نفوسنا التساؤلات: لم لا ننتصر إذن؟ مع أننا لو تأملنا في كتاب الله تعالى لوجدنا فيه إناطة النصر للمؤمنين بما يتصفون به في ذواتهم وما يفعلونه لا بمجرد ما يقولونه للناس. (ويمكن القول إن وعد الله بالاستخلاف للمؤمنين لن يكون إلا لمن تحلى بالإخلاص الخالص لله تعالى حيث يتخلى المؤمنون حملة الدعوة عن حظ نفوسهم لمصلحة الدعوة، وحيث يقدمون ما يحبه الله على ما تحبه قلوبهم وتهواه، ويقدمون أمر الله تعالى على أمرهم. قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [النور: 55](1).
(ويمكن القول إن منّ الله بالنصر لن يكون إلا للمؤمنين الصادقين، حملة الدعوة المخلصين الصابرين، الذين يستمدون العون من الله وحده في طريق الدعوة الشاق الطويل، الذي يصل حملة الدعوة فيه إلى الظن أنه يكاد يكون لا آخر له؛ فيستعينون بالصبر والصلاة عسى أن يقربهم ذلك من المنّ بالنصر)(2).
__________
(1) ... حمل الدعوة وحاملها ص2.
(2) ... حمل الدعوة وحاملها ص2.(1/6)
فالداعية المتصف بالتقوى والصبر واليقين والإخلاص والصدق والثبات والتضحية والجود بماله لنصرة الدين هو الذي تتحطم أمام دعوته مكائد الكائدين ويمن الله عليه بالإمامة والتمكين. قال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [آل عمران: 120]. وقال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة:24]... وكثير من هذه الصفات (لا توجد بالقراءة والحفظ والقناعة بها فقط، فإن ذلك أول مراحل وجودها في النفس، ولا تتحول إلى صفات ثابتة إلا بالمعاناة والعيش بأجواء الدعوة الصعبة، التي تشكل امتحانًا لحامل الدعوة وابتلاء وتمحيصًا)(1).
فمن المعلوم (أن حملة الدعوة تقوى عزيمتهم ويشتد إصرارهم في حمل الدعوة عندما يقابلون ما يعيشون فيه من أجواء الاستضعاف والتكذيب والملاحقة والتشريد مع ما ذكره القرآن الكريم من تكذيب أصحاب الدعوات السابقين واستضعافهم وإخراجهم من ديارهم، ومع ما عاشته الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مع الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد:13])(2) ولهذا فإن الله تعالى يعرض الدعاة لأجواء المعاناة والمحن لينضج فيهم مثل هذه الصفات من جهة، فالمصائب التي لا تقصم الظهر تقويه، وليمحصهم حتى يميز الخبيث من الطيب من جهة أخرى، قال تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت:3].
__________
(1) ... حمل الدعوة وحاملها ص5، 6.
(2) ... السابق ص2.(1/7)
وقد اشتد تحذير الله للداعين من مخالفة أعمالهم لأقوالهم وذلك في مثل قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44]، وقوله: { كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف:3]، كما اشتد نكيره تعالى على من يقول بفمه ما ليس في قلبه كما في قوله جل وعلا: { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ }
[آل عمران: 167]
إذا اكتملت شخصية الداعية اكتملت دعوته:
(والجدير بالذكر أنه متى اكتملت شخصية حامل الدعوة... اكتملت دعوته في تناول الإسلام ككل، وذلك بعرض الأساس الذي يقوم عليه الإسلام وهو عقيدة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وعرض ما يقيم هذه العقيدة في الحياة ويحافظ عليها وينشرها ويعمل على تطبيق الإسلام، وذلك بالدعوة والعمل على إقامة الدولة الإسلامية. وصار بدعوته هذه كأنه يدعو المسلمين إلى التقيد بأحكام الإسلام في كل جوانب الحياة فيما يتعلق بالأحكام الشرعية التي لا توجد إلا بوجود الدولة الإسلامية، وما أكثرها، أو فيما يتعلق بالأحكام الشرعية الفردية التي يحملها للناس كفرد ليتقيدوا بها، من صلاة وصوم وزكاة، والتقيد بأحكام المطعومات والملبوسات والأخلاق في خاصة أنفسهم والابتعاد عن المحرمات، ويَعلم حامل الدعوة ويُعلم الآخرين أن ما يتعلق بأحكام الإسلام الفردية التي لا يتعلق وجودها بوجود الدولة الإسلامية هو كذلك لا يطبق عمليًا من جميع المسلمين، ولا يحافظ على تطبيقه إلا بوجود الدولة الإسلامية، فالدولة الإسلامية هي الطريقة العملية لإيجاد الإسلام مُنَفَّذًا في الحياة، وليست وسائل الإعلام ولا أساليب الترغيب ولا دروس الوعظ والإرشاد وإن كان كل ذلك مطلوبًا ولكنه لا يكفي)(1).
__________
(1) ... حمل الدعوة وحاملها ص6.(1/8)
ظاهرة تراجع الهم الدعوي أو عجز الثقات:
وفي المقابل نجد أن من نقصت شخصيته وانكمشت وأصيبت بشيء من الأمراض أو الآفات لا يمكن أن تكتمل دعوته، بل يتنازل عن أهداف كبيرة محاولاً فلسفة ذلك بشتى الحيل، ويصحب هذا التنازل مجموعة من الأعراض الأخرى، منها مجموع الصفات القاعدة بالإنسان: كاليأس والخمول والانقباض والعزوف عن الخلطة المفيدة...إلخ، ليتشكل من الجميع ظاهرة سماها البعض تراجع الهم الدعوي(1) وعبر عنها البعض الآخر بعجز الثقات(2). وهو مرض يضعف الداعية ودعوته ولا يزال ينخر فيها حتى يتوارى الداعية ودعوته عن الساحة تمامًا.
وإذن فموضوعنا هذا بمثابة رسالة موجهة للذين (عرفوا الطريق والتزموه، لكن لأسباب كثيرة ما تمسكوا به ولا لزموه، فهم يراوحون مكانهم ولا يتقدمون، وكأنهم نسوا المعاني العلية فليس لها يعملون. هم فتية وشباب وكهول وصالحون، ما زالوا بدرب الفضيلة والخير يستمسكون، لكنهم قد غلبت عليهم الدعة والكسل، وحب الدنيا وطول الأمل، فأرادوا أن يكونوا صالحين بلا عمل ولا تبعات، ولكن هيهات هيهات، ألم يبلغهم أن "الدنيا حلوة خضرة"(3))(4)، وأن الله مستخلفهم فيها فناظر كيف يعملون، (أم استغنوا عن عالي الدرجات في الجنان التي لا يبلغها إلا الأنبياء ورفقتهم من الصالحين والصديقين والشهداء. فكانت هذه الرسالة مذكرة للعاجزين عن الثقات الذين ملكوا كل وسائل الفوز بالعالي من النعيم المقيم ثم هم يأبون ذلك ويرضون بالقليل، فعسى أن يتضح لهم عظم ما اقترفوه بتضييعهم، وكثرة ما فرطوا فيه من حسنات بتفريطهم)(5).
__________
(1) ... انظر: تراجع الهم الدعوي لمحمد بن فهد الجيفان.
(2) ... انظر: عجز الثقات لمحمد بن حسن الشريف.
(3) ... جزء من حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، انظر: مجمع الزوائد (10/249).
(4) ... عجز الثقات ص8ـ 10.
(5) ... السابق.(1/9)
أو قل هي تذكرة لمن ظهر منهم النكوص والتخلي عن العمل للدين وحمل هم الدعوة والتربية لاسيما من (كان لهم في زمن من الأزمان صولات وجولات في ميادين الدعوة والتربية، ولكن...!! ماذا حدث؟؟ إنه نسيان الهم السابق والانشغال في دروب الدنيا ومتاهاتها، حتى وصل الأمر بأصحاب الهم السابق إلى التكاسل عن أداء الفرائض فضلاً عن التخلي عن النوافل!! مع بقاء المظهر الملتزم في الهيئة الظاهرة، بل قد يكون من القائمين بعمل من الأعمال الخيرية الدعوية في الأصل، إمامًا في مسجد أو عاملاً في مؤسسة دعوية خيرية، ولكنها أصبحت وظيفة يؤديها لا يقوم فيها بحقها فما هي إلا مصدر إضافي للكسب المادي دون القيام بواجبها، فقد ترك طريق الدعوة بمعناه الحق! وترحل عن دور القدوة! بحجج واهية، فهو قد قدم ما فيه الكفاية من الأعمال الدعوية فبلغ المنزلة في ذلك!)(1)، { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى. وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى. أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم: 33ـ 37].
(وبحجة أخرى وهي التفرغ لتربية أهله: زوجه وأبنائه ـ إن صدق ـ أو بحجة كثرة العاملين وامتلاء الساحة بهم ناسيًا أو متناسيًا أن هذه الأعمال الخيرة من الدعوة والتعليم والتربية هي من الواجبات، وهي ما يقدمه لنفسه عند الله عز وجل، وأن أثرها يجده في نفسه قبل أن يراه على المدعوين)(2).
مظاهر المشكلة(3):
1ـ التقصير في الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم التحرز من الحضور في أماكن المنكر:
__________
(1) ... تراجع الهم الدعوي ص5، 6.
(2) ... تراجع الهم الدعوي ص6.
(3) ... مشكلة تراجع الهم الدعوي أو عجز الثقات.(1/10)
فـ(لا يحركون ساكنًا مع زميل عمل ضلّ، ولا صالح ملّ، والناس متعطشون لمواعظهم ونصحهم ودعوتهم لكنهم لا يفعلون. ولو كانوا في كل أحوالهم كذلك لالتمست لهم الأعذار، لكنهم متثاقلون عند الدعوة إلى دين الله تعالى، نشطون في ميادين تحصيل الدرهم والدينار، قد قطعوا عامة نهارهم وطائفة كبيرة من ليلهم في تحصيل الدنيا والميل إلى ملذاتها وشهواتها وانصرفوا عن المعاني العلية، وتجد آخرين ليسوا من هم جمع المال في شيء لكنهم منصرفون إلى التميز في أعمالهم والاجتهاد في تخصصاتهم حاصرين أنفسهم في ذلك، وقد يكون عملهم هذا نافعًا للإسلام لكنه نفع محدود مرجوح بغيره من المنافع العظيمة التي يمكن أن تحقق على يد تلك الفئة لو صرفت ـ إضافة إلى تميزها في تخصصها ـ جهدها في سلوك السبيل القويم الذي يعود على الإسلام والمسلمين بأعظم النتائج)(1).
(والعجيب أن تارك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تجده ـ في أكثر الأحيان ـ مقرًا بعجزه، خجلاً منه، متواريًا عنه، بل تراه يعتذر بأعذار واهيات... وقد يعتذر بأن لديه مشكلة أو اثنتين، وهذا منه أعجب، إذ مَن مِن خلق الله تعالى من بني آدم يخلو من مشكلات وهموم؟ ويأتي بعض ثقات الدعاة في هذا الزمان إن أوذي إيذاءً يسيرًا من زوجه أو والديه أو أولاده أو قل ماله أو ابتلاه الله تعالى بشيء من الخوف والجوع والمرض، ترك المعاني العلية، فلم يسع لها، واعتذر عنها بأنه مشغول بمشكلات عويصة!! وليسأل نفسه هل ترك عمله الدنيوي لما تعرض لهاته المشكلات وتلك المصائب؟!!)(2).
__________
(1) ... عجز الثقات ص50.
(2) ... السابق ص55، 56 ببعض الاختصار.(1/11)
ومع التقصير في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجد من البعض تساهلاً في (غشيان بعض أماكن المنكرات قدوة سيئة لغيره، فترى من هؤلاء من لا يتردد في دخول أماكن فيها من المنكرات الظاهرة كالموسيقى والأغاني الماجنة والنساء المتبرجات بحجة تناول وجبة في هذا المكان مع أهله! وآخر لا يشعر بأدنى حرج عند محادثة امرأة أجنبية عنه في مستشفى أو طائرة ونحوها، مظهرًا الابتسامة العريضة والضحكة العالية وإلانة الكلام وإطلاق النظر، وحجته في ذلك أنه ما قصد رؤية المنكر ولا سماعه فحسبه الإنكار بالقلب)(1).
2ـ (كثرة المجالس التي ظاهرها وباطنها وأولها وآخرها الحديث عن الدنيا والنساء والتجارة والمال:
فلا تكاد تجد فيها التذكير بالله عز وجل، أو الحديث الجاد، أو طرح قضية من القضايا التي تهم المسلم في حياته، وهم ممن سلك طريق الدعوة وصعد مفاوز التربية!)(2).
3ـ (سلوك منهج الترخص والتساهل في أخذ الأحكام الشرعية والعمل بها وتتبع سقطات بعض العلماء:
ضاربًا أقوال بعضهم ببعض، متخيرا ما يوافق هواه ويشبع رغبته! ترى ذلك الترخص والتساهل في أمور العبادات والمعاملات، سيما في أمور المال بسبب كثرة الداخلين في عالم التجارة ـ والتي كانت منزلقًا خطرًا لكثير من الشباب العامل لهذا الدين ـ فتجد أحدهم يبحث عن الفتاوى التي تخرجه من المأزق الذي أوقع نفسه فيه، حتى أصبح العامي أحرص من بعضهم على دينه! فنعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن الحور بعد الكور)(3).
وقل مثل هذا في حلق اللحية وإسبال الثياب، وسفر المرأة بدون محرم، وركوبها مع السائق منفردين، وذهابها للطبيب دون الطبيبة من غير ضرورة، ولا نقصد في كل ذلك تأكيد الإجماع على المنع لكن تأكيد منهج التساهل عند هؤلاء والضعف والذي لا يخلو من الوقوع في المحرمات الواضحة، وأقله العمل بالمرجوح والشاذ.
__________
(1) ... تراجع الهم الدعوي ص8، 9.
(2) ... السابق ص7.
(3) ... السابق ص7، 8.(1/12)
4ـ إلغاء بعض المصطلحات من (معجم الاستقامة)(1):
كالورع وخوارم المروءة وسد الذرائع والقدوة... إلخ.
5ـ (التشكك في الطريق الذي سلكه من قبل:
طريق التربية الجادة والأخذ بعزائم الأمور، فأصبح يرى أن سبب تساهل الناس في أمور الدين ـ بعد هذه الصحوة المباركة ـ بل وانحراف بعض المستقيمين سببه المثالية التي طالبنا الناس بها في بدايات هذه الصحوة... وتراه يتأسف على تلك الأوقات التي قضاها في بعض الأعمال الدعوية وتربية الشباب)(2).
6ـ المبالغة في تأمين النفس والأسرة من المساءلة الأمنية:
وهذا التأمين مقدم مهما كانت المصالح الدعوية المهدرة عظيمة، ومهما كانت مفسدة المساءلة ضئيلة أو متوهمة ولا يزال به اتقاء تلك المساءلة حتى يتراجع عن العمل الدعوي كله، ثم يقلق من لحيته فلا يزال يقصقصها حتى تزول ثم لا يزال قلقًا من بعض صداقاته لبعض الملتحين والدعاة، فيبتعد تدريجيًا عنهم ويقتصر على صداقات من ليسوا في الدعوة في فتيل ولا قطمير ولا قبيل ولا دبير. ومع هذا يبقى خائفًا؛ لأن من لم يخف الله أخافه الله من كل شيء، ثم مع هذا يتفكه بأعراض الملتزمين والدعاة، مستهزئًا وواصفًا لهم بالحمق والغفلة لأنهم يفعلون أمورًا تعرضهم للمساءلة الأمنية { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } [التوبة: 49].
7ـ التوسع في المباحات:
من ملبس ومأكل ومشرب ومركب وأثاث (توسعًا يجد أثره على صفاء روحه ولين قلبه ورقة حاله ـ السابقة ـ وقد تبدل الصفاء كدرًا واللين قسوة والرقة غلظة)(3).
8ـ (التهرب من جميع أنواع المسؤولية والعمل لهذا الدين:
__________
(1) ... السابق ص9.
(2) ... السابق ص10، 11.
(3) ... السابق ص13.(1/13)
فلا تربية خاصة ولا دعوة عامة ولا مشاركة في مؤسسة يخدم فيها الإسلام وينصر إخوانه المسلمين، ولا غير ذلك من الأعمال التي لا تحصى! إنما هو سبهللاً لا هم له إلا انتقاد العاملين وإبراز أخطائهم، والتهكم بأعمالهم، والنيل من أشخاصهم، ولمزهم وغمزهم)(1).
9ـ تفاهة الأهداف.
10ـ تضييع الأوقات:
فأين هؤلاء من ابن عقيل الحنبلي إذ يقول: (إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح)(2).
11ـ (الضن بالأموال أو تشوش الإنفاق)(3):
فالبعض يبخل بالصدقة بحجج واهية كأن يقول هذا غير محتاج وهذه الجهة غير موثوقة(4) ونحو ذلك من التبريرات الظنية، وآخرون قبضوا أيديهم عن الإنفاق في الأمور الدعوية، واقتصروا على الإنفاق على الفقراء أو بناء الجوامع ونحو ذلك تارة لعماه عن جدوى تلك الأعمال الدعوية، أو عدم إيمانه بقضية الدعوة أصلاً، وتارة خوفًا من مساءلة أمنية متوهمة، (وإن أعطى فهو يعطي القليل الذي لا يشفي العليل ولا يروي الغليل)(5).
12ـ موضة السفر للخارج للتنزه أو ربما في الداخل إلى أماكن تشبه ما في الخارج:
وربما اصطحب زوجته وأولاده وعرَّضوا أنفسهم لسماع ورؤية ما يخجل منه المؤمن ويأنف، دون حاجة ولا ضرورة.
13ـ ضعف التربية والتوجيه للزوجة والأبناء وعدم ضبطهم:
بل ربما كان بعضهم سببًا في ضعف زوجته (لما رأته من ضعفه وتساهله وإهماله حتى قصرت في كثير من الخير الذي كانت عليه)(6).
__________
(1) ... السابق ص13.
(2) ... انظر: عجز الثقات (82، 83) نقله عن: الوقت هو الحياة ص178، وانظر: سير أعلام النبلاء (19/443 ـ 451).
(3) ... عجز الثقات ص58.
(4) ... تراجع الهم.
(5) ... عجز الثقات ص58.
(6) ... تراجع الهم الدعوي ص15.(1/14)
و(يقصر كثير من الصالحين في ضبط أزواجهم ويعجزون عن ذلك عجزًا بينًا فتصبح المرأة مسيطرة آمرة ناهية، فتنحل عرى القوامة ويضيع المنزل أو يكاد، ويفقد الرجل السيطرة على المنزل والأولاد)(1) وبعضهم تنصب له امرأته شراكًا بتكثيف المطالب الدنيوية عليه التي تشابه مطالب المحيطين من الأقارب ويجد الزوج نفسه في حاجة لاستبدال وقته لعمل دنيوي إضافي بالوقت الذي كان يبذله للدعوة؛ ليستطيع أن يعيش في الصورة التي ترسمها زوجته.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب: 28، 29]: هذا أمر من الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة) (2).
(واليوم ـ في دنيانا ـ صورة مؤسفة على عجز الثقات أن يضبطوا أزواجهم، فهذا رجل ثقة صالح لكن زوجه غير منضبطة بتعاليم الإسلام في صور متعددة، وآخر لا يستطيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيته، وثالث لا يستطيع أن يؤدي فريضة الدعوة أو يتحرك خارج منزله ما لم تأذن له الزوجة، تلك صور حادة لكنها موجودة في مجتمع الثقات بدرجات متفاوتة، وهي دالة ولا ريب على عجز مطلق وضعف واضح، حمانا الله تعالى.
__________
(1) ... عجز الثقات ص94.
(2) ... تفسير القرآن العظيم لابن كثير.(1/15)
أتيت منزل أخ صالح أدعوه إلى رحلة مباركة إلى المدينة النبوية الشريفة، فقال: لا أستطيع، وتعلل بعلل وأعذار، فعذرته، ثم إني قلت له: يا فلان! إنا سنصحب النساء والأولاد لترق قلوبهم، فتهلل وجهه ـ والله ـ وبدرني قائلاً: لِم لَم تقل ذلك من أول حديثك؟ إني ذاهب معكم.
أرأيت إلى تأثير أهله فيه وكيف يحجم عن الخير بسببهم؟ عافانا الله تعالى)(1).
14ـ تبرير الأخطاء التي يقع فيها:
بل ربما دعا إليها مستغلاً فصاحته أو قدرته على الإقناع.
15ـ إلقاء التبعات على الآخرين:
فبدلاً من تذكر أن المسؤولية فردية أمام الله تعالى تراه يلقي بتبعة ضعفه على من ربوه وعلموه.
16ـ إهدار المواهب:
فالبعض ممن تراجعوا تجدهم قعدوا عن استغلال المواهب التي منحها الله لهم، ولا شك أن ذلك مع كونه خذلانًا للدعوة فهو فشل وخسارة في الاختبار الذي اختبرهم الله به؛ لأن الله تعالى يقول: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام:165].
17ـ تشوش الأولويات:
(
__________
(1) ... عجز الثقات ص96، 97.(1/16)
وإن أردت أن تطلع على صورة واضحة على التشوش في ترتيب الأولويات فانظر إلى بعض من يريد أن يبني بيتًا، فإنه يعمد إلى تسخير جميع قواه ومصالحه الحيوية ليصبها في بناء بيته، وتراه يؤخر أمورًا لا تؤخر، بل تراه يعرض عن كثير من الواجبات بحجة أنه مشغول ببناء بيته، فيمكث على ذلك سنوات قد تطول، فيعتاد أثناء تلك السنوات الطويلة الإخلاد إلى الأرض ونسيان المعاني العلية، وقد يؤدي به ذلك إلى العجز الدائم الكلي، نسأل الله العافية. وناهيك بمن يصرف عمره متشاغلاً بما زعمه حقوقًا للزوجة والأولاد تاركًا الدعوة إلى الله تعالى وضاربًا بمصالح الأمة عُرض الحائط، ولو أعطاهم حقهم باعتدال كما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - وانصرف إلى أولويات أخرى مهمة لحفظ الله تعالى له أهله وأعظم له أجره)(1).
18ـ الطعن في الثقات:
وذلك من المظاهر السيئة حيث يحلو لهذا المتراجع الحديث عن عيوب إخوانه وأخطائهم، ويزين له الشيطان انتقاد الدعاة في المحافل والمجامع ووسائل الإعلام بحجة الجرح والتعديل والقيام بتبيين الحق، ولو فرضنا أن ما يقوله الطاعن حق إلا أنه (مغموس في بحر من التجني والتشفي والهوى، والمقرر من قواعد الإسلام أن الجرح والتعديل إن خولط بهوى وتشفّ وتجنّ فإن صاحبه مأزور غير مأجور، وقوله مرفوض غير مقبول. وإن من المصائب حقًا أن يأتي ثقة من الثقات ليرمي مجموعة ضخمة من الناس بجرح مبني على ظن ووهم، فكيف يصنع هذا المسكين بهم إذا جاءوا يوم القيامة يحاجونه بين يدي الله تعالى وليس مع ذلك المسكين شيء إلا سمعت وظننت وقيل لي؟!)(2).
__________
(1) ... عجز الثقات ص67، 68.
(2) ... السابق ص69.(1/17)
ألا ما أجمل كلام بعض السلف: ما أحسب أن أحدًا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه. وقول الآخر: ما رأيت شيئًا أحبط للأعمال ولا أدوم للأحزان ولا أقرب للمقت ولا ألزم لمحبة الرياء والعجب والرياسة من قلة معرفة العبد لنفسه ونظره في عيوب الناس(1).
19ـ الكف عن القراءة والمطالعة:
ولاشك أن اليوم الذي يكف فيه الداعية عن القراءة والمطالعة هو اليوم الذي يبدأ فيه التراجع للوراء سواء كانت قراءة للعلم الشرعي أو طرق التربية والدعوة أو ما يهم المسلم من الأخبار والوقائع وتحليل ما وراءها وما يترتب عليها من أمور مهمة.
20ـ خلف الوعد:
فكم ضاعت أوقات أناس جادين بسبب انتظار أولئك الفارغين، والذين إذا حضروا لم يأبهوا بما صنعوا ولم يكترثوا ولم يعتذروا، وهذا العرض وإن ذكر آخرًا إلا أنه في الغالب أول ما يظهر من أعراض الضعف والتراجع.
- - -
أسباب تراجع الهم الدعوي أو عجز الثقات
قبل عرض الأسباب ينبغي ملاحظة أن بعض الفتور قد يكون وقتيًا وطارئًا فللنفس إقبال وإدبار فينبغي إلزامها العمل عند إقبالها والرفق بها عند إدبارها كما أشار إليه بعض السلف، ومثل هذا الفتور لا يؤدي إلى ترك واجب ولا فعل محرم ولا التخلي عن قضية ولا يطول بصاحبه(2).
__________
(1) ... من كلام السري السقطي، وهو وما قبله في عيون الأخبار لابن قتيبة وعنه نقل صاحب العوائق وعنه صاحب عجز الثقات (147ـ 149)، ص74.
(2) ... وكما قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: (فتخلل فترات للسالكين أمر لازم لابد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرًا مما كان مع أن العبادة المحببة إلى الله سبحانه هي ما دام العبد عليها) اهـ. مدارج (3/126)، وعنه عجز الثقات ص108.(1/18)
كما ينبغي أيضًا ملاحظة أن بعض الفتور لا يكون حقيقيًا أي منشؤه ضعف داخلي بل لبعض الحالات أسباب خارجية تستدعي التحفظ قبل نسبة الفتور لشخص ما، واستحضار (نسبية التضعيف والتوثيق)(1):
فعلى سبيل المثال إذا قومنا أداء شخص بالنسبة (لميدان لم يخلق له)(2) فقد نتهمه بالفتور خطأ، وآخر ذو موهبة احتفّت بعمله كثير من المصالح الشخصية قد ننسب له الهمة العالية والعمل للدعوة بصورة مبالغ فيها أو غير دقيقة.
وأيضًا قد تكون (خطط التشغيل)(3) بالنسبة لمن تحددت أعمالهم في إطار معين من الارتباطات تحتاج إلى إعادة نظر لتحقيق توظيف الطاقات كما ينبغي، ولا تكون معوقة للراغبين في العطاء.
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص35، 36، 39.
(2) ... نحو المعالي ص38.
(3) ... انظر: نحو المعالي ص35، 36، 39، ومن الأسباب التي تعزى للموجه وخطط التشغيل: ضعف الجانب التربوي، عدم وضع الفرد المناسب في المكان المناسب، عدم توظيف طاقات الأفراد، عدم متابعة الأفراد، عدم حسم الأمور بسرعة، الصراعات بين الأفراد، عدم أهلية الموجه. انظر بالتفصيل: أسباب تساقط الدعاة لفتحي يكن.(1/19)
وأيضًا قد تلم بالبعض محن كبيرة يصعب معها استمرار الأداء كما هو عليه من سجن طويل تمله حتى قضبان الزنزانة، ومن قتل قريب حبيب ومن تشريد وتشتت في الأرض، تموت أمه ولا يحضر جنازتها ويصبر، ويموت أبوه ولا يصلي عليه، ويحال بينه وبين زوجه وولده السنين الطوال، ولا يخلون مع ذلك من المضايقات والأخطار. (إنها بطولة حقيقة أن يصمد داعية أمام كل هذه الضغوط النفسية الخاصة والعامة، وأن لا ينهار، وقد أرته السنون نجوم النهار)(1)... ومن العجيب أن هؤلاء قل أن يصيبهم الفتور مع أنه لو أصابهم منه شيء لالتمس لهم العذر، ولكن يأتي الفتور ممن أصابهم الحد الأدنى من التضييق والمحن ـ بل لم يستكملوا هذا الحد الأدنى ـ الحد الأدنى البدهي الذي لا ينفك داعية عن تصوره وانتظاره.
كما أن هناك أسبابًا خارجية كثيرة أدت بالفعل إلى تراجع الهم الدعوي عند كثيرين كالضغوط الأمنية، وفشل بعض المواجهات مع أعداء الدعوة الإسلامية واختلافات الدعاة. إلا أن تلك الأسباب ما كان ينبغي أن تؤدي لتراجع هم الداعية، أو أن تكون عذرًا مقبولاً وإلا لعذرنا جميع المؤمنين على مر التاريخ في ترك الدعوة لعدم خلو زمن من تلك المنغصات وأكثر منها، بل لولا الضعف الداخلي والأسباب الداخلية الخاصة بنفس العبد ما كان لتلك الأسباب الخارجية أن تؤثر فيه فتقعده عن القيام بواجبه.
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص35، 36، 39.(1/20)
أيضًا هنالك سبب كبير لتراجع الهم الدعوي عند كثيرين ألا وهو ضياع الأهداف أو عدم تحديدها أو عدم القناعة بها أو تغييرها والحيدة عنها بعدما كانت ثوابت واضحة، وهذا سبب معقد يتركب من جوانب داخلية وأخرى خارجية ولا شك أن وجود الجانب الخارجي من اضطراب الموجهين وتناقضهم بل تناقض الواحد منهم مع نفسه إذ ينخلع مما قرره سابقًا... لا شك أن وجود هذا الجانب يخفف الملامة عن الشخص وإن كان هنالك عنصر يخصه لأن المؤمن الصادق إذا صعب عليه اختيار هدف ما والتركيز عليه يكفيه الهدف العام الشامل لكل عمل دعوي يحتاج إليه الناس وحسبه أن كل جهد مشروع لن يضيع أجره في الآخرة ما دام خالصًا لله... فليكن البذل في أي جانب يقدر على العطاء فيه.
ويستطيع المسلم أن يبلور لنفسه في كل فترة هدفًا أو أكثر ثم يقوم بعملية ترتيب لها حسب أهميتها ثم يقسم وقت العمل لتحقيقها مرتبة، ثم في نهاية العمل ينظر كم نسبة ما أنجزه من أهداف العمل إلى مجموعها. وبذلك يبقى له في حياته أهداف يطلب تحقيقها وهكذا على الدوام فـ(قيمة الحياة في أهدافها)(1).
وبعد تلك الملاحظات نأتي للأسباب الداخلية لتراجع الهم الدعوي:
1ـ (التغيير لما كان عليه المسلم)(2):
قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الأنفال: 53].
قال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية: (إنه جانب يقرر عدل الله في معاملة العباد فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها) (3).
(
__________
(1) ... انظر: حتى لا تكون كلاًّ، لعوض القرني ص13ـ 15.
(2) ... تراجع الهم الدعوي ص17، 18، وانظر: تفسر العلامة السعدي للآية.
(3) ... انظر: الظلال، سورة الأنفال، آية 53.(1/21)
ومن التغيير ترك المسلم ما كان يوعظ به، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [النساء: 66])(1).
2ـ عدم تدارك النفس من بداية الأمر:
وقبل استفحال المرض، مع توقع صعوبة الرجوع إلى الجادة وإصلاح النفس مرة أخرى.
3ـ أسباب خفية في القائد والأتباع:
فنجد في القائد الضيق بمن يخالفه في الرأي والقسوة على الأعوان وفهمه لحق الطاعة بشكل يابس، كما نجد في الأتباع الإلحاح وطول النفس والجدل والاعتراض أو الإسراف في التفلت وعدم الاكتراث بالنصيحة والتحايل في استنباط الأعذار والإكثار من التشكي... وهي أمراض تؤدي إلى تراجع الهم الدعوي بعد فترة سواء ما كان متعلقًا بالقائد أو متعلقًا بالأتباع(2).
4ـ أمراض القلوب:
فمنهم من يتعثر بسبب العجب والرياء وإرادة الدنيا بعمل الآخرة كما قيل (إنما يتعثر من لم يخلص)، ومنهم من يعكر قلبه (حسد يشغله عن العمل الصالح إذا ربح قرين له ربحًا تجاريًا أو نال مركزًا مرموقًا... ومنهم من يعشق الرئاسة والصدارة، فيظل ساخطًا إذا أبعد عنها، فيصرفه سخطه عن التصدي لإرشاد الناس، وكل خلق آخر مذموم يمكن أن يؤدي إلى شكل من أشكال الحياة السلبية)(3).
5ـ (صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الدنية:
ممن يهونون عليه الأمر ويقعدون به عن كثير من الخير بسبب تثبيطهم، وتهوينهم، بل وتندرهم بأعماله السابقة وتربيته الماضية)(4).
6ـ (ضعف الأساسات الإيمانية والعلمية والدعوية:
__________
(1) ... تراجع الهم الدعوي ص17، 18، وانظر: تفسير العلامة السعدي للآية.
(2) ... انظر: نحو المعالي ص41.
(3) ... نحو المعالي ص40.
(4) ... تراجع الهم ص24.(1/22)
ثم كان الظهور، وكان البروز بل أصبح في موقع القدوة للعامة أو للشباب ممن يربيهم، فلما زالت أو ضعفت بعض المؤثرات ـ التي تستر ذلك الخلل ـ ظهر عواره وجوانب الخلل والنقص فيه، والتي لم يكن عنده في وقت سابق وقت لمعالجتها وإصلاحها بسبب انشغاله بتربية غيره، فكانت النتيجة لذلك التراجع للحال المتأصلة ولكن أخفاها الحركة والذهاب والإياب والعمل وغيرها)(1).
7ـ عدم التفطن لخطورة الدنيا:
فقد كان مما يميز صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبع قلوبهم بالرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، لهذا قال أحدهم للتابعين: (أنتم أكثر صلاة وصيامًا منهم ـ أي من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ ولكنهم كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة).
__________
(1) ... تراجع الهم ص21، 22.(1/23)
ولا شك أن العبد إذا لم يكن محتاطًا لفتن الدنيا فإنه لا يزال يستدرج وهو لا يشعر حتى يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير... ومن أبرز فتن الدنيا المال والنساء، فبعضهم (أصبحت التجارة والوظيفة أكبر همه، أصبحت غاية وليست وسيلة، يبذل أمامها كل شيء حتى ولو كان شيئًا من دينه! فشغلته عن دعوته، وجعلته مداهنًا على حساب دينه، تاركًا للنفقة في أبواب الخير بل أوقعته في بعض المحرمات والمتشابهات ـ أحيانًا ـ فتسمع عن قصص أكل أموال الناس، وعدم رد الحقوق إلى أهلها، والتخاصم والتنازع، وكان الانهزام كذلك أمام الجولة الثانية من جولات الدنيا ألا وهي الزوجة!! فبعد أن كانت أوصافها في فترة حماسه لدعوته ونشاطه في التربية لا تقل عن أوصاف ذلك الجيل الأول من الصحابيات، ولكن ما إن حان الموعد حتى تنازل عن أكثر إن لم يكن كل ما اشترطه مع توفر ولو بعضه في بعضهن ـ مقابل شرط الجمال ذي المواصفات المحددة في كل صغيرة وكبيرة ـ ويهون بعده كل شيء حتى الدين! فهو يقول: تصلح إذا تزوجتها وأكسب أجر هدايتها! فكانت الأخرى أن باءت بإثم انحرافه أو ضعفه)(1). ومن مخاطر الدنيا أنها تدعو طالبها للترف والدعة وذلك ينتج الكسل والعجز(2).
8ـ قطع النفس عن التزكية(3) والأسباب التي تحثه على الخير وتوجهه للعمل والدعوة:
كمجالسة من يحملون هم الدعوة ويبصرونه بعيوبه، وكمجالس العلم، والقراءة النافعة، واستماع الأشرطة الإسلامية.
9ـ (عدم التوازن في العمل والتربية:
فبعد أن كان في وقت من الأوقات قد جعل يومه كله للدعوة والتربية في مقابل تقصيره في حق نفسه وأهله وزوجه ومن له حق عليه، فأراد أن يصلح هذا الخلل! ولكن بخلل آخر وهو الانشغال بالنفس والأهل عن الدعوة والتربية والعمل لهذا الدين)(4).
__________
(1) ... تراجع الهم ص22، 23.
(2) ... انظر: عجز الثقات ص104.
(3) ... انظر: تراجع الهم ص19، 20.
(4) ... تراجع الهم ص21.(1/24)
10ـ التعلق بالأشخاص(1):
سواء في تقليدهم في الجوانب التي يتساهلون فيها وتقديم فتاواهم على فتاوى الفطاحل من العلماء، أو بعدم القناعة بأحد بعدهم إذا ما تراجعوا فلا يرى من يسد مكان من أحبه وتتلمذ عليه، فيتقوقع على نفسه ويتآكل.
11ـ الوقوع في المعاصي:
والشيطان له في ذلك مداخل حيث يلقن ذلك العاصي حججًا؛ فيزين له إطلاق البصر إلى المتبرجات بحجة التحسر على ما وصل إليه الحال، ويزين له تقليب الجرائد والمجلات التي تحوي الصور الفاتنة أو تقليب ناظريه في القنوات الفضائية كل ذلك بحجة الاطلاع على واقع أهل الفساد والتحذير منه، كما يهون على من هو كثير الأسفار لتجارة أو سياحة أو دعوة إطلاق البصر إلى النساء الكاسيات العاريات بحجة صعوبة التحرز وإطلاق اللسان بالكلمات السوقية، وربما السباب والغيبة لاسيما في حق عموم المسلمين، كما لو كانت الغيبة لا تحرم إلا في حق الدعاة الملتزمين إلى غير ذلك من المداخل وكل هذا ينتج عدم الهمة في إنكار المنكر أو الدعوة إلى الله.
12ـ نسيان المسؤولية الفردية أمام الله عز وجل(2):
فكأنما يحتمي بغيره من المقصرين لاسيما إن كانوا في موضع القدوة بالنسبة له فيلقي بلائمة تقصيره عليهم.
13ـ التواضع الكاذب:
الذي ينتهي إلى القعود والعجز الكلي بحجة: أن هناك من هم أقدر مني وأولى.
14ـ الحساسية المفرطة:
التي تعوق عن التعامل مع الناس وتفهمهم بشكل صحيح حتى يصير غير راغب في لقاء أحد وغير مرغوب في لقائه.
15ـ التعجل وسرعة السآمة والملل: ومن ثم اليأس.
16ـ الانقباض عن الناس وضيق الصدر:
ولله در الشافعي حيث يقول لتلميذه: الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط(3).
17ـ الخوف:
__________
(1) ... انظر: تراجع الهم ص20، 21.
(2) ... انظر: تراجع الهم ص26.
(3) ... نزهة الفضلاء (2/741)، وعنه عجز الثقات ص112.(1/25)
الذي يؤدي للانسحاب والمبالغة في الاحتياط للنفس من أقل القليل ولو على حساب مصالح الإسلام العليا.
18ـ الغموض:
الذي يجعل صاحبه غير معروف الأهداف ولا يعلم أحد ماذا يريد مما يؤدي لتجنب الناس له وعجزه من ثم عن العطاء.
19ـ التردد:
الذي يجعل صاحبه قلما يعزم على أمر، وإذا عزم فقلما يمضيه(1).
20ـ الوقوع في العشق:
أو الوقوع لفترات طويلة تحت ضغط الشهوة وإلحاحها دون إروائها بالزواج الذي أحله الله أو الأخذ بأسباب تقليلها.. إذ أن كل ذلك يؤدي للإرهاق الذهني والقلبي وتعب العقل والنفس والجسد... بما لا يبقى معه تركيز أو همة في عبادة ولا علم ولا دعوة ولا عمل.
21ـ عدم الإحساس بالمسئولية ووجوب الدعوة.
- - -
علاج العجز وتراجع الهم الدعوي
نقاط هامة بين يدي العلاج:
1ـ ليس رصدنا لهذا المرض في دعاة الصحوة والسعي في علاجه يعني التهكم بهم أو أنهم مرضوا وصاروا تحت العلاج، وصار العامة خيرًا منهم.
إذا أن أبناء تلك الصحوة هم خير الناس على ما هم فيه(2) وكثير منهم قد ينسب إليه الفتور مجازًا نظرًا لظاهره الذي قل فيه الإنتاج بينما يكون لقلة إنتاجه أسباب خارجة عنه على وفق ما سبق الإشارة إليه في بداية الكلام عن الأسباب... ودليل خيريتهم حتى الفاترين حقيقة أنهم لا يزالون يسألون: ما سبب فتورنا وكيف العودة(3)؟
__________
(1) ... من 13 إلى 19 يستفاد فيها من عجز الثقات ص100ـ 118.
(2) ... بل ليس فوقهم إلا الملائكة على حد تعبير صاحب نحو المعالي. انظر ص28، 29.
(3) ... انظر السابق.(1/26)
2ـ لا يمكن إعطاء وصفة واحدة للعلاج لكل الأشخاص، بل لابد من علاقة ثنائية مباشرة يعلم منها قصة فتور كل شخص وسببه وما يصلح في علاجه؛ لأن لكل نفس هويتها الخاصة التي تنشأ من خلطة (صفات شتى متضادة: صفات خير وصفات شر. فمن جانب توجد الشجاعة ويوجد الكرم والحلم والصبر، وبقية الصفات الإيمانية الحسنة، ومن جانب آخر يوجد الجبن والبخل والحسد وسوء الظن وبقية الصفات السيئة، ويختلط مقدار من هذه وهذه في بوتقة واحدة وبمقادير معينة، فتكون نفس فلان، وبمقدار آخر فتكون نفسية أخرى في تعدد وتنوع لا حصر لهما يجاريان كثرة الاحتمالات الرياضية للتوافيق والتباديل بين الصفات الجزئية... بل أكثر من هذا، فإن "الخلطة" الواحدة التي تتكون منها نفس شخص ما ليست دائمة، بل لها تغير كبير وواضح في كل حقبة، وأصغر منه في كل سنة، وأصغر منه في كل موسم، وأصغر منه في كل يوم، ولو كانت النفوس جامدة لا تقبل التغير لما كان للوعظ دور، ولا للتربية معنى، لكن أغلب هذا التغير إنما يكون بالتطبع وقسر النفس على الظهور بمظاهر معينة والقيام بأعمال ثقيلة عليها، وإن كان طول التطبع قد ينسي النفس طبعها القديم وتتحول المغالبة إلى عادة ميسورة)(1). وكما قال ابن القيم فإن الصفات أو القوى النفسية تنمو وتقوى بالتمرين كالصفات والقوى الجسدية، ذكره في مفتاح دار السعادة.
__________
(1) ... نحو المعالي ص31، 32.(1/27)
3ـ كما ينبني على فهم خلطة الصفات النفسية أيضًا أنه لا يصلح في العلاج أن نكتال جزافًا من كل ما هو محمود بل باختيار ومقدار ليحل التناسب بينهما إن لم يكن التكافؤ، (فكأن في القلب قناة وحيزًا لكل صفة فاضلة لو فرغ منها وملأته صفة أخرى تضاعف حيزها ومكانها لحصل طغيان في تلك الصفة زائد عن حد الاعتدال فيخرج المرء إلى تطرف، ففي القلب مثلاً أماكن للشجاعة والكرم والصبر والحلم، فما من مبالغ في صفة من هذه الصفات إلا كانت مبالغته على حساب الصفات الأخرى، ناحِتةً منها، وقد أشار الإمام الغزالي إلى قريب من هذا المعنى، وقد يكون هذا هو سر لغز انهيار بعض المبالغين في الحماسة والمناوشة والتحدي وحب الصدام عند المحن والفتن؛ لأن صفاتهم هذه نحتت من صبرهم وأزاحته وسكنت مكانه، واختل التوازن الكمي في خلطة صفاتهم، والله أعلم)(1). ومعنى هذا أن (الهندسة النفسية) (2) هي إحدى أقسام الهندسة.
4ـ إن علاج التراجع الدعوي لا يكون بالتوقف عن الانطلاق والعمل لنصرة الدين لحين الانتهاء من التفتيش عن الحيات والعقارب التي تجول في داخل النفس وقتلها جميعًا، وفقًا لنظرية الغزالي في التفتيش عن الحيات والعقارب وإنما ينبغي للسالك إلى الله أن يتقدم في طريقه ويترقى بأنواع المعارف والأعمال فما ظهر له في طريقه من عقرب أو حية قتلها وفقًا لنظرية ابن تيمية وابن القيم في عدم الانشغال بالتفتيش عن التقدم بل يقتل ما ظهر أثناء التقدم، وبنحو هذا ينبغي أن تأخذ مجموع الدعوة في مسيرتها العامة لأن الهم من الداخل لا نهاية له... بل يزداد اضطرابًا بالتوقف عن العمل وعن التقدم.
وبنحو هذا ينبغي أن تأخذ الدعوة أو الحركة الإسلامية في مسيرتها العامة لأن ترتيب البيت من الداخل لا نهاية له... بل يزداد اضطرابًا بالتوقف عن العمل وعدم التقدم.
__________
(1) ... نحو المعالي ص34، 35.
(2) ... انظر: نحو المعالي ص30.(1/28)
5ـ إن معدن كل شخص وبقايا الفطرة التي فيه بالإضافة لإيمانه المكتسب له أثر في العلاج (وهذا مستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" فالذي لا يسعفه أساس فطري متين لا يرقى به إيمان مستحدث لأكثر من الدرجات الدنيا، ويبقى العلو صعبًا عليه، وقد تكون الفطرة في شخص ما متلاشية ليس لها بقايا، وهي في الأنبياء أوفر ما تكون، باقية بتمامها... وما بين الأنبياء وأصحاب الفطر المتلاشية درجات لا حصر لها)(1).
__________
(1) ... نحو المعالي ص33.(1/29)
6ـ إن من العناصر المؤثرة في العلاج المنح الربانية المحضة التي يفيض الله منها على عباده حين يشاء، فنحن نعرف مثلاً من تلك المنح: الإلهام، وصدق الرؤيا، وصحة الفراسة، والمحبة أو المهابة التي تلقى في قلوب الناس لمؤمن ما وأنواع أخرى من الكرامات المعنوية، وهي من فروع الإيمان وثمراته بلا شك، لكن حصولها لا ينضبط زمانًا أو كمية وفق القوانين التي يمكن أن تعرف بالقياس وحتمية الارتباط بين المقدمة والنتيجة، وإنما تحصل بفضل بحث من الله تعالى، وصحيح أنها تمنح لأهل الإيمان، لكن هذه القاعدة لا تخضع لقياس؛ لأن الإيمان سر، ولا يدري حتى المؤمن نفسه في أي أجزاء الإيمان وأخلاقه تكمن الأهمية... ويشهد لهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - للكلمة التي تدخل قائلها الجنة أنه (لا يأبه بها) وتتوالى ظنون الخير في أفعال الناس حتى ليغفر لمومس تسقي كلبًا(1)... بل يؤثر صلاح الآباء والأجداد في الأبناء بأن يكون سببًا لمنح ربانية لهم على نحو قوله تعالى: { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [الكهف: 82] بل تؤثر الصفات السلبية(2) أيضًا كالاستضعاف والقهر وتحرق المظلوم وتلهف المشتاق والحزن والانكسار حيث ينتصر الله لهم من غير فعل منهم إلا التفويض إليه سبحانه { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [القصص:5]... وكل هذا يفسر إكرام الله لبعض المتراجعين بأوبة سريعة قوية دون البعض الآخر على غير قياس واضح لنا نستطيع أن نفسر به الأمور... ولكنه المنح الربانية البحتة التي لا يظهر لها أسباب بالنسبة لنا لكنه جل وعلا أعلم أين يجعل منحته.
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص33ـ 35.
(2) ... السابق.(1/30)
7ـ إن علاج المتراجعين ينبغي أن يمر بالطريق المتدرج من الموعظة بالإيماء فالموعظة الصريحة فالخشونة والتقريع، فإن تعالى المتراجع فليس الصف عليه بحريص، والبركة فيمن تواضع وانشرح لوجود الناصح، وحسبنا أنه حتى مسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تبرأ من المخلفين(1). فلا ينبغي استهلاك العمر الشريف بالنحيب عليهم والانشغال باللهاث وراءهم ـ مع تعاليهم وإعراضهم ـ عن أنصار الله المقبلين.
8ـ ثلاث عبارات(2) كل منها بمثابة نذير يقلق كل متراجع ويدفعه دفعًا للتدارك:
الأولى: أن استمراء هذا الوضع من العجز والتراجع يؤدي في النهاية إلى الانسلاخ بالكلية من الثبات أو الالتزام.
الثانية: أن الزمن المتاح للتدارك والعمل الصالح قصير؛ فلا أحد يدري كم بقي من عمره.
الثالثة: أن الدرجات في الجنة متفاوتة تفاوتًا عظيمًا...
9ـ إن أكثر ما يؤثر في علاج ضعاف الهمة في الدعوة انتصاب قدوات وأئمة هداة يحيى الناس بهم، لا بمجرد كثرة إنتاجهم لكن بربانيتهم وروحانيتهم مع إقدامهم ونشاطهم وتضحيتهم، فانتصاب أولئك القدوات هو الأساس في العلاج لا التقريع المستمر للفاترين فحسب، فمجرد الملامة قل أن تحرك ساكنًا، بل ربما كانت مخاطبتهم بجوانب الخير فيهم أشد تأثيرًا(3).
10ـ حتى ينجح العلاج فلابد من الرغبة القوية والعزم الصادق على العلاج مع العلم أنه لا يؤثر بين عشية وضحاها فلابد من الصبر على مرارته حتى لا تكون الانتكاسة أشد(4).
11ـ يجب علينا بين يدي العلاج أن نستشعر الفرق بيننا وبين عامة الناس وذلك من وجهين: الأول: من خلال قيامنا بالدعوة فنحن دعاة، والثاني: كوننا قدوات لغيرنا شئنا أم أبينا(5).
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص40.
(2) ... انظر: عجز الثقات ص23ـ 47.
(3) ... انظر: نحو المعالي ص39، 43، 44.
(4) ... انظر: تراجع الهم الدعوي ص27.
(5) ... السابق ص28، 29.(1/31)
12ـ إن معالجة فتور النفس بمعاقبتها بتحميلها وإلزامها كثيرًا من الأعباء وحرمانها من المباحات على ما تذهب إليه الصوفية لا يصلح على الإطلاق لكل أحد، بل لا يصلح إلا لنفوس قوية أما أكثر النفوس فتحتاج عند إدبارها للرفق بها والتدرج في إعادتها إلى ما كانت عليه أو أفضل(1). وعلى وجه العموم فالنفس بحاجة لمجاهدة دائمة وفق سياسة حكيمة. { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69](2).
مفردات العلاج:
1ـ جلسة مصارحة ومحاسبة مع النفس يقف العاجز المتراجع من خلالها على حقيقة حاله وجوانب النقص في شخصيته التي أدت إلى ضعف همته وتفريطه في السعي للعلاج، وعلى أسباب المشكلة بالنسبة له ومن ثم يأخذ في السعي لإزالة هذه الأسباب وتكميل جوانب النقص(3).
2ـ الدعاء والمناجاة(4) طلبًا للعون من المولى وأن يعجل انكشاف الضر... والأخذ بكل آداب الدعاء وأسباب إجابته.. قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم"(5).
3ـ العبودة الخالصة لله تعالى المتمثلة في الانكسار والافتقار له مع إحسان العبادة ومراعاة آدابها، ويدخل في ذلك القيام أو التهجد في الثلث الأخير من الليل وملازمة الاستغفار والذكر طرفي النهار ومطلقًا، والمكث في المساجد؛ فحصيرة المسجد هي عرش الداعية، وصدق القائل: من لم تحلق روحه على حصيرة المسجد البالية فلن يطير به بساط السندباد(6).
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص42، 43.
(2) ... انظر: تراجع الهم ص36، 37.
(3) ... انظر: تراجع الهم الدعوي ص27، 28، 38.
(4) ... انظر: نحو المعالي ص44.
(5) ... انظر: صحيح الجامع.
(6) ... محمد أحمد الراشد في كتابه نحو المعالي ص43.(1/32)
4ـ إكثار المطالعة لأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة والتابعين وحفظ ما أمكن من السنة، ومطالعة سيرته - صلى الله عليه وسلم - وهديه بنية التأسي به - صلى الله عليه وسلم - (1).
5ـ عيادة المرضى، وشهود الجنائز، وزيارة المقابر.
6ـ الاهتمام بالصدقة في مجالات الدعوة تارة وعلى الفقراء والمحتاجين تارة، تارة في الخفاء حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك، وتارة علانية عند أمن الرياء لتشيع تلك الروح في المجتمع ويحصل الاقتداء.
7ـ الابتعاد عن المجالس واللقاءات والشخصيات التي كانت من أسباب الضعف ليحل محلها رفقة الصالحين وزيارة أولي الربانية والهمم العالية. قال بعضهم: جالس من تكلمك صفته، ولا تجالس من يكلمك لسانه(2).
8ـ تتبع أخبار المصلحين والدعاة والمجاهدين من السلف وغيرهم ومطالعة سيرهم فذلك رؤية لهم في دنيا العجز التي امتلأت بسير العاجزين. قال ابن الجوزي رحمه الله: أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المبتدي، ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير القوم ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم(3).
__________
(1) ... انظر: تراجع الهم ص33، عجز الثقات ص158.
(2) ... انظر: نحو المعالي ص86.
(3) ... عجز الثقات ص124، ونقله عن قيمة الزمن ص31.(1/33)
وقال أيضًا: رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق؛ لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وما يغالب به الخصم، وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء. وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه: هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سببًا لرقة قلبك(1).
كما حذر من حال بعض الفقهاء الذين وصفهم بقوله: (جعلوا النظر جل اشتغالهم، ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب) (2).
وخذ مثلاً لذلك تلك القصة عن صلاح الدين الأيوبي وما لها من أثر في رفع الهمة وعدم القناعة بالدون من الأهداف:
(هذا أحد أصحابه يحكي أنه كان سائرًا معه من عسقلان إلى عكا، وكان الزمان شتاء عظيمًا والبحر هائجًا هيجانًا عظيمًا، وموجه كالجبال، كما قال الله تعالى. قال: وكنت حديث عهد برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندي حتى خيل لي أنني لو قال لي قائل: لو جزت في البحر ميلاً واحدًا ملكتك الدنيا لما كنت أفعل، واستخففت رأي من يركب البحر رجاء كسب دينار أو درهم، واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب البحر، هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر وتموجه.
__________
(1) ... نحو المعالي ص55، 56، ونقلها عن صيد الخاطر ص216.
(2) ... نحو المعالي ص56، ونقلها عن تلبيس إبليس ص116.(1/34)
فبينا أنا في ذلك إذ التفت إليّ وقال: إنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودّعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
فعظم وقع هذا الكلام عندي حيث ناقض ما كان يخطر لي، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفسًا من المولى، ولا أقوى نية منه في نصرة دين الله، وحكيت له ما خطر لي. ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة ولكن المولى يُسَيِّر في البحر العساكر، وهو سور الإسلام ولا ينبغي أن يخاطر بنفسه.
فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟ فقلت: الموت في سبيل الله.
فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات. قال: فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها، وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجسرها).
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام(1)
9ـ الوقوف على حكم الشرع في الدعوة إلى الله تعالى وأن ذلك من الواجبات المتعينة(2).
10ـ تذكر أن الحق لا يعرف بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله، وأن المسئولية أمام الله جل وعلا فردية لا يغني فيها متبوع ولا رمز ولا يجدي فيها الإلقاء باللائمة على المربين والموجهين(3).
11ـ التوبة من المعاصي والوقوف على آثارها الوخيمة والقيام بالواجبات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستكثار من النوافل وتحسين الأخلاق فذلك من تغيير ما بالنفس وفعل ما توعظ به، وذلك من أسباب شفاء الله لك من مرضك، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11].
__________
(1) ... عجز الثقات ص88ـ 90، والقصة منقولة عن مختصر الروضتين ص383.
(2) ... انظر: عجز الثقات ص162.
(3) ... انظر: تراجع الهم ص42، 50.(1/35)
وقال جل وعلا: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 66، 67](1).
12ـ الاهتمام بالدروس واللقاءات المنهجية والعلمية وعدم التردد في السؤال عما تحتاج إليه.
13ـ الالتزام بإتمام قراءة كتاب كل مدة محددة.
14ـ متابعة مجلة على الأقل من المجلات الإسلامية الدورية.
15ـ العودة إلى استماع الأشرطة الإسلامية، والالتزام بسماع شريط كل فترة محددة.
16ـ الاهتمام بمتابعة الأخبار في الشئون التي تهم أهل الإسلام، إما من المجلة الدورية إن كانت تكفي وإما من مصدر إضافي ولو من الإذاعات أو بعض الصحف.
17ـ إعادة النظر بشأن الأهداف وضرورة تحديدها وترتيب الأولويات مع الحرص على سمو الهدف.
18ـ إعادة النظر بجدية من الداعية والمربي لعدد من القضايا التي وقع فيها من منظار كونه داعية وقدوة لغيره، فهذا يرده عن كثير من التنازلات، ويرتفع به عما لا يليق سواء كان ذلك من خوارم المروءة أو أشد من ذلك أو أخف.
19ـ الاستشعار الحقيقي لخطورة الدنيا سواء المال أو الزوجة أو غير ذلك وخطورة حب الجاه، واستحضار تحذير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" وتكرار مراجعة ما كتبه ابن رجب رحمه الله في ذلك.
20ـ أخذ النفس بالعزيمة وترك الترخص والحذر من التساهل في الصغائر ومن التساهل عمومًا مع النفس والأهل سواء في الأمور التي تؤدي للوقوع في المعاصي أو التي تقعد عن المعالي وتقود لتفاهة الأهداف.
__________
(1) ... انظر: نحو المعالي ص43، وتراجع الهم ص29.(1/36)
قال ابن تيمية رحمه الله: ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشاهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار إلا لموجب شرعي مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه، لابد فيه من حضوره، أو يكون مكرهًا. أما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه. اهـ(1).
ويقول سيد رحمه الله في قوله تعالى: { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } [البقرة: 93]: (أمر له هذه الخطورة عند الله وفي حساب الكون وفي طبيعة الحياة... يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه. ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا تميع ولا ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلاً على أن تكاليف باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر).
21ـ البحث باستمرار عن مجالات وأفكار جديدة ينفع الداعية بها نفسه وأهله وغيرهم (فلا تحصر نفسك في جانب من جوانب الدعوة أو وسيلة من وسائلها فإذا لم تستطعه أو شغلت عنه لأي سبب من الأسباب تركته وغيره من سبل الدعوة وقدمت لأجل ذلك "تقاعدًا مبكرًا" فاحذر من التهرب من مسؤولية العمل لهذا الدين، بل ضع نفسك على حال الاستعداد الدائم للعمل في أي مكان وأي موقع) (2).
22ـ التحرر من العشق والاستفادة مما كتبه ابن القيم في علاجه في كتابه الداء والدواء، والتخلص من الوقوع تحت ضغط الشهوة وإلحاحها بالزواج الذي أحله الله أو على الأقل الأخذ بأسباب تقليلها! من الصوم والرياضة والابتعاد عن المثيرات وترك الاسترسال في التفكير فيما يثيرها أو النظر إلى ما يهيجها.
23ـ تحسين اللياقة البدنية بممارسة الرياضة والأخذ بالعادات الصحية الجيدة، كالتقليل من المآكل، والاقتصاد في النوم وجعله بالليل والاستفادة من البكور والأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض وعلاجها إذا حصلت.
- - -
خاتمة
__________
(1) ... الفتاوى (28/239).
(2) ... تراجع الهم ص47، 48.(1/37)
وبعد:
فإن تراجع الهم الدعوي أو العجز بما ينطوي عليه من (مجموع الصفات القاعدة بالإنسان كاليأس والخمول والانقباض والعزوف عن الخلطة المفيدة...إلخ)(1) (لهو عاهة يجب التخلص منها)(2) ومن المؤسف أن تصيب هذه العاهة من وثق الناس بهم وانتظروا بارقة الفجر من قبلهم، ومن ثم لا يتصور أن يرضى من هم بهذه المنزلة بالنسبة للأمة أن يستكينوا إلى هذه العاهة بل لابد من السعي الحثيث بإخلاص للشفاء منها... والجاد يستطيع أن يستفيد من النقاط التي ذكرنا في مراجعة نفسه على وفقها سواء مظاهر المشكلة ووقوفه على ما تلبس به منها، أو أسبابها وتحققه من الأسباب التي أدت إلى هذه المشكلة في حقه تمهيدًا لإزالتها، أو ما ذكر بين يدي العلاج ليسترشد به قبل البدء في علاج نفسه، أو ما ذكر في مفردات العلاج ليطبقها على نفسه واحدة واحدة يجعل لكل منها وقتًا بحسبه، أيامًا أو أسابيع أو شهورًا كلما تأكد من نجاحه في أحدها انتقل إلى الأخرى وإن طال الوقت في العلاج، فإن التدرج لابد منه، وحتى لا يفوت شيء من العلاج يكون عليه المعول، ولأن العلاج كما ذكرنا لا يتم ولا يؤثر بين عشية وضحاها... وعلى الله الاعتماد.
"اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك...
اللهم إنا نسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برك، وعوائد إحسانك..." (3).
اللهم أنعم علينا بحسن الخاتمة.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- - -
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمات ضرورية ... 5
ظاهرة تراجع الهم الدعوي أو عجز الثقات ... 17
مظاهر المشكلة ... 21
أسباب تراجع الهم الدعوي أو عجز الثقات ... 36
__________
(1) ... عجز الثقات ص166.
(2) ... السابق ص168.
(3) ... انظر هذا الدعاء وغيره في خاتمة عجز الثقات ص172، 173، ونقله من دعاء أبي حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر".(1/38)
علاج العجز وتراجع الهم الدعوي ... 50
خاتمة ... 70
الفهرس ... 73
- - -(1/39)