إلى أرض النبوة(1/2)
الأستاذ/ علي الطنطاوي
حين تصل هذه المقالة إلى الرسالة، يكون الراكب الذي خرج من دمشق منذ أسبوعين يؤم الحجاز قد شارف المدينة إن شاء الله، وهو أول ركب من الزوار يسير على الطريق الذي كشفناه، وفيه قرب من ثلاثمائة رجل وامرأة، ووصوله سالماً إلى المدينة، وذلك -بفضل الله- مؤكد، هو الثمرة الأولى لرحلتنا الكشفية التي رحلناها في ربيع سنة 1935. ولقد كان أول ما خطر على بالي حين دعيت إليها وضع كتاب عنها، فكنت أتأبط دفتري دائماً، فلا نسلك طريقاً، ولا نقطع وادياً، ولا نرى جبيلاً، إلا كتبت اسمه وصفته، وطبيعة أرضه، ولا نمر على قوم إلا سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم، وذكرت ما عرفت من عاداتهم، وسمعت من لغاتهم، ولا بتنا ليلة إلا ذكرت كيف حططنا الأحمال، وكيف نهضنا للارتحال، ولا أرى منظراً، أو أشهد مشهداً، إلا ذكرت أثره في نفسي، وما أثار فيها من عاطفة، أوهاج من ذكرى، على ضبط في الأرقام، وتحر في جميع الأخبار، وتوثق من صدق الراوي وخبرته، حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على الكمال، وقارب النهاية، امتدت إليه يد لا يعلمها إلا الله فذهبت به، فأيست منه وأهملته، وجعلت لا أكتب شيئاً، ولا أدون خبراً، إلا ما كان من وصف طريق العودة فهو مكتوب عندي، وما كتبت من المقالات في مجلة الرسالة أو في غيرها.(1/1)
وعدت إلى دمشق فانغمست في عملي، ثم ضرب الدهر ضرباته فسافرت إلى العراق أولاً وثانياً، وعملت سنة في لبنان أدرس فيها، وحسبتني نسيت الرحلة ونسيها الناس، حتى كان هذا الشهر وحقق الله ما ذهبنا إليه، ورأت دمشق اليوم الموعود، فسافرت أول قافلة من الزوار، وألح علي الأصدقاء، وأعادوا الطلب مني أن أنشر وصف تلك الرحلة، فأجبت مكرها ونفضت ذهني، فكتبت ما بقي عالقاً به، وجعلت غرضي أن أدون ما رأيت وما سمعت، وأسجل ما أحسست به وشعرت، من غير أن أعمد إلى كتاب من كتب التاريخ أو رحلة من الرحلات، فآخذ منها الفصول والأخبار والأرقام، وأن أعرض على القارئ صورة من الحياة البدوية، إذا هي لم تكن محيطة شاملة ولم تكن كافية وافية، فهي صحيحة ثابتة، ليست متخيلة ولا مبالغاً فيها، فإن أحسنت فلله الحمد، وإن أسأت فالذنب على من سرق (دفتري) عفا الله عنه وسامحه.
***********
وبعد، فهذه رحلة كشفية سلخنا فيها شهرين اثنين وقطعنا فيها خمسة آلاف كيلو في الصحراء، وركبنا فيها من الأهوال ورأينا من العذاب ما لو سردناه وفصلناه لكان أشبه شيء بالأساطير.
ولم تكن هذه الرحلة من أجل التسلية أو النظر في عجائب المخلوقات وغرائب البلدان، ولا للكسب والتجارة، ولا لشيء مما يرحل أفراد الناس من أجله عادة، بل كانت لمصلحة عامة، وغاية اجتماعية، تعود على بلاد الشام وأرض الحجاز بالخيرات الجمة والفوائد الكثيرة، هي فتح طريق للسيارات بين دمشق والمدينة يسهل على الناس أمر الحج ويرغبهم في أدائه ويوفر عليهم صحتهم ومالهم.(1/2)
ولم تكن هذه الرحلة رحلة واحد يهتم به أهله وأصحابه، ولا جماعة يعنى بهم أقرباؤهم وذووهم، ولكنها رحلة وفد من وجوه الشاميين وسراتهم وتجارهم. وكان الشاميون جميعاً يتبعونهم بأفكارهم ويرافقونهم بقلوبهم وينتظرون البرقيات منهم ويتسقطون أخبارهم، فإذا انقطعت أياماً انتشر القلق وساد الذعر وهاجت الجرائد، وأقبل الناس يسألون عن أبنائهم وإخوانهم.. فتهم لذلك حكومة الشام ومملكة الحجاز، ثم لا ينقطع القلق ولا تسكن النفوس حتى يعرف خبر الوفد وتجيء منه برقية أو رسالة.
***********
وكان أول عهدي بهذه الرحلة أن لقيني الشيخ ياسين الرواف المعتمد السابق للملكة العربية السعودية في دمشق، فقال لي: لقد عزمنا على اختراق الصحراء إلى المدينة، نكشف طريقاً للزوار برياً، فهل لك في مرافقتنا؟
قلت: نعم، ومضيت في سبيلي وأنا أراها أمنية من الأماني وأعلم أن بضاعتنا إنما هي الكلام، وأن الوفد لن يسافر، والطريق لن يفتح، ولذلك قلت لهم نعم، وأجبته إلى السفر.
وهل كان يسعني أن أقول له غير ذلك؟ تصور بالله مسلماً يستقبل البيت خمس مرات كل يوم، ويحن إلى هاتيك المعاهد، ويرى زيارته منيته ومبتغاه، وعربياً يجب الصحراء وزيارة الحرم، هل يقول لا؟ هل يرفض الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والقيام في الروضة، والصلاة حيال الكعبة، والشرب من زمزم، وللسعي بين الصفا والمروة، وزيارة هاتيك البقاع المباركة التي ولد فيها الإسلام ودرج، وعاش فيها سيد العالم صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يخالط العرب في أرضهم، ويعرفهم في ديارهم، ويرى عياناً ما كان يقرأ خبره في الكتب، ويعرف أخباره على السماع؟(1/3)
ولقد كنت أعلم أن هذه الرحلة جراءة على الموت واقتحام للخطر، وهجوم على الصحراء الهائلة، التي طالما ابتلعت من أمم وأبادت من جيوش، ولكن ذلك كله كان يرغبني في الرحلة ويحببها إلي، لما ركب في طبعي من حب المغامرة والإقدام، ولأنها درس من دروس الحياة لا أجده كل يوم، وهذا الدرس الذي من فصوله الصبر والجرأة والحزم والعزم والوحدة والنظام، يحتاج إليه كل شاب ينشأ في بلاد ليس فيها نظام عسكري كالبلاد الشامية؛ وأن الشبان الذين ولدوا في الحرب العامة أو قبلها بقليل قد فقدوا -لطول ما نشأوا على النعم وتقلبوا في الترف- طرفاً من الرجولة، وغدوا -لما وجدوا من السلامة وفقدوا من المصاعب- يميلون إلى التطري والتأنث، ويخشون الخروج من المدن ويهابون الحياة في الريف؛ حتى إن إخواننا من المعلمين إذا أمر أحدهم بالانتقال إلى قرية من القرى فكأنما أمر بالانتقال إلى جهنم.
وما ذلك لسوء عيش القرى، فليس في القرى غلاء صحة الأجسام وصفاء النفوس وجلاء النظر وراحة الفكر، بل لأنه لا يجد في القرية (قهوة) نادياً فاسد الهواء مسدود الأبواب، يجتمع فيه مائتان أو ثلاثمائة على نفخ الدخان،ـ وفرع النرد، وحديث كأتفه ما يكون من الحديث، ونكات كأثقل ما يكون من النكات- ولو أن الشباب ألفوا المغامرة وركوب الأهوال، لما كان من ذلك شيء.
ومرت أيام ثم لقيني الأستاذ الرواف كرة أخرى فقال لي: هلم فقد تقرر موعد السفر.
فأسقط في يدي ووقعت بين مشكلتين: مشكلة الوعد، ومشكلة الوظيفة. فلا أنا أستطيع أن أضحي بوظيفتي ومنها معاشي ومعاش أسرتي، ولا أنا أستطيع أن أخلف وعدي، ولو أني وعدت غير الشيخ ياسين لهان الأمر، ولكن الرجل نجدي سلفي لا يعرف من كلمة نعم إلا أنها وعد مبرم لا يحله إلا الموت؛ فاخترت الوفاء ولو خسرت الوظيفة وقلت له: أنا حاضر!.(1/4)
ثم يسر الله فسمحت لي الوزارة بالسفر، وذهبت أعد الجواز، وجعلنا كلما أزمعنا السفر، وودعنا الأهل والأصحاب، عرضت لنا الموانع، فأخرتنا حتى ضجرنا واستحيينا من الناس لكثرة ما نعزم ثم نقعد، وكان أكثرنا قد أقلع عن حلق لحيته ليوفرها، ويجمع منها لحية كبيرة، لما ظنوه من أجل الرجل هناك بلحيته، فكلما كان أطول لحية كان أعلى مقاماً، فكانوا يأسفون عليها ويضنون بها على الحق، ويستحيون أن يواجهوا الناس بها؛ لأن هذا الزمان جعل المعروف من السنة منكراً يتحيا منه، والمنكر من البدعة معروفاً يفتخر به.
ولبثنا على ذلك أياماً ثم عزمنا العزمة الأخيرة، فبيتنا ثقلنا من المرأب (الكاراج) حتى نغدو مسافرين، فلما حملناه ورآه أصحابنا وجيراننا، وجاؤوا يودعوننا الوداع السابق ونحن لا ندري أهو الوداع حقاً، أم سنقيم بعده أياماً وليالي أم لا نسافر أبداً.
كنا في المرأب مع الفجر، وجعلنا ننتظر حتى طلعت الشمس، وكان الضحى، وأذن الظهر، وكان العصر، فأيسنا، وهممنا بالانصراف ولكن السيارات حضرت، وتحقق الرحيل، وكانت أربعاً من طراز (البويك) وواحدة من (الناش).
وقد رفعوا على السيارة الأولى علماً سعودياً، وعلقوا على صدرها لوحة كتبوا فيها "الوفد السوري لاكتشاف طريق الحج البري".
وسرنا وسار وراءنا المودعون في قطار من السيارات الكبيرة ماله آخر يعرف، حتى لقد ظننت أنهم لم يدعوا في البلد سيارة إلا استاقوها ، واخترق الموكب المدينة مهللاً مكبراً تهتز له الأرض..(1/5)
ولم أكن قد أيقنت بالسفر إلا في تلك اللحظة، فما تصورتني كيف أفارق أهلي وموطني، وأكوح بنفسي في هذه الصحراء المخيفة، واستعبرت. وكنت أطل على بردى، وهو يجري زاخراً فأتأمله، فأجده أحلى في عيني مما كان، وأحب إلى نفسي، وعز علي أن أفارقه، واستفاقت في ذهني مئات من الذكريات، وكرت علي حياتي كلها كأنها (فلم) أراه، فأبصرت في كل بقعة من دمشق، وطل طريق من طرقها قسماً من حياتي، وهل حياة المرء إلا في قلوب أصدقائه، ووجوه أصحابه، وجوانب داره، ومشاهد بلده؛ فإذا فارق أهله، وغادر بلده، إلى بلد لا يعرفه، وأهل لا يألفهم، فكأنما مات نصف ميته. ومن أجل ذلك كانت الهجرة جهاداً في سبيل الله، ذلك لأنها لون من ألوان الموت، ولكن صاحبها ميت يعيش ليتألم، والميت مات فاستراح.
واستغرقت في هذه الأفكار فما صحوت إلا والموكب قد بلغ (بوابة الله) ووقف في ظاهر دمشق، ولم يعد موكباً وإنما صار طوفاناً من البشر، ولجاً طامياً من الناس، وكان من ثقله يزحف زحفاً، ويكبر فيزلزل الأرض، ويهتف فيشق عنان السماء، فلما بلغ (البوابة) وقف الوداع..
تركنا الموكب، وقد وقف في ظاهر دمشق، حول قبة (العسالي)، وقد ملأت وفود المودعين تلك الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقمت أشكرهم باسم الراحلين وأودعهم، وأشرح الغرض من هذه الرحلة.
وكانت الشمس قد جنحت إلى المغيب، فزاد شحوبها الموقف رهبة وجلالاً، وأقبل الناس علينا يودعوننا، فلم تكن ترى إلا عناقاً أو تقبيلاً وإخلاصاً متجلياً، وحباً وعطفاً، فلم يبق في الناس من لم تسل عبراته.
وإن أنسَ لا أنسى مشهد حفيد لزكي آغا سكر من وجوه الميدانيين، ورفيقنا في سفرنا، وقد تعلق به لا يريد فراقه، ويبكي فيبكينا؛ فما كان أبلغ من بكاء الطفل الحفيد، إلا بكاء الجد الشيخ، وما تركه حتى انتزعوه منه انتزاعاً، وإن صوته ليرن في آذاننا ينادي: جدي جدي..(1/6)
وغادرنا دمشق، وكان الليل قد أسدل ستائره على الكون، وما زلنا ننأى عن هذه الجموع الهاتفة لنا، الداعية بالتوفيق والنجاح، ونبتعد عن هذا الحشد، حتى ابتلع صوته الليل وطواه سكونه، وغاب سواد الجمع في سواده الشامل، لم يبق من حولنا إلا السهول الفيح..
وكان صمت بليغ، فلم ينبس واحد منا، واستسلمنا جميعاً إلى عواطفنا وأحلامنا، وقد هاجها موقف الوداع، وأثارها هذا المستقبل المجهول الذي نقدم عليه، وهذه الصحراء المرعبة التي نسعى إليها، وهذه البقاع المقدسة التي نقصدها. وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنملأ العين بمرأى أضواء (المهاجرين)، وهي تسطع على نفوسنا المظلمة، كأن تسطع النجوم الهادية في الليلة الداجية، على الضال الحائر، ولم نكن ندري، أنعود إليها فنراها كرة أخرى، أم ستأكلنا الصحراء فيكون ذلك آخر العهد بها؟
وكنا نحدق فيها لننقش صورتها في نفوسنا، حتى نأنس بها في ليالي البعاد، ونذكر فيها آخر آية من آيات دمشق (البلد الحبيب).
وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل، وكانت تحمل فوق طعامنا الشراب والفرش والخيام، والقدور والطباق، ومائتي (صفحة) بنزين، وعدداً هائلاً من آلات السيارة وأدواتها، وراديو (راد) وغير ذلك مما نيسته الآن، فكنا نعوذها بالله، ونرجو لها التوفيق، وليس فينا من يتحدث أو يتكلم إلا قائلاً كلمة، وسامعاً جواباً، ثم يرجع الصمت حتى طلعت علينا أضواء أذرعات (درعاً) قصبة حوران..
***********
بلغنا أذرعات (درعاً) عقب العشاء، فلبثنا فيها ريثما نظروا في جواز سفرنا وريثما صلينا، وأذرعات اليوم بليدة جميلة ذات قسمين – قسم جديد منظم بني على المحطة، وقسم قديم ينأى عنه قليلاً- وفيها سوق كبيرة، وأبنية جيدة، وهي قديمة ذكرتها العرب في أشعارها؛ لأنها – كما قال ياقوت- لم تزل من بلادها في الإسلام وقبله، وأنشد لبعض الأعراب:
لا أيه البرق الذي بات يرتقي
ويجلو دجى الظلماء ذكرتي نجدا(1/7)
وهيجتني من أذرعات وما أرى
بنجد على ذي حاجة مدنف بعدا
وذكرها أمرؤ القيس، وعد ياقوت جماعة من العلماء خرجوا منها، وليس فيها الآن من العلماء أحد (فيما نعلم) يذكر.
وعالم حوران وفقيها اليوم الشيخ التقي الصالح الشيخ الطيبي الدمشقي وهو فوق التسعين، وهو بقية السلف الصالح – وفارقنا أذرعات نسير شرقاً إلى بصرى، بعدما هتفنا بآل المقداد أعيان وجوهها ننبئهم بوصولنا، فلم نبلغ نصف الطريق إلى بصرى حتى رأينا أضواء كثيرة ومصابيح تجيء وتروح، فعجبنا أن يكون في البرية مثلها، ودنونا منها فإذا هي أضواء المستقبلين الكرام، هجروا مضاجعهم وأقبلوا يتلقوننا من نصف الطريق، فحيونا ومشوا بين أيدينا يهزجون الأهازيج البدوية حتى بلغنا بصرى.
ولبصرى ذكر في التاريخ مستفيض، ومجد مؤثل، وفيها كثير من آثار الماضي، ولم أكن قد دخلتها من قبل، فما استطعت رؤيتها في الظلام، ولم ألمح من آثارها إلا صفين من الأعمدة الضخمة، قائمين عند مدخل البلد، على طرفي الطريق الذي سلكناه إلى منزل آل المقداد، حيث رأينا الكرم الذي لا كرم بعده.
وبصرى مذكورة في الشعر قديماً وحديثاً، ولكنهم لم يذكروها إلا ليذكروا نجداً، ويعلنوا شوقهم إليها، وكأنهم لم يروا فيها ولا في الغوطة ولا وادي بردى ما ينسيهم تلال نجد ورماله، وذلك من حكمة الله، فإنه لولا حب الوطن ما سكن البلد القفار! فمن قولهم فيها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا
رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
إذا ما وصلتم سالمين فبلغوا
تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولوا له ليس الضلال أجازنا
وقولوا له ليس الضلال أجازنا(1/8)
ولبثنا فيها إلى موهن من الليل ثم خرجنا يصحبنا دليل من أهلها ليسير بنا إلى (قريات الملح) القرية التابعة لابن سعود من غير أن نمر على المخفر الإنكليزي في (الأزرق)؛ لأننا لم نستأذن من القنصل الإنكليزي لنمر على بلد من بلادنا، وكان اسم الدليل الحاج نمر، وقد زعموه خبيراً بالطرقات، عارفاً بالأرض، خريتاً حاذقاً، فتوكلنا على الله، ثم على هذا الديل الحاذق!.
***********
سرنا إلى الجنوب، نخبط في ظلام الليل، لا نتبع جادة مسلوكة، ولا طريقاً واضحاً، يقودنا الحاج نمر، وياليت اسمه الحاج غراب، فقد أضلنا، كما (قد ضل من كانت الغربان تهديه)، حتى بلغنا قرية كبيرة اسمها (أم الجمال) فيها بنيان كثير، وأزقة وطرقات، وفيها برج عال قديم، ولكنها مهجورة منذ قرون، ليس فيها ديار ولا نافخ نار، وهي موحشة في راد الضحى فكيف بها في الليلة الظلماء؟
فما كان من صاحبنا (الحاج غراب) إلا أن دير به وغثت نفسه وجعل من الدوار والغثيان يقيء وفقد رشده، فصبرنا عليه حتى أفاق فسألنا عن أمره، فإذا هو لم يركب في عمره سيارة قط ولذلك دار رأسه، فعالجناه حتى برئ، فلما برئ رأى الطريق مختلطاً عليه، فأمرنا بالوقوف في هذه البليدة الموحشة التي لا يسكنها إلا الجن..
وذهب في سيارة يكشف لنا الطريق، فانتظرناه إلى الفجر لم يرجع، وكانت ليلة ما أذكر أني رأيت مثلها برداً، ونحن في العراء فأحسست والله كأن عظامي ترتجف من البرد، وبلغ منا النعاس وما نطيق أن ننام، وأين وكيف ننام؟
فلما طلع النهار، وتعارفت الوجوه، رأينا الحاج غراب على بعد خمسين متراً منا، وإذا المحترم ينتظر أن نأتي إليه..(1/9)
وصلناه على الإسراع قبل أن يبصرنا بعض أعوان المستر كلوب، ملك البادية المسمى (أبو حنيك)؛ لأن رصاصه كانت قد أصابت حنكه فتركت فيه أثراً، وسألناه، هل يعرف الطريق أم يخبط بنا خبط أعشى، فعجب من سؤالنا وأكد لنا أنه يعرف البلاد كلها شبراً شبراً، وأنه سلك هذه الطرق بعدد شعر رأسه، فأطمأننا وسرنا معه، وكانت الشمس قد طلعت، وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
فاطمأننا وسرنا معه، فصعد بنا جبلاً وعراً فيه أحجار وحفر، فسرنا فيه ساعة كاملة وهو لا يزداد إلا وعورة, فقلنا له: ويحك يا هذا، إلى أين تمشي بنا؟ قال: إن علينا أن نتجاوز هذه الوعرة، كي نبلغ قريات الملح من غير طريق الأزرق فقلت له، ويحك هذا والله البلاء الأزرق والموت الأحمر. وإنه ليوشك إذا أوغلنا في هذه الوعور ألا نخرج منها، فعد بنا ولو إلى الأزرق، فماذا في الأزرق إلا الجزاء النقدي؟.
واختلفت الآراء وتجادل القوم، ثم اتفقوا على العودة، فعاد بنا الدليل من حيث جاء، حتى إذا هبطنا الجبل سار بنا في طريق معبد فسرنا فيها، ثم سرنا وهي لا تنتهي حتى كاد النهار يزول، ثم وجدنا مركزاً من مراكز البترول فيه ضابط إنكليزي، فسألناه: إلى أين تؤدي هذه الطريق؟ قال: إلى العراق، وقد اقتربتم من الحدود.
فوثب أصحابنا على الدليل يوسعونه سباً وشتماً على أن طوح بهم حتى كاد يهلكهم، وهو صابر ساكت لا ينطق بحرف، فتركه القوم وائتمروا بينهم فقال قائل منهم: إني لأعرف طريقاً في الحرة يصل بنا إلى القريات، وقد جزته فوجدته سهلا.(1/10)
فقالوا له: سر بنا إليه، فمال بهم ذات اليمين ، ثم دار دورة فإذا نحن في حرة من أصعب الحرار واسعة ممتدة الجوانب ملتوية مفروشة بحجارة سوداء لماعة، كأنما هي صب عليها الزيت، حادة الجوانب كأنها السكاكين، فلما بلغنا وسط الحرة رأينا الجادة متروكة مهملة قد تخربت وغطتها الحجارة، فكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لنمشي، وكنا إذا بلغنا هضبة لم تقو السيارة على تجاوزها نزلنا فربطنا السيارات بالحبال فجررناها بأكتافنا واحدة واحدة كما تجر الدابة الحرون، واستمر بنا ذلك إلى الغروب، وامتدت بنا هذه الطريق تسعين كيلاً رأينا فيها الموت ما تعبنا، ولم نقف إلا ساعة أكلنا فيها وصلينا، فلما أن غابت الشمس يسر الله لنا الخروج من هذه الحرة، فلما خرجنا منها إذا نحن حيال قصر الأزرق ليس بيننا وبينه إلا أربعة أكيال أو أقل منها، وكان إلى يسارنا أدغال وعرة فيها نبت الصحراء، فلم نجد بداً من دخولها، فدخلناها مكرهين تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتعتدل حتى أظلم الليل، وبلغنا قاعاً مستوياً فوقفنا وأنخنا للمبيت؛ وكنا حين أنهينا إلى الأزرق بعد هذا الأذى كله، كالذي (فر من الموت وفي الموت وقع)!
تركنا القراء في (المخفر السعودي) على الحدود، وأشهد أني لم أذق طعم الأنس والاطمئنان منذ فارقت دمشق إلا في هذا المخفر، ومهما نسيت من المشاهد، وأضعت من الذكريات، فلن أنسى تلك الساعة، ولن تضيع من نفسي ذكراها، وإنني لأتخيلها الآن، وقد مر على تلك الزيارة خمس سنين، ولم يبق في يدي منها إلا ما علق بذهني..(1/11)
أتخيل تلك الخيمة الشَّعَرية الشَّعْرية، الجائمة على ذلك التل العالي، تطل على التلال التي لا يحصيها عد، وقد اتكأت فيها على جنبي، ونظرت إلى أسفل مني فرأيت السلوك الشائكة، فعجيب منها سلكة لا يعبأ بها تفرق الأخ عن أخيه – تجعل الشعب شعبين- ثم مددت بصري حتى ضل في ثنايا السراب المتألق في وهج الظهيرة؛ ثم بلغ "دمشق"، دار الأحبة ومثوى الأماني، فهزني الشوق إليها والفخر بها، والأسى عليها لما أصابها..
ثم رجعت البصر إلى البادية من حولي، فسرت في روحي روحها، فشعرت كأني قد صهرتني شمسها، فغدوت كأولئك الذين خرجوا منها جناً في النهار، ورهباناً في الليل، وموتاً للظالمين والمبطلين، وحياة للشعوب ورحمة للناس..
وتمنيت لو كان اليوم إلى اليرموك أو القادسية طريق، حتى أسلكه كما سلكه أجدادي الأمجاد، وهيهات أن يكون للشاب الذي أضاع روح الصحراء إلى مثلها طريق..
إنما الإسلام في الصحار امتد
ليجيء كل مسلم أسد
وأكلنا من طعام الجند وهو الزبد والرز والتمر، وشربنا من ألبان النياق وما ألذه من شراب، وتبادلنا أطيب الحديث فكأن بشرهم وحديثهم قرى حلواً كتمرهم، سائغاً كلبنهم.
ثم سألونا عن الطريق الذي نسلكه فأشرنا إلى الدليل؛ فحدثوه فوجدوه أجهل بالبادية من (الكناني) وأصحابه بلغه العرب، ووجدوه يضرب بنا على غير هدى ويسير على عشى، فأتموا صنيعهم معنا، فبعثوا واحداً منهم يصحبنا إلى (القريات) يرشدنا ويهدينا، وكان هذا الواحد فتى حلواً جميلاً ولكنه على حلاوته وجماله أمضى من السيف الباتر، وكان اسمه (سلامة) فتفاءلنا به خيراً.
وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل، وقلت رافقتنا السلامة إن شاء الله، والحاج غراب صامت لا ينطق..(1/12)
وودعنا القوم الكرام وسرنا نخرق صدر البادية المهولة وأرواحنا معلقة بيد سلامة، وسلامة يشير إلى السائق ويلقي عليه أوامره: يمين. شمال. اصعد التل. تجنب الرملة. والسائق يسمع ويطيع، والسيارة تتغلغل بين هذه التلال، ولبثنا على ذلك إلى العصر، عصر اليوم الثاني من أيام الرحلة، فرأينا رملة بيضاء فسيحة لها منظر البحر في سعته وتموجه واستوائه، تملأ العين جمالاً والقلب من خوف سلوكها فزعاً، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه النخيل أو خيال البنيان. فقال سلامة سلمه الله "هذه هي القريات".
***********
ولقد لقينا من هذه الرملة عناء تقل في وصفه مبالغات الشعراء، غرفت فيها السيارات، ولما لها لا نغرق وقد قلت لك إنها رملة كالبحر، أفتمشي سيارة على وجه البحر؟. ولقد لبثنا إلى الليل نزيح الرمل من حول السيارة، ونرفعها رفعاً، ثم ندفعها بعواتقنا دفعاً، ثم نجرها بالجبال، حتى إذا قلنا سارت عادت فغاصت، فلم نقطع الرملة حتى تقطعت أعمارنا، ولم نخرج منها حتى شهدنا أنه لا إله إلا الله.
***********
وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف)، ولكنها لا تحوى على نصف سكان (حلبون) أخس قرى الشام ولا تبلغها كبراً واتساعاً، وهي في غور من الأرض، وكان أول ما استقبلنا منها الحصن، وهو حصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن الشعلان هو الذي بناه أيام تسلطه على تلك الديار، منذ خمس وعشرين سنة، ولم أجد من أستزيده من خبره..
والقريات اليوم إمارة، وهي مقر الأمير. وما رأينا في الحكومة السعودية أنهم يسمون كل من يلي مدينة -مهما صغرت- أميراً، ولا فرق في ذيك بين أمير القريات هذه، وبين أمير المدينة المنورة..(1/13)
وكان الأمير يومئذ غائباً في مكة يشهد الموسم، يقوم مقامه ابن أخ له، وهذه العادة فاشية في الحجاز، إذا غاب الأمير أناب عنه ولداً له أو قريباً له، وكان نائب الأمير في قرية أخرى من القرى الست، فلم نلقه، ولكننا لم نعدم من يستقبلنا ويكرمنا، وغاية الإكرام (كما رأينا) أن ندخل القصر، وتوقد النار في زاوية البيت الذي جلسنا فيه، ويشعل فيها الغضا هذا الذي يضرب بحَرَّه المثل والذي ذكره الشعراء فاكثروا، وكنوا به عن نجد، مهوى الأفئدة منهم، وقد رأيته مراراً فوجدته كثيراً في البادية وهو كالشمس غير أنه أجمل شكلاً وأدق ورقاً، وهو أشد شجر رأيناه في البادية اخضراراً، أما جمره فكالفحم الحجري ولا مبالغة، وقد عرفه الشاعر حين زعم أنهم (شبوه بين جوانحه وضلوعه), أما نحن فعرفناه في هذا البيت حين أشعلوه وزادوا في إضرامه حتى بلغ لهيبه السقف، ثم قربنا منه وأجلسونا إلى جانبيه، فلما (تقهوينا) ونلنا حظنا من الإكرام البالغ، سألونا سيارة تأتي بالأمير، ودعينا إلى دار أخلوها لنا، وكانت دار مفتش الحدود (عبدالرحمن بن زيد) وهي أكبر دار في القريات وأجملها إلا أنها خلية لا شيء فيها، ففرشنا فيها ما كنا نحمل من بسط وفرش وإحرامات ولم أبتئس أنا بخلوها، فقد كان بساطي وإحرامي أحب إلي من كل ما يمكن أن يفرشوه فيها.
ولما أطمأننا على أمتعتنا وعلى مكان مبيتنا خرجنا نجول في القرية، فإذا هي بيوت من الطين قائمة على (شاطئ) الرملة، يحف بها نخل قليل وفيها حقول تزرع فيها بعض الخضر، وتسقى من عين جارية وفيرة تقوم بري قسم كبير من الأراضي، لو كان هناك مال وكان هناك أيد عاملة تسعى في توسيع الأراضي الزراعية وتحسين زراعتها، ويحيط بالبلدة وبساتينها ورملتها صخوراً أهرامية هائلة رهيبة للنظر تمتد من حولها كأنها سور إلهي..
وحياة هذه القرية من الملح الذي يستخرج من السباخ الكثيرة القريبة من البلد، ويصدر إلى حوران وشرقي الأردن.
***********(1/14)
بتنا في دار ابن زيد هذا خير مبيت، وقد جاؤونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأيناه شاباً ذكياً ليس بالمتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين، ويحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تلقاها في مجالس العلم، وتلك سنة حسنة سنها الإمام عبدالعزيز حفظه الله.
جعل ليله كله للعلم يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه، وقد قلده الأمراء جميعاً في ذلك؛ فمن هنا يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات.
استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا، ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قوله: قهوة.. شاهي.. شاهي.. قهوة.
يدور علينا بها عبد أسود كأن شفتيه غطاء ووطاء، وكأن جسمه المحمل، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور، بخور العود، فلم ندر ما نصنع بها؛ ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه، ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا، فقام الشيخ الرواف واستأذن ، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء..
فعلاً خرجنا، قال الشيخ الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا : وما ذاك: قال: "إذا دار العود فلا تعود". فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس، ثم ذكرت أن عندنا بحمد الله من لا يفهم بالعود ولا بالعصا ولا يخرج من زيارتك، حتى تخرج غيظاً من جلدك.
---
* مجلة الرسالة
|1|2|(1/15)
إلى أرض النبوة(2/2)
الأستاذ/ علي الطنطاوي
لفح وجهه نسيم الفجر البارد، فهمَّ بأن يقوم إلى النافذة فيغلقها ويعود إلى سريره، ثم تخاذل واسترخى، ولبث مستلقياً، فسمع أصواتاً غريبة، خيل إليه أنها أصوات الوحوش، أو أحاديث الجن، فجمد من الخوف، وحدق فيما حوله، فرأى كأنما هو نائم في أرض الشارع، وعلى جانبيه أبنية فخمة عالية، مربعة ومستديرة، والوحوش تطل عليها من أعاليها، تصرخ صراخاً مرعباً، فاستعاذ بالله من هذا الحلم – وتقلب في فراشه، وألقى بيده على طرف السرير، فأحس كأن قد وجزته إبرة، أو كأن حية لدغته، فقفز مذعوراً، وإذا هي الحقيقة لا الحلم، وإذا حيال يده نبت من نبت الصحراء، قصير شائك يقال له القتاد، كانت تضرب به الأمثال، وإذا هو في البادية، في "خور حمار" وإذا هي الرحلة تمتد به ثلاثة عشر يوماً، وهو لا يزال دون (العلا)، ولا يزال بينه وبين المدينة جبال وصحارى تسير فيها السيارة أياماً.
فجلس يذكر ما رأى في هذه الرحلة من ألوان العذاب، وأشكال الخوف، وما مر به من مشاق وصعاب أبصر فيها الموت عياناً، ويئس فيها من النجاة، وذكر أنهم طالما تمنوا الموت لما وجدوا من العناء، وأنهم طالما سلكوا من شعاب تقوم فيها السيارة وتقعد، ولا تنجو من شدة إلا إلى أشد منها، وطالما ساروا في رمال كانت تغوص فيها السيارة إلى المرقاة فيدفعونها دفعاً، ويمدون لها الخشب على الأرض مداً، وطالما صعدوا جبالاً يعجز صعودها الماشي على رجليه، فكانوا يجرون السيارة بالحبال.
وطالما هبطوا أودية لا يهبطها ممثلو الروايات الأمريكية، وأنهم ساروا ألفاً وثلاثمئة كيل في أرض لم تطأها قط سيارة.
وأنهم سلكوا بين تبوك والعلا مسلكاً في جبال المطلع، ساروا فيه بالسيارة من ضحوة اليوم إلى عصر الغد، فلم يقطعوا من الطريق خمسة عشر كيلاً.. وكانوا يدورون فيه كما دار بنو إسرائيل في التيه.(2/1)
يمشون ما يمشون ثم يعودون من حيث جاءوا، وجبال المطلع جبال عظيمة غريبة الشكل، ليست سلاسل، ولكنها آكام عالية، وجبال منفردة، عالية الذرى، محددة القمم، تشبه ذراها رؤوس المآذن وهام البروج، لها منظر جميل فتان، فيه هيبة، وعليه جلال، وهي منثورة نثراً، تفصل ما بينها مضايق وطرق صخرية ملتوية متشابهة، حار فيها الدليل، وكان معهم دليل حاذق شيطان من شياطين العرب، يقال له محمد الأعرج من مشايخ بن عطية، وهو أعرج طويل له عينا ذئب، حاد الذكاء، ضيق الصدر، مخيف، كانوا يتهيبون سؤاله، فداروا في هذه المسالك حتى نفذ منهم الصبر، وأدركهم اليأس، فصعد الدليل قنة أكمة، فنظر يميناً ونظر شمالاً ثم صاح: لا إله إلا الله، وتلك عادتهم، إذا أبصروا وادياً، أو رأوا سهلاً، أو طلع عليهم جبل، تشهدوا...
ثم نزل يظلع وقادهم في طريق ملتوية حتى جاوز بهم المطلع، وأشرف بهم على السهل الفسيح، وكان عليهم أن يهبطوا السهل ليخترقوا جبل الأقرع وهو قبالهم، فنظروا فلم يجدوا مهبطاً، وكانوا على رأس جدار قائم من الصخر، ارتفاعه أكثر من أربعين متراً، والنزول منه خطر محقق، ولكن الرجوع موت أكيد، وإذا هم رجعوا وضلوا أياماً نفذ فيها ما معهم من ماء، فهلكوا لا محالة عطشا، فاستخاروا الله ونزلوا نزولاً ما نظن سيارة نزلته منذ خلق الله السيارات! تتدحرج من تحتهم الحجارة إلى قرارة المنحدر، فيكون لها قرقعة مخيفة، والسيارة كأنما هي من الإنحدار قائمة على مقدمها، والركاب شاخصة أبصارهم، ينظرون عن أيمانهم وعن شمائلهم، لا يدرون من أين يأتيهم الموت وقد تابوا واستغفروا، واستودعوا الله أولادهم وأموالهم.
ومرت عليهم ربع ساعة أهون منها رباط سنة في جبهة الحرب، ثم وفق الله فبلغوا السهل، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ويهبون كمن صحا من حلم مروع!(2/2)
وكانت الشمس قد غابت، والليل قد ارتفع، فنزلوا للمبيت يستعدون لوادى الأقرع، وكانوا على رغم ما لقوا يسمعون من الدليل أنه هين يجنب خور حمار، وأن العناء والبلاء إنما هما في خور حمار، فكانوا يرون خور الحمار هذا في أحلامهم، ويبصرونه فاتحاً فاه لابتلاعهم، ويرون حيال رأسه حجراً مكتوباً فيه هنا مات الوفد الأول الذي ذهب لفتح طريق السيارات.
وتلقوا من الغد وادي الأقرع، فلما ولجوه ذكروا بالخير جبال المطلع، ووجدوها حيال نار الأقرع جنة النعيم، والوادي عريض فسيح ولكنه وعر، كله صخور عظيمة، ورمال خطرة، إذا نجت السيارة من رملة صدمتها صخرة، وإن خلصت من الصخرة غاصت في الرمل، فداروا فيه كما يدور الحمار في الساقية، وكان سيرهم سير السواقي.
ثم فتق لهم التفكير وجه الحيلة، فأجمعوا الرأي على أن يركبوا السكة بالسيارة، وعجبوا من أنفسهم كيف حملوا هذا العناء كله، ولم يهتدوا إلى هذا الرأي..
وكانت السكة عالية تمشي فوق الوعرة كأنها الصراط ممدوداً فوق جهنم، فأمضوا ساعتين في ارتقائها، ثم لما ركبوها تعذر المسير عليها، فعجبوا من أنفسهم كيف ارتكبوا هذه الحماقة، ولم يعلموا أن السيارة لا تمشي على سكة القطار، وانفقوا ساعتين أخريين في النزل عنها، حتى إذا نزلت جلسوا على الأرض وقد طحن الجهد أجسامهم، وملأ اليأس نفوسهم، وانقطع أملهم من كل شيء إلا من الله، وضل من يدعون إلا إياه، فأقبلوا على الله بالدعاء والاستغفار، وذاقوا من حلاوة الإيمان وبرد اليقين، ما اطمأنت به نفوسهم، وارتاحت له ضمائرهم، ثم لم يلبثوا أن استجاب الله دعاءهم، وجاءهم منه الفرج، وسمعوا هتاف الجند الذين بعث بهم أمير العلا بأمر جلالة الملك عبدالعزيز لمعونتهم وخدمتهم.
***********(2/3)
جلس يفكر في هذا كله، فيراه هيناً إذا قيس بخور حمار، وذكر كيف أمضوا نهاراً بطوله، يستعدون لدخول الخور، فلما أقبلوا عليه رأوا مدخله كالشارع العظيم، على جانبيه صخور كبيرة مكعبة مستوية قائمة كالبنيان، كأنما قد بنتها يد بناء حاذق، بميزان الزئبق والشاقول، وفي وسطها جدار من الصخر عرضه ستة أمتار، يشبه في شكله سفينة عظيمة لم تنزل بعد إلى البحر، لها مقدمها وجوانبها، وقد قدر أصحابنا علو هذه الصخور من مائة إلى مائة وخمسين متراً، فامتلأت نفوسهم رهبة وخشوعاً، وأحسب أن لو رأى هذا الممر سياح الأمريكان لحملوا في سبيل رؤيته عناء السفر في البادية مهما طال وشق..
وأرض هذا المضيق رملية حمراء يغوص فيها الماشي إلى الركبة، لها شكل متموج جميل يشبه شكل البحر، يلذ المرء أن يلقي بنفسه عليها، فيشعر كأنما يلقي بنفسه على فراش ناعم حلو، أو ينام على سطح الماء.
وذكر كيف انقضى النهار وانقضى الغد، ولم يجاوزوا نصف المضيق، ورفع رأسه وكان الفجر قد انبلج، وبدت طلائع النهار، فرأى هذه الصخور الشاهقة المستوية، وهذه الشقوق التي تحدث فيما بينها مثل الأزقة، يملأ مرآها النفس خشوعاً.
وذكر كيف بذلوا جهدهم، واستعانوا بعشرين من الجنود الأقوياء، ثم لم يقطعوا في يومين أكثر من كيلين في هذا المضيق، وخالط نفسه الضيق والملل من طول هذه الرحلة وعنائها، وما قاسى فيها من التعب والجوع والعطش والنعاس، وما عانى من سوء الصحبة، وقبح الأخلاق، وخاف أن تعطل السيارة، أو يضلوا الطريق، أو تمسكهم وعرة، فينفذ الماء ويموتون عطشاً، ولم يخف لصاً ولا سارقاً، فقد جععل ابن السعود خور حمار وهو أفظع مكان في البادية، آمن من ميدان النجم في باريس!(2/4)
وفكر أيبلغ المدينة أم يهلك من دونها، وهاجه تصور المدينة، وأحيا في نفسه الأمر مرأى القبة الخضراء وهي طالعة عليه من وراء الأفق البعيد، وطار بها إلى الملأ الأعلى تخيل الوقوف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاته في الروضة، وقيامه من بعد أمام الكعبة، وشربه من ماء زمزم، وسعيه بين الصفا والمروة، وشهوده هذه الأماكن التي ولد فيها الإسلام وعاش فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت مهبط الوحي، ومطلع شمس النبوة، ومعقد الآمال من نفس كل مسلم.
واستغرق في تفكيره فلم ينبهه إلا صوت مؤذن القوم يرن في هذا الوادي الساكن: الله أكبر، لا إله إلا الله، فتردد نداءه هذه الصخور الشم.
وتمد الإبل أعناقها مصيحة هادئة، ويهب البدو من منامهم ليقيموا الصلاة، وأصحابنا السواقون ومعلموهم يغطون غطيط البكر.
ثم قاموا إلى الصلاة، فمحا الخوف من نفسه، وصغرت عليه البادية، وهانت عليه مشاقها، وتضاءلت هذه الجبال القائمة حتى كأنما لصقت بالأرض، وكأنما طويت له الغبراء، فلم يعد ملقى في البادية بعد ألف وثلاثمئة كيل من منزله في دمشق كحبة من الرمل، أو هو أهون على الحياة منها، لأنها وإن طار بها ريح، أو حملها سيل، باقية كما كانت، لا تموت ولا تندثر، وهو يموت من أجل رغيف من الخبز وكأس من الماء، بل أحسَّ كأنما هو في منزله، ولم لا؟ وما ينال في البادية إلا ما قد كتب عليه، ولا ينال في منزله إلا ما كتب له، وإذا كان يأمن على نفسه اللصوص والأعراب، وينام في عرض الصحراء، كما ينام في أرض غرفته، لا يمنعه باب، ولا يحميه حارس، ولا يخالط نفسه خوف ولا جزع، لأنه في حمى ابن السعود وأرضه، ألا يأمن من كان في حمى الله رب ابن سعود وأرضه؟(2/5)
وكان القوم قد هبوا فأقبلوا يضعون الشاي والقهوة، وجلست حيال صخرة أكتب هذه الكلمة "الرسالة"، لأبعث بها مع جندي من البدو إلى بريد العلا... ولست أدري أتخرج من هذه البادية فنقرؤها، أم تبتلعنا هذه الصحراء التي ابتلعت دولاً وأمما وجيوشاً.
وسيقرأ هذا الفصل قراء "الرسالة" وهم في دورهم ومساكنهم، ولا يدرون ما الصحراء، ولا يعرفون إلا ذكرها في الكتب ووصفها في الأشعار، فيحسبونها تسلية أو خيالاً، وما هي بالتسلية ولا بالخيال، ولكنه مقام بين الموت والحياة..
اللهم سلم!
أفاق سحراً- ولا يبدو السحر على أتمه إلا في البادية، فلا ليل في الجلال كليلها، ولا صبح في الجمال كصبحها، ولا نهار في الشدة كنهارها – فجلس ينظر إلى هذه الصحراء التي تمتد من حوله، يغيب أولها في بياض الفجر المقبل، وآخرها في سواد الليل المدبر، وهي ساكنة سكون الموت، واسعة سعة السماء، فأحس في نفسه بشيء لم يحس به قط؛ فقال: لا إله إلا الله! فخرجت من أعماق قلبه...
وأي امرئ تلقيه الأيام في البادية، فيرى ليلها ونهارها، وشمسها ورمالها، ثم لا يكون أشد الناس بالله إيماناً، وعليه اتكالاً؟ وهو يرى أبداً من جلال المخلوق ما يخشع منه قلبه لجلال الخالق، وهو يعلم أنه ليس بينه وبين أن يموت عطشاً، أو يهلك جوعاً، إلا أن يحيد عن طريقه ذراعاً، أو ينحرف عن وجهته شبراً، وكيف يكفر بالذي لا يرجو النجاة إلا منه، ولا قوة إلا به، وليس له من يدعوه إلا إياه؟(2/6)
وكانت تلك صبيحة اليوم السابع عشر من أيام البادية، فطفق يذكر هذه الأيام، وينظر ما أفاده فيها، فإذا هو قد عرف من خبر العرب، في سبعة عشر يوماً، ما لم يعرفه في سبع عشرة سنة، يقرأ فيها أسفار العرب، ويتلو أشعار العرب، ويدرس لغة العرب، وتاريخ العرب، وإذا هو قد سافر ألفاً وثلثمائة سنة في الزمان، لا ألفاً وثلاثمائة كيل على الأرض؛ وسلك الطريق التي سلكها الغزاة الأولون، فعلم أن سر قوة العربي الأول الذي عمل ما لم تعمله الجن، ولا تقوى عليه المردة، حتى بنى للحضارة هذا الصرح العظيم، فأوت إليه، وتفيأت ظلاله، وإن سر عجز العربي الأخير، حتى نام عن هذا الصرح، وأباح العدو حماه، إنما هو (بعد الإسلام) هذه الصحراء.
هذه الصحراء التي لا يعيش فيها الجبان العاجز؛ لأن الحياة فيها بين عيني السد، لا ينالها إلا شجاع مقدام، أخو غمرات، صبار على النكبات، ضحاك في الملمات، وإلا أين الشمس، صديق الرمال، حليف الجوع والعطش، ذو إرادة لا تنثنى، وهمة لا تطاول، وعزمية لا تفل.
ولا يعيش فيها المريض؛ لأنها لم تخلق مستشفى للمرضى، ولكنها خلقت ميداناً للأبطال، وأنى يأتي البدوي المريض، ما دام لا يؤتى من قبل معدته (والمعدة بيت الداء)، وما دام كل طعامه التمر والسمن واللحم والأقط، وكل شرابه اللبن والماء، فإذا مرض يشرب قارورة من شعاع الشمس، وشمس الصحراء أنفع من مجموع صيدليات باريس!
فإذا لم تجده نفعاً، أجداه الكي، وما بعد الكي إلا حياة كاملة أو موت كامل، هو خير على حال من حياة ناقصة، وقديماً قالوا آخر الطب الكي!
ولا يعيش فيها الفقير؛ لأن أهلها كلهم أغنياء، وهل الغنى إلا أن تنال كل ما تطلب؟ وهل يطلب البدوي إلا ماء له وكلأ لمواشيه؟ فإذا أمحلت الدار أم غيرها:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متحول
ولا يعيش فيها المنافق المتملق الخداع، الذي يلبس جلد الحمل على اجلد الذئب..(2/7)
لأن الصحراء منبسطة مستوية متكشفة، ظاهرها كباطنها، وليس فيها سقوف ولا جدران، ولا مغارات ولا سراديت، وكذلك نفس المربي ما في قلبه على لسانه، فإن عاداك فعداوة الشريف، يستقبلك بالشر، ولا يستدبرك به؛ ويحمل إليك الموت على شفرة السيف، لا يقدمه في كأس من الذهب، قد خلط فيها السم بالدسم؛ وإن صافاك آخاك، فإخوة الشريف يفديك بنفسه وماله، ولا يرغب عنك حتى ترغب عنه، وإذا أنت أنكرت من العرب جفاء في الطبع، أو خشونة في المقال، فلن تنكر منهم عوض تلونا ولا تملقاً، ولا تنكر منهم لين الحية ولا لطف المستعمر... على أن الجفاء ليس من شأن العرب، ولا هو في جميعهم، وإن فيهم للطفاً، وإن فيهم لظرفاً، وإن لهم لأحلاماً..
***********
وطفق يذكر كيف كان يتبرم بهذه الأشعار التي تندب الديار وتبكي الأطلال، ويستثقلها ويراها كأنها الدمى فيها جمال وليس فيها روح؛ فلما كانت أول ليلة قضاها وأصحابه في البادية، وحط الركب في قاع الدغيلة، فوقفت السيارات الخمس، ووضعت الأحمال، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران، ورفعت القدور، وبسطت البسط، ومدت الفرش، وكمل المجلس حتى قام المذياع (الراديو) يسمعهم بين الشيخ والقيصوم، أغاني عبدالوهاب وأم كلثوم.
فباتوا بأنعم ليلة حتى بدا صبح تلوح كالأغر الأشقر
فنادى منادي الرحيل؛ فما هي حتى طويت الخيام، ولفت البسط، وشدت الأحمال، فإذا كل شيء كأنه حلم، أو كأنه صفحة طويت، ولم يبق إلا الئوى المهدم، وإلا موقد النار، فامتلأت نفسه حزناً، وانطلق لسانه يترجم عن أصدق عاطفة، وأعمق شعور، بكلمة النابغة التي استثقلها، وعدها من القول المعاد، والكلام الفارغ:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار..
وانطلق يقف إخوانه لحظة، يحيى فيها هذه البقعة التي ترك فيها ليلة من حياته، وطائفة من ذكرياته، وقطعة من نفسه؛ ثم عاد فسخر منها كيف يقفون على أحجار قد سودتها النار، وحفرة حفروها من حول الخيمة خشية الأمطار...
ماذا تحيون من نؤى وأحجار؟(2/8)
ويجد القاع بعد أن تقوضت الخيام، وطويت البسط، وضاع المكان الذي سواه لنومه، وأعده لجلوسه.
أقوى وأقفر من نعم وغيره
هوج الرياح بهابى التراب موار
ويطول به الوقوف، وأصحابه يستحثونه، والسيارات (تصرخ) مستعجلة، فيمشي وهو يفكر في هذا القاع، هل يحفظ هذه الذكريات؟ ويسأل هذا القاع: هل يذكر أبداً هذه الليلة التي قضاها فيه، والعواطف التي استودعه إياها؟ فلا يسمع مجيباً، ولا يجد إلا أحجار الموقد، وإلا هذا التمام الضيق اللين، الذي جمعوا منه فأوقدوا به النار، واتخذوه فراشاً، فنشد قوله النابغة:
وقفت فيها سراة اليوم أسألها
عن آل نعم أموناً عبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا
والدار لو كلمتنا ذات أخبار
فما وجدت بها شيءاً ألوذ به
إلا التمام وإلا موقد النار
وتعدو به السيارة عدو الظليم، وهؤلاء عما حوله، يتمثل الشاعر وقد يمم الديار، فلم يجد بها سائلاً ولا مجيباً:
ناديت: أين أحبتي؟
فأجبت: أين أحبتي؟!
فبرح به الشوق، واشتعلت في صدره النار، وكواه الهجر، فذهب يذكر نعماً، وقد كان يسايرها حتى ينأى بها عن الحى، ثم يجلسان حتى تغيب الشمس، ويلقهما الظلام برداء الأمن من الرقباء، ويسبغ عليهما نعمة الحب، فلا يكون بينهما إلا كل خير: يبثها حبة، فتشكو له حبها، ويكشف لها عن قلبه، فتكشف له عن قلبها، ولا يخفي عنها شيئاً ولا تكتمه شيئاً:
وقد أراني ونعما لاهيين بها
والدهر والعيش لم يهمم بإصرار
ايام تخبرني نعم، وأخبرها
ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
***********
وجعل يذكر كيف فهم في تلك الساعة قصيدة النابغة، ونفذ إلى روحها، وقد كان يتلوها، ويدرسها، ويشرحها، فلا يفهم منها إلا كلماتها وجملها، وعروضها وإعرابها؛ وجعل يذكر ما حفظ من أشعار الديار، فيبصر فيه جمالاً لم يبصره من قبل، فيعلم أنه قد كان منه في ليل مظلم، لا يرى فيه إلا سواداً فطلعت تلك الساعة بدراً، أراه أن وراء الظلام دنيا واسعة، وفتنة وجمالاً، وروضة وأنهاراً...(2/9)
وجعل يذكر كيف كان يقرأ أمثال العرب فلا يفهم من قولهم: (أن ترد الماء بماء أكيس) إلا أن ذلك أحزم، فلما خرجوا من القاع وأقبلوا على ماء الهزيم الذي طالما وصفوه لهم وحببوه إليهم، وجده بئراً منتنة خبيثة، تقتل من يشمها، فكيف بمن يشرب منها: فعلم أن معنى أكيس: أنك لا تشرب ماء خبيثاً فتمرض!
فلما وردوا ماء الفجر، بعد مسيرة يومين من الشعب لم تسر السيارة فيها كيلين متتابعيين على أرض كالأرض، ولكنها كانت تعلو صخرة، أو تهبط حفرة، أو تغوص في رملة، لما وردوا الماء وجدوه جاماً، فعلم أن معنى أكيس: أنك تبقى بلا ماء فتموت.
***********
ثم نظر فرأى الفجر قد انبثق، فأيقظ المؤذن، وكان قوي الحنجرة حسن الصوت، فأذن فزلزل البادية بـ"الله أكبر" فلما قال "أشهد أن محمداً رسول الله"، لم يتمالك صاحبنا نفسه أن تضطرب وقلبه أن يخفق، وعينه أن تدمع:
هذا آخر يوم من أيام البادية، ولم يبق بيننا وبين المدينة إلا نصف مرحلة، فهل يكتب لنا أن ندخل من باب السلام ونقوم أمام الحجرة ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
مضت ساعة كاملة، ونحن نعالج السيارة لنخرجها من الرمل، نرفعها طوراً بالآلة الرافعة، وطوراً بأيدينا، ونزيح الرمال من طريقها، ثم نمد لها ألواح الخشب لتمشي عليها، نجرها بالحبال، وندفعها بالأيدي حتى إذا سال منا العرق، ونال منا التعب مشت على الألواح، حتى إذا وصلت إلى نهايتها، عادت فغاصت في الرمل إلى الأبواب...
فأيسنا وبلغ منا الجهد، وهدنا الجوع والتعب والحر والعطش، فألقينا بأنفسها على الرمل صامتين مطرقين حيارى قانطين.
وتلفت فلم أر إلا الرمال المحرقة، وتمتد إلى حيث لا يدرك البصر، متشابهة المناظر، متماثلة المشاهد..(2/10)
في مهمه تشابهت أرجاؤه، كأن لون أرضه سماؤه، فرحت أفكر في هذه السبعة عشر يوماً، وما قاسينا فيها من الجزع والتعب والجوع والعطش، وأتصور الغد الرهيب الذي ينفد فيه ماؤنا وزادنا، ويلفحنا فيه سموم الحجاز وشمسه المحرقة، فأرتجف من الرعب.
وجعلت أحد النظر في هذا الأفق الرحيب، لعلي أرى قرية أو خياماً، فلا أرى إلا لمع السراب، ولا أبصر إلا هذه الجبال التي طلعت علينا أمس فاستبشرنا بها وابتهجنا وظنناها قرية منا، فسرنا مائة وعشرين كيلاً وهي قيد أبصارنا، تلوح لنا من بعيد كأنها بحر معلق حيال الأفق، ضائع بين السماء والأرض لم تتضح ولم تقترب.
فشققت هذا السكون وصحت بالدليل (محمد العطوي):
- يا محمد! أيش تكون هذه الجبال؟
- فقال: هذه يا خوي جبال المدينة، وحنا (ونحن) إن شاء الله الظهر فيها.
- قلت: ما تقول؟
ووثبت وثبة تطاير منها اليأس والخمول عن عاتقي، وأحسست كأن قد صب في أعصابي عزم أمة، وقوة جيش، وظننت أني لو أردت السحاب لنلته، ولو غالبت الأسد لغلبتها، ولو قبضت على الصخر لفتته، وجعلت أقفز وأصرخ، لا أعي ما أنا فاعل، فقد استخفني الفرح، وسرني من هذه الكلمة أكثرما يسرني أن يقال لي: أنت أمير المؤمنين:
وصحت بأصحابي فقاموا كالأسود.
***********
عالجنا السيارات حتى أخرجناها من الرمل، وملنا بها عن هذه الكثبان حتى ألقيناها على إيماننا، وأنهينا إلى أرض شديدة درجت عليها السيارات، فاستندت إلى النافذة، وأطلقت نفسي تطير في سماء الأماني، فلم أدع صورة للمدينة إلا تصورتها، وأقمها أمام عيني، وأفضت عليها ما أستطيع من الجمال والجلال، فلا أطمئن إليها، ولا أجدها إلا دون ما في نفسي، ولم يكن يربطني بالأرض إلا صوت الدليل، وهو يهتف بالسائق:
- سر يميناً، مل شمالاً، لج بين هذين التلين، دع هذه القارة على اليمين، احترس من هذا الشعب، تنكب هذه الرملة، ثم يعود السكون.(2/11)
سرنا أربعين كيلاً أخرى، ولا تزال هذه الجبال تلوح في الأفق كأنها خيال حلم بعيد، يشع منها نور غريب، يومض من وراء القفر، كما يومض الأمل المشرق في ظلمة اليأس، وكنا قد شارفنا سكة الحديد فتخطيناها مستعبرين، ودخلنا من أددوية ما لها آخر غابت عنا فيها هذه الجبال التي كنا نراها، فنستأنس بمرآها وقاسينا فيها الشدائد من التواء الأرض وكثرة الأحجار وتشابه المسالك، ولم يكن فينا من ينبس، إلا أن يعرض لنا جبل أو شعب فأسأل الدليل عن اسمه لأكتبه في دفتري الذي سرق مني في آخر الرحلة، ثم أرجع إلى صمتي الطويل.
فلما زال النهار، صاح بي الدليل:
- هيه. أنت يال كاتب. اكتب: هذا أحد!
- فصحت: إذن قد وصلنا!
- فقال: ما قلت لك الظهر، هذا أحد، بقي نصف ساعة.
لم يكن يدري الدليل الأعرابي أي ذكريات انبعثت في نفسي حين قال: هذا أحد! وأي عالم تجلى لعيني، فرأيت المعركة قائمة والمسلمين ظافرين، قد منحهم الله أكتاف العدو، ورأبت الرماة إذ يزلون عن أماكنهم، ويبتدرون الغنائم، وخالداً حين يرتد بخيله على هؤلاء الذين عصوا أمر الرسول وغرتهم الدنيا، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً مثل أحد، وحوله صحابته الغر الميامين، يذبون عن الدين، ويحمون حمى النبوة، ثم أبصرت هنداً قائمة على جثة البطل السميدع، سيد الشهداء، تريد الانتقام لمن قتلهم حمزة في بدر من أهلها فأرادت أن تأكل كبده، فشقت عنها فاستخرجتها فلاكتها، فلما وجدت بفيها صلادة الصوان لفظتها وأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً عليه يبكي، فلما رأى ما مثل به شهق، ولم يكن منظراً أوجع لقلبه منه، ثم قال:
رحمك الله يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فوالله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثلن بسبعين منه، فما برح حتى هبط عليه الوحي، فقام يتلو قول الله جل وعز:
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) فانصرف وقد عفا(2/12)
ورنّ في أذني صوت أبي سفيان: أعل هبل، تلفت، فما رأيت هبل، ولا شيعة هبل، وإذا هو قد درج من درج، ولم يبق إلا الله الأعلى الأجل، ثم سمعت صوت أبي سفيان يرن في أذني مرة ثانية، يخرج من هناك من أرض الشام، التي فتحها لهم سيد العالم، قوياً شديداً، ينادي في المعركة الحمراء، بصوت سمعه كل من في اليرموك:
يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات، يا معشر المسلمين.
فثبتوا وجاءهم النصر وملكوا سورية من أقصاها إلى أقصاها، فهي لهم ولأبنائهم إلى يوم القيامة، ورأيت مئات من مثل هذه الصور، فأحسست كأنها انتقلت إلى العهد الأول، وأشهد هبوط الوحي، وأرى جلال النبوة وعزة الإسلام...
ونظرت، فإذا أحد لا يزال بعيداً، يعترض هذا الوادي الذي نسير فيه مشرقاً بهياً، تومض عروقه المختلفة الألوان من الأخضر البهي، إلى الأحمر المشرق، إلى الأزرق اللامع، فتمتزج هذه الألوان وتختلط، فيكون لها في العين أبهى منظر، وفي القلب أسمى شعور، فازداد بي الشوق، فأقبلت أستحث السائق واستعجله، أود لو تطوى له الأرض طياً أو يطير بنا إلى المدينة طيراناً، فلا أرى السيارة تريم مكانها، وأجد أحداً لا يزال بعيداً، فأعود فأستحث السائق... ومالي لا أسرع إلى أحد وأحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه، ومالي لا أزداد شوقاً إلى المدينة، وليس بيني وبينها إلا ربع ساعة؟
وأعظم ما يكون الشوق يوماً
إذا دنت الخيام من الخيام
***********
ولما خرجنا من الوادي، وأنهينا إلى الفضاء الرحب، رأينا وجه أحد وعلى سفحه النخيل والبساتين، ورأينا سلعاً وهو جبل أسود عال، يقوم حيال أحد فيحجب المدينة وراءه، فلا يبدو منها إلا جانب الحرة، وطرف النخيل، فذكرت قول محمد بن عبدالملك وقد ورد بغداد فحن إلى المدينة:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة
بسلع ولم تغلق على دروب
وهل أحد باد لنا وكأنه
حصان أمام المقربات جنيب
يخب السراب الضحل بيني وبينه
فيبدو لعيني تارة ويغيب(2/13)
فإن شفائي نظرة أن نظرتها
إلى أحد والحرتان قريب
وإني لأرعى النجم حتى كأنني
على كل نجم في السماء رقيب
وأشتاق للبرق اليماني إن بدا
وأزداد شوقاً أن تهب جنوب
***********
وكان علينا أرطال من الغبار والأوساخ، فاستحيينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل مدينته ونسلم عليه، ونحن على مثل هذه الحال؛ وكانت البساتين والحيطان قريبة منا، فسرنا إليها، نخب من الرمل، فلما دنونا من أحدها، سمعت غناء موقعاً على ناد، كأشجى وأطرب ما سمعت من الغناء فتعجبت، ثم ذكرت أن أهل المدينة مذ كانوا أطرب الناس وأبصرهم بالغناء، وهممت بالدخول، ثم أحجمت وقلت:
لعل المغني امرأة، فلقد كان الذي سمعت صوتاً طرياً رقيقاً لا يكون إلا لامرأة أو غلام، ثم حانت مني التفاتة، من فرجة الباب، فإذا المغني عبد أسود كالليل، وإذا الذي حسبته نادياً ناعورة يديرها جمل، لها مثل صوت النواعير في حماه لكن صوتها أرق وأحلى، وإذا هذا السور الذي تلطمه الصحراء برمالها كما تضرب الأواذي صخرة الشاطئ، قد عرض على جانبه الآخر الياسمين، وأزهر عليه الفل، وظللته الأشجار وحنا عليه النخل، ورأينا الماء يهبط على الساية، كأنه ذوب اللجين، ثم يجري فيها صافياً عذباً متكسراً، فجننا برؤية الماء الجاري، ولم نكن قد رأيناه منذ سبعة عشر يوماً، إلا مرة واحدة في العلا، واقتحمنا الباب، وأقبلنا على الماس نغمس فيه أيدينا، وأرجلنا، ونضرب به وجوهنا، ثم لا نشبع منه ولا ننصرف عنه، حتى أرحنا رائحة الحياة، فاستلقينا على الأرض ننظر إلى الصحراء الهائلة، التي أفلتنا منها وضرب بيننا وبينها بسور له باب، باطنه في الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.
***********(2/14)
اغتسلنا ولبسنا ثياباً بيضاْ نظيفة، وتطيبنا، ثم ركبنا في السيارات إلى المدينة، فلم نقطع سلعاً حتى بدت لنا المدينة كصفحة الكف، يحف بها النخيل، وتكتنفها الحرار، وتقوم في وسطها القبة الخضراء، تشق بنورها عنان السماء، وتكشفت لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال.
من هنا خرج جند الله الثلثمائة إلى بدر، فدكو صرح الاستبداد والجهالة، ورفعوا منار الحرية والعلم، أقاموه على جماجم الشهداء، وسقوه هاتيك الدماء، فأضاء نوره الجزيرة كلها، ثم قطع الرمل، فأضاء الشام والعراق، ثم قطع البحر فأضاء الهند وإسبانيا، فاهتدى به الناس إلى طريق الكمال الإنساني.
من هنا خرج الأبطال الذين هدموا وبنوا وعلموا، هدموا الدول المتفسخة الجاهلة التي وقفت في طريق الحضارة، فلا هي تتقدم لها ولا هي تدعها تمشي في طريقها، وبنوا الدولة التي ألفت بين فلسفة يونان وحضارة فارس وحكمة الهند، وجعلها جميعاً سفراً واحداً فاتحته القرآن، وروحه الإسلام، ثم جلسوا على منابر التدريس في جامعات بغداد ومصر وقرطبة ليعلموا العالم، فكان من تلاميذهم ملوك أوروبا وبابواتها..
ومن هنا خرج أبو بكر وعمر، وعبد الملك والمنصور والرشيد وعبد الرحمن الناصر وصلاح الدين وسليمان القانوني.
من هنا خرج أبو حنيفة ومالك وسفيان والنووي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
ومن هنا خرج خالد وسعد وقتيبة وطارق وسيف الدولة والغافقي.
من هنا خرج حسان والفرزدق وجرير وأبوتمام والمتنبي والمعري.
من هنا خرج الجاحظ وأبو حيان وابن حزم.
من هنا خرج ألف ألف عظيم وعظيم.
تقدست أيتها المدينة... أم المدن، وظئر العظماء.
***********
وكنا قد بلغنا هذا المضيق الصخري، بين هضبتي سلع، فنظرت في خريطة للمدينة كانت معي، وقلت للدليل: أما هذا ذباب؛ فقال: بلى والله فما يدريك أنت؟(2/15)
قلت: أما هذا مسجد الراية؟ قال: بلى. قلت: هذه هي تنية الوداع، وخفق قلبي خفقاناً شديداً، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة، وقد دنونا منها، حتى لقد كدنا نصير بين البيوت، وأحدق في القبة الخضراء التي يثوي تحتها أفضل من مشى على الأرض، وقد شخص بصري وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحسن من جيشان العواطف في نفسي.. حتى غامت المشاهد في عيني، وتدخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت من حاضري وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان، فسمعت أصواتاً آتية من بعيد.. من بعيد، سمعتها تزداد وتقوى، حتى تبينت فيها قرع الطبل، ووعيت أصوات الولائد، يضربن بالدفوف وينشدن:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
ورأيت المدينة قد سالت بأهلها، فملأ الناس الحرة وسدوا الطرق، وغطى النساء الأسطحة، ولم يبق في المدينة أحد إلا خرج لاستقبال سيد العالم، وهو قادم ليس معه صلى الله عليه وسلم إلا الصديق الأعظم، لا يلمع على جبينه التاج المرصع، ولا يحمل في يده صولجان الملك، ولا تسير وراءه العساكر والجنود، ولكن يضيء على جبينه نور النبوة، ويحمل في يده هدى القرآن، وتسير وراءه الأجيال، ويتبعه المستقبل، وتحف به الملائكة، ويؤيده الله!
ثم سار وسارت وراءه هذه الجموع إلى القرية التي لبثت قروناً ضائعة بين رمال الصحراء، لا يدري بها التاريخ، ولم تسمع بها القسطنطينية، ولم تعلم بوجودها روما، فجاء هذا الرجل ليهزها وينفخ فيها روح الحياة ويجعلها أم الدنيا وعاصمة الأرض.(2/16)
إلى العشر الميامين الذين جعلوا بأسهم بينهم، فلم تمتد عيونهم إلى أبعد من هذا الحرار، ولم يطمعوا من المجد بأكثر من أن يستحق بعضهم بعضاً، لينشئهم بالقرآن خلقاً آخر، ويسلمهم مفاتيح الأرض، ويضع في أيديهم القلم الذي يكتبون به أعظم تاريخ للبطولة والعلم والعدالة، فأطاعوا ولبوا، ثم مشوا إلى القادسية واليرموك، ثم أصبحوا سادة العالم، ورأيت الأنصار يستبقون إلى إنزاله صلى الله عليه وسلم والتشرف به ويصيحون به:
هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويدعها تمشي وقد أرخى لها زمامها ما يحركها وهو يتنظر يميناً وشمالاً، حتى أتت دار بني مالك النجار فبركت عند باب المسجد، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول.
فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: هاهنا المنزل إن شاء الله، وكان المسجد مربداً لغلامين يتيمين في المدينة، فاشتراه صلى الله عليه وسلم وانطلق يحمل الأحجار بيده الكريمة ليضع أسس أكبر جامع بث الهدى في الأرض!
***********
ونظرت فإذا السيارات أمام باب السلام، فاشرأبت الأعناق وبرقت الأبصار، ودمعت العيون، وخفقت القلوب، وتعالى الهتاف، وكانت حال لا سبيل إلى وصفها قط.
فنزلنا ودخلنا المسجد نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم...
|1|2|(2/17)