إعلام الأصحاب
بما في الإسلام من الآداب
تأليف
أبي أنس
ماجد إسلام البنكاني
يا راجياً حُسْنَ الأدَبْ
ها قد أُجيبَ لكَ الطَّلَبْ
قد جَمَّعَ العبدُ الفقيرُ
لإخوةٍ خيْرَ الأدَبْ
فيه النجاةُ لسالكٍ
قدْ عُدَّ حَقّاً خَيْرَ كَسْبْ
أَعْلِمْ صحابَكَ أنّه
في ديننا حُسْنُ الأدَبْ
إسلامُنا هو حَسْبُنا
إنْ عزّ نَصْرٌ مِنْ حَسَبْ
هو نورُنا في ظلمةٍ
ينجيكَ مِنْ دنيا التَّعَبْ
أوَ ما سمعْتَ نبِيَّنا
ربَّاهُ ربّي بالأدَبْ
فانهلْ وُقيتَ جهنّما
مِنْ خَيْرِ سِفْرٍ ما تُحِبّْ
أدَبٌ مَعَ الرَّحمنِ مَعْ
دِيْنٍ ودنْيا قد وَجَبْ
المقدمة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ، (1) { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } . (2)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } . (3)
أما بعد :
__________
(1) سورة آل عمران الآية (102).
(2) سورة النساء الآية (1).
(3) سورة الأحزاب الآية (70-71).(1/1)
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار . (1)
يسْمو قدر العبد وتعلو درجته ومنزلته عند الله جل وعلا، وعند خلقه بقدر ما يكون له من استقامة، وما يحمل من أدبٍ، وخلقٍ، وحسن سمتٍ ، وطهارة قلبٍ ، وسلامة صدرٍ ، ويكون في قلبه حب الخير لجميع المسلمين ، وما يكون عنده من تضحية بالنفس والمال في سبيل الله تعالى، وما يقرب إلى الله تعالى . قال الله تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . (2)
__________
(1) ) ) وهذه الخطبة تسمى عند العلماء بـ (خطبة الحاجة)، وهي تشرع بين يدي كل خطبة، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو نكاح أو درس أو محاضرة .
والبدعة : هي الإحداث في الدين، فعن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" . أخرجه البخاري برقم (2034)، وأخرجه مسلم برقم (1718) .
وعنها أيضاً قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" .أخرجه مسلم برقم (1718) .
قال النووي : قوله : رد قال أهل العربية : الرد هنا بمعنى المردود ، ومعناه فهو معتد بة ، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين أن النهي يقتضي الفساد .اهـ . شرح النووي على صحيح مسلم (12/16) .
(2) ) ) الشعراء الآية (88-89) .
والقلب السليم : هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة ، فسلم من كل آفة تبعده من الله وسلم من كل شبهة تعارض خبره ومن كل شهوة تعارض أمره وسلم من كل إرادة تزاحم مراده وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا وفى جنة في البرزخ وفى جنة يوم المعاد ،ولا يتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء:
1- ... من شرك يناقض التوحيد .
2- ... وبدعة تخالف السنة
3- ... وشهوة تخالف الأمر .
4- ... وغفلة تناقض الذكر وهو يناقض التجريد ==
5- والإخلاص يعم ، وهذه الخمسة حجب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراد الأشخاص لا تحصر ، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة ، وليس شيء أنفع منها .اهـ. الجواب الكافي (1/84) .(1/2)
ونحن في زمن قلّ فيه الصالحون وكثر فيه الخبث وأصبح بعض المعروف عند بعض الناس منكراً، وبعض المنكر معروفاً، وإلى الله المشتكى ، فنجد أُناساً يعصون الله تعالى سراً وجهراً ، وينتهكون محارمه ، وبالمقابل نرى أناساً يصلحون ما أفسد هؤلاء، وهم مع قلتهم يقومون بالواجب الذي أمرهم الله تعالى به، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فالموفق الذي وفقه الله تعالى وجعله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، وإن من الناس مفاتيحَ للشر مغاليقَ للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه" (1)
وهناك آداب إسلامية كثيرة في حياة المسلم عليه أن يتحلى بها .
قال ابن قيم الجوزية: ولكل حال أدب: فللأكل أدب، وللشرب أدب، وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب . (2)
قال عبدالله بن المبارك رحمه الله ورضي عنه: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون، نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثير من العلم .
وقد جمعت لك أخي المسلم وأختي المسلمة ما يسره الله سبحانه وتعالى جملة من الآداب الإسلامية، والأحكام الشرعية .
وجمعت لك من الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم، من الزهاد، والعباد ما لعلّهُ أن يكون سبباً نافعاً حاثاً لي ولإخواني من المسلمين على فعل الطاعات وترك المنكرات، والتأدب بآداب الإسلام السامية، للمسلمين عامة وطلبة العلم خاصة، فذكرت من ذلك مقاصد يحتاج إلى معرفتها كل متدين .
__________
(1) حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده، أخرجه ابن ماجة، وابن أبي عاصم في السنة، وغيرهما، كما في السلسلة الصحيحة برقم (1332).
(2) مدارج السالكين (2/119) .(1/3)
فغايتنا رضى الرحمن، ومن ثم نفع أهل الإسلام، بإذن الواحد المنَّان .
هذا وأشكر الله الوهّاب المنّان الذي منّ علينا بنعم عظيمة والتي منها تيسيره لنا سبحانه وتعالى في كتابة هذا البحث الذي أسأله سبحانه وتعالى أن يجعله نافعاً للمسلمين عامة، ولطلبة العلم خاصة .
وأشكر كل من قدم لي المساعدة لأخراج هذا الكتاب وتقديمه للمسلمين لكي ينتفعوا به .
و"لا يشكر الله من لا يشكر الناس" (1) ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فجزاهم الله عنا خير الجزاء وجعل عملهم هذا في ميزان حسناتهم يوم القيامة .
فهذه مادة الكتاب بين يديك ، ولم آلُ جهداً من تحري الحق ، فإن وُفقت إليه فإنه من فضل الله عليَّ ، وله المنة وحده .
وإن كانت الأخرى فحسبي أنّي قد بذلت قصارى جهدي في جمع الأدلة الصحيحة ، مع الحرص على معرفة الحق والصواب .
وأستغفر الله ذا الكمال من خطئي ، وما زل به قلمي ، ودينُ الله بريء منه، وأنا تائب عنه ، والله خيرُ مأمول ألا يضيع سعينا ، ولا يخيب رجاءنا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
اللهم يا مجيب الدعاء نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهك الكريم، وأن تطهر قلوبنا من النفاق والغل والحقد والحسد، وأن تطهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة والقول الفاحش والبذيء، وأن تطهرنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وأن تجعل هذا الكتاب حجةً لنا لا علينا، وأن تجعله سبباً لصلاح المسلمين، وأن تعم به النفع، وأن تجعل له القبول في الأرض. وأن تجعله خالصاً لك، ولا تجعل فيه نصيباً لأحد، إنك على كل شئ قدير وبالإجابة جدير.
اللهم آمين
وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتب
ماجد بن خنجر البنكاني
أبو أنس العراقي
يوم الاثنين الموافق
26/ رجب/ 1425هـ
6/ 9/ 2004م
??????
__________
(1) صحيح الترمذي رقم (1592)، السلسلة الصحيحة برقم (417)، المشكاة رقم (3025)، التعليق الرغيب (2/56) .(1/4)
تمهيد
معنى الأدب :
الآداب : جمع أدب، وهو ما يتأدب به المرء من خلق حسن وحسن سمتٍ .
قال ابن منظور : الأَدَبُ: الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس؛ سُمِّيَ أَدباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إِلى المَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابح. وأَصل الأَدْبِ الدُّعاءُ، ومنه قيل للصَّنِيع يُدْعَى إِليه الناسُ: مَدْعاةٌ و مَأْدُبَةٌ .
قال ابن بُزْرج: لقد أَدُبْتُ أَدَباً حسناً، وأَنت أَدِيبٌ.
وقال أَبو زيد: أَدُبَ الرَّجلُ يَأْدُبُ أَدَباً، فهو أَدِيبٌ، وأَرُبَ يَأْرُبُ أَرَابَةً وأَرَباً، في العَقْلِ، فهو أَرِيبٌ. قال غيره: الأَدَبُ: أَدَبُ النَّفْسِ والدَّرْسِ. والأَدَبُ: الظُّرْفُ وحُسْنُ التَّناوُلِ. و أَدُبَ، بالضم، فهو أَدِيبٌ، من قوم أُدَباءَ. و أَدَّبه فَتأدب: عَلَّمه . (1)
وقال ابن قيم الجوزية: وعلم الأدب: هو علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الخطأ والخلل، وهو شعبة من الأدب العام. والله أعلم . (2)
والخلق : هو الطبع والمروءة .
قال ابن الاعرابي : الخلق الدين والخلق الطبع والخلق المروءة . (3)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: وهو – أي الأدب – على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن لا يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور: أن يضاهئ الجرأة .
يريد أنه لايدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط، واليأس من رحمة الله، فإن هذا الخوف مذموم .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه .
وهذا الخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله تعالى، التي سبقت غضبه، وجهلٌ بها
__________
(1) )) لسان العرب (1/206) .
(2) مدارج السالكين (2/108) .
(3) )) تفسير القرطبي (13/126) .(1/5)
وأما حبس الرجاء: أن يخرج إلى الأمن: فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة، فإنه لايأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وهذا إغراق في الطرف الآخر .
وأما ضبط السرور: أن يخرج إلى مشابهة الجرأة فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السراء، فتغلب شكرهم، ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم . كما قيل:
لا تغلب السراء منهم شكرهم كلا ولا الضراء صبر الصابر (1)
فعلى المسلم أن يكون على أدب وسمتٍ حسن ، وأول ما يتأدب العبد مع الله تعالى، ثم مع رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم مع الخلق عامة ، وأهل السنة خاصة .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : ولا يستقيمُ لأحدٍ الأدبُ مع الله إلا بثلاثةِ أشياء : معرفتُه بأسمائه وصفاته ، ومعرفته بدينِهِ وشرعِهِ ، وما يُحِبُّ وما يكرهُ ، ونفسٌ مستعدةٌ قابلةٌ ليِّنَة ، متهيئة لقبولِ الحقِّ عِلماً وعَمَلاً وحالاً .
وأمَّا الأدبُ مع الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، فالقرآنُ مملوءٌ به : فرأس الأدب معه : كمالُ التسليم له ، والانقيادُ لأمرهِ ، وتلقي خبره بالقبولِ والتصديقِ ، دون أن يُحَمِّلَه معارضةَ خيالٍ باطلٍ يسميه معقولاً ، أو يُقَدِّمَ عليه آراءَ الرجالِ ، فيوحِّده بالتحكيمِ والتسليمِ ، والانقياد والإذعان ، كما وَحَّد المُرْسِلَ - سبحانه وتعالى - بالعبادة والخضوع والذل ، والإنابة والتوكل .
فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسلِ ، وتوحيدُ مُتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يحاكم إلى غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ، ولا يقف تنفيذ أمره ، وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه ، وذوي مذهبه وطائفته ومن يُعَظِّمه .
__________
(1) مدارج السالكين (2/122) .(1/6)
ومن الأدب معه : أن لا تُرفَعَ الأصواتُ فوق صوته ، فإنه سببٌ لحُبوطِ الأعمالِ ، فما الظنُّ برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به ؟ ! أترى ذلك موجباً لقبول الأعمالِ، ورفع الصوت فوق صوته موجباً لحبوطها ؟ !
ومن الأدب معه : أن لا يُسْتَشْكَلُ قولُه، بل تُسْتَشْكَلُ الآراءُ لقوله ، ولا يُعَارَضُ نَصُّه بقياسٍ ، بل تُهْدَرُ الأقيسةُ وتُلغَى لنصوصه، ولا يُحَرَّفَ كلامُه عن حقيقته لخيالٍ يُسمِّيه معقولاً ، ولا يُوقَفَ قبولُ ما جاء به صلى الله عليه وسلم على موافقة أحدٍ، فكلُّ هذا من قلَّةِ الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة .
وأما الأدب مع الخلق : فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يلق بهم فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين أدب خاصٌ، وللأب منهما : أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخرُ، وله مع الأقران أدب يليقُ بهم، ومع الأجانب أدبٌ غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه، ومع الضيف أدبٌ غير أدبه مع أهل البيت . اهـ (1)
وسنتطرق إلى هذه الأمور بالتفصيل بإذن الله تعالى في هذا الكتاب المبارك إن شاء الله - سبحانه وتعالى - .
الأدب في الشريعة
ومنزلته عند السلف
باب
الخلق والأدب والتواضع
قال الله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } . (2) وقال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } . (3)
قال الله تعالى : { وإنك لعلى خلقٍ عظيم } . (4)
__________
(1) مدارج السالكين (2/387) .وانظر الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله تعالى طبعة دار الرسالة (1/6-8) .
(2) )) سورة الأعراف الآية (199) .
(3) )) سورة فصلت الآية (34) .
(4) )) سورة القلم الآية (4).(1/7)
وقال الله تعالى { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } (1)
والآيات في هذا الباب كثيرة جداً في القرآن الكريم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال : "تقوى الله وحُسن الخُلق" وسُئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: " الفم والفرج". (2)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، هذه الآيه جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس ، أن يأخذوا العفو ، أي : ما سمحت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم بل يشكر من كل ما قابله به من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك ويتجاوز عن تقصيرهم ولا يتكبر على الصغير لصغره ولا ناقص العقل لنقصه ولا الفقير لفقره بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقضيه الحال وتنشرح له صدورهم .
__________
(1) )) سورة آل عمران الآية (134) .
(2) )) أخرجه الإمام أحمد (2/291, 392و442)، والبخاري في ( الأدب المفرد) برقم(289) ، والترمذي (2004)، وابن ماجة (4246)، وابن حبان (476)، والحاكم (4/324)، والبيهقي في الزهد (236)، والقضائي في الشهاب (1050)، والبغوي في معالم التنزيل (4/377) ، وشرح السنة (13/79 - 80) ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ص (10) من طريق يزيد بن داود الأودي عنه به، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (2642).(1/8)
وَأْمُرْ بِالْعُرْف أي بكل قول حسن وفعل الجميل وخلق كامل للقريب والبعيد فاجعا ما يأتي إلى الناس منك إما تعليم علم أو حث على الخير من صلة رحم أو بر والدين أو إصلاح بين الناس أو نصيحة نافعة أو رأي مصيب او معاونة على البر والتقوى او زجر عن قبيح أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية او دنيوية ولما كان لا بد أذية الجاهل بإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه ومن حرمك لا تحرمه ومن قطعك فصله ومن ظلمك فاعدل فيه
فعلى العبد أن يتحلى بالأخلاق الحسنة ، وأن يتأسى بأخلاق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : "خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ و لا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلقاً ، ولا مسست خزا، ولا حريرا، ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " . (2)
__________
(1) )) سورة القلم الآية (4) .
(2) )) رواه البخاري برقم (5850)، باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل ، ومسلم برقم (659) ، باب جواز الجماعة في النافلة والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات .(1/9)
وفي رواية أخرى عنه قال: "ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي قط أف، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته. ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا". (1)
فهذا من حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ، وكما آلان الله يده فقد آلان سبحانه وتعالى قلبه، وكذلك رائحته من أطيب الروائح، وما شُم طبياً قط أحسن من رائحته - صلى الله عليه وسلم - ، حتى كانوا يأخذون عرقه من حسنه وطيبه، ويتبركون به، وهذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ولا ينبغي لأحدٍ غيره.
فهو من حسن خلقه، لم يتضجر ولم يقل يوماً أف، ولا لشيء فعلته لما فعلت كذا كما قال أنس - رضي الله عنه - .
ومن حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - يكون في خدمة أهله، لما سئلت عائشة: ماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله. أي يساعدهم على مهمات البيت، حتى كان يحلب الشاة لأهله ويخصف نعله، ويرفع ثوبه، فينبغي أن يكون الإنسان هكذا مع أهله وأصحابه من حسن الخلق .
وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان طويل الصمت، قليل الضحك. (2)
وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن.
فعن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : "كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن" . (3)
__________
(1) رواه البخاري برقم (3368) ، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم برقم (2330)، باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولين مسه والتبرك بمسحه .
(2) رواه أحمد في مسنده، وصححه الألباني في المشكاة برقم (5826).
(3) )) وهكذا رواه أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي ، ورواه النسائي في التفسير .(1/10)
وفي رواية "كان خلقه القرآن" . (1)
قال المناوي رحمه الله : قوله: "كان خلقه" بالضم ، قال الراغب : هو والمفتوح الخاء بمعنى واحد ، لكن خص المفتوح بالهيئات والصور المبصرة والمضموم بالسجايا والقوى المدركة بالبصيرة ثم قيل للمضموم غريزي .
" القرآن" : أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك ، وقال القاضي : أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه فكان القرآن بيان خلقه . انتهى . فيض القدير .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وعن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح به ، ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار
امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له وخلقا تطبعه وترك طبعه الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل ، كما ثبت في الصحيحين. (2)
قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا إبراهيم بن يونس عن أبيه عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجها وأحسن الناس خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير" .
__________
(1) )) صحيح الجامع حديث رقم (4811) .
(2) )) رواه البخاري برقم (3561)، ورواه مسلم برقم (2309) .(1/11)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : "بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا .
قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه .
قال فأخبرني عن الإيمان ، قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ،
قال: صدقت .
قال: فأخبرني عن الإحسان ،
قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
قال: فأخبرني عن الساعة ،
قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل .
قال: فأخبرني عن إمارتها ،
قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان .
قال ثم انطلق فلبثت مليا ، ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل ، قلت الله ورسوله أعلم ، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" . (1)
قال القاضي عياض رحمه الله : وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح ، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه ، قال : وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان إذ لا يشذ شئ من الواجبات، والسنن، والرغائب، والمحظورات، والمكروهات عن أقسامه الثلاثة . والله أعلم .
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (4499) باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم برقم (8) ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان.(1/12)
قوله فيه جمل من فوائده ومما لم نذكره من فوائد ، أن فيه :
أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع .
وفيه: أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدنيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض .
وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله . والله أعلم . اهـ . (1)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول : "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً" . (2)
وعن أبي ذر جندب بن جنادة ، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
"اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقٍ حسن" . (3)
"اتق الله حيثما كنت" التقوى : هي فعل الأوامر واجتناب النواهي.
وكما فسرها على بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " التقوى : هي مخافة الجليل ، والعمل بالتنزيل، والرضى بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس شيء أثقل في الميزان من الخُلق الحسن" . (4)
وعن سهل بن سعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها" . (5)
__________
(1) )) شرح النووي (1/158) .
(2) )) رواه البخاري في كتاب المناقب برقم (3559) ، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (2321).
(3) )) أخرجه أحمد في المسند (5/153، 158، 228)، والترمذي في البر والصلة برقم (1987) ، والحاكم في المستدرك (1/54) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسنٌ صحيح .
(4) )) رواه أحمد في مسنده ، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع برقم (52606) ، والصحيحة (2/564) ، وصحيح الترغيب برقم (2641) .
(5) )) صحيح الجامع (1858).(1/13)
وفي رواية عن الحسين بن علي : "إن الله تعالى يحب معالي الأمور و أشرافها و يكره سفسافها" . (1)
قوله : إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، وهي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية فإن العلو فيها نزول . (2)
وسفاسفها : السَّفْسَافُ الرديء من كل شيء والأمر الحقير . (3)
قال المناوي: وشرف النفس صونها عن الرذائل والدنايا، والمطامع القاطعة لأعناق الرجال فيربأ بنفسه أن يلقيها في ذلك، وليس المراد به التيه فإنه يتولد من أمرين خبيثين إعجاب بنفسه وازدراء بغيره والأول يتولد بين خلقين كريمتين إعزاز النفس وإكرامها وتعظيم مالكها، فيتولد من ذلك شرف النفس وصيانتها، وقد خلق سبحانه وتعالى لكل من القسمين أهلاً لما مر أن بني آدم تابعون للتربة التي خلقهم منها، فالتربة الطيبة نفوسها علية كريمة مطبوعة على الجود والسعة واللين والرفق لا كزازة ولا يبوسة فيها، فالتربة الخبيثة نفوسها التي خلقت منها مطبوعة على الشقوة والصعوبة والشح والحقد وما أشبهه .
تنبيه: علم مما تقرر أن العبد إنما يكون في صفات الإنسانية التي فارق بها غيره من الحيوان والنبات والجماد بارتقائه عن صفاتها إلى معالي الأمور وأشرافها التي هي صفات الملائكة فحينئذ ترفع همته إلى العالم الرضواني وتنساق إلى الملأ الروحاني . (4)
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل المؤمنين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وأفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً ، وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه ، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل" . (5)
__________
(1) )) صحيح الجامع (1890).
(2) )) فيض القدير .
(3) )) مختار الصحاح (1/127) .
(4) )) فيض القدير .
(5) )) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمرو ، ورواه ابن نصر ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1129)، والصحيحة رقم (1491).(1/14)
وعن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"مكتوب في الإنجيل : لافظ ، ولاغليظ،ولاسخاب بالأسواق،ولايجزي بالسيئة مثلها،بل يعفو ويصفح" . (1)
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال : قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال : "البر حُسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" . (2)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله: "حاك في صدرك": أي تحرك وتردد ولم
ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنباً . (3)
وعن أبي قلابة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وألطفهم بأهله" . (4)
وعن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال : كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رؤوسنا الطير ما يتكلم منا متكلم ، إذ جاء أُناس فقالوا : من أحبُّ عباد الله إلى الله ؟ قال : " أحسنهم خُلقاً" . (5)
وفي رواية لابن حبان:قالوا:يا رسول الله فما خير ما أُعطي الإنسان قال:"خُلقٌ حسن".
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : كنت في مجلس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمرة أبو أمامة فقال : " إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً" . (6)
__________
(1) )) السلسلة الصحيحة رقم (2458).
(2) )) رواه الإمام مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2553) .
(3) )) شرح مسلم (16/111) .
(4) )) رواه الترمذي وقال : حديث حسن، والحاكم وقال : صحيح على شرطهما، الصحيحة رقم (168) ، المشكاة (3263)
(5) )) رواه الطبراني بإسناد على شرط الصحيح ، قال في المجمع (8/24) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .
(6) )) رواه أحمد بإسناد صحيح ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/25) : رواه الطبراني واللفظ له ، وأحمد وابنه ، وأبو يعلى بنحوه ، ورجاله ثقات.(1/15)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من أحبكم وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً" . (1)
و عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق". قيل: وما القلب المحموم؟ قال - صلى الله عليه وسلم - :"هو التقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد"، قيل: فمن على أثره ؟ قال : "الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة". قيل : فمن على أثره ؟ قال : "مؤمن في خُلُق حسن" . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا" . (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً في الدنيا" . (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً وخيارهم خياركم لنسائهم" . (5)
__________
(1) )) رواه الترمذي وقال : حديث حسن ، السلسلة الصحيحة رقم (791) ، صحيح الترغيب رقم (2649) .
(2) )) رواه الحاكم والطبراني في الكبير، وأبو نعيم، والبيهقي في الشعب عن ابن عمرو، وشطره الأول عند ابن ماجة عن ابن عمرو، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم
(3291).
(3) )) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2312) .
(4) )) رواه ابن عساكر ، صحيح الجامع (1569) .
(5) )) أخرجه أحمد في المسند (6/47) من حديث عائشة رضي الله عنها، الترمذي في كتاب الرضاع برقم (1162) وقال : حسنٌ صحيح ، وأخرجه في كتاب الإيمان برقم (2612) ، ، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (4682) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم
(1230 و 1231 و 1232).(1/16)
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا زعيم بيت في ربضٍ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت في أعلى الجنة لمن حسُن خلقه" . (1)
الزعيم : الكفيل الضامن .
ربض الجنة : أدناها ، وربض المدينة ما حولها .
المراء : المجادلة والمنازعة في القول والعمل بقصد الباطل .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن المؤمن ليدرك بحُسن خلقة درجة الصائم القائم" . (2)
وفي رواية عنها: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار" . (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله ليبلغ العبد بحسن خلقة درجة الصوم والصلاة" . (4)
وعن ابن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله بحُسن خلقه وكرم ضريبته" . (5)
"الضريبة" : الطبيعة وزناً ومعنىً .
__________
(1) )) رواه أبو داود (4800) ، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (273) ، و حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص (22) ، والمناسك ص(8) ، وصحيح الترغيب برقم (2648).
(2) )) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2643) .
(3) )) صحيح الجامع حديث رقم (1616)و (1620)، وصحيح الترغيب رقم(643).
(4) )) رواه الطبراني والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (436) ، وصحيح الترغيب رقم (2645) .
(5) )) رواه أحمد والطبراني ، وصححه الألباني في الصحيحة (522) ، وصحيح الترغيب
(2647) ، وصحيح الجامع حديث رقم (1949) .(1/17)
وفي رواية عن أبي أمامة : "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر" . (1)
قوله : "إن الرجل" ، وفي رواية "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة" أي مثل درجة أي منزلة القائم بالليل أي المتهجد فيه
"الظامئ الهواجر" أي العطشان في شدة الحر بسبب الصوم لأنهما يجاهدان أنفسهما في مخالفة حظهما من الطعام والشراب والنكاح والنوم وصيام يمنع من ذلك والنفس أمارة بالسوء تدعو إلى ذلك لأن الطعام يتقوى وبالنوم ينمو ، فالصائم والقائم مجاهدان بذلك ومن جمعهما فكأنه يجاهد نفساً واحدة ومن حسن خلقه يجاهد نفسه في تحمل أثقال مساوئ أخلاق الناس لأن الحسن الخلق لا يحمل غير، خلقه وأثقاله ويتحمل أثقال غيره وخلقه وهو جهاد كبير فأدرك ما أدركه القائم الصائم فاستويا في الدرجة.اهـ . (2)
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها :
1- الصبر .
2- والعفة .
3- والشجاعة .
4- والعدل .
فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة .
والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم ، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الشديد
بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". (3) ،
وهو حقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه .
__________
(1) )) صحيح الجامع حديث رقم (1621) .
(2) )) فيض القدير .
(3) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم 6114)،ومسلم في البر والصلة برقم(2609) .(1/18)
والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة .
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان الجهل والظلم والشهوة والغضب .
فالجهل يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضى ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع . اهـ . (1)
ذكر معروف عند الإمام أحمد ، فقيل قصير العلم ، فقال : أمسك وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف .
أنظر إلى هذا الإمام الجليل كيف يربي تلامذته على الأدب والأخلاق الحسنة ، وعدم الطعن في الآخرين ، فلله در هذا الإمام ، وهو بحق من السلف لصالح الذي يتأسى به ، فرحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، فكم نحن بحاجة في هذا الزمان إلى أمثال هؤلاء الرجال ، وأمثال هؤلاء المربين ، ياليتنا تأسينا بهم ، وأخذنا من سمتهم وأدبهم وأخلاقهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وفي الترمذي وغيره ، عنه - صلى الله عليه وسلم - "خصلتان لا يجتمعان في منافق : حسن سمت ، وفقه في الدين" ، فجعل الفقه في الدين منافياً للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل ، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة،قال:أتقاهم (2) ...
__________
(1) )) مدارج السالكين (2/308ـ309) .
(2) )) مفتاح دار السعادة (1/89) .(1/19)
وعلى طلبة العلم عامة والعلماء خاصة أن يرفقوا بالناس ، وأن يتواضعوا لهم وأن يعلموا الجاهل منهم وليأخذوا على يده لكي يتعلم دينه .
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه "باب حديث التعليم في الخطبة" . حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال قال قال أبو رفاعة:"انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب ، قال فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال فأقبل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدا ،قال فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها" (1)
فوائد الحديث :
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : قوله : "رجل غريب يسأل عن دينه لا يدري ما دينه" .
فيه: استحباب تلطف السائل في عبارته وسؤاله العالم .
وفيه: تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم.
وفيه: المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمة ، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الاسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور ، وقعوده - صلى الله عليه وسلم - على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم . اهـ . (2)
__________
(1) )) رواه مسلم برقم (876) ، باب حديث التعليم في الخطبة .
(2) )) شرح مسلم (6/165).(1/20)
قال المناوي رحمه الله تعالى : وشرف العلوم على حسب شرف المعلوم حتى ينتهي إلى العلم بالله كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أعلمكم بالله وخيار علمائها رحماؤها" ، أي الذين يرحمون الناس منهم فإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي وفي رواية بدل رحماؤها علماؤها والحليم الذي لا يستفزه الغضب ولا عجلة الطبع وعزة العلم ، فالحلم جمال العلم ألا حرف تنبيه ، وإن الله تعالى ليغفر للعالم العامل أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل أي غير المعذور في جهله ذنبا واحدا إكراما للعلم وأهله والظاهر أن المراد بالأربعين التكثير لكن ربما صدر عنه أنهم أناطوا إرادة التكثير بالسبعين وما قبلها من المنازل ألا وإن العالم الرحيم بخلق الله تعالى يجيء يوم القيامة وإن نوره أي والحال أن نوره قد أضاء له يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب إضاءة قوية كما يضيء الكوكب الدري في السماء وهذا فيه إبانة لعظم العلم وفضل أهله. اهـ . (1)
باب
الرفق في الأمور كلها
قال الله تعالى: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" . (3)
وفي رواية لمسلم : " إن الله رفيق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" .
وعنها رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه" . (4)
__________
(1) )) فيض القدير (3/462) .
(2) )) سورة الفرقان الآية (67) .
(3) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6024)، ومسلم في كتاب السلام برقم
(2165).
(4) )) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2312) .(1/21)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : قوله : "باب الرفق في الأمر كله" الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف ، هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل ، وهو ضد العنف ، وذكر فيه حديثين أحدهما حديث عائشة في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان ، وقوله : "إن الله يحب الرفق في الأمر كله" في حديث عمرة عن عائشة ثم مسلم "أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" والمعنى : أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده وقيل المراد يثيب عليه ما لا يثيب على غيره والأول أوجه. (1)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
"من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير" . (2)
وعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق" . (3)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عيه النار تحرم على كل هين لين سهل" . (4)
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من يحرم الرفق
يُحرم الخير" . (5)
__________
(1) )) فتح الباري (10/449) .
(2) )) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح، السلسلة الصحيحة رقم (51، 563) ، والمشكاة رقم (5076) .
(3) )) رواه الإمام الإمام أحمد ، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم
(219 و 523)، وصحيح الترغيب برقم (2669).
(4) )) رواه الترمذي وحسنه ، وابن حبان ، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (938) ، وصحيح الترغيب برقم (2676) .
(5) )) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2592).(1/22)
قال النووي رحمه الله تعالى : وفي هذه الاحاديث فضل الرفق والحث على التخلق وذم العنف ، والرفق سبب كل خير ، ومعنى يعطي على الرفق أي يثيب عليه مالا يثيب على غيره ، وقال القاضي معناه يتأتى به من الاغراض ويسهل من المطالب مالا يتأتى بغيره .اهـ . (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" . (2)
وعن أنس - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" . (3)
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها". (4)
__________
(1) )) شرح النووي (16/145) .
(2) )) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (220)، وكتاب الأدب برقم ( 6128) ، باب الرفق في الأمر كله، ورواه مسلم برقم (284)، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء حاجة إلى حفرها .
(3) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم(6125)، ومسلم في كتاب الجهاد برقم (1734).
(4) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6126)، وفي كتاب المناقب برقم (3560) ، ومسلم في كتاب الفضائل برقم (2327).(1/23)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بردٍ نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء" . (1)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" . (3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله أوحي إلي أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" . (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" . (5)
قال الإمام النووي رحمه الله تعال : فيه وجهان : أحدهما أنه على ظاهره ، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب وزاده عزه وإكرامه .
والثاني أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك .
__________
(1) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6088)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم(1057) .
(2) )) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3477) ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (1792) .
(3) )) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6114) ، ومسلم في البر والصلة برقم (2609)
(4) رواه مسلم برقم (2865)،باب العلامة التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.
(5) )) رواه مسلم برقم (2588) .(1/24)
قوله - صلى الله عليه وسلم - :"وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" فيه أيضا وجهان:أحدهما يرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه.
والثاني أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا . اهـ . (1)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : والتواضع لله له معنيان :
المعنى الأول : أن تتواضع لدين الله فلا تترفع عن الدين ولا تستكبر عنه و عن أداء أحكامه .
والثاني : أن تتواضع لعباد الله من أجل الله ، لا خوفاً منهم ، ولا رجاء لما عندهم ، ولكن لله عز وجل .
والمعنيان صحيحان . فمن تواضع لله رفعه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة ، وهذا أمر مشاهد أن الإنسان المتواضع يكون محل رفعة عند الناس وذكر حسن ويحبه الناس، وانظر إلى تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أشرف الخلق، حيث كانت الأمة من إماء المدينة تأتي إليه وتأخذ بيده وتذهب به حيث شاءت ليعينها في حاجتها، هذا وهو أشرف الخلق، أمة من الإماء تأخذ بيده تذهب به
حيث شاءت ليقضي حاجتها، ولا يقول : أين تذهبين بي أو يقول : اذهبي إلى غيري بل كان يذهب معها ويقضي حاجتها، لكن مع هذا ما زاده الله عز وجل بذلك إلى عزاً ورفعه صلوات الله وسلامه عليه .اهـ. (2)
وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما : "سلام عليك ، أما بعد : فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً ، ونزلت الأرض المقدسة . فكتب إليه سلمان : اعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد ، ولكن الخير أن يعظم حِلمُك ، وأن ينفعك علمك ، وأن الأرض لا تعمل لأحد ، اعمل كأنك تُرى ، واعدد نفسك من الموتى" . (3)
__________
(1) )) شرح النووي (16/141ـ142).
(2) )) شرح رياض الصالحين (2/321) .
(3) )) سير أعلام النبلاء (4/93).(1/25)
وعن جرير - رضي الله عنه - قال : "ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي ، ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال : اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا" . (1)
قال الحافظ : وفي هذا الحديث : بيان حلمه - صلى الله عليه وسلم - ، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام ، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء والدفع بالتي هي أحسن .اهـ . (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأشج : "إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة، قال: يا رسول الله قديما كانا في أو حديثا ، قال: قديما ، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما" . (3)
الأشج : اسمه المنذر بن عائذ ، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأشج لأثر كان في وجهه.
قال النووي:وأما الحلم:فهو العقل ، وأما الأناة : فهي التثبت وترك العجلة. (4) .
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : وفيها مدح صفتي الحلم والأناة ، وأن الله يحبهما ، وضدهما الطيش والعجلة وهما خلقان مذمومان مفسدان للأخلاق والأعمال ، وفيه دليل على أن الله يحب من عبده ما جبله عليه من خصال الخير كالذكاء والشجاعة والحلم، وفيه دليل على أن الخلق قد يحصل بالتخلق والتكلف ، لقوله في هذا الحديث خلقين تخلقت بهما أو جبلني الله عليهما فقال بل جبلت عليهما . اهـ . (5)
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (2871) ، باب من لا يثبت على الخيل، ورواه مسلم برقم
(2475)، باب من فضائل جرير بن عبد الله رضي الله عنه .
(2) )) فتح الباري (10/506) .
(3) )) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (17).
(4) )) شرح النووي (1/189)
(5) )) زاد المعاد (3/608) .(1/26)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق ، دون معاملة الخالق ، ولكن هذا الفهم قاصر ، فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق ، فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق جل وعلا ، ومعاملة الخلق أيضاً .
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق ؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور :
1ـ تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق .
2ـ وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق .
3ـ وتلقي أقداره بالصبر والرضا .
فهذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله عزوجل . اهـ . (1)
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : إن العلم ذو فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأشياء والأمور الواجبة ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمته السلامة ، وحكمته الورع . .
وقال عبد الله ابن المبارك رحمه الله تعالى : "إن للعلم طغياناً كطغيان المال".
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : الواجب إن طلبة الحديث أكمل الناس أدباً ، وأشد الخلق تواضعاً ، وأعظمهم نزاهة وتديناً ، وأقلهم طيشاً وغضباً ، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآدابه ، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه ، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين بأجملها وأحسنها ويصرف عن أرذلها وأدونها " .
وقال يحيى بن معين : إن الذي يحدث وفي البلدة من هو أعلم منه أحمق .
وقال أحد الحكماء : يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء .
سب رجل وكيعاً فقيل لوكيع ألا ترد عليه قال ولم تعلمن العلم إذاً .
__________
(1) )) كتاب العلم (ص248ـ249) .(1/27)
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان يقال رأس التواضع الرضا بالدون من شرف المجلس.
قال بشر بن الحارث : إن الرئاسة تنزل من السماء فلا تصيب إلا رأس من لا يريدها .
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى : أما المتعلم فينبغي له تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذم الصفات إذ العلم عبادة القلب .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى : من شُكر العلم أن تقعد مع كل قوم فيذكرون شيئاً لا تحسنه فتتعلم ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر ، فيذكرون ذلك الشيء الذي تعلمته فتقول : والله ما كان عندي شيء حتى سمعت فلاناً يقول كذا وكذا فتعلمته ، فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم . اهـ . (1)
فعلى طالب العلم أن لا ينتابه الغرور ، ويكون متواضعاً لله تعالى ، وأن يتأسى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بالعلماء الربانيين ، فقد قص الله تعالى علينا قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ، وجاء في السنة من خبرهما :
قال البخاري:باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله.
حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان ، قال حدثنا عمرو ، قال أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر ، فقال كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام موسى النبي خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ، فقال : أنا أعلم فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك قال يا رب وكيف به
__________
(1) )) طبقات المفسرين للداودي (2/36) ، وكتاب الناسخ والمنسوخ بتحقيق محمد صالح المديفر (ص38) ..(1/28)
فقيل له احمل حوتا في مكتل فإذا فقدته فهو ثم فانطلق وانطلق بفتاه يوشع بن نون وحمل حوتا في مكتل حتى كانا ثم الصخرة وضعا رؤوسهما وناما فانسل الحوت من المكتل { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } . (1) وكان لموسى وفتاه عجبا فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما فلما أصبح قال موسى { قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } . (2) ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به ، فقال له فتاه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } . (3)
قال موسى { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } . (4) فلما انتهيا إلى الصخرة إذا رجل مسجى بثوب أو قال تسجى موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام فقال أنا موسى فقال موسى بني إسرائيل قال نعم قال هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه لا أعلمه: { قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً } . (5) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما فعرف الخضر فحملوهما بغير نول فجاء عصفور فوقع على فنقر نقرة أو نقرتين في البحر فقال الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر فعمد الخضر إلى لوح من فنزعه فقال موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها
:
__________
(1) ) ) سورة الكهف الآية (61) .
(2) ) ) سورة الكهف الآية (62) .
(3) ) ) سورة الكهف الآية (63) .
(4) ) ) سورة الكهف الآية (64) .
(5) ) ) سورة الكهف الآية (69) .(1/29)
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } . (1) قال لا تؤاخذني بما نسيت فكانت الأولى من موسى نسيانا، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده فقال موسى : { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً } . (2) . { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } . (3) قال بن عيينة وهذا أوكد : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } . (4) قال الخضر بيده فأقامه فقال له موسى: { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } . (5) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما. (6)
قال الإمام النووي رحمه :
وفي هذه القصة أنواع من القواعد والاصول والفروع والآداب والنفائس المهمة سبق التنبيه على معظمها سوى ما هو ظاهر منها ومما لم يسبق : أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة ، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروءات الاصحاب وحسن العشرة ، ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما وحمل موسى والخضر بغير أجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح والله اعلم .
__________
(1) ) ) سورة الكهف الآية (72) .
(2) ) ) سورة الكهف الآية (74) .
(3) ) ) سورة الكهف الآية (75) .
(4) ) ) سورة الكهف الآية (77) .
(5) ) ) سورة الكهف الآية (78) .
(6) )) أخرجه البخاري برقم (122) ، باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله ، ومسلم برقم (2380) ، باب في فضائل الخضر عليه السلام .(1/30)
ومنها الحث على التواضع في علمه وغيره وأنه لا يدعي أنه أعلم الناس وانه اذا سئل عن اعلم الناس يقول الله اعلم .
ومنها بيان أصل عظيم من أصول الاسلام وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه أكثر الناس وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر موضع الدلالة قتل الغلام فإن صورتهما صورة المنكر وكان صحيحا في نفس الامر له حكم بينة لكنها لا تظهر للخلق فاذا أعلمهم الله تعالى بها علموها ولهذا قال وما فعلته عن أمري يعني بل بأمر الله تعالى.اهـ. (1)
قال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم ، وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون ، ولا تكونوا من جبابرة العلماء ، ولا يقوم علمكم مع جهلكم .
وقال - رضي الله عنه - : كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم ، وسلوا الله رزق يوم بيوم ، ولا يضركم أن لا يكثر لكم . اهـ. (2)
وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كان يقال رأس التواضع الرضا بالدون من شرف المجلس .
قال بشر بن الحارث:إن الرئاسة تنزل من السماء فلا تصيب إلا رأس من لا يريدها.
وقال حبيب الجلاب : سألت ابن المبارك ما خير ما أعطي الإنسانُ؟ قال : غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن وضوء – أو أدب- قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل ، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل . (3)
وقال الشافعي رحمه الله : من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوِّره فعليه بالخلوة ، وقلة الأكل ، وترك مخالطة السفهاء، وبغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب . (4)
__________
(1) )) شرح النووي (15/146) .
(2) )) كتاب الزهد لابن أبي عاصم (1/118) .
(3) )) سير أعلام النبلاء (8/397) .
(4) )) مقدمة المجموع شرح المهذب (1/31) .(1/31)
وعن الحسين بن إسماعيل، عن ابيه، قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة الآف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الادب والسمت . (1)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه يوماً : أوصني يا أبتِ، فقال : يا بني أنوِ الخيرَ ، فإنك لا تزالُ بخير مذ نويتَ الخير .
قال ابن مفلح : وهذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول، سهلة الفهم والامتثال على السائل ، وفاعلُها ثوابُه دائمٌ مستمر لدوامها واستمرارها ، وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعاً، سواء تعلقت بالخالق أو بالمخلوق، وأنها يُثَاب عليها، ولم أجد في الثواب عليها خلافاً . (2)
وقال ابن المبارك رحمه الله : لا يَنْبُلُ الرجل بنوعٍ من العلم ما لم يزين علمه بالأدب . رواه الحاكم في تاريخه .
وقال ابن تيمية رحمه الله: والأدب هو الدين كله، فإن ستر العورة من الأدب، وغسل الجنابة من الأدب، والتطهر من الخبث من الأدب، حتى الوقوف بين يدي الله طاهراً ، ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي الله . (3)
وروي عنه أيضاً:طلبت العلم فأصبت منه شيئاً،وطلبت الأدب فإذا أهله قد ماتوا.
قال ابن عبد البر : قال الشاعر :
خير ما وَرَّثَ الرجالُ بنيهمُ أدبٌ صالحٌ وحسنُ الثناءِ
هو خيرٌ من الدَّنانير والأو راقِ في يوم شدَّةٍ أو رخاءِ
تلك تفنى والدِّينُ والأدب الصَّا لح لا يَفْنَيان حتى اللِّقاءِ
إن تَأَدَّبْتَ يا بنيَّ صَغيراً كنتَ يوماً تُعَدُّ في الكبراء (4)
??????
تزكية النفوس
باب
تزكية النفس
__________
(1) )) سير أعلام النبلاء (11/316) .
(2) )) الآداب الشرعية (1/159-160) طبعة الرسالة.
(3) )) مدارج السالكين (2/115) .
(4) )) الآداب الشرعية (4/208) طبعة الرسالة.(1/32)
تزكية النفس أمر خطير ، وهو من مداخل الشيطان ، فعلى المرء أن لا يزكي نفسه ولا يحب من الآخرين أن يمدحوه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بنفوسنا ، فقد قال تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } . (1)
قال القرطبي : - قوله تعالى -: { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها ، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع ، هو أعلم بمن اتقى أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله .
عن الحسن وغيره قال الحسن : قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة . اهـ . (2)
قال الأَزهري : الزَّكاةُ الصلاحُ ، ورجل تقيٌّ زَكِيٌّ أَي زاكٍ من قوم أَتْقياء أَزْكِياء ، وقد زكا زَكاءً وزُكُوًّا وزَكِيَ وتَزَكَّى ، وزَكَّاه اللَّه زَكَّى نفسه تَزْكِيةً مدَحها ، وفي حديث زينبَ كان اسمُها بَرَّةَ فغيَّره وقال تُزَكِّي نفسها.زَكَّى الرجل نفسَه إِذا وصفها وأَثنى عليها. وأَصل الزكاة في اللغة الطهارة والنَّماء والبَركةُ والمَدْح ، وكله قد استعمل في القرآن والحديث ، وقوله تعالى : { والذين هم للزَّكاةِ فاعلون } . (3) ؛ فالزَّكاة طُهرةٌ للأَموال ، وزَكاةُ
الفُطْرِ طهرةٌ للأَبدان ، وفي حديث الباقر أَنه قال : زَكاةُ الأَرض يُبْسُها ، يريد طَهارَتَها من النجاسة ، كَالبول وأَشباهه بأَن يجف ويذهب أَثَرُه. اهـ . (4)
__________
(1) )) سورة النجم الآية (32) .
(2) )) تفسير القرطبي (17/110) .
(3) )) سورة المؤمنون الآية (4)
(4) )) لسان العرب (14/358) .(1/33)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله : فصل في تزكية النفس ، وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات ، قال تعالى : { قد أفلح من زكاها" } . (1) ، و { قد أفلح من تزكى } . (2) قال قتادة ، وابن عيينة وغيرهما قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال ، وقال الفراء والزجاج : قد أفلحت نفس زكاها الله وقد خابت نفس دساها الله ، وكذلك ذكره الوالبي عن ابن عباس ، وهو منقطع و ليس هو مراد من الآية ، بل المراد بها الأول قطعا لفظا ومعنى ،أما اللفظ فقوله من زكاها اسم موصول ولا بد فيه من عائد ، والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم والتحذير من تدسيتها ،كقوله : "قد أفلح من تزكى" ، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهى ولا ترغيب ولا ترهيب ، والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول من جعله الله مؤمنا ، بل يقول قد أفلح المؤمنون قد أفلح من تزكى إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام الله ألا ترى أنه في مقام الأمر والنهى والترغيب والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد والوعيد والمدح والذم وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم إما بما ليس من أفعالهم وإما بإنعامه بالإيمان والعمل الصالح ويذكره في سياق قدرته
__________
(1) )) سورة الشمس الآية (9)
(2) )) سورة الأعلى الآية (14) .(1/34)
ومشيئته وأما فى معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم كقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى الآية فهنا مناسب وقوله قد أفلح من تزكى ، وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى ، والمقصود ذكر التزكية قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . (1) ، وقال: { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } . (2) ، وقال: { الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } . (3) ، وقال تعالى : { وَمَا عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى } . (4) وأصل الزكاة الزيادة في الخير ، ومنه يقال زكا الزرع . اهـ. (5)
وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . (6)
وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . (7) وعن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال : "سميت ابنتي برة ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم ،
وسميت برة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ، فقالوا: بم نسميها؟ قال : سموها زينب" . (8)
__________
(1) )) سورة النور الآية (30) .
(2) )) سورة النور الآية (28)
(3) )) سورة فصلت الآية (7) .
(4) )) سورة عبس الآية (7) .
(5) )) مجموع الفتاوى (10/625) .
(6) )) سورة آل عمران الآية (188) .
(7) )) سورة النساء الآية (49) .
(8) )) رواه مسلم برقم (2142)، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية ونحوهما .(1/35)
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وقوله تعالى فلا تزكوا أنفسكم يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكي من حسنت أفعاله وزكاه الله عزوجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا بم نسميها فقال سموها زينب ، فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية كزكي الدين ومحي الدين ، وما أشبه ذلك لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا . اهـ . (1)
جاء في كتاب إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد :
ذم الإنسان نفسَه واحتقارُهُ لها لِما يتحققه من عُيوبها وآفاتها مطلوب منه لأنه يؤديهِ إلى التفتيش عليها ومحاسبتها بِدقة ويؤدِيه أيضاً إلى الحذَرِ مِن غُرُورها وشرورها .
فتصلح بسبب ذلك أعمالُه وتصدقُ أحواله وتستقيم بإذن الله أموره وإلآ فسدتْ عليه واعتلّت لدخول الآفات عليها ولا يصُدنه عن ذلك مدح المادحين وثناء المتملقين لأنه يعلم من عيوب نفسه ما لا يعلمه غيره .
المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مُدِحَ وَأثني عليه وذُكِرَ طَرَفاً من مَحَاسِنِهِ اسْتَحْيَا من الله تعالى اسْتِحْيَا تعظيم وإجلال أن يُثنَى عليه بصفة لَيْسَتْ فيه . فيزدادُ بذلك مقتاً لنفسِهِ واستحقاراً لها ونُفُوراً عنها ويَقْوى عنده رؤيةُ إحسانِ الله تعالى إليه وشهودُه فضله عليه ومِنته في إظهار المحاسن عليه و-يشكر الله ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعد ولا تحصى .
__________
(1) )) تفسير القرطبي (5/246) .(1/36)
ستة خصال يرفع الله بها العبد :
1- العلم النافع .
2- والأدب المستفاد من الكتب والسنة .
3- والأمانة .
4- والعفة .
5- والصدق .
6- والوفاء .
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من جمع ستَّ خصالٍ لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً : أولهما من عرفَ الله فأطاعهُ .
2- وعرف الشيطان فعصاه .
3- وعَرَفَ الحقَّ فاتبعَهُ .
4- وعرفَ الباطلَ فاتقاه .
5 – وعرفَ الدنيا فرفضها .
6 – وعَرَفَ الآخرة فطلَبَها .
عمارة القلب في أربعة أشياء: في العلم، والتقوى، وطاعة الله ، وذكر الله .
وخراب القلب من أربعة أشياء : من الجهل، والمعصية، والاغترار، والغفلة .
ومجامع الهوى خمس : وهي في قول الله جل وعلا : { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ } . (1)
من علامات المعرفة بالله القيام بحقوق الله والتخلص من حقوق العباد ومن علامات محبة العبد لله إتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - .
جاء في الزبور : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام أن العاقل الحكيم لا يخلو من أربع ساعات، ساعة فيها يناجي ربه ، وساعة فيها يحاسب نفسه، وساعة يمشي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ، وساعة يُخَلِّي بين نفسه وبين لذاتها الحلال . (2)
__________
(1) )) سورة الحديد الآية (20) .
(2) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد بتصرف .(1/37)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى :خير الدنيا والآخرة في خمس خصال، غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، ولبس التقوى والثقة بالله عز وجل على كل حال، وقال للربيع عليك بالزهد، وقال أنفع الذخائر التقوى وأضرها العدوان، وقال من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي ويكون له خبئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل، وفي رواية فعليه بالخلوة ، وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء ، وقال يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها .
كان عبد الله بن المبارك في غزوة فنزلَ عند نهر ونصَبَ رُمْحَه ورَبَط فرسهُ وتوضأ وشرعَ يُصلي فلما سلم وجدَ فرسه أنها انففلت وأكلت من الزرع . فقال : أكلت فرسي حراماً فلا ينبغي لي أن أغزو عليها فتركها لصاحب الزرع واشترى غيرها وغزا عليها (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وفي الترمذي وغيره ، عنه - صلى الله عليه وسلم - "خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت، وفقه في الدين"، فجعل الفقه في الدين منافياً للنفاق بل لم يكن السلف يطلقون اسم الفقه إلا على العلم الذي يصحبه العمل، كما سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة،قال: أتقاهم .
__________
(1) )) تهذيب الأسماء واللغات (1/74).(1/38)
وسأل فرقد السنجي الحسن البصري عن شيء فأجابه ، فقال إن الفقهاء يخالفونك ، فقال الحسن ثكلتك أمك فُرَيْقِدُ وهل رأيت بعينيك فقيها ، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه ، الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علَّمه لله تعالى أجراً ، وقال بعض السلف إن الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يُؤْمِنْهم مكرَ الله ، ولم يدعِ القرآنَ رغبةً عنه إلى ما سواه ، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - بخشية الله علما ، وبالاغترار بالله جهلا ، قالوا فهذا القرآن والسنة ، وإطلاق السلف من الصحابة والتابعين يدل على إن العلم والمعرفة مستلزم للهداية ، وإن عدم الهداية دليل على الجهل وعدم العلم ، قالوا ويدل عليه إن الإنسان ما دام عقله معه لا يؤثر هلاك . (1)
وقال ابن قيم الجوزي: ومن المعلوم أيضاً أن الأرواح منها الخبيث الذى لا أخبث منه، ومنها الطيب، وبين ذلك، وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكى، والقلب الخسيس الخبيث، وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار والبرد والحر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التى تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو [بذروها] فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم كتخصيص الأرض الطيبة القابلة [للبذر] بالبذر، فليس من الحكمة أن يبذر البذر فى الصخور والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة فى المحال التى هى أخبث المحال. . (2)
الأدب مع الله تعالى ومع رسوله - صلى الله عليه وسلم -
باب
توحيد الله تعالى وصرف العبادة له
__________
(1) )) مفتاح دار السعادة (1/89) .
(2) )) طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/163) .(1/39)
على العبد أن يوحد الله تعالى في السر والعلن ولأجل هذا المقصد خلقنا الله سبحانه وتعالى، فقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . (1)
وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (2) .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حَرَّمه الله على النار". (3)
وعن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقاً من قلبه فيموت على ذلك إلا حَرُمَ على النار، لا إله إلا الله". (4)
وعن رفاعة الجهني - رضي الله عنه - قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بالكديد أو بقديد فحمد الله وقال: خيراً، وقال: "أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صدقاً من قلبه ثم يُسَدِّدُ إلا سلك في الجنة". (5)
وفي رواية لمسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار".
وقال الله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } (6)
__________
(1) )) سورة الذاريات الآية (56) .
(2) سورة الأنبياء الآية (25).
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس (5967)، وفي كتاب الاستئذان (6267)، وفي كتاب الرقاق برقم (6500)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (142) و (143).
(4) رواه الحاكم في المستدرك (1/351) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق ووافقه الذهبي، الجنائز (34).
(5) رواه أحمد بإسناد حسن، وقال الهيثمي في المجمع (1/20): "رواه أحمد وعند ابن ماجة بعضه ورجاله موثقون" .
(6) سورة البينة الآية (5).(1/40)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله عز وجل :
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } .
قال: وهذا هو حقيقة قول لا إله إلا الله وبذلك بعث جميع الرسل
قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (1) . أ.هـ. (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا قعوداً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا فأبطأ علينا
__________
(1) سورة الأنبياء الآية (25).
(2) مجموع الفتاوى .(1/41)
وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجةٍ والربيع الجدول فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبو هريرة؟" قلت: نعم يا رسول الله قال: "ما شأنك؟" قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول ن فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي فقال: "يا أبا هريرة!" وأعطاني نعليه وقال: "اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة". فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة! فقلت: هاتين نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني بهما من لقيت يشهد ان لا إله إلا الله مستيقناً بهما قلبه بشرته بالجنة قال: فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهشت بكاءً، وركبني عمر، وإذا هو على أثري فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مالك يا ابا هريرة؟" قلت: عمر فأخبرته بالذي بعثني به فضرب بين ثديي ضربةً خررت لاستي قال: ارجع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟" قال: يا رسول الله! بأبي وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة؟
قال: "نعم" قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكلم الناس عليها فخلهم يعملون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فخلهم". (1)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (146).(1/42)
(وفزعنا فقمنا) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الفزع يكون بمعنى الروع وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، قال: فتصح هذه المعاني الثلاثة أي ذعرا لاحتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنا.
"حائطا": بستاناً وسمي بذلك لأنه حائط لا سقف له.
(الجدول) بفتح الجيم وهو النهر الصغير.
(وخشينا أن يقتطع دوننا) أي: يصاب بمكروه من عدو إما بأسر وإما بغيره.
(فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) معناه: تضامت ليسعني المدخل.
وقوله (لاستي) فهو اسم من أسماء الدبر.
فأجهشت: بالجيم والشين المعجمة والهمزة والهاء مفتوحتان قال القاضي عياض رحمه الله: وهو أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد.
قوله (ركبني عمر) فمعناه : تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة.
(بأبي وأمي) معناه : أنت مفدي أو أفديك بأبي وأمي.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منهُ، والجنة حقٌ، والنارَ حق، أدخله الله الجنة على ما كانَ من العمل" (1) .
قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب -هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها. ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعاً. أ.هـ.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3435)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (28)(1/43)
وقال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصاً لمن قال ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة. أ.هـ.
وعن محمود بن الربيع قال : قدمت المدينة فلقيت عتبان فقلت له : حديث بلغني عنك قال : أصابني في بصري بعض الشيء فبعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فأتخذه مصلى قال فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن شاء الله
من أصحابه فدخل فهو يصلي في منزلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك ودوا أنه أصابه شر فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة وقال: "اليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟"قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال "لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه" قال أنس: فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني: اكتبه فكتبه (1) .
في الحديث جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وفيه التبرك بآثار الصالحين.
قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى في تعليقه على فتح الباري (552/1) : (هذا فيه نظر - أي كلام النووي- والصواب أن مثل هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما جعل الله فيه من البركة وغيره لا يقاس عليه لما بينهما من الفرق العظيم ولأن فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلو والشرك كما قد وقع من بعض الناس نسأل الله العافية. أ.هـ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة برقم (838) و (840)، وأخرجه في كتاب الجماعة والإمامة (667) و (686)، وكذلك في كتاب الصلاة برقم (424) و (425)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (148).(1/44)
"فخط لي مسجداً" أي : أعلم لي على موضع لأتخذه مسجداً أي موضعاً أجعل صلاتي فيه متبركاً بآثارك والله أعلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فقال: لا يا رب فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فيقول: أحضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفةٍ والبطاقة في كفةٍ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء" (1) .
قال ابن القيم: فالتوحيد يفتح للعبد باب الخير والسرور واللذة والفرح والابتهاج والتوبة استفراغ للأخلاط والمواد الفاسدة التي هي سبب أسقامه وحمية له من التخليط فهي تغلق عنه باب الشرور فيفتح له باب السعادة والخير بالتوحيد ويغلق باب الشرور بالتوبة والاستغفار . (2)
باب
النهي عن الشرك بالله تعالى
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ } . (3)
وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
وَمَأْوَاهُ النَّارُ } . (4)
وقال تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . (5)
والآيات في الباب كثيرة.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، حديث البطاقة.
(2) حاشية ابن القيم (1/154) .
(3) سورة النساء الآية (47).
(4) سورة المائدة الآية (72).
(5) سورة لقمان الآية (13).(1/45)
فالشرك هو أن تجعل لله نداً وهو خلقك وتعبد معه غيره وتصرف العبادة لغيره سبحانه وتعالى من شجر، أو حجر، أو بشر، أو قمر، أو نبي، أو شيخ، أو جني، أو نجم، أو مَلَكٍ وغير ذلك.
وسُئل - صلى الله عليه وسلم - : أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك". (1)
و (الند) هو: المثل.
قال تعالى: { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى: { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع المسلمين. (2) أ.هـ
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى –في معرض كلامه على أنواع الشرك-: النوع الأول: شرك أكبر مخرج عن الملة؛ وهو: "كل شرك أطلقه الشارع وهو مناف للتوحيد منافاة مطلقة" مثل أن يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله؛ بأن يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو أن يدعو غير الله تعالى؛ مثل أن يدعو صاحب قبر، أو يدعو غائباً لإنقاذه من أمر لا يقدر عليه إلا الحاضر. (3) أ.هـ
فالذي يموت مشركاً بالله تعالى والعياذ بالله فهو من أهل النار خالداً فيها.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (4207)، باب قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ، ومسلم برقم (86)، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده .
(2) مجموع الفتاوى (1/88).
(3) مجموع فتاوى ورسائل (7/115).(1/46)
وعن بن عباس رضي الله عنهما، قال : "شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد، فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ
يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } . (1) حتى فرغ من الآية كلها، ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك"، وقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله لا يدري الحسن من هي، قال: "فتصدقن، وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال" . (2)
و عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور"، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات". (4)
__________
(1) سورة الممتحنة الآية (12) .
(2) رواه البخاري برقم (4613) ، باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك، ومسلم برقم
(1866) ، باب كيفية بيعة النساء.
(3) رواه البخاري في كتاب الشهادات برقم (2654)، ومسلم في الإيمان برقم(87).
(4) رواه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2766)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (89).(1/47)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والإخلاص يعافيك منها.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "من الكبائر أربعة هي في القلب: الشرك بالله، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره".
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار". (1)
ومن أنواع الشرك المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين:
عبادة القبور: واعتقاد أن الأولياء الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات والاستعانة والاستغاثة بهم.
يقول الله عز وجل: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } . (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الكبائر سبعٌ أولُهُنَّ الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقِّها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وفرارُ يومِ الزحفِ، وقَذفُ المحصناتِ، والانتقالُ إلى الأعرابِ بعدَ هجرتِهِ". (4)
وكذلك من أنواع الشرك الأكبر الذبح لغير الله.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم برقم (129)، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (93)، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار .
(2) سورة الأحقاف الآية (5).
(3) رواه البخاري برقم (4227)، باب قوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله يعني أضدادا واحدها ند .
(4) رواه البزار من رواية عمرو بن أبي سلمة،حسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم(1848).(1/48)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لعن الله من ذبح لغير الله". (1)
وكذلك السحر والكهانة والعرافة.
قال الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } . (2)
فالسحر كفر، والساحر كافر وحكمه القتل وكسبه حرام.
وأما الكاهن والعراف فكلاهما كافر بالله العظيم إذا ادَّعيا علم الغيب ولا يعلم علم الغيب إلا الله تعالى.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". (3)
وأما الذي يذهب إليهم غير مصدق بأنهم يعلمون الغيب لا يكفر ولكن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً كفارة لما فعل.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلا
أربعين يوماً". (4)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مؤمن بسحر". (5)
ومن أنواع الشرك: الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس.
__________
(1) رواه مسلم برقم (1978).
(2) سورة البقرة الآية (102).
(3) رواه الإمام أحمد (2/429)، صحيح الجامع (5939).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1715).
(5) أخرجه النسائي في كتاب الأشربة (8/318) وأحمد في المسند (3/314) وصححه الحاكم كما في فتح الباري (10/405). وصححه العلامة الألباني في سنن النسائي برقم (5672).(1/49)
عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب". (1)
وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قال تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } - الأنفال (32) - وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية. (2) أ.هـ.
فمن أشرك بربوبية الله فزعم أن شيئاً في الوجود يشارك الله في الخلق والتدبير، والحياة والموت والرزق، والنفع والضر، وغير ذلك من خصائص الرب الخالق، فهو كافرٌ ومن أشرك بألوهية الله فزعم أن أحداً غير الله يستحق أن يُعبد من دون الله، أو عَبَدَ مع الله إلهاً آخر، أو تقرب إلى غير الله عز وجل بالعبادة، فهو كافر.
باب
النهي عن سب الدهر
نهانا الشارع الحكيم عن سبِّ الدهر لأن الله تعالى هو المتصرف به وهو الذي يقدره .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله تعالى: يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار".
وفي رواية: "أقلب ليله ونهاره وإذا شئت قبضتهما". (3)
__________
(1) رواه البخاري برقم (991)، باب قول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال بن عباس شكركم ، ومسلم برقم (71)، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء .
(2) مجموع الفتاوى (1/91).
(3) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6181)، ومسلم في كتاب الألفاظ برقم
(2246).(1/50)
كان من عادة الجاهلية إذا أصيبوا بنازلة أو مصيبة أن يسبوا الدهر، قاصدين بذلك مصرف الأمور وخالق الضر معترضين على مواقع القدر وكذلك فعل هذا بعض الجهلة من هذه الأمة فسبوا الدهر عند نزول المصيبة بهم فشابهوا أهل الجاهلية بقولهم، والعياذ بالله.
وفي رواية لمسلم: "لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر". (1)
فيه النهي عن سب الدهر لأن سب الدهر سبٌ للخالق سبحانه وتعالى لأنه هو خالق الدهر ومصرفه ومقلبه، فنهوا عن سب الدهر لكي لا يقعوا في سب خالقه سبحانه وتعالى.
وفي رواية للبخاري: "لا تسمّو العنب الكرم ولا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر". (2)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى : "تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ الدهر، وقال: "إنَّ الله هو الدهر" وفي حديث آخر: يقول الله عزوجل: "يُؤذيني ابنُ آدمَ فيسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ، بيدي أقلبُ الليل والنهارَ".
وفي حديث آخر: "لا يقولنَّ أحدكُم: يا خيبةَ الدَّهرِ" .
في هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة.
إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلقٌ مسَخرٌ من خلق الله، منقادٌ لأمره، مذللٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه.
الثانية: أن سبَّه متضمن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ من لايستحق الضرر، وأعطى من لا يستحقُّ العطاءَ، ورفع من لا يستحقُّ الرفعة، وحرم من لا يستحقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة في سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجهال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه.
الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبعَ الحقُّ فيها أهوائهم لفسدتِ السمواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، وحَمِدوا الدهرَ وأثنوا عليه.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2246) كتاب الألفاظ.
(2) فتح الباري كتاب الأدب برقم (6182).(1/51)
وفي حقيقة الأمر، فربُّ الدهر تعالى هو المعطي المانِعُ، الخافضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من شيء، فمسبتهم للدهر مسبَّة لله عزوجل، ولهذا كانت مؤذيةٌ للربِّ تعالى، كما في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قالَ اللهُ تعالى: يؤذيني ابن آدم يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ".
فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه للهِ، أو الشركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وأن اعتقد أن الله وحده الذي فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سب الله.
ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقولنَّ أَحدكُم: تَعِسَ الشيطانُ فإنهُ يتعاظم حتى يكون مِثلَ البيتِ، فيقول: بقوتي صرعتُهُ، ولكن ليقلْ: بسم اللهِ، فإنهُ يتصاغرُ حتى يكونَ مِثلَ الذبابِ".
ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللهُ الشيطان، وقبح اللهُ الشيطان، فإن ذلك كُلَّهُ يُفرِحُه ويقول: علم ابن آدم أني قد نِلته بقوتي، وذلك ممَّا يُعينه على إغوائه، ولا يُفيده شيئاً، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسَّه شيء من الشيطان أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه، ويستعيذ بالله منه، فإن ذلك أنفعُ له، وأغيظُ للشيطان". اهـ. . (1)
__________
(1) زاد المعاد .(1/52)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : "قال المحققون : من نسب شيئاً من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكنه يكره له ذلك لشبهة بأهل الكفر في الإطلاق، وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم: مطرنا بكذا، وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث "أنا الدهر أقلب ليله ونهاره" فكيف يقلب الشيء نفسه؟ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً" . أ هـ. (1)
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هل يقال هذا "زمان أقشر" أو "الزمن غدار" أو "يا خيبة الزمن الذي رأيتك فيه".
فأجاب رحمه الله قائلاً: هذه العبارات التي ذكرت في السؤال تقع على وجهين:
الوجه الأول: أن تكون سباً وقدحاً في الزمن فهذا حرام، ولا يجوز، لأن ما حصل في الزمن فهو من الله عز وجل، فمن سبّه فقد سبّ الله، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار".
والوجه الثاني: أن يقولها على سبيل الإخبار فهذا لا بأس به، ومنه قوله تعالى عن لوط عليه الصلاة والسلام: "وقال هذا يوم عصيب" (2) . أي شديد، وكل الناس يقولون: هذا يوم شديد، وهذا يوم فيه كذا وكذا من الأمور وليس فيه شيء.
وأما قوله: "هذا زمن غدار" فهذا سب لأن الغدر صفة ذم ولا يجوز.
__________
(1) فتح الباري (12 / 205)
(2) سورة هود الآية (77).(1/53)
وأما قول:"يا خيبة اليوم الذي رأيتك فيه" إذا قصد يا خيبتي أنا، فهذا لا بأس به، وليس سبا للدهر،وإن قصد الزمن أو اليوم فهذا سبٌ له فلا يجوز. (1) أ.هـ.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يَقُل أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدَّهر". (2)
باب
إخلاص النية لله تعالى في جميع الأعمال
الظاهرة والباطنة
يجب على العبد أن يخلص نيته لله تعالى في السر والعلانية، وأن لايخالط رياء ولا سمعة .
قال الله تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } (3)
فينبغي لمن أراد شيئاً من الطاعات وإن قلّ أن يُحضر النِّيةَ وهي أن يقصد بعملهِ رضا الله عزوجل وتكون نيَّتهُ حاضرةً حالَ العمل . (4)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". (5)
__________
(1) فتاوى العقيدة ( ص 614-615).
(2) صحيح الترغيب (3/65).
(3) سورة البينة الآية (5).
(4) أنظر إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد (ص5) للعلامة عبد العزيز المحمد السلمان .
(5) أخرجه البخاري في الإيمان (54)، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل أمرىء ما نوى ، ورواه مسلم في الإمارة برقم (1907)، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال .(1/54)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وجماع الهجرة هي هجرة السيئات وأهلها، وكذلك هجران الدعاة إلى البدع، وهجران الفساق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذي لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللواطية وتارك الجهاد وأهل البدع وشربة الخمر هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركاً للمأمور فاعلاً للمحظور، فهذا ترك المأمور من الاجتماع، وذلك فعل المحظور منه، فعوقب كل منهما بما يناسب جرمه، فإن العقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور، كما قال الفقهاء: إنما يشرع التعزير في معصية ليس فيها حد، فإن كان فيها كفارة فعلى قولين في مذهب أحمد وغيره . (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال -فيما يَروي عن ربه عز وجل-: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك في كتابه، فمن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عِنْدَه حسنة كاملةً، فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سَبْع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة".
زاد في رواية: "أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك". (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى (15/276) .
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6491)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم
(131).(1/55)
وفي راوية لمسلم قال: عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله عزوجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَراي". (1)
قوله: "من جَراي" أي: من أجلي، وهي بفتح الجيم وتشديد الراء، بالمد والقصر لغتان.
فيجب أن تكون الأعمال الظاهرة والباطنة خالصة لله تعالى من غير رياء ولا سمعة ولا يشرك أحد مع الله من خلقه.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك.
وقال بعض السلف: لا يقبل العمل إلا ما كان خالصاً صواباً.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما جاء يعوده: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك". (2)
قوله: (تبتغي بها وجه الله) أي: تقصد بها وجه الله عز وجل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وينبغي أن يستحضر النية في جميع العبادات (وتكون في القلب) فينوي مثلاً الوضوء وأنه توضأ لله امتثالا لأمر الله فهذه ثلاثة أشياء :
1- نية العبادة .
2- نية أن تكون لله .
3- نية أنه قام بها امتثالا لأمر الله .
فهذا أكمل شيء في النية، كذلك في الصلاة وفي كل العبادات .اهـ. (3)
وعن أنس رضي الله عنه قال: "رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر" (4) .
__________
(1) صحيح مسلم في كتاب الإيمان برقم (129).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2742)، ومسلم في كتاب الوصية برقم
(1628).
(3) )) شرح رياض الصالحين (1/10) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2839).(1/56)
وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فقال: إن بالمدينة لرجال ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض".
وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر". (1)
إن الإنسان إذا نوى العمل الصالح ولكنه حبسه العذر فإنه يكتب له أجر ما نوى كاملاً ويدل عليه قوله تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرةً ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . (2)
وعن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". (3)
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة برقم (1911).
(2) سورة التوبة الآية (120-121).
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2564).
(4) أخرجه البخاري في التوحيد برقم (7458)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1904).(1/57)
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران و كنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فجلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.(1/58)
قال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ وفي رواية (كنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء) فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي ما بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها وفي رواية (فلما قعدت بين رجليها) قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إليَّ أجري فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون". (1)
(الغار): النقب في الجبل.
(لا أغبق قبلهما) الغبوق: هو الشرب بالعشي والمراد انه كان لا يقدم على أبويه أحداً في طعام ولا شراب.
قوله: (فإذا أرحت عليهم حلبت) معناه: إذا أردت الماشية من المرعى إليهم وإلى موضع مبيتها وهو مراحها بضم الميم يقال: أرحت الماشية وروحتها بمعنى.
قوله: (نأى بي ذات يوم الشجر) وفي بعض الروايات باء بي فالأول: يجعل الهمزة قبل الألف وبه أكثر القراء السبعة والثاني: عكسه وهما لغتان وقراءتان ومعناه بعد والثاني البعد.
قوله: (فجئت بالحلاب) هو: بكسر الحاء وهو الإناء الذي يحلب فيه يسع حلبه ناقة ويقال له المحلب: بكسر الميم قال القاضي: وقد يريد بالحلاب هنا اللبن المحلوب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3465) وفي كتاب البيوع برقم
(2215)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2743).(1/59)
قوله: (والصبية يتضاغون) أي: يصيحون ويستغيثون من الجوع.
قوله: (فلم يزل ذلك دأبي) أي: حالي اللازمة.
الفرجة: بضم الفاء وفتحها ويقال لها أيضا فرج.
قوله: (وقعت بين رجليها) أي: جلست مجلس الرجل للوقاع.
قولها: (لا تفض الخاتم إلا بحقه) الخاتم: كناية عن بكارتها.
وقولها بحقه أي: بنكاح لا بزنا.
فيه أن الإخلاص في الأعمال من أسباب تفريج الكروب لأن كل منهم يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فأفرج عنا ما نحن فيه.
قوله: (انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها) قال الإمام النووي رحمة الله تعالى: استدل أصحابنا على أنه يدعو في حال كربه وفي حال دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم وذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم. أ.هـ. (1)
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الصدق والإخلاص؟ فقال: بهذا ارتفع القوم.
صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازاً، يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله قد أكل في السوق. (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع: "نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه، ثلاث لا يُغَل عليهن قلبُ امرئ مؤمنٍ: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم". (3)
قال في النهاية نَضَره ونضَّره وأنضَره: أي نعمه: ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره.
يُغل: هو من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
__________
(1) شرح مسلم .
(2) صفة الصفوة: 3/300.
(3) رواه البزار وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (3).(1/60)
وعن مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم". (1)
وعن أبي أمامة قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا شيء له" فأعادها ثلاث مرات، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا شيء له" ثم قال: "إن الله عزوجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه". (2)
وعن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما يُبعث الناس على نياتهم". (4)
وعن معن بن يزيد، رضي الله عنهما قال: "كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لك ما نويت يا يزيد؟ ولك ما أخذت يا معن!". (5)
__________
(1) رواه النسائي في الجهاد (6/45)،صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(5)
(2) رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، صححه الألباني في صحيح الترغيب(6).
(3) رواه الطبراني بإسناد لا بأس به وحسنه العلامة الألباني في صحيح الترغيب.
(4) رواه ابن ماجة بإسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(11).
(5) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1422).(1/61)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسَف بأولهم وآخرهم" قالت: قلت: يا رسول الله! كيف يُخسَف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم". (1)
أسواقهم: قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: جمع سوق وهي موضع البياعات والتقدير أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون كما في المدن.
وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثلاث أقسم عليهم وأحدثكم حديثا فاحفظوه قال: ما نقص مال عبدٍ من صدقةٍ ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقرأو كلمة نحوها وأحدثكم حديثاً فاحفظوه:
إنما الدنيا لأربعة نفر عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء". (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع برقم (118)، ومسلم في كتاب الفتن برقم
(2884).
(2) رواه أحمد والترمذي واللفظ له وقال: (حديث حسن صحيح) ورواه ابن ماجة، وصححه العلامة الألباني في الترغيب برقم (14).(1/62)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كُتِبَت". (1)
وعن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبتْهُ عيناهُ حتى أصبح كُتب له ما نوى وكان نومه صدقةً عليه من ربه". (2)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد عليَّ من نيتي.
وعن أبي حمزة الثُّمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به، ويقول: "إن صدقة السر تطفئ غضب الربّ عز وجل". (3)
وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: كان يحمل جُرُب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة! (4)
وعن ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فَقَدنا صدقة السرّ حتى مات علي بن الحسين. (5)
وعن سفيان قال: أخبرتني مرّيّة الربيع بن خُثيم قالت: كان عمل الربيع كلُّه سراً، إن كان ليجئُ الرجل وقد نشَر المصحف فيغطيه بثوبه.
وقال ابن الجوزي: كان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخل غطاه.
__________
(1) رواه مسلم برقم (128) ، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(2) رواه النسائي وابن ماجة بإسناد جيد ورواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (19).
(3) الحديث عن معاويى بن حيدة ، رواه الطبراني في الكبير، وقال الشيخ الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (888)، والسلسلة الصحيحة برقم (1908).
(4) صفة الصفوة (2/96).
(5) المصدر السابق.(1/63)
وعن جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء، وهو في آخر صلاته، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، قال جبير: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليُقْلَبُ عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه. (1)
وعن عبد الله بن مبارك قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلَّموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخَلْق. (2)
وقال علي بن الحسن بن شقيق: لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك ولا أحسن قراءة، ولا أكثر صلاة منه، كان يصلي الليل كله في السفر وغيره، وإنما ترك النوم في المحمل، لأنه كان يصلي، وكان الناس لا يدرون.
وكان أيوب بن كيسان السختياني يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. (3)
ويا معشر المتزهدين، إنه يعلمُ السر وما يخفى، أتُظْهِرونََ الفقر في لباسكم وأنتم تشتهون شهوات، وتُظهرون التخشُّعَ والبكاء في الجلوات دون الخلوات ، كان ابنُ سيرينَ يضحكُ ويقهقه فإذا خلا بكى فأكثر . وقال سفيان لصاحبه : ما أوقحكَ تُصلِّي والناسُ يرونَكَ؟
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مَْغَ الكلام ولا صبغَ الحواجيبِ
آه للمرائي من يوم يحصّلُ ما في الصدور، وهي النيات والعقائد، فالجزاء عليهما لا على الظواهر، فأفيقوا من سكرتكم، وتوبوا من زَلَّتكم، واستقيموا على الجادة { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي قال جَنبِ اللَّهِ } . (4) . (5)
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 6/383 وقال الذهبي: إسناده صحيح.
(2) صفة الصفوة: (4/122) .
(3) حلية الأولياء (3/8) .
(4) سورة الزمر الآية (56) .
(5) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/247) .(1/64)
قال العلامة عبد العزيز المحمد السلمان : ومن حُرِمَ النيةَ في هذه الأعمال فقد حُرِمَ خيراً كثيراً ، ومن وفق فقد أوتي فضلاً عظيماً، فنسأل الله العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد التفيق لذلك وسائر وجوه الخير .
وقال محمد بن واسع : لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلّ ما تحت خدهِ من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركتُ رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه . (1)
باب
الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى
قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } . (2)
قال ابن قيم الجوزية: وهي تسمى آية المحبة قال أبو سليمان الداراني لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله . (3)
وعن عبدالرحمن بن أبي قراد - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى و رسوله فأدوا إذا ائتمنتم، و اصدقوا إذا حدثتم، و أحسنوا جوار من جاوركم" . (4)
"إن أحببتم أن يحبكم اللّه تعالى" أي يعاملكم معاملة المحب لكم "ورسوله فأدوا" الأمانة "إذا ائتمنتم" عليها "واصدقوا إذا حدثتم" بحديث "وأحسنوا جوار من جاوركم" بكف طرق الأذى عنه ومعاملته بالإحسان وملاطفته وفي إفهامه أن من خان المانة وكذب ولم يحسن جوار جاره لا يحبه اللّه تعالى ولا رسوله بل هو بغيض عندهما .
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: فصل في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة :
__________
(1) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد بتصرف .
(2) سورة آل عمران الآية (31).
(3) مدارج السالكين (3/18-25) .
(4) رواه الطراني، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع حديث رقم(1409).(1/65)
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه .
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة .
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر .
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى .
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب .
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته .
السابع: وهو من أعجبها انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات .
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة .
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك .
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل .
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران:
1 - استعداد الروح لهذا الشأن .
2 - وانفتاح عين البصيرة وبالله التوفيق .(1/66)
قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة: "قل إن كنتم تحبون الله فايتبعوني يحببكم الله"، وقال يحبكم الله إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة ومحبته لكم منتفية . (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فصل وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه. والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب. قال تعالى: { أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . (2) وقال: { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . (3)
و «رحمته» اسم جامع لكل خير. «وعذابه» اسم جامع لكل شر. ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا لفدار امتزاج، فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر إلى وجه الله، كما في صحيح مسلم: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد. يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه» وهو الزيادة.
__________
(1) مدارج السالكين (3/18-25) .
(2) سورة الإسراء الآية (75).
(3) سورة البقرة الآية (218).(1/67)
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال؛ اعبدتك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك؛ وإنما عبدتك شوقا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية، أو من يقربها ويزعم أنه لا يتمتع بنفس رؤية الله، كما يقوله طائفة من المتفقه، فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . (1)
باب
الرياء وهو من النفاق
قال الله تعالى: { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } . (2)
وقال الله تعالى: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون } . (3)
وقال الله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } . (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية (152) .
(2) سورة النساء الآية (142).
(3) سورة الماعون الآية (4-6).
(4) سورة البقرة الآية (264).(1/68)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال جرئ فقد قيل ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمة فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار". (1)
جريء: هو بفتح الجيم وكسر الراء وبالمد أي: شجاع.
وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ به ومن يُرائي يُرائي الله به". (2)
قوله: "سمع" معناه: من أظهر عمله للناس رياءً أظهر الله نيته الفاسدة في عمله يوم القيامة، وفضحه على رؤوس الأشهاد.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1905)، والترمذي في الزهد برقم (2383)، والنسائي في الجهاد (6/23 و 24).
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6499)، ومسلم في كتاب الزهد برقم
(3986).(1/69)
وعن معاذ - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اليسير من الرياء شرك". (1)
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أُثني عليه وينقص إذا ذم به". (2)
وقال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك.
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً : "ألا أُخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" قالوا: بلى. قال: "الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يَرى من نظر رجل إليه". (3)
الخفي : ما كان في القلب مثل الرياء لأنه لا يتبين، إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى "شرك السرائر" وهذا هو الذي بينه الله بقوله :
{ يوم تبلى السرائر } (4) .
فيزين صلاته : أي يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه ابن ماجة برقم (3989) مطولاً، وابن أبي الدنيا، والحاكم في المستدرك (4/328و3/270)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/5)،والطبراني في الصغير(2/123) رقم(892 مع الروض الداني)وقال:لم يروه عن زبيد إلا الفياض ولا عنه إلا طلحة تفرد به إسحاق بن سليمان".وأخرجه من طريق صحيح الحاكم في المستدرك (1/4)، وعنه البيهقي في الأسماء والصفات(ص 499-500)،وصححه الحاكم .
(2) الكبائر للذهبي.
(3) أخرجه أحمد (3/30)، وابن ماجة في الزهد (2/1406)، والحاكم (4/329) وصححه، و رواه البيهقي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (30).
(4) سورة الطارق الآية (9).(1/70)
وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه؟ فقال: "الرياء، يقول الله عزوجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً". (1)
وعن يعلى بن شداد، عن أبيه قال: "كنا نعد الرياء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرك الأصغر". (2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن ناساً قالوا له: إنا ندخل على أمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عندهم، قال ابن عمر: "كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". (3)
وعن أبي هند الداريِّ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قام مقام رياء وسمعة، راءى الله به يوم القيامة وسَمَّع". (4)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أيها الناس! اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل".
فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله! قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه". (5)
__________
(1) أخرجه أحمد (5/428)، وابن أبي شيبة في الإيمانص 86، وقال الهيثمي في المجمع (10/222)، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن شبيب بن خالد وهو ثقة. وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (32).
(2) رواه البيهقي والحاكم (4/329) وقال: صحيح، وقال الشيخ الألباني : صحيح ، صحيح الترغيب رقم (35).
(3) رواه البخاري في كتاب الأحكام برقم (7178).
(4) رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وكذلك رواه البيهقي، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب برقم (24).
(5) رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (36).(1/71)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من راءى بشيء في الدنيا من عمله، وكله الله إليه يوم القيامة، وقال: انظر هل يُغني عنك شيئاً؟! (1)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سمَّع الناس بعمله، سمَّع الله به مسامع خلقه، وصغرَّه وحقَّره". (2)
قال القرافي رحمه الله : "الفرق الثاني والعشرون والمئة بين قاعدة الرياء في العبادة، وبين قاعدة التشريك فيها.
اعلم أن الرياء شرك وتشريك مع الله تعالى في طاعته، وهو موجب للمعصية والإثم والبطلان في تلك العبادة، فالرياء: إن يعمل المأمور به المتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله تعالى، وأن يعظمه الناس أو يعظمهم، فيصل إليه نفعهم أو يندفع به ضررهم". (3) أ.هـ
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يُقسيّ القلب، ويورث الضغائن. (4)
باب
السجود عند التحية أو الإنحناء
أما السجود فلا يرتاب عاقل ولا يشك في صرفه لله سبحانه وتعالى، دون غيره، فالسجود لله تعالى وحده، ولا يجوز صرفه لغيره سبحانه وتعالى، ولما كان السجود فيه من التعظيم ما فيه كان فعله لغير الله حراماً.
__________
(1) رواه البيهقي موقوفاً، وقال الشيخ الألباني صحيح موقوف، صحيح الترغيب رقم
(29).
(2) رواه الإمام أحمد (6509 و 6986 و 7085 – طبعة شاكر)، والطبراني في الكبير ، والبيهقي ، وقال الألباني: صحيح، صحيح الترغيب رقم (25).
(3) الفروق (3/22).
(4) سير أعلام النبلاء (10/28).(1/72)
والدليل على ذلك أنه لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "ما هذا يا معاذ؟" قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددتُ في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فلا تفعلوا فإني لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسُ محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه". (1)
وأما الانحناء عند التحية فكذلك لا ينبغي فعله إلا لله سبحانه وتعالى.
روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قال رجل: يا رسول الله أحدنا يلقى صديقه أينحني له؟ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا" قال: فيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا" قال: فيصافحه؟ قال: "نعم إن شاء". (2)
فالحديث يقتضي التحريم وهو صريح في النهي ولا يجوز الانحناء لمخلوق أبداً ولا يكون إلا للخالق جل وعلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما الانحناء عند التحية: فينهي عنه، كما في الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم سألوه عن الرجل يلقى أخاه ينحني له؟ قال : "لا" ، ولأن الركوع والسجود لا يجوز فعله إلا لله عز وجل". (3) أ. هـ
باب
النهي عن النذر
قال الله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } (4)
النذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحا: إلزام المكلف نفسه لله شيئاً غير واجب.
__________
(1) رواه أحمد (18913)، وابن ماجة (1853) واللفظ له، وقال الألباني: "حسن صحيح"، صحيح ابن ماجة رقم (1515).
(2) رواه الترمذي برقم (2728) وابن ماجة برقم (3702)، السلسلة الصحيحة رقم
(160).
(3) مجموع الفتاوى (1/377).
(4) سورة البقرة الآية (270).(1/73)
والنذر في الأصل مكروه بل وبعض العلماء يميل إلى تحريمه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، وقال: "لا يأتي بخير، وإنما يستخرج من البخيل". (1)
وفيه إلزام النفس بالوفاء بالنذر، أي من نذر فعليه أن يعمل ما ألزم نفسه به من النذر.
فعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟". قالوا: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أَوْفِ بنذرك، فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". (2)
فعلى المسلم أن لا ينذر، وإذا نذر فعليه بالوفاء، وأن لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، وهو ما جاء في الحديث وأن لا يؤدي ذلك بالتشبه بالكفار.
فعلى المسلم أن لا ينذر لما تقدم.
هذا بالنسبة إلى النذر لله تعالى، فمن باب أولى عدم جواز النذر لغير الله لأنه حرام، فمن نذر لله فعليه الوفاء، ومن نذر لغير الله فلا يجوز له الوفاء وعليه كفارة يمين.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "النَّذر نَذران: فما كان لله، فكفارتُهُ الوَفاء، وما كان للشيطان، فلا وفاء فيه، وعليه كفارةُ يمين". (3)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان (4/277)، ومسلم في كتاب النذر، باب النهي عن النذر (3/1260).
(2) رواه أبو داود في كتاب الإيمان والنذور (3/607)، والبيهقي في السنن(10/83) . وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3313).
(3) أخرجه ابن الجارود في المنتقى (935)، والبيهقي (10/72)، السلسلة الصحيحة رقم
(479).(1/74)
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإذا كان الحالف بغير الله قد أشرك، فكيف الناذر بغير الله؟ والنذر أعظم من الحلف ولهذا لو نذر لغير الله فلا يجب الوفاء به؛ باتفاق المسلمين. مثل أن ينذر لغير الله صلاة؛ أو صوما؛ أو حجا؛ أو عمرة؛ أو صدقة. (2)
وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أقسام النذر فقال :
الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من نذر أن يطيع الله، فليطعه". (3)
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "ومن نذر أن
يعصي الله فلا يعصيه" (4) ، وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله".
الثالث: ما يجري مجرى اليمين، وهو نذر المباح، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب، فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.
الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسُمي بهذا الاسم، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلاً فعلي لله نذر أن أصوم سنة، فالغرض من هذا التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل، فالناذر مخيّر بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفّر كفارة يمين، لأنه إن صام فقد وفى بنذره وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان والنذور (4/229).
(2) مجموع الفتاوى .
(3) من حديث عائشة السابق.
(4) من حديث عائشة السابق.(1/75)
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر، مثل أن يقول: لله علي نذر، فهذا كفارته يمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين". (1) أ.هـ. (2)
باب
النهي عن الدعاء لغير الله سبحانه وتعالى
نهانا الله سبحانه وتعالى أن نتوجه بالدعاء لغيره، وهو من الشرك والضلال والعياذ بالله، قال الله تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } . (3)
وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . (4)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". (5)
قوله: "احفظ الله يحفظك" يكون بحفظ شرعه ودينه بأن تتمثل لأوامره، وتجتنب نواهيه، وأن تتعلم العلم لتقوم به عبادتك ومعاملاتك وأن تكون إلى الله عز وجل، وهذا كله من حفظ الله.
__________
(1) رواه ابن ماجة برقم (2127)، والترمذي برقم (1528)، وأصله في مسلم برقم (1645). وصححه العلامة الألباني في سنن ابن ماجه برقم (2127).
(2) القول المفيد شرح كتاب التوحيد (1/237-238) .
(3) سورة يونس الآية (106-107).
(4) سورة الأحقاف الآية (5).
(5) مشكاة المصابيح برقم (5302).(1/76)
والله غني لا يحتاج لحفظ أحد، ولكن المراد بحفظ دينه وشريعته، فيحفظك الله تعالى في دينك وفي بدنك وفي أهلك ومالك، وأن يسلِّمك من الزيغ والضلال.
وقوله: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعِن بالله" أي: لا تطلب ولا تعتمد على أحد من المخلوقين، فالتوجه بالدعاء يكون لله تعالى لا لأحدٍ من خلقه، فالسؤال هو الدعاء، والاستعانة هو طلب العون، فلا تطلب العون من أي مخلوق كان، فيكون هذا لله وحده.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الدعاء هو العبادة". (1)
باب
النهي عن الاستسقاء بالأنواء
قال الله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } . (2)
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قِطران ودرع من جرب". (3)
وعن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية، في إثر السّماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله
أعلم. قال: "أصبح عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر الكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". (4)
الحديبية: بتخفيف الياء وتشديدها، والتخفيف أصح.
على إثر سماء: بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وهو المطر.
__________
(1) صححه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في المشكاة برقم (2230).
(2) سورة الواقعة الآية (82).
(3) رواه مسلم في كتاب الجنائز برقم (934).
(4) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء برقم (991)، وفي كتاب الصلاة برقم (10)، ومسلم في (كتاب الإيمان) برقم (228).(1/77)
والنوء: قال أبو عمرو بن الصلاح: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب، فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءاً، أي سقط وغاب، وقيل: أي نهض وطلع. أ.هـ. (1)
باب
النهي عن قول هذا من أهل الجنة أو من أهل النار
والتألي على الله تعالى وقول هلك الناس ونحوه
قال الله تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . (2)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البّر منكم". (3)
وعن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدّث "والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك". (4)
وعن سعد - رضي الله عنه - قال: "ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام". (5)
__________
(1) )) شرح النووي (2/249) .
(2) سورة الإسراء الآية (36)، وقد أخذت هذا الموضوع من كتاب حصائد الألسن.
(3) رواه مسلم في كتاب الآداب برقم (2142)، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن وتغيير اسم برة إلى زينب وجويرية .
(4) رواه مسلم (2623) وغيره.
(5) رواه البخاري برقم (3610)، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه .(1/78)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين وكان أحدهما مذنباً والآخر مجتهداً في العبادة وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصره، فقال: خلّني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟! فقال: والله لا يغفر الله لك أو يدخلك الله الجنة فقبض روحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً، وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الرجل هلك الناس، فهو أهلكهم). (2)
قال النووي رحمه الله: واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الازدراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه، كما قال لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا هكذا فسره الامام مالك وتابعه الناس عليه، وقال الخطابي: معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول مساويهم، ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم اي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه و رؤيته أنه خير منهم والله اعلم .اهـ. (3)
باب
النهي عن الاستغفار للمشركين والكفار
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، صحيح الجامع رقم (4455)، وانظر في تخريج الطحاوية برقم (364).
(2) رواه مسلم برقم (2623)، باب النهي من قول هلك الناس .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (16/175-176) .(1/79)
قال الله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } . (1)
وعن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل لا إله إلا الله كلمه أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل: : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ، وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } . (2) . (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية (113).
(2) سورة القصص الآية (56) .
(3) رواه مسلم برقم (24)، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل .(1/80)
قال النووي: هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يحوز، فإن قيل فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجوا وجهه: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فكيف يجتمع هذا مع منع الله تعالى رسوله والمؤمنين من طلب المغفرة للمشركين قيل له إن ذلك القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء. والدليل عليه ما رواه مسلم، عن عبدالله قال: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر عنه بأنه قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم والله أعلم، والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام . (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله، فقال صلى الله عليه وسلم : "استأذنت ربي في أن أغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الموت". (2)
باب
النهي عن كفران النعمة
قال الله تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } . (3)
وقال الله تعالى: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } . (4)
__________
(1) شرح النووي على مسلم (8/273) .
(2) رواه مسلم في كتاب الجنائز برقم (976)، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - عز وجل في زيارة قبر أمه .
(3) سورة لقمان الآية (14).
(4) سورة النحل الآية (83).(1/81)
وقال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } . (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألم تروا إلى ما قال ربّكم عز وجل؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق
منهم بها كافرين، يقولون: الكوكب، وبالكوكب". (2)
وعن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". (3)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يشكر الله من لا يشكر الناس". (4)
وقال بعض السلف، كفران النعمة من الكبائر وشكرها بالمجازاة أو بالدعاء .
باب
النهي عن الحلف بغير الله وقول أنا بريء من الإسلام
__________
(1) سورة الإنسان الآية (3).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (229)، والنسائي في كتاب الاستسقاء برقم
(15023).
(3) البخاري برقم (810)، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم برقم (71)، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء .
(4) أخرجه أحمد في المسند (2/258، 359، 303، 388، 461، 492)، والطيالسي المسند (2491)، وابن حبان رقم (2070 - موارد)، والبخاري في الأدب المفرد (65، 218)، وأبو داود رقم (4811)، والترمذي (1955)، وأبو نعيم في الحلية (9/22، 7/165، 8/389)، والطبراني في الكبير (1/162) و (2/408)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي تحفة الأشراف (3/424): حسن، وقال الهيثمي في المجمع (8/181)، وعزاه للطبراني في الأوسط: إسناده حسن، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع
(3/58)، و السلسلة الصحيحة رقم (667).(1/82)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركبٍ وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". (1)
ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، روى الترمذي: "أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يُحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". (2)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لأن أحلف بالله كاذباً أحبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره وأنا صادق". (3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لأن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد. وتوحيد معه كذب؛ خير من شرك معه صدق؛ ولهذا كان غاية الكذب أن يعدل بالشرك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا» وقرأ قوله تعالى: { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31]. (4)
ومنه الحلف بملة غير ملة الاسلام
فعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف بملةٍ غير الاسلام كاذباً فهو كما قال". (5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6108)، باب لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم في كتاب الأيمان برقم (1646)، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى .
(2) رواه الترمذي برقم (1535)، وقال: "حديث حسن"، وأحمد برقم (6036)، وأبو داود برقم (3251)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6204).
(3) صحيح الترغيب رقم (2953).
(4) مجموع الفتاوى .
(5) رواه البخاري في كتاب الأيمان برقم (6552)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم
(110).(1/83)
ومنه الحلف بالطلاق: لقد شاع على ألسنة بعض الناس الحلف بالطلاق، مثل أن يقول: علي الطلاق لأفعلن كذا، أو علي الطلاق ثلاثاً لا أفعله ونحو ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين في جواب له: أما أن يحلفوا بالطلاق مثل عليّ الطلاق أن تفعل كذا، أو علي الطلاق ألا تفعل كذا، أو أن فعلت كذا فامرأتي طالق، أو إن لم تفعل فامرأتي طالق، وما أشبه ذلك من الصيغ فإن هذا خلاف ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال كثير من أهل العلم بل أكثر أهل العلم: إنه إذا حنث في ذلك فإن الطلاق يلزمه وتطلق منه امرأته، وإن كان القول الراجح أن الطلاق إذا استعمل استعمال اليمين بأن كان القصد منه الحث على الشيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب أو التوكيد، فإن حكمه حكم اليمين لقول الله تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } . (1)
فجعل الله التحريم يميناَ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا لم ينو الطلاق إنما نوى اليمين أو نوى معنى اليمين، فإذا حنث فإنه يجزيه كفارة يمين، وهذا هو القول الراجح. (2) أ.هـ
ومنه الحلف بالأمانة: فعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف بالأمانة فليس منا". (3)
ومن ذلك الحلف بالنبي، وبالحياة، كأن يقول: (وحياتك) أو (وحياة فلان) وغير ذلك من الحلف بغير الله.
__________
(1) سورة التحريم الآية (1-2).
(2) فتاوى الشيخ ابن عثيمين (2/796).
(3) رواه أبو داود برقم (3253) واللفظ له، ورواه أحمد برقم (22471)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3253).(1/84)
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف فقال: إني برئ من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الاسلام سالماً". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي فهو يهودي، وإن قال: هو نصراني، فهو نصراني، وإن قال: هو برئ من الاسلام، فهو برئٌ من الإسلام، ومن دعى دعاء الجاهلية، فإنّه من جثا جهنم" قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: "وإن صام وصلى". (2)
جثا : جمع جثوة بالضم : وهو الشيء المجموع.
باب
النهي عن طلب رضى المخلوق على رضى الله تعالى
قال الله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ }
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومما يجب أن يعلم أنه لا يسوغ في العقل، ولا الدين طلب رضى المخلوقين لوجهين:
أحدهما: أن هذا غير ممكن. كما قال الشافعي رضي الله عنه: الناس غاية لا تدرك. فعليك بالأمر الذي يصلحك فألزمه، ودع ما سواه ولا تعانه.
والثاني: أنا مأمورون بأن نتحرى رضى الله ورسوله. كما قال تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } . (3) وعلينا أن نخاف الله فلا نخاف أحداً إلا الله كما قال تعالى:
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (2955).
(2) صحيح الترغيب رقم (2956).
(3) سورة التوبة الآية (62).(1/85)
{ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . (1) وقال: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُو?اْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } . (2) وقال: { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ الهيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } . (3)
{ وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُو?اْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ } . (4) فعلينا أن نخاف الله، ونتقيه في الناس: فلا نظلمهم بقلوبنا، ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا؛ ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به ورسوله خيفة منهم.
ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له كما كتبت عائشة إلى معاوية: «أما بعد؛ فإنه من التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، وعاد حامده من الناس ذاماً. ومن التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس». فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضى ربه، واجتناب سخطه والعاقبة له؛ ولا حوله ولا قوة إلا بالله. (5)
باب
التحذير من الأمن من مكر الله تعالى
قال الله تعالى: { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } . (6)
__________
(1) سورة آل عمران الآية (175).
(2) سورة المائدة الآية (44)
(3) سورة النحلالآية (51) .
(4) سورة البقرة الآية (41).
(5) مجموع الفتاوى (3/231-232) .
(6) سورة الأعراف الآية (99).(1/86)
وقال تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . (1) قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذه الآية: هؤلاء قوم كانوا يدمنون المعاصي ولا يتوبون ويتكلمون على المغفرة حتى خرجوا من الدنيا مفاليس، ثم قرأ : وذلكم ظنكم الذي ظننتم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . (2)
وقال تعالى: { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون } . (3)
وقال تعالى: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } . (4)
مبلسون: الإبلاس، اليأس من النجاة عند ورود الهلكة وقال ابن عباس: آيسوا من كل خير.
وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة اليائس الحزين.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك" فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن القلوب بين إصبعين من اصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء". (5)
وعن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنه استدراج» ثم تلا قول الله عز وجل: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } . (6)
__________
(1) سورة فصلت الآية (23) .
(2) تفسير القرطبي (15/353) .
(3) سورة الأنعام الآية (44).
(4) سورة يونس الآية (7).
(5) رواه الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم ، صحيح الجامع رقم (1685).
(6) صحيح الجامع رقم (561) .(1/87)
قوله : "استدراج" قال المناوي: أي أخذ بتدريج واستنزال من درجة إلى أخرى، فكلما فعل معصية قابلها بنعمة وأنساه الاستغفار فيدنيه من العذاب قليلاً قليلاً ثم يصبه عليه صباً . قال إمام الحرمين : إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على خطر ، فلا تدري ماذا يكون وما سبق لك في الغيب، ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. وقال علي - رضي الله عنه - :كم من مستدرج بالإحسان وكم من مفتون بحسن القول فيه. وكم من مغرور بالستر عليه، وقيل لذي النون :ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قال بالألطاف والكرامات { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وفي الحكم : خف من وجود إحسانه إليك ودوام إساءتك معه أن يكون ذلك استدراجاً . والاستدراج الأخذ بالتدريج لا مباغتة . والمراد هنا تقريب الله العبد إلى العقوبة شيئاً فشيئاً ، واستدراجه تعالى للعبد أنه كلما جدد ذنباً جدد له نعمة وأنساه الاستغفار فيزداد أشراً وبطراً فيندرج في المعاصي بسبب تواتر النعم عليه ظاناً أن تواترها تقريب من الله ، وإنما هو خذلان وتبعيد .اهـ. (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". (2)
باب
النهي عن اليأس من روح الله تعالى والقنوط
قال الله تعالى: { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } . (3)
وقال الله تعالى: { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } . (4)
__________
(1) فيض القدير .
(2) رواه البخاري في كتاب القدر برقم (6221) ، ومسلم برقم (2643)، كتاب القدر باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته .
(3) سورة الحج الآية (56).
(4) سورة يوسف الآية (87).(1/88)
وقال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . (1)
قال ابن كثير رحمه الله : هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كانت مثل زبد البحر . (2)
وروى عن إبن مسعود أنه قال: الكبائر أربعة: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله، دل عليها القرآن . (3)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى". (4)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" . (5)
__________
(1) سورة الزمر الآية (53).
(2) تفسير ابن كثير (4/59) .
(3) تفسير القرطبي (5/159) .
(4) رواه مسلم في صفة الجنة برقم(2877)،ورواه أبو داود في الجنائز رقم(2389).
(5) رواه الترمذي برقم (983) ، وقال:هذا حديث حسن غريب وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا.(1/89)
وبوب البخاري رحمه الله فقال : باب الرجاء مع الخوف .ثم قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار" . (1)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6104) .(1/90)
قال ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث : قوله باب الرجاء مع الخوف أي استحباب ذلك فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ولا في الخوف عن الرجاء لئلا يفضي في الأول الى المكر وفي الثاني الى القنوط وكل منهما مذموم المقصود من الرجاء أن من وقع منه تقصير فليحسن ظنه بالله ويرجو ان يمحو عنه ذنبه وكذا من وقع منه طاعة يرجو قبولها وأما من انهمك على المعصية راجياً عدم المؤاخذة بغير ندم ولا اقلاع فهذا في غرور وما أحسن قول أبي عثمان الجيزي من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل ومن علامة الشقاء أن تعصي وترجو أن تنجو، وقد أخرج بن ماجة من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه عن عائشة قلت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الذي يسرق ويزني؟ قال: لا ولكنه الذي يصوم ويخاف أن لا يقبله منه، وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل الأول أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الأشراف على الموت فاستحب قوم الإقتصار على الرجاء لما يتضمن من الافتقار الى الله تعالى ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله، وقال آخرون لا يهمل جانب الخوف أصلا بحيث يجزم بأنه آمن، ويؤيده ما أخرج الترمذي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت، فقال له كيف تجدك فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن الا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف . (1)
باب
النهي عن سؤال الكهان والعرافين
جاء النهي عن إتيان الكهنة والعرافين .
__________
(1) فتح الباري (11/301) .(1/91)
فعن صفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". (1)
وعن ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من اتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد". (2)
العراف : هو الذي يدعي علم الغيب ، و معرفة الأمور التي يستدل بها على مواضع السرقة ومكان الضالة وما شابه ذلك .
فالذهاب للكهنة والعرافين محرم وهو من الكبائر والعياذ بالله تعالى .
قال الخطابي في معالم السنن: كان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور، فمنهم من يزعم أن له رئيا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي استدراك ذلك بفهم أعطيه، ومنهم من يسمى عرافاًَ وهو اذي يزعم معرفة الأمور استدل بها كمعرفة من سرق الشيء الفلاني ومعرفة من يتهم به المرأة ونحو ذلك، ومنهم من يسمى المنجم كاهناً، قال : والحديث يشتمل على النهي عن اتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم فيما يدعونه .اهـ. (3)
باب
النهي عن التكذيب بالقدر
قال الله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } . (4)
قال الله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } . (5)
قال الله تعالى: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } . (6)
قال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ } . (7)
وقال تعالى: { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . (8)
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (2230)، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره، وهو في غاية المرام برقم (285).
(3) )) انظر شرح النووي (5/22) .
(4) سورة القمر الآية (49).
(5) سورة الصافات الآية (96).
(6) سورة الأعراف الآية (186).
(7) سورة الإنسان الآية (30).
(8) سورة الشمس الآية (8).(1/92)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل عليه السلام قال: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره". (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: المكذب بالقدر والزائد في كتاب الله والمتسلط بالجبروت والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرم الله والتارك لسنتي". (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنة عاق ولا مكذب بالقدر ولا مدمن خمر". (3)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القدرية مجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم". (4)
وقال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العباد وقهرهم على ما قدره وقضاه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من اكتساب العبد وتقدير أعماله وخلقه لها فهو علم شامل لما كان وما سيكون وفرق بين العلم بوقوع الشيء وتقديره وبين الإجبار عليه.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان رقم (50) ومسلم في الإيمان رقم (6).
(2) أخرجه الترمذي في أبواب القدر (2154) والحاكم في المستدرك (1/36) و (4/90 و 525)، والطبراني في الكبير (3/136) و الأوسط كما في مجمع الزوائد (7/205) وابن حبان (52 – موارد) وابن أبي عاصم في السنة (1/24 و 149) والطحاوي في مشكل الآثار (4/366) من طرق عن عائشة. وأخرجه الحاكم (4/525) من حديث علي بن أبي طالب، وصححه ووافقه الذهبي مرة وخالفه أخرى.
(3) سبق تخريجه.
(4) أخرجه أبو داود برقم (4691)، والبيهقي في الاعتقاد (ص 236)، والحاكم (1/85) وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ووافقه الذهبي. وحسنه العلامة الألباني في سنن ابي داود برقم (4691).(1/93)
وقال ابن عمر: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر". (1)
وعن نافع: أن ابن عمر - رضي الله عنه - جاءه رجل فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون في هذه الأمة خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر". (2)
وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويؤمن بالبعث ويؤمن بالقدر". (3)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم". (4)
__________
(1) أخرجه الحاكم المستدرك (1/84)، وأحمد في المسند (2/90) وابنه عبد الله السنة (2/140) من حديث عبد الله بن عمر رضي عنهما، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني صحيح الجامع برقم (3669).
(2) أخرجه الترمذي أبواب القدر (2152) و (2153) وأحمد في المسند (2/108 و 137) وابن ماجة في الفتن (2/1350) رقم (4061) والبغوي شرح السنة (1/151) رقم (82). وحسنه الألباني في سنن الترمذي برقم (2152).
(3) أخرجه الإمام أحمد المسند (1/97 و 133)، وابنه عبد الله السنة (1/122) ، والترمذي أبواب القدر (2145)، وابن ماجة المقدمة (1/32) رقم (81) والطيالسي المسند (106)، وابن حبان (130)، والحاكم المستدرك (1/32 - 33) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في سنن الترمذي برقم (2145).
(4) أخرجه ابن ماجة (92)، وابن عدي الكامل (1-190)، وابن أبي عاصم السنة (1/144)، والطبراني الصغير (1/221)، والآجري الشريعة (ص 190)، وابن الجوزي العلل المتناهية (1/160)، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجة برقم (92).(1/94)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "آخر كلام في القدر لشرار هذه الأمة". (1)
وعن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خلق الله كل صانع وصنعته". (2)
باب
التحاكم إلى الله تعالى والنهي عن الحكم بغيره
قال الله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } . (3)
وقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . (4)
وقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } . (5)
وقال الله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَالِمُوْنَ } . (6)
فالذي يجحد حكم الله سبحانه وتعالى يكون كافراً خارجاً من ملة الإسلام والعبادة بالله.
ومن حكم بغير حكم الله تعالى لهوى في نفسه فهذا سماه الله تعالى فاسقاً.
__________
(1) أخرجه الحاكم المستدرك (2/473)، والعقيلي الضعفاء الكبير (3/366) ، وابن أبي عاصم السنة (1/155) برقم (350)، السلسلة الصحيحة (1124)، وصحيح الجامع (226).
(2) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص 25)، وابن أبي عاصم السنة (357 و358)، والحاكم المستدرك (1/31)، والبيهقي الاعتقاد (ص 75)، والأسماء والصفات (ص 26 و 388)، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في التلخيص، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1637) وعزاه إلى المحاملي في الأمالي (ج6 رقم 13).
(3) سورة يوسف الآية (67) .
(4) سورة المائدة الآية (44).
(5) سورة المائدة الآية (45).
(6) سورة المائدة الآية (47).(1/95)
ونفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن الذين لا يحكمون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقسم بنفسه على ذلك وأن ينتفي الحرج من صدورهم والضيق ويسلموا تسليما حيث قال سبحانه وتعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } . (1)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
فهذه شروط ثلاثة لا يتم الإيمان إلا بها .
أولاً : تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والثاني : ألا يجد الإنسان حرجاً مما قضى به .
والثالث : أن يُسلم تسليماً تاماً بالغاً .
وبناء على هذا نقول : إن الذين يحكمون القوانين الآن ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما هم بمؤمنين ، ليسو بمؤمنين لقول الله تعالى { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } ، ولقوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . وهؤلاء المحكمون للقوانين لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة، لهوى أو لظلم، ولكنهم استبدلوا الدين بهذه القوانين ، جعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله، وهذا كفر حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله وهم يعلمون بحكم الله إلى هذه القوانين المحالفة له.
__________
(1) سورة النساء الآية (65).(1/96)
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } . فلا تستغرب إذا قلنا : إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولوا صام وصلى ؛ لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله ، فالشرع لا يتبعض ، إما أن تؤمن به جميعاً وإما أن تكفر به جميعاً، وإذا آمنت ببعض وكفرت، ببعض فأنت كافر بالجميع؛ لأن حالك تقول : إنك لا تؤمن بما يخالف هواك . وأما ما خالف هواك فلا تؤمن به هذا هو الكفر ، فأنت بذلك اتبعت الهوى ، واتخذت هواك إلهاً من دون الله .
فالحاصل أن المسألة خطيرة جداً ، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم فإنهم قد وضعوا قوانين تخالف الشرع وهم يعرفون الشريعة ولكن وضعوها والعياذ بالله تبعاً لأعداء الله من الكفرة الذين سنّوا هذه القوانين ومشى الناس عليها، والعجب أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم أنهم يعلمون أن واضع القوانين فلان بن فلان من الكفار ، في عصر قد اختلفت العصور عنه مئات السنين ، ثم هو في مكان يختلف عن مكان الأمة الإسلامية ، ثم هو في شعب يختلف عن الأمة الإسلامية، ومع ذلك يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأين الإسلام ؟ وأين الإيمان؟ وأين التصديق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه رسول للناس كافة؟ وأين التصديق بعموم رسالته وأنه عامه في كل شيء ؟ .(1/97)
كثير من الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله - عز وجل - فقط ، أو في الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وما يشبه ذلك ، وهم أخطئوا في هذا الظن ، الشريعة عامة في كل شيء ، وإذا شئت أن يتبين لك هذا ، فاسأل ما هي أطول آيه في كتاب الله ؟ سيقال لك : إن أطول آية هي آيه الدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْن ٍ..... } . كلها في المعاملات فكيف نقول : إن الشرع الإسلامي خاص بالعبادة أو بالأحوال الشخصية، هذا جهل وضلال ، إن كان عن عمد فهو ضلال واستكبار ، وإن كان عن جهل فهو قصور ويجب أن يتعلم الإنسان ويعرف .
المهم أن الإنسان لا يمكن أن يؤمن إلا بثلاث شروط : الأول تحكيم النبي - صلى الله عليه وسلم - والثاني : ألا يجد في صدره حرجاًَ ولا يضيق صدره بما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - والثالث : يسلم تسليماً ، وينقاد انقياد تام فبهذه الشروط الثلاثة يكون مؤمناً ، وإن لم تتم فإما أن يخرج من الإيمان مطلقاً وإما أن يكون ناقص الإيمان ، والله الموفق .اهـ. (1)
وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عليكم عبد حبشي فإنّه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". (2)
__________
(1) ) ) شرح رياض الصالحين (1/356) .
(2) أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وغيرهم وهو من الإرواء برقم (2455).(1/98)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". (1)
وعنه أيضا قال: قال عليه الصلاة والسلام: "حدّ يعمل به في الأرض، خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً". (2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، -وحسبت أن قد قال- والرجل راع في مال أبيه، ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعي ومسؤول عن رعيته". (3)
وعن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة:
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرّموا عليهم شيئا حرموه". (4)
باب
النهي عن سب الله وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم (6851) ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(2) رواه النسائي، وابن ماجة، وغيرهما، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (213).
(3) رواه البخاري (كتاب الجمعة برقم (2278)، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه، وبرقم (853)، باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم برقم(1829) ، باب == فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم .
(4) رواه الترمذي وغيره، وهو في صحيح سنن الترمذي برقم (2471)، وفي غاية المرام برقم (6).(1/99)
اعلم أخي المسلم أن من نواقض الإيمان، سب الله تعالى، أو سب الدِّين، أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ذلك يُوجب الكفر ظاهراً وباطناً، سواء استحل ذلك أو لم يستحل، ويُعد من أقبح وأشنع المكفِّرات القولية.
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } . (1)
في هذه الآية فرّق الله سبحانه وتعالى بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على أذية الله ورسوله اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، وجعل على أذية المؤمنين والمؤمنات أنهم احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان السَّاب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً، أو كان ذاهلاً من اعتقاده. (2)
وقال ابن رهويه: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام، أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بما أنزل الله.
فاحذر أخي المسلم أن تقع في هذا المزلق الخطير، وعليك أن تتجنب ما يغضب الله سبحانه وتعالى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى السؤال التالي:
هل يجوز لي البقاء بين قوم يسبُّون الله عز وجل؟
__________
(1) سورة الأحزاب الآية (57-58).
(2) الصارم المسلول.(1/100)
فأجاب رحمه الله: لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله عز وجل لقوله تعالى: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } (1) .أ.هـ
فعلى المسلم أن يحذر من مجالسة هؤلاء القوم، لكي لا يصيبه ما يصيب هؤلاء من العقوبة والإثم. والعياذ بالله.
باب
النهي عن الكذب على الله تعالى وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ } . (2)
وقال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . (3)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من يقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار". (4)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن كذباً عليّ ليس ككذب على غيري من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". (5)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من كذب عليّ بني له بيت في جهنم". (6)
__________
(1) سورة النساء الآية (140).
(2) سورة الزمر الآية (60).
(3) سورة الأنعام الآية (144).
(4) أخرجه أحمد (5/297) والدارمي (1/77) وابن ماجة (35) والطحاوي في مشكل الآثار (1/172) والحاكم في المستدرك (1/111)، السلسلة الصحيحة (1753).
(5) أخرجه البخاري في الجنائز(1291)،ومسلم في المقدمة (3) عن المغيرة بن شعبة.
(6) أخرجه أحمد (2/22 و 103 و 144)، وأبو نعيم ذكر أخبار أصبهان (2/80) والحاكم المدخل إلى الصحيح (ص 91).(1/101)
وقال عليه الصلاة والسلام: "يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب". (1)
وقال عليه الصلاة والسلام: "من روى عني حديثاً وهو يُرى أنه كذب فهو أحد الكذابين". (2)
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره: قد ذهب طائفة من العلماء الى أن الكذب على الله وعلى رسوله كفر ينقل عن الملة ولا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله في تحليل حرام وتحريم حلال كفر محض. أ.هـ. (3)
وعن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين". (4)
وعن هشام بن أبي رقية قال: سمعت مسلمة بن مخلد وهو على المنبر يخطُبُ الناس يقول: يا أيها الناسُ! أما لكم في العَصْب والكتانِ ما يُغنيكُم عن
الحرير؟ وهذا رجل يخبرُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُمْ يا عقبة! فقام عقبة بن عامر –وأنا أسمع- فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
وأشهدُ أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لَبِس الحرير في الدنيا،
حُرِمَه أن يَلبسه في الآخِرَةِ". (5)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/252) والبيهقي في السنن الكبرى (10/197) وعبد الرزاق في المصنف (11/161) وابن أبي الدنيا في الصمت رقم (472) و مكارم الأخلاق رقم (144)، و السنة لابن أبي عاصم رقم (114) والدارقطني في العلل (4/329) وابن أبي حاتم في العلل (2/328 – 329) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/217) والبيهقي في السنن الكبرى (10/197).
(2) أخرجه مسلم في المقدمة (1/9) والترمذي في كتاب العلم (2664) وابن ماجة في كتاب السنة (38).
(3) الكبائر للذهبي (ص70) .
(4) رواه مسلم في المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات برقم (1/9)، وغيره.
(5) رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم
(2052).(1/102)
العَصْب: بفتح العين وسكون الصاد مهملتين: هو ضرب من البُرود.
وعن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أعظم الفِرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُرى عينه ما لم تر، أو يقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل". (1)
باب
ما جاء فيمن تعلق شيئاً
عن يحيى بن الجزار ، قال : دخل عبد الله بن مسعود، على امرأة وفي عنقها شيء معقود ، فجذبه فقطعه ، ثم قال :لقد أصبح آلُ عبد الله أغنياء عن أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن الرقى والتمائم والتولة شركٌ". (2)
قال ابن حجر : والتمائم جمع تميمة ، وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات ، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر ، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله . ا هـ . (3)
عن عقبة بن عامر: انه جاء ركب عشرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايع تسعة، وأمسك عن رجل منهم، فقالوا: ما شأنه؟ فقال: "إن في عضده تميمة"، فقطع الرجل التميمة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "من علّق فقد أشرك". (4)
"التولة": بكسر المثناة فوق وبفتح الواو: شيء شبيه بالسحر أو من أنواعه، تفعله المرأة ليحبِّبها إلى زوجها.
__________
(1) رواه البخاري برقم (3317)، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل منهم أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة .
(2) الصحيحة (331و2972) ، غاية المرام (298) ، تخريج الإيمان(87/81) ،صحيح موارد الظمآن (1184) ، صحيح الترغيب رقم (3457) .
(3) فتح الباري (10/196) .
(4) صحيح الترغيب رقم (3455).(1/103)
وعن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: دخلت على عبد الله بن حكيم أبي معبد الجهني نعوده وبه حمرةٌ، فقلت: ألا تعلِّق شيئا؟ فقال: الموت أقرب من ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلَّق شيئا وكل إليه".
ورواه الترمذي إلا أنه قال:فقلنا:ألا تعلّق شيئا؟ فقال:الموت أقرب من ذلك. (1)
قال الخطابي : "التميمة" يقال : إنها خرزة كانوا يعلقونها، يرون أنها ترفع عنهم الآفات ، واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة ، إذ لا مانع إلا الله ، ولا دافع غيره . اهـ . (2)
باب
ما جاء في العين
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، أنه قال : اغتسل أبي سهل بن حنيف بـ(الخراز) ، فنزع جبة كانت عليه ؛ وعامر بن ربيعة ينظر ، قال وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد ، قال:
فقال عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، فوعك سهل فكأنه فاشتد وعكه ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر أن سهلاً وعك ، وأنه رائحٍ معك يا رسول الله ! فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"علام يقتل أحدكم أخاه ؟! ألا برّكت ؟! إن العين حقّ ، توضأ له".
فتوضأ له عامر بن ربيعة ، فراح سهل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس به بأس . (3)
عن أبي هريرة مرفوعاً ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "العينُ حقّ " . (4)
عن ابن عباس ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :"العينُ حق ، تستنزل الحالق ". (5)
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (3456).
(2) صحيح الترغيب (3/348).
(3) صحيح موارد الظمآن رقم (1193) ، الصحيحة رقم (2572) ، المشكاة رقم
(4562) ،الروض النضير رقم (1194) .
(4) أخرجه البخاري (10/166) ، ومسلم (7/13) .
(5) السلسلة الصحيحة رقم (1250) .(1/104)
عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه شيئاً يعجبه فليدع بالبركة ؛فأن العين حق". (1)
عن جابر بن عدي عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"العين تُدخل الرجل القبر ،والجمل القدر" . (2)
عن عائشة قال :أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كان يأمرني أن أسترقي من العين " . (3)
عن عائشة قالت ،أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كان يأمرها [يعني عائشة ]أن تسترقي من العين ". (4)
وعن جابر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله و قدره بالعين" . (5)
قال المناوي رحمه الله تعالى في تعليقه على هذا الحديث : "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء اللّه وقدره بالعين" ، وفي رواية "بالنفس" وفسر بالعين ، وذلك لأن هذه الأمة فضلت باليقين على سائر الأمم فحجبوا أنفسهم بالشهوات فعوقبوا بآفة العين ، فإذا نظر أحدهم بعين الغفلة كانت عينه أعظم والذم له ألزم { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُم } آل عمران الآية(73) ، فلما فضلهم اللّه باليقين لم يرض منهم أن ينظروا إلى الأشياء بعين الغفلة وتتعطل منة اللّه عليهم وتفضيله لهم.ذكره الحكيم . اهـ . فيض القدير .
وعن ابن عباس مرفوعاً : "العين حق ،ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" . (6)
__________
(1) أخرجه ابن ماجة (3509)،والنسائي في عمل اليوم والليلة(208)و(209) وهو حديث حسن.
(2) السلسلة الصحيحة (1249) .
(3) السلسلة الصحيحة (6/61) .
(4) أخرجه مسلم (7/17) .
(5) صحيح الجامع حديث رقم (1206) .
(6) أخرجه مسلم برقم (2188) ، والترمذي برقم (2062) ، وابن حبان (6107) ، واللفظ لمسلم .(1/105)
قال الإمام النووي : قال الإمام أبو عبد الله المازري : أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا العين حق ، وأنكره طوائف من المبتدعة ، والدليل عل فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه ، وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة ، قال وقد زعم بعض الطبائعين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالعين فيهلك أو يفسد ، قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين ، قال المازري : وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى ، وبينا فساد القول بالطبائع ، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئا ، وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ، ثم هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضا لأنه لا يقبل الانتقال وباطل أن يكون جوهرا لأن الجوهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسدا لبعضها بأولى من عكسه فبطل ما قالوه ، قال وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم أن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالعين وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم عادة أجراها الله تعالى وليست ضرورة ولا طبيعة ألجأ العقل إليها ، ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة الشخص لشخص آخر ، وهل ثم جواهر خفية أم لا هذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وبإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول ، أما ما(1/106)
يتعلق بعلم الفقه فان الشرع ورد بالوضوء لهذا الآمر في حديث سهل بن حنيف "لما
أصيب بالعين عند اغتساله فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائنه أن يتوضأ" . رواه مالك في الموطأ ، وصفة وضوء العائن عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء ولا يوضع القدح في الأرض فيأخذا منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمحها في القدح ، ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه ، ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفه اليمنى ثم بيمينه ماء يغسل به مرفقه الأيسر ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين ، ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى على الصفة المتقدمة وكل ذلك في القدح ثم داخلة إزاره وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن ، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج ، وجمهور العلماء على ما قدمناه فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه ، وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه ، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يدفع هذا بأن لا يعقل معناه ، قال وقد اختلف العلماء في العائن هل يجير على الوضوء للمعين أم لا ، واحتج من أوجبه بقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم هذه "وإذا استغسلتم فاغسلوا" .(1/107)
وبرواية الموطأ التي ذكرناها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالوضوء والأمر للوجوب ، قال المازري : والصحيح عندي الوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك ، وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبريء به ، أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ، ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك ، وقد تقرر أنه يجير على بذل الطعام للمضطر فهذا أولى ، وبهذا التقرير يرتفع الخلاف فيه هذا آخر كلام المازري ، قال القاضي عياض بعد أن ذكر قول المازري الذي حكيته ، بقى من تفسير هذا الغسل على قول الجمهور وما فسره به الزهري ، وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ، ومضى به العمل أن غسل العائن وجهه إنما هو صبه وأخذه بيده اليمنى ، وكذلك باقي أعضائه إنما هو صبه على ذلك الوضوء في القدح ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره.اهـ. (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين". (2)
قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى : وهذا من الطب الشرعي المتلقى بالقبول عند أهل الإيمان ، وقد تكلم بعضهم في حكمة ذلك ، ومعلوم أن ثم خواص استأثر الله بعلمها فلا بد مثل هذا ولا يعارضه شيء ، ولا ينفع مثل هذا إلا من أخذه بالقبول واعتقادٍ حسن، لا مع شك وتجربة.اهـ. (3)
باب
المحافظة على السنة وآدابها والتمسك بها
قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } . (4)
وقال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . (5)
__________
(1) شرح مسلم (14/171) .
(2) السلسلة الصحيحة رقم (2522) .
(3) الآداب الشرعية (3/58).
(4) سورة آل عمران الآية (31).
(5) سورة النساء الآية (80).(1/108)
وقال تعالى: { إنما قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } . (1)
وقال الله تعالى: { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } إلى قوله تعالى { واتبعوه لعلكم تهتدون } . (2)
والآيات في الباب كثيرة.
فالمحبة تكون بالإتباع والنصرة وليس بالكلام فقط كما هي طبيعة المنافقين، فتكون نتيجة الإتباع هي المحبة من الله تعالى وغفران الذنوب.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وأما الأدب مع الرسول صلى الله علينه وسلم فالقرآن مملوء به .
فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق ، دون أن يحمله معارضة خيال باطل، يسميه معقولا، أو يحمله شببهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال، وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل . (3)
وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". (4)
__________
(1) سورة النور الآية (51-52).
(2) سورة الأعراف الآية (157-158).
(3) مدارج السالكين (2/117) .
(4) أخرجه أبو داود برقم (4607) والترمذي برقم (2676) وابن ماجة برقم (43و44) من طريق عبد الرحمن عن عمرو السلمي، وصححه الألباني في الإرواء(2455)== ==والطحاوية (501)، وصحيح الترغيب (34)، والسنة (31، 54، 1037 – 1045)، والمشكاة (165).(1/109)
النواجذ: بالذال المعجمة: الأنياب وقيل: الأضراس، ومعناه: ألزموا السنة واحرصوا عليها كما يلزم العاض بنواجذه الشيء حرصا عليه وخوفا من ذهابه.
موعظة: هي النصح والتذكير بالعواقب.
بليغة: مؤثرة تبلغ سويداء القلب.
وجلت: خافت.
ذرفت: سالت.
النجاة في زمن ووقت الغربة والإختلاف هو بالتزام كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفهم اصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال، خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" قالوا: بلى: قال: "إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً". (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر شهيد". (2)
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لكل عمر شرةً ولكل شرةٍ فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك". (3)
الشرة بكسر الشين المعجمة هو النشاط والهمة.
__________
(1) رواه الطبراني بإسناد جيد، قال في المجمع (1/169): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح،وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(38)
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/132) (رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجم له وبقية رجاله ثقات).
(3) رواه ابن حبان، صحيح الترغيب رقم (55،56)، والسنة (51).(1/110)
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث يوماً: "اعلم يا بلال" قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: "اعلم أن من أحيا سنة من سنتي قد أُميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً". (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى". (2)
تكون نجاة المرء في الدنيا والآخرة باتباع هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعن أبي شريح الخزاعي قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟" قالوا: بلى. قال: "إن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً". (3)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "الاقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة". (4)
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مرعوب فقال: "أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله، أحِلوا حلاله وحرموا حرامه". (5)
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وقال: (حديث حسن).
(2) أخرجه البخاري برقم (6851)، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(3) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد وصححه الألباني في الترغيب برقم (35).
(4) رواه الحاكم موقوفاً وقال : (إسناده صحيح على شرطهما) ، وهو في صحيح الترغيب برقم (37) .
(5) رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات، صحيح الترغيب (38).(1/111)
وعن عبد الله بن مسعود قال: "إن هذا القرآن شافع مشفع، من اتبعه قاده إلى الجنة، ومن تركه أو أعرض عنه (أو كلمة نحوها) زخَّ في قفاه إلى النار". (1)
زخ بالزاي والخاء المعجمتين أي دفع.
وعن عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبل الحجر (يعني الأسود) ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك". (2)
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباعٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. أ.هـ. (3)
وعن مجاهد قال: "كنا مع ابن عمر رحمه الله في سفر فمر بمكان فحاد عنه فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا ففعلت". (4)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك". (5)
وعن واثلة بن الأسقع - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها ما عُمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك، ومن سن سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك، ومن مات مرابطاً جرى عليه عمل المرابط حتى يبعث يوم القيامة". (6)
__________
(1) رواه البزار موقوفاً على ابن مسعود، صحيح الترغيب (39).
(2) رواه البخاري في كتاب الحج برقم(1597)،ومسلم في كتاب الحج برقم(1270)
(3) )) فتح الباري (3/463) .
(4) صحيح الترغيب برقم (43).
(5) صححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب (44).
(6) حسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (62).(1/112)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذا الخير خزائن وتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لمن جعله الله عز وجل مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دَعَا إلى هدَّى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". (2)
قال بن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث أبلغ شيء في فضل تعليم العلم اليوم والدعاء إليه وإلى جميع سبل الخير والبر . (3)
باب
النهي عن البدع
حذرنا الشارع الحكيم أشد التحذير من الابتداع أو إحداث شيء في الدين، وقد جاء ذلك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة .
قال الله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (4)
وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (5)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا، ما ليس فيه، فهو رد". (6)
قوله: "أحدث" أي: أتى بشئ جديد.
"في أمرنا" أي: في ديننا.
"ما ليس منه" أي: باعتبار الشرع.
__________
(1) رواه ابن ماجة واللفظ له وابن أبي عاصم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (62).
(2) رواه مسلم في كتاب العلم برقم (2674)، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة .
(3) تنوير الحوالك (1/170) ، وشرح الزرقاني (2/62) .
(4) سورة النساء الآية (59).
(5) سورة آل عمران الآية (31).
(6) البخاري برقم(2550)، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، ومسلم برقم (1718) ، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .(1/113)
"رد" بمعنى: مردود، أي لا يقبل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم "أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية" قال سبحانه: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه } . وهذا إنكار عليهم. (1)
وعلى العكس من ذلك فالأصل في المعاملات والأفعال والأعيان الإباحة والحل حتى يقوم دليل على المنع.
وهذا الحديث ورد في العبادات وهي التي يقصد الإنسان بها التعبد والتقرب إلى الله، فتقول لمن يزعم شيئاً عبادة: هات الدليل على أن هذا عبادة، وإلا فقولك مردود (2) .أهـ.
وفي الحديث الذي يرويه العرباض بن سارية - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر علكيم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته". (4)
يدع بدعته بأن يتوب إلى الله تعالى، ويندم على ما وقع منه في الابتداع في الدين، ويرجع إلى مذهب الحق، وهو ما عليه أهل السنة والجماعة .
باب
من ترك السنة أو سنَّ سنة سيئة أو دعا إلى ضلالة
__________
(1) سورة الطلاق الآية (6).
(2) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (5/259).
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والدارمي وغيرهم وهو من الإرواء برقم (2455).
(4) رواه الطبراني وغيره، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (51)، والسلسلة الصحيحة رقم (1620).(1/114)
قال الله تعالى: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . (1)
وقال تعالى: { وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم } . (2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (3)
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دنيا أو ضياعاً فإليّ و عليّ". (4)
(الضياع) : العيال، والمراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع.
وزاد النسائي وابن خزيمة : "وكل ضلالة في النار". (5)
(إذا خطب احمرت عياه وعلا صوته) الخ، قال الألباني رحمه الله: يفعل عليه الصلاة والسلام ذلك حال الخطبة إزالة للغفلة من قلوب الناس، ليتمكن فيها كلامه - صلى الله عليه وسلم - كل التمكن، أو ليتوجه فكره إلى الموعظة فتظهر عليها آثار الهيبة الإلهية. أ.هـ. (6)
قوله (صبحكم ومساكم) هو بتشديد الباء في الأولى أي: نزل بكم العدو صباحاً، والمراد سينزل وبتشديد السين المهملة في الثاني.
__________
(1) سورة القصص الآية (50).
(2) سورة الأنعام الآية (119).
(3) رواه البخاري في كتاب الصلح برقم (2697)، ومسلم في كتاب الأقضية برقم
(1718).
(4) رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (867)، وابن ماجة وغيرهما.
(5) رواه النسائي (1/234)، وابن خزيمة في صحيحه (3/143/ 1785) وغيرهما، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب برقم (50).
(6) صحيح الترغيب (1/128) .(1/115)
قوله (محدثاتها) بفتح الدال، والمراد بها ما لا أصل له في الدين مما أحدث بعده - صلى الله عليه وسلم - .
(ضياعاً) بفتح الضاد المعجمة : العيال وأصله مصدره أو بكسرها: جمع ضائع، كجياع جمع جائع، والله أعلم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "... ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه في الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". (2)
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستتفرق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". (3) أي: الصحابة كما في بعض الروايات.
وفي رواية: "هي ما أنا عليه وأصحابي". (4)
ورواه أبو داود وزاد في رواية: "وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، ولا يبقى من عرق ولا مفصل إلا دخله". (5)
(الكلب) بفتح الكاف واللام، قال الخطابي: هو داء يعرض الإنسان من عضة الكلْب الكَلِب، قال: وعلامة ذلك في الكلب أن تحمر عيناه، ولا يزال يُدخل ذنبه بين رجليه، فإذا رأى إنساناً ساوَرَه: أي وثب عليه.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1017)، والنسائي في كتاب الزكاة برقم(75و 76).
(2) رواه مسلم في كتاب العلم برقم (2674) .
(3) رواه أحمد، وأبو داود، وقال الألباني:حسن صحيح،صحيح الترغيب رقم(51).
(4) رواه الترمذي وغيره: السلسلة الصحيحة.
(5) رواه أبو داود برقم (4597) وأحمد (4/102)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (51).(1/116)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله حَجَبَ التوبة عن كلِّ صاحب بدعة حتى يَدَع بِدْعَته". (1)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رَغِبَ عن سنتي فليس مني". (2)
(رغب) الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك". (3)
(البيضاء) أي: الملة الواضحة التي لا تقبل الشبه أصلاً.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لكل عمل شرَّة، ولكل شِرةٍ فترةٌ، فمن كانت فترتُه إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هَلَكَ". (4)
__________
(1) رواه الطبراني بإسناد حسن، أخرجه في الأوسط (5/113/ 4214 – ط)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1620)، وصحيح الترغيب (54).
(2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح برقم (5063)، ومسلم في كتاب برقم (1401)، والحديث قطعه من حديث الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبادته.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (48)، وأحمد وابن ماجة والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (59).
(4) رواه أحمد والطحاوي بإسنادين صحيحين عن عبد الله بن عمرو، وابن أبي عاصم، وابن حبان في صحيحهوصححه الألباني في تخريج السنة برقم (51)والترغيب برقم(56).(1/117)
وفي رواية عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل عمل شرَّةٌ، ولكل شرّة فترة، فإن كان صاحبُها سدّد أو قارب فأرجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعُدّوه". (1)
(الشّرَّة) بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء، وبعدها تاء تأنيث: هي النشاط والهمة، وشرة الشباب: أوله وحدّته.
وعن أبي برزة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغيّ في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى". (2)
وعن عمرو بن زرارة قال: وقف عليَّ عبد الله – يعني ابن مسعود - وأنا أقُصُّ، فقال: يا عمرو! لقد ابتدعت بدعةً ضلالةً، أو إنّك لأهدى من محمدٍ وأصحابه! فلقد رأيتُهم تفرّقوا عني حتى رأيت مكاني ما فيه أحدٌ. (3)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من نفس تُقتَل ظلماً إلا كان على ابن آدَمَ الأول كِفلٌ من دَمِها، لأنه أول من سن القتل". (4)
كفل : أي الضعف .
قال النووي: وهذا الحديث من قواعد الإسلام وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيأ من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة،
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه، والطحاوي، وصححه الألباني صحيح الترغيب برقم (57).
(2) رواه أحمد والبزار والطبراني في معاجمه الثلاثة، وقال الألباني:صحيح ، صحيح الترغيب برقم (52).
(3) أخرجه الدارمي، والطبراني في الكبير، وقال الألباني: صحيح لغيره موقوف ، صحيح الترغيب رقم (60).
(4) رواه البخاري في كتاب الاعتصام برقم (7321)، وفي كتاب الأنبياء برقم
(3335)، ورواه مسلم في كتاب القسامة برقم (1677).(1/118)
وللحديث الصحيح من دل على خير فله مثل أجر فاعله ، وللحديث الصحيح ما من داع يدعو إلى هدى وما من داع يدعو إلى ضلالة والله أعلم . اهـ. (1)
باب
الترغيب في البداءة بالخير ليستن به.
عن جرير - صلى الله عليه وسلم - قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه قوم عراة مجتابي النمار والعباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } إلى قوله { إن الله كان عليكم رقيبا } (2) والآية التي في الحشر: { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } (3) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفَّه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبه" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". (4)
(مجتابي) بالجيم الساكنة ثم تاء مثناة وبعد الألف باء موحدة، الجوب: القطع.
(النمار)جمع نمرة وهي كساء من صوف مخطط أي:لابسي النمار قد خرقوها في رؤوسهم.
(تمعر) بالعين المهملة المشددة أي تغير.
(كأنه مذهبه..) أي: ظهور البشر في وجهه - صلى الله عليه وسلم - حتى استنار وأشرق من السرور.
__________
(1) شرح النووي (11/166) .
(2) سورة النساء الآية (1).
(3) سورة الحشر الآية (18).
(4) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1017)، والنسائي وابن ماجة والترمذي.(1/119)
و (المذهبة) صفيحة منقشة بالذهب، أو ورقة من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنة وتلألؤه.
وعن حذيفة - صلى الله عليه وسلم - قال: سأل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمسك القوم، ثم إن رجلاً أعطاه فأعطى القوم فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "من سنَّ خيراً فاستُنَّ به كان له أجرُه ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ شراً فاستُنَّ به كان عليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً". (1)
باب
ثواب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال الله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } (2) .
هذه الآية شَرَّفَ الله سبحانه وتعالى بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وموته وذكر منزلته منه وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء.
فيستحب أن يكررر الكاتب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما كتبه ويكتبها كاملة ولا يقتصرها كما يفعل البعض فيكتبها هكذا (صلعم) أو يكتبها (ص).
ويستحب إذا صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين الصلاة والتسليم ولا يقتصر على أحدهما وهذا ظاهر في الآية.
وذكر ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى : في كتابه العظيم (جلاء الأفهام) تسعاً وتسعين فائدة يحصل عليها المصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - منها:
__________
(1) رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (59).
(2) سورة الأحزاب الآية (56).(1/120)
يصلي الله عليه بكل صلاة عشر صلوات وترفع له عشر درجات ويكتب له عشر حسنات وتمحى عنه عشر سيئات ويرجى إجابة دعائه إذا بدأه بحمد الله ثم - صلى الله عليه وسلم - بعدها وختم دعاءه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبب لنيل شفاعته - صلى الله عليه وسلم - وسبب لغفران الذنب وذهاب الهم والغم وقضاء الحوائج ، وتكون سبب للقرب منه عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.
وتكون سبب لطيب المجلس، وسبب لتثبيت القدم على الصراط ونور على الصراط وبركة على المصلى في عمره وأسباب مصالحه.
وسبب لنيل رحمة الله وسبب لهداية المصلي عليه وحياة قلبه، ويقول رحمه الله تعالى: (فكلما أكثر العبد من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - استولت محبته على قلبه حتى لا يبقى في قلبه معارضة شيء من أوامر ولا شك في شيء مما جاء به بل يصير ما جاء به مكتوباً مسطوراً في قلبه ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه وكلما ازداد في ذلك بصيرة ومعرفة ازدادت صلاته عليه - صلى الله عليه وسلم - فذكره - صلى الله عليه وسلم - وذكر ما جاء به وحمد الله سبحانه على أنعامه علينا ومنته بإرساله هو حياة الوجود وروحه". أ هـ.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى علي صلاة - صلى الله عليه وسلم - عليه بها عشراً" (1) .
فيه الحث على الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الأجر العظيم والخير العميم، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبب في رحمة الله للعبد.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (284) وأبو داود والترمذي .(1/121)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" (1) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطّ عنه بها عشر سيئات ورفعه بها عشر درجات" (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحدٍ يسلم علي إلا ردَّ الله إلي روحى حتى أرد عليه السلام" (3) .
وعن مكحول عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكثروا عليَّ من الصلاة في يوم الجمعة فإن صلاة أمتي تعرض عليَّ في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة" (4) .
__________
(1) رواه الترمذي برقم (484) وابن حبان برقم (908) . المشكاة (923) وقال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (حسن لغيره) رقم (1668) .
(2) رواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وقال (صحيح الإسناد)، وصححه الألباني في المشكاة (922) فضل الصلاة (12211)، الترغيب (1657) .
(3) رواه أحمد وأبو داود ، المشكاة (625) النقد (47) التوسل(64) الآيات (43، 44)، صحيح الترغيب (1666) .
(4) رواه البيهقفي في الشعب بإسناد حسن ، الصحيحة : (1527) ، الإرواء (4)، فضل الصلاة (40). وصحيح الترغيب برقم (1673).(1/122)
وعن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " قال أُبي بن كعب: فقلت يا رسول الله : إني أُكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي قال: "ما شئت" قلت: الربع؟ قال: "ماشئت وإن زدت فهو خير" قلت: النصف قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير" قال: أجعل لك صلاتي كلها قال: " إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك" (1) .
المراد بالصلاة في هذا الحديث الدعاء.
استحباب كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي ليلته لقوله عليه الصلاة والسلام "أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة وليلة الجمعة" (2) .
من حديث أنس رضي الله عنه بزيادة "... فمن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً" (3) .
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنام ويوم الجمعة سيد الأيام فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فأما نالته على يده فجمع الله لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة وهو يوم المزيد له إذا دخلوا الجنة وهو يوم عيد لهم في الدنيا ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده - صلى الله عليه وسلم - فمن شكره وحمده
__________
(1) رواه أحمد والترمذي برقم (2505) ، وقال : حديث حسن صحيح، والحاكم وقال : صحيح الإسناد، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك، السلسلة الصحيحة برقم (952)، والمشكاة برقم
(5351)، وفضل الصلاة برقم (14) .
(2) أخرجه البيهقي في الكبرى (3/249).
(3) سبق تخريجه.(1/123)
وأداء القليل من حقه - صلى الله عليه وسلم - أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته . أ هـ. (1)
قال أنس بن مالك قال أبو طلحة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم يوما يعرفون البشر في وجهه فقالوا : إنا نعرف الآن في وجهك البشر يا رسول الله ! قال : "أجل أتاني الآن آت من ربي فأخبرني أنه لن يصلى علي أحد من أمتي إلا ردها الله عليه عشرا مثالها" (2) .
وعن عبد الله ابن أبي طلحة عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء يوماً والبشر يرى في وجهه فقالوا : يا رسول الله إنا نرى في وجهك بِشراً لم نكن نراه، ، قال : " أجل إنه أتاني ملك فقال: يا محمد إن ربك يقول: أما يرضيك ألا يُصلي عليك أحدٌ من أُمتك إلا صليت عليه كثيراً ولا سلم عليك إلا سلمت عليه عشراً" (3) .
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد فأطال السجود قال: " أتاني جبريل قال: من صلى عليك صليتَ عليه ومن سلم عليكَ سلمتَ عليه فسجدت لله شكراً" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشراً" (5) .
__________
(1) زاد المعاد (1/283) .
(2) رواه أحمد والنسائي وابن حبان في ( صحيحه )، قال الألباني رحمه الله : الحديث بمجموع طرقه صحيح، فضل الصلاة (ص 22 )،وصحيح الترغيب برقم (1662).
(3) رواه ابن حبان وصححه (2391) موارد، وصححه الألباني بشواهده فضل الصلا(ص22)، وصحيح الترغيب برقم (1661).
(4) رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ،وقال الألباني: الحديث صحيح لطرقه وشواهده ، فضل الصلاة (ص25) ، وصحيح الترغيب برقم (1658).
(5) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (911)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1530) والترمذي في كتاب الصلاة رقم (485)،والنسائي في كتاب السهو برقم(1295)(1/124)
وقال - صلى الله عليه وسلم - "أتاني آتٍ من عند ربي عز وجل قال: " من صلى عليك مِنْ أُمتك صلاة كتب الله له عشر حسنت ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردَّ عليه مثلها" (1) .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" (2) .
وعن جعفر عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ينسى الصلاة عليَّ خطئ أبواب الجنة" (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من نسيَّ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة" (4) .
وعن بكر بن عبد الله المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "حياتي خير لكم تُحدثون ويُحدث لكم فإذا أنا مِتُ كانت وفاتي خيراً لكم تعرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم" (5) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلوا في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر لعن الله يهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" (6) .
__________
(1) رواه أحمد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (57)، وفضل الصلاة (13).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (847).
(3) قال الألباني : إسناده مرسل جيد، فضل الصلاة (41).
(4) قال الألباني: إسناده مرسل صحيح ، فضل الصلاة (ص43).
(5) رواه البزار موصولاً من حديث ابن مسعود، وصححه الألباني وقال: إسناده مرسل صحيح، فضل الصلاة (ص25).
(6) فضل الصلاة (ص30) وقال الألباني: صحيح .(1/125)
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى عليَّ أو سأل لي الوسيلة حقت عليه شفاعتي يوم القيامة" (1) .
وعن محمد بن يحيى بن حبان عن أبيه عن جده: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعلُ ثلث صلاتي عليك؟ قال: " نعم، إن شئت" ، قال: الثلثين؟ قال: " نعم" قال: فصلاتي كلها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذاً يكفيك ما همك من أمر دنياك وآخرتِك" (2) .
وأفضل الصلاة هي الصلاة الإبراهيهية وهي : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبرلاهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
باب
التحذير من أن يجلس الإنسان مجلسا لا يذكر الله فيه
ولا يصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم -
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرةً فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم". (3)
وفي رواية: قال: "من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه، كان عليه من الله تِرةً، ومن اضطجع مضجعا لا يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه، إلا كان عليه من الله ترة". (4)
الترة: بكسر التاء المثناة فوق اوتخفيف الراء: هي النقص، وقيل التبعة.
__________
(1) صحيح الألباني في فضل الصلاة (ص50).
(2) حسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب برقم (1671) .
(3) رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وقال: حديث حسن، ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1512).
(4) رواه أبو داود وأحمد وابن ابي الدنيا والنسائي، وابن حبان في صحيحه، السلسلة الصحيحة (78 و 79).(1/126)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما قعد قوم مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة،
وإن دخلوا الجنة للثواب". (1)
وعن عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من قوم اجتمعوا في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله، إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة". (2)
وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة". (3)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أَبخلَ الناس من ذكرت عنده فلم يصلي عليَّ" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلا كان مجلسهم عليهم ترة يوم القيامة إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم" (5) .
هذا وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي زمان يتمنى الواحد لو يفتدي بكل ما يملك حتى يفتدي وأهله وماله برؤيته - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1513).
(2) رواه الطبراني في الكبير، و الأوسط، والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1515).
(3) رواه أبو داود و الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (1514).
(4) قال الألباني: صحيح ، فضل الصلاة (ص37)، وصحيح الترغيب (1684).
(5) قال الألباني: صحيح ، فضل الصلاة (ص54).(1/127)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم و لأن يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله و ماله معهم" . (1)
وفي رواية عنه، "إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله و ماله" . (2)
إن أناساً من أمتي أمة الإجابة يأتون بعدي أي بعد موتي يود أي يحب ويتمنى أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله هذا من معجزاته إذ هو إخبار عن غيب وقع وقد وجد في كل عصر من يود ذلك ممن لا يحصى حتى قال بعض الأكابر: لو حجب عني رسو اللّه - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ما عشت ذلك اليوم .
وفي رواية عنه : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه زلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة و لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر و ليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله و ماله" . (3)
قال النووي: ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ومشاهدته حضراً وسفراً للتأدب بآدابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ألهاني عنه الصفق بالأسواق والله أعلم . شرح النووي.
باب
النهي عن سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
__________
(1) رواه مسلم برقم (6082)، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأحمد برقم (9655) .
(2) رواه الحاكم عن أبي هريرة، صحيح الجامع حديث رقم (2008).
(3) رواه البخاري برقم (3511)، باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَام، ورواه مسلم برقم
(6082)، باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنيه .(1/128)
إن مما يدمي القلب حقاً أن نسمع من يطعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد مدحهم الله - سبحانه وتعالى - في غير ما موضع من كتابه العزيز ، فقال الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . (1)
ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض .
ومذهب أهل السنة والجماعة، أن ما جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم من الحروب والفتنة، أن يُمسك عن الكلام فيها، والخوض في تفاصيلها، وعلينا أن نذكر محاسنهم وفضائلهم الكثيرة، ثم الاستغفار لهم.
قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا } . (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". (3)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله عز وجل قال: من عاد لي ولياً آذنته بالحرب". (4)
وعن شهاب بن خراش قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة وهم يقولون: اذكروا مجالس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تألف عليه القلوب، ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتحرّشوا عليهم الناس. (5)
__________
(1) ) ) سورة التوبة الآية (100) .
(2) سورة الحشر الآية (10).
(3) ذكره الحافظ في الفتح (11/477)، وحسنه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة برقم (34).
(4) رواه البخاري في "الرقاق" رقم (6502).
(5) سير أعلام النبلاء (8/285).(1/129)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سبَّ أصحابي، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين". (2)
و سبّو عمر وقد أقسم الصادق والمصدوق - صلى الله عليه وسلم - في حقه، فقال: "والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً، إلا وسلك فجاً غير فجك". (3)
و سبّو معاوية - رضي الله عنه - كاتب الوحي وقد دعا له عليه الصلاة والسلام فقال: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهده واهدِ به". (4)
وقالت عائشة رضي الله عنها: "أُمِروا بالاستغفار لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسبّوهم". (5)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أنهم سيقتتلون. (6)
وقال علي - رضي الله عنه - : والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهدُ النبي الأمي إلي: "لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". (7)
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (3673) ومسلم في فضائل الصحابة برقم (2541).
(2) رواه الطبراني، وأبو نعيم في الحلية وغيرهما، السلسلة الصحيحة رقم (2340).
(3) رواه مسلم.
(4) أخرجه البخاري في التاريخ، والترمذي وغيرهما، السلسلة الصحيحة رقم (1969).
(5) رواه مسلم في التفسير برقم (3022) عن هشام عن أبيه عن عائشة.
(6) منهاج السنة النبوية (2/22)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: رواه ابن بطة بإسناد صحيح.
(7) رواه مسلم في الإيمان برقم (78).(1/130)
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فإذا كان هذا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق علي فالصِّدِّيقُ بالأولى والأحرى لأنه أفضل الخلق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومذهب عمر وعلي رضي الله عنهما أن من فضل على الصديق أحداً فإنه يجلد حد المفتري. انتهى. (1)
وروى شعبة عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن الجارود بن المعلى العبدي قال: أبو بكر خير من عمر فقال آخر: عمر خير من أبي بكر فبلغ ذلك عمر فضربه بالدرة حتى سعر برجليه وقال: إن أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أخير الناس في كذا وكذا من قال غير ذلك وجب عليه حد المفتري.
وروى حجاج بن دينار عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة قال: سمعت علياً - رضي الله عنه - يقول: بلغني أن قوماً يفضلوني على أبي بكر وعمر من قال شيئاً من هذا فهو مفترٍ، عليه ما على المفتري.
وعن أبي عبيدة بن حجل أن علياً - رضي الله عنه - قال: لا أُوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما". (2)
__________
(1) الكبائر (ص 181).
(2) رواه البخاري برقم (5752)، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال ، ومسلم برقم (60)، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر .(1/131)
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: فأقول: من قال لأبي بكر ودونه: يا كافر! فقد باء القائل بالكفر هنا قطعاً لأن الله تعالى قد رضي عن السابقين الأولين قال الله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } ومن سب هؤلاء فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، بل من سب المسلمين وآذاهم وازدراهم فقد قدمنا أن ذلك من الكبائر فما الظن بمن سب أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لكنه لا يخلد بذلك في النار، إلا أن يعتقد نبوة علي - رضي الله عنه - أو أنه إله فهذا ملعون كافر. أ.هـ (1)
قال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: من أحب أبا بكر فقد أقام منار الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى ومن قال الخير في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق.
إخواني الكرام وبعد أن عرفنا حكم سبّ الصحابة رضوان الله عليهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمهم ورباهم بنفسه على منهج الحق وزكى نفوسهم، وشهد لهم القرآن الكريم بالجنة والمغفرة والرضوان عند الله تعالى فقد قال عنهم جلّ وعلا : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ } ، وقال عنهم: { أُوْلَئِكَ المُؤْمِنُونَ حَقْاً } ، وقال عنهم: { وكُلاً وعدَ الله الحُسْنَى } .
__________
(1) الكبائر (ص 182).(1/132)
وغيرها من الآيات الكثيرة، فيجب الذبّ عنهم ورد الاتهامات التي تنسب لهم، من قبل عدو الله - سبحانه وتعالى - وعدو رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدو الإسلام والمسلمين عبد الله ابن سبأ اليهودي وأتباعه الشيعة المارقين الذين نشروا العقائد الضالة ووضعوا الروايات الكاذبة زوراً وبهتاناً على الصحابة الكرام وأئمة الاسلام، وغيرهم من الفرق الضالة المنحرفة، الذين كذبوا وافتروا على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عداوة منهم للإسلام والمسلمين، لأن الصحابة الكرام هم شهود القرآن والنبوة والسنّة، فالطعن في هؤلاء الشهود هو في الحقيقة طعن في القرآن والإسلام والسنة النبوية المطهرة.
عافانا الله من هذه الفتن والضلالات والانحرافات.
??????
الإتباع لا الابتداع
قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . (1) بيّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن المحبة هي الإتباع ، فالعبادات توقيفية ولا يحق لنا أن نعبد الله تعالى إلا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه وبما سَنَّهُ لنا ، وبالكيفيات التي دلنا عليها ، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان - رضي الله عنه - عن وضوئه - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" ، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" . وقال : "خذو عني مناسككم" ، وهكذا في كل العبادات .
__________
(1) آل عمران الآية (31) .(1/133)
فعليك أخي الحبيب أن تعلم أنه على المسلم أن يعبد الله تعالى بما شَرَعَ ، وأن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ورد عنه وبالكيفية التي وردت عنه، فلا يجوز أن نعتدي في العبادات ولا أن نخالف نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل عمل ليس على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على صاحبه ولا يقبل .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (1)
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
قال النووي : قوله : رد قال أهل العربية : الرد هنا بمعنى المردود ، ومعناه معتد بة ، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.
وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين أن النهي يقتضي الفساد.اهـ. (2)
فعلينا أن نعبد الله تعالى بما شَرَعَ لنا وليس لنا أن نخالف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعمل خلاف سنته وأنْ نبتدعَ أمراً في الدين لم يسبق له مثيل من السلف الصالح رضوان الله عليهم لا من الصحابة الكرام ولا من أئمة الدين. واعلموا أنّ كلَّ خير في اتباع من سلف
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصلح برقم (2697) ، ومسلم في كتاب الأقضية برقم (1718).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (12/16) .(1/134)
فعن جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ". (1)
الضياع: العيال، والمراد: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع.
وزاد النسائي وابن خزيمة : "وكل ضلالة في النار". (2)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من رَغِبَ عن سنتي فليس مني". (3)
قوله : رغب : الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ طريقة غيري فليس مني.
وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس اتباعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (867) .
(2) رواه النسائي (1/234)، وابن خزيمة في صحيحه (3/143/ 1785) وغيرهما، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب برقم (50) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب النكاح برقم (5063)، ومسلم في كتاب النكاح برقم (1401)، والحديث قطعه من حديث الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عبادته.(1/135)
فعن هلال بن يساف قال: كنا مع سالم بن عبيد في غزاة فعطس رجل من القوم فقال السلام عليكم فقال سالم السلام عليك وعلى أمك فوجد الرجل في نفسه فقال له سالم كأنك وجدت في نفسك فقال ما كنت أحب أن تذكر أمي بخير ولا بشر فقال سالم كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سير فعطس رجل من القوم فقال السلام عليك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك وعلى أمك إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال أو قال الحمد لله رب العالمين وليقل له يرحمك الله وليقل هو يغفر الله لكم . (1)
وعن نافع: أن رجلا عطس عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال بن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس أحدنا أن يقول الحمد لله على كل حال هذا . (2)
فلا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها وإن معذوراً مجتهداً مغفوراً له ، ولهذا مما خص الله به الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تجتمع على ضلالة بخلاف الأمم السالفة .
فههنا أمران ( أحدهما ) : أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا ينقص درجته بذلك، (والثاني) : أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول فإنه يجب من يبين للأمة ذلك ويرشدهم إلى أمر الرسول ، ويردهم عن قوله في نفسه ، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب .
__________
(1) موارد الظمآن (1/479) . والترمذي برقم (2740) .
(2) حديث صحيح الإسناد . المستدرك على الصحيحين (4/295) .(1/136)
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " . فأمر الله ورسوله بالرد على من خالف أمر الله ورسوله ، والرد على من خالف أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة . قال بعض الأئمة : لا يؤخذ العلم إلا عمن عرف بالطلب .
وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نوعان : أمر ظاهر بعمل الجوارح ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك . وأمر باطن تقوم به القلوب ، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه . فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة ، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا ، فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء على الرسول فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب ، وفيمن يقول الله على ما لا يعلم ، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به وقال : أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه ، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله ، والتكذيب بالحق لما جاء به { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ } . (1) فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له ، منقاد لهواه وجهله ، ضال مضل ، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ، ثم اتبعه ، فإن من لا علم له بحاله فمن اين يكون وارثه ؟
ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل ، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله ، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سورة الزمر آية (44) .(1/137)
ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله فمن سلك سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم عز ، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل . وقد سبق حديث : " إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من رقابكم حتى تراجعوا دينكم " . ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فقال : " ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل " . فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة ؟
قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن تشبه بقوم فهو منهم " :
هذا يدل على أمرين :
أحدهما: التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم فقال تعالى : { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } . (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية (69) .(1/138)
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب ، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وعلل بأنه : " حينئذ يسجد لها الكفار " . فيصير السجود في ذلك الوقت تشبها في الصورة الظاهرة ، . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم : " غيروا الشيب ولا تشبهوا اليهود " . وقال صلى الله عليه وسلم : " خالفوا المشركين ، اعفوا الشوارب واحفوا اللحى " وفي رواية : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس " . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب . وروي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : " ليس منا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود والنصارى ، فإن تسليم اليهود الإشارة بالكف " خرجه الترمذي . ونهى عن التشبه بهم في أعيادهم وقال عبد الله بن عمر : " من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم " . وقال الإمام أحمد : " أكره حلق القفا ، وهو من فعل المجوس ، ومن تشبه بهم فهو منهم .
فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين من أهل الكتاب منهي عنه ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن ؟ " .
قال ابن عيينة : كان يقال من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى .(1/139)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أهله وأصحابه على التمسك بالطاعة ويقول : " اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً " وقال لأهله : " إن أوليائي منكم المتقون يوم القيامة ، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون : يا محمد . فأقول : قد بلغت " . ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال " فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
(الثاني) التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة فهذا حسن مندوب إليه ، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه . وذلك مقتضى المحبة الصحيحة ، فإن المرء مع من أحب ، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وان قصر المحب عن درجته .
قال الحسن لا تغتر بقولك : المرء مع من أحب ، أن من أحب قوما اتبع آثارهم ، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم ، وتأخذ بهديهم ، وتقتدي بسنتهم ، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم ، حريصاً أن تكون منهم ، وتسلك سبيلهم ، وتأخذ طريقتهم ، وإن كنت مقصراً في العمل . فإن ملاك الأمر أم تكون على استقامة . أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار ؟ نعوذ بالله من النار . كان يونس بن عبيد ينشد :
فإنك من يعجبك لا تك مثله * إذا أنت لم تصنع كما كان يصنع
وجاء في الحديث : " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " .
الإخلاص في طلب العلم وصدق النية
وآداب الطالب
باب
الإخلاص لله تعالى في طلب العلم
طلب العلم من أجَّل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا ، لأنه سبب في حفظ الشريعة ، فعلى طالب العلم أن يخلص نيته لله تعالى في طلبه للعلم، وأن يكون همه في طلب العلم هو رضا الله تعالى .(1/140)
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" . (1)
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إن لله عباداً يميتون الباطل بهجره ويحيون الحق بذكره ، رغبوا فرعبوا ورهبوا فرهبوا خافوا فلا يأمنون ، أبصروا من اليقين مالم يعاينوا فخلطوه بما لم يزايلوه ، أخلصهم الخوف فكانوا يهجرون ما ينقطع عنهم لما يبقى لهم الحياة عليهم نعمة، والموت لهم كرامة، فزوجوا الحور العين وأخدموا الولدان المخلدين . (2)
وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الصدق والإخلاص؟فقال: بهذا ارتفع القوم.
وقال عون بن عمارة : سمعتُ هشاماً الدَّستوائي يقول : والله ما أستطيع أن أقول : إني ذهبتُ يوماً قطُّ أطلب الحديث أُريد به وجه الله عز وجل .
قلت –[أي الذهبي]-: والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فَنَبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبهُ قومٌ منهم أولاً لا لله، وحصَّلوه، ثم استقاموا وحاسبوا أنفسهم فجرَّهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نيَّة، ثم رزق الله النية بعدُ، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، فهذا أيضاً حسن. ثم نشروه بنيَّة صالحة.
وقال الشافعي رحمه الله : وددتُ أن الناس تعلَّموا هذا العلم –يعني كتبه- على أن لا يُنسب إلي منه شيءٌ.
وقال : ما ناظرت أحداً إلا على النصيحة .
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان (54)، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل أمرىء ما نوى، ومسلم في الإمارة برقم (1907)، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال .
(2) حلية الأولياء (1/51) .(1/141)
وقال ابن الجوزي : ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق، والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره ، ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب ، وقد فُقِدَ التفقدُ من الأمراء ومن الإخوان ولازمهم الفقر والفضائل يُنادى عليها: { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } (1)
فلما أجابت مرارة الابتلاء قالت :
لا تحسبِ المجدَ تمراً أنتَ آكِلُهُ لن تَبْلُغَ المجدَ حتى تَلْعَقَ الصًّبرا
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها و حفظها ثم أداها إلى من لم يسمعها ، فرب حامل فقهٍ غير فقيه، و رب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله، و النصح لأئمة المسلمين، و لزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحوط من وراءهم" . (2)
وفي رواية عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه" . (3)
قوله: "نضر اللّه امرأ": قال المناوي: معناه ألبسه النضرة وخلوص اللون: يعني جمله اللّه وزينه، أو معناه: أوصله اللّه إلى نضرة الجنة وهي عيمها، قال تعالى: { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } ، وقال تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة } ، وقال تعالى: { ولقاهم نضرة وسروراً }
وقوله: "سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه":قال الخطابي: فيه دلالة على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بمتناه في الفقه لأن فعله يقطع طريق الاستنباط على من بعده ممن هو أفقه منه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية (11) .
(2) الحديث عن جبير بن مطعم ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (6766)، وصحيح الترغيب برقم (3) .
(3) صحيح الجامع حديث رقم (6763).(1/142)
"ورب حامل فقه ليس بفقيه" بين به أن راوي الحديث ليس الفقه من شرطه ، إنما شرطه الحفظ، أما الفهم والتدبر فعلى الفقيه، وهذا أقوى دليل على رد قبول من شرط لقبول الرواية كون الراوي فقيهاً عالماً، وقسم التحمل إلى شيئين : لأن حامل الحديث لا يخلو إما أن يكون فقيهاً، أو غير فقيه،والفقيه إما أن يكون غيره أفقه أو لا، فانقسم بذلك إليهما . وفيه كالذي قبله، على أن أساس كل خير حسن الاستماع { ولو علم اللّه فيهم خيراً لأسمعهم } .
وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني فرب حامل فقه غير فقيه و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" . (1)
قال في النهاية نَضَره ونضَّره وأنضَره: أي نعمه: ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره.
يُغل: هو من الإغلال وهي الخيانة في كل شيء.
باب
فضل العلم والعلماء
وفضل السؤال لطلب العلم
قال الله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْم } . (2)
بدأ بنفسه سبحانه وتعالى وثنى بملائكته وثلث بأولي العلم.
وقال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ } . (3)
وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } . (4)
عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته بالحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها". (5)
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (6765).
(2) سورة آل عمران الآية (18).
(3) سورة المجادلة الآية (11).
(4) سورة فاطر الآية (28).
(5) رواه البخاري في كتاب العلم برقم (73)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (816).(1/143)
الحسد هنا يراد به الغبطة وهو أن يتمنى مثله.
فيه فضيلة طلب العلم وتعلمه للغير ويكون كأجر فاعله إذا عمل به بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله". (1)
وعنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نضَّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرُّب مبلّغ أوعى من سامع". (2)
وعن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه - أسأله عن المسح على الخفين فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء العلم فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب فقلت: إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرءاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فجئت أسأل هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟ قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئاً؟ قال: نعم كنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما نحن عنده إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري يا محمد فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحواً من صوته: "هاؤم" فقلت له: ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهيت عن هذا فقال: والله لا أغضض قال الأعرابي: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع من أحب يوم القيامة".
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4876)، وابو داود في كتاب الأدب برقم (5129)، والترمذي في كتاب العلم برقم (2671).
(2) أخرجه الترمذي برقم (2657، 2658)، وابن ماجة برقم (232)، وأحمد (1/437)، والحميدي (88)، والبغوي في شرح السنة برقم (112)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (83)، والمشكاة برقم (230، 231).(1/144)
فما زال يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين عاماً قال سفيان أحد الرواة قبل الشام خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه". (1)
فيه فائدة عظيمة وهو فضيلة العلم وطلب العلم والمراد به العلم الشرعي أي العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هذا الدين قام بأمرين: قام بالعلم والبيان وبالسلاح والسنان حتى أن بعض العلماء قال: "إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح" لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم والجهاد بالسلاح مبني على العلم لا يسير المجاهد ولا يقاتل ولا يحجم ولا يقسم الغنيمة ولا يحكم بالأسرى إلا عن طريق العلم فالعلم هو كل شيء ولهذا قال الله عزوجل: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (2) . أ.هـ. (3)
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أُبدع بي فاحملني فقال: "ما عندي" فقال رجل: يا رسول أنا أدُلُهُ على من يحمله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" (4) .
"أبدع بي" بضم الهمزة وكسر الدال يعني: ظَلَعتْ ركابي.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم (3535) وقال حسن صحيح وأحمد في المسند (4/239) فقه السيرة (214)، الإيمان، (ص 60). وحسنه الألباني في سنن الترمذي برقم (3535).
(2) سورة المجادلة الآية (11).
(3) شرح رياض الصالحين (1/95) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4876)، وابو داود في كتاب الأدب برقم (5129)، والترمذي في كتاب العلم برقم (2671).(1/145)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". (1)
وقال أبو الدرداء : العالم والمتعلم في الأجر سواء ، وسائر الناس همج لا خير فيهم . (2)
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إنما العلم الخشية.
وقال الشافعي رحمه الله: كفى بالعلم فضيلة أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح إذا نسب إليه، وكفى بالجهل شراً أن يتبرأ منه من هو فيه، ويغضب إذا
نسب إليه. (3)
وقال الربيع : سمعت الشافعي يقول : طلََبُ العلم أفضل من صلاة النافلة . (4)
باب
الصبر في طلب العلم .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يرحم الله موسى لوددنا لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما". (5)
قال الإمام النووي رحمه :
وفي هذه القصة (6) أنواع من القواعد، والاصول، والفروع، والآداب، والنفائس المهمة سبق التنبيه على معظمها سوى ما هو ظاهر منها ومما لم يسبق : أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة ، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروءات الاصحاب وحسن العشرة ، ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما وحمل موسى والخضر بغير أجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح والله اعلم .
ومنها الحث على التواضع في علمه وغيره وأنه لا يدعي أنه أعلم الناس وانه اذا سئل عن اعلم الناس يقول الله اعلم .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674).
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/123) .
(3) مناقب الإمام الشافعي للبيهقي.
(4) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/132) .
(5) أخرجه البخاري برقم (122) ،باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله، ومسلم برقم (2380)، باب في فضائل الخضر عليه السلام.
(6) أي قصة موسى والخضر كما جاءت في سورة الكهف.(1/146)
ومنها بيان أصل عظيم من أصول الاسلام وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه أكثر الناس وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر موضع الدلالة قتل الغلام فإن صورتهما صورة المنكر وكان صحيحا في نفس الامر له حكم بينة لكنها لا تظهر للخلق فاذا أعلمهم الله تعالى بها علموها ولهذا قال وما فعلته عن أمري يعني بل بأمر الله تعالى . اهـ . (1)
قال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم ، وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون ، ولا تكونوا من جبابرة العلماء ، ولا يقوم علمكم مع جهلكم .
وقال - رضي الله عنه - : كونوا أوعية الكتاب وينابيع العلم ، وسلوا الله رزق يوم بيوم ، ولا يضركم أن لا يكثر لكم . اهـ . (2)
وروى الخلال (3) أن أحمد جاء إلى وكيع وعنده جماعة من الكوفيين فجلس بين يديه من أدبه وتواضعه، فقيل : يا أبا عبد الله، إن الشيخ ليكرمك فمالك لا تتكلم؟ فقال : وإن كان يكرمني ، فينبغي لي أن أجِلَّهُ .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم : ما استأذنتُ قطُّ على محدث كنت أنتظره حتى يخرج إليَّ ، وتأولت قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } . (4)
باب
طلب العلم وتعليمه لوجه الله عز وجل
__________
(1) شرح النووي (15/146) .
(2) كتاب الزهد لابن أبي عاصم (1/118) .
(3) أنظر الآداب الشرعية لابن مفلح (2/88) .
(4) سورة الحجرات الآية (5) .(1/147)
عن صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد متكٍ على بردٍ له أحمر فقلت: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم فقال: "مرحباً بطالب العلم إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها". (2)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعمله كان له كأجر حاج تاماً حجته". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". (4)
وعن واثلة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من طلب علماً فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كفلاً من الأجر". (5)
الكفل: بكسر الكاف هو النصيب.
__________
(1) رواه أحمد وابن حبان وابن ماجة إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع، وحسنه الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب برقم (68و 80).
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(3) أخرجه الطبراني بإسناد لا بأس به، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/123): (رواه الطبراني في الكبير ورجاله كلهم موثوقون)، صحيح الترغيب رقم (82).
(4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، المشكاة: (220) الرياض: (1392).
(5) أخرجه الطبراني قال في المجمع (1/123): (رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون)، المشكاة (253).(1/148)
وروى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار (1) ، في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي (2) المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك". (3)
فانظر رحمك الله إلى حرص الفاروق عمر - رضي الله عنه - على تحصيل العلم.
فلماذا لا نقتدي به في طلب العلم والعمل به وتعليمه للناس لننال بذلك رضى الرحمن سبحانه وتعالى.
وهذا شيخ المحدثين الإمام أبو زكريا يحيى بن معين، كان معين على خراج الريّ، فخلَّف ليحيى ابنه ألف ألف درهم، فأنفقه كله على الحديث، حتى لم يبق له نعلٌ يلبسه.
وهذا الحافظ ابن مندة، أبو عبد الله، محدث الإسلام، رحل في طلب العلم وعُمُره عشرون سنة، ورجع وعُمُره خمس وستون سنة، وكانت رحلته خمساً وأربعين سنة.
قال الذهبي: "ولم أعلم أحداً كان أوسع رحلةً منه، ولا أكثر حديثاً منه، مع الحفظ والثقة، فبلغنا أن عدة شيوخه ألف وسبعمائة شيخ". (4)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة.
وعنه قال: من رأى أن الغدو إلى العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: طلب العلم أفضل من النافلة.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
يعني: كَيف تحمل المحبرة وأنت إمام المسلمين.
__________
(1) هو أوس بن خولي الأنصاري، كما قال ابن حجر في فتح الباري (9/244) كتاب النكاح.
(2) قرى بقرب المدينة من ناحية الشرق.
(3) فتح الباري (1/167) كتاب العلم (باب التناوب في العلم).
(4) سير أعلام النبلاء (17/30).(1/149)
وقال رحمه الله تعالى: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر. (1)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة". (2)
يحذيك: يعطيك.
المسك: الطيب.
الكير: جراب من جلد ينفخ به الحداد النار.
تبتاع: تشتري .
باب
التحذير من الجدال والمراء واللدد
قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } . (3)
وقال تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } . (4)
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } . (5)
وقال تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . (6)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدُّ الخصم". (7)
الألد: هو الشديد في الخصومة، وقيل هو: الدائم الخصومة.
__________
(1) مناقب الإمام أحمد (ص 31) .
(2) أخرجه البخاري برقم (5214)، باب المسك، ومسلم برقم (2628)، باب إستحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء .
(3) سورة البقرة الآية (204-205).
(4) سورة الزخرف الآية (58).
(5) سورة غافر الآية (56).
(6) سورة العنكبوت الآية (46).
(7) رواه البخاري في كتاب في الأحكام رقم (7188)، ومسلم في كتاب العلم برقم (2668).(1/150)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا { وما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } ". (1)
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المراء في القرآن كفرٌ". (2)
المراء: الجدال، والتماري، والمماراة: المجادلة على مذهب الشك والريبة.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا جلوساً عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر، يَنْزِعُ هذا بآية، ويَنزِع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يُفقأ في وجهه حبُّ الرمان، فقال: "يا هؤلاء أبهذا بعثتم، أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض". (3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/552و 556)، والترمذي في أبواب التفسير برقم (3253)، وابن ماجة في المقدمة برقم (48)، وابن جرير في جامع البيان (25/53) ، والحاكم المستدرك (2/447 - 448)، والطبراني في المعجم الكبير (8/333) ، وابن أبي عاصم في السنة برقم (101)، والآجري في الشريعة (ص54)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/320 و 231)، وابن عبد البر في الجامع (2/97)، والبغوي في معالم التنزيل (6/138)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، صحيح الجامع برقم (5633)، وصحيح الترغيب برقم (141).
(2) رواه أبو داود، وابن حبان في (صحيحه)، وقال الألباني : حسن صحيح الترغيب رقم (143).
(3) رواه الطبراني في الكبير، وفي المجمع (1/157): رجاله ثقات أثبات، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (140).(1/151)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع". (1)
وفي لفظ: "فقد باء بغضب من الله". (2)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء والعي شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق". (3)
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان". (4)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب
وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". (5)
"ربض الجنة" : أي ما حولها .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2/82) وأبو داود (3/305) رقم (3598) والبيهقي في السنن الكبرى (6/82) والحاكم في المستدرك (4/99) والطبراني في الكبير رقم (13084 مختصرا) وابن ماجة في السنن (2/778) رقم (2320) والرامهرمزي (أمثال الحديث) (ص 108)، وقال الحاكم : صحيح، وأقره الذهبي في التلخيص، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، أنظر فيض القدير (6/72)، صحيح الجامع برقم (6196).
(2) المصدر السابق.
(3) أخرجه الترمذي في أبواب البر والصلة رقم(5028) وأحمد في المسند(5/269) وعلي بن جعد المسند (2/1058) رقم (3059) والحاكم في المستدرك (1/52)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقال الترمذي: حسن غريب، وقال المناوي في الفيض: قال الترمذي حسن وقال غيره صحيح. وصححه الألباني في سنن الترمذي برقم (2072).
(4) المصدر السابق.
(5) رواه أبو داود وغيره ، السلسلة الصحيحة رقم (273)، وصحيح الجامع برقم (1464) .(1/152)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لا يتعلم العلم لثلاث، ولا يترك لثلاث: لا يتعلم ليماري به، ولا يباهي به، ولا يراءي به، ولا يترك حياءً من طلبه، ولا زهادةً فيه ولا رضاً بالجهل منه. (1)
وعن شهر بن حوشب قال: قال لقمان عليه السلام لابنه: أي بُني لا تعلّم العلم تباهي به العلماء، أوتماري به السفهاء، أو ترائي به المجالس. (2)
وعن محمد بن واسع قال: كان مسلم بن يسار يقول: إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته. قال حماد: فقال لنا محمد: هذا الجدال، هذا الجدال. (3)
قال الحافظ الذهبي: وقال النووي رحمه الله: اعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل قال الله تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (4) ، وقال تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (5) ، وقال تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } (6) .
قال: فإن كان الجدال الموقوف على الحق وتقريره كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحق أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه، والمجادلة والجدال بمعنى واحد قال بعضهم: ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقض للمروءة ولا أشغل للقلب من الخصومة (7) .أ.هـ
باب
التحذير من الفتوى بلا علم
__________
(1) أخرجه ابن الجوزي في كتابه(ص223) وعزاه للزبيدي في الإتحاف برقم (7/471).
(2) أخرجه الدارمي (1/89).
(3) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد برقم (251)، وابو نعيم في الحلية (2/294).
(4) سورة العنكبوت الآية (46).
(5) سورة النحل الآية (125).
(6) سورة غافر الآية (4).
(7) الكبائر (ص 259).(1/153)
قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } . (1)
وقال تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . (2)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . (3)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه". (4)
قال الشوكاني، رحمه الله تعالى: ومعناه: أي لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة. (5) أ.هـ.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يُقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". (6)
وروي عن الإمام مالك رحمه الله أنه سئل عن مائة مسألة فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقيات: الله أعلم، فعوتب في ذلك، فقال: من قال الله أعلم فقد أفتى.
__________
(1) سورة الأعراف الآية (33).
(2) سورة النحل الآية (116 و 117).
(3) سورة المائدة الآية (87).
(4) أخرجه أبو داود. وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3675).
(5) فتح القدير (3/227).
(6) رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - برقم (100)، باب كيف يقبض العلم .(1/154)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعليقا على كلمة: (حرام عليك) أو (حرام عليك أن تفعل كذا) قال: لا يجوز أن يوصف شيء بالتحريم إلا أن يكون شيئا حرمه الله أو رسوله، وذلك أن وصف شيء غير محرم بالحرمة –ولو مع سلامة النية- فيه تعدي على جناب الربوبية، وفيه إيهام بان ذلك الشيء محرم وهو ليس كذلك، والأسلم للمرء في دينه أن يبتعد عن هذا اللفظ. (1) ا.هـ
باب
النهي عن التعلم للدنيا وكتمان العلم
وعدم العمل به
قال الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } . (2)
وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يُكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } . (3)
وقال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } . (4)
وتقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الثلاثة الذي يسحبون إلى النار أحدهم الذي يقال له : "إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل".
وعن جابر مرفوعاً قال : "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء أو تماروا به
__________
(1) انظر فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، إعداد: أشرف عبد المقصود. دار عالم الكتب، الطبعة الثانية (1/200-201).
(2) سورة البقرة الآية (159).
(3) سورة البقرة الآية (174).
(4) سورة آل عمران الآية (187).(1/155)
السفهاء ولتجترئوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم". (2)
وعن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" . (3)
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في المقدمة برقم (254) ، وابن حبان (90 – موارد الظمان) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/187) ، وصححه الحاكم ، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/116) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/111) : هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم، وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/86) ، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1/86 – 87) ، وصححه الألباني في الترغيب برقم (107)، وصحيح الجامع حديث رقم (7370).
(2) رواه ابن ماجة ، وقال الألباني : صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (110).
(3) أخرجه ابن حبان (1/154) رقم (96) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/5) ، والحاكم في المستدرك (1/102) وقال : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وليس له علة، ووافقه الذهبي . صحيح الترغيب رقم (121) .(1/156)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" . (1)
وفي رواية لابن ماجة قال : "ما من رجل يحفظُ علماً فيكتمهُ ؛ إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجامٍ من نار". (2)
وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة على هذه وأشار إلى قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها ، وقال بن عباس كونوا ربانيين حلماء فقهاء ، ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
قال المناوي رحمه الله تعالى : مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه في كون كل منهما يكون وبالا على صاحبه يعذب عليه يوم القيامة ، فعلى العالم أن يفيض العلم على مستحقه لوجه الله تعالى ولا يرى لنفسه عليهم منة وإن لزمتهم بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى الله بزراعة العلوم فيها كمن يعير أرضا ليزرع فيها لنفسه ما ينفعه ولولا المتعلم ما نال ذلك المعلم . اهـ . (3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب العلم (3658) ، والبغوي في شرح السنة (140) ، وابن ماجة في المقدمة (261) ، وابن حبان (1/154) رقم (95 – مع الإحسان) ، والترمذي في أبواب العلم (2649) ، وأحمد في المسند (1/263 و 296 و 300 و 344 و 353 و 495 و 499 و 508) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/266) ، والطبراني في الصغير (1/60 و 14 و 162) ، والحاكم في المستدرك (1/101) ، وابن عبد البر في الجامع (1/4-5)، والبيهقي ، وصححه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ، وقال البغوي : هذا حديث حسن، وكذا قال الترمذي،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (120).
(2) صحيح الترغيب (1/160).
(3) فيض القدير (5/509) .(1/157)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة : رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ ، قال : قاتلت فيك حتى استشهد ، قال : كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه ، فعرفها ، فقال: فما عملت فيها ؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت ليقال : عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت لك ، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ". (1)
جريء : بفتح الجيم وكسر الراء وبالمد أي : شجاع .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أنه قال : "كيف بكم إذا لبستكم فتنةٌ ، يربو فيها الصغير ، ويَهرَمُ فيها الكبير ، وتتخذُ سنةً ، فإن غُيرت يوماً قيل : هذا منكرٌ ! قيل : ومتى ذلك ؟ قال : إذا قلّت أمناؤكم ، وكَثُرت أمراؤكُم ، وقلّت فقهاؤكم ، وكثُرت قراؤكم ، وتُفُقه لغير الدين ، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة" . (2)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6499) ، ومسلم في كتاب الزهد برقم (3986) .
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف (11/352) موقوفا، وقال الألباني صحيح 0لغيره موقوف، صحيح الترغيب، رقم (111).(1/158)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم علماً يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" . يعني ريحها . (1)
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "يُجاء بالعالم السوء يوم القيامة فيقذف في جهنم فيدور بقصبة كما يدور الحمار بالرحى ، فيقال : بم لقيت هذا وإنما اهتدينا بك ؟! فيقول : كنت أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه". (2)
القُصْب : واحد الأقصاب , وهي الأمعاء كلها وقيل: الأمعاء يجمعها اسْمُ القُصْب , ومنه اسمُ القَصَّاب , لأنه يعالجها. (3)
وفي رواية عن أسامة بن زيد - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "يُجاء بالرجل يوم القيامة ، فيُلقى في النار ، فتندلق أقتابُه ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فتجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : يا فلان ! ما شأنك ؟ ألست كنت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمرُكم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن الشرِّ وآتيه" .
قال : وإني سمعتُهُ يقول – يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ : "مررت ليلةَ أُسري بي بأقوام تقرضُ شفاهُهم بمقاريض من نار ، قلتُ : من هؤلاء يا جبريلُ ؟ قال : خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون" .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب العلم (3664) بإسناد صحيح ، وأحمد في المسند (2/338)،وابن ماجة في المقدمة (252)، والحاكم (1/85) المستدرك ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (105).
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3267)، وفي الفتن (13/48) رقم (7098 فتح الباري) ، ومسلم في كتاب الزهد برقم (2989) من حديث أسامة بن زيد .
(3) الفائق (3/199) .(1/159)
قال المنذري في تخريجه هذه الرواية الأخير [قال : وإني سمعتُهُ يقول] ، رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3267)، ومسلم في كتاب الزهد برقم (2989) ، والرواية هذه ليست عن أسامة بل هي عن أنس بلفظ آخر ، وقد خلط المنذري رحمه الله وجعل الروايتين واحدة ، ونسبها إلى البخاري وهو خطأ .
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الرواية : "كذا في الأصل وغيره ، يعني أنه من حديث أسامة بن زيد ، وسيأتي كذلك في الباب الذي سيشير إليه المؤلف قريباً يعني في ( 21ـ الحدود/ 2) ، وهذا وهم فاحش ، سببه فيما أرى اعتماد المؤلف رحمه الله على حفظه وإملاءه أحاديث الكتاب من ذاكرته دون أن يرجع في ذلك إلى أصوله ، فإن هذا الحديث الذي جعله من حديث أسامه بن زيد هنا وهناك ليس من حديثه مطلقاً لا في " الصحيحين " ولا في غيرهما وإنما هو حديث آخر لا علاقة له بالأول ، يرويه أنس ابن مالك رضي الله عنه ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ( 35ـ موارد الظمآن ) وغيرهم ممن ذكرهم المؤلف وفاته الإمام أحمد في المسند ( 3/ 120، 231، 239) . ومن أجل ذلك فصلته عن حديث أسامه وأعطيته رقماً خاصاً ، بخلاف ما فعله مصطفى عمارة وغيرة كالمعلقين الثلاثة ، والله ولي التوفيق . اهـ . . (1)
"فتندلق" : الاندلاق خروج الشيء من مكانه بسرعة.
"أقتابه" : جمع "قتب" بكسر القاف : الأمعاء أي : المصارين .
"برحاه" أي : الطاحون .
ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي وزادوا في رواية لهما : "ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به".. (2)
__________
(1) صحيح الترغيب والترهيب ( 1/ 162) ، وانظر السلسلة الصحيحة تحت حديث رقم (292) .
(2) السلسلة الصحيحة رقم (291).(1/160)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار" . (1)
وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها" . (2)
"اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" أي صاحبه فإن من العلم مالا ينفع صاحبه بل يصير عليه حجة وفي استعاذته صلى الله تعالى عليه وسلم من هذه الأمور إظهار للعبودية واعظام للرب تبارك وتعالى وأن العبد ينبغي له ملازمة الخوف ودوام الافتقار الى جنابه تعالى وفيه حث للأمة على ذلك وتعليم لهم والا فهو صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم من هذه الأمور . اهـ . (3)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: من تعلم علماً لم يعمل به لم يزده العلم إلا كبراً.
وعن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَثَل الذي يُعلِّم الناس الخيرَ وينسى نفسَهُ كمثل السِّراج يضيء للناس ويحرقُ نفسه". (4)
وقال هلال بن العلاء : طلب العلم شديد وحفظه أشد من طلبه، والعمل به اشد من حفظه والسلامة منه أشد من العمل به.
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب العلم (2655) ، وابن ماجة في المقدمة (258) ، والآجري في أخلاق العلماء (ص 100) ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وقال المنذري : ورجال إسنادهما ثقات.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2722) مطولا، وأخرجه الترمذي في أبواب الدعوات (3572) ، والنسائي في المجتبي في الاستعاذة برقم (8/255).
(3) حاشية السندي (8/255) .
(4) أخرجه الطبراني في الكبير، السلسلة الصحيحة (3379) ، وصحيح الترغيب برقم (131) .(1/161)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به، كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا يُنفِق منه". (1)
قال المناوي في فيض القدير : "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه" في كون كل منهما يكون وبالاً على صاحبه يعذب عليه يوم القيامة ، فعلى العالم أن يفيض من العلم على مستحقه لوجه اللّه تعالى ولا يرى نفسه عليهم منة وإن لزمتهم ، بل يرى الفضل لهم إذ هذبوا قلوبهم لأن تتقرب إلى اللّه بزراعة العلوم فيها كمن يعير أرضاً ليزرع فيها لنفسه وينفعه ، ولولا المتعلم ما نال ذلك المعلم ، قال الطيبي : هذا على التشبيه نحو قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام في إصلاحه باستعماله والفساد بإهماله لا في القلة والكثرة ، فتشبيه المعلم بالكنز وارد في مجرد عموم النفع لا في أمر آخر ، كيف لا والعلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص ، والعلم باق والكنز فان ، فإن المال يفنى عن قريب وإن العلم باق لا يزال . اهـ .
قال الفضيل : "إنما يُرادُ من العلم العمل والعلم دليل العملِ " .
وقال كذلك : "على الناس أن يتعلموا فإذا علموا فعليهم العملُ" .
وقال عبد الله بن المعتز : "علمٌ بلا عملٍ كشجرةٍ بلا ثمرةٍ " . (2)
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3479) ، والترغيب برم (122)، وصحيح الجامع حديث رقم (5835) .
(2) اقتضاء العلم العمل (ص37) ط المكتب الإسلامي .(1/162)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وماذا عمل فيما عَلِمَ ؟" . (1)
وعن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه ؟ وعن علمه فيم فعل فيه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه ؟ وعن جسمه فيم أبلاه". (2)
قوله: "عن عمره فيم أفناه" :قال الطيبي رحمه الله: عن مدة أجله فيما أفناه أي صرفه وعن شبابه أي قوته في وسط عمره فيما أبلاه أي ضيعه وفيه تخصيص بعد تعميم وإشارة إلى المسامحة في طرفيه من حال صغره وكبر، ثم قال : قلت المراد سؤاله عن قوته وزمانه الذي يتمكن منه على أقوى العبادة ، وعن ماله من أين اكتسبه أي أمن حرام أو حلال وفيما أنفقه، أي طاعة أو معصية، وماذا عمل فيما علم، قال القاري: لعل العدول عن الأسلوب للتفنن في العبارة المؤدية للمطلوب، وقال الطيبي: لم يقل وعن عمله ماذا عمل به لأنها أهم شيء وأولاه، وفيه: إيذان بأن العلم مقدمة العمل وهو لا تعتد به لولا العمل انتهى . . (3)
__________
(1) رواه الترمذي وقال : حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث حسين بن قيس ، وقال الألباني : حسن لغيره ، السلسلة الصحيحة برقم (946) ، وصحيح الجامع برقم (7299) .
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (126)، وصحيح الجامع برقم (7300) .
(3) فيض القدير .(1/163)
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي، كلُّ منافقٍ عَلِيمِ اللسانِ". (1)
وعن لقمان – يعني ابن عامر – قال : كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول فيقول لي : يا عُويمرُ! فأقول : لبيك ربِّ ، فيقول : ما عملت فيما علمتَ". (2)
عن ثابت البناني عن مطرف بن الشخير أنه كان يقول :
"يا إخوتي إجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة ، وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم
نقل ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ، نقول قد عملنا فلم ينفعنا " . اهـ . (3)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، والبزار، وابن حبان في صحيحه (51/91- موارد ) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (132).
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان، والدارمي وابن بعد البر وابن المبارك في الزهد ،وقال الألباني:صحيح لغيره موقوف، صحيح الترغيب رقم (129) .
(3) اقتضاء العلم العمل (ص95) ط المكتب الإسلامي .(1/164)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : فإن العلم يجب بذله ، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ، وهو يزكو على التعليم لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل ، ولهذا يشبه بالمصباح وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر للرجل أن يطلب حقه منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية لأن المستولى يجب عليه أداء الحق إلى مستحقه، ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية وكذلك الغريم له أن يطلب دينه ممن هو عليه وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه ... (1)
فعلى طالب العلم أو العالم أن يعمل بعلمه وأن لا يكتمه ، وأنه إذا عمل بعلمه خير له عند الله سبحانه وتعالى .
فعن الحسن قال : "أن الرجل ليتعلم الباب من العلم فيعمل به خير من الدنيا وما فيها" . (2)
وقال ابن المبارك : إذا كتم العالمُ عِلْمَهُ ابتُليَ إما بموت القلب ، أو ينسى، أو يتبع السلطان، ذكر ذلك البيهقي وغيره ، وسبق هذا المعنى بنحو كراسة في فضل جاء رجلان وقلبه بنحو كراسة في فصل . (3)
باب
نبذة عن عبادة السلف
وطلبهم للعلم
كان السلف الصالح وخصوصاً الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على كثرة العبادة وطلب العم وكانوا يكابدون الليل ويزاحمون العلماء بالركب في طلب العلم .
__________
(1) مجموع الفتاوى (1/185) .
(2) جامع بيان العلم وفضله (ص52) .
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/258) .(1/165)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لولا ثلاث لما أحببت البقاء لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر، يريد - رضي الله عنه - الجهاد، والصلاة، والعلم النافع ، وهذه درجات الفضائل وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا .(1/166)
وقال معاذ - رضي الله عنه - عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولا لنكح الأزواج، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، وقوله: ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها وقلة زاده في عينه، فمن عرف الله وعرف نفسه لم ير نفسه إلا بعين النقصان، وأما قوله ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص فلأنه لكمال صدقه وقوة إرادته وطلبه للتقدم يحمل نفسه على العزائم ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص وهذا لابد فيه من التفصيل فإن الصادق يعمل على رضى الحق تعالى ومحابه فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم كان التفاته إلى ترفيهها وهو عين صدقه فإذا أفطر في السفر وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه وخفف الصلاة عند الشغل ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق بل ههنا نكتة وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة وأن يكون متابعة وموافقة ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق فإن هذا هو المقصود منها وفيه شهود نعمة الله على العبد وتعبده باسمه البر اللطيف المحسن الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق وفي الصحيح ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم الرفيق اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه استعد بها لعبودية أخرى وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب إلى الله منها كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه والمفطر الذي يضرب الأخبية ويسقي الركاب ويضم المتاع ولهذا قال فيهم النبي ذهب المفطرون اليوم بالأجر أما الرخص التأويلية المستندة إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب(1/167)
وتخطىء فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق . (1)
??????
آداب الطهارة
باب
الأدب في قضاء الحاجة
من الآداب التي أرشدنا إليها الشارع الحكيم آداب التخلي وقضاء الحاجة ، وهذا من كمال الشريعة االسمحة .
فعن عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان، قال: "قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة ، قال: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم" . (2)
قال النووي: ومراد سلمان رضى الله عنه أنه علمنا كل ما نحتاج اليه فى ديننا حتى الخراءة التى ذكرت أيها القائل فانه علمنا آدابها فنهانا فيها عن كذا وكذا والله أعلم . (3)
ومن الأمور التي أرشدنا إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قضاء الحاجة بأن لا نستقبل القبلة ولا نسدبرها .
فعن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا" .
قال أبو أيوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى . (4)
الغائط : اسم للمطمئن الواسع من الأرض، ثم أطلق على الخارج المستقذر من الإنسان.
قال الإمام الشافعي رحمه الله : في معرض كلامه على وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستنجائه، فقال فاحتمل أدبه لهم معنيين :
__________
(1) مدارج السالكين (2/281- 283) .
(2) رواه مسلم برقم (262)، باب الاستطابة .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (3/154) .
(4) أخرجه البخاري برقم (386) ، باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا ، ومسلم برقم (264) ، باب الاستطابة .(1/168)
أحدهما: أنهم إنما كانوا يذهبون لحوائجهم في الصحراء فأمرهم ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها لسعة الصحراء ولخفة المؤنة عليهم لسعة مذاهبهم عن أن تستقبل القبلة أو تستدبر لحاجة الإنسان من غايط أو بول .
ثم قال: وكثيراً ما يكون الذاهبون في تلك الحال ستر عن مصلي يرى عوراتهم مقبلين ومدبرين إذا استقبل القبلة فأمروا أن يكرموا قبلة الله ويستروا العورات من مصلي إن صلى حيث يراهم، وهذا المعنى أشبه معانيه. والله أعلم .
وقد يحتمل أن يكون نهاهم أن يستقبلوا ما جعل قبلة في الصحراء لغائط أو بول لئلا يتغوط أو يبال في القبلة فتكون قذرة بذلك أو من ورائها فيكون من ورائها أذى للمصلين إليها .اهـ. (1)
وقال ابن قدامة رحمه الله بعد أن ساق أحاديث النهي والإباحة : "وفيه جمع بين الأحاديث فيتيعن المصير إليه، وعن أحمد أنه يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعا، لما روى ابن عمر قال: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة. متفق عليه" .اهـ. (2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"من لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها في الغائط كُتب له حسنة ومُحي عنه سيئة" (3)
باب
عدم التخلي على طرق الناس أو ظلهم
أو مواردهم
ومن أدب قضاء الحاجة أيضاً عدم التخلي في طرق الناس أوظلهم حيث يجلسون فيه لأن ذلك يؤذيهم .
فعن سراقة بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إذا ذهبتم إلى الغائط فاتقوا المجالس على الظل والطريق،خذوا النبل ،واستنشبوا على
سوقكم،واستجمروا وترا" . (4)
__________
(1) الرسالة (1/ 293) .
(2) المغني (1/107)
(3) صحيح الترغيب برقم (145).
(4) )) السلسلة الصحيحة رقم (2749) .(1/169)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا اللاعنيْن". قالوا: وما اللاعِنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يُتَخلّى في طُرق الناس، أو في ظلهِّم". (1)
قوله: "اللاعَنين": يريد الأمرين الجالبين اللعن، وذلك أنّ من فعلهما لُعِن وشُتِم، فلما كانا سبباً لذلك، أضيف الفعل إليهما، فكانا كأنهما اللاعنان.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اتقوا المَلاعِنَ الثلاث: البَراز في الموارِد، وقارعة الطرق، والظلِّ". (2)
الملاعن : مواضع اللعن، قال الخطابي: والمراد هنا بـ (الظل) هو الظل الذي اتخذه الناس مقيلاً ومنزلاً ينزلونه، وليس كلُّ ظل يحرم الحاجة تحته، فقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجته تحت حايش من النخل، وهو لا محالة له ظل (3) .أ.هـ
البراز: بفتح الموحدة اسم للفضاء الواسع فكنوا به عن الغائط، كما كنوا بالخلاء، لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس، كما في النهاية.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اتقوا الملاعن الثلاث"، قيل: ما الملاعنُ الثلاثُ يا رسول الله؟ قال: "أن يقعد أحدكم في ظلٍّ يُستظلُّ به، أو في طريقٍ، أو في نقع ماء". (4)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : يُلحق بالظل، الذي يتشمس فيه الناس أيام الشتاء، وهذا قياسٌ جلي. (5)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (269)، وأبو داود في سننه في كتاب الطهارة برقم (25)، وغيرهما.
(2) رواه أبو داود وابن ماجة، كلاهما عن أبي سعيد الحميَري عن معاذ، وقال أبو داود: وهو مرسل، يعني أن أبا سعيد لم يُدرك مُعاذاً، وقال الألباني: حسن لغيره ، صحيح الترغيب رقم (146)، الإرواء (1/100) .
(3) المعالم (1/30).
(4) رواه أحمد، صحيح الترغيب رقم (147)، وصحيح الجامع برقم (113) .
(5) الشرح الممتع (1/102) .(1/170)
قال النووي في الأذكار: ظاهر هذه الأحاديث تدل على جواز لعن العاصي مع التعيين أي أنه لو لم يجز لعنه كانت اللعنة على لاعنه والمشهور حرمة لعن المعين وأجاب الزين العراقي بأنه قد يقال إن ذلك من خواص المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لمقولة اللهم إني أتخذ عندك عهداً أيما مسلم سببته أو لعنته الحديث . (1)
وعن مكحول قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال بأبواب المساجد. (2)
وعن حذيفة بن أسيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آذى المسلمين في طرقهم، وَجَبَت عليه لَعنَتُهم". (3)
قال المناوي: قوله: "من آذى المسلمين في طرقهم" بالتخلي فيها كما بينه في رواية أخرى "وجب عليه لعنتهم"، وفي رواية: أصابته لعنتهم، وقد استدل به على تحريم قضاء الحاجة في الطريق، وعليه جرى الخطابي والبغوي في شرح السنة وتبعهم النووي في نكت التنبيه، واختاره في المجموع من جهة الدليل لكن المذهب أنه مكروه . (4)
باب
عدم البول في الماء الراكد
وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل أن يبول في مغتسله أو في الماء الراكد الذي لا يجري .
فعن حميد بن عبد الرحمن قال: لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صَحَبه أبو هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَمْشِط أحدنا كلَّ يومٍ، أو يبول في مُغتسَله. (5)
__________
(1) أنظر فيض القدير للمناوي .
(2) رواه أبو داود في مراسيله، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (150)، وصحيح الجامع برقم (6813) .
(3) رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (148)، وصحيح الجامع برقم (5923) .
(4) فيض القدير .
(5) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (154).(1/171)
وعن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى أن يبالَ في الماء الراكد. (1)
قال النووي: وهذا النهى في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة ويؤخذ ذلك من حكم المسئلة فان كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه لمفهوم الحديث ولكن الأولى اجتنابه وان كان قليلا جاريا فقد قال جماعة من أصحابنا يكره والمختار أنه يحرم لانه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعى وغيره ويغر غيره فيستعمله مع أنه نجس وان كان الماء كثيرا راكدا فقال أصحابنا يكره ولا يحرم ولو قيل يحرم . اهـ. (2)
باب
تطهير النجاسات
يجب تطهير أي نجاسة وخصوصاً النجاسة التي تكون في المسجد، ويكون تطهيرها بالماء .
فعن أم قيس بنت محصن ، "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله" . (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، "أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعوه ولا تزرموه قال فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (281)، باب النهي عن البول في الماء الراكد.
(2) شرح النووي (3/187) .
(3) أخرجه البخاري برقم (221) ، باب باب يهريق الماء على البول ، ومسلم برقم (286) ، باب حكم بول العربي الرضيع وكيفية غسله .
(4) أخرجه البخاري برقم (216)، باب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد ، ومسلم برقم (284)، باب باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء حاجة إلى حفرها .(1/172)
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك ، وهو عم إسحاق ، قال : "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مه مه ، قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزرموه دعوه" ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه ، فقال له : "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" ، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه" . (1)
في الحديث نجاسة بول الآدمي ويكفي في تطهيره صب الماء عليه .
قال ابن عبد البر : وهذا الحديث أصح حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الماء وهو ينفي التحديد في مقدار الماء الذي تلحقه النجاسة ويقضي أن الماء طاهر مطهر لكل ما غلب عليه وأن كل ما مازجه من النجاسات وخالطه من الأقذار لا يفسده إلا أن يظهر ذلك فيه أو يغلب عليه فإن كان الماء غالبا مستهلكا النجاسات فهو مطهر لها مؤثرة فيه وسواء في ذلك قليل الماء وكثيره هذا ما يوجبه هذا الحديث وإليه ذهب جماعة من أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وابن شهاب وربيعة وهو مذهب المدنيين من أصحاب مالك ومن قال بقولهم من البغداديين وهو مذهب فقهاء البصرة وإليه ذهب داود ابن علي وهو أصح مذهب في الماء من جهة الأثر ومن جهة النظر لأن الله قد سمى الماء المطلق طهورا يريد طاهرا مطهرا فاعلا في غيره . (2)
باب
عدم استخدام اليد اليمنى
في قضاء الحاجة.
يكون استخدام اليد اليمنى في كل شيء إلا في حالة قضاء الحاجة يكون تطهير النجاسة باليد اليسرى .
__________
(1) رواه مسلم برقم (285) ، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء حاجة إلى حفرها.
(2) ) ) التمهيد (24/16-17) .(1/173)
فعن عائشة "كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه" (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ليأكل أحدُكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينهِ، وليُعْطِ بيَمينهِ، فإن الشيطان يأكل بشمالِهِ، ويشرب بشِمالهِ، ويُعطي بشِمالهِ، ويأخذ بشِمالِه" . (2) .
قال ابن الجوزي: لما جُعلت الشمال للاستنجاء ومباشرة الأنجاس، واليُمنى لتناول الغذاء، لم يصلح استعمال أحدهما في شغل الأخرى لأنه حطاًّ لرتبة ذي الرتبة، ورفع للمحطوط، فمن خالف ما اقتضته الحكمة وافق الشيطان.أ.هـ. (3) .
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه" . (4)
الاستنجاء : -هو القطع- نجوت غصون الشجر إذا قطعتها، قال غيره نجوت الشجرة وأنجيت واستنجيت إذا قطعتها وإنما قيل لمن استعمل الحجارة في الخلاء قد استنجى لأنه يقطع النجاسة بها عن بدنه ويزيلها عنه . (5)
قال النووي : أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم. أ.هـ . (6)
وقال رحمه الله تعالى: إن فى النهى عن الاستنجاء باليمين تنبيها على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها .
__________
(1) صحيح أبي داود رقم (25) .
(2) صحيح الترغيب رقم (214) ، والسلسلة الصحيحة برقم (1236).
(3) كشف المشكل (2/594) .
(4) )) رواه البخاري برقم (152) ، باب النهي عن الاستنجاء باليمين ، ومسلم برقم (267) ، باب النهي عن الاستنجاء باليمين .
(5) )) الغريب للخطابي (2/374) .
(6) )) شرح مسلم (3/127) .(1/174)
قال أصحابنا: ويستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شئ من أمور الاستنجاء إلا لعذر فإذا استنجى بماء صبه باليمنى ومسح باليسرى وإذا استنجى بحجر فان كان في الدبر مسح بيساره وإن كان في القبل وأمكنه وضع الحجر على الأرض أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على الحجر فان لم يمكنه ذلك واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه وأمسك الذكر بيساره ومسح بها ولا يحرك اليمنى هذا هو الصواب.اهـ. (1)
وقال ابن حجر : قوله باب لايمسك ذكره بيمينه إذا بال أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين، كما في الباب قبله محمول على المقيد بحالة البول فيكون ما عداه مباحا . (2)
فائدة : قال الشيخ تقي الدين ( يعني ابن دقيق العيد ) : "هذا الحديث عام مخصوص لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار" . (3)
وعند مسلم وغيره: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه".
وقال ابن الجوزي رحمه الله: وإنما وقع النهي عن مس الذكر والاستنجاء باليمين لمعنيين: "أحدهما: لرفع اليمين عن الاستعمال في خساس الأحوال، ولهذا تجعل في آخر دخول الخلاء وأول دخول المسجد، وتُعجل اليمين للأكل والشرب والتناول، وتمتهن اليسرى في الأقذار.
والثاني: أنه لو باشرت اليُمنى النجاسة لكان الإنسان يتذكر عند تناول طعامه بيمينه ما باشرت ومست، فينفر الطبع ويستوحش، ويخيل إليه بقاء ذلك الأثر فيها. فنزهت عن هذا ليطيب عيشه في التناول. أ.هـ.
باب
التيمن في كل شيء إلا دخول الحمام والخروج من المسجد
كذلك يكون التيمن أي استخدام اليمين في كل شيء إلا في دخول الحمام والخروج من المسجد يكون بالشمال .
__________
(1) )) شرح مسلم (3/156) .
(2) )) فتح الباري (1/254) .
(3) )) نقله الحافظ في الفتح ( 1/ 216) وأقره .(1/175)
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله". (1) .
قال الشوكاني : وفي الحديث دلالة على مشروعية الابتداء باليمين في لبس النعال وفي ترجيل الشعر أي تسريحه ، وفي الطهور فيبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى وبرجله اليمنى قبل اليسرى وبالجانب الأيمن من سائر البدن في الغسل قبل الأيسر، والتيامن سنة في جميع الأشياء لا يختص بشيء دون شيء كما أشار إلى ذلك الحديث بقوله وفي شأنه كله وتأكيد الشأن بلفظ كل يدل على التعميم وقد خص من ذلك دخول الخلاء والخروج من المسجد . . (2)
باب
الاستبراء من البول
قال الله تعالى: { وثيابك فطهر } . (3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرين، فقال: "إنَّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله". (4)
وفي رواية في الصحيحين: "فكان لا يستنزه من بوله".
وفي رواية للبخاري، وبوب عليه "باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله":
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانينِ يُعذَّبان في قبورهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى، كان أحدهما لا يستتر من بولهِ، وكان الآخرُ يمشي بالنميمة".
والنميمة: حقيقتها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد.
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (416)، باب التيمن في دخول المسجد وغيره، ومسلم برقم (268)، باب التيمن في الطهور وغيره .
(2) نيل الأوطار (1/212) .
(3) سورة المدثر الآية (4).
(4) رواه البخاري في كتاب (الوضوء) برقم (216)، وهذا أحد ألفاظه، ومسلم في كتاب (الطهارة) برقم (292).(1/176)
قال الخطابي: قوله: (وما يعذبان في كبير) معناه: أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما، أو يشق فعله لو أرادا أن يفعلا، وهو التنزه من البول، وترك النميمة، ولم يُرد أنّ المعصية في هاتين الخصلتين ليست بكبيرة في حق الدين، وأن الذنب فيهما هين سهل. (1)
وقال الخطابي أيضاً : هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة لا أن في الجريدة معنى يخصه ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس . (2)
وهذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل برقم (3006) في آخر الكتاب ، قال : "إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين" .
و للأسف الشديد نجد بعض المسلمين ممن يضع الورد على القبر ، وهذا الفعل لا يجوز لأنه من بدع النصارى أولاً ، وثانياً إذا كان دليله هذا الحديث نقول : هذا الحديث أثبت عذاب القبر لمن فيه فهل الذي يضع الورد على القبر يثبت لميته العذاب؟ هذا أولا ، وثانياً هذا الحديث خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا آنفاً .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكثر عذاب القبر من البول". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تنزهوا من البول،
فإن عامة عذاب القبر من البول". (4)
__________
(1) معالم السنن (1/27).
(2) عون المعبود (1/25) .
(3) رواه أحمد وابن ماجة -واللفظ له- والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة، قال الحافظ: وهو كما قال، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (161).
(4) رواه الدارقطني في السنن (1/127)، وقال: المحفوظ مرسل، إرواء الغليل (1/310/280)، وصحيح الترغيب رقم (159).(1/177)
وعن عبد الرحن بن حسَنة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده الدَّرَقةُ، فوضعها ثم جَلَس، فبالَ إليها، فقال بعضهم: انظروا إليه يبولُ كما تبول المرأةُ! فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ويحك! ما علمتَ ما أصاب بني إسرائيل؟ كانوا إذا أصابهم البولُ قرضوه بالمقاريض، فنهاهم، فعُذِّب في قبره". (1)
الدرقة: بفتحات: الترس إذا كان من جلد، وليس فيه خشب ولا عصب .
وقوله: فوضعها أي: جعلها حائلة بينه وبين الناس، وبال مستقبلاً إليها.
وقوله (ويحك): كلمة ترحم وتهديد.
باب
دخول الحمام ونهي الرجال من الدخول بغير أُزُرٍ،
ومن دخول النساء بأُزُرٍ وغيرها
عن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يُدخل حليلته الحمّام". (2)
والحديث يدل على عدم جواز دخول الحمام للرجال بدون مئزر، وعدم الجواز للنساء مطلقاً سواء كان بمئزر أو بغير مئزر .
وعن قاص الأجناد بـ (القسطنطينية)، أنه حدَّث: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس! إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعدنَّ على مائدة يُدار عليها الخمر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام". (3)
__________
(1) رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (16)، وصحيح الترغيب برقم (162).
(2) رواه النسائي، والترمذي وحسنه، والحاكم ، وقال: صحيح على شرط مسلم، السلسلة الصحيحة برقم (3439) وصحيح الترغيب رقم (164).
(3) رواه أحمد، ، وقال الألباني: صحيح لغيره ، صحيح الترغيب (167).(1/178)
وعن أبي المليح الهُذَلي: أن نساء من أهل (حِمصَ) أو من أهل (الشام) دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت: أنتن اللاتي يَدخُلْنَ نساؤكن الحمّامات؟! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هَتَكَت السِّتر بينها وبين ربِّها". (1)
وفي رواية: أن نساء دَخلْنَ على أمِّ سلمة رضي الله عنها، فسألتهنَّ: من أنتنَّ؟ قلن: من أهل (حمص). قالت: من أصحاب الحمَّامات؟ قلن: وبها بأسٌ؟ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما امرأةٍ نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عنها بستره". (2)
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: خرجت من الحمام، فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من أين يا أمّ الدرداء؟" فقلت: من الحمام، فقال: "والذي نفسي بيده ما من امرأة تنزع ثيابها في غير بيت أحدٍ من أمهاتها، إلا وهي هاتكة كلَّ ستر بينها وبين الرحمن عز وجل". (3)
قال أحمد بن حنبل: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فأدخله وإلا فلا تدخل، وقال سعيد بن جبير دخول الحمام بغير إزار حرام . (4)
__________
(1) رواه الترمذي -واللفظ له- وقال: حديث حسن، وأبو داود وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (170).
(2) رواه أحمد وابو يعلى والطبراني والحاكم، من طريق درَّاج ابي السمح عن السائب، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (171).
(3) رواه أحمد والطبراني في (الكبير)، قال في المجمع (1/277): رجال أحدهما رجال الصحيح، وعند أحمد (6/361-362) وسنده صحيح كما قال الألباني في صحيح الترغيب برقم (169).
(4) المغني (1/146).(1/179)
وقال ابن قدامة : فأما النساء فليس لهن دخوله مع ما ذكرنا من الستر إلا لعذر من حيض، أو نفاس، أو مرض، أو حاجة إلى الغسل، ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها لتعذر ذلك عليها، أو خوفها من مرض، أو ضرر فيباح لها ذلك إذا غصت بصرها وسترت عورتها وأما مع عدم العذر فلا لما روي أن رسول الله قال ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها حمامات فامنعوا نساءكم إلا حائضا أو نفساء . (1)
باب
آداب الوضوء
الإتباع في الوضوء .
عن عائشة رضي الله عنها،عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " . (2)
وفي لفظ : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" .
قال العلامة الألباني : وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - فإنه صريح في رد وإبطال كل البدع والمحدثات ، واللفظ الأول أعم في الرد فإنه يشمل كل عمل بالبدعة ولو كان المحدث لها غيره بخلاف اللفظ الآخر . (3)
وروي عن عثمان : "أَنَّه دَعَا بإنَاءٍ ، فَأَفْرَغَ عَلى كَفَّيهِ ثَلاثَ مراتٍ فَغَسلهما ... " الحديث .
وعن عائشة "كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وكانت اليمنى لوضوئه ولمطعمه" (4) .
فائدة : قال الشيخ تقي الدين (يعني ابن دقيق العيد) : "هذا الحديث عام مخصوص لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما
باليسار" . (5)
__________
(1) المغني (1/146).
(2) )) رواه البخاري برقم (6917) ، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول علم فحكمه مردود، ومسلم برقم (1718) ، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .
(3) إرواء الغليل (1/128) . .
(4) صحيح أبي داود رقم (25) .
(5) نقله الحافظ في الفتح ( 1/ 216) وأقره .(1/180)
فائدة : يستحب أن يقول عقب الوضوء أيضاً : " سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ، استغفرك وأتوب إليك " لحديث أبي سعيد .اهـ. (1)
باب
إسباغ الوضوء
يجب غسل أعضاء الوضوء بشكل جيد وتام وبخلافه يكون الوضوء ناقص وبالتالي يؤدي إلى إبطاله .
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ، إلى قوله تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: "ويل للأعقاب من النار".
وفي رواية: أن أبا هريرة رأى قوماً يتوضؤون من المطهرة فقال: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويلٌ للأعقاب من النار، أو ويل للعراقيب من النار". (3)
(المطهرة): كل إناي يُتطهر به، وهي بكسر الميم وفتحها.
(العراقيب): جمع عرقوب بضم العين في المفرد وفتحها في الجمع، وهو العصبة التي فوق العقب.
وفي إسباغ الوضوء والمحافظة عليه فضائل كثيرة، فمنها أنه من علامات الإيمان، و أن هذه الأمة يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، ويكون آثار نوراً يوم القيامة .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". (4)
__________
(1) )) إرواء الغليل (1/131-135) ، باب الوضوء .
(2) سورة المائدة الآية (6).
(3) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (165)، ومسلم في كتاب الطهارة برقم (242).
(4) أخرجه البخاري برقم (136)، باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، ومسلم في كتاب الطهارة برقم (246) ، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
تنبيه: قوله:فمن استطاع ...الخ:مدرج من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - .(1/181)
"غراً" الغُرة : هي بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض يديها ورجليها.
قال العلماء : سمي النور الذي يكون في مواضع الوضوء يوم القيامة غرَّةً وتحجيلاً، تشبيهاً بغرة الفرس.
وتطويل الغرة، هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهذا مستحب بلا خلاف . (1)
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد له تملآن، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد الله تملآن، أو تملأ ما بينَ السماءِ والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقة برهان، والصبر ضياءٌ، والقرآن حُجَّةٌ لكَ أو عليك". (2)
قال النووي : هذا حديث عظيم أصل من أصول الاسلام قد اشتمل على مهمات من قواعد الاسلام . (3)
وقال في موضع آخر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "والصدقة برهان": قالوا: وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة ايمانه بظاهره وباطنه، قال القاضي عياض: قال المازرى رحمه الله : قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة وأن المواساة لا تكون الا في مال له بال وهو النصاب ثم جعلها في الأموال الثابتة وهي العين والزرع والماشية وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الأنواع واختلفوا فيما سواها كالعروض فالجمهور يوجبون زكاة العروض. (4)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد غفر الله له ذنوبه". (5)
قوله : فأسبغ الوضوء : أي أتم وأكمل .
__________
(1) ) ) شرح النووي (3/135،134) .
(2) رواه مسلم برقم (223)، باب فضل الوضوء .
(3) شرح مسلم (3/100) .
(4) شرح مسلم (7/48) .
(5) رواه مسلم برقم (232)، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.(1/182)
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إسباغ الوضوء في المكارة وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً". (1)
وعنه قال سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". (2)
"الحلية" : ما يحلى به أهل الجنة من الأساور ونحوها.
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره". (3)
وفيما تقدم : بيان فضل الوضوء وثوابه وأنه يكفر الذنوب، وفيه فضل إسباغ الوضوء وخروج الخطايا من الجسد على قدر حسن الوضوء حتى تخرج من تحت أظفاره.
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها". (4)
وعن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنهما قال : أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فدعا بلالاً ، فقال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ إنني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي؟" ، فقال بلال : يا
رسول الله! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بهذا". (5)
__________
(1) رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (184).
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (585).
(3) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (577).
(4) رواه البخاري برقم (158)، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا ، ومسلم برقم (227)، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(5) أخرجه الترمذي في المناقب، وأحمد في المسند (5-360) بسنده على شرط مسلم وصححه الحاكم والذهبي على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (194).(1/183)
"خشخشتك" : الخشخشة حركة لها صوت كصوت السلاح، أي صوت مشيتك .
وفي رواية عن بريدة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما دخلت الجنة إلا سمعتُ خشخشة، فقلت: من هذا ؟ قالوا: بلال، ثم مررت بقصر مَشِيدٍ مربع ، فقلت : لمن هذا ؟ قالوا لرجل من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فقلت : أنا محمد ! لمن هذا القصر ؟ قالوا لرجل من العرب . فقلت : أنا عربي ! لمن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - ، فقال لبلال : " بمَ سبقتني الجنة ؟" ، قال : ما أحدثت إلا توضأتُ ، وما توضأتُ إلا صليت – وفي رواية : إلا رأيت أن عليَّ ركعتين أُصليهما ، قال - صلى الله عليه وسلم - : "بها" .
وقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - : "لولا غيرتك لدخلت القصر" .
فقال : يا رسول الله ! لم أكن لأغار عليك . (1)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". (2)
وزاد الترمذي: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من التطهرين.
__________
(1) ) ) صحيح موارد الظمآن برقم (143) ، والإرواء (2/221) ، والتعليق الرغيب (1/99) ، والمشكاة برقم (1326) .
(2) رواه مسلم برقم (234) .(1/184)
وعن أبي حازم قال : كنت خَلْفَ أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة فكان يمُدُّ يَدَه حتى يبلغ إبطَه، فقلت له : يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروَّخ أنتم هاهنا؟! لو علمت أنكم هنا ما توضأت هذا الوضوء سمعت خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". (1)
"الحلية" : ما يحلى به أهل الجنة من الأساور ونحوها.
"فروخ" : قال القاضي : إنما أراد أبو هريرة بكلامه هنا الموالي وكان خطابه لأبي حازم، وقال رحمه الله تعالى: وإنما أراد أبو هريرة بكلامه هذا أنه لا ينبغي لمن يقتدي به إذا ترخص في أمر لضرورة أو تشدد فيه لوسوسة أو لاعتقاده في ذلك مذهباً شذ به عن الناس أن يفعله بحضرة العامة الجهلة لئلا يترخصوا برخصة لغير ضرورة، أو يعتقدون أن ما تشدد فيه هو الفرض اللازم، والله أعلم.
وعن زر عن عبد الله - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من لم تَرَ من أمتك؟ قال: "غر محجلون بُلْق من آثار الوضوء". (2)
"بُلق" : جمع أبلق ، والبَلق : سواد وبياض.
وعن عثمان رضي الله عنه أنه أوتي بطهور وهو جالس على (المقاعد) فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء ثم قال: "من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه" قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تغتروا". (3)
__________
(1) رواه مسلم عن أبي حازم في كتاب الطهارة برقم (250) ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحو هذا إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الحلية تبلغ مواضع الطَّهور.
(2) رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم (171).
(3) رواه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6433).(1/185)
وعنه : أنه دعا بماء فتوضأ ثم ضحك فقال لأصحابه: ألا تسألوني ما أضحكني؟ فقالوا: ما أضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: "رأيت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ كما توضأت، ثم ضحك فقال: "ألا تسألوني ما أضحكك"؟ فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟
فقال: "إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه حَطَّ الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك وإذا طهر قدميه كان كذلك". (1)
"المقاعد" : موضع قرب المسجد النبوي كان يجلس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند باب الجنائز .
وعن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقوم في صلاته، فيَعلمُ ما يقول، إلا انفَتَلَ وهو كيوم ولدته أمه.." (2) ، الحديث.
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من أتم الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبات كفاراتٌ لما بينهن". (3)
وعن أبي أيوب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ كما أُمرَ وصلى كما أُمرَ غُفِرَ له ما قدَّم من عمل". (4)
__________
(1) رواه أحمد بإسناد جيد وأبو يعلى ورواه البزار بإسناد صحيح وزاد فيه: فإذا مسح رأسه كان كذلك، صحيح الترغيب رقم (177).
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (234)، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم واللفظ له وقال: (صحيح الإسناد).
(3) رواه النسائي وابن ماجة بإسناد صحيح، صحيح الترغيب برقم (188).
(4) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب رقم (189).(1/186)
وعن ثعلبة بن عباد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: ما أدري كم حدَّثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجاً أو أفراداً قال: "ما من عبد يتوضأ فيحسن الوضوء فيغسل وجهه حتى يسيل الماء على ذَقنِهِ ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه ثم غسل رجليه حتى يسيل الماء من كعبيه ثم يقوم فيصلي إلا غفر له ما سَلَفَ من ذنبه". (1)
"الذقن" : بفتح الذال المعجمة والقاف أيضاً : هو مجتمع اللحيين من أسفلها.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا أول من يُؤذَنُ له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يرفع رأسه، فأنظر بين يَدَيَّ فأعرف أمتي من بين الأمم ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن شمالي مثل ذلك" فقال رجل: كيف تعرف أمتك يا رسول الله من بين الأمم فيما بين نوحٍ إلى أمتك؟ قال : "هم غُرٌّ محجلون من أثرِ الوضوء ليس لأحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتَون كُتُبَهم بأيْمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذُرِّيَتهمُ". (2)
وعن عثمان - رضي الله عنهم - أنه توضأ ثم قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا ، ثم قال : "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة". (3)
وفي لفظ للنسائي: "من أتم الوضوء كما أمره الله عز وجل فالصلوات كفارات لما بينهن".
فالوضوء يكون سبباً لغفران الذنوب، وسعة رحمة الله سبحانه وتعالى وكرمه بحيث جعل الخروج والمشي إلى المسجد نافلة وزيادة في الأجر وهذا من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (181).
(2) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (173).
(3) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (229) .(1/187)
وفي لفظ له مختصراً قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرئٍ يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضأ العبد المسلم- أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب". (2)
المواظبة على الوضوء وسيلة لمغفرة الذنوب وتكفير الخطايا التي ترتكبها الأعضاء التي يجري عليها الوضوء.
باب
ثواب من أسبغ الوضوء في البرد الشديد
وهو يشق عليه
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاني الليلة آتٍ من ربي قال: يا محمدأتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، ونقل الأقدام للجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير، وما كان من ذنوبه كيوم ولدته أمه". (3)
"السبرات" : جمع سبرة وهي شدة البرد.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟" قالوا : بلى يا رسول الله قال :
"إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (538) و (543) و (547).
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (576).
(3) رواه الترمذي وقال: (حديث حسن)، صحيح الترغيب برقم (187).
(4) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (586)، والترمذي والنسائي وابن ماجة.(1/188)
"يمحو" : يغفر .
"الدرجات" : المنازل العالية في الجنة.
"إسباغ الوضوء" : الإتيان به كاملاً وتاماً .
"المكاره" : جمع مكره وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه كالبرد الشديد والمرض ونحوه.
"الرباط" : ملازمة ثغور العدو وحراستها لحفظ حوزة المسلمين .
وعن أبي سيعد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به في الحسنات ويكفر به الذنوب؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إسباغ الوضوء على المكروهات وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط". (1)
باب
ثواب تجديد الوضوء وفضله
عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "استقيموا ولن تُحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". (2)
قوله : "لن تحصوا" أي : لن تحصوا مالكم عند الله من الأجر والثواب إن استقمتم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء سواك". (3)
باب
السواك مطهرة للفم مرضاة للرب
إن من سنن الفطرة الحميدة والتي حض عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((السواك)) فقد بين لنا أنه من خصال الفطرة .
فعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية : والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء" .
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه عن شرحبيل بن سعد عنه،صحيح الترغيب (186).
(2) صححه الألباني في تمام المنة (ص234) وصحيح الترغيب (192، 375، 376) والمشكاة (292) والمساجلة (217) والإرواء (413).
(3) رواه أحمد بإسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (193).(1/189)
قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة ، إلا أن تكون المضمضة ، زاد قتيبة قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء . (1)
وأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ، وهو من الطهارة الظاهرة .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". (2)
وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عليكم بالسواك فإنه مطيبة للفم مرضاة للرب تبارك وتعالى". (3)
فالسواك يكون سبباً لرضى الرب سبحانه وتعالى ، كما يكون سبباً
في نظافة الفم وطهارته ، لذا شرعه المولى تبارك وتعالى كما هو في هذه الأحاديث النبوية .
السواك لغة : يطلق على الفعل، وهو الاستياك، وعلى الآلة التي يُسْتاكُ بها .
والسِّواك: بالكسر ، والمِسْواك ما تُدْلَكُ به الأسْناَن من العِيدانِ ، يقال سَاك فَاهُ يَسُوكه إذا دَلَكه بالسِّوك ، فإذا لم تَذْكُر الفمَ قلت اسْتَاك . (4)
واصطلاحاً : عرفه الشافعية والحنابلة : أنه استعمال عود أو نحوه في الأسنان لإذهاب التغير ونحوه . (5)
وهذا التعريف الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد أُمرت بالسواك حتى خشيت أن يوحي إلي فيه شيء". (6)
__________
(1) ) ) أخرجه مسلم برقم (261) باب خصال الفطرة.
(2) رواه البخاري معلقاً مجزوماً في كتاب الصيام (1/165) ، باب السواك الرطب واليابس للصائم ، والنسائي (1/10) وابن حبان، وأخرجه أحمد في مسنده، الإرواء (66) صحيح الترغيب (202).
(3) رواه أحمد من رواية ابن لهيعة، صحيح الترغيب رقم (203) .
(4) 1) ) النهاية في غريب الحديث (2/425) .
(5) 2) ) انظر المجموع (1/270) ، ومغني المحتاج (1/55) .
(6) رواه أحمد بإسناد جيد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم (207) .(1/190)
و عن غيلان بن جرير،عن أبي بردة،عن أبيه، قال:"أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك بيده يقول أع أع والسواك في فيه كأنه يتهوع". (1)
قال ابن حجر : ويستفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولاً، أما الأسنان فالأحب فيها أن تكون عرضا .
ثم قال : وفيه تأكيد السواك، وأنه لا يختص بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطيب لا من باب إزالة القاذورات لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يختف به، وبوبوا عليه استياك الإمام بحضرة رعيته .اهـ. (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طيبوا أفواهكم بالسواك ، فإنها طرق القرآن". (3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لقد أُمرت بالسواك حتى خفت على أسناني". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". (5)
وفي رواية: "لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء". (6)
"وكان - صلى الله عليه وسلم - لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا استيقظ بدأ بالسواك". (7)
وعن حذيفة - رضي الله عنه - ، قال : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك" . (8)
يشوص : أي يدلك أسنانه وينقيها .
__________
(1) رواه البخاري برقم (241)، باب السواك .
(2) الفتح (1/356) .
(3) رواه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3834).
(4) رواه الطبراني في الأوسط، صحيح الجامع (4995).
(5) رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم (887)، ومسلم في كتاب الطهارة برقم (588).
(6) رواه الإمام أحمد وابن خزيمة.
(7) أخرجه أحمد في مسنده (2/117)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4748) ، والسلسلة الصحيحة برقم (2111) .
(8) )) أ أخرجه البخاري برقم (242)، باب السواك،مسلم برقم(255)،باب السواك .(1/191)
قال بن دقيق العيد : فيه استحباب السواك عند القيام من النوم ، لأن النوم مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من ابخرة المعدة والسواك آلة تنظيفه فيستحب عند مقتضاه ، قال : وظاهر قوله من الليل عام في كل حالة ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة .اهـ . (1)
وعن علي - رضي الله عنه - ، أنه أمر بالسواك ، وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنو منه كلما قرأ آية أو كلمة نحوها حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء من القرآن إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقرآن". (2)
وعن شريح بن هاني قال: "قلت لعائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: "بالسواك". (3)
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضؤون". (4)
وعن العباس بن عبد المطلب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك عند كل صلاة كما فرضت عليهم
الوضوء". (5)
وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيء من الصلاة حتى يستاك". (6)
__________
(1) ) ) فتح الباري (1/356) .
(2) رواه البزار بإسناد جيد، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/99): رواه البزار ورجاله ثقات، وروى بعضه ابن ماجة إلا أنه موقوف وهذا مرفوع، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (210)، والسلسلة الصحيحة (3/215).
(3) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (589) وغيره .
(4) رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (200).
(5) رواه البزار والطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (201).
(6) رواه الطبراني ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (205).(1/192)
قال النووي : يستحب السواك في خمس حالات :
أحدها : عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو بتراب متطهر كمن لم يجد ماء ولا ترابا .
الثاني : عند الوضوء .
الثالث : عند قراءة القرآن .
الرابع : عند الاستيقاظ من النوم .
الخامس : عند تغير الفم ، وتغيره يكون بأشياء ، منها ترك الأكل والشرب ، ومنها أكل ما له رائحة كريهة ، ومنها طول السكوت ، ومنها كثرة الكلام .
وقال: ويستحب أن يستاك بعود من أراك وبأى شئ استاك مما يزيل التغير حصل السواك كالخرقة الخشنة والسعد والاشنان ، وأما الاصبع فان كانت لينة لم يحصل بها السواك ، وان كانت خشنة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا المشهور لا تجزي، والثاني تجزي ، والثالث تجزي إن لم يجد غيرها ولا تجزي إن وجد ، والمستحب أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبس يجرح ولا رطب لا يزيل، والمستحب أن يستاك عرضا ولا يستاك طولا لئلا يدمي لحم أسنانه فان خالف واستاك طولا حصل السواك مع الكراهة، ويستحب أن يمر السواك أيضاً على طرف أسنانه وكراسى أضراسه وسقف حلقه أمرارا لطيفا، ويتسحب أن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فيه ولا بأس باستعمال سواك غيره باذنه،ويستحب أن يعود الصبي السواك ليعتاده. (1)
قال عامر بن ربيعة : "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا لا أُحْصي يَتَسوَّكُ وَهُو صَائِمٌ " . (2)
قال الألباني رحمه الله : "فائدة" قال الترمذي عقب الحديث : إن الشافعي لم ير في السواك بأساً للصائم أول النهار وآخره ، وكرهه أحمد وإسحاق آخر النهار .
وفي رواية عن أحمد مثل قول الشافعي ، واختارها ابن تيمية في "الاختيارات" وقال (ص10) : إنه الأصح . قال الحافظ في "التلخيص" (ص22) : "وهذا اختيار أبي شامة وابن عبد السلام والنووي وقال : إنه قول أكثر العلماء وتبعهم المزني" .
__________
(1) ) ) شرح مسلم (3/142- 144) .
(2) )) قال الألباني : ضعيف . الإرواء (1/107) .(1/193)
وهو الحق لعموم الأدلة كالحديث الآتي في الحض على السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء . وبه قال البخاري في "صحيحه" (4/127) وأشار إلى تضعيف حديث عامر هذا .اهـ. (1)
باب
الذكر بعد الوضوء وثوابه
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". (2)
وفي رواية : "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل في أيها شاء". (3)
وزاد الترمذي بعد التشهد: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين". (4)
وزاد أحمد : "ثم رفع نظره إلى السماء". (5)
وزاد ابن ماجة مع أحمد قول ذلك ثلاث مرات. (6)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وأما الأذكار التي يقولها العامة عند كل وضوء فلا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، وفيها حديث كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أ.هـ . (7)
__________
(1) )) الإرواء (1/107) .
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (234)، وأحمد في مسنده (17316/1).
(3) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (234)، وابو داود وابن ماجة وقالا : فيسحن الوضوء .
(4) أخرجه الترمذي في الطهارة برقم (55).
(5) في مسنده (17316/6).
(6) في كتاب الطهارة (470).
(7) ) ) الوابل الصيب .(1/194)
وعن أبي سيعد الخدري - رضي الله عنهم - : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ ففرغ من وضوئه ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك كُتِبَ في رَقٍّ وطبع عليها بطابع ثم رُفِعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة". (1)
باب
ثواب من بات طاهراً
عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يبيت طاهراً فيتعارّ من الليل فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه". (2)
"فيتعار" : بمهملة وراء مشددة والتعار السهر والتمطي والتقلب على الفراش ليلاً مع كلام ، وقال الأكثر : التعار : اليقظة مع الصوت.
قال المناوي : والطهارة عند النوم قسمان طهارة الظاهر وهي معروفة ، وطهارة الباطن وهي بالتوبة وهي آكد من الظاهرة فربما مات في نومه وهو متلوث بأوساخ الذنوب فيتعين عليه التوبة وأن يزيل من قلبه كل شيء وحقد ومكروه لكل مسلم . (3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهروا أجسادكم طهركم الله فإنه ليس من عبدٍ يبيت طاهراً إلا بات معه في شعاره ملك لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً". (4)
__________
(1) رواه النسائي في الكبير برقم (9909/6)، ورواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (218).
(2) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، صحيح الجامع رقم (5630)، المشكاة رقم (1215)، وصحيح الترغيب رقم (595).
(3) فيض القدير .
(4) حسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3936) وتخريج الترغيب (596) .(1/195)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من بات طاهراً بات في شعاره مَلَكٌ، فلا يستيقظ إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك فلان ؛ فإنه بات طاهراً". (1)
شعاره : أي ثوبه الذي جسده .
باب
الوضوء بعد الاستيقاظ من النوم وثوابه
عن أبي عُشَّانة ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : لا أقول اليوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من كذَبَ عليَّ متعمداً فليتبوأ بيتاً من جهنَّم" .
وسمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : "يقوم الرجل من أمتي من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقَد ، فإذا وضأ يديه انحلت عقدة ، فإذا وضأ وجهه انحلت عقدة ، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة ، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة ، فيقول الله عزَّ وجل للذين وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ! ما سألني عبدي هذا فهو له ، ما سألني عبدي هذا فهو له" . (2)
باب
استحباب ركعتين بعد الوضوء
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة" قال : ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من الليل أو النهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي". (3)
"الدف" : بالفاء صوت النعل وحركته على الأرض والله أعلم.
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (594) ، وصحيح موارد الظمآن برقم (145) ، والصحيحة برقم (2539) .
(2) ) ) صحيح موارد الظمآن برقم (146) ، والتعليق الرغيب (1/220) .
(3) أخرجه البخاري في التهجد برقم (1149) وهذا لفظه،وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة برقم (2458).(1/196)
"بأرجى عمل" : العمل الذي هو أكثر رجاء في حصول ثوابه. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أحدٍ يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه
عليهما إلا وجبت له الجنة". (1)
وعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". (2)
وعن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوءٍ فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غُفرَ له ما تقدم من ذنبه". (3)
استنثر : استخرج ما في أنفه فينثره، أي يمتخطه . (4)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعاً – يشك سهل- يحسن فيهن الذكر والخشوع ثم استغفر الله، غفر له". (5)
الوَضُوء، بالفتح : الماء الذي يُتوضَّأُ به، والوُضوء، بالضم: التوضُّوء والفعل نفسه . (6)
باب
كراهية الاعتداء في الطهور
عن عبد الله بن مُغَفَّل :
__________
(1) رواه مسلم في الطهارة برقم (234)، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة في صحيحه .
(2) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (221).
(3) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (164)، ومسلم في الطهارة برقم (229).
(4) ) ) النهاية في غريب الحديث (5/15) .
(5) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (223).
(6) ) ) النهاية في غريب الحديث (5/195) .(1/197)
سمع ابناً له في دعائه يقول : اللهمَّ ! إني أسألُك القصر الأبيض عن يمين الجنّة إذا دخلتها ، قال : أي بني ! سل الله الجنة وتعوذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :"سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور" . (1)
قوله : يعتدون في الدعاء أي يتجاوزون الحدود يدعون بما لا يجوز أو يرفعون الصوت به أو يتكلفون السجع . (2)
- - -
كتاب الصلاة
باب
الأذان وفضله
الأذان هو الإعلام، أي إعلام بدخول وقت الصلاة .
قال الله تعالى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . (3) أي إعلام من الله ورسوله .
قال ابن منظور: الأَذانُ: الإِعْلامُ. و آذَنْتُكَ بالشيء: أَعْلَمْتُكَه. و آذَنْتُهُ: أَعْلَمتُه.قال الله عز وجل: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي إعلام . (4)
وشرعاً : هو اللفظ المعلوم المشروع في أوقات الصلوات للإعلام بدخولها .
وفيه الفضل العظيم والأجر الكثير عند الله تعالى، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة المطهرة .
قال الله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . (5)
قالت عائشة رضي الله عنها: أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين. (6)
وقال ابن حجر : والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف الجميع وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام، كما قال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } . (7) ... (8)
__________
(1) ) ) صحيح أبي داود برقم (86) ، والإرواء (1/171) ،وصحيح موارد الظمآن برقم (148) .
(2) ) ) فيض القدير (4/130) .
(3) سورة التوبة الآية (3).
(4) لسان العرب (13/9) .
(5) سورة فصلت الآية (33).
(6) التمهيد لابن عبد البر (19/226) .
(7) سورة الأنعام الآية (157) .
(8) فتح الباري (9/76) .(1/198)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المؤذن يغفر له مد صوته وأجره مثل أجر من صلى معه". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". (2)
الاستهام: الاقتراع.
التهجير: التبكير إلى الصلاة.
النداء: الأذان.
الصف الأول: الذي يلي الإمام.
العتمة: العشاء.
الحبو: المشي على اليدين والركبتين.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء". (3)
قال الراوي: والروحاء من المدينة على ستة وثلاثين ميلاً.
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم والمؤذن يغفر له مدى صوته وصدقه من سمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه". (4)
قوله :مدى صوته يعني : غايته، والمعنى يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى رفع الصوت فيبلغ من المغفرة بقدر ما يبلغ الغاية من الصوت.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة، صحيح الجامع رقم (6519)، وصحيح الترغيب رقم (229).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم(615)، ومسلم في كتاب الصلاة برقم (980).
(3) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (852).
(4) رواه أحمد والنسائي، قال في المجمع (1/326): (رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزار إلا أنه قال: يجيبه كل رطب ويابس، ورجاله رجال الصحيح)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب (228).(1/199)
و عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة". (1)
قال القاضي عياض وغيره: ورواه بعضهم إعناقاً بكسر بالهمزة أي: إسراعاً إلى الجنة وهو من سير العنق.
وعن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني، عن أبيه، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شَهِدَ له يوم القيامة".
قال أبو سعيد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (2)
قوله: "إلا شهد له يومَ القيامة": المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، وكما أن الله يفضح بالشهادة قوماً، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين. (3)
البادية: خلاف الحاضرة، مدى صوت المؤذن: غاية صوته.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يُغفر للمؤذن منتهى أذانِهِ ويستغفر له كل رطب ويابس سَمِعه". (4)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "المؤذن يغفر له مَدَّ صوته، ويشهد له كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وشاهدُ الصلاة يكتب له خمس وعشرون حسنة ويكَّفِّرُ عنه ما بينهما". (5)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (850)، وابن ماجة في كتاب الأذان والسنة فيها برقم (725).
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (609).
(3) فتح الباري (2/89) .
(4) رواه أحمد بإسناد صحيح وقال في مجمع الزوائد (1/326): (رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزار إلا أنه قال: ويجيبه كل رطب ويابس، ورجاله رجال الصحيح)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (228).
(5) رواه ابن حبان في صحيحه،وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (227).(1/200)
وشاهدُ الصلاة: أي شاهد الجماعة بأذانه يكتب له ما في تفضيل صلاة الجماعة على المنفرد.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "مدى الشيء غايته، والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت"، وقال رحمه الله: وفيه وجه آخر هو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله.أ.هـ. (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". (2)
قوله: الإمام ضامن أي: متكفل لصلاة المأمومين .
وقوله: والمؤذن مؤتمن أي: أمين على مواقيت الصلاة.
قال ابن قدامة: واختلفت الرواية هل الأذان أفضل من الإمامة أو لا فروي أن الإمامة أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تولاها بنفسه وكذلك خلفاؤه ولم يتولوا الأذان ولا يختارون إلا الأفضل ولأن الإمامة يختار لها من هو أكمل حالا وأفضل واعتبار فضيلته دليل فضيلة منزلته، والثانية الأذان أفضل وهو مذهب الشافعي لما روينا من الأخبار في فضيلته ولما روى أبو هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذننين أخرجه أبو داود والنسائي والأمانة أعلى من الضمان والمغفرة أعلى من الإرشاد ولم يتوله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه لضيق وقتهم عنه ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لولا الخلافة لأذنت وهذا اختيار القاضي وابن أبي موسى وجماعة من أصحابنا والله أعلم . (3)
__________
(1) معالم السنن (1/281) .
(2) رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (230و232)، والمشكاة برقم(663)، والإراوء برقم(217)، والصحيحة برقم(1767).
(3) المغني (1/242) .(1/201)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول له: أذكر كذا وأذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى". (1)
قال الخطابي رحمه الله: التثويب هنا الإقامة، والعامة لا تعرف التثويب إلا قول المؤذن في صلاة الفجر "الصلاة خير من النوم" ومعنى التثويب الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه وإنما سميت الإقامة تثويباً لإنه إعلام بإقامة الصلاة، والأذان إعلام بوقت الصلاة.أ.هـ. (2)
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في قول المؤذن في صلاة الفجر (الصلاة خير من النوم) قال: قلت: والسنة الصحيحة في هذا التثويب تدل على أنه خاص بالأذان الأول في الفجر وهو مما هجره أكثر المؤذنين اليوم مع الأسف الشديد، حتى في الحرمين الشريفين، ولقد ابتلي بسبب إحياء أمثالها طائفة من إخواننا السلفيين في بعض البلاد الإسلامية، والى الله المشتكى من أحوال هذا الزمان وقلة أنصار السنة فيه.أ.هـ. (3)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في الشتاء والوَرَقْ يتهافت فأخذ بغصن من شجرةٍ قال: فجعل ذلك الورق يتهافت فقال: "يا أبا ذر" قلت لبيك يا رسول الله قال: "إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب السهو (1231)، ومسلم في كتاب الصلاة برقم (857).
(2) معالم السنن (1/281-282) .
(3) صحيح الترغيب (1/173) .
(4) رواه أحمد بإسناد حسن، قال في المجمع (2/248): رواه أحمد ورجاله ثقات، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (380).(1/202)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو في مسير له يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - "على الفطرة" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: "خرج من النار" فاستبق القوم إلى الرجل فإذا راعي غنمٍ حضرته الصلاة فقام يؤذن". (1)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أذن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة". (2)
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل أنظر إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة". (3)
الشظية: بفتح الشين وكسر الظاء المعجمتين بعدهما ياء مثناة مشددة هي القطعة من الجبل تنقطع منه ولم تنفصل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أذن محتسباً سبع سنين كتب له براءة من النار". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (382)، وابن خزيمة في كتاب الصلاة برقم(399).
(2) رواه ابن ماجة والحاكم وقالا: صحيح على شرط البخاري، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم (42)، والمشكاة برقم (678)، وصحيح الترغيب برقم (240)، وصحيح الجامع برقم (5878).
(3) رواه أبو داود والنسائي، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (41)، والإرواء برقم(214)، والمشكاة برقم(665)، وصحيح الترغيب برقم(239).
(4) أخرجه ابن ماجة والترمذي بإسنادهما عن ابن عباس، المشكاة (664).(1/203)
قال الإمام الدمياطي رحمه الله تعالى: قوله: "محتسباً" أي طالباً بأذانه وجه الله وما عنده مؤملاً من فضل الله عز وجل وسعة جوده أن يجعله مما يحاسبه بثوابه يوم القيامة قد أعده ذخراً له يوم فاقته وعند حاجته إلى الجزاء لم يأخذ عليه أجراً ولم يشتر به ثمناً ولم يطلب عليه ثناءً ولا شكراً قد أخلص فيه نيته وصحح عزيمته وثوقاً بالله ورسوله فيما وعد به من حسن الجزاء وعظيم الثواب.أ.هـ. (1)
وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان الرجل بارضٍ رِقيٍّ فحانت الصلاةُ، فليتوضأ، فإن لم يجد ماءً فليتيمم، فإن أقام، صلى معه مَلَكاه، وإن أذنَ وأقام صلى خلفه من جنودِ اللهِ ما لا يُرى طرفاه". (2)
الِقيّ بكسر القاف وتشديد الياء: هي الأرض القفر.
باب
الدعاء عند سماع المؤذن وفضله
ثبت في السنة المطهرة أن للدعاء عند سماع المؤذن الفضل العظيم والأجر الكثير .
فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وبالإسلام ديناً غُفِرَ لَهُ ذَنبُهُ" (3) .
وفي رواية لمسلم : "غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". (4)
وفي رواية: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد". (5)
__________
(1) المتجر الرابح .
(2) رواه عبد الرزاق، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (241).
(3) رواه مسلم في الصلاة برقم (849).
(4) رواه مسلم في الصلاة برقم (849).
(5) المصدر السابق.(1/204)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة". (1)
باب
الترديد مع المؤذن
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام بلال يُنادي فلما سكت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال مثل ما قال هذا يقيناً دخل الجنة". (3)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال المؤذن: الله اكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله قال: أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة". (4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (614).
(2) رواه البخاري برقم (586) ، باب ما يقول إذا سمع المنادي ، مسلم برقم (383) ، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل الله له الوسيلة .
(3) رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (249)، والمشكاة برقم (676).
(4) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (848)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (527).(1/205)
قال النووي رحمه الله تعالى: قال أصحابنا: إنما استحب للمتابع أن يقول مثل المؤذن في غير الحيعلتين فيدل على رضاه به وموافقته على ذلك أما الحيعلة فدعاء إلى الصلاة وهذا لا يليق بغير المؤذن فاستحب للمتابع ذكر آخر فكان لا حول ولا قوة إلا بالله لأنه تفويض محض إلى الله تعالى.
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر" إلى آخره ثم قال في آخره من قلبه "دخل الجنة" إنما كان كذلك لأن ذلك توحيد وثناء على الله تعالى وانقياد لطاعته وتفويض إليه لقوله: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فمن فعل هذا فقد حاز حقيقة الإيمان وكمال الإسلام واستحق بفضل الله تعالى.
وعن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي". (1)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَرَّسَ ذات ليلة، فأذَّن بلال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته فله الجنة". (2)
"عرَّس المسافر" بتشديد الراء إذا نزل آخر الليل يستريح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبدٌ في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة". (3)
باب
الدعاء بعد الأذان وثوابه
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (847).
(2) رواه أبو يعلى عن يزيد الرقاشي عن أنس،وحسنه الألباني في الترغيب برقم(248).
(3) رواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني: حسن، صحيح الترغيب (250).(1/206)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تُعطه". (1)
(يفضلوننا) بفتح الياء وضم الضاد المعجمة أي يحصل لهم فضل ومزية علينا في الثواب بسبب الأذان.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة". (2)
وعن أنس - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء بين الأذان
والإقامة لا يرد". (3)
زاد الترمذي في روايته: قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة".
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ساعتان لا يرد على داع دعوته حين تقام الصلاة وفي الصف في سبيل الله". (4)
وعن جابر - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ثوب بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء". (5)
المراد بـ (التثويب): الإقامة.
باب
إجابة المؤذن
عن كعب بن عجرة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سمعت النداء فأجب داعي الله" . (6)
قوله : "إذا سمعت النداء" أي: الأذان فاللام عهدية ويجوز أن يقدر نداء المؤذن .
__________
(1) حسنه الألباني في صحيح الكلم الطيب (ص 50)، وصحيح الترغيب (249) .
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان (614) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، الإرواء (244).
(4) رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان وهذا أحد ألفاظه، صحيح الترغيب رقم(254) ، (262).
(5) رواه أحمد من رواية ابن لهيعة،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم(253).
(6) صحيح الجامع حديث رقم (609).(1/207)
وقوله: "فأجب داعي الله" وهو المؤذن لأنه الداعي لعبادته لقوله الحيعلتين ، والمراد أن يقول مثله ثم يجئ إلى الجماعة حيث لا عذر، فالمراد الإجابة بالقول وبالفعل والسمع محل القوة السامعة من لأذن . (1)
باب
الصلوات الخمس المفروضات والمحافظة عليهن
قال سبحانه وتعالى: { وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } . (2)
وقال الله سبحانه وتعالى: { والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سيؤتيهم أجراً عظيماً } . (3)
قال القرطبي: قوله تعالى: ويقيمون الصلاة معطوف جملة على جملة ، وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها فى أوقاتها، يقال قام الشيء أى دام وثبت وليس من القيام على الرجل وإنما هو من قولك قام الحق أى ظهر وثبت . وقيل يقيمون يديمون وأقامه أى أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر - رضي الله عنه - بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع . (4)
وقال تعالى: { والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } . (5)
والآيات في هذا الباب كثيرة.
__________
(1) فيض القدير .
(2) سورة المائدة الآية (12).
(3) سورة النساء الآية (162).
(4) تفسير القرطبي (1/164) .
(5) سورة المؤمنون الآية (9-11).(1/208)
وعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع فقال: "اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم". (1)
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". (2)
وفي رواية لأبي داود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات افترضهن الله من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له على الله عهداً أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه". (3)
عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وصيام شهر رمضان" قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلا أن تطوع". الحديث...
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/251)، والترمذي في كتاب الصلاة برقم (616)، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي:حديث حسن صحيح،صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم(867).
(2) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" ورواه الإمام مالك، وصححه الألباني في الترغيب برقم (363).
(3) صحيح الترغيب برقم (363)، والسلسلة الصحيحة (1/131)، ومشكاة المصابيح برقم (570)، والسنة (967) .(1/209)
فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "أفلح إن صدق". (1)
وعند مسلم رواية" "أفلح وأبيه إن صدق" أو "دخل الجنة وأبيه إن صدق".
ثائر الرأس: منتثر شعر الرأس، أو قائم شعره منتفشة.
نسمع دوي صوته: صوت مرتفع متكرر لا يفهم وذلك لأنه نادى من بعد.
عن أبي أيوب - رضي الله عنه - : أن أعرابياً عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله! أو يا محمد! أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال: فكف النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نظر في أصحابه ثم قال: "لقد وفق أو لقد هدي" قال: "كيف قلت"؟ قال: فأعاد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم. دع الناقة". (2)
وفي رواية ابن أبي شيبة "إن تمسك به".
أن أعرابياً: بفتح الهمزة وهو البدوي أي الذي يسكن البادية.
وتصل الرحم: أي تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما يتيسر أو زيادة أو طاعتهم أو غير ذلك.
وعن عثمان - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من علم أن الصلاة حقٌ مكتوبٌ واجبٌ دخل الجنة". (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (46)، وفي الشهادات برقم (2678) وفي الصوم برقم(1891)،وفي كتاب الحيل برقم(6956)،ومسلم في كتاب الإيمان برقم(100).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1396)، وفي كتاب الأدب برقم (5982)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (104).
(3) رواه أبو يعلى وعبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على المسند، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (375).(1/210)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أرأيتم أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مراتٍ هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا". (1)
الدرن: الوسخ.
قال الحافظ ابن حجر : وظاهرة أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة، لكن قال بن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة لأنه شبه الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات انتهى . (2)
وعن سهل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ساعتان لا يرد على داعٍ دعوته حين تقام الصلاة وفي الصف في سبيل الله". (3)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الصلوات الخمس يذهبن بالذنوب كما يذهب الماء الدرن". (4)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "استقيموا ولن تُحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن". (5)
قوله:"لن تحصوا" أي : لن تحصوا مالكم عند الله من الأجر والثواب إن استقمتم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (528)، ومسلم في كتاب المساجد برقم (1520).
(2) فتح الباري (2/12) .
(3) رواه ابو داود وابن خزيمة وابن حبان.
(4) رواه محمد بن نصر، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1664).
(5) صححه الألباني في تمام المنة (ص234)، وصحيح الترغيب برقم (192،375،376) ، والمشكاة (292)، والمساجلة (217)، والإرواء (413).(1/211)
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود". (1)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصيح غَسَلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غَسَلَتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غستلها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يُكتب عليكم حتى تستيقظوا". (2)
تحترقون: أي تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة.
وعن عثمان رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند انصرافنا من صلاتنا – أراه قال- العصر، فقال: "ما أدري أحدثكم أو أسكت؟" قال: فقلنا: يا رسول الله! إن كان خيراً فحدثنا وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم، قال: "ما من مسلم يتطهر فيتم الطهارة التي كَتَبَ الله عليه، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها". (3)
وفي رواية:
أن عثمان قال: والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يتوضأ رجل فيحسن وضوءه، ثم يصلي الصلاةَ إلا غُفِرَ له ما بينهما وبين الصلاة التي تليها". (4)
__________
(1) رواه ابن ماجة والضياء عن عبادة بن الصامت، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5618)، وصحيح الترغيب برقم (379).
(2) رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (351).
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (231)، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(4) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (160)، ومسلم في كتاب الطهارة برقم(231).(1/212)
وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوءَ ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غُفِرَ له ذنوبه". (1)
وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرئٍ مسلم تحضُرُه صلاة مكتوبة فَيُحسنُ وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله". (2)
وعن أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إن كل صلاةٍ تَحُطُّ ما بين يديها من خطيئة". (3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارةٌ لما بينهن، ما لم تغش الكبائر". (4)
(ما لم تغش الكبائر) أي: ما لم تؤت الكبائر، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم": معناه أن كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت لا يغفر شيء من الصغائر فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الحديث يأباه.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور من الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله. والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (232).
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (228)، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(3) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (358).
(4) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (233) والترمذي وغيرهما.(1/213)
وقال الألباني رحمه الله تعالى: قلت: هذا الحصر ينافي الاستفهام التقريري في الحديث الذي قبله "هل يبقى من درنه شيء؟" كما هو ظاهر فإنه لا يمكن تفسيره على أن المراد به الدرن الصغير، فلا يبقى منه شيء وأما الدرن الكبير فيبقى كله كما هو! فإن تفسير الحديث بهذا ضرب له في الصدر، كما لا يخفى وفي الباب أحاديث أخرى لا يمكن تفسيرها بالحصر المذكور كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، فالذي يبدو لي والله أعلم أن الله تعالى زاد في تفضله على عباده فوعد المصلين منهم بأن يغفر لهم الذنوب جميعاً وفيها الكبائر بعد أن كانت المغفرة خاصة بالصغائر ولعله مما يؤيد هذا قوله تعالى: { إن تَجتنبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهونَ عَنهُ نُكفِّر عَنكُم سيئاتكُم و نُدخِلكم مُدخلاً كريماً } (1)
فإذا كانت الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر فالفضل الإلهي يقتضي أن تكون للصلاة وغيرها من العبادات فضيلة أخرى تتميز بها على فضيلة اجتناب الكبائر، ولا يبدو أن ذلك يكون إلا بأن تكفر الكبائر والله أعلم.
ولكن ينبغي على المصلين أن لا يغتروا، فإن الفضيلة لا شك أنه لا يستحقها إلا من أقام الصلاة وأتمها وأحسن أداءها كما أمر وهذا صريح في حديث عقبة: "من توضأ كما أُمِر وصلى كما أُمِر غفر له ما تقدم من عمل" وأنى لجماهير المصلين أن يحققوا الأمرين المذكورين ليستحقوا مغفرة الله وفضله العظيم فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يعاملنا برحمته وليس بما نستحقه بأعمالنا!. أ.هـ. (2)
__________
(1) سورة النساء الآية (31).
(2) صحيح الترغيب (1/212-213) .(1/214)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه". (2)
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤتِ كبيرة وكذلك الدهر كله". (3)
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أصبت حداً فأقمه عليَّ وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله قال: "هل حضرت الصلاة معنا؟" قال نعم، قال: "قد غُفِر لكَ". (4)
أصبت حداً: معناه ارتكتب معصية توجب التعزير.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم(1397)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم(107).
(2) أخرجه محمد بن نصر، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1398).
(3) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (542).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الحدود برقم (6823)، ومسلم في كتاب التوبة برقم (6937).(1/215)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن رجلاً أصاب من امرأةٍ قبلة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فأنزل الله تعالى { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟ قال: "لجميع أمتي كلهم". (1)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خمس من جاء بهن مع إيمانٍ دخل الجنة من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وصام رمضان وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا وأعطى الزكاة طيبة النفس وأدى الأمانة" قيل يا نبي الله وما أداء الأمانة؟ قال: "الغسل من الجنابة إن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها". (2)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جارٍ غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات". (3)
الغمر الكثير، والدرن الوسخ، قال الحسن: وما يبقى ذلك من الدرن.
الصلاة تكفر الذنوب كما يذهب الماء الدنس عن الأبدان.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (526)، وفي كتاب التفسير برقم (4687)، وأخرجه مسلم في كتاب التوبة برقم (6932) و (6935).
(2) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني صحيح الترغيب برقم (361).
(3) أخرجه مسلم في المساجد (1512).(1/216)
قال النووي: وقع في الحديث ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوئها وخشوعها وركوعها الا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وفي من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي الرواية الأخرى الاغفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها، وفي الحديث الآخر من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة، وفي الحديث الآخر الصلوات الخمس كفارة لما بينهن، وفي الحديث الآخر الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبارئر. فهذه الالفاظ كلها ذكرها مسلم في هذا الباب، وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة، واذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان، وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، واذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه؟ والجواب ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فان وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وان لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، وان صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر والله أعلم .
وعن أبي بصرة الغفاري - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمخمص فقال: "إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم". يعني العصر. (1)
يستفاد من الحديث : إن الصلاة قد شرعت على من كان قبلنا ، وقد ضيعوها .
والمحافظة على الصلوات يكون له الأجر مرتين .
وقال النووي : فيه فضيلة العصر وشدة الحث عليها . (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين برقم (1924).
(2) شرح النووي (6/113).(1/217)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نوراً ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف". (1)
باب
الأمر بالمحافظة على الصلوات المكتوبات
وثواب الصلاة في أول وقتها
قال الله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى } . (2)
قال القرطبي: قوله تعالى: حافظوا خطاب لجمع الأمة والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله ومنه قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وقال أعرابي يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم . ثم قال: وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر وقد دخلت قبل في عموم الصلوات تشريفا لها، كقوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح . (3)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أفضل؟ قال (الصلاة على وقتها) قلت: ثم أي؟؟ قال: "بر الوالدين" قلت ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". (4)
وفي رواية عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة على وقتها". (5)
__________
(1) رواه أحمد بإسناد صحيح والطبراني وابن ماجة، قال في المجمع (1/292): (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات). المشكاة (578).
(2) سورة البقرة الاية (238).
(3) تفسير القرطبي (3/209) .
(4) اخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (504)، وفي كتاب الجهاد برقم (2630)، وفي كتاب الأدب برقم (5625)، وفي كتاب التوحيد (7096)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (248 و 249).
(5) أنظر تخريج الحديث الذي قبله.(1/218)
وعن أم فروة رضي الله عنها، وكانت ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". (1)
وعن حنظلة الكاتب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة أو قال: وجبت له الجنة أو قال: "حرم على النار". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضةٍ شيئاً قال الرب عز وجل انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل منها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر أعماله على هذا". (3)
أفلح ونجح: فاز وظفر بما يريد.
وفي رواية عن أنس: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" . (4)
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، الإرواء (395)، وصحيح الترغيب برقم (392).
(2) رواه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (374).
(3) أخرجه أبو داود برقم (864)، والترمذي برقم (413)، وابن ماجة برقم (1425)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2020)، وصحيح الترغيب، والسلسلة الصحيحة برقم (539) والمشكاة (1330 – 1331).
(4) صحيح الجامع حديث رقم (2573) .(1/219)
قال المناوي: قوله: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة": أي المفروضة وهي الخمس لأنها أول ما فرض عليه بعد الإيمان وهي علم الإيمان وراية الإسلام، "فإن صلحت" بأن كان قد صلاها متوفرة الشروط والأركان وشملها القبول ، "صلح له سائر عمله" يعني سومح له في جميع أعماله ولم يضايق في شيء منها في جنب ما واظب من إدامة الصلاة التي هي علم الدين، "وإن فسدت" أن لم تكن كذلك، "فسد سائر عمله"، أي ضويق فيه واستقصى فحكم بفساده وأخذ منه الأئمة أن حكمة مشروعية الرواتب قبل الفرائض وبعدها تكميلها بها إن عرض نقص، قال الطيبي: الصلاح كون الشيء على حالة استقامته وكماله والفساد ضد ذلك وذلك لأن الصلاة بمنزلة القلب من الإنسان فإذا صلحت صلحت الأعمال كلها وإذا فسدت فسدت . (1)
وعن أبي عثمان قال: "كنت مع سلمان - رضي الله عنه - تحت شجرة، فأخذ غُصناً منها يابساً فهزَّه، حتى تحات ورَقُه ثم قال: يا أبا عثمان! ألا تسألني لم أفعلُ هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: هكذا فَعَلَ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا معه تحتَ الشجرة، فأخذ منها غصناً يابساً فهزَّه، حتى تحاتَّ ورقه، فقال: "يا سلمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟" قلت: ولم تفعله؟ قال: "إن المسلمَ إذا توضأ فأحسن الوضوءَ ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق وقال: "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين". (2)
(زلفاً) أي طائفة.
__________
(1) فيض القدير .
(2) رواه أحمد والنسائي والطبراني،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم(356).(1/220)
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "كان رجلاً أخوان، فهلك أحدهما قبل صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلةُ الأول منهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألم يكن الآخر مسلماً؟" قالوا: بلى، وكان لا بأس به فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وما يدريكم ما بلغت به صلاته؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذْبٍ غمرٍ بباب أحدكم يستحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون في ذلك يبقى من درنه؟ فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رجلان من (بَلِيّ) من (قُضاعة) أسلما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستُشهد أحدُها وأُخِّر الأخر سنةً، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤّخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد فتعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعةٍ وكذا وكذا ركعتةً صلاة سنةٍ". (2)
"بلى" قبيلة من قضاعة.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهمٌ في الإسلام كمن لا سَهمَ له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة والصوم والزكاة، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجلٌ قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة لو حلفتُ عليها رجوتُ أن لا آثم، لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستره يوم القيامة". (3)
__________
(1) رواه مالك واللفظ له، وأحمد بإسناد حسن، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (364).
(2) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (365).
(3) رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (367).(1/221)
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن عذبه". (1)
وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن سبعة نفر أربعة من موالينا وثلاثة من عربنا مسندي ظهورنا إلى مسجده فقال: "ما أجلسكم" قلنا: جلسنا ننتظر الصلاة قال: فأرم قليلاً ثم أقبل علينا فقال: "هل تدرون ما يقول ربكم؟" قلنا: لا. قال: "فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافاً بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافاً بحقها فلا عهد له علي إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له". (2)
وعن معدان بن أبي طلحة قال: لقيتُ ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أخبرني بعملٍ أعمله يُدخلني الله به الجنة أو قال: قلت: ما أحبِّ الأعمال إلى الله، فسكتَ، ثم سألته فسكتَ، ثم سألته الثالثة، فقال: سألتُ عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ بها عنك خطيئة". (3)
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، ورواه الإمام مالك، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (363).
(2) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وحسنه الألباني في الإرواء برقم (397)، وصحيح الترغيب برقم (394) .
(3) رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.(1/222)
وعن ربيعة بن كعبٍ رضي الله عنه قال: "كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتِيهِ بوضوئه وحاجته فقال لي: "سلني" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أو غيرَ ذلك"؟ قلت: هو ذاك قال: "فأعني على نفسك بكثرةِ السجود". (1)
"أو": بإسكان الواو ونصب "غير" أي سل غير ذلك، يعني غير مرافقته في الجنة.
قال الشوكاني : قوله : "سلني" : فيه جواز قول الرجل لأتباعه ومن يتولى خدمته سلوني حوائجكم، قوله: مرافقتك، فيه دليل على أن من الناس من يكون مع الأنبياء في الجنة، وفيه أيضا جواز سؤال الرتب الرفيعة التي تكبر عن السائل، قوله: أعني على نفسك بكثرة السجود فيه أن السجود من التي يكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون، وبه أيضاً استدل من قال إن السجود أفضل من القيام كما تقدم .اهـ. (2)
باب
ثواب الركوع والسجود في الصلاة
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } . (3)
وقال تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . (4)
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما منكم من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة" (5) .
وفي رواية: فقلت بخٍ بخٍ ! ما أجود هذه!
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر فقال: "من صاحب هذا
__________
(1) رواه مسلم برقم (489)، باب فضل السجود والحث عليه.
(2) نيل الأوطار (3/92).
(3) سورة الحج الآية (77).
(4) سورة الفتح الآية (29).
(5) رواه مسلم في الطهارة برقم (234).(1/223)
القبر" فقالوا: فلان فقال: "ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم". (1)
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: "أتيت أبا الدرداء - رضي الله عنه - في مرضه الذي قبض فيه فقال: يا بن أخي ما أعملك إلى هذه البلدة أو ما جاء بك؟ قال قلت: لا إلا صلة ما كان بينك وبين والدي عبد الله بن سلام فقال: بئس ساعة بكذب هذه، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضا فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعاً يشك سهل يحسن فيهن الركوع والسجود والخشوع ثم استغفر الله غفر له". (2)
عن أبي فراس ربيعة بن كعبٍ الأسلمي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل الصفة رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآتِيهِ بوضوئه وحاجته فقال لي: "سلني" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: "أو غير ذلك؟" قلت: هو ذاك قال: "فأعني على نفسك بكثرةِ السجود". (3)
مرافقتك: قربك بحيث أراك وأتمتع برؤيتك.
"أو": بإسكان الواو ونصب "غير" أي سل غير ذلك، يعني غير مرافقته في الجنة.
وخرّج أحمد من طرق عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة". (4)
__________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/549): (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (384).
(2) رواه أحمد، قال في المجمع (2/278): (رواه أحمد والطبراني في الكبير إلا أنه قال: ثم قام فصلى ركعتين واربعاً مكتوبة أو غير مكتوبة يحسن فيها الركوع والسجود)، وصححه الألباني في الترغيب برقم (386).
(3) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (1094).
(4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/248): رواه كله أحمد والبزار بنحوه بأسانيد وبعضه رجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (385).(1/224)
وعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة" (1) . حط: كفَّر ومحا.
النوافل والطاعات تذهب السئات وترفع الدرجات.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا الدعاء". (2)
"وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر يسر به خر ساجداً شكراً لله تعالى". (3)
وتقدم حديث عبادة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات افترضهن الله من أحسَنَ وُضُوءهنَّ وصلاهُنَّ لوقتهنَّ وأتمَّ ركوعهن وسجودهُنَّ وخشوعهنَّ، كان لَهُ على الله عهدٌ أنْ يغفرَ له". (4)
باب
الخشوع في الصلاة
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أحدٍ يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة". (5)
وعن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". (6)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (1093).
(2) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (1083).
(3) رواه أبو داود وابن ماجة وهو في الإرواء برقم (207).
(4) صحيح الترغيب برقم (363)، والسلسلة الصحيحة (1/131)، ومشكاة المصابيح برقم (570)، والسنة (967) .
(5) رواه مسلم في الطهارة برقم (234)، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة في صحيحه.
(6) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (221).(1/225)
وعن حمران مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوءٍ فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غُفرَ له ما تقدم من ذنبه". (1)
استنثر : استخرج ما في أنفه فينثره، أي يمتخطه . (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعاً – يشك سهل- يحسن فيهن الذكر والخشوع ثم استغفر الله، غفر له". (3)
قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فيّ ثلاث خصال لوكنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها .
وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر .
وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه .
وقالوا لعامر بن عبد القيس أتحدث نفسك بشيء في الصلاة، فقال : أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي، قالوا إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال : أبالجنة والحور ونحو ذلك، فقالوا : لا ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال : لأن تختلف الأسنة فيّ أحب إلي، وأمثال هذا متعدد . (4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (164)، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثا ، ومسلم في كتاب الطهارة برقم (229)، باب صفة الوضوء وكماله .
(2) ) ) النهاية في غريب الحديث (5/15) .
(3) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (223).
(4) الفتاوى الكبرى (2/24).(1/226)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فالناس متفاوتون في ذلك فإذا قوى إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة مع تدبره للأمور بها وعمر قد ضرب الحق على لسانه وقلبه وهو المحدث الملهم فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى ولا ريب أن صلاة رسول الله حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة .اهـ. (1)
وقال ابن قيم الجوزية عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وسمعته يقول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع والسجود حالتا انخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به . (2)
باب
فضل صلاة الجماعة
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". (3)
الفذ: الواحد.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق". (4)
__________
(1) مجموع الفتاوى (22/609-610)
(2) مدارج السالكين (2/116) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (645)، ومسلم في كتاب المساجد برقم (1475،1476).
(4) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (404) والسلسلة الصحيحة (1979)، والمشكاة (1144)، وصحيح الجامع (6241).(1/227)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً (وفي رواية درجة) وذلك إنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطو خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث تقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة".
وفي رواية : "اللهم اغفر له الله تب عليه ما لم يؤذ ما لم يحدث فيه". (1)
تضعف: أي تزاد.
فيه من الفضل والثواب أن الله تعالى يرفعه بهذه الخطوة درجة ويحط عنه بها خطيئة وهذا من فضل الله علينا سبحانه وتعالى.
قال الإمام الدمياطي رحمه الله تعالى:
"قوله، لا يخرجه إلا الصلاة" أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا بشرط أن يكون خروجه من بيته بقصد الصلاة لا غير فلو خرج يريد الصلاة ويريد حاجة أخرى لا يحصل له ثواب الخطا على التمام والذي يظهر أنه يحصل له تضعيف الصلاة لأنه قد حصل إيقاعها في الهيئة الاجتماعية والله أعلم. أ.هـ. (2)
قوله: "فإنه في صلاة ما انتظر الصلاة) وهذه من نعم الله العظيمة علينا مجرد بقاءك في المسجد تنتظر الصلاة وأنت جالس لا تصلي فإنه يحسب لك أجر الصلاة.
وكذلك من النعم العظيمة فيه أن الملائكة تصلي عليه ما دام في صلاة تقول: "اللهم صل عليه اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه" وهذا ثواب وفضل عظيم لمن حضر الصلاة بهذه النية.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (647)،ومسلم في كتاب المساجد برقم(649).
(2) المتجر الرابح (ص85) .(1/228)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: والشاهد من الحديث قوله: "ثم خرج من بيته إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة" فإنه يدل على اعتبار النية في حصول هذا الأجر العظيم، أما لو خرج من بيته لا يريد الصلاة فإنه لا يكتب له هذا الأجر مثل أن يخرج من بيته إلى دكانه لما أذن ذهب يصلي فإنه لا يحصل على هذا الأجر لأن الأجر إنما يحصل لمن خرج من البيت لا يخرجه إلا الصلاة. أ. هـ. (1)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "من سره أن يلقي الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى المسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".
وفي رواية: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِم نفاقه، أو مريض إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهدى وإنّ من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذَّن فيه". (2)
(يهادى بين الرجلين) يعني: يُرْفد من جانبيه ويؤخذ بعضده يمشي به إلى المسجد.
(سنن الهدى): روي بضم السين وفتحها، وهما بمعنى متقارب أي طرائق الهدى والصواب.
قال النووي: وفي هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها. أ.هـ. (3)
__________
(1) شرح رياض الصالحين (1/63) .
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (654)، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة.
(3) شرح النووي (5/156-157) .(1/229)
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ فأسبغ الوُضوءَ، ثم مشى إلى صلاةٍ مكتوبةٍ، فصلاها مع الإمام غُفِرَ له ذنبهُ". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ فأحسن وُضوءَه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللهُ مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا". (2)
وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح فقال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا، قال: "أشاهد فلان؟" قالوا: لا قال: "إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مِثل صفِّ الملائكة ولو علتمتم ما في فضيلتهِ لابتدرتموه وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاتِهِ وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كَثُرَ فهو أحب إلى الله عز وجل". (3)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه". (4)
باب
تخفيف الإمام للصلاة
إذا أمّ أحدكم الناس فعليه أن يخفف الصلاة لوجود الرجل الكبير والمريض والطفل، ولكن عليه أن يأتي بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها .
__________
(1) رواه ابن خزمية في صحيحه،صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(401).
(2) رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (405).
(3) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (406).
(4) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (232).(1/230)
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء" . (1)
قال الإمام الشافعي رحمه الله : وأحب للإمام أن يخفف الصلاة ويكملها كما وصف أنس ومن حدث معه، وتخفيفها وإكمالها مكتوب في كتاب قراءة الإمام هذا الموضع وإن عجل الإمام عما أحببت من تمام الإكمال من التثقيل كرهت ذلك له ولا إعادة عليه ولا على من خلفه إذا جاء بأقل ما عليه في الصلاة .اهـ. (2)
باب
الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء
قال الله تعالى: { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } . (3)
المراد: صلاة الصبح تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار.
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعةٍ فكأنما صلى الليل كله". (4)
وفي رواية الترمذي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلةٍ ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة". (5)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً". (6)
__________
(1) رواه البخاري برقم (671) ، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ، ومسلم برقم (467) ، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام .
(2) كتاب الأم (1/161)
(3) سورة الإسراء (78).
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (1489)، ورواه الإمام مالك.
(5) أخرجه مسلم برقم (656)، والترمذي برقم (221).
(6) رواه البخاري برقم (590)، باب الاستهام في الأذان ويذكر أن أقواما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد ، ومسلم برقم (437)، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها.(1/231)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعِشاء ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً". (1)
"لأتوهما ولو حبواً" الحبو: حبو الصبي الصغير على يديه ورجليه، معناه لو يعلمون ما فيهما من الفضل والخير ثم لم يستطيعوا الإيتان إليهما إلا حبواً لحبوا إليهما ولم يفوتوا جماعتهما في المسجد.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى الصبح في جماعةٍ فهو في ذمة الله". (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مشى في ظلمةِ الليلِ إلى المساجد لقيَ الله عز وجل بنور يوم القيامة". (3)
وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم". (4)
من صلى الصبح: أي في جماعة في وقتها.
ذمة الله: أمانة وعهد.
يكبه: يلقيه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون". (5)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (626)، باب فضل العشاء في الجماعة ، ومسلم في كتاب المساجد برقم (1480).
(2) رواه ابن ماجة، صحيح الترغيب رقم (415) .
(3) رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (419).
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1491) و (1492).
(5) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (555)، وفي كتاب التوحيد برقم (7429) و (7486)، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (11430).(1/232)
وعن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، يعني العصر والفجر، ثم قرأ جرير: { وسَبِّح بحمد ربكَ قَبلَ طُلُوع الشَّمْسِ وقَبلَ غُرُوبِهَا (1) } . (2)
وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح وأن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق فمر على الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أرَ سليمان في صلاة الصبح؟ فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعةٍ أحب إلي من أقوم ليلة". (3)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظنَّ". (4)
باب
الترغيب في الصلاة في الفلاة
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الصلاة في الجماعةِ تَعدِلُ خمساً وعشرين صلاةً فإذا صلاها في فلاةٍ فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاةً". (5)
وفي رواية:"صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة". (6)
__________
(1) سورة طه الآية (130).
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (554) و (573)، وفي كتاب التفسير برقم (4851)، وفي كتاب التوحيد برقم (7434)، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1432) .
(3) رواه مالك في الموطأ، صحيح الترغيب رقم (418) .
(4) رواه البزار والطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين،وافقه الذهبي،صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(411)
(5) رواه أبو داود والحاكم بلفظه وقال: صحيح على شرطهما، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب برقم (407) .
(6) أنظر التخريج الذي قبله.(1/233)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاتِهِ، وحدَه بخمسٍ وعشرين درجةً، فإن صلاها بأرض قِيٍ فأتم ركوعها وسجودها تُكتب صلاته بخمسين درجةً". (1)
القِيّ: بكسر القاف وتشديد الياء هو الفلاة كما هو مفسر في رواية أبي داود.
وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان الرجل بأرضِ قِيٍّ فحانت الصلاة، فليتوضأ، فإن لم يجد ماءً فليتمم فإن أقام صلى معه ملكاه وإن أذن وأقام صلى خلفه من جنود الله ما لا يرى طرفاه". (2)
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظيةٍ يؤذِّن بالصلاةِ ويصلي، فيقول الله عزوجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذِّن ويقيم الصلاةَ، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة". (3)
باب
الترغيب في صلاة النافلة في البيوت
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً". (4)
"اجعلوا من صلاتكم" أي بعض صلاتكم وهي صلاة النافلة أي اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة . (5)
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه،صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (407).
(2) رواه عبد الرزاق عن ابن التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان، وقال الألباني: صحيح ، صحيح الترغيب رقم (408).
(3) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (41) والإرواء برقم (214)، والمشكاة برقم (665)، وصحيح الترغيب برقم (239)..
(4) رواه البخاري في كتاب الصلاة برقم (32)، وفي كتاب التهجد برقم (1187)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (777).
(5) قاله الشيخ الألباني رحمه الله صحيح الترغيب (1/249).(1/234)
وقال ابن حجر: استنبط من قوله في الحديث "ولا تتخذوها قبورا" أن القبور ليست بمحل عبادة فتكون الصلاة فيها مكروهة. أ.هـ.فتح (1/529)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً" (1) .
قال النووي: وإنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان.أ.هـ.
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل البيت الذي يُذكر الله فيه،
والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت". (2)
وعن عبد الله بن سعد - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيما أفضل؟ الصلاةُ في بيتي أو الصلاة في المسجدِ؟ قال: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد! فلأن أصلي في بيتي أحبُّ إليَّ من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاةً مكتوبةً". (3)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (778)، ورواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي سعيد.
(2) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6407)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (779).
(3) رواه أحمد، وابن ماجة، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (436).(1/235)
وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، قال: "احتجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاؤا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضبا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". (1)
وعن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراه رفعه – قال: "فضل صلاةِ الرجلِ في بيته على صلاتهِ حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع". (2)
باب
ثواب انتظار الصلاة
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } . (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يوطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله به من حين يخرج كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" . (4)
تبشبش : فرح الصديق بمجيء صديقه .
وعنه - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". (5)
__________
(1) رواه البخاري برقم (698)، باب صلاة الليل، ومسلم برقم (781) ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد .
(2) رواه البيهقي، وقال الشيخ الألباني: حسن، صحيح الترغيب برقم (438).
(3) سورة آل عمران الآية (200).
(4) صححه الألباني رحمه الله في الثمر المستطاب (2/640) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم(659)،ومسلم في المساجد برقم(1508).(1/236)
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث أحدكم في صلاةٍ ما دامت الصلاة تحبسه". (1)
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه". (2)
تصلي على أحدكم: تدعوا له وقد فسر في الحديث بالدعاء بالرحمة والمغفرة.
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة وتقول الملائكة: اللهم اغفر له اللهم ارحمه حتى ينصرف أو يحدث"، قلت: ما يحدث؟ قال: يفسوا أو يضرط". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل ثم أقبل علينا بوجهه ما صلى فقال: "صلى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها". (4)
شطر الليل: نصف الليل.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة ما لم يحدث تدعوا له الملائكة اللهم اغفر له اللهم ارحمه". (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1506).
(2) أخرجه البخاري (434)، باب الحدث في المسجد ، ومسلم برقم (649)، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة .
(3) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1507)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (471).
(4) أخرجه البخاري برقم (546)، باب وقت العشاء إلى نصف الليل وقال أبو برزة كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب تأخيرها .
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1509).(1/237)
وعن أبي أيوب المراغي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فرجع من رجع وعقب من عقب فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً قد حفزه النفس وقد حسر عن ركبتيه قال: "ابشروا هذا ربكم قد فتج باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى". (1)
حَفَزَه: بفتح الحاء والفاء معناه: دفعه.
حَسَرَ: بالتحريك أي كشف عن ركبتيه لشدة ما هو فيه من العجلة.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جلس في مسجد ينتظر الصلاة فهو في الصلاة". (2)
وعن أنس رضي الله عنه: "أن هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } نزلت في انتظار الصلاة التي تُدْعى العَتَمَة". (3)
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويُكَفِّر به الذنوب؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إسباغ الوضوء على المكروهات وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط". (4)
وعن علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إسباغ في المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة يغسل الخطايا غسلاً". (5)
__________
(1) صحيح ابن ماجة برقم (653)، والسلسلة الصحيحة برقم (661)،صحيح الترغيب برقم (442) .
(2) )) حسنه الشيخ الألباني في الثمر المستطاب (2/633) . وقال : أخرجه النسائي (1/120) ، وأحمد (5/331) .
(3) رواه الترمذي وقال: (حديث حسن صحيح غريب)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (441).
(4) رواه ابن حبان في صحيحه عن شرحبيل بن سعد عنه،صحيح الترغيب برقم (186)..
(5) رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح والحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم) وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (446).(1/238)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ وهو في الرباط الأكبر". (1)
"كَشْحِهِ" الكاشح: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه أي: باطنه.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "القاعدُ على الصلاةِ كالقانِتِ ويُكتبُ من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه". (2)
ورواه أحمد وغيره أطول منه إلا أنه قال: "والقاعدُ يرعى الصلاة كالقانت".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاني الليلة آتٍ من ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد قلت لبيك رب وسعديك قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أعلم فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض أو قال: ما بين المشرق والمغرب قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ومن عاش عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه". (3)
"السبرات": بفتح السين المهملة وإسكان الباء جمع سبرة وهي شدة البرد.
وقوله: "فيم يختصم الملأ الأعلى" أي: يزدحم ويستبق في رفعه إلى الله عز وجل لأن الملائكة تتقرب إلى الله عز وجل برفع الأعمال الصالحات.
__________
(1) رواه أحمد والطبراني في الأوسط، صحيح الترغيب برقم (447).
(2) رواه ابن حبان في صحيحه،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(451).
(3) صحيح الجامع رقم (59)، وتخريج الترغيب (1/98 و 126).(1/239)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلكم عل ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به الحسنات؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء أو الطهور في المكاره وكثرة الخطا إلى هذا المسجد والصلاة بعد الصلاة وما من أحد يخرج من بيته متطهراً حتى يأتي المسجد فيصلي فيه مع المسلمين أو مع الإمام ثم ينتظر الصلاة إلى بعدها إلا قالت الملائكة اللهم اغفر له اللهم ارحمه". (1)
وعن امرأة من المبايعات رضي الله عنها أنها قالت: جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه من بني سلمة فقر بنا إليها طعاماً فأكل، ثم قربنا إليه وضوءاً فتوضأ ثم أقبل على أصحابه فقال: "ألا أخبركم بمكفرات الخطايا؟" قالوا: بلى قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة". (2)
باب
فضل صلاة الصبح والعصر
عن أبي موسى - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى البردين دخل الجنة". (3)
البردان: الصبح والعصر.
وعن أبي زهير عمار بن رويبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها". (4) يعني الفجر والعصر.
الولوج: الدخول.
وعن جندب بن عبد الله بن سفيان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الصبح فهو في ذمة الله فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء". (5)
__________
(1) صحيح ابن ماجة برقم (630)وقال: حسن صحيح،التعليق الرغيب (1/97) ، وصحيح الترغيب رقم (186).
(2) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (452).
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (574) ، ومسلم في كتاب المساجد برقم (1436).
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1434).
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1491) و (1492)..(1/240)
وعن ابن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يلج النار من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" وعنده رجل من أهل البصرة فقال: أنت سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: أشهد به عليه قال: وأنا أشهد لقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله بالمكان الذي سمعته منه. (1)
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الصبح فهو في ذمة الله وحسابه على الله". (2)
وعن أبي بَصْرَةَ الغفاري رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر بـ (المخمص) وقال: "إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين..". (3)
"المخمص" بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والميم جميعاً، وقيل: بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الميم بعدها وفي آخره صاد مهملة أسم طريق أي في جبل (عير) إلى مكة.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الصبحَ في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه". (4)
"أخفر" يقال أخفرت الرجل: نقضت عهده وذمامه، والهمزة فيه للإزالة أي أزلت خفارته أي عهده وذمامه والله أعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1435).
(2) رواه الطبراني في الكبير و الأوسط،حسنه الألباني في صحيح الترغيب (455).
(3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (830).
(4) رواه ابن ماجة والطبراني في الكبير واللفظ له، صحيح الترغيب رقم (458).(1/241)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون". (1)
وعن سالم بن عبد الله قال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى الصبح كان في جوار الله يَومه". (2)
باب
فضل الصف الأول
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قُلُوبُكُم" وكان يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول". (3)
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأول". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (555)، وفي كتاب التوحيد برقم (7429) و (7486) وأخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (11430)..
(2) رواه الطبراني في الكبير و الأوسط،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم(459).
(3) أخرجه أبو داود برقم (664)، والنسائي (2/89 – 90)، وابن ماجة برقم (997)، وابن خزيمة،والمنتقى لابن الجارود برقم(316)، وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة== == برقم (1551، 1552، 1556، 1557)، وصحيح ابن ماجة برقم (816)، وصحيح الترغيب برقم (490)، وصحيح الجامع برقم (1842) .
(4) رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، صحيح ابن ماجة برقم (813)، والمشكاة برقم (1101)، وصحيح الترغيب برقم (489)، وتمام المئة (ص 288).(1/242)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما انه قال : "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسُدُّوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله". (1)
الخلل: الفُرَج التي بين الصفوف.
وعن عائشة رضي عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". (3)
لاستهموا: يعني لاقترعوا لو علموا ذلك ولكنهم لا يعلمون ما فيه من الثواب.
وفي رواية لمسلم: "لو تَعلَمُونَ ما في الصَّفِّ المقَدَّم لكانتْ قُرْعَة".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (666)، المشكاة برقم(1102)،صحيح الترغيب (492).
(2) أخرجه أبو داود برقم (676)، وابن ماجة (1005)، وابن حبان (2160)، وغيرهم المشكاة (1096)، تمام المنة (ص 288).
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم(615)،ومسلم في كتاب الصلاة برقم(980)
(4) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (984)، والحديث رواه أبو داود، والترمذي ، والنسائي، وابن ماجة.(1/243)
قال النووي رحمه الله: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبداً، وشرها آخرها أبداً، أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صليت متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها، والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثواباً وفضلاً، وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه، وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك.
وعن ابي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" قالوا: يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" قالوا: يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: "وعلى الثاني". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة". (2)
وفي رواية للبخاري: "فإن تسوية الصفوف من إقامةِ الصلاة".
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟" فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصُفُ الملائكة عند ربها؟ قال: "يُتُّمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف". (3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة". (4)
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (487).
(2) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (723)، ومسلم في كتاب الصلاة برقم (433).
(3) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (430)، وابو داود والنسائي وابن ماجة.
(4) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (493).(1/244)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: أُقيمت الصلاةُ فأقبلَ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري". (1)
ورواية للبخاري:"فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبِهِ وقَدَمَهُ بقدَمِهِ".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كُنا إذا صلينا خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يُقْبلُ علينا بوَجْهِه، فسَمِعتُه يقول: "رب قني عذابَكَ يومَ تَبعثُ عبادَك". (2)
باب
فضل التأمين ومن وافق تأمينه تأمين الملائكة
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
قال ابن شهاب: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آمين". (3)
وعنه - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء: آمين، فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". (5)
وفي رواية "فقولوا: ربنا ولك الحمد" بالواو.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (719)، ومسلم في الصلاة برقم (435).
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (709)، باب استحباب يمين الإمام.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (780)، ومسلم في كتاب الصلاة برقم(914).
(4) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (916) و (917).
(5) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (796)، وأخرجه أيضاً في كتاب بدء الخلق برقم (3228)، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (912).(1/245)
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال القارئ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال من خلفه آمين فوافق قوله قول أهل السماء غفر له ما تقدم من ذنبه". (1)
ومعنى آمين: اللهم استجب .
وفي صحيح مسلم: "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله".
وقال ابن المنير: الحكمة في إيثار الموافقة في القول والزمان أن يكون المؤمن على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها لأن الملائكة لا غفلة عندهم فمن وافقهم كان مستيقظا ثم ظاهره أن المراد بالملائكة جميعهم واختاره ابن بزيزة ، وقيل الحفظة منهم، وقيل الذين يتعاقبون منهم إذا قلنا الحفظة، والذي يظهر أن المراد بهم من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء للحديث الآتي، وقالت الملائكة في السماء، وفي رواية لمسلم فوافق ذلك قول أهل السماء وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى ذكره الحافظ .
غفر له ما تقدم من ذنبه قال الباجي ظاهره غفران جميع قال الحافظ وهو محمول ثم العلماء على الصغائر . (2)
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين". (3)
وفي رواية: "وإذا قال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا: آمين، فإنه من
وافق كلامه كلام الملائكة غفر لمن في المسجد". (4)
"آمين" تمد وتقصر، قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقيل: معناها اللهم استجب، أو كذلك فافعل أو كذلك فليكن.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (918).
(2) شرح الزرقاني (1/260) .
(3) السلسلة الصحيحة برقم (692)، وصحيح الترغيب برقم (512).
(4) رواه النسائي، صحيح الترغيب الألباني برقم (511).(1/246)
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قال الإمام: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فقولوا: آمين يجبكم الله". (1)
قوله: "يجبكم الله": هو بالجيم أي يستجيب دعاءكم، وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به . (2)
وعن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" قال رجل من ورائه "ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: "من المتكلم؟" قال: أنا، قال: "رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول". (3)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل من القوم: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلا" فقال رسول بالله - صلى الله عليه وسلم - : "من القائل كلمة كذا وكذا؟" فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، فقال: "عجبت لها فتحت لها أبواب السماء".
قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك". (4)
باب
ثواب من وصل صفاً أو سد فرجة
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي الصف من ناحية إلى ناحية فيمسح مناكبنا أو صدورنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" قال: وكان يقول: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف". (5)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (513).
(2) شرح النووي (4/120) .
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (799).
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1357)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3592)، والنسائي في كتاب الافتتاح برقم (884).
(5) رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، صحيح الجامع رقم(7256)، وصحيح الترغيب برقم(499).(1/247)
وقال: "ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة وما خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها العبد يصل بها صفاً". (1)
وعن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وملائكته يُصَلُّون على الذين يَصِلُون الصفوفَ، ومن سد فرجةً رفعه الله بها درجة". (2)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله". (3)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سد فرجة رفعه الله بها درجة وبنى له بيتاً في الجنة". (4)
وعن أبي جحيفة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سد فرجة من الصف غفر له". (5)
باب
فضل صلاة اثنتي عشر ركعة في اليوم والليلة
عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبدٍ مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة" قالت أم حبيبة: فما برحت أصليهن بعد. (6)
وقال عمرو: ما برحت أصليهن بعد، وقال النعمان مثل ذلك.
__________
(1) رواه أبو داود وابن خزيمة ورواه أحمد في مسنده عن عائشة وصححه في صحيح الجامع برقم (1839)، وصحيح الترغيب برقم (498).
(2) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة برقم(1550)وعزاه للفتح الرباني(5/316)،وصحيح الجامع برقم(1843) .
(3) رواه النسائي وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في تعليقه على ابن خزيمة (1549).
(4) رواه الطبراني، وأخرجه المحاملي في الأمالي،السلسلة الصحيحة برقم (1892).
(5) رواه الطبراني بإسناد حسن.
(6) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1693)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1250)، والنسائي.(1/248)
وزاد الترمذي "أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة".
وعنها رضي الله عنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بيتاً في الجنة".
قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة.
وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن عن عنبسة.
وقال النعمان: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس.
وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبد مسلم توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى في كل ليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من ثابر على ثنتي عشرة ركعةً في اليوم والليلة دخل الجنة، أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب،
وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر". (3)
(ثابر) بالثاء المثلثة وبعد الألف باء موحدة ثم راء أي: لازم وواظب.
باب
ثواب سنة الفجر
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". (4)
وفي رواية: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً". (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (728)، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن .
(2) أخرجه مسلم برقم (728)، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما.
(3) رواه النسائي وهذا لفظه، والترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (577).
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1685).
(5) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1686).(1/249)
قوله: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" قال في الرياض: وفي رواية لهما يعني الشيخين أحب إلي من الدنيا جميعاً أي نعيم ثوابها خير من كل ما يتنعم به في الدنيا، فالمفاضلة راجعة لذات النعيم لا إلى نفس ركعتي الفجر فلا يعارضه خبر: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ذكره جمع وقال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما يجري على زعم من يرى فيها خيراً أو يكون من باب { أي الفريقين خير مقاماً } وإن حمل على الإنفاق في سبيل اللّه فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها . (1)
وعنها رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر". (2)
وزاد ابن خزيمة: "ولا إلى غنيمة".
قال الشوكاني: والحديثان يدلان على أفضلية ركعتي الفجر وعلى استحباب التعاهد لهما وكراهة التفريط فيهما، وقد استدل بهما على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر وهو أحد قولي الشافعي ووجه الدلالة أنه جعل ركعتي الفجر خيرا من الدنيا وما فيها وجعل الوتر خيرا من حمر النعم وحمر النعم جزء ما في الدنيا، وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل . (3)
وعنها قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر". (4)
وعن بلال - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما وأحسنتهما و أجملتهما - يعني ركعتي الفجر". (5)
__________
(1) فيض القدير .
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1684).
(3) نيل الأوطار (3/22) .
(4) رواه البخاري في كتاب التهجد برقم (1169)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (724).
(5) صحيح الجامع حديث رقم (5236).(1/250)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن و "قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن، وكان يقرؤهما في ركعتي الفجر". (1)
باب
ثواب صلاة الوتر
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خاف على أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة محضورة وذلك أفضل". (2)
وعن خارجة بن حذافة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر فجعلها لكم فيها بين العشاء الآخر إلى طلوع الفجر". (3)
وعن علي - رضي الله عنه - قال: الوتر ليس بِحتمٍ كالصلاةِ المكتوبة، ولكن سَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن". (4)
الوتر : الفرد .
__________
(1) رواه أبو يعلى، والطبراني في الكبير واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (580).
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (755)،ورواه الترمذي، وابن ماجة.
(3) رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، وحسنه الألباني رحمه الله تعالى في إرواء الغليل (2/156) رقم (423)، وصحيح الترغيب برقم (592)
(4) رواه أبو داود والترمذي، واللفظ له والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (588).(1/251)
قال ابن الأثير: فيه إنّ الله وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْر فأوْتِروا, الوِتْر الفَردُ وتُكسر واوه وتفتح فالله واحدٌ فِي ذَاتِه لا يَقْبَل الانْقِسام والتَّجْزِئة واحدٌ في صفاته فلا شِبهَ له ولا مِثلَ واحدٌ في أفْعاله فلا شَرِيك له ولا مُعِين ويُحِب الوِتْر أي يُثيب عَليه ويَقْبَله من عامِله وقوله أوْتِروا أمْرٌ بِصلاة الوِتْر وهو أن يُصَلي مَثْنى مَثْنَى ثُمَّ يُصَلى في آخرها رُكْعَة مُفْرَدة أو يُضِيفُها إلى ما قَبْلَها من الرَّكَعات، ومنه الحديث إذا اسْتَجْمَرتَ فَأوتِر أي اجعل الحِجَارة الَّتي تَسْتَنجي بِها فَرداً إمَّا واحدةً أو ثلاثا أو خَمسا وقد تكرر ذكره في الحديث. (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله عز وجل زادكم صلاة، فصلوها فيما بين العشاء إلى الصبح: الوتر الوتر". (2)
باب فضل سنة الظهر
وثواب أربع ركعات قبلها وأربع بعدها
عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي اربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر وقال: "إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح". (3)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أربع ركعات قبل الظهر يعدلن بصلاة السحر". (4)
وعن أبي أيوب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أبواب السماء تفتح إلى زوال الشمس فلا ترتج حتى يصلى الظهر فأحب أن يصعد لي فيها خير" . (5)
"إن أبواب السماء" كذا بخط المصنف فمن قال الجنة لم يصب .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (5/146) .
(2) رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (593).
(3) أخرجه الترمذي برقم (487)، وأحمد (3/411)، وقد صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (583)، والشمائل برقم (251).
(4) صحيح الجامع رقم (882) .
(5) صحيح الجامع حديث رقم (1532).(1/252)
"تفتح عند زوال الشمس" أي ميلها عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء .
"فلا ترتج" بمثناة فوقية وجيم مخففة والبناء للمفعول لا تغلق قال الزمخشري وغيره : أرتج الباب أغلقه إغلقاً وثيقاً ومن المجاز صعد المنبر فأرتج عليه إذا استغلق عليه الكلام .
"حتى يصلي الظهر" ليصعد إليها عمل صلاته . "فأحب أن يصعد لي" عمل ."فيها" أي في تلك الساعة التي السماء فيها مفتحة الأبواب. "خير" أي عمل صالح وتمامه عند مخرجه أحمد عن أبي أيوب قلت يا رسول اللّه تقرأ فيهن كلهن قال نعم قلت ففيها سلام فاصل قال لا والمراد بالزوال هنا الميل كما تقرر فلا تعارض كراهة الصلاة حال الاستواء .
عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من يحافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار". (1)
وفي رواية للنسائي (فتمس وجهه النار أبداً).
"من حافظ على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربع بعدها حرم على النار" أي نار جهنم وفي رواية حرمه اللّه على النار، وفيه أن رواتب الظهر أربع قبلها وأربع بعدها لكن المؤكد ركعتان قبلها وركعتان بعدها.
وفي رواية أخرى عنها: " من صلى قبل الظهر أربعا و بعدها أربعا حرمه الله على النار" . (2)
وعن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن ابواب السماء". (3)
وأخرجه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط".
__________
(1) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه النسائي وابن خزيمة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، والقاسم بن عبد الرحمن شامي ثقة انتهى، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (581)،صحيح الجامع رقم(6195) .
(2) صحيح الجامع حديث رقم (6364).
(3) أخرجه أبو داود وابن ماجة، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (582).(1/253)
إلا أنه قال: قال أبو أيوب: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَّ رأيته يديم أربعاً قبل الظهر وقال: "إنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يصلي الظهر فأنا أحب أن يُرفع لي في تلك الساعة خيرٌ". (1)
باب
ثواب أربع ركعات قبل صلاة العصر
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً". (2)
وعن أم سلمة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار". (3)
قال ابن قدامة: "وقوله: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا ترغيب فيها ولم يجعلها من السنن الرواتب بدليل أن ابن عمر رواية ولم يحفظها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث عائشة قد اختلف فيه فروي عنها مثل رواية ابن عمر" . (4)
باب
فضل وثواب الصلاة بين المغرب والعشاء
عن أنس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } (5) ، نزلت في انتظار الصلاة التي تُدعى العَتَمَة. (6)
ورواه أبو داود إلا أنه قال:كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون. (7)
وكان الحسن البصري يقول: قيام الليل.
__________
(1) صحيح الجامع (4843) وقال صحيح وانظر ضعيف ابن ماجة (240)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (582).
(2) أخرجه أبو داود (1271) ، والترمذي (430) ، وأحمد (2/117)،صحيح الجامع رقم (3487) وقال : حسن، ورواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (588)، وصحيح الجامع برقم (3493).
(3) أخرجه الطبراني بإسناده.
(4) المغني (1/434) .
(5) سورة السجدة الآية (16)
(6) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (589).
(7) صححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (589).(1/254)
وعن حذيفة رضي الله عنه قال:أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه المغرب فصلى إلى العشاء. (1)
باب
فضل صلاة المرأة في بيتها
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن". (2)
وعن أم سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن". (3)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحب صلاة المرأة إلى الله في أشد مكان في بيتها ظلمة". (4)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها". (5)
وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما:
أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك قال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي".
__________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى (5/80/8298)، وأخرجه الترمذي وابن حبان وغيرهما، وأخرجه أحمد (5/404) مختصراً بلفظ: فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2/425)، والترغيب برقم (590).
(2) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح ابي داود رقم (576) وصحيح الجامع برقم (7336) والإرواء (8-5).
(3) رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة برقم (1683) بشواهده.
(4) رواه ابن خزيمة وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة برقم (1691).
(5) رواه أبو داود وابن خزيمة، وصححه الألباني في صحيح أبي خزيمة برقم (1688 و 1690).(1/255)
قال: "فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها أو أظلمه وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل". (1)
باب
فضل وثواب صلاة الحاجة
عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - ، أن أعمى أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يكشف لي عن بصري قال: أو أدَعُكَ قال: يا رسول الله! إنه قد شق علي ذهاب بصري قال: "فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة يا محمد! إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري، اللهم شفِّعه فيَّ وشفعني في نفسي".
فرجع وقد كشف الله عن بصره. (2)
وفي رواية عن الترمذي: "فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يدعو بهذا الدعاء".
قوله: "اللهم شَفِّعه فيَّ" قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: بالتشديد أي: أقبل شفاعته، أي: دعاءه في حقي وقوله: "وشفعني" أي: اقبل دعائي: "في نفسي" أي: في أن تعافيني، وفي رواية لأحمد وغيره: "وشفعني فيه" أي: في النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني: أقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيّ. هذا هو المعنى الذي يدل عليه السياق والسياق وخلاصته أن الأعمى توسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وليس بذاته أو جاهه وتصيل هذا راجعه في كتابي، "التوسل أنواعه وأحكامه". أ.هـ. (3)
__________
(1) رواه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة برقم (1689).
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب، والنسائي واللفظ له، وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وليس عند الترمذي:ثم صلي ركعتين،صححه الألباني في صحيح الترغيب (681).
(3) )) صحيح الترغيب (1/428) .(1/256)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "أن يتوسل بدعائه أي بأن يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له فهذا جائز في حياته لا بعد مماته لأنه بعد مماته متعذر. أ.هـ. (1)
باب
صلاة الاستسقاء
قال تعالى: { وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يُرسل السماء عليكم مدراراً } (2)
وعن جابر بن عبد الله قال: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بواكٍ فقال: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل" فأطبقت عليهم السماء. (3)
مريعاً: أي هنيئاً خصباً.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر فأمر بمنبر فيوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون فيه فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم".
ثم قال: "الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً إلى حين".
__________
(1) )) مجموع فتاوى ورسائل (2/345) .
(2) سورة نوح الآية (10-11).
(3) أخرجه أبو داود برقم (1169)، والحاكم (1/327)، صحيح أبي داود، تمام المنة (ص265)، الكلم (151)، المشكاة برقم (507).(1/257)
ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس فنزل فصلى ركعتين فأنشأ الله عز وجل سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى فلم يأت مسجده حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى الكَنِّ ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله". (1)
الكَنِّ: ما يردُ الحر والبرد من المساكن والأبنية.
وعن أنس قال: دخل رجل المسجد يوم جمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب الناس فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يُغيثُها فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا".
قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً.
ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر".
قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس". (2)
الظراب: جمع ظرب وهي الروابي الصغار.
اللهم أغثنا: أي أنزل المطر.
قزعة: هي بفتح القاف والزاي وهي: القطعة من السحاب
سلع: بفتح السين المهملة وسكون اللام وهو جبل بقرب المدينة.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (1173) والحاكم (1/328)، المشكاة برقم (1508) ، والإرواء برقم (668)، الكلم برقم (152)، التوسل (ص 58).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء برقم (1013، 1014، 1017، 1019) ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة الاستسقاء برقم (2075).(1/258)
(ما رأينا الشمس سبتاً) بسين مهملة ثم باء موحدة ثم مثناة فوق أي: قطعة من الزمان وأصل السبت: القطع.
أصابت الناس سنة: أي قحط.
قحط المطر: أي أمسك.
باب
فضل وثواب صلاة النوافل (التطوع)
عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: "إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطيته وإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته". (1)
الولي: المؤمن المواظب على طاعته لله، المخلص في عبادته.
آذنته: بالمد أعلمته بأني محارب له.
يتقرب: يطلب القرب.
النوافل: الطاعات الزائدة على الفرائض.
يبطش بها: يضرب بها.
قال ابن حجر: وقد استشكل وجود أحد يعاديه لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والصفح عمن يجهل عليه، وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله وأما من جانب الآخر فلما تقدم، وكذا الفاسق المتجاهر ببغضه الولي في الله وببغضه الاخر لانكاره عليه وملازمته لنهيهه عن شهواته وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل ومن الأخر بالقوة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق برقم (6502)، باب التواضع .(1/259)
قال الفاكهاني: بأن معاداة الولي لكونه وليا لا يفهم إلا أن كان على طريق الحسد الذي هو تمنى زوال ولايته وهو بعيد جدا في حق الولي تركها ، قلت: والذي قدمته أولى أن يعتمد، قال أبن هبيرة: ويستفاد من هذا الحديث تقديم الاعذار على الإنذار وهو واضح . (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة". (2)
وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صلاة الرجل تطوعاً حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمساً وعشرين". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر فقال: "من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان فقال: "ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم". (4)
وفي رواية "ركعتان خفيفتان بما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم". (5)
عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". (6)
__________
(1) فتح الباري (11/342) .
(2) أخرجه البخاري برقم (7098)، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه ، ومسلم برقم (2675)، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى .
(3) رواه أبو يعلى في مسنده عن صهيب، صحيح الجامع (3815).
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط،صحيح الترغيب رقم(391)،والصحيحة برقم(1388).
(5) السلسلة الصحيحة برقم (1388).
(6) رواه البخاري برقم (6860)، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، ومسلم برقم (781)، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد .(1/260)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً". (1)
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت". (2)
قال النووي : فيه الندب إلى ذكر الله تعالى في البيت وأنه لا يخلي من الذكر، وفيه جواز التمثيل، وفيه أن طول العمر في الطاعة فضيلة وان كان الميت ينتقل إلى خير لأن الحي يستلحق به ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات .اهـ. (3)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ولأن أصلي في بيتي أحب إليّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة". (4)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في الشتاء والورق يتهافت، فأخذ بِغُصْنٍ من شجرةٍ، (قال): فجعل ذلك الورق يتهافتُ، فقال: "يا ابا ذر!". قلت لبيك يا رسول الله! قال: "إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله، فتهافت عنه ذنوبُه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة". (5)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1819).
(2) رواه مسلم برقم (779)، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (6/68) .
(4) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (436).
(5) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (384).(1/261)
قال ابن قدامة: ويستحب أن يتطوع بمثل تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليا - رضي الله عنه - قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر تمهل حتى إذا كانت الشمس من ها هنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر من العصر من ها هنا يعني من قبل المغرب قام فصلى ركعتين ثم تمهل حتى إذا كانت الشمس من ها هنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر من ها هنا قام فصلى أربعا وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس وركعتين بعدها وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالسلام على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من المسلمين فتلك ست عشرة ركعة تطوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهار وقل من يداوم عليها . (1)
باب
فضل قيام الليل وثوابه
قال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً } إلى قوله تعالى: { أولئك يجزون الغرفة بما وجدوا ويُلقون فيها تحية وسلاماً خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاما } . (2)
وقال تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } . (3)
وقال تعالى: { إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } . (4)
والآيات في الباب كثيرة.
__________
(1) المغني (1/439) .
(2) سورة الفرقان الآية (63-75).
(3) سورة السجدة الآية (16، 17).
(4) سورة الذاريات الآية (15-18).(1/262)
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً". (1)
وعن فضالة بن عبيد، وتميم الداري رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار من الأجر ، والقنطار خير من الدنيا وما فيها ، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل : إقرأ وارق بكل آية درجة، حتى ينتهي إلى آخر آية معه، يقول الله عز وجل للعبد اقبض فيقول العبد بيده : يا رب أنت أعلم يقول بهذه الخلد وبهذه النعيم".
أي قبض يمينك عن الخلد وشمالك عن النعيم . (2)
كما في رواية ابن عساكر.
وتقدم حديث ابن عباس: "والدرجات: إفشاء الإسلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام".
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التهجد (1130)، وفي كتاب التفسير (4836)، وفي كتاب الرقاق (6471)، وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين برقم(7055، 7056،7057).
(2) رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (632) .(1/263)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت غلاماً شاباً وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر إذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع: فقصصتها على حفصة فقصتها حفة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل". قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام إلا قليلا. (1)
قيام الليل يدفع العذاب.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى في ليلةٍ بمائة آية لم يكتب من الغافلين ومن صلى في ليلةٍ بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين". (2)
وفي رواية للحاكم على شرط مسلم: "من قرأ عشر آياتٍ في ليلةٍ لم يكتب من الغافلين". (3)
وفي رواية عن ابن عمرو : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين و من قام بمائة آية كتب من القانتين و من قام بألف آية كتب من المقنطرين" . (4)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1105)، باب فضل من تعار من الليل فصلى ، ومسلم برقم (2479)، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة (1143) وصفة الصلاة (ص 120)، والصحيحة (2/246)، وصحيح الترغيب رقم(634).
(3) صحيح الترغيب رقم (634) .
(4) صحيح الجامع حديث رقم (6439).(1/264)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يتنزل إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له". (1)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة". (2)
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داعٍ حتى ينفجر الفجر". (3)
وغن عمرو بن عبسة،قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أفضل الساعات جوف الليل الآخر". (4)
قال ابن قدامة: فأما النوافل المطلقة فتشرع في الليل كله وفي النهار فيما سوى روينا النهي وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار، قال أحمد: ليس المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك قال الله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" قال الترمذي هذا حديث حسن، وكان قيام الليل مفروضا بدليل قوله تعالى يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه ثم نسخ بقوله إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . (5)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد برقم (1345)، وفي كتاب التوحيد برقم(7494)، وفي كتاب الدعوات برقم (6321)، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1769).
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1767، 1768).
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1774).
(4) صحيح الجامع برقم (1106)، والسلسلة الصحيحة (551).
(5) المغني (1/439) .(1/265)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". (1)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وافضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" قال النووي رحمه الله تعالى: فيه دليل اتفق العلماء عليه أن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار ، وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي من أصحابنا ومن وافقه أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة، وقال أكثر أصحابنا الراتبة أفضل لأنها تشبه الفرائض، والأول أقوى وأوفق للحديث والله أعلم".اهـ. (2)
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل" ثم تلا: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } حتى بلغ { يعلمون } . (3)
وعن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوماً ويفطر يوماً". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصيام (2747)، وأبو داود في كتاب الصوم (2429) ، والترمذي في كتاب الصلاة (438)، والنسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار(1612)، وابن ماجة في كتاب الصيام (1742).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم .
(3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(4) أخرجه البخاري في كتاب التهجد برقم (1131)، ومسلم في كتاب الصيام برقم (189)، (1159).(1/266)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء". (1)
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام". (2)
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس". (3)
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم". (4)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/250 و 436)، وأبو داود (1308، 1450)، والنسائي (3/205)، وابن ماجة (1339) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم(3488) ، و صحيح الترغيب برقم (619).
(2) رواه ابن حبان، وصححه الألبان، المشكاة (1232، 1233) صحيح ابن خزيمة (2137) والترغيب (612).
(3) رواه الطبراني، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (831)، وتمام المنة (ص 245).
(4) رواه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، الإرواء (452)، المشكاة (1227)، وصحيح الترغيب برقم (618).(1/267)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبه إلى صلاته فيقول الله جل وعلا: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله وانهزم أصحابه فعلم ما عليه في الإنهزام وماله في الرجوع فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله: انظروا إلى عبدي رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى يهريق دمه". (1)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الجنة غرفةٌ يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها" فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال:"لمن أطاب الكلام،وأطعم الطعام،وباتَ قائماً والناس نيام". (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفتْ فئةٌ قاتلَ وراءها بنفسه لله عزوجل، فإما أن يُقَتَلَ، وإما أن ينصرَه الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأَة حَسنةٌ وفراشٌ لين حسن فيقوم من الليل فيقول: يَذَرُ شهوتَه ويذكرني ولو شاء رَقَدَ، والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هَجَعُوا فقام من السحر في ضراءَ وسراءَ". (3)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء من الجسد". (4)
__________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان، صحيح الجامع (3876).
(2) رواه الطبراني في الكبير، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (624).
(3) رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (623).
(4) رواه أحمد والترمذي والحاكم، صحيح الجامع حديث رقم (3967).(1/268)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناءه عما في أيدي الناس". (1)
وعن أبي هريرة وابي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات". (2)
وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدهُ كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". (4)
"قافية الرأس": آخره، ومنه سمي آخر بيت الشعر القافية.
"فأصبح نشيطاً طيب النفس" معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة ووعده به من ثوابه مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه.
__________
(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء، السلسلة الصحيحة رقم (1903).
(2) رواه أبو داود وقال: (رواه ابن كثير موقوفاً على أبي سعيد ولم يذكر أبا هريرة) ورواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، والحاكم بألفاظ متقاربة وقال: (صحيح على شرط الشيخين) وصححه الألباني في الترغيب برقم (620).
(3) رواه الترمذي واللفظ له وقال: (حديث حسن صحيح غريب) وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني صحيح الترغيب برقم (622).
(4) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3269)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1816).(1/269)
وعن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: أول ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنجفل الناس إليه فكنت فيمن جاءه فلما تأملت وجهه واستثبته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أنه قال: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام". (1)
"انجفل الناس": بالجيم أي ذهبوا إليه بأجمعهم مسرعين.
"استثبته" أي: تحققته وتبينته.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلةٍ باردةٍ من فِراشه لِحافِه ودِثاره فتوضأ، ثم قام إلى الصلاة، فيقول الله عز وجل لملائكته: ما حَمَلَ عبدي هذا على ما صَنع؟ فيقولون: ربنا رجاءَ ما عندك، وشفقة مما عندك فيقول: فإني قد أعطيتُه ما رجا، وأمَّنتُه مما يخاف..." (2) وذكر بقيته.
__________
(1) رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم فقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (610).
(2) رواه الطبراني، وقال الألباني: قلت: وهو في حكم المرفوع كما لا يخفى، وقد حسنه في صحيح الترغيب برقم (624) .(1/270)
وعن طارق بن شهاب: أنه باتَ عند سلمان - رضي الله عنه - لينظر اجتهاده، قال: فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم يَرَ الذي كان يظن فذكر ذلك له فقال: "حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تُصَبِ المَقْتَلةُ، فإذا صلى الناس العشاء صدروا عن ثلاث منازلَ، منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمةَ الليل وغفلة الناس فركب فرسَه في المعاصي، فذلك عليه ولا له، ومن له ولا عليه: فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي، فذلك له ولا عليه، ومن لا له ولا عليه، فرجل صلى ثم نام فذلك لا له ولا عليه، إياك والحقحقة، وعليك بالقصد وداوم". (1)
"الحقحقة" بحاءين مهملتين مفتوحتين وقافين الأولى ساكنة والثانية مفتوحة، هو: أشد السير، وقيل: هو أن يجتهد في السير ويلح فيه حتى تعطب راحلته أو تقف وقيل: غير ذلك.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا: "ليس في الدنيا حسدُ إلا في اثنتين: الرجل يغبط الرجلَ أن يعطيه الله المال الكثير فينفق منه، فيكثِرُ النفقة، يقول الآخر: لو كان لي مال لأنفقت مثلَ ما ينفق هذا وأحسن، فهو يحسده ورجل يقرآ القرآن فيقوم الليلَ وعنده رجل إلى جنبه لا يعلم القرآن فهو يحسده على قيامه، أو على ما علَّمه الله عز وجل القرآن، فيقول: لو علَّمني الله مثل هذا لقمت مثل ما يقوم". (2)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (627).
(2) رواه الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (628).(1/271)
"الحسد" يطلق ويراد به تمني زوال النعمة عن المحمود وهذا حرام بالإتفاق، ويطلق ويراد به الغبطة وهو تمني حالة كحالة المغبط من غير تمني زوالها عنه وهو المراد في الحديث وفي نظائره فإن كانت الحالة التي عليها المغبط محمودة فهو تمنِ محمود، وإن كانت مذمومة فهو تمن مذموم يأثم عليه المتمني.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". (1)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (815) .(1/272)
قال ابن قدامة: وأفضل التجهد جوف الليل الآخر لما روى عمرو بن عبسة، قال: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآحر فصل ما شئت" رواه أبو داود، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"، وفي حديث ابن عباس في صفة تهجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ فوصف تهجده حتى قال ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام أول الليل ويحيى آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم نام فإذا كان ثم النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء وإن لم يكن له حاجة توضأ، وقالت: ما ألفى عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السحر الأعلى في بيتي إلا نائما، متفق عليه، وفي رواية أبي داود: فما يجيء السحر حتى يخلو من وتره ولأن آخر الليل ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له. متفق عليه. (1)
باب
الترغيب في قضاء الإنسان ورده إذا فاته من الليل
ثبت في السنة تالمطهرة أن من نام عن حزبه فقرأه من الصباح فكأنما قرأه من الليل . فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من نام عن حزبه أو عن شئ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاةِ الظهر، كُتِبَ له كأنما قرأه من الليل". (2)
حزبه: هو ما يجعله الإنسان على نفسه من صلاة أو قراءة أو غيرها.
باب
__________
(1) المغني (1/439) .
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1742)، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه.(1/273)
ثواب من نوى أن يصلي بالليل فغلبته عيناه
عن أبي ذر، أو أبي الدرداء، شك شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه وكتب له أجر ما نوى". (1)
ورواه ابن خزيمة من غير شك ولفظه:
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - من غير شك قال: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة". (3)
باب
فضل وثواب أربع ركعات في أول النهار
عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عزوجل يقول: يا ابن آدم! أكفني أول النهار بأربع ركعاتٍ، أكفِكَ بهن آخر يومك". (4)
وعن أبي الدرداء، وأبي ذر رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا بان آدم! لا تعجزني من أربع ركعاتٍ من أول النار أكفك آخره". (5)
__________
(1) رواه ابن حبان، والنسائي وابن ماجة، وصححه الألباني في الإرواء برقم(454) ، وصحيح ابن ماجة (1105)، صحيح الترغيب رقم (599).
(2) رواه ابن خزيمة ورواه النسائي وابن ماجة ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (598).
(3) رواه أبو داود والنسائي، ورواه الإمام مالك، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (597) ، والإرواء برقم (454).
(4) رواه أحمد وأبو يعلى ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (666).
(5) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (667).(1/274)
وفي رواية عن أبي مرة الطائفي، وأبي الدرداء : "قال الله تعالى: يا ابن آدم! صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" . (1)
وعن نعيم بن همار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجز من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره". (2)
قوله: "يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات" أي عن صلاتها "من أول النهار أكفك آخره" أي شر ما يحدثه في آخر ذلك اليوم من المحن والبلايا فأمره تعالى بفعل شيء أو تركه إنما هو لمصلحة تعو على العبد وأما هو فلا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية قالوا : هذا الحديث كلام قدسي والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل للإعجاز عن الإتيان بسورة من مثله والحديث القدسي إخبار اللّه تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام معناه بإلهام أو بالمنام فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك المعنى بعبارة نفسه وجميع الأحاديث لم يضفها إلى اللّه ولم يروها عنه كما أضاف وروى الحديث القدسي قال الطيبي : وفضل القرآن على الحديث القدسي أن القدسي نص إلهي في الدرجة الثانية وإن كان من غير واسطة ملك غالباً لأن المنظور فيه المعنى دون اللفظ وفي القرآن اللفظ والمعنى منظوران فعلم من هذا مرتبة بقية الأحاديث اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: هذا من الأحاديث الإلهية وهي تحتمل أن يكون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أخذها عن اللّه تعالى بلا واسطة أو بواسطة . (3)
باب
فضل صلاة الضحى والدوام عليها
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (4339) .
(2) أخرجه أبو داود، وعند أحمد من حديث أبي مرة الطائفي، وعند الترمذي من حديث أبي الدرداء، وقد جاء أيضاً عن النواس بن سمعان، وقال الألباني: صحيح، صحيح الجامع رقم (4215)، الإرواء (2/216)، صحيح الترغيب رقم (669).
(3) فيض القدير .(1/275)
عن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "في الإنسان ستون وثلثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل صدقة" قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: "النخاعة في المسجد تدفِنُها والشيء تنحيهِ عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تُجزئُ عنك". (1)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وتجزئ عن ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى". (2)
"السلامى": بضم السين المهملة وتخفيف اللام واحد السلاميات وهي مفاصل الأعضاء والأصابع.
وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه رأى قوماً يصلون من الضحى فقال: أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، قال: وهي صلاة الأوابين". (4)
"الأوابين" جمع أواب وهو كثير الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بالتوبة.
ترمض الفصال: بفتح التاء والميم وبالضاد المعجمة يعني: شدة الحر والفصال: جمع فصيل وهو الصغير من الإبل.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود ، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (661) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (1668).
(3) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1743، 1744).
(4) رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وحسنه الألباني في الترغيب (673).(1/276)
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: قلت: وفي الحديث رد على الذين يسمون الست ركعات التي يصلونها بعد المغرب بـ (صلاة الأوابين) فإن هذه التسمية لا أصل لها وصلاتها بالذات غير ثابتة كما تقدم. أ.هـ. (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة باباً يقال له الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوه". (2)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد". (4)
__________
(1) صحيح الترغيب (1/352).
(2) صحيح الجامع برقم (7504) والسلسلة الصحيحة برقم (703).
(3) رواه أبو داود برقم (558)، والبيهقي في الكبرى (4753) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6228) .
(4) رواه البخاري برقم (1124)، باب صلاة الضحى في الحضر قاله عتبان بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مسلم برقم (721) ، باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها .(1/277)
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثاً فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة فقال رجل: يا رسول الله ما رأينا بعثاً قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث فقال: "ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضحوة، فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة". (1)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "بعث رسو الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم، وكثرةِ غنيمتهم وسُرعةِ رجعتهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعةً؟ من توضأ ثم غدا إلى المسجد لسُبحةِ الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة". (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعاً كُتب من العابدين ومن صلى ستاً كُفيَ ذلك اليوم، ومن صلى ثمانية كتبه الله من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بني له بيتاً في الجنة، وما من يوم ولا ليلة إلا له من يمن به على عباده صدقة وما مَنَّ الله على أحد من عباده أفضل من أن يلهمه ذكره". (3)
باب
ثواب صلاة التوبة
__________
(1) رواه أبو يعلى، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (667)، وصحيح الترغيب برقم (664).
(2) رواه أحمد من رواية ابن لهيعة والطبراني ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (663).
(3) رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (671).(1/278)
عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"ما من رجل يُذنب ذنباً،ثم يقوم فيتطهرُ ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له" ثم قرآ هذه الآية: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . (1) . (2) .
فمن صفات المؤمنين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم استغفروا الله مما وقع منهم من معاصي .
وعلى المذنب أن يتوب إلى الله تعالى ويخلص في التوبة والاستغفار .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن رجلا أذنب ذنبا فقال رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال الله عز وجل عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال رب إني عملت ذنبا فاغفره لي، فقال تبارك وتعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال رب إني عملت ذنبا فاغفره لي، فقال عز وجل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال رب إني عملت ذنبا فاغفره، فقال الله عز وجل عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء" . (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية (135) .
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي وقالا: ثم يصلي ركعتين، وذكره ابن خزيمة في صحيحه بغير إسناد وذكر فيه الركعتين، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (680)، وصحيح الجامع برقم (5738) .
(3) رواه البخاري برقم (7068)، ومسلم برقم (2758) ، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة .(1/279)
قال ابن حجر: "قال بن بطال: في هذا الحديث ان المصر على المعصية في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له مغلبا الحسنة التي جاء بها ، وهي اعتقاده أن له ربا خالقا يعذبه ويغفر له واستغفاره إياه على ذلك ، يدل عليه قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ولا حسنة أعظم من التوحيد ...
وقال القرطبي في المفهم يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان لينحل به عقد الاصرار ويحصل معه الندم فهو ترجمة للتوبة .
ثم قال: قال القرطبي: وفائدة هذ الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه إن ضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والالحاح في سؤاله والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه.اهـ. (1)
وقال النووي: لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه ولو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته، قوله عز وجل للي تكرر ذنبه اعمل ما شئت فقد غفرت لك معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها . (2)
باب
صلاة الاستخارة
__________
(1) فتح الباري (13/471) .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (17/75) .(1/280)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا اقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به. قال: ويسمي حاجته". (1)
الاستخارة: هي طلب خير الأمرين.
وتكون مع الله عز وجل، يستخير الإنسان ربه جل وعلا إذا هم بأمر وهو لا يدري عاقبته ولا يدري مستقبله، فعليه بالاستخارة.
والاستخارة، إما أن ييسر الله هذا الأمر، أو يصرفه عنك ويبدلك خيراً منه، ولا تكون عن طريق الرؤيا أو ما شابه ذلك، ويكون بانشراح الصدر، فإذا انشرح صدره أقبل على الأمر، وإذا تردد أعاد الاستخارة، ومن ثم يشاور أهل العلم. والله أعلم.
باب
حكم السفر وشد الرحال إلى المساجد لزيارتها
أو التعبد بها
لا يشرع السفر وشد الرحال لأي مسجد كان إلا المساجد الثلاثة ، كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "لا تشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى" . (2)
وفي لفظ لمسلم : "إنما يُسافَرُ إلى ثلاثة مساجد" . الحديث .
قال المناوي : "لا تشد" : بصيغة المجهول نفي بمعنى النهي لكنه أبلغ منه لأنه كالواقع بالامتثال لا محالة .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6382).
(2) ) ) رواه البخاري برقم (1189) ، ومسلم برقم (1397) .(1/281)
"الرحال" : جمع رحل بفتح الراء وحاء مهملة وهو للبعير بقدر سنامه أصغر من القتب كنى بشدها عن السفر إذ لا فرق بين كونه براحلة أو فرس أو بغل أو حمار أو ماشياً كما ل عليه قوله في بعض طرقه في الصحيح إنما يسافر فذكره شدها غالبي .
"إلا إلى ثلاثة مساجد" : الاستثناء مفرغ والمراد لا تسافر لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه الثلاثة لا أنه لا يسافر أصلاً إلا لها .وذهب القاضي عياض، والجويني، والقاضي حسين للتحريم ، فيحرم شد الرحل لغيرها كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة .
قال الطيبي : وهو أبلغ مما لو قيل لا تسافر لأنه صورة حالة المسافر وتهيئة أسبابها وأخرج النهي مخرج الإخبار أي لا ينبغي ولا يستقيم أن تقصد الزيارة بالراحلة إلا إلى هذه الثلاثة : "المسجد الحرام" .
"ومسجدي هذا": في رواية مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل لعله من تصرف الرواة .
"والمسجد الأقصى" : وهو بيت المقدس سمي به لبعده عن مسجد مكة مسافة أو زمناً أو لكونه لا مسجد وراءه أو لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعاً وقرباً إلى السماء خص الثلاثة لأن الأول إليه الحج والقبلة ، والثاني أسس على التقوى ، والثالث قبلة الأمم الماضية ، ومن ثم لو نذر إتيانها لزمه عند مالك وأحمد وكذا عن بعض الشافعية لكن الصحيح عندهم قصره على الأول لتعلق النسك به .اهـ . (1)
وعلى هذا لا يجوز السفر وشد الرحال لأي مكان أو أي مسجد كان بقصد التعبد غير هذه المساجد الثلاثة ، وهذا مذهب كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن قيم الجوزية ، وغيرهما .
__________
(1) ) ) فيض القدير للمناوي .(1/282)
وروى الطبراني وغيره ، عن قزعة قال : "أردت الخروج إلى الطور ، فسألت ابن عمر فقال :" أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمسجد الأقصى" ، ودع عنك الطور ، فلا تأته" . (1)
هذا ونجد ممن يذهب للحج أو للعمرة يقصد المسجد النبوي لزيارته ، فنقول هذا لا بأس به علماً أن المسجد ليس له علاقة بمناسك الحج والعمرة ، ولكن الناس تقطع المسافات الكبيرة لأداء فريضة الحج أو العمرة فيغتنمون الفرصة لزيارة المسجد النبوي وهذا لا بأس به ، ولكن نجد ممن يقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا محرم في الشرع ، حيث لا يشرع زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لأي قبر كان للنهي المتقدم عن شد الرحال لأي مكان غير المساجد الثلاثة.
وكذلك ثبت النهي عن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تجعلوا بيوتكم قبورا و لا تجعلوا قبري عيدا و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" . (2)
أما لو سافر المسلم إلى المسجد النبوي وصلى فيه للأجر العظيم ، ثم زار بعض الأماكن كقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو مسجد قباء ، أو شهداء أحد ، أو البقيع أو غير ذلك للسلام عليهم أو الدعاء لهم فهذا لا بأس به إن شاء الله تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "لو سافر إلى المسجد النبوي ، ثم ذهب منه إلى قباء ، فهذا يستحب ، كما يستحب زيارة قبور البقيع ، وشهداء أحد" .اهـ . (3)
وتروى أحاديث غير ثابتة ولا تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بينه علماؤنا الأجلاء ، منها :
__________
(1) ) ) أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله تعالى (ص226) .
(2) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (7226).
(3) ) ) مجموع الفتاوى (27/22) .(1/283)
1- "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" . (1)
قال المناوي : "قال البيهقي : تفرد به حفص بن سليمان وهو ضعيف وقال ابن عدي : حفص هذا هو القارئ ضعفوه جداً مع إمامته في القراءة ورمي بالكذب والوضع ورواه الدارقطني باللفظ المزبور عن ابن عمر وأعله بأن فيه حفص بن أبي داود ضعفوه ، ومن ثم أورده ابن الجوزي في الموضوع" .اهـ (2)
وقال عنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى : "موضوع" . (3)
وعلى هذا الحديث الذي لا يصح والمكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب جمع من الصوفية إلى أن الهجرة إليه ميتاً كمن هاجر إليه حياً .
وأخذ منه السبكي أنه تسن زيارته حتى للنساء ، وإن كانت زيارة القبور لهنّ مكروهة
وأطال في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية من حرمة السفر لزيارته حتى على الرجال .
2- وحديث : "من زار قبري وجبت له شفاعتي" . (4)
قال ابن القطان : وفيه عبد اللّه بن عمر العمري قال أبو حاتم : مجهول وموسى بن هلال البصري قال العقيلي : لا يصح حديثه ولا يتابع عليه ، وقال ابن القطان : فيه ضعيفان .
وقال النووي في المجموع : ضعيف جداً .
وقال الغرياني : فيه موسى بن هلال العبدي ، قال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال أبو حاتم : مجهول. وقال السبكي : بل حسن أو صحيح .
قال ابن حجر : حديث غريب خرجه ابن خزيمة في صحيحه . وقال في القلب في سنده شيء وأنا أبرأ إلى اللّه من عهدته قال أعني ابن حجر : وغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه .اهـ (5)
3- "من صلى علي عند قبري سمعته و من صلى علي نائيا أبلغته" . (6)
قال العقيلي : حديث لا أصل له .
__________
(1) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(2) ) ) فيض القدير .
(3) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(4) ) ) قال الشيخ الألباني : موضوع، انظر ضعيف الجامع حديث رقم (5607).
(5) ) ) فيض القدير للمناوي .
(6) ) ) قال عنه الألباني رحمه الله: موضوع ، انظر ضعيف الجامع حديث رقم (5670) .(1/284)
وقال ابن دحية: موضوع تفرد به محمد بن مروان السدي قال : وكان كذاباً .
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات .
وفي الميزان: ابن مروان السدي تركوه واتهم بالكذب ثم أورد له هذا الخبر .
باب
فضل وثواب الصلاة في مسجد قباء
عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة". (1)
وعن أسيد بن ظهير الأنصاري - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجد قباء كعمرة". (2)
وعن عامر بن سعد وعائشة بنت سعد: أنهما سمعا أباهما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: "لأن أصلي في مسجد قباء أحب إلي من أصلي في مسجد بيت المقدس". (3)
وعندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة جعل يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً بجعل الله له ذلك ، وكان يحب أن يتوجه إلى أول بيت وضع للناس ألا وهي الكعبة ، فأنزل الله تعالى الأمر باستقبالها بعد صلاة الظهر ، وأتى رجل من بني سلمة إلى أهل قباء بعد أن انتشر الخبر في المدينة فأخبرهم بما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوجه إلى الكعبة، وكانوا يصلون الصبح في مسجدهم إلى بيت المقدس ، فاستداروا إليها وهم في صلاتهم ، فصار الإمام مكان المأمومين وبالعكس ، وبنوا على ما مضى من صلاتهم .
__________
(1) رواه ابن ماجة عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف، ورواه أحمد والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1160)، وصحيح الجامع برقم (6030)، وصحيح الترغيب برقم (1181).
(2) رواه ابن ماجة (1411) والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1159)، وصحيح الترغيب برقم (1180).
(3) رواه الحاكم وقال: صحيح على البخا ري ومسلم وهو موقوف، المستدرك (3/12)، وقال الألباني: صحيح موقوف، صحيح الترغيب برقم (1183).(1/285)
فعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال : "بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" . (1) .
قال الإمام الشافعي رحمه : أهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالا ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة ولم يلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعا من رسول الله ولا بخبر عامة وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي إنه حدث عليهم من تحويل القبلة ولم يكونوا
ليفعلوه إن شاء الله بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق . (2) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور قباء – أو يأتي قباء راكباً وماشياً. زاد في رواية: فيصلي فيه ركعتين. (3)
وفي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشياً، وكان عبد الله يَفعَلُه. (4)
__________
(1) ) ) رواه البخاري برقم (395) ، باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى القبلة ، ومسلم برقم (526) ، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة .
(2) ) ) الرسالة (1/406-408)
(3) رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1194) ، ومسلم في كتاب الحج برقم (1399).
(4) رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة برقم (1193).(1/286)
قال النووي : وفي هذه الأحاديث: بيان فضله وفضل مسجده والصلاة فيه ، وفضيلة زيارته وأنه تجوز زيارته راكباً وماشياً وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكبا وماشياً، وفيه أنه يستحب أن تكون صلاة النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه خلاف أبي حنيفة ، وقوله: كل سبت فيه جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة، وهذا هو الصواب، وهو قول الجمهور ، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك، قالوا لعله لم تبلغه هذه الأحاديث، والله أعلم، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .اهـ.
باب
فضل وثواب الخروج إلى أفضل المساجد
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق". (1)
وقال رسو الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى". (2)
باب
مضاعفة أجر الصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة الشريفة
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". (3)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألفَ صلاة". (4)
__________
(1) رواه أحمد وغيره، السلسلة الصحيحة (1648).
(2) رواه مسلم برقم (1397)، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .
(3) رواه البخاري برقم (1133) باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة واللفظ له، ومسلم برقم (1394)، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.
(4) رواه أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1155)، الإرواء (4/146) و (1129).(1/287)
قال النووي : وأعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعاً، وبه قال مطرف من أصحاب مالك، وقال الطحاوي: يختص بالفرض، وهذا مخالف إطلاق هذه الأحاديث الصحيحة والله أعلم . (1)
ثم قال : وأعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما يزيد فيه بعده فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته . (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل: المسجد الحرام ومسجدي وصلاة في مسجدي أفضل من آلف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام". (3)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله! أي المسجدين الذي أسس على التقوى، قال: فأخذ كفاً من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: "هو مسجدكم هذا" لمسجد المدينة. (4)
قال النووي : هذا نص بأنه المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في القرآن ورد لما يقول بعض المفسرين أنه مسجد قباء وأما أخذه صلى الله عليه وسلم الحصباء وضربه في الأرض فالمراد به المبالغة في الايضاح لبيان أنه مسجد المدينة والحصباء بالمد الحصى الصغار .اهـ. (5)
باب
ثواب فضل ما بين البيت والمنبر
__________
(1) ) ) شرح النووي على صحيح مسلم (9/164) .
(2) ) ) شرح النووي على صحيح مسلم (9/166) .
(3) صحيح الترغيب رقم (1175)0
(4) رواه مسلم في كتاب الحج برقم (1398).
(5) شرح النووي (9/169) .(1/288)
عن عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة". (1)
قال النووي : قوله : "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" ذكروا في معناه قولين: أحدهما: أن ذلك الموضع بعينه ينقل الى الجنة، والثاني: أن العبادة فيه تؤدى الى الجنة . (2)
باب
فضل وثواب الصلاة في مسجد بيت المقدس
قد ثبت في السنة المطهرة أيضاً أفضلية مسجد بيت المقدس بعد المسجد الحرام ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بيت المقدس سأل الله عز وجل حُكماً يصادف حكمه وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وأنه لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما إثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة". (3)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في بيت المقدس افضل أو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من اربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، هو أرض المحشر والمنشر، وليأتين زمانٌ ولقيد سوط أو قال: قوس الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له أو أحب إليه من الدنيا جميعاً". (4)
__________
(1) رواه البخاري برقم (1137)، باب فضل ما بين القبر والمنبر ، ومسلم برقم(1390) ، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة .
(2) شرح النووي (9/161) .
(3) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، صحيح ابن ماجة رقم (1156)، وصحيح الترغيب رقم (1178)
(4) رواه الحاكم في المستدرك (4/509) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1179).(1/289)
قوله : المنشر : أي موضع النُّشور وهي الأرض المُقَدَّسة من الشام يَحشُر اللهُ الموتى إليها يومَ القيامة وهي ارض المَحشَر . (1)
وروى البزار، والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه : "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" . (2)
??????
من آداب المسجد
للمساجد آداب عامة يجب على المسلم أن يتقيد بها ، ويحافظ عليها . منها : ما تكون محرمة ، ومنها ما تكون واجبة ، ومنها ما تكون مستحبة ، ومنها ما تكون مكروهة ، ومنها ما تكون مباحة .
باب
صيانة المساجد وعدم البصاق فيها و إلى القبلة
يسن صيانة المساجد وتنظيفها، وتطييبها، وينهى عن كل وسخ، وقذر، ومخاط، وبصاق يكون فيها، وكذلك يكره تقليم الأظفار في المسجد، وإزالة الشعر كالشارب والإبط .
وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمور ونهى عنها .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوماً، إذ رأى نخامة في قِبلة المسجد، فتغَّيظَ على الناس، ثم حكَّها - قال:
وأحسِبُهُ قال-: فدعا بِزعفران فَلَطخهُ به وقال: "إن الله عز وجل قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلّى، فلا يَبصق بين يديه". (3)
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تفل تُجاه القبلة، جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه". (4)
"تفل" : بالتاء المثناة فوق ، أي : بصق ، بوزنه ومعناه .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (5/53) .
(2) قال ابن حجر في الفتح (3/67) : قال البزار: إسناده حسن .
(3) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة برقم (408 و 409) ، ومسلم في كتاب المساجد برقم (547).
(4) رواه أبو داود ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (284).(1/290)
وفي رواية عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجدنا، وفي يده عُرجون فرأى في قِبلة المسجد نُخامة، فأقبل عليها، فحتّها بالعرجون، ثم قال: "أيكم يحبُّ أن يُعرض الله عنه؟ إن أحدكم إذا قام يصلّي، فإنّ الله قبل وجهه، فلا يبصقنّ قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، وليبصقنَّ عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجِلت به بإدرة فليتفل في ثوبه هكذا، ووضعه على فيه، ثم دلكه..."الحديث. (1)
"عرجون" : هو العود الأصفر الذي فيه شماريخ العذق.
"بادرة" أي : شيء سبق من الإنسان من مخاط أو بزاق.
قال العلامة الألباني رحمه الله : "فائدة هامة : اعلم أن قوله في هذا الحديث : "فإن الله قبل وجهه" لا ينافي كونه تعالى على عرشه فوق مخلوقاته كلها كما تواترت فيه نصوص الكتاب والسنة ، وآثار الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم ، ورزقنا الاقتداء بهم ، فإنه تعالى مع ذلك واسع محيط بالعالم كله ، وقد أخبر أنه حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله عز وجل، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى المحيط ويواجهه ، وإذا كان عالي المخلوقات يستقبله سافلها المحاط بها بوجهه من جميع الجهات والجوانب ، فكيف بشأن من هو بكل شيء محيط، وهو محيط ولا يحاط به؟
وراجع بسط هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، (الحموية) و (الواسطية) و (شرحها) للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض (ص 203 - 213) رحمه الله. أ.هـ. (2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يبعث صاحب النُّخامة في القبلة يوم القيامة، وهي في وجهه". (3)
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (3006) ، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر .
(2) صحيح الترغيب (1/234) .
(3) رواه البزار، وابن خزيمة في صحيحه -وهذا لفظه- وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (285).(1/291)
النُّخامة : هي البَزقَة التي تَخرُج من أقصَى الحَلق
والنخاعة:هي البَزقَة التي تَخرُج من أصل الفَم ممَّا يلي أصلَ النُّخَاع. (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". (2)
قال النووي رحمه الله : واعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقا سواء احتاج إلى البزاق أو لم يحتج بل يبزق في ثوبه فان بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة كما صرح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . (3)
وعن أبي سهلة السائب بن خّلاد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلاً أمَّ قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظُر، فقال رسول الله حين فرغ: "لا يصلي لكم هذا"، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "نعم، وحسِبت أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله". (4)
وكان مالك يكره أن يبصق الرجل عن يمينه وأمامه إذا كان لا يدفنه كان مع الناس في الصلاة أو وحده وكان لا يرى بأسا أن يبصق الرجل عن يساره وتحت قدمه إذا كان وحده أو مع إمام إذا لم يكن عن يساره أحد ويدفنه . (5)
قال ابن عقيل : ويُكره إزالة الأوساخ في المساجد كتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط (6)
باب
آداب الذهاب إلى المسجد
على المسلم إذا أتى للمسجد أن يكون على طهارة لورود الأحاديث في ذلك ، ولزيادة الأجر والثواب عند الله تعالى .
__________
(1) النهاية لابن الأثير (5/33) .
(2) رواه البخاري في كتاب الصلاة برقم(415)،ومسلم في كتاب المساجد برقم(552)
(3) شرح النووي (5/41) .
(4) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب رقم (288).
(5) المدونة الكبرى (1/101) .
(6) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح (4/25) .(1/292)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة، أو في المسجد غفر الله له ذنوبه". (1)
قوله : فأسبغ الوضوء : أي أتم وأكمل .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أتى المسجد لشيء فهو حَظُّه" . (2)
وعليه أن يأتي بكل سكينة ووقار ، وعدم السعي والإسراع .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أقيمت الصلاة – وفي رواية للبخاري : إذا سمعتم الإقامة- فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون ، وعليكم السكينة ،
فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا – وفي رواية لمسلم : فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة -" (3) .
قال ابن منظور: فالسِّعْيُ هنا العَدْوُ سَعَى إِذا عَدَا سَعَى إِذا مَشَى سَعَى إِذا عَمِلَ سَعَى إِذا قَصَد وإِذا كان بمعنى المُضِيِّ عُدِّيَ بإِلى وإِذا كان بمعنى العَمَل عُدِّي باللام والسَّعيُ القَصْدُ وبذلك فُسِّرَ قولهِ تعالى فاسَعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّه ؛ وليس من السَّعْي الذي هو العَدْوُ وقرأَ ابن مسعود فامْضُوا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وقال لو كانَتْ من السَّعْي لَسَعَيْتُ حتّى يَسْقُطَ رِدَائِي قال الزجاج السَّعْيُ والذَّهابُ بمعنى واحدٍ لأَنّك تقولُ للرجل هو يَسْعَى في الأَرض وليس هذا باشْتِدادٍ . (4)
باب
أدب دخول المسجد
من السنة أن يكون دخول المسجد بالرجل اليمنى ، والخروج بالرجل اليسرى .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - قال : "من السنة إذا دخلتَ المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى ، وإذا خرجتَ أن تبدأ برجلك اليسرى" . (5)
باب
__________
(1) رواه مسلم برقم (232)، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.
(2) ) ) صحيح أبي داود برقم (447) .
(3) ) ) رواه البخاري برقم (636) ، ومسلم برقم (602) .
(4) ) ) لسان العرب (14/385) .
(5) ) ) السلسلة الصحيحة برقم (2478) .(1/293)
الذكر عند دخول المسجد والخروج منه
عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجد يقول: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" قال: أقط؟ قلت نعم، قال: "فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظَ مني سائر اليوم". (1)
ففي هذا الحديث من الفوائد العقدية أنَّ الله سبحانه وتعالى من صفاته (القديم) .
وكذلك فيه إثبات الوجه لله تعالى، يليق بجلاله، بلا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل .
قال الطيبي : لعل السر في تخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج أن من دخل اشتغل بما يزلفه إلى ثوابه وجنته فيناسب ذكر الرحمة وإذا خرج
اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل كما قال تعالى( فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله). انتهى . (2)
باب
تحية المسجد
يجب على كل من دخل المسجد أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك . فعن أبي قتادة السلمي - رضي الله عنهم - قال : "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" . (3)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس ، فقال له : يا سليك قم فاركه ركعتين ، وتجوز فيهما . ثم قال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" . (4)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : سنة دخول المسجد مؤكدة جداً حتى أن بعض العلماء قال : أنها واجبة . (5)
__________
(1) رواه أبو داود بإسناد جيد، وصححه الألباني في الكلم الطيب (ص 47).
(2) عون المعبود (2/93) .
(3) ) ) رواه البخاري برقم (444) ، ومسلم برقم (714) .
(4) ) ) رواه مسلم برقم (875) .
(5) ) ) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين رحمه الله (3/273)، طبعة مكتبة الأنصار .(1/294)
وقد رجح وجوب تحية المسجد بعض المحققين كالشوكاني كما نيل الأوطار (1) والصنعاني كما في سبل السلام (2) ، وغيرهما .
وتحية المسجد تصلى حتى في أوقات الكراهة وهذا هو الراجح والله أعلم .
قال النووي: استحباب التحية في أي وقت دخل وهو مذهبنا، وبه قال جماعة وكرهها أبو حنيفة . (3)
باب
عدم الخروج من المسجد بعد الأذان لغير عذر
عن أبي الشعثاء المحاربي قال: كنا قعوداً في المسجد، فأذن المؤذنُ، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بَصَره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - . (4)
ورواه أحمد وزاد :
ثم قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كنتم في المسجد فنُودي بالصلاةِ، فلا يخرج أحدُكم حتى يصلي". (5)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: واستدل العلماء بهذا الحديث على أنه يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان لمن تلزمه الصلاة إلا لعذر ، فمن العذر أن يكون حاقناً يعني يحتاج إلى بول، أو حاقناً يحتاج إلى غائط، أو معه ريح محتبسة يحتاج إلى أن ينقض الوضوء، أو أصابه مرض يحتاج إلى أن يخرج معه، أو كان إماماً لمسجد آخر .
__________
(1) ) ) (3/308-309) .
(2) ) ) (1/266) .
(3) ) ) شرح النووي (5/226) .
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (655)، وأحمد في المسند برقم (2/537).
(5) المسند (2/537).(1/295)
وأما إذا خرج من هذا المسجد ليصلي في مسجد آخر فهذا فيه توقف قد يقول قائل : فالحديث عام ، وقد يقول قائل : إن الحديث فيمن خرج لئلا يصلي مع جماعة ، وأما من خرج من مسجد ليصلي في آخر فهذا لم يفر من صلاة الجماعة ولكنه أراد أن يصلي في مسجد آخر، وعلى كل لا ينبغي أن يخرج حتى وإن كان يريد أن يصلي في مسجد آخر إلا لسبب شرعي مثل أن يكون في المسجد الثاني جنازة يريد أن يصلي عليها، أو يكون المسجد الثاني أحسن قراءة من المسجد الذي هو فيه ، أو ما أشبه ذلك من الأسباب الشرعية فهنا نقول لا بأس أن يخرج . والله الموفق . (1)
وعن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا يخرج من المسجد أحدٌ بعد النداء إلا منافقُ ، إلا أحد أخرجته حاجةٌ ، وهو يريد الرجوع". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق". (3)
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أدركه الأذانُ ثم خرج لم يخرج لحاجةٍ، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق". (4)
قوله : "فهو منافق" يعني : يفعل فعل المنافق، إذ المؤمن حقاً ليس من شأنه ذلك، فالنفاق هنا عملي، وليس قلبياً، فتنبه فإنه هام، قاله الألباني رحمه الله.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : "إذا أذن المؤذن فلا يخرج أحد حتى يصلي" . (5)
باب
عدم إنشاد الضالة في المسجد
__________
(1) ) ) شرح رياض الصالحين (4/294) .
(2) وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (264).
(3) رواه الطبراني في الأوسط ، وقال الألباني: حسن صحيح ، صحيح الترغيب برقم (262).
(4) رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (263).
(5) صحيح الجامع حديث رقم (297) .(1/296)
لا يجوز إنشاد الضالة في المسجد لأن المساجد بنيت لذكر الله تعالى وللعبادة، ومن فعل ذلك ندعوا عليه بعدم ردها عليه .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سَمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد فليقل: لا ردها عليك -فإن المساجد لم تُبن لهذا". (1)
ينشد ضالة : يطلبها ويعرفها، وهو من النشيد، رفع الصوت ، والضالة : الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره . (2)
وعن بريدة - رضي الله عنه - : أن رجلاً نشد في المسجد، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له". (3)
قال النووي : وفيه كراهة نشد الضالة ورفع الصوت فيه .
والضالة : هي الضائعة من كل ما يُقْتَنَى من الحيوان وغيره . (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك و إذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا : لا رد الله عليك ضالتك" . (5)
قال المناوي : المراد الدعاء عليه بعدم الربح والوجدان كما صرح به مع
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (568)، وأبو داود وابن ماجة وغيرهم.
(2) ) ) النهاية في غريب الحديث (3/98) .
(3) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (569)، والنسائي وابن ماجة.
(4) النهاية لابن الأثير (3/98) .
(5) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (573) . قال المناوي: أخرجه الترمذي ، والحاكم ، والنسائي ، والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - ،قال الترمذي : حسن غريب ، وقال الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي.فيض القدير صحيح الجامع حديث رقم(573).(1/297)
وضوحه بعض الأعيان منهم النووي في الأذكار حيث قال: باب إنكاره ودعائه على من ينشد ضالته في المسجد أو يبيع فيه : ثم أورد فيه أحاديث هذا منها ، قال جمع من أئمتنا: يندب لمن رأى من يبيع أو يشتري أو ينشد ضالته في المسجد أن يقول: لا أربح الله تجارتك، ولا وجدت: ثم إن هذا وما بعده من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشترط له شروطه، وإذا دعا عليه بذلك فإن انزجر وكف فذاك، وإلا كرره ... زجراً له عن ترك تعظيم المسجد .
قال النووي : وفيه كراهة نشد الضالة ورفع الصوت فيه .
قال القاضي : قال مالك وجمع من العلماء : يكره رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغيرهما .اهـ . (1)
باب
عدم تشبيك الأصابع في المسجد
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في الصلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، شبك بين أصابعه". (2)
وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامداً إلى الصلاة، فلا يشبكن بين يديه، فإنه في صلاة".
وفي رواية قال: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، وقد شبكت بين أصابعي، فقال: "يا كعب إذا كنت في المسجد فلا تشبكّن بين أصابعك فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة". (3)
__________
(1) ) ) فيض القدير .
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1294)، وصحيح الترغيب برقم (293).
(3) رواه أحمد في المسند (4/243-244)، وابن خزيمة في صحيحه (1/277/441) ، وابن حبان في صحيحه بنحوه هذا،وأبو داود،والترمذي،وقال الألباني:صحيح لغيره صحيح الترغيب رقم (294).(1/298)
قال الشوكاني: وقد اختلف في الحكمة في النهي عن التشبيك في المسجد كما في حديث أبي سعيد وفي غيره كما في حديث كعب بن عجرة فقيل لما فيه من العبث، وقيل لما فيه من التشبه بالشيطان، وقيل لدلالة الشيطان على ذلك وجعل بعضهم ذلك دالا على تشبيك الأحوال، قال ابن العربي: وقد شاهدت رجلا كان يكره رؤية ذلك ويقول فيه تطير في تشبيك الأحوال . (1)
باب
عدم البيع والشراء في المسجد
لا يجوز البيع والشراء في المساجد لورود النهي عن ذلك .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشُد ضالةً فقولوا: لا ردها الله عليك". (2)
قال الصنعاني : فيه دلالة على تحريم البيع والشراء في المساجد ، وأنه يجب على من رأى ذلك فيه أن يقول لكل من البائع والمشتري : "لا أربح الله تجارتك" يقوله زجراً للفاعل لذلك" . (3)
وروي عن عطاء بن يسار أنه كان إذا مرَّ عليه بعض من يبيع في المساجد قال : عليك بسوق الدنيا ، فإنما هذا سوق الآخرة . (4)
وعن ابن عمرو : "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشراء و البيع في المسجد و أن تنشد فيه ضالة و أن ينشد فيه شعر و نهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة" (5)
باب
عدم اتخاذ المساجد طرقاً
__________
(1) ) ) نيل الأوطار (2/380-381) .
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي وابن خزيمة، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، رواه ابن حبان في صحيحه بنحوه بالشطر الأول، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (291)، وصحيح الجامع حديث رقم (573) .
(3) ) ) سبل السلام (1/260) .
(4) ) ) شرح السنة (2/373) .
(5) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (6885) .(1/299)
وعن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "... ولا تتخذوا المساجد طُرُقا إلا لِذِكرٍ أو صلاة". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين و أن تتخذ المساجد طرقا و أن يظهر موت الفجأة" . (2)
قوله: "من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلاً" بفتح القاف والباء أي يرى ساعة ما يطلع لعظمه ووضوحه من غير أن يتطلب، "فيقال لليلتين" أي هو ابن ليلتين، "وأن تتخذ المساجد طرقاً" للمارة يدخل الرجل من باب ويخرج من باب فلا يصلي فيه تحية ولا يعتكف فيه لظة، "وأن يظهر موت الفجأة" فيسقط الإنسان ميتاً وهو قائم يكلم صاحبه أو يتعاطى مصالحه . (3)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجةٌ". (4)
باب
عدم إتيان المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو فجلاً ونحو ذلك مما له رائحة كريهة
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل من هذه الشجرة (يعني الثوم) فلا يقربنَّ مسجدنا". (5)
وفي رواية لمسلم: "فلا يقربن مساجدنا".
وفي رواية لهما: "فلا يأتينَّ المساجد".
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (295)، وصحيح الجامع برقم (7215) .
(2) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (5899) .
(3) فيض القدير .
(4) رواه ابن حبان في صحيحه ، وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب برقم(296).
(5) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (853)، ومسلم في كتاب المساجد برقم (561).(1/300)
قال ابن حجر : "وقوله : فلا يقربن بفتح الراء والموحدة وتشديد النون وليس في هذا تقييد النهى بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة ، وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى ، ونظيره قوله: وليقعد في بيته كما تقدم لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهى بالمساجد وما في معناها وهذا هو الأظهر وإلا لعم النهى كل مجمع كالأسواق ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم "من أكل من هذه الشجرة شيئا فلا يقربنا في المسجد".اهـ . (1)
وقال القاضي : ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ، قال : وقال ابن المرابط ويلحق به من به بخر في فيه أو به جرح له رائحة ، وقال القاضي أيضاً : وقاس العلماء على هذا مجامع المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات ، وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها . (2)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنّا، ولا يصلينّ معنا". (3)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل بصلا أو ثوماً فليعتزلنا، أو فليعتزل مساجدنا، وليقعُد في بيته". (4)
وفي رواية لمسلم: :من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنَّ مسجدنا، فإنَّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
__________
(1) فتح الباري (2/343) .
(2) شرح النووي (5/47) .
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (856)، ومسلم في كتاب المساجد برقم (562).
(4) رواه البخاري في كتاب الأطعمة برقم(5452)،ومسلم في كتاب المساجد برقم(564).(1/301)
وفي رواية له: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها، فقال: "من أكل مِنْ هذه الشجرة المنتنة فلا يقربنّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس".
وعن عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - : أنه خطب الناس يوم الجمعة فقال في خُطبته: ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين، لا أراهما إلاّ خبيثتين هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجَدَ ريحهما من الرجل في المسجد، أمر به فاُخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليُمتهما طبخا". (1)
قال النووي : معناه :من أراد أكلها فليمت رائحتهما بالطبخ، وإماتة كل شيء كسر قوته وحدته. (2)
يقاس على الثوم والبصل والكراث كل رائحة خبيثة تؤذي المصلين وتؤذي الملائكة، سواء الروائح المنبعثة من الجسد أو الملابس المنتنة أو الدخان، فعلى المصلي أن ينظف نفسه وأن يتجنب كل شيء يؤذي المصلين عند حضوره إلى المسجد لكي لا يأثم بذلك.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكلَ من هذه الشجرة: الثوم، فلا يؤذنا بها في مسجدنا هذا". (3)
وعن أبي ثعلبة - رضي الله عنه - ، أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فوجدوا في جنانها بصلاً وثوماً، فأكلوا منه وهم جياع، فلما راح الناس إلى المسجد إذا ريحُ المسجد بصل وثوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا" فذكر الحديث بطوله. (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (567) والنسائي وابن ماجة.
(2) شرح النووي (5/54) .
(3) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (563) ، والنسائي ، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة برقم (1015) واللفظ له.
(4) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بنحوه في المساجد برقم (565)، ورواه الطبراني في الكبير (22و 215) رقم (574).(1/302)
قال العلماء : وفي هذا الحديث دليل على منع آكل الثوم ونحوه من دخول المسجد وإن كان خاليا لأنه محل الملائكة ولعموم الأحاديث . (1)
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "كلوه و من أكل منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه - يعني الثوم –" . (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل البصل و الكراث و الثوم" . (3)
قوله : "نهى عن أكل البصل والكراث"(والكراث) بضم الكاف وشد الراء آخره مثلثة ، والثوم أي النيئ سواء كان أكله من الجوع أو غيره كما في البخاري كالأكل للتشهي والتأدّم بالخبز .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن أكل الثوم ، وعن لحوم الحمر الأهلية" . نهى عن أكل الثوم هو عن نافع وحده ولحوم الحمر الأهلية" . (4)
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم.... فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة.
قال النووي وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره لبعض بخلافه.اهـ . (5)
__________
(1) شرح النووي (5/49) .
(2) صحيح الجامع حديث رقم (4507) .
(3) صحيح الجامع حديث رقم (6853) .
(4) أخرجه البخاري برقم (3978) .
(5) فتح الباري (10/205) .(1/303)
هذا إذا كان الثوم وهو في الأصل مباح وكذلك البصل ، وفيهما الفوائد الكثيرة لجسم الإنسان ومع ذلك نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان المسجد لمن أكلهما ، فكيف إذا كانت رائحة دخان ، وهو في الأصل حرام ، وما أكثر من يأتي المسجد في هذا الزمان وفي فمه رائحة الدخان ، بل منهم من يأتي بعلبة الدخان إلى المسجد ويضعها في جيبه وعندما يسجد تسقط منه وتكون أمامه وهو يصلي!!!
باب
عدم إنشاد الشعر في المسجد
وكذلك من الأمور التي لا تجوز في المسجد ونهى الشارع الحكيم عنها إنشاد الشعر إلا ما كان مباحاً وفق الشرع .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد ، وعن البيع والشراء فيه ، وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة" . (1)
عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - مرَّ بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد ، فلحظ إليه فقال : كنت أنشد وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أجب عني ، اللهم أيِّدْه بروح القدس ؟ قال : اللهم نعم" . (2)
قال الحافظ في الفتح : "الجمع بينهما أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين ، والمأذون فيه ما سلِم من ذلك .
وقيل:المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالباً على المسجد حتى يتشاغل به من فيه (3)
وقال أبو سعيد الخدري: بينما كنا نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عرض شاعر نشيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً" (4) .
__________
(1) ) ) صحيح الترمذي برقم (265) .
(2) ) ) رواه البخاري برقم (3212) ، ومسلم برقم (2485) .
(3) ) ) الفتح (1/653) .
(4) رواه مسلم .(1/304)
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى معلم أولاده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فقد بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.
وقال الإمام الشافعي: "من داوم على سماع الأغاني رُدَت شهادته وبطلت عدالته ومن جمع الناس على مغنية فهو ديوث".
باب
عدم رفع الصوت في المسجد
بوب البخاري رحمه الله تعالى : (باب رفع الصوت في المسجد) ، ثم روى بسنده عن السائب بن يزيد قال : "كنت قائماً في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ، فجئته بهما ، قال : من أنتما ، أو من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما . ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " . (1)
قال السيوطي رحمه الله تعالى : "ومن ذلك –يعني البدع والمحدثات – الرقص والغناء في المساجد ، وضرب الدف أو الرباب ، وغير ذلك من آلات الطرب ، فمن فعل ذلك في المسجد فهو مبتدع ضال ، مستحق للطرد والضرب ، لأنه استخف بما أمر الله بتعظيمه ، قال الله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي : تُعَظَّم { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } . (2)
أي : يتلى فيها كتابه ، وبيوت الله هي المساجد ، وقد أمر الله بتعظيمها وصيانتها عن الأقذار والأوساخ والصبيان ، والمخاط والبزاق والثوم والبصل ، وإنشاد الشعر فيها ، والغناء والرقص ، فمن غَنَّى فيها أو رقص ، فهو مبتدع ضال ، مستحق للعقوبة " . (3)
قال القاضي : قال مالك وجمع من العلماء : يكره رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغيرهما . (4)
ولله درُّ إبراهيم بن نصر الموصلي إذ يقول :
__________
(1) ) ) أخرجه البخاري برقم (470) .
(2) ) ) النور الآية (36) .
(3) ) ) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع (ص275) .
(4) ) ) فيض القدير .(1/305)
ألا قل لهم قول عبد نصوح
وحق النصيحة أمن تستمع
متى علم الناس في ديننا
بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحما
ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإله
وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك البهائم إن أشبعت
يرقَّصُنا رِيُّها والشِبَعْ
ويسكره الناي ثمّ الغنا
ويسو لو تليت ما انصدع
فيا للعقول ويا للنهى
ألا منكر مِنْكُموُ للبدع
تهان مساجدنا بالسما
ع وتكرم عن مثل ذاك البِيَعْ . (1)
باب
عدم حجز مكان في المسجد
نجد ممن يقوم بحجز مكان في المسجد كأن يفرش سجادة أو بساطا ، أو أي شيء يضعه ليحجز به المكان لفترة طويلة ، وهذا مما لا ينبغي فعله ولا يجوز .
فقد سئلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن ذلك . هل هو حرام ؟ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره؟ أم لا ؟
فأجاب رحمه الله تعالى : "ليس لأحد أن يحجز من المسجد شيئاً لا سجادة يفرشها قبل حضوره ، ولا بساطا ، ولا غير ذلك ، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه ، لكن يرفعها ويصلِّي مكانها؛في أصح قولي العلماء.والله أعلم.اهـ (2)
باب
السفر وشد الرحال إلى المساجد لزيارتها
أو التعبد بها
لا يشرع السفر وشد الرحال لأي مسجد إلا للمساجد الثلاثة ، كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "لا تشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى" . (3)
وفي لفظ لمسلم : "إنما يُسافَرُ إلى ثلاثة مساجد" . الحديث .
قال المناوي : "لا تشد" : بصيغة المجهول نفي بمعنى النهي لكنه أبلغ منه لأنه كالواقع بالامتثال لا محالة .
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/231) .
(2) ) ) مجموع الفتاوى (22/193) .
(3) ) ) رواه البخاري برقم (1189) ، ومسلم برقم (1397) .(1/306)
"الرحال" : جمع رحل بفتح الراء وحاء مهملة وهو للبعير بقدر سنامه أصغر من القتب كنى بشدها عن السفر إذ لا فرق بين كونه براحلة أو فرس أو بغل أو حمار أو ماشياً كما ل عليه قوله في بعض طرقه في الصحيح إنما يسافر فذكره شدها غالبي .
"إلا إلى ثلاثة مساجد" : الاستثناء مفرغ والمراد لا تسافر لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه الثلاثة لا أنه لا يسافر أصلاً إلا لها .
وذهب القاضي عياض والجويني والقاضي حسين للتحريم ، فيحرم شد الرحل لغيرها كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة .
قال الطيبي : وهو أبلغ مما لو قيل لا تسافر لأنه صورة حالة المسافر وتهيئة أسبابها وأخرج النهي مخرج الإخبار أي لا ينبغي ولا يستقيم أن تقصد الزيارة بالراحلة إلا إلى هذه الثلاثة :"المسجد الحرام" .
"ومسجدي هذا":في رواية مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقيل لعله من تصرف الرواة .
"والمسجد الأقصى" : وهو بيت المقدس سمي به لبعده عن مسجد مكة مسافة أو زمناً أو لكونه لا مسجد وراءه أو لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعاً وقرباً إلى السماء خص الثلاثة لأن الأول إليه الحج والقبلة ، والثاني أسس على التقوى ، والثالث قبلة الأمم الماضية ، ومن ثم لو نذر إتيانها لزمه عند مالك وأحمد وكذا عن بعض الشافعية لكن الصحيح عندهم قصره على الأول لتعلق النسك به .اهـ . (1)
وعلى هذا لا يجوز السفر وشد الرحال لأي مكان أو أي مسجد كان بقصد التعبد غير هذه المساجد الثلاثة ، وهذا مذهب كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن قيم الجوزية ، وغيرهما .
__________
(1) ) ) فيض القدير للمناوي .(1/307)
وروى الطبراني وغيره ، عن قزعة قال : "أردت الخروج إلى الطور ، فسألت ابن عمر فقال :" أما علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمسجد الأقصى" ، ودع عنك الطور ، فلا تأته" . (1)
هذا ونجد ممن يذهب للحج أو للعمرة يقصد المسجد النبوي لزيارته ، فنقول هذا لا بأس به علماً أن المسجد ليس له علاقة بمناسك الحج والعمرة ، ولكن الناس تقطع المسافات الكبيرة لأداء فريضة الحج أو العمرة فيغتنمون الفرصة لزيارة المسجد النبوي وهذا لا بأس به ، ولكن نجد ممن يقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا محرم في الشرع ، حيث لا يشرع زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لأي قبر كان للنهي المتقدم عن شد الرحال لأي مكان غير المساجد الثلاثة .
وكذلك ثبت النهي عن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تجعلوا بيوتكم قبورا و لا تجعلوا قبري عيدا و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" . (2)
أما لو سافر المسلم إلى المسجد النبوي وصلى فيه للأجر العظيم ، ثم زار بعض الأماكن كقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو مسجد قباء ، أو شهداء أحد ، أو البقيع أو غير ذلك فهذا لا بأس به .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "لو سافر إلى المسجد النبوي ، ثم ذهب منه إلى قباء ، فهذا يستحب ، كما يستحب زيارة قبور البقيع ، وشهداء أحد" .اهـ . (3)
وتروى أحاديث غير ثابتة ولا تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بينه علماؤنا الأجلاء ، منها :
__________
(1) ) ) أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله تعالى (ص226) .
(2) ) ) صحيح الجامع حديث رقم (7226).
(3) ) ) مجموع الفتاوى (27/22) .(1/308)
1- "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" . (1)
قال المناوي : "قال البيهقي : تفرد به حفص بن سليمان وهو ضعيف وقال ابن عدي : حفص هذا هو القارئ ضعفوه جداً مع إمامته في القراءة ورمي
بالكذب والوضع ورواه الدارقطني باللفظ المزبور عن ابن عمر وأعله بأن فيه حفص بن أبي داود ضعفوه ، ومن ثم أورده ابن الجوزي في الموضوع".اهـ (2)
وقال عنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى : "موضوع" . (3)
وعلى هذا الحديث الذي لا يصح والمكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب جمع من الصوفية إلى أن الهجرة إليه ميتاً كمن هاجر إليه حياً .
وأخذ منه السبكي أنه تسن زيارته حتى للنساء ، وإن كانت زيارة القبور لهنّ مكروهة. وأطال في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية من حرمة السفر لزيارته حتى على الرجال .
2- وحديث : "من زار قبري وجبت له شفاعتي" . (4)
قال ابن القطان : وفيه عبد اللّه بن عمر العمري قال أبو حاتم : مجهول وموسى بن هلال البصري قال العقيلي : لا يصح حديثه ولا يتابع عليه ، وقال ابن القطان : فيه ضعيفان .
وقال النووي في المجموع : ضعيف جداً .
وقال الغرياني : فيه موسى بن هلال العبدي ، قال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال أبو حاتم : مجهول .
وقال السبكي : بل حسن أو صحيح .
قال ابن حجر : حديث غريب خرجه ابن خزيمة في صحيحه . وقال في القلب في سنده شيء وأنا أبرأ إلى اللّه من عهدته قال أعني ابن حجر : وغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه .اهـ (5)
3- "من صلى علي عند قبري سمعته و من صلى علي نائيا أبلغته" . (6)
__________
(1) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(2) ) ) فيض القدير .
(3) ) ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم : (5553) .
(4) ) ) وقال الشيخ الألباني : موضوع، انظر ضعيف الجامع حديث رقم (5607).
(5) ) ) فيض القدير للمناوي .
(6) ) ) قال عنه الألباني رحمه الله تعالى : موضوع ، ضعيف الجامع حديث رقم(5670)(1/309)
قال العقيلي : حديث لا أصل له .
وقال ابن دحية : موضوع تفرد به محمد بن مروان السدي قال : وكان كذاباً .
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات .
وفي الميزان : ابن مروان السدي تركوه واتهم بالكذب ثم أورد له هذا الخبر .
- - -
أبواب الجمعة
تعرف الجمعة : الجمعة : هي اجتماع الناس للصلاة .
قال الحافظ ابن كثير :
"إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل إسبوع مرة بالمعابد الكبار ، وفيه كمل جميع الخلائق ، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، وفيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح . (1)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : الجمعة : أي الصلاة التي تجمع الخلق ، وذلك أن المسلمين لهم اجتماعات متعددة ، اجتماعات حي في الصلوات الخمس في مسجد الحي ، واجتماعات بلد في الجمعة والعيدين ، واجتماعات أقطار في الحج بمكة ، هذه اجتماعات المسلمين صغرى وكبرى ومتوسطة ، كل هذا شرعه الله من أجل توطيد أواصر الألفة والمحبة بين المسلمين .اهـ (2)
حكمها
وهي واجبة على كل مسلم ، وتلزم كل ذكر حر مكلف مسلم مقيم ، ولا تَجب على المسافر ، ولا على المرأة ، ولا العبد .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
__________
(1) ) ) تفسير ابن كثير ( 4/366) .
(2) ) ) الشرح الممتع (2/281) .(1/310)
فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } . (1) أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } . (2) ا.هـ . (3)
وقال شيخ الإسلام : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ، فدل على أن النداء يوجب السعي إلى الجمعة وحينئذ يتضيق وقته فلا يجوز أن يشتغل عنه ببيع ولا غيره ، فإذا سعى إليها قبل النداء فقد سابق إلى الخيرات وسعى قبل تضيق الوقت ، فهل يقول عاقل إن عليه أن يرجع إلى بيته ليسعى عند النداء . (4)
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : "فشروط صحة الجمعة ما يتوقف عليها صحة الجمعة ، أي : إذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة" .اهـ . (5)
وصلاة الجمعة ركعتان ، يُسن أن يقرأ في الأولى بـ : { الجُمُعَةِ } ، وفي الثانية بـ : { المُنَافقين } .
وأقل السُّنَّة بعد الجمعة ركعتان ، وأكثرها ستٌّ .
باب
تعظيم يوم الجمعة
اختص الله سبحانه وتعالى يوم الجمعة بخصائص كثيرة، وفضائل جليلة.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعظيمُ هذا اليوم وتشريفُه، وتخصيصُه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء : هل هو أفضل، أم يومُ عرفة؟ على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي.
__________
(1) ) ) سورة الجمعة الآية (9) .
(2) ) ) سورة الاسراء (19) .
(3) ) ) تفسير ابن كثير ( 4/366) .
(4) ) ) مجموع الفتاوى (21/375) .
(5) ) ) الشرح الممتع (2/295) .(1/311)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في فجره بسورتي { ألم تنزيل } و { هل أتى على الإنسان } . ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة. (1)
? الفوائد:
قال ابن القيم رحمه الله : وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان
ويكون في يَومِها، فانهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذِكر المعاد وحشر العباد، وذلك يكون يومَ الجمعة .
وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرٌ للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيثُ اتفقت0
فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة0
الخاصية الثانية: استحبابُ كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي ليلته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "أكثِروا مِنَ الصلاة عليّ يوم الجُمُعة وليلة الجمعة" . (2)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره .
__________
(1) أخرج مسلم وغيره في الجمعة برقم (879) باب (17) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الفجر، يوم الجمعة { ألم تنزيل السجدة } و { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين" .
(2) عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً". السلسلة الصحيحة رقم (1407) وصحيح الجامع رقم (1209).(1/312)
الخاصة الثالثة: صلاةُ الجمعة التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظمُ من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاوناً بها، طبع اللهُ على قلبه، وقربُ أهل الجنة يومَ
القيامة، وسبقهم إلى الزيادة يومَ المزيد بحسب قربهم من الإمام يومَ الجمعة وتبكيرهم.
الخاصة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكد جداً ، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر . _ على قَولِ مَن أوجبَ الوتر _ .
لحديث ابن عمر كما في "الصحيحين": "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل".
الخاصة الخامسة: التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
الخاصة السادسة: السواك فيه، وله مزية على السواك في غيره.
الخاصة السابعة: التبكير للصلاة.
الخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإمام.
الخاصة التاسعة: الإنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في اصح القولين، فإن تركه كان لاغياً، ومن لغا، فلا جمعة له، وفي "المسند" مرفوعا: "والذي يقول
لصاحبه: أنصت، فلا جمعة له". (1)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (719/1)، وأخرجه أبو داود في الصلاة برقم (1051(وأخرج البخاري في كتاب الجمعة برقم (394)، ومسلم في كتاب الجمعة برقم(851) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة:أنصت والإمام يخطب فقد لغوت".قوله: (لغوت) قيل: معناه خبت من الأجر، وقيل: تكلمت. وقيل: صارت جمعتك طهراً.وهذا الأخير هو الراجح، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث: من لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا،وهو الذي جزم به الإمام ابن خزيمة في صحيحه(3/55)و قوله : (فلا جمعة له) أي : ليس له الفضل الزائد للجمعة، لا أنه لا تصح صلاته، ولا يسقط عنه التكليف والله أعلم. قاله السندي.(1/313)
الخاصة العاشرة : قراءة سورة الكهف في يومها، فقد وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، سطَعَ له نور من تحت قدمه إلى عنان السَّماء يضيء به يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين". (1)
وذكر سعيد بن منصور أنّه من قول أبي سعيد الخدري وهو أشبه.
الحادية عشرة: أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رحمه الله ومن وافقه، وهو اختيارُ شيخنا أبي العباس بن تيمية ولم يكن
اعتمادُه على حديث ليث، عن مجاهد عن أبي الخليل عن أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره الصلاة نِصف النهار إلا يومَ الجمعة. وقال: "إنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إلا يَوْمَ الُجُمَعة" . (2)
الثانية عشرة: قراءة سورة "الجمعة"و"المنافقين"، أو "سبح" و "الغاشية" في صلاة الجمعة،فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهن في الجمعة، ذكره مسلم في"صحيحه" (3)
__________
(1) عن أبي سعيد الخدري قال: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق" صحيح الجامع رقم (6346)، الإرواء (619)..
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة برقم (1083). وضعفه العلامة الألباني في سنن أبي داود برقم (1083) ، وضعيف الجامع برقم (1849) .
(3) في الجمعة (877) باب (16) ما يقرأ في صلاة الجمعة، من طريق عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا سليمان { هو ابن بلال } عن جعفر، عن أبن أبي نافع؛ قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة. وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة. فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة : إذا جاءك المنافقون. قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف. فقلت له : إنك قرأت بسورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة. فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة.
وأخرجه أبو داود في الصلاة (1124)، والترمذي في الصلاة برقم (519)، وابن ماجة في الإقامة برقم (1118)، وابن حبان في صحيحه برقم (2806).(1/314)
وفيه أيضا: أنه - صلى الله عليه وسلم - ، كان يقرأ فيها بـ "الجُمُعة" و { هل آتاك حديث الغاشية } ثبت عنه ذلك كله . (1)
ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما في الركعتين، فإنه خلاف السنة، وجهّال الأئمة يداومون على ذلك.
الثالثة عشرة : أنه يوم عيد متكرر في الأسبوع، وقد روى أبو عبد الله بن ماجة في "سننه" . (2)
من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله العبدُ فيها شيئا إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرّب، ولا سماء، ولا ارض، ولا رياح، ولا جبال، ولا شجر إلا وهنَّ يشفقن من يوم الجمعة". (3)
__________
(1) والحديث أخرجه مسلم في الجمعة (878) في المصدر السابق من يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق، جميعا عن جرير. قال يحيى: أخبرنا جرير بن إبراهيم == == بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير ؛ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، في العيدين وفي الجمعة بـ { سبح اسم ربك الأعلى } ، و { هل أتاك حديث الغاشية } .
وفي الباب عن ابن عباس - رضي الله عنه - عند مسلم (879).
(2) في إقامة الصلاة والسنة فيها (1084) باب (79) في فضل الجمعة وحسن إسناده الإمام البوصيري في الزوائد، وأخرجه أحمد في مسنده (15548/5) بلفظ: "سيد الأيام يوم الجمعة ..." الحديث.
(3) أخرجه الإمام أحمد والبيهقي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2279).(1/315)
الرابعة عشرة : أنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب التي يقدر عليها، فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" . (1)
من حديث أبي أيوب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"ومن اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، ثم يركع إن بدا
له، ولم يؤذ أحداً، ثم أنصت إذا خرج أمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينهما".
وفي سنن أبي داود ، (2)
عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنهم - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المِنبر في يوم الجُمعة : "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته".
وفي سنن ابن ماجة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النمار، فقال: "ما على أحدكم إن
وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته". (3)
الخامسة عشرة: أنه يستحب فيه تجمير المسجد، فقد ذكر سعيد بن منصور، عن نعيم بن عبد الله المجمر، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر أن يُجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار.
قلت : ولذلك سمي نعيم المُجمر ، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى . (4)
باب
فضل صلاة الجمعة ويومها
__________
(1) برقم (23630/9( وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1775). وإسناده حسن.
(2) في الصلاة (1078) باب (219) اللبس للجمعة، وأخرجه ابن ماجة في إقامة الصلاة (1095) باب (83) ما جاء في الزينة يوم الجمعة. وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (1078).
(3) في إقامة الصلاة (1096) باب (83) ما جاء في الزينة يوم الجمعة. من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. ومن طريقه أخرجه ابن حبان (2777) وابن خزيمة (1765).
(4) ) ) انظر زاد المعاد المجلد الأول باب الصلاة .(1/316)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفرَ له ما بينه وبين الجمعة وزيادة
ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا" (1) .
استمع : الإستماع : الإصغاء ، والإنصات : السكوت .
"لغا" قيل : معناه خاب من الأجر وقيل أخطأ ، وقيل : صارت جمعته ظهراً وقيل غير ذلك .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها ، ورجل حضرها بدعاءٍ فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصاتٍ وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي
كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". (2)
وعن أبي لبابة بن عبد المنذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن يوم الجمعة سيد الأيام ، وأعظمها عند الله ، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر ، وفيه خمس خلال خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ، وفيه توفي الله آدم ، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً ، وفيه تقوم الساعة ، ما من ملك مقرب
، ولا سماء ، ولا أرض ، ولا رياح ، ولا جبال ، ولا بحر إلا وهو يشفقن من يوم الجمعة". (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم(1985)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1050) والترمذي في كتاب الصلاة برقم (498) ، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم (1090).
(2) صحيح ابن خزيمة (1813)، وصحيح أبي داود (1019)، المشكاة (1396)
(3) رواه أحمد في المسند(15548/5)، صحيح ابن ماجة رقم (888)، والمشكاة برقم (1363)، وصحيح الجامع برقم (2279) .(1/317)
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها، وزيادة لثلاثةِ أيام، وذلك بأن الله عز وجل قال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". (1)
وعن أبي سعيد أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة، من عاد مريضاً، وشهد جنازة، وصام يوماً، وراح إلى الجمعة، وأعتق رقبة". (2)
وعن يزيد بن أبي مريم قال: لحقني عبايةُ بن رفاعة بن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار". (3)
وفي رواية عند البخاري :
قال عباية : أدركني أبو عبسٍ وأنا ذاهب إلى الجمعة ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمهُ الله على النار".
وفي رواية: "ما اغبرت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسه النار"، وليس عنده قول عباية ليزيد.
قال ابن حجر : في ذلك إشارة إلى عظيم قدر التصرف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مس الغبار للقدم يحرم عليها النار، فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفذ وسعه.أ.هـ. (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة". (5)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (685).
(2) رواه ابن حبان في صحيحه،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (686)، وانظر صحيح الجامع برقم (3252) .
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (687).
(4) ) ) فتح الباري (2/390) .
(5) رواه مسلم في كتاب الجمعة، برقم (1973، 1974)، وأبو داود والترمذي والنسائي.(1/318)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه وقال: بيده يُقللها يزهدها" (1) . زاد قتيبة في رواية: "وأشار بيده يقللها".
قوله: "وأشار بيده يقللها": الإشارة لتقليلها هو الترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها.
وعن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري قال: قال لي عبد الله بن عمر: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن ساعة الجمعة؟ قال قلت: نعم سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضي الصلاة". (2)
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوم الجمعة اثنا عشر ساعة فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر". (3)
قال الترمذي: "ورأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس"، وبه يقول أحمد وإسحاق.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من تصبح
حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل حاجة إلا أعطاه إياها".
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة برقم (935، 6400) وأخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1966، 1967) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1972)وأبو داود في الصلاة (1049).
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة (1048) والنسائي في المجتبى في الجمعة (1388) وفي الكبرى (1697/1) والحاكم (1032/1)وصححه الألباني في صحيح الترغيب (703).(1/319)
قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة قال: فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب فقال عبد الله بن سلام وقد علمت أية ساعة من
يوم الجمعة فقلت: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي".قال فقلت: بلى فقال: هو ذاك. (1)
وعن أبي بردة بن أبي موسى أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن الجمعة شيئاً؟ قال: نعم سمعته يقول
: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". (2)
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن ربعي بن حِراش عن حذيفة قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخِرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق". (3)
__________
(1) إسناده صحيح على شرط الشيخين، أخرجه مالك في موطئه (243) وأحمد فس مسنده (10307/3) وأبو داود (1046) والترمذي (491) والنسائي في الكبرى (1754/1)، والشافعي (1/72) وابن حيان (2772/7) وغيرهم من أئمة الحديث، وصححه الألباني في الصحيحه برقم (1502) والمشكاة (13059). – فائدة:في هذا الحديث:كلمة:صدفة..وتعني :الموافقة؛؛وهي جائزة في الكلام بهذا المعنى.
(2) رواه مسلم برقم (853) ، باب في الساعة التي في يوم الجمعة .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1979).(1/320)
وعن أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي".
قالوا: وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت: فقال: "إن الله جل وعلا حرم على الأرض أن تأكل أجسامنا". (1)
وفي رواية : "أجساد الأنبياء" . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة بيد أن كل أمة أوتيت الكتابُ من قبلنا وأوتيناه من
بعدهم ثم هذا اليوم الذي كتبه الله هدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود
غداً والنصارى بعد غد". (3)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة" قال العلماء معناه الآخرون في الزمان والوجود، السابقون بالفضل ودخول الجنة فتدخل هذه الأمة الجنة قبل سائر الأمم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة وما من دابة إلا وهي تفزع يوم الجمعة إلا هذين الثقلين الإنس والجن". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة إلا الإنس والجن". (5)
__________
(1) أخرجه أبو داود (1047و1531) ، والنسائي (3/91) ، وابن ماجة برقم (1085و1606)، وأحمد (4/8)، والحاكم (1/278)،صحيح الترغيب برقم (696) والمشكاة (1361) .
(2) ) ) صحيح الجامع برقم (2212) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1975) و (1976).
(4) صحيح ابن خزيمة (1727) والترغيب (699) وقال الألباني رحمه الله: حسن، وقد رواه ابن خزيمة ابن حبان في صحيحهما، ورواه أبو داود.
(5) رواه أبو داود، الترغيب (697) وقال الألباني: حسن.(1/321)
وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". (1)
الصلوات الخمس المفروضات والجمعة وصيام رمضان كفارات للذنوب والمعاصي.
باب
فضل السعي إلى الجمعة والطيب والغسل
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } . (2)
قال شيخ الإسلام : "فجعل السعي إلى الجمعة خيرا من البيع ، والسعي واجب والبيع حرام" . (3)
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثةِ أيام". (5)
وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كُتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". (6)
قوله: "ويتطهر ما استطاع من الطهور": المراد به المبالغة في التنظيف.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (550).
(2) ) ) سورة الجمعة الآية (9) .
(3) ) ) مجموع الفتاوى (23/232) .
(4) رواه البخاري برقم (843)، باب الدهن للجمعة .
(5) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1984).
(6) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة برقم (883).(1/322)
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيبٍ إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له ولم يؤذِ أحداً ثم أنصت حتى يصلي كان كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أُمر ثم يخرج من بتيه حتى يأتي الجمعة، ويُنصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة". (2)
وفي رواية: "إلا كانت كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى ما اجتنبت المقتلة". (3)
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى" . (4)
قال المناوي: قوله: "من اغتسل يوم الجمعة" أي لها في وقت غسلها وهو من الفجر إلى الزوال "كان في طهارة" من الساعة التي صلى فيها الجمعة أو من وقت الغسل "إلى" مثلها من "الجمعة الأخرى" والمراد الطهارة المعنوية، وهذا تنبيه على عظيم فضل الغسل لها في باب الجمعة من حديث هارون بن مسلم العجلي عن أبان عن يحيى بن عبد اللّه بن أبي قتادة "عن أبي قتادة" قال عبد اللّه: دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة فقال: غسل جنابة أو للجمعة قلت: من جنابة قال: أعد غسلاً آخر فإني سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره . (5)
__________
(1) رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه، صحيح الترغيب رقم (688).
(2) رواه النسائي في السنن الكبرى (1664 و 1724)، والحاكم (1/277) وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (689).
(3) رواه الطبراني في الكبير نحو رواية النسائي، صحيح الترغيب (689).
(4) صحيح الجامع حديث رقم (6065) .
(5) فيض القدير .(1/323)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسَّل واغتسل ودنا وابتكر واقترب واستمع كان له بكل خطوةٍ يخطوها قيام سنة وصيامها". (1)
وعن أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوةٍ عمل سنة أجر صيامها وقيامها". (2)
"غسَّل" أي أوجب على أهله الغسل بسبب جماعة لها وقال آخرون: إنما هو غسل بالتخفيف ومعناه غسل رأسه ثم اغتسل جميعه وهذا من باب التأكيد من غسل الرأس.
زاد أبو داود في رواية له: "من غسَّل رأسه".
وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: دخل علي أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة فقال: غُسلُك هذا من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة. قال: أعِدْ غسلاً آخر، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى". (3)
ورواه ابن حبان في "صحيحه" ولفظه:
"من اغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهراً إلى الجمعة الأخرى".
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (693).
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال:حديث حسن، والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (690)
(3) رواه الطبراني في الأوسط ، وابن خزيمة في صحيحه، وقال: هذا حديث غريب لم يروه غير هارون يعني ابن مسلم صاحب الحِنّاء، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (704).(1/324)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه ثم تطيب من أطيب طيبه ولبس من صالح ثيابهِ ثم خرج إلى الصلاة ولم يفرق بين اثنين ثم استمع للإمام غفر له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام". (1)
قال الحافظ: "وفي هذا دليل على ما ذهب إليه مكحول ومن تابعه في تفسير قوله: "غَسَلَ واغتسل" والله أعلم.
وأما ما ذهب إليه مكحول هو قوله "غسل" معناه غسل الرأس خاصة، وذلك لأن العرب لهم لِمَمٌ وشعور وفي غسلها مؤنة فأفْرَدَ غسل الرأس من أجل ذلك. أ.هـ. (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "غُسلُ يوم الجُمعَةِ واجِبٌ على كُلِّ مُحتَلِم وسِواكٌ، ويَمسُّ من الطيب ما قَدَرَ عليه". (3)
باب
التبكير إلى الجمعة وثوابه
تقدم حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من غسّل واغتسل ودنا وابتكر واقترب واستمع كان له بكل خطوةٍ يخطوها قيام سنةٍ وصيامها".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في
الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
__________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(705).
(2) ) ) صحيح الترغيب (1/433) .
(3) رواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (846).(1/325)
وفي رواية: "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كالذي يهدي كبشاً ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر". (1)
والتهجير : التبكير، والمُهجّر: هو المبكر الآتي في أول ساعة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "على كل باب من أبواب المسجد ملك يكتب الأول فالأول مثل الجزور ثم نزلهم حتى صغر إلى مثل البيضة فإذا جلس الإمام طويت الصحف وحضروا الذكر". (2)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه" أمّا ساعة الجمعة فقد ذهب بعض العلماء إلى أنها:
ما بين العصر إلى أن تغرب الشمس واستدلوا بما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس: إنا لنجد في كتاب الله تعالى: في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئاً إلا قضى له حاجته قال عبد الله: فأشار إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أو بعض ساعة" فقلت: صدقت أو بعض ساعة. قلت أي ساعة هي قال: "آخر ساعات النهار" قلت: إنها ليست ساعة صلاةٍ قال: "بلى إن العبد إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة". (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم (929) وفي كتاب بدء الخلق (3211) ورواه مسلم في كتاب الجمعة برقم (1981).
(2) أخرجه البخاري برقم (3039) ، باب ذكر الملائكة ، ومسلم في كتاب الجمعة برقم (1983) .
(3) صحيح ابن ماجة (934) وقال الألباني: صحيح.(1/326)
وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة". (1)
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة ومن مس الحصا فقد لغا". (2)
أتى الجمعة : أتى المسجد ليصلى صلاة الجمعة.
لغا : هو الكلام الذي لا فائدة فيه.
وعنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". (3)
مكفرات : ماحيات .
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تحشر الأيام على هيئتها وتحشر الجمعة زهراء منيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدي إلى خدرها تضئ لهم يمشون في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضاً وريحهم كالمسك
يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهم الثقلان لا يطرفون تعجباً حتى
يدخلوا الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون". (4)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقعد الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون الأول والثاني والثالث حتى إذا خرج الإمام رفعت الصحف". (5)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب
المساجد معهم الصحف يكتبون الناس، فإذا خرج الإمام طويت الصحف".
__________
(1) رواه مسلم برقم (853) ، باب في الساعة التي في يوم الجمعة .
(2) أخرجه مسلم برقم (857).
(3) أخرجه مسلم برقم (273).
(4) رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (698) والسلسلة الصحيحة برقم (706).
(5) رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (710).(1/327)
قلت: يا أبا أمامة! أليس لمن جاء بعد خروج الإمام جمعة؟ قال: بلى، ولكن ليس ممن يكتب في الصحف. (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المستعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنه والذي يليه كالمهدي بقرة والذي يليه كالمهدي شاةً والذي يليه كالمهدي طيراً". (2)
وفي رواية: "على كل باب من أبواب المساجد يوم الجمعة ملَكان يكتبان الأول فالأول كرجل قدم بدنه، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم
شاة وكرجل قدم طيراً، وكرجل قدم بيضة، فإذا قعد الإمام طويت
الصحف". (3)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون من جاء من الناس على منازلهم، فرجل قدم جزوراً، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة،
ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم بيضة، قال: فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف، ودخلوا المسجد يستمعون الذكر". (4)
وعن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "احضروا الجمعة، وادنُوا من الإمام، فإنَّ الرجلَ ليكون من أهل الجنة، فيتأخر، فيؤخَّر عن الجنة وإنه لمن أهلها". (5)
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ، والطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (710).
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (708).
(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (708).
(4) رواه أحمد بإسناد حسن، صحيح الترغيب رقم (711).
(5) رواه الطبراني والأصبهاني، وأحمد (5/10) وأبو داود، وقال الألباني رحمه الله: (حسن لغيره) صحيح الترغيب (713)، والصحيحة (365).(1/328)
وعلى الخطيب أن يقصر الخطبة ويطيل الصلاة ، فعن عمار بن ياسر - رضي الله عنهم - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنّة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة ، وإن من البيان سحراً " . (1)
مئنة من فقهه : أي علامة .
والضابط في ذلك هو حاجة الناس لذلك ومراعاة أحوالهم ، فعن جابر بن سمرة - رضي الله عنهم - قال : "كنت أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً" . (2)
قصداً : أي وسطاً بين الطول والقصر .
باب
عدم تخطي الرقاب يوم الجمعة
عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما قال: جاء رجل يَتَخطّى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اجلس فقد آذيتَ، وآنيتَ". (3)
(آذيتَ) بتخطيك رقاب الناس.
(آنيتَ) بمد الهمز وبعدها نون ثم ياء مثناة تحت، أي: أخَّرتَ المجيء.
وعند ابن خزيمة: "فقد آذيتَ وآُذِيتَ".
باب
النهي عن الكلام والإمام يخطب
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلتَ لصاحبكَ يومَ الجمعةِ: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت". (4)
قوله: (لغوت) قيل: معناه خِبت من الأجر، وقيل: تكلمت. وقيل: أخطأت. وقيل: بطلت جمعتك. وقيل: صارت جمعتك ظهراً.
والقول الأخير هو الراجح وكذلك القول الذي قبله، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث: "ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً".
__________
(1) ) ) رواه مسلم برقم (869)، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(2) ) ) رواه مسلم برقم (866)، باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(3) رواه أحمد وابو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (714).
(4) رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم (394)، ومسلم في كتاب الجمعة برقم (851).(1/329)
وهو الذي جزم به الإمام ابن خزيمة. (1)
وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تكلمتَ يوم الجمعة فقد لَغَوتَ وألغَيتَ: يعني والإمام يخطب". (2)
وعن ابن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يحضر الجمعة ثلاثةُ نفر، فرجلٌ حضرها يَلغو، فذلك حظُّه منها، ورجلٌ حضرها بدعاءٍ فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخطَّ رقبةَ مسلم، ولم يؤذِ أحداً، فهي كفارةُ إلى الجمعة التي تليها و زيادة ثلاثة أيام. وذلك أن الله يقول: "مَن جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالها" ". (3)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كفى لغواً أن تقول لصاحبك: أنصت، إذا خرج الإمام في الجمعة. (4)
__________
(1) صحيح ابن خزيمة (3/55/ باب 71).
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(717).
(3) رواه أبو دواد، وابن خزيمة في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب (723).
(4) رواه الطبراني في الكبير (9/ رقم 9543) موقوفاً بإسناد صحيح، وصححه الألباني في الترغيب برقم (720).(1/330)
وعن أبي ذر أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلستُ قريباً من أُبيّ بن كعب ، فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة (براءة) فقلت لأُبيّ: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهَّمني، ولم يكلمني، ثم مكثت ساعةً، ثم سألته؟ فتجهمني ولم يكلمني. ثم مكثتُ ساعة، ثم سألته؟ فتجهمني، ولم يكلمني فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت لأُبيٍّ: سألتك فتجهمتني، ولم تكلمني؟ قال أُبيَ: مالك من صلاتك إلا ما لغوتَ! فذهبتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا نبي الله! كنت بجنب أُبيّ وأنت تقرأ (براءة) فسألته: متى نزلت هذه السورة؟ فتجهَّمني ولم يكلمني، ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "صدق أُبيّ". (1)
قوله: (فتجهمني) معناه: قطَّب وجهه وعبس، ونظر إليَّ نظر المغضب المنكر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب امرأته إن كان لها، ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظةِ، كان كفارةً لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً". (2)
باب
قراءة سورة الكهف وفضلها
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة (الكهف) في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". (3)
__________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(718).
(2) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (721).
(3) رواه النسائي في اليوم الليلة، والبيهقي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (736) .(1/331)
وفي رواية: "من قرأ سورة (الكهف) ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق". (1)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أيضاً ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ الكهف كما أنزلت كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه ومن يتوضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" (2) .
ورواه النسائي وقال في آخره: "ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة".
وعن البراء قال: كان رجل يقرأ بسورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنوا وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال" "تلك السكينة تنزلت للقرآن" (3)
"شطن" : هو الحبل الطويل المضطرب وشطن تثنية شطنين.
وقال النووي رحمه الله تعالى : وفي هذا الحديث :
جواز رؤية آحاد الملائكة .
وفيه : فضيلة القراءة وأنها سبب نزل الرحمة وحضور الملائكة .
وفيه : فضيلة استماع القرآن.
نص الشافعي على استحباب قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
__________
(1) رواه الدارمي في السنن موقوفاً على أبي سعيد، وقال الألباني: صحيح، صحيح الترغيب رقم (736).
(2) أخرجه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (582)، وصحيح الترغيب (218).
(3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5011) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1853).(1/332)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". (1)
وفي رواية لمسلم: "من آخرِ سُورةِ الكَهف". (2)
قال همام : "من أول الكهف" كما قال هشام (3) .
وفي حديث النواس بن سمعان ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف" (4) .
قال الإمام النووي : "وقيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال وكذا في آخرها قوله تعالى { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي } . (5) .
قيل : لأن في أولها من العجائب والآيات التي تثبت قلب من قرأها بحيث لا يفتن بالدجال، ولا يستغرب ما جاء به الدجال، ولم يلهه ذلك،ولم يؤثر فيه.
وهذا من فضائل وخصوصيات سورة الكهف ، فقد حثنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - على قراءتها وخاصة في يوم الجمعة .
فعلى المسلم أن يحرص على حفظ هذه السورة وعليه أن يتعاهد قراءتها بين الحين والأخر ، وخاصة في يوم الجمعة .
- - -
كتاب الصيام
معنى الصوم :
الصوم: هو الإمساك .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1880) ، وأبو داود في كتاب الملاحم برقم(4323) ، والترمذي في كتاب فضائل القرآن برقم (2886) ، وأحمد في مسنده (6/446و 449) والنسائي في (عمل اليوم والليلة) ص 527.
(2) صحيح مسلم (1/556).
(3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1342).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2937) .
(5) شرح النووي (6/93) .(1/333)
الصَّوْمُ: قيام بلا عمل والصوم أيضا الإمساك عن الطُّعام وقد صَامَ الرجل من باب قال وصِيَاماً أيضا وقوم صُوَّمٌ بالتشديد وصُيَّم أيضا ورجل صَوْمانُ أي صائم و صامَ الفرس قام على غير اعتلاف وصام النهار قام قائم الظهيرة واعتدل و الصَّوْمُ أيضا ركود الرياح، وقوله تعالى إني نذرت للرحمن صوما قال بن عباس رضي الله تعالى عنهما صمْتاً، وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صَائِمٌ . (1)
ويكون الصوم عن الكلام ، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم :
{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً } . (2)
باب
أركان الصيام
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
الصيام له ركن وهو : التعبد لله عزوجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
والمراد بالفجر هنا : الفجر الثاني دون الأول .
ويتميز الفجر الثاني عن الفجر الأول بثلاثة مميزات .
الميزة الأولى : أن الفجر الثاني يكون معترضاً في الأفق ، والفجر الأول يكون مستطيلاً – أي : ممتداً من المشرق إلى المغرب – وأما الفجر الثاني فيمتد من الشمال إلى الجنوب .
الميزة الثانية : أن الفجر الثاني لا ظلمة بعده بل يستمر النور في الازدياد حتى طلوع الشمس ، وأما الفجر الأول فيظلم بعد أن يكون له شعاع .
الميزة الثالثة : أن الفجر الثاني متصل بياضه بالأفق ، وأما الفجر الأول فبينه وبين الأفق ظلمة .
والفجر الأول ليس له حكم في الشرع فلا تحل به صلاة الفجر ولا يحرم به الطعام على الصائم بخلاف الفجر الثاني . اهـ . (3)
باب
ثواب الصوم مطلقاً
__________
(1) ) ) مختار الصحاح (1/156) .
(2) ) ) سورة مريم الآية (26) .
(3) ) ) فقه العبادات لابن عثيمين (ؤص172، 173) .(1/334)
قال الله تعالى : { والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً } . (1)
وقال تعالى: { كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية } . (2)
قال وكيع وغيره : هي أيام الصوم إذ تركوا فيها الأكل والشرب .
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" (3) .
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" إلا أنه قال: "فإذا دخل آخرهم أُغلقَ، مَن دخلَ شَرِبَ، ومن شَرِبَ لم يظمأ أبداً".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام والصيام لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة". (4)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الصوم جنة يستجن بها العبد من النار". (5)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك وللصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي الله تعالى فرح بصومه". (6)
__________
(1) سورة الأحزاب آية (35).
(2) سورة الحاقة الآية (24).
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1896)، ومسلم في كتاب الصيام برقم (1152).
(4) رواه البخاري برقم (55803)، باب ما يذكر في المسك، ومسلم في كتاب الصيام برقم (2698)، باب فضل الصيام.
(5) رواه الطبراني في الكبير عن عثمان بن أبي العاص، صحيح الجامع رقم (3861).
(6) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1904)، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، ومسلم في كتاب الصيام برقم (1151)، باب فضل الصيام .(1/335)
"كل عمل ابن آدم له" أي: له أجر محدود (إلا الصوم) فأجره بدون حساب.
قال النووي: قوله : "وللصائم فرحتان يفرحهما اذا أفطر فرح بفطره واذا لقى ربه فرح بصومه: قال العلماء: أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته وسلامتها من المفسدات وما يرجوه من ثوابها . اهـ. (1)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان" (2) . أي: يشفعهما الله فيه ويدخله الجنة.
قال المناوي: "وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسد الله ثوابهما ويخلق الله فيه النطق (والله على كل شيء قدير) أ.هـ. (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابهُ أحد أو قاتله فليقل إني صائم". (4)
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام جُنةٌ وحصنٌ حصين من النار". (5)
__________
(1) شرح النووي (8/31-32) .
(2) رواه أحمد والطبراني والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني، تمام المنة ص (94)، والمشكاة (1963)، صحيح الترغيب (973).
(3) صحيح الترغيب (1/579) .
(4) رواه البخاري برقم (1805) ، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ، ومسلم برقم(1151)، باب فضل الصيام .
(5) رواه أحمد بإسناد حسن والبيهقي، وقال شيخنا الألباني رحمه الله : حسن لغيره، صحيح الترغيب برقم (980) .(1/336)
قال العلامة الألباني رحمه الله تعالى : "جُنة" بضم الجيم : كل ما ستر ، ومنه "المجن" وهو الترس ، ومنه سُمي الجن لاستتارهم عن العيون ، وإنما كان الصوم لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات كما في الحديث الصحيح "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" .
قال ابن الأثير في النهاية : "معنى كونه جنة : أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات". أ.هـ. (1)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضِعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". (2)
وفي رواية: "وإذا لقي الله عزوجل فجزاه فرح" الحديث. (3)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به يدعْ الطعام من أجلي ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه". (4)
الخلوف: بضم الخاء: هو تغير رائحة الفم من الصوم.
وسئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي"؟ فقال: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيحتمل الله ما بقيَ عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة".
__________
(1) صحيح الترغيب (1/575) .
(2) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1151).
(3) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1151) .
(4) رواه ابن خزيمة، وقال الألباني صحيح، صحيح الترغيب (1/576).(1/337)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن ربكم يقول: كل حسنة بعشرِ أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي وأنا أجزي به، والصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم، إني صائم". (1)
وحديث الحارث الأشعري وفيه: "وآمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل في عصابة مع صرة مسك، كلهم يحب أن يجد ريحها، وإن الصيام أطيب عند الله من ريح المسك". الحديث.
رواه الترمذي وصححه إلا أنه قال: "وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". (2)
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الصيام جُنَّة يَستَجِنُّ بها العبد من النار". (3)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا أدُّلك على ابواب الخير؟" قلت: بلى يا رسول الله! قال: "الصومُ جنةٌ، والصدقةُ
تطفئُ الخطيئة كما يطفئُ الماءُ النارَ". (4)
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أسندت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدري فقال: "من قال: (لا إله إلا الله) خُتم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء الله خُتم له به، دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة". (5)
ورواه الأصبهاني بلفظ : "يا حذيفة! من خُتم له بصيامِ يومٍ يريد به وجه الله عز وجل ، أدخله الله الجنة ". (6)
__________
(1) رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب (1/575).
(2) رواه الترمذي وابن خزيمة في صحيحه واللفظ له وابن حبان والحاكم.
(3) رواه أحمد بإسناد والبيهقي، وقال الألباني حسن لغيره، صحيح الترغيب برقم(981).
(4) رواه الترمذي في حديث وصححه، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (983).
(5) رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (985).
(6) قال الألباني رحمه الله: صحيح لغيره، صحيح الترغيب (1/579).(1/338)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تُكفرها الصلاة والصيام والصدقة". (1)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول: "لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنت الذي يقول ذلك" فقلت له : قد قلته يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر ونم وقم صم في الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" قال: فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك قال: "صم يوماً وأفطر يومين" قال: فقلت: فإني أطيق أفضل من ذلك قال: "فصم يوماً وأفطر يوماً وذلك صيام داود وهو أعدل الصيام" قال: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا أفضل من ذلك" قال عبد الله بن عمرو: لأن أكون قبلت الثلاثة، التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي من أهلي ومالي". (2)
وفي رواية لمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بلغني أنك تقوم الليل وتصوم النهار" قال: يا رسول الله ما أردت بذلك إلا خير، قال: "لا صيام من صام الأبد ولكن أدلك على صوم الدهر ثلاثة أيام من كل شهر".
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبدٍ يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً". (3)
__________
(1) رواه البخاري برقم (502)، باب الصلاة كفارة ، ومسلم برقم (144)، باب في الفتنة التي تموج كموج البحر .
(2) رواه البخاري برقم (1875)، باب صوم الدهر ، ومسلم برقم (1159)، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم(2840)ومسلم في كتاب الصيام برقم (2704)(1/339)
الخريف : السنة .
وعن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام يوماً في سبيل الله، بعدت منه النار مسيرة مئة عام". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً". (2)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض". (3)
باب
الذكرعند رؤية الهلال أو القمر
عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهلهُ علينا باليُمن -وفي رواية بالأمن- والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربُّك الله". (4)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فإذا القمر حين طلع فقال: "تعوذّي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب". (5)
قوله: "الغاسق" الغسق الظلمة، وسماه غاسقاً لأنه ينكسف ويسوّد ويظلم.
وقوله: "وقب" الوقوب الدخول في الظلمة ونحوها مما يستره من كسوف وغيره.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، و الأوسط ، صحيح الترغيب برقم (988).
(2) رواه النسائي ، والترمذي من رواية ابن لهيعة وقال: حديث غريب، ورواه ابن ماجة من رواية عبد الله بن عبد العزيز الليثي، وقال الألباني صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (989).
(3) رواه الترمذي ورواه الطبراني في الكبير (8/280 – 281/4921)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (991) والسلسلة الصحيحة برقم (563).
(4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(5) رواه ابن السني.(1/340)
وقال بعض أهل العلم، التعوذ في الظلمة، لأن أهل الفساد ينتشرون في الظلمة ويتمكنون فيها أكثر مما يتمكنون منه في حال الضياء فيقدمون على العظائم وانتهاك المحارم، فأضاف فعلهم في ذلك الحال إلى القمر لأنهم يتمكنون منه بسببه. والله أعلم.
باب
الصيام عند رؤية الهلال
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" . (1)
قال الشوكاني: وظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل وهو ظاهر في النهي عن ابتداء رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله فإن غم عليكم فأقدروا له فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو وأما الغيم فله حكم آخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكدا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا المراد بقوله فاقدروا له أي قدروا أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين ويرجح هذه الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين . (2)
باب
لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين
لا يجوز تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين قبله إلا لمن اعتاد صيام الاثنين والخميس .
__________
(1) رواه البخاري برقم (1801) ، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومن رأى كله واسعا ، ومسلم برقم (1080) ، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال.
(2) نيل الأوطار (4/262-263) .(1/341)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه". (1) .
قال النووي : فيه التصريح بالنهى عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله فان لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره اذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فان وصله بما قبله أو صادف عادة له فان كانت عادته صوم يوم الأثنين ونحوه فصادفه فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث وسواء في النهى عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره فيوم الشك داخل في النهي وفيه مذاهب للسلف فيمن صامه تطوعا وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة بشرط أن يكون هناك غيم والله أعلم . (2) .
باب
الدعاء للقوم إذا أفطر عندهم
من السنة أن تدعو لمن أعد لك طعاماً وأكلت أو شربت عنده، كما ثبت ذلك في السنة المطهرة .
فعن أنس - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة". (3)
الأبرار : أي الاتقياء الصالحون .
صلت : أي دعت لكم الملائكة .
وفي الحديث استحباب الدعاء لصاحب الطعام .
باب
ماذا يقول من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر
__________
(1) رواه البخاري برقم (1815) ، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين ، مسلم برقم (1082) ، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين .
(2) شرح مسلم (7/194) .
(3) رواه أبو داود برقم (3854) ، والبيهقي في الكبرى (7925)، وابن ماجة برقم (1747) ، صحيح الجامع برقم (1137) .(1/342)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دُعي أحدكم فليُجِب فإن كان صائماً فليُصلَّ، وإن كان مفطراً فليطعم". (1)
قال العلماء: معنى "فليُصلِّ": فليدعُ، ومعنى "فليطعم": فليأكل.
قال أبو الطيب : إذا دعي أحدكم فليجب أي الدعوة فإن كان مفطرا فليطعم أي فليأكل ابنة، وقيل: وجوبا قاله ابن حجر ، والأظهر أنه يجب إذا كان يتشوش خاطر الداعي ويحصل به المعادة إن كان الصوم نفلا وإن كان يعلم أنه يفرح بأكله ولم يتشوش بعدمه فيستحب وإن كان الأمران مستويين عنده فالأفضل أن يقول إني صائم سواء حضر أو لم يحضر وإن كان صائما فليصل قال الطيبي أي ركعتين في ناحية البيت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، أخرجه البخاري، وقيل: فليدع لصاحب البيت بالمغفرة، وقال ابن الملك: بالبركة، أقول: ظاهر حديث أم سليم أن يجمع بين الصلاة والدعاء، قال المظهر والضابط ثم الشافعي أنه إن تأذى المضيف بترك افطار أفطر فإنه أفضل وإلا فلا كذا في المرقاة .اهـ. (2)
باب
نهي الصائم عن الغيبة والفحش
والكذب ونحو ذلك
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه". (3)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحدٌ أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم". (4)
__________
(1) رواه مسلم برقم (1431)، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوته .
(2) عون المعبود (7/95) .
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1903).
(4) رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1082).(1/343)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائم ليس له من قيامه إلا السَّهرُ". (1)
وفي رواية للحاكم. "رب صائمٍ حظًّه من صيامِهِ الجوعُ والعطشُ، وربَّ قائم حظُّه من قيامه السهر".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رب صائم حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش، وربَّ قائم حظُّه من قيامه السهر". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد فليقل: إني صائم، إني صائم". (3)
قوله: "جُنة": أي مانع من المعاصي.
وقوله: "فلا يرفث": الرفث الفحش في القول.
وقوله: "ولا يصخب": أي لا يصيح ولا يرفع صوته.
باب
النهي عن إفطار رمضان بلا عذر ولا حاجة
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } . (4)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهم ما اجتنبت الكبائر". (5)
__________
(1) رواه ابن ماجة واللفظ له، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1083).
(2) رواه الطبراني في الكبير، صحيح الترغيب رقم (1084).
(3) رواه البخاري برقم (1805) ، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ، ومسلم برقم (1151)، باب فضل الصيام .
(4) سورة البقرة (183-184).
(5) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (233).(1/344)
وقال عليه الصلاة والسلام: "رغم أنف امرئٍ أدرك شهر رمضان فلم يغفر له". (1)
قال الذهبي رحمه الله تعالى: وعند المؤمنين أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عذر أنه شر من المكاس والزاني بل يشكون إسلامه ويظنون به الزندقة والإنحلال.
باب
النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم
لا يجوز تخصيص يوم الجمعة بالصيام، كما أنه لايجوز تخصيصها بالقيام.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبلهُ أو يوماً بعده". (3)
وعن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أصمت أمس؟" قالت: لا. قال: "تريدين أن تصومي غداً؟" قالت: لا. قال: "فأفطري". (4)
وعن محمد بن عباد قال: سألت جابراً وهو يطوف بالبيت: أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام الجمعة؟ قال: نعم ورب هذا البيت". (5)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: ذكر ابن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنهم كرهوا صوم الجمعة ليقوموا على الصلاة.
قلت (أي ابن قيم الجوزية): المأخذ في كراهيته: ثلاثة أمور: هذا أحدها، ولكن يُشكل عليه زوال الكراهية بضم يوم قبله، أو بعده إليه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات برقم (3545) والحاكم في المستدرك (1/549)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1144).
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1985)، ومسلم في كتاب الصيام برقم(1144).
(4) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1986).
(5) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم(1984)، ومسلم في الصيام برقم(1143).(1/345)
والثاني: أنه يوم عيد، والمأخذ الثالث: سد الذريعة من أن يُلحق بالدِّين ما ليس فيه، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية.. إلى آخر كلامه (1)
باب
تحذير المرأة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا أن تستأذنه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأةٍ أن تصومَ وزوجها شاهدٌ إلا بإذنه، ولا تأذنَ في بيته إلا بإذنه". (2)
وفي رواية:"لا تصم المرأةُ وزوجها شاهدٌ يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب،فإن سابه أحد فليقل: إني صائم، إني صائم". (4)
باب
تحذير المسافر من الصوم إذا يشق عليه
عن جابر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان [فصام] حتى بلغ كراع الغميم؛ فصام الناس ثم دعا بقدحٍ من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة".
كراع الغميم: موضع على ثلاثة أميال من عسفان.
وهذا محمول على من تضرر بالصوم.
وفي رواية: "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت. فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر". (5)
__________
(1) زاد المعاد (1/320 - 321).
(2) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5195)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم(1026).
(3) رواه الترمذي وابن ماجة،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(1052).
(4) رواه البخاري برقم (1805) ، باب هل يقول إني صائم إذا شتم ، ومسلم برقم (1151)، باب فضل الصوم .
(5) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1114).(1/346)
وعن جابر أيضاً قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه فقال: (مالُه؟) قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس البر أن تصوموا في السفر".
زاد في رواية: "وعليكم برخصة الله التي رخَّص لكم".
وفي رواية: "ليس من البر الصوم في السفر". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال: فنزلنا منزلاً في يومٍ حار أكثرنا ظلاّ صاحب الكساء فمنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ذهب المفطرون اليوم بالأجر". (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وفي رواية: "يرون أن من وجد قوةً فصام فإن ذلك حَسَن ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن". (3)
باب
قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (4)
وعنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حُرِم". (5)
وفي رواية لمسلم قال: "من يقيم ليلة القدر فيوافيها" أراه قال: "إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1946)،ومسلم في كتاب الصيام برقم(1112).
(2) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1119).
(3) رواه مسلم في الصيام برقم (1116).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الصوم برقم (1901)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1779).
(5) رواه النسائي والبيهقي.(1/347)
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة".
قال أبو بكر رضي الله عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم وأرجوا أن تكون منهم". (1)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد، فإذا دخل أخرهم أُغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً". (2)
باب
من صام رمضان إيماناً واحتساباً
وقيام ليله سيما ليلة القدر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (3)
وعنه رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمةٍ فيقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2841)وفي كتاب بدئ الخلق برقم (3216) ، وأخرجه ومسلم في كتاب الزكاة برقم (2370)
(2) أخرجه البخاري برقم (1797)، باب الريان للصائمين ، ومسلم برقم (1152)، باب فضل الصيام .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (37)،وفي كتاب صلاة التراويح برقم(2009) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1776).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (37)، و أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1777).(1/348)
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر، حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله! لو نفلتنا قيام هذه الليلة، فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبت له قيام ليلة".فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال: قلتُ : ما الفلاحُ؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر". (1)
عزيمة : لا يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم، بل أمر ندب وترغيب . شرح النووي (6/39).
وعنه - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (2)
وفي رواية للنسائي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
قال الخطابي: "قوله: إيماناً واحتساباً أي: نية وعزيمة، وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه، طيبة به نفسه غير كاره له ولا مستثقلٍ لصيامه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب".
وقال البغوي : "قوله : "احتساباً" أي : طلباً لوجه الله تعالى وثوابه يقال : فلان محتسب الأخبار أي : يتطلبها".
__________
(1) أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وصححه الألباني في صلاة التراويح(ص 16/17) ، وصحيح أبي داود برقم (1245)، والإرواء رقم (447).
(2) أخرجه البخاري برقم (35)، باب قيام ليلة القدر من الإيمان ، ومسلم برقم (759) ، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح .(1/349)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصفِّدت الشياطين". (1)
وفي رواية لمسلم: "فتحت أبوب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسُلسِلَت الشياطين".
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: ومن ذلك -أي المفاضلة بين ما خلق الله- تفضيل شهر رمضان على سائر الشهور وتفضيل عشره الأخير على سائر الليالي.أ.هـ. (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن".
وقال ابن خزيمة: "الشياطين: مردة الجن" بغير واو – وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة". (3)
"صُفدت" بضم الصاد وتشديد الفاء أي : شدت بالأغلال.
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3103)، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم برقم (1079)، باب فضل شهر رمضان.
(2) زاد المعاد (1/56) .
(3) رواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه برقم (1883) ، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة ، ورواه والبيهقي والنسائي ، والحاكم بنحو هذا اللفظ وقال: صحيح على شرطهما، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (998).
(4) رواه النسائي والبيهقي كلاهما عن ابي قلابة عن ابي هريرة، وقال الألباني رحمه الله: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (999).(1/350)
وعن انس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "دخل رمضان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلةٌ خير من ألف شهر من حُرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم". (1)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله عند كل فطرٍ عتقاءُ". (2)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة، يعني في رمضان وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوةً مستجابة". (3)
وعن عمرو بن مُرة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته، فممن أنا؟ قال: "من الصديقين والشهداء". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". (5)
باب
صيام ست من شوال
عن ابي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". (6)
__________
(1) رواه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1000).
(2) رواه أحمد بإسناد لا بأس به والطبراني والبيهقي، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب برقم (1001).
(3) رواه البزار وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (1002).
(4) موارد الظمآن برقم (19) ، وصححه الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (18) ، والتعليق الرغيب (3/221).
(5) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (550).
(6) أخرجه مسلم في كتاب الصيام برقم (2750)، وأخرجه أبو داود، والترمذي ، والنسائي، وابن ماجة.(1/351)
الحسنة بعشر أمثالها فرمضان ثلاثون يوماً وستة أيام من شوال تلك ستة وثلاثون يوما وأجرها ثلاث مئة وستون حسنة فتلك سنة كاملة وهذا كصيام الدهر لمن واظب على ذلك.
وعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام ستة أيام
بعد الفطر كان تمام السنة ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها". (1)
وفي رواية للنسائي: "جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهرٌ بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بعد الفطر تمام السنة". (2)
وفي رواية: "من صام رمضان وستاً من شوال فقد صام السنة". (3)
باب
صوم عرفة
عن ابي قتادة رضي الله عنه قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة؟ قال: "يكفر السنة الماضية والباقية". (4)
ورواه الترمذي، إلا أنه قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله" . (5)
وعن قتادة بن النعمان قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من صام يوم عرفة غُفر له سنة أمامه وسنه بعده" . (6)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام يوم عرفة غفر له ذنب سنتين متتابعتين". (7)
وعن سعيد بن جبير قال: سأل رجل عبد الله بن عمر عن صوم يوم عرفة؟ فقال: "كنا ونحن مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - نعدله بصوم سنتين" . (8)
باب
صيام يوم عاشوراء
__________
(1) رواه ابن ماجة والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1007).
(2) ورواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(1/589).
(3) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني صحيح الترغيب برقم(1/589).
(4) أخرجه مسلم برقم (1162)، وابو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي.
(5) صحيح الترغيب رقم (1010) .
(6) صحيح الترغيب رقم (1011) .
(7) صحيح الترغيب (1012) .
(8) صحيح الترغيب (1014) .(1/352)
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية". (1)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء". (2)
وعنه سئل عن صيام عاشوراء فقال: "ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم ولا شهراً إلا هذا الشهر يعني رمضان". (3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "صيام يوم عاشوراء إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". (4)
وعن ابي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامةُ وسنة خلفه ومن صام عاشوراء غفر له سنة". (5)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ، أن رسول - صلى الله عليه وسلم - صامَ يَوْمَ عاشوراءَ، وأقر بصيامِهِ. (6)
باب
صوم شعبان وفضل ليلة النصف منه
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس فيه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". (7)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصيام برقم (1162 و 197).
(2) رواه الطبراني، قال في المجمع (3/186): رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، برقم (1132).
(4) أخرجه مسلم برقم (1162)، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس .
(5) رواه البزار، وقال الألباني : صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (1021).
(6) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (2397)، ومسلم في كتاب الصيام برقم (1130).
(7) رواه النسائي وصححه العلامة الألباني في تمام المنة (ص 415)، وصفة الصلاة ( ص 131)، وقال في صحيح الترغيب: حسن (1022).(1/353)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان وما رأيتُه في شهرٍ اكثر صياماً منه في شعبان". (2)
وعنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله" وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا".
وكان أحب الصلاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما دوِومَ عليه وإن قلَّت وكان إذا صلى صلاةً داوم عليها". (3)
"كله" : أي أكثره.
"خذوا العمل ما تطيقون" : أي تطيقون الدوام عليه بلا ضرر .
وقوله : "فإن الله لا يمل" قال الإمام النووي : "الملل والسآمة بالمعنى المتعارف في حقنا محال في حق الله تعالى فيجب تأويله، فقال المحققون: معناه لا يعاملكم معاملة الملل فيقطع عنكم ثوابه وفضله ورحمته حتى تقطعوا عملكم .
وقيل : لا يمل إذا مللتم . وحتى بمعنى : حين .
"ما دووم عليه" هو بواوين لأنه ماض مجهول من المداومة من باب المفاعلة.
باب
صيام شهر الله المحرم
__________
(1) رواه الطبراني وابن حبان، قال في المجمع: (8/65)، رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات، ورواه ابن ماجة بلفظه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وصححه الألباني في إصلاح المساجد (ص 99)، وصحيح الترغيب (1026).
(2) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1969)، ومسلم في كتاب الصيام برقم (1156).
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1970)، ومسلم في الصيام برقم(782).(1/354)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وافضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". (1)
وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل وافضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم". (2)
باب
صوم الإثنين والخميس وفضلهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". (3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تعرض الأعمال في كل إثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا". (4)
وفي رواية : " تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا انظروا هذين حتى يصطلحا". (5)
ورواه ابن ماجة بإسناد صحيح.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (2747).
(2) رواه النسائي والطبراني،وقال الألباني: صحيح لغيره،صحيح الترغيب(1016)
(3) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (2565)، والترمذي برقم (747)، وأبو داود برقم (2436)، والنسائي (4/201 – 202).
(4) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2565) وابن ماجة بإسناد صحيح.
(5) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2565)، وابن ماجة بإسناد صحيح.(1/355)
إلا أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم الإثنين والخميس فقيل يا رسول الله إنك تصوم الإثنين والخميس فقال: "إن يوم الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين يقول: دعهما حتى يصطلحا". (1)
وفي رواية لمسلم : "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحنا" الحديث.
وعن شرحبيل بن سعد عن أسامة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم الاثنين والخميس ويقول: "إن هذين اليومين تُعرض فيهما الأعمال" . (2)
باب
صيام ثلاثة أيام من كل شهر سيما الأيام البيض
وعن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله". (3)
وعن ابي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة أيام من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله". (4)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر ، فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) واليوم بعشر أيام". (5)
وفي رواية للنسائي : "من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد تم له صوم الشهر أو فله صوم الشهر". (6)
__________
(1) قال الألباني صحيح لغيره، الشمائل (259)، صحيح الترغيب (1042)، ورواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي باختصار ذكر الصوم.
(2) صحيح الترغيب (1043) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم برقم (1979)، ومسلم في الصيام برقم (1159).
(4) رواه مسلم في كتاب الصيام برقم (1162)، وأبو داود والنسائي .
(5) رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة، الإرواء (947) وقال الألباني صحيح، صحيح الترغيب رقم (1035).
(6) قال الألباني رحمه الله صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1035).(1/356)
وعن قدامة بن ملحان قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" قال: وقال: "هو كهيئةِ الدهر". (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل ان أنام. (2)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : "بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل ، فلا تفعل ، فإن لجسدك عليك حظَّا ، ولعينك عليك حظَّا ، وإن لزوجك عليك حظَّا ، صم وأفطر ، صم من كل شهر ثلاثة أيام ، فذلك صوم الدهر" . قلت يا رسول الله، إن بي قوةً , قال: "فصم صوم داود – عليه السلام- صم يوماً وأفطر يوماً" فكان يقول : يا ليتني أخذت بالرخصة. (3)
وفي رواية: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا صوم فوق صوم داود عليه السلام، شطر الدهر، صم يوماً وأفطر يوماً". (4)
باب
ثواب العشر الأواخر من رمضان
عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها". (5)
وعن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها ،قالت :
__________
(1) رواه ابو داود والنسائي وابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1039).
(2) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1981)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (721).
(3) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1975)، ومسلم في كتاب الصيام برقم (1159).
(4) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم(1980)، ومسلم في الصيام برقم(1159).
(5) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1923)، ورواه مسلم عن عائشة في كتاب الصيام برقم (1095).(1/357)
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر" . (1)
قولها: وشد المئزر : المئزر الإزار , وكنَى بشدّة عن اعتزال النساء . وقيل أراد تَشْميره للعبادة , يقال شدَدْتُ لهذا الأمرِ مئزَرِى , أي تَشَمَّرتُ له . (2)
قال النووي : ففى هذا الحديث: أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان، واستحباب إحياء لياليه بالعبادات، وأما قول أصحابنا يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام عليه ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر ولهذا اتفقوا على استحباب إحياء ليلتى العيدين وغير ذلك .اهـ. (3)
باب
ثواب السحور
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تسحروا فإن في السحور بركة". (4)
وقد ثبت في فضل السحور عدة أحاديث :
فعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين". (5)
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر". (6)
معناه: الفارق المميز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحرون، ونحن يستحب لنا السحور.
__________
(1) رواه مسلم عن عائشة في كتاب الصيام برقم (1174) ، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان .
(2) النهاية في غريب الحديث (1/44) .
(3) شرح النووي (8/71) .
(4) رواه البخاري برقم (1823) ، باب بركة السحور ، ومسلم برقم (1095) ، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر .
(5) رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الطبراني في الأوسط، وقال الألباني : حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1066)، صحيح الجامع رقم (1844) والصحيحة رقم (1654).
(6) أخرجه مسلم في كتاب الصيام برقم (2545).(1/358)
وعن ابن عباس عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نعجّل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة". (1)
وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه". (2)
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين". (3)
وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور". (4)
وعن ابي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم سحورُ المؤمنِ التمرُ". (5)
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السحور في رمضان فقال: "هلم إلى الغداءِ المباركِ". (6)
وجاء في رواية ابن حبان عن ابي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هو الغداء المبارك يعني السحور". (7)
باب
تعجيل الفطر
__________
(1) رواه الطيالسي والطبراني في الكبير، صحيح الجامع رقم (2282).
(2) رواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1069).
(3) رواه أحمد، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب برقم (1070).
(4) رواه الطبراني في الكبير،قال الألباني حسن لغيره،صحيح الترغيب رقم(1065)
(5) رواه أبو دواد وابن حبان في صحيحه، صحيح الترغيب برقم (1072).
(6) رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (1067).
(7) صحيح الترغيب برقم (1068).(1/359)
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". (1)
وعن سهل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون".
وعن أنس رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة المغرب حتى يفطر ولو على شربة من ماء". (3)
وعنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء". (4)
باب
ثواب من فطر صائما
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء". (5)
وعن زيد بن خالد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من فطر صائماً أو جهز غازياً فله مثل أجره". (6)
باب
ثواب الصائم إذا أكل عنده
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1957)، ومسلم في الصيام برقم (1098).
(2) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(1074).
(3) رواه ابو يعلى وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1076).
(4) رواه ابو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1077).
(5) أخرجه الترمذي (807) وابن ماجة (1846) وابن خزيمة وابن حبان، وصححه الألباني في كتاب الإيمان (ص 326) والمشكاة (1992) وإصلاح المساجد ( ص 114)، وصحيح الترغيب (1078)
(6) رواه البيهقي عن زيد بن خالد، المشكاة (1992)،الترغيب(1078).(1/360)
عن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فقدمت إليه طعاماً فقال: "كلي" فقالت: إني صائمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا" وربما قال: "حتى يشبعوا". (1)
أحاديث ضعيفة تنتشر في رمضان
رمضان أوله رحمه وأوسطه وآخره عتق من النار
عن سلمان الفارسي ـ - رضي الله عنه - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يوم من شعبان فقال : "يا أيها الناس ! قد أظلَّكم شهر عظيم ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة وشهر المساواة ، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، ومن فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء . قالوا: يا رسول الله ! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم قال : يعطي الله هذا الثواب من فطر على مذقة لبن ، أو تمرة ، أو شربة ماء ، ومن أشبع صائماً سقاه الله من الحوض شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، فاستكثروا فيه من أربع خصال ؛ خصلتان ترضون بهما ربكم ، وخصلتان لا غنى بكم عنهما ، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه ، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما ؛ فتسألون الجنة ، وتعوذون من النار ، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة " .
منكر ـ
__________
(1) أخرجه الترمذي (785 و 786) وحسنه وابن ماجة (1848) وابن خزيمة وابن حبان وأبو داود والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1085).(1/361)
أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(1887) وقال : "إن صح الخبر" ومدار الحديث على علي بن زيد قال عنه ابن خزيمة : " لا احتج به لسوء حفظه"، وقال أبو حاتم الرازي كما في "العلل" لابنه (1/249/ 733) : "وهذا حديث منكر". وقال الشيخ الألباني في"الضعيفة"(2/262ـ263/871) :"منكر".وهو في "ضعيف الترغيب" برقم (589).
لو يعلم العباد ما في رمضان ؛ لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان
عن أبي مسعود الغفاري - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، وقد هل شهر رمضان : "لو يعلم العباد ما في رمضان ؛ لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان" . فقال رجل من خزاعة : يا رسول الله ! حدثنا ، فقال : "إن الجنة لتزيَّن لرمضان من رأس الحول إلى الحول ، إذا كان أول يوم من رمضان ؛ هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق أشجار الجنة ، فتنظر الحور العين إلى ذلك فقلنا : يا رب ! اجعل من عبادك في هذا الشهر أزواجاً تقر أعيننا بهم ، وأعينهم بنا" فقال : "فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زُوّجَ زوجةً من الحور العين في خيمة من درَّ مجوفة ، مما نعت الله عز وجل { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } (الرحمن:72) ، على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى ، ويعطى سبعين لوناً من الطيب ، ليس منها لون على ريح الآخر ، لكل امرأةٍ منهن سبعين سريراً من ياقوتة حمراء موشحة بالدر ، على كل سرير منها سبعون فراشاً من سندس بطائنها من إستبرق وفوق السبعين فراشاً سبعين أريكة لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة ، مع كل وصيفة صفحة من ذهب فيها لون من طعام تجد لآخر لقمة فيه لذة لا تجد لأوله ، ويعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سواران من ذهب ، موشح بياقوت أحمر هذا لكل يوم صامه من رمضان ، سوى ما عمل من الحسنات" .
ضعيف جداً ـ(1/362)
أخرجه ابن الجوزي في"الموضوعات" (2/ 188ـ189) ، من طريق جرير بن أيوب البجلي عن الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري . وهذا إسناد ضعيف جداً
انظر "الجرح والتعديل" (2/ 503) و"المجروحين" (1/220) و"الكامل" (2/ 547) و"الميزان"(1/ 391) وغيرهما ،"الفوائد المجموعة"كتاب الصيام
من أفطر يوماً من رمضان
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أفطر يوماً من رمضان ؛ لم يقضه عنه صيام" .
وفي رواية : "من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصةٍ ولا عذرٍ،كان علية أن يصوم ثلاثين يوماً،ومن أفطر يومين كان عليه ستون، ومن افطر ثلاثا كان تسعون يوماً".
ضعيف ـ
ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في "ضعيف الترغيب" (1/308)رقم(605) ،و"ضعيف الجامع"برقم:( 5471)
صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل
"إن امرأتان صامتا وإن رجلا قال يا رسول الله إن هاهنا امرأتين قد صامتا وإنهما عقد كادتا أن تموتا من العطش فأعرض عنه أو سكت ثم عاد وأراه قال بالهاجرة قال يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا قال ادعهما قال فجاءتا قال فجيء بقدح أو عس فقال لإحداهما قيئي فقاءت قيحاً أو دماً وصديداً ولحماً حتى قاءت نصف القدح ثم قال للأخرى قيئي فقاءت من قيح ودمٍ وصديدٍ ولحمٍ عبيطٍ وغيره حتى ملأت القدح ثم قال إن هاتين صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس" .
ضعيف جداً ـ(1/363)
رواه أحمد (5/431) برقم (23703) عن رجل عن عبيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى : وهذا سند ضعيف بسبب الرجل الذي لم يسم ،وقال الحافظ العراقي (1/211) إنه مجهول ، ورواه الطيالسي (1/188) عن أنس فقال : حدثنا الربيع عن يزيد عنه . الربيع هو ابن صبيح ضعيف . ويزيد هو ابن أبان الرقاشي وهو متروك ."الضعيفة" (519)، "ضعيف الترغيب" رقم (659) .
"العسّ" بضم العين وتشديد السين المهملة : هو القدح العظيم .
و"العبيط" بفتح العين المهملة بعدها باء موحدة ثم ياء مثناة تحت و طاء مهملة : هو الطري .كما في "الترغيب والترهيب"
? ويغني عنه حديث :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه" .
رواه البخاري في كتاب الصوم برقم (1903) .
وفي رواية : "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ـ وفي رواية والعطش ـ ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" . "صحيح الترغيب" (1083) .
اللهم لك صمت
حديث :"اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
ضعيف ـ
عن حصين بن عبد الرحمن عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال : فذكره. وهذا مرسل ضعيف الإسناد معاذ بن زهرة تابعي وهو لم يرو عنه إلا حصين ولم يوثقه إلا ابن حبان ولذلك قال الحافظ في"التقريب":"مقبول"،وحيث يتابع وإلا فلين،ولم يتابع . وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" .
وفي لفظ : "بسم الله اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت" .
ضعيف ـ
قال الحافظ : ضعيف ، فيه داود بن الزبرقان وهو متروك ، "الفتوحات الربانية" (4/340ـ341) ، و "النكت الظراف" (13/391) ، "التهذيب" (10/172) ، "تلخيص الحبير" (2/801ـ802) .(1/364)
وفي لفظ عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال : "اللهم لك صمنا ، وعلى رزقك أفطرنا ، اللهم تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم" .
ضعيف ـ
أخرجه الدارقطني في "سننه" (240) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (474) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (3/174/2) . كما في "الإرواء" (4/36) .
"كان يبدأ بالشرب إذا كان صائماً ،وكان لا يعب ،يشرب مرتين أو ثلاثاً".
"ضعيف الجامع"(4528).
? ويغني عنه حديث :
عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال : "ذهب الظمأ ، وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" .
وهو حديث حسن . كما في "الإرواء" (4/39) .
إقضيا يوماً آخر
" إقضيا يوماً آخر ".
ضعيف ـ
"السلسلة الضعيفة" (رقم 5480) .
عن ابن عمر قال : "أصبحت عائشة وحفصة صائمين فأهدي لهما طعاما فأفطرتا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي إحداها أحسبه قال حفصة قال قال اقضيا يوما مكانه" .
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (26310) . ورواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه حماد بن الوليد ضعفه الأئمة ، وقال أبو حاتم شيخ . وأخرجه ابن راهويه في مسنده برقم (658) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : "أهديت لعائشة وحفصة هدية وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: اقضيا يوما مكانه ولاتعودا" .
ضعيف –
رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أبي سلمة الملكي وقد ضعف بهذا الحديث . مجمع الزوائد (3/202) .
وفي رواية عن عائشة،قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين ،فأهدي لنا طعام فأفطرنا ،فقالرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"صوما مكانه يوماً آخر". شاذ ـ
"الضعيفة"(5202)،"المشكاة (2080/التحقيق الثاني)،"ضعيف موارد الظمآن (115).(1/365)
قال الإمام الطحاوي : ففي هذا دليل على أن حكم الإفطار في الصوم التطوع أنه موجب للقضاء فكان مما يحتج به أهل المقالة الأولى في فساد هذا الحديث أن أصله ليس عن عروة عن عائشة وانما أصله موقوف على من دون عروة وذلك أن يونس حدثنا قال أنا بن وهب أن مالكا أخبره عن بن شهاب ثم أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا صائمتين ثم ذكر مثله قالوا فهذا هو أصل الحديث قالوا وقد سئل الزهرى عن ذلك هل سمعه من عروة فقال لا وذكروا ما حدثنا بن أبى داود قال ثنا نعيم قال سمعت بن عيينة يقول سئل الزهرى عن حديث عائشة رضي الله عنها ثم أصبحت أنا وحفصة رضي الله عنها صائمتين فقيل له أحدثك عروة فقال لا . اهـ . شرح معاني الآثار (2/108) .
صوموا تصحوا
حديث: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اغزوا تغنموا ، وصوموا تَصِحّوا ، وسافروا تستغنوا" .
ضعيف ـ
هذا إسناد ضعيف ، فيه زهير بن محمد وهو أبو المنذر الخراساني، وهو ضعيف، قال عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" : "رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها ، قال البخاري عن أحمد : " كأن زهير الذي يروي عنه الشامون آخر"،وقال أبو حاتم:"حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه". ا.هـ والراوي عنه هنا محمد بن سليمان وهو شامي ؛ فالسند ضعيف .قال الحافظ العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"( 3/ 75) : "رواه الطبراني في الأوسط"، وأبو نعيم في "الطب النبوي" من حديث أبي هريرة بسند ضعيف".
وقال الألباني في "الضعيفة" (1/ 420/ 253) : "ضعيف" ، و "ضعيف الترغيب" رقم(573) : "ضعيف" ، وضعيف الجامع برقم (3504) ، "الفوائد المجموعة" كتاب الصيام حديث رقم (10).
لا تقولوا رمضان
"لا تقولوا رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان" .
موضوع ـ
"ترتيب الموضوعات"للذهبي (570) .(1/366)
قال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص87) : رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً . وفي إسناده محمد بن أبي معشر ورواه تمام في فوائده من حديث ابن عمر من غير طريق أبي معشر . وأخرجه ابن النجار من حديث عائشة . وإسناده مظلم ، وهو موضوع .
وقال ابن الحافظ حجر : "أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر . "الفتح" (4/135ـ136) .
إذا نسي فأكل أوشرب وهو صائم
" من أكل أو شرب ناسياً فإنما هو رزق رزقه الله إياه " .
ضعيف ـ
قال الحافظ : ياسين ومندل وعبد الله بن سعيد ضعفاء .
إتحاف المهرة (15/472) .
" أنه نسي صيام أول يوم من رمضان أصاب طعاماً فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أتم صيامك " .
ضعيف ـ
الدار قطني قال الحاكم عن أبي هريرة مثله وقال الحاكم هو ابن عبد الله ابن سعد الأيلي ضعيف الحديث . إتحاف المهرة (15/708/709).
ويغني عنه حديث :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه". (1)
فمن أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فليتم صومه ، ولا شيء عليه ، وصيامه صحيح . وسواء كان في الفرض أو النفل .
وهذا خلاف ما انتشر بين الناس أن الذي يأكل أو يشرب ناسياً أفطر ولا يحق له اتمام صومه،وهذا باطل لهذا الحديث
وعليه اتمام صومه وصومه صحيح نفلاً كان أم فرضاً .
وكذلك انتشر بين الناس عدم التسوك [ أي استخدام السواك ] بعد الظهر في حال الصيام ، وهذا كذلك خطأ والصحيح هو جواز التسوك في كل وقت ، وهذا الذي كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام .
__________
(1) رواه البخاري (1831) ، ومسلم (1155) .(1/367)
وننبه على أن السواك الذي فيه مادة أخرى كبعض النكهات التي تضاف إليه في هذه الأيام وغالباً ما يكون مغلفاً من بعض الشركات التي تضيف إليه هذه المواد ، نقول على المتسوك في حال الصيام أن يبصق هذه المواد بعد التسوك ولا يبلعها ، لأن هذه المواد تفطر الصائم . والله أعلم .
??????
كتاب الحدج
باب
وجوب الحج على الفور
قال الله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنيٌ عن العالمين } . (1)
وقال تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } . (2)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". (3)
المبرور: المقبول لأنه لم يخالطه شيء من الإثم ولم يقع فيه معصية.
وقد جاء من حديث جابر مرفوعاً:"إن بِرَّ الحج إطعام الطعام وطيب الكلام".
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة مبرورة، تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس ومغربها". (4)
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة". (5)
و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه" (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية (97).
(2) سورة البقرة الآية (125).
(3) أخرجه البخاري في الإيمان برقم (26) وفي كتاب الحج برقم (1447) ومسلم في كتاب الإيمان برقم (244).
(4) رواه ابن حبان وأحمد في مسنده عن ماعز، وصححه الألباني، صحيح الجامع رقم (1104)، وصحيح الترغيب رقم (1103).
(5) رواه النسائي، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (1100).
(6) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (152)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1350).(1/368)
ورواه الترمذي إلا أنه قال: "غفر له ما تقدم من ذنبه".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". (1)
الرفث : الجماع ، ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول وهو أسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة .
الحج المبرور من مكفرات الذنوب والخطايا .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه". (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (1449)، باب فضل الحج المبرور، ومسلم برقم (1350)، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة .
(2) أخرجه البخاري في كتاب المحصر برقم (1819) و (1820) ومسلم في كتاب الحج برقم (3278) .
(3) رواه الطبراني ، قال في المجمع (4/17): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(4) أخرجه البخاري في كتاب العمرة برقم(1773)،ومسلم في كتاب الحج برقم(3276).(1/369)
و عن ابن شماسة المهري، قال: "حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً وحوله وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إني قد كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أبسط يمينك فلأُبايعك فبسط يمينه قال: فقبضت يدي قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلُ في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت لأن لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل
الجنة ثم ولينا أ شياء ما أدري ما حالي فيها فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار فإذا دفنتموني فشنوا عليَّ التراب شناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جذور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ما ذا أراجع به رسل ربي". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازياً فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". (2)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (317).
(2) رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق وبقية رواته ثقات، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (1114).(1/370)
وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني جبان وإني ضعيف. قال: "هلم إلى جهاد لا شوكَةَ فيه الحج". (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ فقال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور". (2)
نرى: نعتقد، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" ولفظه: قالت: قلت يا رسول الله! هل على النساء من جهاد؟ قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة". (3)
وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "أن يسلم قلبك وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" قال: فأي الإسلام افضل قال: "الإيمان" قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" قال وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" قال: فأي الهجرة أفضل قال: "الجهاد" قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل قال: "من عقر جواد وأهريق دمه" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة مبرورة". (4)
وعن ماعز - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله وحده ثم حجة مبرورة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها". (5)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير و الأوسط ، وقد أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1098).
(2) أخرجه البخاري (3/381 فتح) .
(3) صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (1099).
(4) رواه الإمام أحمد، قال في المجمع (3/207): (رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح).
(5) رواه أحمد بإسناد جيد قال في المجمع (3/207): (رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1103).(1/371)
وعنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من يوم أكثر من ان يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء". (1)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم". (3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجةً أو حجة معي". (4)
ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحوا عنك بها سيئة وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك". (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم (2275).
(2) رواه الترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حبان، وصححه الألباني، المشكاة (2524، 2525) الصحيحة (1200)، صحيح الترغيب رقم (1105).
(3) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان.
(4) أخرجه البخاري (3/603 فتح) ، ومسلم (222)، (1256).
(5) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، صحيح الجامع (1373).(1/372)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء فقال: "من القوم"؟ قالوا: المسلمون قالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله" فرفعت امرأة صبيا فقال: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر". (1)
الروحاء: موضع من عمل الفرع بينها وبين المدينة ستة وثلاثين ميلاً.
للصبي أجر حج ولأمه مثل أجره لأنها سبب ذلك فالدال على الخير كفاعله.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم". (2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم". (3)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استمتعوا بهذا البيت فقد هُدم مرتين ويُرفع في الثالثة". (4)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما ترفعُ إبلُ الحاجِّ رِجْلاً، ولا تضعُ يَداً، إلا كَتَبَ الله له بها حسنةً أو محا عنه سيئةً، أو رفعه بها درجةً". (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج برقم (3240).
(2) رواه البزار، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب (1107).
(3) رواه ابن ماجة واللفظ له وابن حبان في صحيحه، كلاهما من رواية عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1108).
(4) رواه البزار والطبراني في الكبير وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1110).
(5) أخرجه البيهقي في الشعب (3/479)، وابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (1106).(1/373)
وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري الثقفي: "فإن لك من الأجر إذا أممت البيت العتيق أن لا ترفع قدماً أو تضعها أنت ودابتك إلا كُتِبتْ لك حسنة ورُفِعَتْ لك درجة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل يقول لملائكته: يا ملائكتي! ما جاء بعبادي؟ قالوا: جاؤا يلتمسون رضوانك والجنة. فيقول الله عز وجل: فإني أشهِدُ نفسي وخَلقي أني قد غفرت لهم ولو كانت ذنوبهم عدد أيام الدهر وعدد رمل عالج، وأما رميك الجمار قال الله عز وجل: "فلا تعلم نفس ما أُخفِيَ لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون".
وأما حلقُك رأسَك فإنه ليس من شعرك شعرةٌ تقع في الأرض إلا كانت لك نوراً يوم القيامة، وأما طوافك بالبيت إذا ودَّعتَ فإنك تخرُج من ذنوبك كيومَ ولدتك أمُّك". (1)
باب
مواقيت الحج
عن بن عباس رضي الله عنهما ، قال : "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم فهن لهن ولمن أتى عليهن أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذاك حتى أهل مكة يهلون منها". (2)
عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن قال بن عمر رضي الله عنهما وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،قال : ويهل أهل اليمن من يلملم". (3)
باب
النهي عن ترك الحج مع المقدرة عليه
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1113).
(2) رواه البخاري برقم (1454)،باب مهل أهل الشام، ومسلم برقم (1181)،باب مواقيت الحج والعمرة .
(3) رواه البخاري برقم (133) ، باب ذكر العلم والفتيا في المسجد، ومسلم برقم(1182) ، باب مواقيت الحج والعمرة .(1/374)
قال الله تبارك وتعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } . (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان". (2)
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : من ملك زاداً أو راحلة تبلغه حج بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. (3)
وجاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". (4)
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لقد هممت أن اكتب في الأمصار بضرب الجزية على من لم يحج ممن يستطيع إليه سبيلا.
وكان سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله عز وجل: إن عبداً صححت له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يَفُد إليَّ لمحروم". (5)
قال البيهقي: "قال علي بن المنذر: أخبرني بعض أصحابنا قال: كان حسن بن حيّ يعجبه هذا الحديث، وبه يأخذ، ويجب للرجل الموسر الصحيح أن لا يترك الحج خمس سنين".
باب
ثواب من اعتمر في رمضان
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة أو حجة معي". (6)
__________
(1) آل عمران (97).
(2) متفق عليه.
(3) رواه الترمذي والبيهقي.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب (1166).
(6) سبق تخريجه.(1/375)
وعن أم معقل رضي الله عنها: أنها قالت يا رسول الله إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزي عني من حجتي قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة". (1)
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" باختصار إلا أنه قال:
"إن الحج والعمرة في سبيل الله وإن عمرةً في رمضانَ تعدلُ حجةً أو تجزي حَجةً".
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: "ما منعك أن تحجي معنا؟" قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان فحجَّ أبو ولدها وابنُها على ناضحٍ وترك لنا ناضحاً ننضحُ عليه قال: "فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرةً في رمضان تعدلُ حجةً" وفي رواية له: "تعدل حجةً أو حجةً معي". (2)
باب
ثواب من خرج حاجاً أو معتمراً فمات
قال الله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً } . (3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ وقع عن راحلته فأقعصته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه بثوبه ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" وفي رواية: "إن رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اغسلوه بماء وسدر". (4)
وفي رواية لمسلم :
"فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغسلوه بماء وسدر وأن يكشفوا وجهه حسبته قال: ورأسه فإنه يبعث وهو يهل".
__________
(1) رواه أبو داود واللفظ له والترمذي وحسنه والنسائي وابن خزيمة، الإرواء (869، 1587)، صحيح الترغيب (2/16).
(2) رواه البخاري، ومسلم في صحيحه في كتاب الحج برقم (1256).
(3) سورة النساء الآية (100).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز برقم (1265، 1268) وفي كتاب جزاء الصيد برقم (1849)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج برقم (2883، 2884).(1/376)
(أقعصته) أي: رمت به فكسرت عنقه وهو معنى وقصته.
(وهو يهل) أي: يرفع صوته بالتلبية.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خرج حاجاً فمات كُتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كُتِبَ له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". (1)
باب
ثواب التواضع في الحج والتبذل ولبس الدون من الثياب اقتداء بالأنبياء عليهم السلام
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "حج النبي - صلى الله عليه وسلم - على رحلٍ رثّ وقطيفة خَلِقةٍ تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: "اللهم حجةً لا رياءَ فيها ولا سُمعةً". (2)
ورواه الأصبهاني إلا أنه قال: "لا تساوي أربعة دراهم".
وفي حديث ابن عمر: "وأما وقوفُك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤني شعثا من كل فج عميق يرجون جنتي فلو كانت ذنوبكم كعددِ الرملِ أو كقطرِ المطرِ أو كزبَدِ البحرِ لغفرتُها أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له" (3) الحديث.
وفي رواية ابن حبان قال:
"فإذا وقف بعرفة، فإنَّ الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي شُعُثا غُبراً، اشهدوا أني غفرتُ لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطرِ السماء، ورمل عالج" (4) . الحديث.
(الشَّعِثُ): بكسر العين: هو البعيدُ العهدِ بتسريحِ شعرهِ وغسله.
و (التفل) بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء: هو الذي ترك الطيب والتنظيف حتى تغيرت رائحته.
__________
(1) رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق وبقية رواته ثقات وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1114).
(2) رواه الترمذي في "الشمائل" وابن ماجة والأصبهاني، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (1122).
(3) حسنه الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب برقم (2/21).
(4) المصدر السابق نفسه.(1/377)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة السماء فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤني شُعثاً غبراً". (1)
وعن ثمامة قال: حج أنسٌ على رحلٍ ولم يكن شحيحاً، وحدَّثَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: حج على رحْلٍ وكانت زامِلَتَهُ. (2)
(وكانت زاملته): أي الراحلة التي ركبها، والزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد أنه لم تكن له معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه،بل كان ذلك محمولاً معه على راحلته، وكانت الراحلة والزاملة. (3)
باب
الأذكار في العشر الأول من ذي الحجة
قال الله تعالى: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } . (4)
قال ابن عباس والشافعي والجمهور: (هي أيام العشر).
قال ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف : استحباب الإكثار من الذكر فيها فقد دل عليه قول الله عز وجل : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } ، فإن الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء. أ.هـ. (5)
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيءٍ" (6) .
قال ابن بطال : هذا اللفظ يحتمل أمرين : أن لا يرجع بشيء من ماله وأن رجع هو ، وأن لا يرجع هو ولا ماله بأن يرزقه الله الشهادة . (7)
__________
(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
(2) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1517)، وثمامة هو ابن عبد الله بن أنس حفيد أنس - رضي الله عنه - .
(3) فتح الباري (3/381) .
(4) سورة الحج (28).
(5) لطائف المعارف (ص 280 – 283).
(6) رواه البخاري في كتاب العيدين برقم (969).
(7) فتح الباري (2/460) .(1/378)
وفي الترمذي: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من الأيام العشرة".
وفي رواية أبي داود مثل هذه إلا أنه قال: "من هذه الأيام" يعني العشرة.
وفي مسند الإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بإسناد الصحيحين قال فيه: "ما العمل في أيام أفضل من العمل في عشر ذي الحجة". (1)
قيل: ولا الجهاد؟ (وذكر تمامه) وفي رواية (عشر الأضحى).
قال ابن عباس: (وكان ابن عمر وابو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما).
وكان سعيد بن جبير وهو الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة.
باب
ثواب النفقة في الحج والعمرة
عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها في عمرتها: "إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك". (2)
(النصب) بالتحريك هو التعب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي ركباً بالروحاء فقال: "من القوم؟" قالوا: المسلمون فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر". (3)
قوله: ركباً: جمع راكب
الروحاء: مكان قرب المدينة.
الذي يكون سبباً في طاعة الله أو أعان عليها حصل له من الأجر كما لو باشرها وفعلها.
__________
(1) الإرواء (890) والطحاوية (734) والمشكاة (1456).
(2) رواه البخاري برقم (1695)، باب أجر العمرة على قدر النصب ، ومسلم برقم (1211)، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران وجواز إدخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه .
(3) رواه مسلم برقم (1336) ، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به .(1/379)
وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "إنما أجرُك في عمرتك على قدر نفقتك". (1)
باب
ثواب التلبية والمتابعة بين الحج والعمرة
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من ملبي يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله". (2)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ،أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكبر خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة وما من مؤمن يظل يومه محرماً إلا غابت الشمس بذنوبه". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أهل مُهِلٌ قط إلا بُشِّرَ، ولا كَبَّر مكبِرٌّ قط إلا بُشِّرَ" قيل: يا رسول الله! بالجنة؟ قال: "نعم". (4)
(أهَلَّ): الملبي إذا رفع صوته بالتلبية.
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ: أي الأعمال أفضل؟ قال: "العج والثج". (5)
"العج" بفتح العين المهملة وتشديد الجيم" هو رفع الصوت بالتلبية، وقيل بالتكبير. و "الثج" بالمثلثة: هو نحر البُدْن.
باب
ثواب الطواف بالبيت
__________
(1) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1116).
(2) رواه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ورواه ابن ماجة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1134).
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي وابن خزيمة في صحيحه، وقال الألباني رحمه الله: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1133).
(4) رواه الطبراني في الأوسط،وقال الألباني: حسن لغيره،صحيح الترغيب رقم(1137).
(5) رواه ابن ماجة والترمذي وابن خزيمة في صحيحه، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1138).(1/380)
واستلام الحجر الأسود والركن اليماني
عن عبد الله بن عبيد بن عمير أنه سمع أباه يقول لابن عمر: ما لي لا أراك تستَلِمُ إلا هذين الركنين: الحجر الأسود والركن اليماني؟ فقال ابن عمر: إن أفعل فقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن استلامهما يحط الخطايا".
قال: وسمعته يقول: "ومن طاف أسبوعاً يُحصيه وصلى ركعتين، كان كَعَدلِ رقبة".
قال: وسمعته يقول: "ما رفع رجل قدماً ولا وضعها إلا كتب له
عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات". (1)
ورواه الترمذي ولفظه: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا".
وسمعته يقول: "لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئةً، وكتبَ له بها حسنةً". (2)
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" ولفظه وقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مسحُهما يحطُّ الخطايا".
وسمعته يقول: "من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع قدماً إلا كتبَ الله له حسنةً وحط عنه خطيئةً، وكتبَ له درجةً".
وسمعته يقول: "من أحصى أسبوعاً كان كعتقِ رقبةٍ". (3)
قوله:"أسبوعاً يحصيه أو أحصى أسبوعاً" أي: يحصر عدده فيجعله سبعاً لا زيادة ولا نقص.
قال الألباني رحمه الله: وفيه إشارة إلى أن فضائل العبادات المقيدة بعدد مسمى لا بد فيها من التمسك بالعدد لا يزيد ولا ينقص فتنبه.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والحاكم وقال: (صحيح الإسناد) وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1139).
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.(1/381)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحَجَر: " والله ليَبعَثَنَّهُ الله يومَ القيامة له عينان يبصر بهما ولسانٌ ينطق به يشهد على من استلمهُ بحق". (1)
(بحق) قال الألباني رحمه الله تعالى: الباء للملابسة أي: متلبساً بها بحق وهو دين الإسلام واستلامه بحق هو طاعة الله واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا تعظيم الحجر نفسه، والشهادة عليه هي الشهادة على أدائه حق الله المتعلق به وليست (على) للضرر. أ.هـ. (2)
وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول: "الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب". (3)
وفي رواية للبيهقي قال: "إن الركن والمقام من ياقوت الجنة ولولا ما مسَّه من خطايا بني آدم لأضاء ما بين المشرق والمغرب وما مسَّهما من ذوي عاهةٍ ولا سقيم إلا شُفي". (4)
وفي أخرى له عنه أيضاً رفعه وقال: "لولا ما مسه من أنجاس الجاهلية ما مسَّه ذو عاهةٍ إلا شُفيَ وما على الأرض شيءٌ من الجنة غيرهُ". (5)
__________
(1) رواه الترمذي وقال: (حديث حسن) وابن خزيمة وابن خبان في صحيحهما، وصححه الألباني، صحيح الترغيب برقم (1144).
(2) صحيح الترغيب (2/28) .
(3) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، والحاكم ومن طريقه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1147).
(4) رواه البيهقي، وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحه برقم (3355) وصحيح الترغيب برقم (1147).
(5) المصدر السابق نفسه.(1/382)
وعن عابس بن ربيعة قال: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقبل الحجر (يعني الأسود) ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك". (1)
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباعٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. أ.هـ. (2)
قال النووي : هذا الحديث فيه فوائد منها: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه وكذا يستحب السجود على الحجر أيضا بأن يضع جبهته عليه فيستحب أن يستلمه ثم يقبله ثم يضع جبهته عليه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وحكاه أبن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد قال وبه أقول، قال: وقد روينا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وانفرد مالك عن العلماء فقال السجود عليه بدعة، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء، وأما الركن اليماني فيستلمه ولا يقبله بل يقبل اليد بعد استلامه هذا مذهبنا وبه قال جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة، وقال أبو حنيفة لا يستلمه، وقال مالك وأحمد يستلمه ولا يقبل اليد بعده، وعن مالك رواية أنه يقبله، وعن أحمد رواية أنه يقبله والله أعلم . (3)
باب
ثواب من وقف بعرفة حاجاً
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1597)، باب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَد، ومسلم في كتاب الحج برقم (1270)، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف .
(2) )) فتح الباري (3/463) .
(3) شرح النووي (9/28).(1/383)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". (1)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فيستحب الإكثار من هذا الذكر والدعاء ويجتهد في ذلك فهذا اليوم أفضل أيام السنة للدعاء وهو معظم الحج ومقصوده والمعول عليه فينبغي أن يستفرغ الإنسان وسعه في الذكر والدعاء وفي قراءة القرآن وأن يدعوا بأنواع الأدعية ويأتي بأنواع الأذكار ويدعوا لنفسه ويذكر في كل مكان ويدعوا منفرداً ومع جماعة ويدعوا لنفسه ووالديه وأقاربه ومشايخه وأصحابه وأصدقائه وأحبابه وسائر من أحسن إليه وجميع المسلمين وليحذر كل الحذر من التقصير في ذلك كله فإن اليوم لا يمكن تداركه بخلاف غيره ولا يتكلف السجع في الدعاء فإنه يشغل القلب ويذهب الانكسار والخضوع والافتقار والمسكنة والذلة والخشوع.أ.هـ.
وقال رحمه الله: والسنة أن يخفض صوته بالدعاء ويكثر من الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الاعتقاد بالقلب ويلح في الدعاء، ويكرره ولا يستبطئ الإجابة ويفتح دعاءه ويختمه بالحمد لله تعالى والثناء عليه سبحانه وتعالى والصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليختمه بذلك وليحرص على أن يكون مستقبل الكعبة وعلى طهارة. أ.هـ. (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً". (3)
__________
(1) صحيح الترمذي برقم (2837)، وصحيح الجامع برقم (3269).
(2) كتاب الأذكار (269-270) .
(3) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1152).(1/384)
وعن عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا يتجلى ثم يباهي لهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء". (1)
وزاد زين في "جامعه" فيه: "أشهدوا ملائكتي أني قد غفرت لهم". (2)
باب
ثواب حلق الراس
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا: يا رسول الله وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين" قالوا: يا رسول الله وللمقصرين قال: "اللهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله وللمقصرين قال: "وللمقصرين". (3)
وعن أم الحصين رضي الله عنهما أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة واحدة". (4)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري: "وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة وتمحي عنك بها خطيئة". (5)
وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : "وأما حلقك رأسك فإنه ليس من شعرك شعرةُ تقع في الأرض إلا كانت لك نوراً يوم القيامة". (6)
باب
ثواب الشرب من ماء زمزم وما جاء في فضله
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج برقم (3275) ورواه النسائي في كتاب مناسك الحج برقم (3003).
(2) قال الألباني رحمه الله: صحيح لغيره، صحيح الترغيب (2/34).
(3) رواه البخاري في كتاب الحج برقم (1728)، ومسلم في الحج برقم (1202).
(4) رواه مسلم في كتاب الحج برقم (1302).
(5) رواه الطبراني في الكبير، والبزار واللفظ له وقال: وقد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، صحيح الترغيب رقم (1112).
(6) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1113).(1/385)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام الطعم، وشفاء سقيم، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي (برهوت) بقية بـ (حضرموت) كرجل الجراد تصبح تندفق وتمسي لا بلال فيها". (1)
(طعام الطعم) أي: يشبع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام. قاله ابن الأثير
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "زمزم طعام طعم وشفاء سقم". (2)
وعن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ماء زمزم لما شرب له ... ". (3)
باب
ثواب وفضل يوم النحر
قال الله تعالى: { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى من القلوب } . (4)
قال مجاهد في قوله: (ومن يعظم شعائر الله، قال: يريد استعظام البدن واستسمانها وذهب ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وكثير من أهل العلم على أن يوم النحر هو أفضل أيام السنة والله أعلم.
باب
فضل سكنى المدينة
عن سعد - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة". (5)
وفي رواية لمسلم: " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوءٍ إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء".
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1161).
(2) رواه البزار بإسناد صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1162).
(3) رواه أحمد وابن ماجة وإسناده حسن، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1165).
(4) سورة الحج الآية (32).
(5) رواه مسلم برقم (1377) ومالك في الموطأ (2/885) وأحمد في المسند (2/113 و 119 و 133).(1/386)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً". (1)
اللأواء: مهموز ممدود هي شدة الضيق.
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم اجعل المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة". (2)
وعن سفيان بن أبي زهير - رضي الله عنه - ، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تفتح اليمن فيأتي يوم يبُسُون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". (3)
(يبسون) بفتح الياء المثناة من تحت وبعدها باء موحدة تضم وتكسر من (بَسْ أو بِسً) وهي كلمة زجر للدواب عند سوقها لتسرع، وقد ذكر لها العلماء عدة معان.
قال الإمام النووي رحمه الله: "والصواب الذي عليه المحققون أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله باساً في سيره مسرعاً إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتحها". أ.هـ. (4)
__________
(1) رواه مسلم برقم (1378)، وأحمد في المسند (2/397)، وأبو يعلى (11/372 رقم 6487)، وابو عوانة (3/ق8/أ)، وابن حبان ، والبغوي في شرح السنة (7/324).
(2) رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة برقم (1885)، ومسلم في كتاب الحج برقم (1369).
(3) رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة برقم (1875) ومسلم في كتاب الحج برقم (1388).
(4) شرح النووي (9/158-159) .(1/387)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي على الناس زمان يدعوا الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبةً عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد". (1)
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي - رضي الله عنه - قال: أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر حمزة فجعلوا يجرون النمرة على وجهه فتنكشف قدماه ويجرونها على قدميه فينكشف وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اجعلوها على وجهه واجعلوا على قدميه من هذا الشجر" قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه فإذا أصحابه يبكون فقال: "ما يبكيكم"؟ قيل: يا رسول الله لا نجد لعمك اليوم ثوباً واحداً يسعه. فقال: "إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف فيصيبون فيها مطعماً وملبساً ومركباً أو قال مراكب فيكتبون إلى أهليهم هلم إلينا فإنكم بأرض جردية والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة". (2)
__________
(1) رواه مسلم واللفظ له برقم (1381)، ويعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/349) وابن أبي خيثمة تاريخ ابن أبي خيثمة (ق59/1) وابن حبان، والطبراني في الأوسط (3/376 و 377 رقم 2804 و 2805)، وأبو الحسن الخِلعي الفوائد المنتقاة (الخِلَعيات) (18/ق44/أ) كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
(2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/15)، والبخاري في تاريخه الكبير (8/335)، والهيثم بن كليب الشاشي مسند الشاشي (ق202/أ)، والطبراني في المعجم الكبير (3/158) رقم (2939 و 19/265 رقم 587).
كلهم من طريق عبد الله بن مسلمة القنعني قال: أخبرنا محمد بن صالح التمار عن يزيد بن زيد عن أبي أسيد الساعدي به، وقال الألباني رحمه الله: حسن لغيره، الترغيب برقم == == (1191)، قال المنذري: رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن ، الترغيب والترهيب (2/222)، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/301)، وقال في موضع آخر: رجاله ثقات.(1/388)
(النمرة): كساء مخطط كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض، ذكره ابن الأثير في النهاية (5/118).
جردية: قيل: هي منسوبة إلى الجرد بالتحريك وهي كل أرض لا نبات بها. ذكره ابن الأثر في النهاية (1/257).
وعن أبي سعيد مولى المهري أنه جاء أبا سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشارة في الجلاء من المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها فقال له: ويحك! لا آمرك بذلك إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً". (1)
وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: رجع ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أُحد وكان الناس فيهم فرقتين فريق يقول اقتلهم وفريق يقول: لا، فنزلت { فمالكم في المنافقين فئتين } (2) ،
وقال يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث
الفضة". (3)
ذكر ابن هشام:الذين رجعوا هم المنافقون يتزعمهم عبد الله بن ابي ابن سلول وكان رجوعهم من مكان يسمى الشوط بالقرب من جبل أحد . (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أُمِرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد". (5)
(أُمِرت) أي: أمرت بالهجرة إليها، قاله الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه (ص 105)
__________
(1) رواه مسلم برقم (1372)، وغيره.
(2) سورة النساء الآية (88) .
(3) رواه البخاري (8/256 رقم 4589) و 4/96 رقم 1884 و 7/356 رقم 4050)، ومسلم برقم (1384).
(4) سيرة ابن هشام (3/65).
(5) رواه البخاري (4/87 رقم 1871) ومسلم برقم (1382).(1/389)
(تأكل القرى) أي ينصر الله الإسلام بأهل المدينة ويفتح على أيديهم القرى فتجلب الغنائم إلى المدينة ويأكلها أهلها وأصناف الأكل إلى القرية والمراد أهلها (1)
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله تعالى سمى المدينة طابة". (2)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل فإني اشفع لمن مات بها". (3)
وعن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لا يموت بها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة". (4)
باب
النهي عن إخافة أهل المدينة أو إرادتهم بسوء
__________
(1) انظر غريب الحديث للخطابي (1/434) وشرح السنة للبغوي (7/320) وجامع الأصول (9/320) وفتح الباري (4/87).
(2) رواه مسلم برقم (1385).
(3) رواه أحمد في المسند (2/74) والترمذي في جامعه (5/719 رقم 3917) وابن ماجة في السنن (312) وابن حبان الإحسان (6/21 رقم 3733) والبيهقي في الشعب (8/116 رقم 3887) وأبو البغوي في شرح السنة (7/324 برقم 2020) من طريق هشام الدستوائي، صححه الألباني في صحيح الترغيب (1193)
(4) رواه أبو بكر بن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (ق361/أ) وأبو محمد عبد الله بن محمد الفاكهي (ق 47/أ) والطبراني في المعجم الكبير (24/294) رقم (747) وأبو يعلى الموصلي ذكره ابن حجر في المطالب العالية (90/أ) والأصبهاني في معرفة الصحابة (2/ق352/أ) وذكر أخبار أصبهان (2/103) والبيهقي في الشعب (8/114 رقم 3886)، والذهبي في المعجم الكبير (معجم شيوخ الذهبي (2/308) وعزاه ابن حجر في الإصابة (7/692) لابن مندة في معرفة الصحابة ويحيى الحماني في مسنده وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب (1196).(1/390)
عن سعد - رضي الله عنه - : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يكيدُ أهل المدينة أحد، إلا انماع كما ينماعُ الملحُ في الماء". (1)
قوله: "لا يكيد أهل المدينة أحد" أي : من يريد بهم سوءاً .
وقوله: "إلا انماع كما ينماع الملح في الماء"، قال الألباني: وجه هذا التشبيه أنه شبه أهل المدينة مع وفور علمهم وصفاء قرائحهم بالماء، وشبه من يريد الكيد بهم بالملح، لأن نكاية كيدهم لما كانت راجعة إليهم شبهوا بالملح الذي يريد إفساد الماء فيذوب هو بنفسه. والمعنى: ما أحد يكيد أهل المدينة، ويريد بهم الأذى والسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، ولا يستحق هذا ذاك العذاب إلا لارتكابه إثما عظيما. والله أعلم.أ.هـ.صحيح الترغيب(2/62)
وفي رواية لمسلم: "ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء، إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاصِ، أو ذوب الملح في الماء".
وعن السائب بن خلاد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم، فأخِفْه، وعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عملاً". (2)
(الصرف): هو الفريضة و (العدل) التطوع، قاله سفيان الثوري.
وقيل: هو النافلة و (العدل): الفريضة.
وقيل: (الصرف) هو التوبة، و (العدل): الفدية، فاله مكحول.
وقيل: (الصرف): الوزن، و (العدل): الكيل. وقيل غير ذلك.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة برقم (1877)، وعند مسلم بمعناها (4/122) في كتاب الحج.
(2) رواه النسائي والطراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1215).(1/391)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن أميرا من أمراء الفتنة، وكان قد ذهب نظرُ جابر، فقيل لجابر: لو تنحيت عنه، فخرج يمشي بين ابنيه، فانكبَّ، فقال: تعِسَ من أخاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ابناه أو أحدهما: يا أبتاه! وكيف "أخافَ رسول الله" وقد مات؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أخاف أهل المدينة، فقد أخاف ما بين جنتي". (1)
ورواه ابن حبان، مختصراً في "صحيحه" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أخاف أهل المدينة، أخاف الله".
وزاد في حديث آخر: "من أخاف أهلَ المدينة ظالماً لهم، أخافه الله". (2)
وعن أنس أيضا - رضي الله عنه - قال: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: "يا ابا عمير! ما فعل النغير". (3)
النغير: طائر صغير .
قال الأَزهري: النُّغَرُ طائر يُشبه العُصْفُورَ وتصغيره نُغَيْرٌ، ويجمع نِغْراناً مثل صُرَدٍ وصِرْدانٍ. (4)
قال النووي :واستدل بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة ولا دلالة فيه لذلك لأنه ليس في الحديث صراحة ولا كناية أنه من حرم المدينة، وقد سبق الأحاديث الصحيحة الكثيرة في كتاب الحج المصرحة بتحريم صيد حرم المدينة فلا يجوز تركها بمثل هذا ولا معارضتها به والله أعلم. (5)
??????
كتاب الجهاد
لقد شرع الله تعالى الجهاد عزاً للأمة ورفعة لها، وقد بعث الله سبحانه وتعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغزو والابتلاء والفتوحات .
__________
(1) رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1213).
(2) السلسلة الصحيحة برقم (2671).
(3) رواه مسلم في كتاب الأدب بدون كلمة (يا) برقم (2150)، باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير، وأبو داود برقم (4965) ، باب في الرجل يتكنى وليس له ولد، والترمذي برقم (1994) .
(4) لسان العرب .
(5) شرح النووي على صحيح الإمام مسلم .(1/392)
فعن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته : "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومى هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال ، قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك".
وذكر البخل أو الكذب والشنظير الفحاش ولم يذكر أبو غسان في حديثه وأنفق فسننفق عليك . (1)
__________
(1) رواه مسلم برقم (2865)، باب التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار.(1/393)
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ان ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى يومى هذا كل مال نحلته عبدا حلال": معنى نحلته أعطيته وفى الكلام حذف أى قال الله تعالى كل مال أعطيته عبدا من عبادى فهو له حلال والمراد انكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامى وغير ذلك وأنها لم تصرحوا حراما بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق قوله تعالى وانى خلقت عبادى حنفاء كلهم أى مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصى وقيل مستقيمين منيبين لقبول الهداية، وقيل: المراد حين أخذ عليهم العهد فى الذر، وقال: ألست بربكم قالوا بلى قوله تعالى وانهم أتنهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم: أى استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم فى الباطل هذا فسره الهروى وآخرون .(1/394)
قوله - صلى الله عليه وسلم - وان الله تعالى نظر الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الابقايا من أهل الكتاب المقت أشد البغض والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق تبديل، قوله سبحانه وتعالى انما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك معناه لأمتنحك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد فى الله حق جهاده والصبر فى الله تعالى وغير ذلك وأبتلى بك من أرسلتك اليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص فى طاعاته ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر ومن ينافق والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعا بارزا فان الله تعالى انما يعاقب العباد على ما وقع منهم لاعلى ما يعلمه قبل وقوعه والا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها وهذا نحو قوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين أى نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به، قوله تعالى وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان، أما قوله تعالى لايغسله الماء فمعناه محفوظ فى الصدور لايتطرق اليه الذهاب بل يبقى على ممر الأزمان وأما قوله تعالى تقرأه نائما ويقظان فقال العلماء معناه يكون محفوظا لك فى حالتى النوم واليقظة وقيل تقرأه فى يسر وسهولة.(1/395)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فقلت رب اذا يثلغوا رأسى فيدعوه خبزة": هى بالثاء المثلثة أى يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أى يكسر، قوله تعالى: "واغزهم نغزك" بضم النون أى نعينك، قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم وعفيف متعفف" فقوله ومسلم مجرور معطوف على ذى قربى وقوله مقسط أى عادل .قوله - صلى الله عليه وسلم - : "الضعيف الذى لازبر له الذين تبعا لايبتغون أهلا ولا مالا" : فقوله زبر بفتح الزاى واسكان الموحدة أى لاعقل له يزبره ويمنعه مما لاينبغى وقيل هو الذى لامال له وقيل الذى ليس عنده ما يعتمده وقوله لايتبعون بالعين المهملة مخفف مشدد من الاتباع وفى بعض النسخ يبتغون بالموحدة والغين المعجمة أى لايطلبون . قوله - صلى الله عليه وسلم - : "والخائن الذى لايخفى له طمع وإن دق الاخانة": معنى لا يخفى لايظهر، قال أهل اللغة يقال خفيت الشىء اذا أظهرته وأخفيته اذا سترته وكتمته هذا هو المشهور .
وأما الشنظير: فبكسر الشين والظاء المعجمتين واسكان النون بينهما وفسره فى الحديث بأنه الفحاش وهو السىء الخلق. قوله: فيكون ذلك ياأبا عبدالله ، قال: نعم والله لقد أدركتهم فى الجاهلية الى آخره: أبو عبد الله هو مطرف بن عبدالله والقائل له قتادة وقوله لقد أدركتهم فى الجاهلية لعله يريد أواخر أمرهم وآثار الجاهلية والافمطرف صغير عن ادراك زمن الجاهلية حقيقة وهو يعقل . (1)
باب
ثواب الجهاد في سبيل الله تعالى
__________
(1) شرح النووي (17/198-200) .(1/396)
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبةً في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها ونصرٌ من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } . (1)
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . (2) قال ابن قيم الجوزي: وأما قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (سورة التوبة: الآية 111) فكان تقديم الأنفس هو الأولى لأنها هي المشتراة في الحقيقة وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنته، فكانت هي المقصود بعقد الشراء والأموال تبع لها، فإذا ملكها مشتريها ملك مالها، فإن العبد ومايملكه لسيده ليس له فيه شيء، فالمالك الحق إذا ملك النفس ملك أموالها ومتعلقاتها، فحسن تقديم النفس على المال في هذه الآية حسناً لا مزيد عليه. (3)
وقال تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } . (4)
__________
(1) سورة الصف الآية (10-13)
(2) سورة التوبة الآية (111) .
(3) بدائع الفوائد .
(4) سورة آل عمران الآية (169-171).(1/397)
وقال تعالى: { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . (1)
وقال تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } الآية كلها إلى قوله { غفوراً رحيماً } . (2)
وقال تعالى: { إن الله يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } الآية إلى قوله { وذلك هو الفوز العظيم } . (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". (4)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". (5)
أصل الجهاد في اللغة : الجهد وهو المشقة، وفي الشرع : بذل الجهد في قتال الكفار، قال الألباني رحمه الله: قلت: هو أعم من قتالهم بالأسلحة الحربية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (6) . أ.هـ. (7)
__________
(1) سورة النساء الآية (74).
(2) سورة النساء الآية (95).
(3) سورة التوبة الآية (111).
(4) أخرجه البخاري في الإيمان برقم (26)، وفي كتاب الحج برقم (1447)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (244).
(5) اخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة برقم (504)، وفي كتاب الجهاد برقم (2630)، وفي كتاب الأدب برقم (5625)، وفي كتاب التوحيد (7096)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم (248 و 249).
(6) صحيح أبي داود رقم (1261)، المشكاة رقم (3821).
(7) )) صحيح الترغيب (2/64) .(1/398)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مر رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعبٍ في عيينة من ماء عذبة فأعجبته فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقةٍ وجبت له الجنة". (1)
الفواق : ما بين الحلبتين.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر" ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كيف قلت؟" قال: أرأيت أن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك". (2)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رجل أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: "في الجنة" فألقى ثمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل". (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (1650)، المشكاة رقم (3830).
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4857)، والترمذي في كتاب الجهاد برقم (1712) والنسائي في كتاب الجهاد برقم (3156و 3157).
(3) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم(4046)،ومسلم في كتاب الإمارة برقم(4890).(1/399)
وعن فضالة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا زعيم، والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة، فمن فعل ذلك لم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت". (1)
وعنه قال قيل: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعونه" فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه" ثم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى". (2)
وفي رواية البخاري أن رجلاً قال: يا رسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: "لا أجده"، ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟"، فقال: ومن يستطيع ذلك. (3)
القائم: المجتهد.
القانت: المطيع.
لا يفتر: لا يغفل ولا يضعف.
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض". (4)
وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره والقائم ليله حتى يرجع متى يرجع". (5)
__________
(1) رواه النسائي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1300).
(2) رواه البخاري (6/4 فتح) ، ومسلم في الإمارة برقم (4846)
(3) رواه البخاري برقم (2633)، باب فضل الجهاد والسير .
(4) أخرجه البخاري (6/16 فتح).
(5) رواه أحمد ورجال إسناده رجال الصحيح، قال في المجمع (5/275): (رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)، صحيح الجامع (5850 و 5851) المشكاة رقم (3788).(1/400)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رضي بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً وجبت له الجنة" فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله فأعادها عليه ثم قال: "وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". (1)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله". (2)
وغاب أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهد في قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني: أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحدقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع! قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } (3) . (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4856)، والنسائي في كتاب الجهاد برقم(3131).
(2) أخرجه البخاري في كتاب العتق برقم (518)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (84).
(3) سورة الأحزاب الآية (23).
(4) أخرجه البخاري في كتاب المغازي برقم (4048)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4895).(1/401)
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف". فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أنتَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ قال: نعم. فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام. ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فَضَربَ به حتى قتل". (1)
بحضرة العدو: أي بقربه وقوله: "جفن سيفه": أي قرابه (غِمده).
وقوله: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" قال العلماء: معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب لدخولها. أ.هـ. (2)
وعن البراء - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله! أقاتل أو أسلم؟ قال: "أسلم ثم قاتل". فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيراً". (3)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل من بني النبيت قبيل من الأنصار فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبدُهُ ورسوله. ثم تقدم فقاتل حتى قتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "عَمِلَ هذا يسير وأُجِرَ كثيراً". (4)
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمعت أبي - رضي الله عنه - وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا: قال: نعم فرجع إلى أصحابه فقال: "أقرأ عليكم السلام" ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل". (5)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1902).
(2) )) شرح النووي (13/46) .
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2808)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم(1900).
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1900).
(5) أخرجه مسلم برقم (1902).(1/402)
رث الهيئة: خلق الثياب.
جفن سيفه: غمده.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه" فدنا المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قوموا إلى الجنة عرضها السماوات والأرض" قال: يقول عمر بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال "نعم" قال: بخٍ بخٍ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟" قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: "فإنك من أهلها" فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. (1)
القرن: بفتح القاف والراء: وهو جعبة النشاب.
بخٍ بخ: كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير
فصل
الجهاد والهجرة
قال الله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً } . (2)
وقال تعالى: { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم } . (3)
وقال تعالى: { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون } . (4)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: فصل لا يتم الجهاد إلا بالهجرة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم(4892)،وأبو داود في الجهاد برقم(2618)
(2) سورة النساء الآية (100).
(3) سورة الحج الآية (58-59).
(4) سورة التوبة الآية (20).(1/403)
ولا يتمّ الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة. قال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولائك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيم } .
وكما أن الإيمان فرضٌ على كل أحد، ففرضٌ عليه هجرتان في كل وقت.
هجرةٌ إلى الله عز وجل بالتوحيد، والإخلاص، والإنابة، والتوكّل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة، وهجرةٌ إلى رسوله بالمتابعة، والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره قال : «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عينٍ لا ينوب فيه أحدٌ عن أحد.
وأما جهاد الكفار والمنافقين، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد.اهـ. (1)
باب
ثواب سؤال الشهادة في سبيل الله تعالى
عن سهل بن حُنَيف - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سأل الله تعالى الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغه الله مَنَازِلَ الشُّهداء، وإن مات على فِراشه". (2)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ طَلَبَ الشهادَةَ صادقاً أُعطِيها ولَوْ لم تُصِبْه". (3)
باب
ثواب الحراسة في سبيل الله تعالى
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله". (4)
__________
(1) زاد المعاد (1/816) .
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1909).
(3) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1908).
(4) أخرجه الترمذي (1639)،صحيح الترغيب رقم (1229)،المشكاة رقم(3829).(1/404)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عينان لا تمسهما النار أبداً: عين باتت تكلأُ في سبيل الله وعينٌ بكت من خشية الله". (1)
(تكلأ) مهموزاً أي: تحفظ وتحرس.
وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفَّتْ عن محارم الله". (2)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوفٍ لعله أن لا يرجع إلى أهله". (3)
باب
ثواب الرباط في سبيل الله تعالى
عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها" (4) .
(الغدوة) هي المرة الواحدة من الذهاب والروحة من المجيء.
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وآمن الفتان". (5)
(الفتان) بضم الفاء جمع (فاتن): وهما منكر ونكير اللذان يفتنان المقبور.
__________
(1) رواه أبو يعلى ورواته ثقات والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: عينان لا تريان النار، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1230).
(2) رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1231).
(3) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط البخاري"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1232).
(4) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2892)،ومسلم في الإمارة برقم(1881).
(5) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4915)،والنسائي في الجهاد برقم (3168).(1/405)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رباط شهر خير من صيام دهر ومن مات مرابطاً في سبيل الله آمن من الفزع الأكبر وغذي عليه برزقه وريح من الجنة ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "موقف ساعة في سبيل الله خير من مقام ليلة القدر عند الحجر الأسود". (2)
(الرباط) بكسر الراء وبالباء الموحدة الخفيفة: ملازمة المكان الذي بين الكفار والمسلمين لحراسة المسلمين منهم.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: قلت: وليس من ذلك ملازمة الصوفية للربط، وانقطاعهم فيها للتعبد وتركهم الاكتساب اكتفاء منهم زعموا بكفالة مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، كيف وهو القائل: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } (3) ولذلك قال عمر - رضي الله عنه - : "لا يقعدن أحدكم في المسجد يقول: الله يرزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". أ.هـ. (4)
وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه يُنمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر". (5)
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3473)، وصحيح الترغيب رقم (1219) .
(2) رواه ابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1223)، والسلسلة الصحيحة برقم (1068).
(3) سورة الجمعة الآية (10) .
(4) ) ) صحيح الترغيب (2/64) .
(5) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم" وابن حبان في صحيحه، وزاد في آخره قال: و سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل، صحيح الترغيب برقم (1218).(1/406)
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه يُنمي له عمله ويُجري عليه رزقه إلى يوم القيامة". (1)
وعن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تُترك ومن سنَّ سنة سيئة فعليه إثمها
حتى تُترك، ومن مات مرابطاً في سبيل الله، جرى عليه عمل المرابط في سبيل الله حتى يبعث يوم القيامة". (2)
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". (3)
ورواه الحاكم وزاد: "فلينظر كل امرئ لنفسه" وقال: صحيح على شرط البخاري.
ورواه ابن ماجة إلا أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلةٍ صيامها وقيامها".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنِه يبتغي القتل أو الموت مظانَّهُ، ورجل في غنيمة في رأس شعفةٍ من هذه الشعف، أو بطنِ وادٍ من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خيرٍ". (4)
متن الفرس: ظهره.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1220).
(2) رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1222).
(3) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن غريب، ورواه ابن حبان في صحيحه وقال الألباني في صحيح الترغيب: حسن لغيره رقم (1224).
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1889).(1/407)
الهيعة: كل ما أفزع من جانب العدو، من صوت أو خبر، والفزعة بإسكان الزاي: النهوض إلى العدو، يبتغي الموت مظانه: يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة . (1)
الغنيمة: الغنم أي قطعة منها، والشعفة: هي رأس الجبل.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة -زاد في رواية- وعبد القطيفة إن أُعطي رضيَ، وإن لم يُعطَ سَخِطَ، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شَفَعَ لم يُشفَّع". (2)
(الخميصة): هو ثوب معلم من خز أو صوف.
(والقطيفة): كساء له خمل يجعل دثاراً.
(انتكس): أي انقلب على رأسه خيبةً وخساراً.
(وشيك): أي دخلت في جسده شوكة.
(وانتقش): نزعها بالمنقاش.
(طوبى): قيل اسم شجرة فيها. وقيل فُعلى من الطيب.
باب
ثواب من جهز غازيا أو خلفه في أهله
عن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا". (3)
خلف غازياً: قام بالإنفاق علىعياله وما يحتاجون إليه في غيابه.
أن من أعان مسلماً على الجهاد بأن يهيأ له ما يحتاجه في سفره أو قام بشؤون عياله حال غيابه كان له مثل أجره وجهاده.
__________
(1) شرح النووي (13/35) .
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2887).
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2843)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4879).(1/408)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى بني لحيان ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال للقاعد: "أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره". (1)
وفي رواية أخرى عنه - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى بني لحيان ليخرج من كل رجلين رجل ،ثم قال : " للقاعد أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره". (2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4884).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4863)، باب الناس تبع لقريش، وأحمد برقم (10880)، وأبو داود برقم (2511)، باب ما يجزئ من الغزو..قال ابن حجر: ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه أو قام بكفاية من يخلفه بعده كان له الأجر مرتين، وقال القرطبي: لفظة ”نصف” يشبه أن تكون مقحمة، أي مزيدة من بعض الرواة، وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل، قال القرطبي: ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين: أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله ثم التضعيف أو بغير تضعيف، وحديث الباب إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا، ثانيهما ما تقدم من احتمال كون لفظة ”نصف” زائدة، قلت: ولا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح؛ والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين، وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كانت له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند، وكأن مستند القائل أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه، لكن من يجهز الغازي بماله مثلا وكذا من يخلفه فيمن يترك بعده يباشر شيئا من المشقة أيضا، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلا والله أعلم . اهـ. فتح الباري .(1/409)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل فقال: "لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما". (1)
يذهب بعض رجال القبيلة أو البلدة ويكون لمن بقي نهم مثل أجر من خرج إذا خلفوهم في أهليهم بخير وأنفقوا عليهم.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الصدقات ظل فسطاطٍ في سبيل الله ومنيحةُ خادم في سبيل أو طروقةُ فحلٍ في سبيل الله". (2)
الفسطاط: بيت من الشعر.
الطروقة: الناقة التي بلغت أن يطرقها الفحل.
وعن أبي يحيى خريم بن فاتك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أنفق
نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف". (3)
وفي رواية " ليخرج من كل رجلين رجل" ثم قال للقاعد: "أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير له مثل نصف أجر الخارج". (4)
باب
ثواب رباط الخيل في سبيل الله والنفقة عليها
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4884).
(2) أخرجه الترمذي (1627)، والطبراني (7916) من طريق يزيد بن هارون، صحيح الجامع رقم (1109).
(3) رواه أحمد (4/345)، والترمذي برقم (1625) وقال: حديث حسن، ورواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1236)، والمشكاة برقم (3826).
(4) أخرجه مسلم برقم (1896).(1/410)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر وهي لرجل ستر وهي لرجل أجر فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياءً وفخراً ونِواءٍ على أهل الإسلام فهي له وزر وأما التي هي له ستر فرجل رَبَطها في سبيل الله ثم لم ينسى حق الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرجٍ أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيءٍ إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا تقطع طولها فاستنت شرفاً أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات". (1)
(مرج): أرض ذات نبات ومرعى.
(طولها): حبل طويل يشد طرفه في نحو وتد وطرفه الآخر في يد الفرس أو رجلها لتدور فيه وترعى من جوانبها وتذهب لوجهها.
(استنت): عدت في مرجها لتوفر نشاطها.و (الشرف): الشوط.
و (النواء): بكسر النون ممدوداً هو المعاداة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات". (2)
احتبس: اتخذه استعداداً وإعداداً لما عسى أن يحدث في ثغر الإسلام.
شبِعةُ: ما يشبعه به.
وعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بناقةٍ مخطومةٍ فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقةٍ كلها مخطومة". (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1402)،ومسلم في كتاب الزكاة برقم(987).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2853).
(3) أخرجه مسلم برقم (1892).(1/411)
ناقة مخطومة: مجعولة في رأسها الخطام وهو الزمام الذي تشد به الناقة.
وعن عروة بن أبي الجعد - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير والأجر والمغنم إلى يوم القيامة". (1)
وعن رجل من الأنصار - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيل ثلاث فرس يرتبطه الرجل في سبيل الله عز وجل فثمنه أجر وركوبه أجر وعاريته أجر وفرس يغالق عليه ويراهن فثمنه وزر وركوبه وزر وفرس للبطنة فعسى أن يكون سداداً من الفقر إن شاء الله تعالى". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة ومثل المنفق عليها كالمتكفف بالصدقة". (3)
ورواه ابن حبان باختصار وزاد: "فقلت لمعمر ما المتكفف بالصدقة؟ قال: الذي يعطي بكفه.
وعن أبي كبشة - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيل معقود في نواصيها والخير وأهلها معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2850) و (2852)، وفي كتاب فرض الخمس برقم (3119)، وفي كتاب المناقب برقم (3643)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4824 – 4830).
(2) رواه أحمد، قال الهيثمي في المجمع (5/260): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب برقم (1343)، والإرواء (1508)، غاية المرام (392) .
(3) رواه الطبراني وأبو يعلى وابن حبان، صحيح الجامع (3349).
(4) رواه الطبراني ، وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (5/259) : (رواه الطبراني ورجاله ثقات)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (3355)، وصحيح الترغيب برقم (1245) .(1/412)
وعن سهل بن الحنظلية وهو سهل بن الربيع بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها". (1)
وعن جرير - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوي ناصيَّة فرس بإصبعه وهو يقول: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة". (2)
وروى البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "البركة في نواصي الخيل".
باب
ثواب الغدوة في سبيل الله تعالى والروحة
قال الله تعالى: { ولا ينفقون نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } . (3)
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها". (4)
الروحة: هي المرة الواحدة من المجيء والغدوة هي: المرة الواحدة من الذهاب.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيده يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينها ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". (5)
(النصيف): بفتح النون هو الخمار.
__________
(1) رواه ابو داود، وقال الألباني صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1246).
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1872).
(3) سورة التوبة الآية (121)
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2892)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1881) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد برقم (9792)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4850).(1/413)
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأُجري عليه رزقه وأمن الفتان". (1)
الرباط: كل أهل ثغر يدفع عمن خلفه.
الفتان: هو ما يفتن به الإنسان في القبر من سؤال الملكين والعذاب نعوذ بالله منه.
وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهد في سبيله وتصديق بكلماته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة" الحديث. (3)
باب
ثواب الشهيد في سبيل الله
قال الله تعالى: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } . (4)
وقال تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم إلا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } . (5)
وقال تعالى: { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم } . (6)
__________
(1) رواه مسلم برقم (1913).
(2) أخرجه ابو داود برقم (2500)، والترمذي برقم (1621) ، المشكاة برقم (3823)، الجنائز (ص42).
(3) رواه البخاري في كتاب التوحيد برقم (7463).
(4) سورة البقرة الآية (154).
(5) سورة آل عمران الآية (169-171).
(6) سورة محمد الآية (4).(1/414)
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "رأيت الليلة رجلين آتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دار هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء". (1)
وعن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلاً قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة". (2)
وعن عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - : أن رجلاً جاء إلى الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال حين انتهى إلى الصف اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من المتكلم آنفاً" قال الرجل: أنا يا رسول الله قال: "إذا يعقر جوادك وتستشهد". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة". (4)
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم قال: أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عمل قليل وأجر كثير". (5)
(مقنع بالحديد): مغطى بالسلاح أو على رأسه بيضة وهي الخوذة.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التعبير برقم (7047).
(2) رواه النسائي، الجنائز (36)، وصححه الألباني في الترغيب برقم (1380).
(3) رواه البزار وابن حبان، والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
(4) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان والترمذي وقال: (حديث حسن صحيح)، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1367).
(5) رواه البخاري (6/24 فتح) ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4890).(1/415)
وعن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً أسود أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني رجل أسود منتِنُ الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال: "في الجنة". فقاتل حتى قُتل، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد بيض الله وجهك، وطيب ريحك، وأكثر مالك".
وقال لهذا أو لغيره: "فقد رأيت زوجته من الحور العين نازعته جبة له من صوف، تدخل بينه وبين جبته". (1)
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لغدوة في سبيل الله أو
روحة خير من الدنيا وما فيها". (2)
الغدوة: بالفتح المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أول النهار.
الروحة: المرة الواحدة من الرواح وهو: الخروج في آخر النهار.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "أتى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره". (3)
__________
(1) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1381).
(2) أخرجه البخاري برقم (2639)،باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم من الجنة، ومسلم برقم (1880)، باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله .
(3) رواه البخاري برقم (2634)، باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله ، ومسلم برقم (1888)، باب فضل الجهاد والرباط .(1/416)
وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم". (1)
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". (2)
وعن أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنةً فقر بها، قالت: قلت يا رسول الله! من خير الناس فيها؟ قال: "رجل في ماشية يؤدي حقها ويعبد ربه، ورجل أخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخيفونه". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفس محمد بيده، لودِدْتُ أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2965 و 2966) ومسلم في كتاب الجهاد والسير برقم (4517).
(2) أخرجه الترمذي (1667، والنسائي (6/40) وأحمد (1/62 و 65 و 66 و 75)، المشكاة برقم (2831).
(3) رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1275).
(4) رواه البخاري في كتاب التوحيد برقم )7463)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (1876).(1/417)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن أم الربيع البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء فقال: "يا أم حارثة إنها جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". (1)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جيء بأبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مثل به فوضع بين يديه فذهبت أكشف عن وجهه فنهاني قومي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها". (2)
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن للشهيد عند الله خصال أن يغفر له في أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حُلة الإيمان ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها و يزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه". (3)
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمعت ابي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ قال: نعم فرجع إلى أصحابه فقال: "أقرأ عليكم السلام" ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2809).
(2) أخرجه البخاري برقم (2661)، باب ظل الملائكة على الشهيد ، ومسلم برقم (2471)، باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما.
(3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/293)، رواه أحمد وفيه ست خصال، والبزار والطبراني إلا أنه قال سبع خصال وهي كذلك ورجال أحمد والطبراني ثقات.
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1902).(1/418)
(رث الهيئة): خلق الثياب.
(جفن سيفه): غمده.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". (1)
باب
ثواب الرمي في سبيل الله تعالى
عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محررة". (2)
عدل محررة: رقبة معتقة.
وفيه حض المسلمين على الجهاد في سبيل الله لأمر الجهاد والمجاهدين.
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وهو على المنبر يقول: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي". (3)
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنع الخير والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن ترك الرمي بعد علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1886).
(2) رواه أبو داود برقم (3965) والترمذي برقم (1638) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (6268)، السلسلة الصحيحة برقم (351)، وصحيح الترغيب برقم (1285).
(3) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1917).
(4) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، فقه السيرة (225).(1/419)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ومن رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب كان بمثل رقبة من ولد إسماعيل". (1)
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من بلغ بسهمٍ فهو له درجة في الجنة"، فبلغت يومئذ ستة عشر سهماً. (2)
"من بلغ بسهم" أي: أصاب العدو.
وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم ينتضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان" فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما لكم لا ترمون." قالوا: كيف نرمي وأنتَ معهم؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ارموا وأنا معكم كلِّكم". (3)
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من عَلِمَ الرمي ثم تركه فليس منا، أو فقد عَصَى". (4)
قال الأُبي في شرحه على مسلم : "هذا تشديد عظيم في نسيانه بعد تعلمه، وهو مكروه كراهة شديدة" أ.هـ. (5)
معنى ليس منا: ليس على سيرتنا ولا متصفاً بصفات العرب.
__________
(1) رواه الطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/270): (رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات)، وقال الألباني: صحيح لغيره.السلسلة الصحيحة (1244، 1240) ، والمشكاة (4459) وصحيح الترغيب (1290) .
(2) رواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1284).
(3) رواه البخاري في الجهاد برقم (2899).
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1919).
(5) إكمال اإكمال للأبي (5/264) .(1/420)
وعنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستفتح عليكم أرضُون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحَدكُم أن يَلْهُو بأسْهُمِه". (1)
قال السنوسي : "وكأنه قيل: إن الله سيفتح عليكم الروم قريباً وهم رماة، وسيكفيكم الله شرهم بواسطة الرمي، فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه، ولا عليكم أن تهتموا بالرمي حتى إذا حاربتم الروم تكونون متمكنين منه، وإنما أخرج فخرج اللهو إمالةً للنفوس على تعلمه، فإن النفوس مجبولة على ميلها إلى اللهو" أ.هـ. (2)
باب
ثواب الغزاة في البحر
عن أنس - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمهُ وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت يا رسول الله: ما يضحكك؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون بثج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة" قالت: فقلت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله" كما قال في الأولى قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال: "أنت من الأولين" فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت". (3)
بثج البحر: بثاء مثلثة وباء موحدة مفتوحتين وجيم محركاً هو وسطه.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1918).
(2) )) إكمال الإكمال للأبي (5/264) .
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2788) و (2789) وفي كتاب الاستئذان برقم (6282 و 6283)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4911).(1/421)
وعنه قال: جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء فيهم خالي حرام
يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة للفقراء فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا وأتى رجلٌ حراماً خال أنس من خلفه فطعنه برمحٍ حتى أنفذه فقال حرام: فزتُ ورب الكعبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وإن له ما على الأرض من شئ إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة". (2)
وفي رواية: "لما يرى من فضل الشهادة".
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم". (3)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "قفلةٌ كغزوةٍ". (4)
__________
(1) رواه البخاري برقم (957)، باب القنوت قبل الركوع وبعده، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4894)، باب ثبوت الجنة للشهيد .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير برقم (2817)، والرواية الثانية لمسلم في كتاب الإمارة برقم (4845).
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة برقم (4903).
(4) أخرجه أبو داود برقم (2487) وأحمد (2/174) وغيرهما، المشكاة (3841).(1/422)
القفلة: الرجوع والمراد: الرجوع من الغزو بعد فراغه ومعناه أنه يثاب في رجوعه بعد فراغه من الغزو.
وعن أم حرام رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المائدُ في البحر الذي يصيبه
القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيد". (1)
عن الأوزاعي عن أبي عمار شداد بن عبد الله عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ثم يا رسول الله إني رأيت حلما بنو الليلة قال ما هو قالت إنه شديد قال ما هو قالت رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيت خيرا تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فيكون في حجرك فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت يوما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول - صلى الله عليه وسلم - تهريقان من الدموع قالت فقلت يا نبي الله بأبي أنت وأمي مالك قال (( أتاني جبريل - صلى الله عليه وسلم - فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت هذا فقال نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء)) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . (2)
باب
ثواب من خرج إلى الجهاد في سبيل الله تعالى (فمات)
قال الله تعالى: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } . (3)
__________
(1) رواه أبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1343).
(2) المستدرك على الصحيحين (3/194) رقم (4818)، مابين القوسين في صحيح الجامع رقم (61) وقال الشيخ الألباني: صحيح .
(3) سورة آل عمران الآية (157).(1/423)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق بكلماته أن يدخله الجنة أو يرده إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة". (1)
وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم لا يفتر صلاةً ولا صياماً حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه إليهم من غنيمة أو أجر أو يتوفاه فيدخله الجنة". (2)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما تعدون الشهداء فيكم" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال: "إن شهداء أمتي إذاً قليل" قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات من البَطْن فهو شهيد".
قال ابن مقسم: أشهد على أبيك –يعني أبا صالح- أنه قال: "والغريق شهيد". (3)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد برقم (7463)، واللفظ له، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4838).
(2) رواه مسلم برقم (1887)، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى .
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (2829)،ومسلم في كتاب الإمارة برقم(4918).(1/424)
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجوا أن يعطاها فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه قال: "فأرسلوا إليه" فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "أنفذ على رسلك حتى تنزل باسحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". (1)
يدوكون: أي يخوضون ويتحدثون.
رسلك: بكسر الراء وبفتحها لغتان: والكسر أوضح.
غدوا: ساروا أو النهار.
يشتكي: يتوجع.
انفذ على رسلك: امض على مهل ولا تتعجل.
بساحتهم: ناحيتهم.
حق الله تعالى: ما أمر به وما نهى عنه.
يهدي الله بك: ينقذ من الكفر أو الضلال.
حمر النعم: أكثر ما يقع على الإبل والإبل الحمراء كانت أنفس أموال العرب ولذا أصبحت الجملة يضرب بها المثل في كل نفيس وأنه ليس هناك شيء أعظم منه.
باب
ثواب من جرح في سبيل الله عز وجل
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :"ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك". (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير برقم (2942) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم (3701 و 4713).
(2) رواه البخاري في كتاب الوضوء برقم (237)،ومسلم في كتاب الإمارة برقم(1876).(1/425)
وفي رواية: "كل كلم يكلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها يوم طعنت تفجر دماً اللون لون الدم والعرف عرف مسك". (1)
العرف: بفتح العين وإسكان الراء هو الرائحة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة أو رجعة إلى منزله الذي خرج بما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئة يوم كُلِم لونه لون الدم وريحه ريح المسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سريةٍ تغزوا في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزوا في سبيل الله فأقتل ثم أغزوا فأقتل ثم أغزوا فأقتل". (2)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "تضمن الله لمن خرج في سبيله" وفي الرواية الأخرى (تكفل الله).
الكلم: بفتح الكاف وإسكان اللام هو الجرح.
قال النووي رحمه الله تعالى: (ومعناهما أوجب الله تعالى له الجنة بفضله وكرمه سبحانه وتعالى وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } الآية.
ورواه مالك والبخاري والنسائي و لفظهم:
"تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق بكلماته، أن يدخله الجنة، أو يردَّه إلى مسكنه بما نال من أجر أو غنيمة" الحديث.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (36)، ومسلم في كتاب الإمارة برقم (4836).
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1876) .(1/426)
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جرح جرحاً في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك ولونه لون الزعفران عليه طابع الشهداء ومن سأل الشهادة مخلصاً أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه". (1)
وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال: "من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةٍ وجبت له الجنة ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها المسك". (2)
باب
ثواب المبطون والغريق ومن مات تحت الهدم
عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال سليمان بن صرد لخالد بن عرفطة أو خالد السليمان أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قتله بطنه لم يعذب في قبره" فقال أحدهما لصاحبه نعم. (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما تعدون الشهيد فيكم؟" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد قال: "إن شهداء أمتي إذاً لقليل" قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: "من قتل في
سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات بالطاعون فهو شهيد ومن مات في البطن فهو شهيد" قال ابن مقسم: أشهد على أبيك يعني أبا صالح أنه قال: "والغريق شهيد".
وفي رواية: "الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم". (4)
باب
ثواب من قتل كافراً
__________
(1) رواه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، المشكاة (3825 و 3830).
(3) رواه الترمذي وحسنه وابن حبان إلا أنه قال لخالد بن عرفطة ولم يذكرها خالد بن سليمان، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6337) .
(4) رواه البخاري برقم (624)، باب فضل التهجير إلى الظهر ، ومسلم برقم (1914)، باب بيان الشهداء .(1/427)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً". (1)
باب
ثواب المشي والغبار في سبيل الله تعالى
وعن أبي عبس عبد الرحمن بن جبر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما اغبرت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسه النار". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع على عبدٍ غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً". (4)
باب
ما جاء في الحريق وصاحب الجنب والنفساء
تموت وولدها في بطنها
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: دخلنا على عبد الله بن رواحة نعوده فأغمي عليه فقلنا رحمك الله إن كنا لنحب أن تموت على غير هذا وإن كنا لنرجوا لك الشهادة فدَخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نذكر هذا فقال: "وفيم تعدون الشهادة؟" فأرم القوم وتحرك عبد الله فقال: ألا تجيبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أجابه هو فقال: نعد الشهادة في القتل فقال: "إن شهداء أمتي إذاً لقليل أفي القتل شهادة وفي الطاعون شهادة وفي البطن شهادة وفي الغرق شهادة وفي النفساء يقتلها ولدها جمعاً شهادة". (5)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1891).
(2) رواه البخاري برقم (2656)، باب من اغبرت قدماه في سبيل الله .
(3) رواه النسائي عن أبي هريرة، صحيح الجامع (7492).
(4) رواه الترمذي وصححه، والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، المشكاة برقم (3828).
(5) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له ورواتهما ثقات، وصححه الألباني في الترغيب برقم (1394).(1/428)
قوله: (أرم القوم) أي: سكتوا وهو بفتح الراء وتشديد الميم.
وعن جابر بن عتيك - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غُلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "غُلبنا عليك يا أبا الربيع!؟ فصاحت النسوة وبكين وجعل ابن عتيك يُسكتهن فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "دعهن فإذا وجبت فلا تبكين باكية" قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "إذا مات".
قالت ابنته والله إني لأرجو أن تكون شهيداً فإنك كنت قد قضيت جهازك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيَّته، وما تعدون الشهادة؟" قالوا: القتل في سبيل الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المبطون شهيد والغريق شهيد وصاحب الجنب شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمعٍ شهيد". (1)
(جهازك) بفتح الجيم وكسرها: ما يحتاج إليه في السفر والمراد: تَمَّمْتَ جهاز آخرتك وهو العمل الصالح بالموت، قاله أبو الحسن السندي.
باب
ثواب من قتل دون ماله أو دمه أو دينه أو أهله
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار". (2)
وعن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل دون ماله فهو شهيد". (3)
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان، المشكاة (1560) الجنائز (ص 29) وصحيح الترغيب (1398).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (140).
(3) رواه البخاري في كتاب المظالم برقم (2480).(1/429)
وعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه لهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد". (1)
باب
ثواب من مات بالطاعون
عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطاعون شهادة لكل مسلم". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون فقال: "كان عذاباً يبعثه الله على من كان قبلكم فجعله الله رحمة للمؤمنين ما من عبد يكون في بلدٍ فيكون فيه فيمكث لا يخرج صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب له إلا كان له أجر شهيد". (3)
وعن أبي بكر بن أبي موسى قال: ذكر الطاعون عند أبي موسى فقال: سألنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة". (4)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فناء أمتي بالطعن والطاعون" فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: "وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة". (5)
الوخز: بفتح الواو وإسكان الخاء المعجمة وبالزاي هو الطعن، وقال الألباني رحمه الله: لكن ليس بنافذ، كذا قيده أهل اللغة: الجوهري وغيره أفاده الناجي.
__________
(1) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، المشكاة رقم (3529) ، الإرواء (708)، الجنائز (ص 42).
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم(2830)،ومسلم في الإمارة برقم (1916).
(3) رواه البخاري في كتاب الطب برقم (5734).
(4) رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد على شرط مسلم، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1404).
(5) رواه أحمد بإسناد صحيح، وأبو يعلى والبزار والطبراني،صحيح الترغيب برقم (1403).(1/430)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون".
قلت: يا رسول الله! هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: "غدّة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف". (1)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الطاعون: "الفار منه كالفار من الزحف، ومن صبر فيه كان له أجر شهيد". (2)
باب
النهي عن ترك الجهاد
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . المائدة (35) .عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب" (3) .
باب
التحذير من الفرار من الزحف
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا منحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } . (4)
وقال عليه الصلاة والسلام : "اجتنبوا السبع الموبقات...." .
وذكر منها يوم الزحف. (5)
__________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (1408).
(2) رواه أحمد والبزار والطبراني، وإسناد أحمد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1409)
(3) ) ) السلسلة الصحيحة حديث رقم (2663) .
(4) الأنفال (16).
(5) رواه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2766)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (89).(1/431)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فكتب الله عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت: { الئن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرةُ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } فكتب أن لا يفر من مائتين. (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لقي الله عزّ وجل لا يشركُ به شيئاً، وأدى زكاة مالِهِ طيبةً بها نفسُه محتسباً، وسمع وأطاع، فله الجنة، أو دخَلَ الجنة.
وخمسٌ ليس لهنَّ كفارة: الشرك بالله، وقتلُ النفس بغير حقٍّ، وبَهتُ مؤمنٍ، والفرار من الزحف، ويمين صابرةٌ يقتطعُ بها مالاً بغير حق". (2)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فقال: "لا أقسمُ، لا أقسمً"، ثم نزل فقال: "أبشروا، أبشروا! من صلى الصلوات الخمس، واجتنب الكبائر، دخل من أي أبواب الجنة شاء".
قال المطلب: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عمرو: أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُهن؟ قال: نعم: عقوق الوالدين، والشرك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، وأكل الربا". (3)
__________
(1) رواه البخاري برقم (4375)، باب يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال .
(2) رواه أحمد، وابن ابي عاصم في "الجهاد" (98/1) وحسنه الألباني في الإرواء برقم (1202)، وصحيح الترغيب برقم (1339).
(3) السلسلة الصحيحة برقم (3451)، وصحيح الترغيب برقم (1340).(1/432)
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والسنن، والديات، فذكر فيه: "وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحقّ، والفرارُ في سبيل الله يومَ الزحفِ، وعقوقُ الوالدين، ورمي المحصنةِ، وتعلّم السحر، وأكلُ الربا، وأكل مالِ اليتيم"الحديث. (1) .
باب
النهي عن الغلول من الغنيمة
ومن بيت المال والزكاة
قال الله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } . (2)
وقال تعالى: { إن الله لا يحب الخائنين } . (3)
الغلول: هو ما يأخذه أحد الغزاة من الغنيمة مختصاً به، ولا يحضره إلى أمير الجيش ليقسمه بين الغزاة، سواء قل أو كثر، وسواء كان الآخذ أمير الجيش أو أحدهم.
عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إياك والذنوب التي لا تغفًر، الغُلول، فمن غلّ شيئاً أتى به يوم القيامة وأكل الربا، فمن أكل الربا، بُعث يوم القيامة مجنوناً يتخبَّط، ثم قرأ { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } (4) . (5)
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه،وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم(1341)
(2) سورة آل عمران الآية (161).
(3) سورة الأنفال الآية (58).
(4) سورة البقرة الآية (275)
(5) رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (1862).(1/433)
قال أبو حميد الساعدي: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حق إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلأعرفن رجلاً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت". (1)
الخوار: صوت البقرة.
واليعار: صوت الشاة.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول :مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم .ثم يقول :إياكم والغلول ،فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة ،فأدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك .وجاهدوا في الله القريب والبعيد ،في الحضر والسفر ،فإن الجهاد باب من الجنة ،إنه ينجي صاحبه من الهم والغم ،وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ،ولا تأخذكم في الله لومة لائم" (2) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحيل برقم (6979)، ورواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1832).
(2) ) ) السلسلة الصحيحة رقم (1942) .(1/434)
وعن المقدام بن معد - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إن هذه الوبرة من غنائمكم ،وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم ،إلا الخمس ،والخمس مردود عليكم ،فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ،ولا تغلوا ،فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة .وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ،ولاتبالوا في الله لومة لائم ،وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ،وجاهدوا في سبيل الله ،فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيمة ،ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم" (1) .
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فلم تغنم ذهباً ولا ورقاً غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ له وَهَبه له رجل من جذام فلما نزلنا قام عبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم" قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: "شراك أو شراكان من نار". (2)
(لم تصبها المقاسم) أي: أخذها قبل قسمة الغنائم، فكان غلولاً.
(بِشِراك) بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء: هو سير النعل الذي يكون على وجهه.
(الشملة): كساء أصغر من القطيفة يتَّشح بها.
وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرَّقوا متاع الغال وضربوه. (3)
__________
(1) ) ) السلسلة الصحيحة حديث رقم (1972) .
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي برقم (4234)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (115).
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد رقم (2715).(1/435)
وقال عبد الله بن عمرو: كان رجل على ثَقَلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ يُقالُ له (كَرْكِرة) فمات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءةً قد غلَّها" (1) .
(الثقل): متاع السفر، والثقل: ضد الخفة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول". (2)
وقال زيد بن خالد الجهني: إن رجلاً غل في غزوة خيبر فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه وقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزاً ما يساوي درهمين. (3)
وقال الإمام أحمد : ما نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر قال: لما كانَ يومُ خيبر أقبل نفرٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلانٌ شهيد، وفلانٌ شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجلٍ فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلا، إني رأيته في النار في بُردةٍ غلَّها، أو في عباءةٍ غلَّها". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". (4)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (3074) ، ومسلم في القسامة برقم (10679).
(2) رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم (224|)، والترمذي في أبواب الطهارة برقم (1).
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد برقم(4/64)، ومالك في الموطأ في كتاب الجهادبرقم(23).
(4) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (114)، والترمذي وغيرهما.(1/436)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فذكر الغُلول فعظّمهُ، وعظّم أمرَهُ حتى قال: "لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيءُ يوم القيامة على رقبتِه بعيرٌ له رُغاء، فيقول: يا رسول الله! أغِثني، فأقول لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.
لا ألفيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمحَمةٌ، فيقول: يا رسول الله! أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتُك.
لا أُلفِيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاءٌ فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول : لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتُك.
لا أُفليَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبتِه نفسٌ لها صياحٌ، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك.
لا أُلفيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك". (1)
لا ألفَيِنَّ: بالفاء أي: لا أجِدَنَّ
و الرغاء: بضم الراء وبالغين المعجمة والمد: هو صوت الإبل وذوات الخف.
و الحمحمة: بحاءين مهملتين مفتوحتين: هو صوت الفرس.
و الثغاء: بضم المثلثة وبالغين المعجمة والمد: هو صوت الغنم.
و الرقاع: بكسر الراء، جمع رقعة، وهي ما تكتب فيه الحقوق.
وتخفق: أي : تتحرك وتضطرب.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد برقم (3073)،ومسلم في كتاب الإمارة برقم(1831).(1/437)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس، فيجيئون بغنائمهم، فيُخمسُهُ ويقسمُه فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعرٍ، فقال: يا رسول الله! هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة، فقال: "أسمعت بلالاً ينادي ثلاثا؟" قال: نعم. قال: "فما منعك أن تجيء به؟" فاعتذر إليه، فقال: "كن أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك". (1)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جاء يوم القيام بريئاً من ثلاثٍ دخل الجنةَ الكِبْرِ، والغلول، والدَّين". (2)
باب
النهي عن أن يموت الإنسان ولم يغز
أو لم يحدث نفسه بالغزو
عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذ تم إذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق". (4)
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما ترك قوم الجهاد، إلا عمّهم الله بالعذاب". (5)
__________
(1) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1348).
(2) رواه الترمذي والنسائي، وابن حبان في صحيحه واللفظ له، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1351).
(3) رواه أبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (11).
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1910) .
(5) رواه الطبراني في الأوسط برقم (3851)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1392).(1/438)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يغز، أو يجهز غازياً، أو يخلِف غازياً في أهله بخير، اصابَهُ الله تعالى بقارعةٍ قبل يوم القيامة". (1)
باب
التحذير من ترك الرمي بعد تعلمه
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من علم الرمي ثم تركهُ فليس منا، أو فقد عصى". (2)
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : "قال القرطبي القوة بالرمي وأن كانت القوة تظهر باعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه" .اهـ. (3)
وقال الشوكاني رحمه الله : "وفيه دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد والتمرن فيها والعناية في إعدادها ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه ويروض أعضاءه" . (4)
قال الحافظ: "حنظلة والد عبد الله لُقِّب بغسيل الملائكة، لأنه كان يوم أحدٍ جنباً، وقد غسل أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فاستشهد، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "لقد رأيت الملائكة تغسِلُه".
??????
كتاب الصدقات
باب
الإنفاق في وجوه الخير
قال الله تعالى: { ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم } إلى قوله: { أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون } . (5)
وقال تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } . (6)
وقال تعالى: { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور } . (7)
__________
(1) رواه ابو داود وابن ماجة عن القاسم عن أبي أمامة وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1391).
(2) رواه مسلم في كتاب الإمارة برقم (1919).
(3) فتح الباري (6/91) .
(4) نيل الأوطار (8/246).
(5) سورة البقرة الآية (1-5).
(6) سورة سبأ الآية (39).
(7) سورة فاطر الآية (29).(1/439)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع". (1)
(لا يغيضها): أي لا نيقصها.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" (2) .
قوله: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه": فيه كمال الإخلاص لله تعالى لا يريد بذلك سمعة ولا مصلحة دنيوية ولا يرائي بهذه الصدقة بل يريد أن تكون هذه الصدقة بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
وسيأتي شرح الحديث في باب التوبة .
وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أنفق الرجل على أهله نفقةٌ يحتسبها فهي له صدقة". (3)
يحتسبها : يقصد بها وجه الله ويرجو ثوابه.
الإنفاق على الأهل والأولاد يحصل له الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد برقم (7411)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم(993).
(2) رواه البخاري برقم (1357)، باب الصدقة باليمين ، ومسلم برقم (1031)، باب فضل إخفاء الصدقة .
(3) أخرجه البخاري برقم (55)، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل أمرىء ما نوى، ومسلم برقم (1002)، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين .(1/440)
قال النووي رحمه الله : فيه: بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله تعالى فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلا ولكن يدخل المحتسب وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الانفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الانفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالاحسان اليهم والله أعلم . (1)
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في حديثه الطويل الذي قدمناه في باب النية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ إمرأتك". (2)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: أنتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة" قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال: "هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم". (3)
__________
(1) )) شرح مسلم (7/88-89) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2742)، ومسلم في كتاب الوصية برقم (1628).
(3) رواه البخاري برقم (2258)، باب أداء الديون، ومسلم برقم (990)، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة .(1/441)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الإستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار" قالت امرأة منهن جزلة: ومالنا أكثر أهل النار؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن" قالت: ما نقصان العقل والدين؟ قال: "شهادة امرأتين بشهادة رجل وتمكث الأيام لا تصلي". (1)
تكفرن العشير: تجحدن حق الزوج؟
جزلة: بفتح الجيم وإسكان الزاي أي: ذات عقل ورأي.
لذي لب: لصاحب عقل.
العشير: بفتح العين وكسر الشين وهو في الأصل المعاشرة مطلقاً والمراد هنا الزوج.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - : أن ناساً قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". (2)
وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: سبحان العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته".
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (238)، وأبو داود في كتاب السنة برقم (4679) ، وابن ماجة في الفتن برقم (4003).
(2) رواه مسلم برقم (1006).
(3) رواه الترمذي وحسنه و النسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، السلسلة الصحيحة رقم (64)، المشكاة رقم (2304).(1/442)
وفي رواية: "إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً يعطي بها في الدنيا ويجزئ بها في الأخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل لله تعالى في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزي بها". (1)
قال النووي رحمه الله : أجمع العلماء على أن الكافر الذى مات على كفره لا ثواب له فى الاخرة ولا يجازى فيها بشىء من عمله فى الدنيا متقربا الى الله تعالى، وصرح في هذا الحديث بأن يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات أي بما فعله متقربا إلى الله تعالى مما لا يفتقر صحته الى النية كصلة الرحم، والصدقة، والعتق، والضيافة، وتسهيل الخيرات ونحوها، وأما المؤمن فيدخر له حسناته وثواب أعماله الى الآخرة ويجزى بها مع ذلك أيضا فى الدنيا ولامانع من جزائه بها فى الدنيا والآخرة، وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده قوله: إن الله تعالى لا يظلم مؤمنا حسنة، معناه: لا يترك مجازاته بشىء من حسناته ،والظلم يطلق بمعنى النقص، وحقيقة الظلم مستحيلة من الله تعالى ، ومعنى أفضى إلى الآخرة: صار اليها، وأما اذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم فانه يثاب عليها فى الآخرتة على المذهب الصحيح .اهـ. (2)
وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صدقة السر تُطفئ غضب الرب تبارك وتعالى". (3)
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذا الخير خزائن وتلك الخزائن مفاتيح فطوبى لمن جعله الله عز وجل مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لعبدٍ جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير". (4)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صفات المنافقين برقم (7020).
(2) )) شرح مسلم (17/150) .
(3) رواه الطبراني في الكبير، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (888)، والسلسلة الصحيحة رقم (1908).
(4) رواه ابن ماجة واللفظ له، وابن أبي عاصم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (62)، وفي صحيح الجامع برقم (4108) .(1/443)
وسأل رجل الإمام عبد الله بن مبارك فقال له : يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت في رجلي منذ سبع سنين ، وسألت الأطباء ، وقد عالجت بأنواع العلاج ، فلم أنتفع به ؟ !
فقال له ابن مبارك : اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس فيه إلى ماء فاحفر هناك بئراً فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم ، ففعل الرجل فبرأ .
ولا عجب أيتها الأخت الكريمة : فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " داووا مرضاكم بالصدقة " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء " . (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً". (2)
خلفاً: أخلفه خيراً فيما أنفق وبارك له.
تلفاً: أهلك ما كنزه ومنعه عن مستحقيه.
الملائكة تدعوا لبني آدم بالخير والبركة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : والتلف نوعان : تلف حسي ، وتلف معنوي :
1- التلف الحسي : أن يتلف المال نفسه ، بأن يأتيه آفة تحرقه أو يسرق أو ما أشبه ذلك .
2- والتلف المعنوي : أن تنزع بركته ، بحيث لا يستفيد الإنسان منه في حياته ، ومنه ما ذكره النبي عليه الصلام والسلام حيث قال لأصحابه : "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يارسول الله ! ما منا أحد إلا وماله أحب إليه .
__________
(1) كتاب أسعد امرأة في العالم (ص100) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم(1442)،ومسلم في كتاب الزكاة برقم(1010).(1/444)
3- فمالك أحب إليك من مال زيد وعمر وخالد ، ولو كان من ورثتك ، قال : "فإن ماله ماقدم ومال وارثه متا أخر" . وهذه حكمة عظيمة ممن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - ، فمالك الذي تقدمه لله عزوجل تجده أمامك يوم القيامة ، ومال الوارث ما يبقى بعدك من مالك فينتفع به وياكله الوارث ، فهو مال وارثك على الحقيقة ، فأنفق مالك فيما يرضي الله ، وإذا انفقت فإن الله يخلفه وينفق عليك ، كما قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله تعالى : انفق يا ابن آدم ينفق عليك" . وهذه الأحاديث كلها وكذلك الآيات تدل على أنه ينبغي للإنسان أن يبذل ماله حسب ما شرع الله - عز وجل - . إلخ . (1)
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". (2)
الحسد: هنا يراد به الغِبطة وهو تمني مثل ما للمحسود، فإن تمني زوال تلك النعمة كان حسداً حراماً.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثرهُ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها فهو يُوسعها فلا تتسع". (3)
__________
(1) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (2/268) ، طبعة مكتبة الأنصار مصر .
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم (73) وفي كتاب التوحيد برقم (7529)، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1891 و 1892 و 1893).
(3) أخرجه البخاري برقم (1375) ، باب مثل المتصدق والبخيل ، وأخرجه مسلم برقم (1021)، باب مثل البخيل والمتصدق .(1/445)
قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بإصبعه هكذا قي جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتسع". (1)
(الجُنة): الدرع، والتراقي جمع ترقوة بفتح التاء وهي العظم يكون بين ثغرة نحر الإنسان وعاتقه.
و(قلصت): بالتحريك أي: انجمعت.
و(الجيب): هو المكان الذي يخرج منه رأس الإنسان في الثوب وغيره.
(الجنة): الدرع ومعناه: أن المنفق كلما أنفق سبغت وطالتْ حتى تجر وراءه وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطواته.
(تراقيهما): جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين.
(سبغت): امتدت وغطت.
(وفرت): أتمت وكملت.
(بنانه): الاصبع.
تعفو أثره : تغطي أثره وتستره حتى لا يظهر.
لزقت : انقبضت.
وفي في رواية عنه - رضي الله عنه - في الصحيحين ،قال : "ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو رجاء ، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها" .
قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : فأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولاتتوسع الثانية ، قوله تعالى ولاتبسطها كل البسط ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال فإن قبض الكف يحبس ما فيها وبسطها يذهب ما فيها .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس برقم (5797)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (2356).(1/446)
قال القرطبي : وهذا كله خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته وكثيرا ما جاء في القرآن فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم عادة العرب في ذلك وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم وإنما نهى سبحانه وتعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما مراد بالآية والله أعلم . (1)
وذكر الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى أسباب شرح الصدر فقال : ومنها: الإحسانُ إلى الخلق ونفعُهم بما يمكنه من المال والجاهِ والنفع بالبدن وأنواع الإحسان فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيقُ الناس صدراً، وأنكدُهم عيشاً، وأعظمهم هَمَّاً وغمَّاً وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح" (2) مثلاً للبخيل والمتصدق "كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، كلما هَمَّ المتصدقُ بِصدقةٍ، اتَّسعتْ عليهِ وانبَسطتْ، حَتَّى يَجُرَ ثِيابهُ ويُعفيَ أَثَرَهُ، وكلما هَمَّ البَخيلُ بالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كلٌّ حَلَقةٍ مكانهَا، ولم تَتَّسِعْ عَليهِ". فهذا مَثَلُ انشراح صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصار قلبه. اهـ. (3)
__________
(1) ) ) تفسير القرطبي (10/250) .
(2) صحيح البخاري في كتاب الزكاة برقم (1443) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(3) ) ) زاد المعاد .(1/447)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى". (1)
(الفضل): ما زاد على قدر الحاجة، و (الكفاف): ما كف عن الحاجة إلى الناس مع القناعة ولم يزد على قدر الحاجة.
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنيه الله". (2)
(بِمن تعول): من زوجة أو أهل أو فرع محتاج أو خادم.
(خير): أفضل.
(ظهر غنى): غير محتاج إليه.
(يستعف): يكف عن سؤال الناس.
(يستغن): يظهر الغنى.
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما بقي منها؟" قالت: ما بقي منها إلا كتفها قال: "بقي كلها غير كتفها". (3)
معناه: تصدقوا بها إلا كتفها فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا توكي فيوكي عليك".
وفي رواية: "أنفقي وأنضحي أو انضخي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك". (4)
(لا توكي): لا تدخري وتشدي ما عندك وتمنعي ما في يدك.
(فيوكي): فيقطع.
(ولا تحصي): لا تمسكي المال وتعديه وتدخريه من غير انفاق.
(فيحصي الله عليك): يمسك عنك الرزق ويناقشك الحساب يوم القيامة.
(ولا توعي): تمنعي ما فضل عنك.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1036).
(2) أخرجه البخاري برقم (1361)، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم برقم (1053)، باب فضل التعفف والصبر .
(3) أخرجه الترمذي برقم (2470)، المشكاة (1919).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة (1433)، وفي كتاب الهبة برقم (2590)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (2372).(1/448)
(فيوعي الله عليك): يصيبك الله بالتشدد ويمنع عنك فضله وجوده.
باب
ثواب من زرع زرعاً أو غرس شجراً مثمراً بنية صالحة
عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبُعُ منه فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة".
يرزؤه : أي ينقُصُه.
وفي رواية: "فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقةٍ إلى يوم القيامة".
وفي رواية " لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة" (1) .
وعنه قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم معبد حائطاً فقال: يا أم معبد من غرس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر" فقالت بل مسلم، قال: "فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طيراً إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة" (2) .
وعن أنس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ مُسلم يَغرسُ غرساً ، وأو يَزرَعُ زرعاً ، فيأكُلُ منه طَيرٌ أو إنسان أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة" (3) .
باب
التحذير من المن
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى } . (4)
فالمن يكون سبباً لإبطال الصدقات، قال الشوكاني في تفسير هذه الآية:
الإبطال للصدقات: إذهاب أثرها وإفساد ثوابها، فالمن يبطلها والأذى والرياء. أ.هـ
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (3945)
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (3948) .
(3) رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة برقم (2320)، ومسلم في كتاب المساقاة برقم (1553).
(4) سورة البقرة الآية (264) .(1/449)
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثةٌ لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق ومنان ومكذب بالقدر". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثةٌ لا يكلمهمً الله ولا ينظرُ إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل إزاره، والمنانُ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". (2)
المسبل أي : المسبل إزاره أسفل من الكعبين.
باب
تحريم المسألة مع الغنى
وما جاء في ذم الطمع
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزال المسألةُ بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزعةُ لحمٍ". (3)
(المزعة) بضم الميم وسكون الزاي وبالغين المهملة: هي القطعة. قيل معناه يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عند الله، وقيل:هو على ظاهره، فيحشر و وجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حيث طلب وسأل بوجهه. (4)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سأل الناس في غير فاقةٍ نزلت به، أو عيال لا يطيقهم، جاء يوم القيامة بوجهٍ ليس عليه لحم". (5)
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير برقم (7547 و 7938)، وابن أبي عاصم في السنة(323) ، السلسلة الصحيحة رقم (1785).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (106)، وأبو داود في اللباس برقم (4087)، والترمذي في أبواب البيوع برقم (1211)، والنسائي في البيوع (7/245)، والطيالسي في المسند (467).
(3) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1474)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم(1040).
(4) شرح النووي (7/130).
(5) صحيح الترغيب (794).(1/450)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فَليستَقلَّ أو ليستكثِر". (1)
معناه: أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذ يصير جمراً يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة. شرح النووي (7/131)
وعن أبي بشر قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه - قال: تحمَّلتُ حَمالة، فأتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، اسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" ثم قال: "يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيبَها ثم يمسك.
ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحَت ماله، فحلت له المسألةُ حتى يصيبَ قِواماً من عيش، أو قال: سِداداً من عيش.
ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال: سِداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحتٌ يأكلها صاحبُها سُحتاً". (2)
(الحَمالة) بفتح الحاء المهملة: هو الدية يتحملها قوم عن قوم، وقيل: هو ما يتحمله المصلح بين فئتين في ماله، ليرتفع بينهم القتال ونحوه.
و(الجائحة): الآفة تصيب الإنسان في ماله.
و (القوام) بفتح القاف وكسرها أفصح: هو ما يقوم به حال الإنسان من مال وغيره.
و (السِّداد) بكسر السين المهملة: هو ما يسد حاجة المعوز ويكفيه.
و (الفاقة): الفقر والاحتياج.
و (الحجى) بكسر الحاء المهملة مقصورا: هو العقل.
وعن أبي سفيان صخر بن حرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تلحفوا بالمسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته". (3)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1041)، ورواه ابن ماجة.
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1044) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة برقم (1038).(1/451)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل وفخذه ومالا فلا تتبعه نفسك"، قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يَردُّ شيئاُ أُعطيه. (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام برقم (71163و 7164)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1045).(1/452)
وفي رواية عن عطاء بن يسار - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعطاء فرده عمر فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم رددته؟ فقال :يا رسول الله أليس أخبرتنا أن خيرا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما ذلك عن المسألة فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله . فقال عمر - رضي الله عنه - أما والذي نفسي بيده لا أسأل أحدا شيئا ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته". (1)
__________
(1) رواه مالك هكذا مرسلا، ورواه البيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول فذكر بنحوه ..وفيه أن ردّ عطية الإمام ليس من الأدب ولا سيما منه - صلى الله عليه وسلم - لعموم قوله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه } سورة الحشر الآية (7) وإنما ردّها عمر للشبهة التي أزالها - صلى الله عليه وسلم - عنه، قال ابن جرير: أجمعوا على أن الأخذ من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مستحب، واختلف في إعطاء غيره دون مسألة والمعطى من يجوز إعطاؤه فقيل باستحبابه أيضاً كان المعطى سلطاناً أو غيره وهذا هو الراجح يعني بالشرطين المذكورين في قوله لعمر: إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مسرف ولا سائل فخذه وقيل هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن: «إلا أن تسأله ذا سلطان» قال: وقيل يستحب من غير السلطان لا منه فحرام وقيل مكروه، وكان بعضهم يقبل عطية السلطان وبعضهم يكره، وهذا محمول على عطية السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف، قال الحافظ: والتحقيق في المسألة أن من علم حل ماله لا يردّ عطيته أو حرمته فيحرم عطيته، ومن شك فيها فالاحتياط ردّه وهو الورع ومن أباحه أخذ بالأصل، قال ابن المنذر: احتج من رخص فيه بقول الله تعالى في اليهود: { سماعون للكذب أكالون للسحت } (سورة المائدة: الآية 42) وقد رهن الشارع - صلى الله عليه وسلم - درعه عند يهودي مع علمه بذلك وكذلك أخذ الجزية، مع العلم بأن أكثر أموالهم ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. شرح الزرقاني (4/422) .(1/453)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أصابتهُ فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل". (1)
يوشك أي: يسرع.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس". (2)
وعنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل". (3)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، أتكفل له بالجنة؟" فقلت: أنا فكان لا يسأل أحداً شيئاً. (4)
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمرٍ لا بد منه". (5)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الزكاة برقم (1645)، والترمذي في كتاب الزهد برقم
(2326) وقال: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (838).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1476)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1039).
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2588).
(4) رواه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب الزكاة برقم (1643) والنسائي في كتاب الزكاة برقم (5/96)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (813).
(5) أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة برقم (681)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود في كتاب الزكاة برقم (1936) والنسائي في الزكاة برقم (5/100)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (792).(1/454)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سأل الناس ليثري ماله، فإنما هي رضْفٌ من النار ملهبة، فمن شاء فيُقِلَّ ومن شاء فليكثر". (1)
وعن أسلم قال: قال لي عبد الله بن الأرقم: ادللني على بعير من العطايا استحمل عليه أمير المؤمنين.
قلت: نعم، جمل من إبل الصدقة، فقال عبد الله بن الأرقم: أتحب لو أنَّ رجلاً بادناً في يوم حار، غسل ما تحت إزاره ورُفغيه، ثم أعطاكه فشربته؟
قال: فغضبت، وقلت: يغفر الله لك، لِم تقول مثل هذا لي؟ قال: فإنما الصدقة أوساخ الناس يغسلونها عنهم. (2)
(البادن) السمين، و (الرّفغ) بضم الراء وفتحها وبالغين المعجمة: هو الإبط، وقيل: وسخ الثوب.
و (الأرفاغ): المغابن التي يجتمع فيها العرق والوسخ من البدن.
عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: "يا حكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى".
قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا.
فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعوا حكيماً ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي. (3)
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (806).
(2) رواه مالك، وقال الألباني: صحيح موقوف، صحيح الترغيب برقم (807).
(3) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1472)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1035).(1/455)
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله". (1)
وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفاً عليهن: لا ينقصُ مالٌ من صدقة، فتصدقوا، ولا يعفو عبد من مظلمة، إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر". (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نَزَلَتْ به، أوعيالٍ لا يطيقهم، فتح الله عليه باب فاقةٍ من حيث لا يحتسب". (3)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو يعلم صاحب المسألة ماله فيها، لم يسأل". (4)
وعن حُبْشي بن جُنادة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سأل من غير فقرٍ، فكأنما يأكل الجمرَ". (5)
وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الذي يسأل من غير حاجة، كَمَثل الذي يلتقط الجمر". (6)
وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وهو واقف بعرفة أتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه، فأعطاه، وذهب،..
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1427)، ومسلم في الزكاة برقم (1034).
(2) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، صحيح الترغيب رقم (814).
(3) رواه البيهقي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (795).
(4) رواه الطبراني في الكبير،وقال الألباني:حسن لغيره،صحيح الترغيب رقم(797)
(5) رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (802).
(6) رواه ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، صحيح الترغيب (1/488 و 489).(1/456)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المسألةَ لا تحلُّ لغنيٍّ، ولا لذي مرَّةٍ سويٍّ، إلا لذي فقرٍ مُدقعٍ، أو غُرم مُقطع، ومن سأل الناس لِيَثرى به ماله، كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضْفاً يأكله من جهنم، فمن شاء فليُقلِل، ومن شاء فليكثر". (1)
(المِرَّة) بكسر الميم وتشديد الراء: هي الشدة والقوة.
و (السويّ) بفتح السين المهملة وتشديد الياء: هو التام الخلق، السالم من موانع الاكتساب.
(يثرى): بالثاء المثلثة أي: يزيد ماله به.
و (الرضف) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء: هو الحجارة المحماة.
وعن عائذ بن عمرو - رضي الله عنه - : أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فأعطاه، فلما وضع رِجله على اسْكُفّة الباب.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحدٌ إلى أحدٍ يسأله". (2)
وعن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: "إن المسألة لا تصلحُ إلا لثلاث: لذي فقر مُدقع، أو لذي غرم مُفظع، أو لذي دم موجع...". (3)
(الفقر المدقع) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف: هو الشديد الملصق صاحبه بـ (الدقعاء): وهي الأرض التي لا نبات بها.
و (الغُرم): بضم الغين المعجمة وسكون الراء: هو ما يلزم أداؤه تكلفاً لا في مقابلة عوض.
و (المفظع) بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة: هو الشديد الشنيع.
و (ذو الدم الموجع): هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل بدفعها إلى أولياء المقتول ولو لم يفعل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله.
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب(1/489).
(2) رواه النسائي، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (896).
(3) رواه أبو داود واللفظ له، والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (834).(1/457)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لأن يحتطب أحدكم حزمةً على ظهره، خيرٌ له من أن يسألَ أحداً، فيعطيه أو يمنعه". (1)
وعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أكل أحدٌ طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". (2)
وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تُلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئاً فتُخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره، فيبارك الله له فيما أعطيته". (3)
وفي رواية لمسلم: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفس، فيبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألةٍ وشَرَه نفسٍ، كان كالذي يأكل ولا يشبع".
(لا تلحفوا) أي: لا تُلحُّوا في المسألة.
(الشّره) بشين معجمة هو محركاً: هو الحرص.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرجل يأتيني فيسألني فأعطيه، فينطلق وما يحمل في حِضنه إلا النار". (4)
(حِضنه): بكسر المهملة وإسكان الضاد المعجمة: ما دون الإبط إلى الكشح.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1470)، وفي كتاب البيوع برقم (2074)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1042).
(2) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2072).
(3) رواه مسلم برقم (1038)، باب النهي عن المسألة، ورواه النسائي، والحاكم.
(4) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(842)(1/458)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقسم ذهباً، إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله! أعطني: فأعطاه ثم قال: زدني فزاده ثلاث مرات ثم ولى مدبراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يأتيني الرجل فيسألني، فأعطيه، ثم يسألني، فأعطيه ثلاث مرات، ثم يولي مُدبراً وقد جعل في ثوبه ناراً إذا انقلب إلى أهله". (1)
وعن أبي عبيدة مولى رفاعة عن رافع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ملعون من سأل بوجه الله، وملعونٌ من سُئل بوجه الله فمنع سائله". (2)
باب
ثواب النفقة على العيال والزوجة
قال تعالى: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } (3) .
وقال تعالى: { لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً } (4) .
والآيات في ثواب الإنفاق وفضله كثيرة وتقدم بعضها في أبواب الصدقات.
وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة" (5) .
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة ومن أنفق على امرأته وولده، وأهل بيته فهي صدقة" (6) .
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(844)
(2) رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (853).
(3) سورة سبأ الآية ( 39).
(4) سورة الطلاق الآية (7).
(5) رواه البخاري في كتاب النفقات برقم (5351) ، ومسلم في الإيمان برقم (55).
(6) رواه الطبراني، وحَسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1957).(1/459)
وعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة" (1) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبةٍ ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك" (2) .
في رقبة : في إعتاق عبدٍ أو أمةٍ. عيالك: أهل بيتك ومن تعولهم.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : "وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه إلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" (3) .
وعن أبي عبد الله ويقال أبو عبد الرحمن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" (4) .
قال أبو قلابة : بدأ بالعيال ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم الله به ويغنيهم؟.
__________
(1) رواه أحمد بإسناد جيد، قال في المجمع: (رواه أحمد ورجاله ثقات)، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1955) ، والسلسلة الصحيحة (453).
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (995)، باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2742)، ومسلم في كتاب الوصية برقم (1628).
(4) رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2307).(1/460)
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله هل لي أجرٌ في بني سلمة أن أٌنفق عليهم ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما هم بَني؟ قال: " نعم لكِ أجرُ ما أنفقت عليهم" (1) .
(بتاركتهم هكذا وهكذا) أي: يقطرون يميناً وشمالاً طلباً للقوت.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اليد العليا خيرٌ وأحبُّ إلى الله من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول، أُمُّك وأباك، وأختك وأخاك، وأدناك فأدناك" (2) .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنفق المرء على نفسه وولده وأهله وذوي رحمِهِ وقرابته، فهو له صدقة" (3) .
باب
النهي عن العودة في الصدقة
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه فظننت أنه بائعه برُخص فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "لا تبتعه ولا تعُد في صدقتك فإن العائد في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه". (4)
في سبيل الله: أي وهبته لمن يقاتل في سبيل الله.
الإضاعة هنا: التقصير في القيام بإطعامه.
لا تبتعه: لا تشتره.
قال الشوكاني : استدل به على تحريم ذلك لأن القيء حرام .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1467)، والنفقات برقم (5369) ، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (2317).
(2) رواه الطبراني (10/299/10405) وهو في الصحيحين، وغيرهما بنحوه من حديث حكيم بن حزام " وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1956).
(3) رواه الطبراني في ( الأوسط) وشواهده كثيرة ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1960).
(4) رواه البخاري برقم (6574)، باب في الهبة والشفعة ، ومسلم رقم (1622) ، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل .(1/461)
قال القرطبي : وهذا هو الظاهر من سياق الحديث ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر وهو قول الأكثر ويلحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات .اهـ. (1)
باب
ثواب صدقة الفطر
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. (2)
قال الخطابي رحمه الله: قوله: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر).
فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب، كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال، وفيه بيان أن ما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما فرض الله، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله، وقد قال بفريضة زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم. وقد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو، فهي واجبة على كل صائم في ذي جِدَّةٍ، أو فقير يجدها فضلاً عما قوته، إذ كان وجوبها لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب.أ.هـ. (3)
وقال الحافظ أبو بكر بن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض، وممن حفظنا ذلك عنه من أهل العلم محمد بن سيرين، وأبو العالية، والضحاك، وعطاء، ومالك، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق"، وأصحاب الرأي، وقال إسحاق: هو كالإجماع من أهل العلم".أ.هـ.
علماً إن زكاة الفطر تكون إطعام وليس أموال للأدلة الواردة ولا يوجد دليل على إعطائها أموال، ومن الغريب نجد من يقول بأنها أموال، وقد أفتى بعض أهل العلم على أن زكاة الفطر إذا خرجت أموال لا تجزئ وتكون صدقة إلا إذا أخرجها طعام.
__________
(1) نيل الأوطار (4/245) .
(2) رواه أبو داود وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1085).
(3) معالم السنن (3/214).(1/462)
قال الإمام مالك رحمه الله في المدونة: "ولا يجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضا من العرض قال وليس كذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: "ولا يؤدي ما يخرجه من الحب لا يؤدي إلا الحب نفسه لا يؤدي سويقاً ولا دقيقاً ولا يؤدي قيمته ولا يؤدي أهل البادية من شيء يقتاتونه من الغث والحنظل وغيره من ثمره لا تجوز في زكاة ويكلفون أن يؤدوا من قوت أقرب البلاد إليهم".
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: "ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة".
وقال ابن قدامة المقدسي في المغني: "ومن أعطى القيمة لم يجزؤه، قال أبو داود: (قيل لأحمد وأنا أسمع أعطي دراهم -يعني في صدقة الفطر- قال أخاف أن لا يجزؤه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
باب
أداء الزكاة
قال الله تعالى: { إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . (1)
وقال تعالى: { والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } . (2)
وقال تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } . (3)
وقال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } . (4)
وقال تعالى: { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون } إلى قوله تعالى: { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } . (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية (277).
(2) سورة النساء الآية (162).
(3) سورة التوبة الآية (103).
(4) سورة الأعراف الآية (156).
(5) سورة المؤمنون الآية (1-11).(1/463)
عن أبي أيوب رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم". (1)
و عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا". (2)
وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نفسي بيده ثلاث مرات" ثم أكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف ثم رفع رأسه وفي وجهه البشرى وكانت أحب إلينا من حمر النعم، قال: "ما من عبدٍ يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة وقيل له: ادخل بسلام". (3)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت". (4)
زكاة الحلي
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1396)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (106).
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1396)، وفي كتاب الآدب برقم (5982) ، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (106).
(3) رواه النسائي واللفظ له، وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
(4) رواه أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجة، وقال الألباني: صحيح لغيره، ، المشكاة رقم (29)، وصحيح الترغيب برقم (739).(1/464)
لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في وجوب زكاة الحلي المباح على خمسة أقوال.
أحدها : لا زكاة فيه وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة : مالك والشافعي وأحمد ، إلا إذا أعد للنفقة وإن أعد للأجرة ففيه الزكاة عند أصحاب أحمد ولا زكاة فيه عند أصحاب مالك والشافعي وقد ذكرنا أدلة هذا القول إيراداً على القائلين بالوجوب وأجبنا عنها .
الثاني : فيه الزكاة سنة واحدة وهو مروري عن أنس بن مالك .
الثالث : زكاة عارية وهو مروري عن أسماء وأنس بن مالك أيضاً .
الرابع : أنه يجب فيه إما الزكاة وإما العارية ورجحه ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكيمة.
القول الخامس : وجوب الزكاة فيه إذا بلغ نصاباً كل عام وهو مذهب ابن حنيفة ورواية عن أحمد وأحد القولين في مذهب الشافعي وهذا هو القول الراجح لدلالة الكتاب والسنة والآثار علية فمن أدلة الكتاب قوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقنها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
والمراد بكنز الذهب والفضة عدم إخراج ما يجب فيها من زكاة وغيرها من حقوق قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "كلما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز ، وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز ظاهراً على وجه الأرض" . قال ابن كثير رحمه الله وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً . ا . هـ .
والآية عامة في جميع الذهب والفضة لم تخصص شيئاً دون شيء فمن ادعى خروج الحلي المباح من هذا العموم فعليه الدليل . رسالة في وجوب زكاة الحلي للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى .
باب
إطعام الطعام لوجه الله تعالى(1/465)
قال الله تعالى: { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً } إلى قوله تعالى: { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً } . (1)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". (2)
أي الإسلام: أي خصاله.
تطعم الطعام: على وجه الصدقة أو الهدية أو الضيافة، ونحو ذلك.
وتقرأ السلام: تفشي السلام.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً". (3)
وعن ابي مالك الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى والناس نيام". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أصبح منكم اليوم صائماً" فقال أبو بكر رضي عنه الله أنا فقال: "من أطعم منكم اليوم مسكيناً"
__________
(1) سورة الإنسان الآية (8-10).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (12) و (28)، وفي كتاب الاستئذان برقم (5882)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (159).
(3) رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، وابن عدي عن ابن عمر، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1096).
(4) صحيح الترغيب رقم (624).(1/466)
فقال أبو بكر أنا فقال: "من تبع منكم اليوم جنازة" فقال أبو بكر أنا، فقال: "من عاد منكم اليوم مريضاً" قال ابو بكر أنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما اجتمعت هذه الخصال قط في رجل في يومٍ إلا دخل الجنة". (1)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام". (2)
وعنه أيضاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها"
فقال أبو مالك الأشعري: لمن هذا يا رسول الله؟ قال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناسُ نيامُ". (3)
وفي أخرى عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
"إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام". (4)
يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها لكونها شفافة لا تحجب ما وراءها .
قالوا لمن هي يا رسول اللّه ، قال : أعدها اللّه تعالى ، أي هيأها لمن أطعم الطعام في الدنيا للعيال والفقراء الأضياف والإخوان ونحوهم وألان الكلام ، أي تملق للناس واستعطفهم ، قال في الصحاح اللين ضد الخشونة وقد لان الشيء ليناً وألينه صيره ليناً وقد ألانه أيضاً على النقصان والتمام وتلين تملق . انتهى .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه في موضعين منه (3/92 و 7/110).
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (945).
(3) ) ) صحيح الترغيب رقم (624).
(4) ) ) صحيح ابن خزيمة رقم (2137) ، المشكاة (1232، 1233) ، وصحيح الترغيب رقم (612) ، صحيح الجامع رقم (2123) .(1/467)
قال الطيبي: جعل جزاء من تلطف في الكلام الغرفة كما في قوله تعالى : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً } . (1) { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } . (2) . وفيه إيذان بأن لين الكلام من صفات الصالحين الذين خضعوا لبارئهم وعاملوا الخلق بالرفق في الفعل والقول ولذا جعلت جزاء من أطعم الطعام كما في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } . (3) فدل على أن الجواد شأنه توخي القصد في الإطعام والبذل ليكون من عباد الرحمن وإلا كان من إخوان الشيطان .اهـ . (4)
وقال الله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . (5)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : وفي هذا دليل على أن المصالح والمنافع إذا انتفع الناس بها كانت خيراً لصاحبها وإن لم ينو فإن نوى زاد خيراً على خير وآتاه الله تعالى من فضله أجراً عظيماً. أ.هـ. (6)
إطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، وقيام الليل ، سبب لبناء الغرف التي في الجنة ، فاحرص أُخي قبل فوات الأوان
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يُربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم". (7)
__________
(1) ) ) سورة الفرقان الآية (75) .
(2) ) ) سورة الفرقان الآية (63) .
(3) ) ) سورة الفرقان الآية (67) .
(4) ) ) فيض القدير .
(5) سورة النساء الآية (114).
(6) ) ) شرح رياض الصالحين (3/235) .
(7) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1410)، ومسلم في الزكاة برقم (1014).(1/468)
الفلو: بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو ويقال أيضاً: بكسر الفاء وإسكان اللام، وتخفيف الواو: وهو المهر.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما تصدق أحد بصدقةٍ من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". (1)
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي بفلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابةٍ اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأخرج ماءه في مرةٍ فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت".
و عن عبادة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق" . (2)
قوله: "ما من رجل يخرج في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر اللّه تعالى عنه": قال المناوي: من ذنوبه "مثل ما تصدق" به { إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين } فالمسلم يجازى على خطاياه في الدنيا بالآلام والأسقام والمصائب التي يقع فيها فتكون كفارة لها وقد أخرج ابن حبان عنعائشة أن رجلاً تلا هذه الآية { من يعمل سوء يجز به } فقال : إنا إن كنا لنجزى بكل ما علمناه هلكنا إذاً،
فبلغ ذلك المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فقال : نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه.اهـ . (3)
باب
سخاء أم المؤمنين عائشة
كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أسخى الناس في زمانها ، وكانت تتصدق بما تمتلك .
فعن تميم بن سلمة عن عروة قال : لقد رأيت عائشة - رضي الله عنها – تقسم سبعين ألفاً ، وإنها لترقع جيب درعها .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1014) ، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها.
(2) قال المناوي:رواه أحمد والضياء المقدسي عن عبادة بن الصامت، قال المنذري والهيثمي: رجاله رجال الصحيح، صحيح الجامع حديث رقم(5712) .
(3) فيض القدير .(1/469)
وأتيت مرة بمئة ألف درهم وكانت صائمة ففرقتها كلَّها ، وليس في بيتها شيءٌ ، فلما أمست قالت : ياجارية ، هلمي فطري ، فجاءتها بخبز وزيت ، ثم قالت الجارية : أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهم نفطر عليه .
قالت : لا تعنفيني ، لو كنتِ ذكرتيني لفعلت . (1)
وعن عبد الله بن القاسم قال :
أهدي لعائشة رضي الله عنها سلال من عنب فقسمته ، ورفعت الجارية سلة ولم تعلم بها عائشة ، فلما كان الليل جاءت به الجارية ، فقالت عائشة رضي الله عنها : ما هذا ؟ قالت : يا سيدتي أو يا أم المؤمنين رفعت لنا لنأكله ، قالت عائشة : فلا عنقوداً واحداً ، والله لا أكلت منه شيئاً . (2)
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما :
ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء وجودهما مختلف ، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت ، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد . (3)
لقد كانت الزاهدة الكريمة أُمُّنا عائشة رضي الله عنها تمر عليها الأيام الطويلة وما يوقد في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - نار كانت تعيش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الماء والتمر .
قال الذهبي رحمه الله تعالى : كانت أم المؤمنين من أكرم أهل زمانها ، ولها في السخاء أخبار .
- - -
باب
عطاء أم المؤمنين زينب بنت جحش
وكانت أمنا السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها من أجود الناس في زمانها
ونذكر من جودها وصدقتها :
كانت كريمة النفس ، كل ما تصنع بيدها تتصدق به على المساكين .
وقد وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بطول اليد كناية عن كثرة إنفاقها في سبيل الله عز وجل .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً ". (4)
__________
(1) ) ) حلية الأولياء (2/47) .
(2) ) ) الحلية لأبي نعيم (2/59) .
(3) ) ) صفة الصفوة لابن الجوزي (2/31) .
(4) صحيح البخاري رقم (1354) .(1/470)
قالت عائشة رضي الله عنها فكنا إذا اجتمعنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الحائط نتناول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ فكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا ، فعرفت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بطول اليد الصدقة ، وكانت تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله.
وقالت عائشة حين بلغها نعي زينب : لقد ذهبت حميدة متعبدة مفزع اليتامى والأرامل .
- - -
باب
أبو طلحة يتصدق بأحب ماله
عن أنس رضي الله عنه قال :
كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل ويشرب من ماءٍ فيها طيَّب .
قال أنس : فلما نزلت هذه الآية : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } (1) قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : "يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال :
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بخ ذاك مال رابح بخ ذاك مال رابح". (2)
(بيرحاء) بكسر الباء وفتحها وبالمد هي اسم لحديقة نخل كانت أبي طلحة رضي الله عنه.
(بخ بخ) قال ابن دريد : معناه : تعظيم الأمر وتفخيمه وقال غيره: تقال عند الإعجاب .
- - -
باب
أبو الدحداح يتصدق ببستان فيه ستمائة نخلة
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : لما نزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } (3) .
__________
(1) آل عمران (92).
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة برقم (1461)، وفي كتاب الوكالة (2318)، وفي كتاب الوصايا (2752)، وفي كتاب التفسير برقم (4554)، ورواه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2312).
(3) ) ) سورة البقرة الآية (245)(1/471)
قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله يريد منا القرض .
قال : "نعم يا أبا الدحداح" .
قال : أرني يدك ، قال فناوله ، قال : فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة ، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط ، وأم الدحداح فيه وعياله فناداها يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : أخرجي قد اقرضت ربي عز وجل حائطا فيه ستمائة نخلة .
فوائد الحديث :
قال الإمام النووي : في هذا الحديث فوائد :
1- منها : الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب .
2- ومنها : أن الحقوق والفضائل اذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد .
3- ومنها : أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها ،.
4- منها : دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر وقال مالك وأصحابه لا يجوز بيعه الا اذا كان على السيد دين فيباع فيه ، وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - انما باعه لينفقه سيده على نفسه ، والحديث صريح أو ظاهر في هذا ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - أبدأ بنفسك فتصدق عليها الى آخره والله أعلم .
5- وفيه : أن القرابة يرعى حقها في صلة الارحام وان لم يجتمعوا إلا في أب بعيد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان ابن ثابت وانما يجتمعان معه في الجد السابع . (1)
__________
(1) ) ) شرح النووي (7/85) .(1/472)
وقال زيد بن أسلم - رضي الله عنه - : لما نزل: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } ، قال أبو الدحداح : فداك أبي وأمي يا رسول الله إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض ، قال : نعم يريد أن يدخلكم الجنة به ، قال : فإني إن أقرضت ربي قرضا يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة ، قال : نعم ، قال : فناولني يدك ، فناوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، فقال : إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله تعالى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"أجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك" .
قال:فأشهدك يا رسول الله أني قد جعلت خيرهما لله تعالى فيه ستمائة نخلة.
قال : "إذا يجزيك الله به الجنة" .
فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل ، فأنشأ يقول :
هداك ربي سبل الرشاد ثم إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد ثم فقد مضى قرضا إلى التناد
اقرضته الله على اعتمادي ثم بالطوع لامن ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد ثم فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لاشك فخير زاد ثم قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح : ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت ، ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول :
بشرك الله بخير وفرح ثم مثلك ما أدى مالديه ونصح
قد متع الله عيالي ومنح ثم بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح ثم طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كم من عذق رداح ودار فياح لأبي الدحداح" .
قال ابن العربي : انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته وقدرته ومشيئته وقضائه وقدره حين سمعوا هذه الآية أقساما فتفرقوا فرقا ثلاثة :(1/473)
الفرقة الأولى : الرذلى ، قالوا : إن رب محمد محتاج والحاصل إلينا ونحن أغنياء ، فهذه جهالة لاتخفى على ذي لب ، فرد الله عليهم بقوله : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله والحاصل ونحن أغنياء .
الفرقة الثانية : لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل وقدمت الرغبة في المال فما أنفقت في سبيل الله ولا فكت أسيرا ولا اعانت أحدا تكاسلا عن الطاعة وركونا إلى هذه الدار .
الفرقة الثالثة : لما سمعت بادرت إلى إمتثاله وآثر المجيب منهم بسرعة بماله كأبي الدحداح - رضي الله عنه - وغيره . والله أعلم . (1)
باب
الصدقة على الأقارب أفضل من عتق الرقاب
بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصدقة على الأقارب من أعظم القربات إلى الله تعالى ، بل أفضل من عتق الرقاب .
فعن كريب مولى بن عباس رضي الله عنهما ، أن – أم المؤمنين - ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته : أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه .
قالت : أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي .
قال : أو فعلت .
قالت : نعم .
قال : أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" . (2)
__________
(1) ) ) تفسير القرطبي (3/237) .
(2) ) ) أخرجه البخاري برقم (2452) ، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها ، ومسلم برقم (999) ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين .(1/474)
قال ابن حجر في الفتح : "قال بن بطال : فيه : أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق ، ويؤيده ما رواه الترمذي ، والنسائي ، وأحمد ، وصححه بن خزيمة وابن حبان ، من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعا : "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة" (1) ، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون هبة ذي الرحم أفضل مطلقا لاحتمال أن يكون المسكين محتاجا ونفعه بذلك متعديا والآخر بالعكس ...". (2)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن رجل وهب لأولاده مماليك ثم قصد عتقهم فهل الأفضل استرجاعهم منهم وعتقهم أو ابقاؤهم في يد الأولاد؟ فأجاب : الحمد لله إن كان أولاده محتاجين إلى المماليك فتركهم لأولاده أفضل من استرجاعهم وعتقهم ، بل صلة ذي الرحم المحتاج أفضل من العتق ، كما ثبت في الصحيح أن ميمونة زوج النبي أعتقت جارية لها فذ كرت ذلك للنبي ، فقال : "لو أعطيتها أخوالك كان خيرا لك" ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فضل إعطاء الخال على العتق فكيف الأولاد المحتاجون ، وأما إن كان الأولاد مستغنين عن بعضهم فعتقه حسن ، وله أن يرجع في هذه الهبة عند الشافعي وأحمد وغيرهما ولا يرجع فيها عند أبى حنيفة والله أعلم . (3)
فوائد الحديث :
قال النووي : قوله: - صلى الله عليه وسلم - في قصة ميمونة حين أعتقت الجارية : "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" .
فيه : فضيلة صلة الأرحام والاحسان إلى الاقارب وأنه أفضل من العتق . وفيه : الاعتناء بأقارب الأم اكراما بحقها وهو زيادة في برها .
وفيه : جواز تبرع المرأة بمالها بغير اذن زوجها . (4)
- - -
باب
إنفاق بعض السلف
__________
(1) رواه الترمذي، وحسنه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(892).
(2) ) ) فتح الباري (5/219) .
(3) ) ) مجموع الفتاوى (31/298) .
(4) ) ) شرح النووي (7/86) .(1/475)
قال ابن وهب : أنفقَ ربيعة على إخوته أربعين ألفَ دينار ، ثم كان بَعْدُ يسألُ إخوانه في إخوانه .
وقال المروذي : قال ابنُ وهب : سمعت بشر بن الحارث يقول : ولقد جاءني صديق لي وعندي عشرون درهماً فأعطيته تسعةَ عشرَ درهماً وبقَّيْتُ درهماً ، ففيهم اليوم مَنْ يفعل هذا بصاحبه؟.
وأبلغ من هذا ما قال هارون المستملي : لقيتُ أحمد فقلت : ماعندنا شيء ، فأعطاني خمسة دراهم ، وقال : ماعندنا غيرُها. (1)
كتاب الطعام
وآداب الأكل
للطعام آداب وأحكام بينها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلم ان يتقيد بها فمنها .
باب
فضل التسمية على الطعام
والأكل مما يلي الآكل
عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنهما، قال: كنتُ غلاماً في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا غلام سم الله، وكل بيمينك ، وكل مما يليك" فما زالت تلك طِعمتي بعد" (2) .
في هذا الحديث ثلاثة آداب في الأكل علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الغلام :
1- "سم الله" التسمية ، ولفظ التسمية أن يقول الآكل : " بسم الله "، ولايقول بسم الله الرحمن الرحيم كما يفعل بعض الناس .
2- "كل بيمينك" الأكل باليمين ، وهو واجب لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : والأكل بشماله فهو آثم عاصٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن عصى الرسول فقد عصى الله ، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله . (3)
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح (2/87).
(2) رواه البخاري برقم(5061)، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، واللفظ له، ومسلم برقم (2022)، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما .
(3) ) ) شرح رياض الصالحين (3/39) .(1/476)
3- "كل مما يليك" على العبد أن يأكل مما يليه من القصعة ، أي من جهته ، ولا يأكل من جهة غيره لأن فيه سوء أدب ، ولكن قال العلماء : إلا أن يكون الطعام أنواعاً ، مثل أن يكون فيه قرع وباذنجان ولحم وغيره ، فلا بأس أن تتخطى يدك إلى هذا النوع أو ذاك ، كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتتبع الدُبَّاء من الصحفة ويأكلها ، والدباء يعني القرع .
وكذلك لو كنت تأكل وحدك فلا حرج أن تأكل من الطرف الآخر ، لأنك لا تؤذي أحداً في ذلك. (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل طعاماً في ستةٍ من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أما إنه لو سمى لكفاكم" (2) .
وعن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء" وإذا دخل الرجل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء" (3) .
كل ما يذكر إسم الله عليه ييأس الشيطان منه فإذا غفل حلَّ فيه غفلته ونال مراده منه، والشيطان يبيت في البيوت التي لم يذكر الله تعالى فيها ويأكل من طعام أهلها إذا لم يذكروا إسم الله عليها.
__________
(1) ) ) أنظر شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى (3/39) .
(2) رواه ابن حبان والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، صححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2107).
(3) رواه مسلم وأبو داوود ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وأحمد (3/346 و 383) والبخاري في الأدب المفرد(1096).(1/477)
وعن أمية بن مخشي الصحابي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً ورجل يأكل فلم يُسمِ حتى لم يبقَ من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه" (1) .
الشيطان يشارك في طعام من لم يذكر إسم الله عليه إن ذكر الله على الطعام ولو لم يبق منه إلا جزء يسير يحرم الشيطان من كل ما كان قد أكل قبل.
قال ابن القيم رحمه الله : وللتسمية في أول الطعام والشراب، وحمد الله في آخره تأثيرٌ عجيب في نفعه واستمرائه ، ودفع مضرته. قال الإمام أحمد: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا ذكر اسم الله في أوله، وحُمد الله في آخره، وكثرت عليه الأيدي، وكان من حِل" (2) .
وفائدة التسمية قبل الطعام أنه يحرم الشيطان من المشاركة في الأكل والإصابة منه، فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: كنا إذا حضرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جارية كأنها تُدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يُدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان يستحلُّ الطعام أن لا يُذكر إسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية يستحل بها، فأخذت بيدها. فجاء بهذا الأعرابي يستحلُّ به، فأخذتُ بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها" (3) .
نأخذ من هذا الحديث احترام الصحابة الكرام للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأدبهم معه رضي الله عنهم .
__________
(1) رواه أبو داوود، والنسائي ، المشكاة رقم (4203)، والكلم رقم (183) ، والرياض (735).
(2) زاد المعاد (4/232).
(3) رواه الإمام أحمد برقم (22738) ، ورواه مسلم برقم (2017)، ، أبو داوود برقم (3766).(1/478)
وتقديم الكبير على الطعام ولا يتقدم عليه أحد قبل أن يأكل وهذا من الأدب ، لأن من تقدم وأكل قبل الكبير فيه سوء أدب .
وكذلك فيه التسمية قبل الأكل ، فعلى كل فرد أن يسمي ولا يكفي تسمية البعض إذا كانوا جميعاً بل كل يسمي لنفسه .
وفي الحديث من الفوائد أن للشيطان يداً ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمسكه من يده .
باب
البركة في وسط الطعام
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" (1) .
على العبد أن لايأكل من أعلى الصحفة لأن البركة تنزل في أعلاها ، ولكن عليه أن يأكل من الجوانب .
ويدل على هذا إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن أبي سلمة رضي الله عنهما، حيث قال: كنتُ غلاماً في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا غلام سم الله، وكل بيمينك ، وكل مما يليك" فما زالت تلك طِعمتي بعد" (2) .
وتقدم الحديث مع شرحه قبل صفحات .
باب
عدم عيب الطعام واستحباب مدحه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،قال:"ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه". (3)
__________
(1) أخرجه أبو داوود برقم (3772) والترمذي (1805) وابن ماجه (3277) وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2123).
(2) رواه البخاري برقم(5061)، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، واللفظ له، ومسلم برقم (2022)، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما .
(3) ) ) رواه البخاري برقم (3370)، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم برقم (2064)، باب لا يعيب الطعام .(1/479)
قال الصنعاني رحمه الله : فيه إخبار بعدم عيبه صلى الله عليه وآله وسلم للطعام وذمه له فلا يقول هو مالح أو حامض أو نحو ذلك، وحاصله أنه دل على عدم عنايته صلى الله عليه وآله وسلم بالأكل بل ما اشتهاه أكله وما لم يشتهه تركه، وليس في تركه ذلك دليل على أنه يحرم عيب الطعام.اهـ. (1)
وعن جابر - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهلهُ الأُدمَ فقالوا: ما عندنا إلا الخل، فدعا به، فجعل يأكلُ به ويقول : "نِعمَ الإدامُ الخَلّ نِعمَ الإدامُ الخَلّ! نعمَ الإدام الخَلّ! " قال جابر : فما زلتُ أُحبُّ الخلَّ منذ سمعتُها من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
باب
ما يقول إذا فرغ من الطعام
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله تعالى ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها" (3) .
فيه أن الذي يحمد الله بعد الأكل أو الشرب سبب لرضاء الله سبحانه وتعالى وقد جاءت صفة التحميد في البخاري" الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا ، وجاء غير ذلك ولو اقتصر على الحمد حصل أصل السنة.
وعن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه (4) .
باب
ما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع
__________
(1) ) ) سبل السلام (3/160) . .
(2) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم (2052).
(3) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6868)، والترمذي في الأضحية برقم(1816).
(4) رواه أبو داوود والترمذي وابن ماجه، صحيح أبي داوود(3261).(1/480)
عن وحشي بن حرب - رضي الله عنه - أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال: "فلعلكم تفترقون" قالوا: نعم. قال: " فاجتمعوا على طعامكم واذكروا إسم الله يُبارك لكم فيه" (1) .
الفرقة تسلب البركة والاجتماع يورث الشبع والبركة.
الشيطان قادر على الفرد وإيقاعه في مصايده ومكايده لأنه يأكل من الغنم القاصية وأما الجماعة فهو بعيد من النيل منها لأن يد الله على الجماعة.
وذكر إسم الله عند الأكل واجب وهو محصل للبركة المرجوة بتكثير الطعام.
قيل للإمام أحمد : أيما أحب إليك يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق؟ قال: يرافق، هذا أرفق يتعاونون، وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره، ولا بأس بالنهد، قد تناهد الصالحون، كان الحسن إذا سافر ألقى معهم، ويزيد أيضاً بقدر ما يلقي، يعني في السر. أ.هـ (2)
باب
ما جاء في لعق الأصابع
عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: " إنكم لا تدرون في أيها البركة" (3)
وفي رواية له: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" (4) .
وفي رواية "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى
__________
(1) أخرجه أبو داوود برقم (3764) وابن ماجه برقم (3286) وأحمد (3/501) وغيرهم من طريق الوليد بن مسلم، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب برقم (2128)، والمشكاة برقم (4252).
(2) ) ) الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي (3/182) .
(3) رواه مسلم في كتاب الاشربة برقم (5268).
(4) رواه مسلم في كتاب الأشربة رقم (5269).(1/481)
فليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة" (1) .
لعق : لحس.
فليمط: فلينح وليزل.
البركة : الخير الكثير.
من أذى: من غبار أو تراب أو وسخ.
الطعام: الذي يأكله الإنسان فيه بركة ولا يدري أين هي.
وفي هذا الحديث من آداب الأكل :
منها : أن الإنسان إذا فرغ من أكلة فإنه يلعق الصحفة ويلعق أصابعه ، يعني يلحسها حتى لا يبقى فيها أثر الطعام فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ، فهذان أدبان :
الأول : لعق الصحفة ، والثاني : لعق الأصابع ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر أمته بشيء إلا وفيه بركة .
ولهذا قال الأطباء : إن في لعق الأصابع من بعد الطعام فائدة وهي تيسير الهظم ، لأن الأنامل هذه فيها مادة تفرزها عند اللعق بعد الطعام بعد الطعام تيسر الهظم ، ونحن نقول : هذا من باب معرفة حكمة الشرع فيما يأمر به وإلا فالأصل إننا نلعقها امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الناس لا يفهمون هذه السنة تجده ينتهي من الطعام وحافته التي حوله كلها طعام تجده أيضاً يذهب ويغسل دون أن يلعق أطابعه والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يمسح الإنسان يديه بالمنديل حتى يلعق أصابعه وينظفها من الطعام ثم بعد ذلك يمسح بالمنديل ثم بعد ذلك يغسلها إذا شاء .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم (5271).(1/482)
كذلك أيضاً من آداب الأكل : أن الإنسان إذا سقطت لقمة على الأرض فإنه لا يدعها لان الشيطان يحضر للإنسان في جميع شئونه كل شئؤنك من الأكل وشرب وجماع أي شيء يحضر الشيطان فإذا لم تسم الله عند الأكل شاركك في الأكل وصار يأكل معك ولذا تنزع البركة من الطعام إذا لم يسم عليه وإذا سميت على الطعام ثم سقطت اللقمة يعني طاحت من يدك فإن الشيطان يأخذها ولكن لا يأخذها ونحن ننظر لأن هذا شيء غيبي لا نشاهده ولكننا نعلمه بخبر الصادق والمصدوق عليه الصلاة والسلام يأخذها الشيطان فيأكلها وإن بقيت أمامنا حساً لكنه يأكلها غيباً هذه من الأمور الغيبية التي يجب أن نصدق بها .
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دلنا على الخير فقال " فليأخذها وليمط ما بها من الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان " خذها وأمط ما بها من أذى من تراب أو عيدان أو غير ذلك ثم كلها ولا تدعها للشيطان والإنسان إذا فعل هذا امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواضعاً لله عزوجل وحرماناً للشيطان من أكلها من أكلها حصل على هذه الفوائد والتواضع وحرمان الشيطان من أكلها هذه فوائد ثلاث ومع ذلك فإن أكثر الناس إذا سقطت اللقمة على السفرة أو على سماط نظيف تركها وهذا خلاف السنة .
وفي هذا الحديث من الفوائد : أنه لا ينبغي للإنسان أن يأكل طعاماً فيه أذى لأن نفسك عندك أمانة لا تأكل شيء فيه أذى من عيدان أو شوك وما أشبه ذلك وعليه فإننا نذكر الذين يأكلون السمك أن يحتاطوا لأنفسهم لأن الأسماك لها عظام دقيقة مثل الإبر إذا لم يحترز الإنسان منها فربما تدخل إلى بطنه وتجرح معدته أو أمعاءه وهو لا يشعر . (1)
باب طعام الوليمة
التحذير من أن يدعى الإنسان إلى طعام
فيمتنع من غير عذر والأمر بإجابة الداعي
__________
(1) شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (1/370-371) ، طبعة مكتبة الأنصار .(1/483)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك المساكين ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (1) .
ورواه مسلم أيضاً مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (2) .
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" (3) .
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه" (4) .
وفي روايةٍ لمسلم: "إذا دعيتم إلى كراعٍ فأجيبوا" (5) .
الكراع: مستدق الساق.
وعن جابر هو ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك" (6) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس" (7) .
وعن عكرمة قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول:
"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن طعامِ المتباريين أن يُؤكَلَ" (8) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5177)،ومسلم في كتاب النكاح برقم(1432).
(2) في كتاب النكاح برقم (1432).
(3) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم(5173)، ومسلم في كتاب النكاح برقم(1429).
(4) رواه مسلم في كتاب النكاح برقم (1429).
(5) في كتاب النكاح برقم (1430).
(6) رواه مسلم في النكاح برقم (1430).
(7) رواه البخاري في كتاب الجنائز برقم(1240)، ومسلم في كتاب السلام برقم(2162).
(8) صحيح الترغيب (2158)، والصحيحة (626).(1/484)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أنه كان يقول : "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ". (1)
قال ابن قدامة في المغني : ومعنى قوله شر الطعام طعام الوليمة والله أعلم أي طعام الوليمة التي يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء ولم يرد أن كل وليمة طعامها شر الطعام فإنه لو أراد ذلك لما أمر بها ولا ندب إليها ولا أمر بالإجابة إليها ولا فعلها ولأن الإجابة تجب بالدعوة فكل من دعي فقد وجبت عليه الإجابة، وإنما تجب الإجابة على من عين بالدعوة بأن يدعو رجلا بعينه أو جماعة معينين، فإن دعا الجفلى بأن يقول يا أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة، أو يقول الرسول أمرت أن أدعو كل من لقيت أو من شئت لم تجب الإجابة ولم تستحب لأنه لم يعين بالدعوة، فلم تتعين عليه الإجابة منصوص عليه ولا يحصل كسر قلب الداعي بترك إجابته وتجوز الإجابة بهذا لدخوله في عموم الدعاء .اهـ. (2)
باب
ما يقول من دعي إلى طعام فتبعه غيره
عن أبي مسعود قال: جاء رجل من الأنصار الغرماء أبا شعيب، فقال لغلام له قصاب: اجعل لي طعاما يكفي خمسة فإني أريد أن أدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - خامس خمسة فإني قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم فجاء معهم رجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن هذا قد تبعنا فإن شئت أن تأذن له فأذن له وإن شئت أن يرجع رجع فقال لا بل قد أذنت له" . (3)
__________
(1) (( رواه البخاري برقم (4822)، باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله ، ومسلم برقم (1438)، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة .
(2) (( المغني (7/213) .
(3) (( رواه البخاري برقم (1975)، باب ما قيل في اللحام والجزار ، ومسلم برقم(2036)، باب ما يفعل الضيف إذا من دعاه صاحب الطعام واستحباب إذن صاحب الطعام للتابع .(1/485)
فوائد الحديث :أن المدعو اذا تبعه رجل بغير استدعاء ينبغى له أن لايأذن له وينهاه ، وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به ليأذن له، وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له إن لم يترتب على حضوره مفسدة بأن يؤذى الحاضرين أو يشيع عنهم ما يكرهونه أو يكون جلوسه معهم مزريا بهم لشهرته بالفسق ونحو ذلك، فان خيف من حضوره شىء من هذا لم يأذن له ، وينبغى أن يتلطف فى رده ولو أعطاه شيئاً من الطعام إن كان يليق به ليكون ردا جميلا كان حسناً . (1)
باب
النهي عن استعمال أواني الذهب والفضة
وتحريمه على الرجال والنساء
عن أمِّ سلَمَة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يشربُ في آنيَةِ الفِضَّةِ، إنما يُجَرْجِرُ في بطنهِ نارُ جَهنَّمَ" (2) .
وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الذي يأكلُ أو يشربُ في آنيةِ الذهَبِ والفضَّةِ، إنما يُجَرْجِرُ في بَطنه نارَ جَهنَّمَ".
وفي رواية أخرى له: "من شربَ في إناءٍ مِنْ ذهَبِ أو فضَّة، فإنَّما يُجرْجِرُ في بطنهِ ناراً مِنْ جَهنَّمْ".
قال ابن منظور : قوله "يجرجر": الجرجرة: الصوت، والجرجرة هي تردد هدير الفحل، وهو صوت يردده البعير في حنجرته وقد جرجر. وفي الحديث: "الذي يشرب في إناء الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" أي يَحدُرُ فيه، فجعل الشرب والجرع جرجرة ، وهو صوت وقوع الماء فيه . (3)
__________
(1) (( شرح النووي (13/208) .
(2) رواه البخاري في كتاب الأشربة برقم (5634)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2065).
(3) لسان الميزان (4/131)، مادة جرجر .(1/486)
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الشرب بها وليس ثمة نصٌ في علة هذا الحكم، والمسلم إذا جاءه الدليل من الكتاب أو من السنة الصحيحة، لا ينبغي له أن يتعداه قيد أنملة، ولا يتكلف التأويل ليستسيغ الفعل، وقد تطرق بعض أهل العلم لحكمة هذا النهي واختلفوا فيه، فمن هذه العلل: التشبه بالجبابرة وملوك الأعاجم، والسرف والخيلاء، وأذى الصالحين والفقراء الذين لا يجدون من ذلك ما بهم الحاجة إليه" (1) أ.هـ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبسَ الحَريرَ في الدنيا لَمْ يلبَسْهُ في الآخرةِ، ومَنْ شرِبَ الخمرَ في الدنيا لَمْ يشربْهُ في الآخِرَةِ، ومن شربَ في آنيَةِ
الذهَبِ والفضَّةِ لَمْ يشرَبْ بها في الآخرةِ ، ثم قال : لِباسُ أهلِ الجنَّةِ، وشرابُ أهلِ الجنَّةِ، وآنيةُ أهلِ الجنَّة" (2) .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تَلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيبَاجَ، ولا تشْرَبوا في آنيةِ الذهبِ والفضَّةِ، ولا تأكُلوا في صِحافِها، فإنَّها لهُمْ في الدنيا، ولكمُ في الآخِرَةِ" (3) .
الديباج: الثياب المتخذة من الإبريسم، وهو من أجود الحرير، فارسي معرب. النهاية.
صحاف: جمع صحفة: كالقصعة مسلطحة عريضة. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة ونحوهم، اللسان.
__________
(1) التمهيد (16/105) وانظر فتح الباري (10/97).
(2) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2112).
(3) رواه البخاري في كتاب الأطعمة برقم (5426)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2067).(1/487)
قال الإسماعيلي: قوله: "ولكم في الآخرة" أي: تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويمنعه أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعماله. قلت: (أي: ابن حجر): ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى الذي يتعاطى ذلك في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر" (1) .أ.هـ.
باب
النهي عن الأكل والشرب بالشمال
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يأكُلنَّ أحدكم بشمالهِ، ولا يشْرَبَنَّ بها، فإنَّ الشيطانَ يأكلُ بشمالِهِ ويشربُ بِها".
قال: وكان نافعُ يزيد فيها: "ولا يأخُذْ بها، ولا يُعْطِ بها" (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليأكل أحدُكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينهِ، وليُعْطِ بيَمينهِ، فإن الشيطان يأكل بشمالِهِ، ويشرب بشِمالهِ، ويُعطي بشِمالهِ، ويأخذ بشِمالِه" (3) .
قال ابن الجوزي: لما جُعلت الشمال للاستنجاء ومباشرة الأنجاس، واليُمنى لتناول الغذاء، لم يصلح استعمال أحدهما في شغل الأخرى لأنه حطاًّ لرتبة ذي الرتبة، ورفع للمحطوط، فمن خالف ما اقتضته الحكمة وافق الشيطان.أ.هـ. (4)
باب
المؤمن يأكل في معي واحد والكافر في سبعة أمعاء
والكف عن الجشاء
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المسلم يأكل في معىً واحد والكافر في سبعة أمعاء" (5) .
__________
(1) فتح الباري (10/98).
(2) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم (2020)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (1089)، والترمذي بدون الزيادة.
(3) رواه ابن ماجة. وقال الألباني صحيح لغيره، صحيح الترغيب برقم (214) ، والسلسلة الصحيحة برقم (1236).
(4) )) كشف المشكل (2/594) .
(5) رواه البخاري في كتاب الأطعمة برقم (5396)، ومسلم في كتاب الأشربة برقم (2061).(1/488)
وعن أبي حُجيفَةَ - رضي الله عنه - قال: "أكلت ثريدَةً من خُبزٍ ولحم ثُم أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلتُ أتجشأُ فقال: "يا هذا ! كُفَّ مِنْ جُشائِكَ، فإنَّ أكثر الناسِ شِبعَاً في الدنيا، أكثرُهُم جوعاً يومَ القيامةِ" (1) .
وفي رواية للبخاري : أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً فأسلم فكان يأكل أكلاً قليلاً فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن المؤمن يأكل في معىً واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء" (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن أهْل الشِبَع في الدنيا هُم أهْلُ الجوعِ غداً في الآخِرَةِ" (3) .
وفي رواية لمسلم: أضاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضيفاً كافراً فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاةِ فحُلبت فشرب حلابها ثم أخرى فشرب حلابها ثم أخرى فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبع شياهٍ ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاةٍ فشرب حِلابها ثم أخرى فلم يستتمه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المؤمن ليشرب في معىً واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء" (4) .
الحِلاب: اللبن الذي يحلبه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزنُ عند الله جناح بعوضة" (5) .
وروي عن عطية بن عامر الجهني قال: سمعتُ سَلْمانَ رضي الله عنه وأُكْرِهَ على طعامٍ يأْكُلُه، فقال: حَسْبي إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا، أطولُهُم جوعاً يومَ القيامَةِ".
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (2136)، والإرواء (7/41ـ43).
(2) في كتاب الأطعمة برقم (5397).
(3) صحيح الترغيب رقم (2138).
(4) في كتاب الأشربة برقم (5063).
(5) رواه البخاري في كتاب التفسير برقم (4729)، ومسلم في كتاب صفة القيامة برقم (2785).(1/489)
وزاد البيهقي في رواية: "يا سلمان الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافِر" (1) .
باب
التحذير من الأكل مُتكئاً أو منبطحاً على وجهه
روى أبو جحيفة أنه قال: "كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لرجل عنده لا آكُلُ وأنا متكئ" (2) .
قال ابن حجر: وإذا ثبت كونه مكروهاً أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى.أ.هـ. (3)
ووجه الكراهة في ذلك أن هذه الهيئة من فعل الجبابرة وملوك العجم، وهي جلسة من يريد الإكثار من الطعام.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مطعمين، عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن يأكل وهو منبطح على بطنه" (4) .
باب
النهي عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير
قال الله تعالى: { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس } (5) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه" (6) .
باب
جواز الشرب قائماً والأفضل والأكمل الشرب قاعداً
عن الشعبي ، عن بن عباس رضي الله عنهما ، قال : "سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم " . (7)
__________
(1) صحيح الترغيب رقم (2139).
(2) انظر زاد المعاد (4/222)، وفتح الباري (9/452).
(3) فتح الباري (9/452) .
(4) رواه أبو داود (3774)، ورواه ابن ماجة برقم (3370)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (9874) .
(5) الأنعام (145).
(6) رواه مسلم في كتاب الشعر(2260)، وأبو داود في كتاب الأدب برقم(4939).
(7) رواه البخاري برقم (1556)، باب ما جاء في زمزم ، ومسلم برقم (2027)، باب في الشرب من زمزم قائما .(1/490)
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب قائماً وقاعداً". (1) .
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : "كنا نأكل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي ، ونشرب ونحن قيام". (2) .
وبوب الإمام النووي رحمه الله تعالى في رياض الصالحين (ص349) ، باب فقال : "باب بيان جواز الشرب قائماً"
"وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً" .
وقال في شرحه على مسلم (13/195) : وأما شربه - صلى الله عليه وسلم - قائماً فبيان للجواز فلا إشكال ولا تعارض ، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه . اهـ .
وعن عبد الملك بن ميسرة عن النزال قال : "أتى علي - صلى الله عليه وسلم - على باب الرحبة بماء فشرب قائما، فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم وإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت" . (3) .
وهذه الأحاديث صارفة إلى جواز الشرب قائماً ، حيث ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب قائمً ، فنقول أن الشرب جالساً أفضل وأكمل ، ومن شرب قائماً فلا شيء عليه والله أعلم .
قال النووي رحمه الله : "والصواب فيها أن النهى فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه - صلى الله عليه وسلم - قائماً فبيان للجواز فلا اشكال ولا تعارض، وهذا الذى ذكرناه يتعين المصير اليه" . (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي (1838) ، وهو حسن .
(2) أخرجه أحمد (4601) ، وابن ماجة (3301) ، والترمذي (1880) ، وهو صحيح .
(3) رواه البخاري برقم (5292)، باب الشرب قائما .
(4) شرح مسلم (13/195) .(1/491)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد كلامه على هذه الأحاديث : "فالحاصل أن الأكمل والأفضل أن يشرب الإنسان وهو قاعد ويجوز الشرب قائماً ، وقد شرب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قائماً ، وقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت ، فدل ذلك على أن السشرب قائماً لا بأس به ، لكن الأفضل أن يشرب قاعداً" .اهـ. (1) .
كتاب البيوع وغيرها
باب
النصيحة في البيع وغيره
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا" (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على صبرة طعامٍ فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال أصابته السماء يا رسول الله قال" أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟من غشنا فليس منا" (3) .
وعن تميم الداري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدين النصيحة" قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (4) .
وعن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة :أما بعد فإني أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أبايعك على الإسلام فشرط عليَّ : "والنصح لكل مسلم" فبايعتهُ على هذا وربِّ هذا المسجد إني لكم لناصح" (5) .
باب
تحريم الخيانة في النصيحة
والمستشار مؤتمن
__________
(1) شرح رياض الصالحين (3/62) .
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (101).
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (102).
(4) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (194)، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (4944).
(5) رواه البخاري في كتاب الإيمان برقم (58).(1/492)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أُفتي بغير علم؛ كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر، يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه". (1)
قال الطيبي: إذا عدى أشار بعلى كان بمعنى المشورة أي استشاره وسأله كيف أفعل هذا الأمر . (2)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المستشار مؤتمن" . (3)
قوله: "المستشار مؤتمن" قال المناوي: أي أمين على ما استشير فيه فمن أفضى إلى أخيه بسره وأمنه على نفسه فقد جعله بمحلها فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً فإنه كالإمامة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجل إلا عند موثوق به وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين وهو النصح للّه ورسوله وعامة المسلمين وبه يحصل
التحابب والإئتلاف وبضده يكون التباغض والاختلاف... قالوا يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل وفكر صحيح ورؤية حسنة واعتدال مزاج وتؤدة وتأنّ فإن لم تجمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته فلا يشير ولا ينصح قالوا : وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة .اهـ. (4)
باب
ما يقول إذا دخل السوق
__________
(1) أبو داود وغيره، وهو في صحيح الجامع برقم (6068)، والمشكاة برقم (242).
(2) فيض القدير .
(3) الحديث في السنن وعند البيهقي عن أبي هريرة وأم سلمة وابن مسعود، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم (6700) .
(4) فيض القدير .(1/493)
عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" من دخل السوق فقال: لا إله إ لا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة " (1) .
وفي رواية (وبنى له بيتاً في الجنة) وفيه من الزيادة:قال الرواي : فقدمت خراسان فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت: أتيتك بهدية فحدثته بالحديث فكان قتيبة بن مسلم يركب في موكبه حتى يأتي السوق فيقولها ثم ينصرف" (2) .
وفي رواية عن بريدة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل السوق قال: باسم الله إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها، وأعوذُ بك من شرها وشر ما فيها، اللهمّ إني أعُوذ بك أن أُصيب فيها يمينا فاجرةً، أو صفقةً خاسرة". (3)
قوله: "خير هذه السوق": أي ذاتها أو مكانها.
وقوله: "شرها": أي في ذاتها أو مكانها لكونه مكان إبليس.
وقوله: "وشر ما فيها": ايسس مما يشغل عن ذكر الرب سبحانه وتعالى، أو ما يقع في السوق من غش وخيانة وما شابه ذلك.
__________
(1) صحيح الترمذي (2726) والكلم (229) والمشكاة (2431) وقال الألباني : حسن لغيره، صحيح الترغيب برقم (1694)، وصحيح الجامع رقم (6231) .
(2) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين من طرق كثيرة . صحيح الجامع رقم (6231).
(3) رواه الحاكم في المستدرك، وانظر المشكاة (2456).(1/494)
قال المناوي: إنما سأل خيرها واستعاذ من شرها لاستيلاء الغفلة على قلوب أهلها حتى اتخذوا الأيمان الكاذبة شعاراً والخديعة بين المتبايعين دثاراً فأتى بهذه الكلمات ليخرج من حال الغفلة فيندب لمن دخل السوق أن يحافظ على قوله ذلك فإذا نطق الداخل بهذه الكلمات كان فيه تحرزاً عما يكون من أهل الغفلة فيها، وهذا مؤذن بمشروعية دخول السوق أي إذا لم يكن فيه حال الدخول معصية كالصاغة وإلا حرم.اهـ. (1)
باب
السماحة في البيع والشراء
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "رحم الله عبدا سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى". (2)
قال الطيبي: رتب المحبة عليه ليدل على أن السهولة والتسامح في التعامل سبب لاستحقاق المحبة ولكونه أهلاً للرحمة وفيه فضل المسامحة في الاقتضاء وعدم احتقار شيء من أعمال الخير فلعلها تكون سبباً لمحبة الله تعالى التي هي سبب للسعادة الأبدية. (3)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ألا أخبركم بمن يحرم على النار ومن تحرم عليه النار على كل قريب هين سهل". (4)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء". (5)
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك، وانظر المشكاة (2456).
(2) رواه البخاري وابن ماجه واللفظ له والترمذي ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( غفر الله لرجل كان قبلكم كان سهلا إذا باع سهلا إذا اشترى سهلا إذا اقتضى).
(3) فيض القدير .
(4) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والطبراني في الكبير بإسناد جيد، صحيح الجامع رقم (2609) .
(5) رواه الترمذي وقال غريب والحاكم وقال صحيح الإسناد،صحيح الجامع رقم(1888)(1/495)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"اسمح يسمح لك". (1)
أما كون السماحة للتاجر الشحيح من أنفع العلاجات، فإن خلق البخيل في البيع والشراء هو التشاح، والتنازع، وأن السماحة لا ترجى من بخيل كما قال الشافعي :
ولا ترجو السماحة من بخيل فما في النار للظمآن ماء
وما السماحة إلا طيب الكلام والسهولة في التعامل ، والتنازل عن الحاجة وحسن البيع والشراء والتقاضي، والإفضال على الآخر .. وتتحقق هذه المنزلة العالية بالابتداء بالكلمة الطيبة كما مر معنا ذلك في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } . (2)
ولا تُتصور سماحة من غير كلمة طيبة ..
والوصية هنا أن تتخذ هذه السماحة صورة منهجية وليست نزعة فردية يتعامل بها أفراد معدودون في السوق المسلم، ويلزم لتحقيق هذا أن يوضع منهجٌ علميٌ عمليٌ واضحٌ لكل من أراد ـ من المسلمين ـ الصفق في الأسواق المختلفة في بلاد المسلمين خاصة وبلاد الدنيا عامة، وعلى أساس نجاح المتقدم لدخول السوق هذا أو ذاك تمنح له الإجازة الرسمية للعمل في السوق المسلم، وعلى أساس تطبيقه لها يمنح الاستمرارية أو تسلب عنه الإجازة..إن من أشد الناس حاجة لهذا المنهج العاملين في المصارف الإسلامية بمختلف بلدانها وأنشطتها، كما يحتاجه العاملون في الأسواق المركزية الكبرى والصغرى .. ويحتاجه كل من يتصدى للتعامل مع الناس وخصوصاً من يأخذ من الناس الرسوم سواء كان في مؤسسات رسمية أو أهلية، خاصة أو عامة..
__________
(1) رواه أحمد في مسنده، صحيح الجامع رقم (982) .
(2) سورة الأحزاب الآية (70،71) .(1/496)
وإن التعريف بخلق السماحة يقتضي التعريف بالأحكام المتعلقة بالمعاملات الشرعية، وإلا فما الفائدة إذا عَرَف السماحة دون أن يعرف الحكم الشرعي، إنه سوف يبيح كل شيء بناءً على تحقيق السماحة بكل طريق، وهذا مدخل شيطاني دخل إلى بعض المصارف الإسلامية فدخلت منه معاملات محرمة ومشبوهة بحجة السماحة..!
هكذا ينبغي أن يتعدى علاج الشح الحالات الفردية إلى أن يصبح مناهج عامة، ولا ينبغي أن ننتظر خروج المهدي كي نُطبِّق ما نعلم من حكم الله، أو ننتظر خليفة مسلماً يقوم بتطبيق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الناس، بل المطلوب أولاً هو البلاغ، ثم تطبيق ما نعلم ولو على أنفسنا بحدود قدرتنا، وهذان الأمران يتحققان على أحسن وجه حين يكتب أهل العلم والتربية والدعوة كتباً تصلح كمناهج تطبيقية عملية في هذا الأمر بحيث تكون كالمستشار الشرعي الذي يبين الطريق ويوضحه، وتكون كالدليل الذي يبين الخلاص من المآزق إذا وقعت...
يستطيع تطبيقها الفرد المسلم على نفسه، والمالك المسلم على أملاكه، والحاكم المسلم على بلده، فخلاص هذه الأمة مرتهن بالخلاص من الشح بجميع صوره، وهل مقر الشح ومركزه في الأرض إلا السوق..؟!
وللمسلم أن يتصور كم سيكون هذا العلاج مؤثراً ومزكياً، والشحيح يجاهد نفسه ويمارس السماحة قولاً وعملاً في كل معاملة من المعاملات طوال يومه وليلته ومع الأصناف المتنوعة المختلفة التي تطوف عليه كل وقت، مع تزاحم الحاجيات والطلبات ، أو مع استبطاء الرزق..؟!
عن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان - رضي الله عنه - اشترى من رجل أرضاً فأبطأ عليه، فلقيه فقال له: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني ، فما ألقى من الناس أحداً إلا وهو يلومني ، قال، أوذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/497)
" أدخل الله ـ عز وجل ـ الجنة رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً ".. (1)
باب
الترغيب في إقالة المسلم
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"من أقال مسلما بيعته أقاله الله عثرته يوم القيامة " . (2)
وفي رواية لابن حبان :"من أقال مسلما عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة". (3)
قوله: أقال: الإقالة في الأصل فسخ البيع، أي وافقه على فسخ البيع . (4)
__________
(1) أحمد (1/58) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر (1/335) إسناده صحيح، ورواه النسائي والبيهقي عن عثمان - رضي الله عنه - ،حسنه الألباني في صحيح الجامع رقم(243)
قوله: كان سهلاً: أي ليناً في حال كونه مشترياً وبائعاً وقاضياً، أي مؤدياً ما عليه ومقتضياً: طالباً ماله ليأخذه والقصد بالحديث الإعلام بفضل اللين والسهولة في المعاملات من بيع وشراء وقضاء واقتضاء وغير ذلك وأنه سبب لدخول الجنة موصل للسعادة الأبدية، وخص المذكورات لغلبة وقوعها وكثرة المضايقة فيها حتى في التافه لا لإخراج غيرها فجميع العقود والحلول كذلك . فيض القدير .
(2) الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود،والبيهقي والحاكم،وقال:صحيح على شرطهما،وقال ابن دقيق العيد: هو على شرطهما وصححه ابن حزم لكنه في اللسان نقل تضعيفه عن الدارقطني،وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(6071) .
(3) الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (982) .
(4) فيض القدير .(1/498)
من عادة الشحيح استغلال العثرة ، وانتهاز الفرصة ليذل قرينه فيكسب منه أكبر ربح ممكن، أو يمد له في الزمن مقابل نفع آخر كزيادة الثمن وهو الربا، فإذا ما أقال الشحيح نادماً، وقبل اعتذار صاحبه، وأعاد له الثمن أو السلعة فإنه يكون قد خرج عن طاعة شحه، وعمل بخلاف أمره ، فلكأنه قد تصدق عليه من غير أن يعطيه مالاً ... وهذا سر كون الإقالة علاجاً حقيقياً للشح ..
وعن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان رضي الله عنه اشترى من رجل أرضاً فأبطأ عليه، فلقيه فقال له: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني ، فما ألقى من الناس أحداً إلا وهو يلومني ، قال، أوذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أدخل الله ـ عز وجل ـ الجنة رجلاً كان سهلاً مشترياً وبائعاً وقاضياً ومقتضياً " . (1)
نعم إن العلاج بالإقالة يأتي حسب ظرفه وربما لا تقع للفرد أبداً، لكن الحقيقة أن الإقالة بمعناها الواسع تمر على الإنسان في عمره كثيراً في صورة معتذر عن خطأ ، أو متأسف عن تقصير ، أو نحو ذلك ... سواءً في البيت أو في العمل أو في التجارة وما إلى ذلك ، فهو ليس علاجاً محصوراً في صورة واحدة ، ولا موقفاً معيناً حتى يظن البعض أنه لا ينبغي أن يذكر كعلاج لندرته..!
إن الأبناء عادة ما يتشاحوّن في أمور صغيرة للغاية، وأحياناً لغير شيء، فكيف إذا كان ثمة عثرة من بعضهم ..؟!
ومن هنا تكمن أهمية إشاعة خلق إقالة العثرة بين الأبناء، والموظفين، وكل المتساكنين في منزل أو عمل أو سكن أو نحو ذلك ..
ولك أن تتصور كيف ستصبح الحياة بالالتزام هذا الخلق ، وما مصير الشح الداخلي إذا تعامل هؤلاء الأقران والأبناء بإقالة العثرة..
باب
النهي عن أكل الربا
وأنه من كبائر الذنوب
__________
(1) رواه أحمد 1/58 واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر 1/335 إسناده صحيح، صحيح الجامع رقم (243) .(1/499)
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون } . (1)
وقال تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } إلى قوله { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } . (2)
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } . (3)
وتقدم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها وأكل مال اليتيم". (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "...قال سبحانه: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . (5) فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله وأن يتقوا
النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي مع أنها معدة للكافرين لا لهم ...". (6)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لعن الله آكل الربا وموكله". (7)
وزاد الترمذي: "وشاهديه وكاتبه".
__________
(1) آل عمران الآية (130).
(2) البقرة الآية (275).
(3) البقرة : (278-279).
(4) رواه البخاري في كتاب الوصايا برقم (2766)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم(89).
(5) سورة آل عمران آية (131) .
(6) دقائق التفسير (2/460) .
(7) رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (1597)، والترمذي برقم (1206)، وابو داود برقم (3333)، وابن ماجة (2277)، والبيهقي (5/275) والطيالسي (343) ، وأحمد (1/393 و 394و 402 و 453) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني، إرواء الغليل (5/185).(1/500)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "آكل الربا وموكله وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة". (1)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه وأن أربى الربا عرض الرجل المسلم". (2)
وفي رواية عن أبي هريرة: "الربا سبعون بابا، أدناها كالذي يقع على أمِّه".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكِل الرِّبا وموكِله، وكاتِبَه، وشاهدَيه".
وقال: "هم سَواء". (3)
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرَجاني إلى ارضٍ مقدسةٍ، فانطلقنا حتى أتَينا على نهرٍ من دم فيه رجلٌ قائم - وفي رواية: "في النهر رجل سابح يسبح"- وعلى شطِّ النهر رجلٌ بين يديه حجارةٌ، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أرادَ أن يخرج رمى الرجلُ بحجرٍ في فيه فردَّه حيث كان، فجعل كلّما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيتُهُ في النهرِ؟ قال: آٍكِلُ الرِّبا". (4)
__________
(1) أخرجه النسائي (8/147) والطحاوي في مشكل الآثار (2/297) وأحمد في المسند (1/409و430و464-465) وابن حبان برقم (1154 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/387)وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بيحيى بن عيسى الرملي ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في التلخيص.
(2) أخرجه الحاكم وهذا لفظه، وابن ماجة، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم، صحيح الترغيب رقم (1851).
(3) رواه مسلم وغيره.
(4) رواه البخاري في البيوع وتقدم في الصلاة.(2/1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الكبائر سبع: اولُهُنَّ الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقِّها، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، وفرارُ يومِ الزحف، وقذفُ المحصَنَات، والانتقال إلى الأعرابِ بعدَ هجرتِهِ". (1)
وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعنَ المصوِّرين". (2)
وعن عبد الله بن حنظلة - غسيل الملائكة - رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "درهمُ رِباً يأكُله الرجلُ وهو يعلَمُ أشدُّ من ستَّةٍ وثلاثين زَنْية". (3)
قال الحافظ: "حنظلة والد عبد الله لُقِّب بغسيل الملائكة، لأنه كان يوم أحدٍ جنباً، وقد غسل أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فاستشهد، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - : "لقد رأيت الملائكة تغسِلُه".
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لَيَبيتنَّ أناسٌ من أمتي على أشرٍ وبطرٍ، ولَعب ولَهْوٍ، فيُصبحوا قردةً وخنازير باستحلالهم المحارم، واتخاذهم القينات، وشُربهم الخمر، وأكلهمُ الربا، ولِبسهم الحرير". (4)
__________
(1) رواه البزار من رواية عمرو بن أبي سلمة،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب رقم(1848)
(2) رواه البخاري في كتاب الطلاق برقم (5347).
(3) رواه أحمد والطبراني في الكبير وقال الترمذي: رجال أحمد رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1855)، والإرواء (3/167/713).
(4) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (1864).(2/2)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أمرَ الربا وعظَّم شأنه وقال: "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظمُ عند الله في الخطيئة مِنْ ستٍّ وثلاثين زَنْية يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرضُ الرجل المسلم". (1)
وروى أحمد عن كعب الأحبار قال: لأن أزني ثلاثا وثلاثين زنية، أحبُّ إليَّ من أن أكُلَ درهم رباً يعلم الله أني أكلته حيث أكلته رباً".
وفي رواية عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الربا اثنان وسبعون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أُمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تشتري الثمرة حتى تُطعم. وقال: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد احَلُّوا بأنفُسِهِم عذاب الله". (2)
وفي رواية عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ذكر حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما ظهر في قومٍ الزنا والربا، إلا أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله".
وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إياك والذنوب التي لا تغفر، الغُلول، فمن غلّ شيئاً أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا، فمن أكل الربا، بُعثَ يوم القيامة مجنوناً يتخبَّط، ثم قرأ: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } ". (3) . (4)
باب
ما جاء في الشرط
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغيبة، والبيهقي،وقال الألباني:صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (1856)
(2) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، صحيح الترغيب رقم (1859).
(3) سورة البقرة الآية (275)
(4) رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (1862).(2/3)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق" (1) .
قال النووي : صريح في ابطال كل شرط ليس له أصل في كتاب الله تعالى ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وإن كان مائة شرط"، أنه لو شرطه مائة مرة توكيدا فهو باطل، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأولى: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرطه مائة مرة" ، قال العلماء الشرط في البيع ونحوه أقسام أحدها شرط يقتضيه اطلاق العقد بأن شرط تسليمه الى المشترى أو تبقية الثمرة على الشجر الى أوان الجداد أو الرد بالعيب الثانى شرط فيه مصلحة وتدعو اليه الحاجة كاشتراط الرهن والضمين والخيار وتأجيل الثمن ونحو ذلك وهذان القسمان جائزان ولا يؤثران في صحة العقد بلا خلاف الثالث اشتراط العتق في العبد المبيع أو الأمة وهذا جائز أيضا ثم الجمهور لحديث عائشة وترغيبا في العتق لقوته وسرايته الرابع ما سوى ذلك من الشروط كشرط استثناء منفعة وشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يكريه داره أو نحو ذلك فهذا شرط باطل مبطل للعقد هكذا قال الجمهور وقال احمد لا يبطله شرط واحد وإنما يبطله شرطان والله أعلم .اهـ. (2)
باب
ما جاء في كلمات يقولها في قضاء الديَّن
والمهموم والمكروب والمأسور
__________
(1) رواه البخاري (كتاب البيوع) برقم (2579) ،باب الشروط في الولاء ، ومسلم (كتاب العتق) برقم (1504)، باب إنما الولاء لمن أعتق .
(2) شرح النووي على مسلم (10/142) .(2/4)
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال: " يا أبا أُمامة مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة" ؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله ، قال: " أفلا أُعلمك كلاماً إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟" قلت: بلى يا رسول الله ، قال: " قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " قال: فقلتهن، فأذهب الله همي وقضى عني ديني" (1) .
وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة" (2) .
وعن علي - رضي الله عنه - ، أن مكاتباً جاءه فقال: إني قد عجزت عن مكاتبتي فإعني. قال: ألا أُعلمك كلماتٍ علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان عليك مثل جبل (صبير) ديناً أداه الله عنك؟ قل: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك" (3) .
صُبير: هو بالصاد المهملة : اسم جبل باليمن. قاله في "النهاية".
__________
(1) أخرجه أبو داود في آخر كتاب الصلاة برقم (1555) من طريق احمد بن عبيد الله الغداني. وضعفه الشيخ الألباني في سنن أبي داود برقم (1555).
(2) أخرجه ابن السُني في عمل اليوم والليلة برقم (71) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - . وأبو داود في الأدب برقم (5081) موقوفاً على أبي الدرداء - رضي الله عنه - .
(3) رواه الترمذي واللفظ له وقال: (حديث حسن غريب)، والحاكم وقال : (صحيح الإسناد) ، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب برقم (1820).(2/5)
و عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصاب أحداً قط همٌّ ولا حَزَن فقال: " اللهم إني عبدك وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري ، وجلاء حزني، وذهاب همي".
إلا أذهب الله عز وجل هَمَّهُ، وأبدَلَهُ مكان حزنِهِ فرحاً" قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات ؟ قال: " أجل : ينبغي لمن سَمِعَهُنَّ أن يتعلمَهُنَّ" (1) .
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فإنه لم يدعُ بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم ، لا إله إلا الله ربُّ السماوات والأرض وربّ العرش الكريم" (3) .
باب
النهي عن إنفاق السلعة بالحلف الكاذب
__________
(1) رواه أحمد والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه، والحاكم وكلهم عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود وقال الحاكم: == == صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن عن أبيه، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (199)، وصحيح الترغيب برقم (1822).
(2) رواه الترمذي واللفظ له، والنسائي والحكم، وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1826).
(3) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6346)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم(2730).(2/6)
عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا فعسى أن
يربحا ربحاً ويمحقا بركة بيعهما اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب". (1)
منفقة: بفتح الميم والفاء بينهما نون، وهو الرواج ضد الكساد، محقه من المحق وهو النقص والإبطال.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات فقلت: خابوا وخسروا ومن هم يا رسول الله. قال: "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم: رجل على فضل ماء بفلاةٍ يمنعه ابن السبيل ورجل بايع رجلاً سلعةٍ بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه فأخذها وهو على غير ذلك ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها ما يريد وفى له وإن لم يعطه لم يف".
وفي رواية نحوه وقال: "ورجل حلف على سلعته لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبةً بعد العصر ليقتطع بها مال
امرئٍ مسلم ورجل منع فضل ماءٍ فيقول الله عز وجل له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك". (3)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2114)، ومسلم في كتاب البيوع برقم (1532).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (106).
(3) رواه البخاري في كتاب المساقاة برقم (2358)، وفي كتاب الشهادات برقم(2672) وفي كتاب التوحيد برقم (7446) وفي الأحكام برقم (7212)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (108).(2/7)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب". (1)
ومعنى الحديث: إن اليمين الكاذبة على البيع تروج السلعة وتنفقها ولكنها تذهب البركة منها.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق". (2)
باب
النهي عن اليمين الغموس
قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . (3)
سميت غموس: لأنها تغمس الحالف في الإثم وقيل تغمسه في النار.
عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس". (4)
وفي رواية في البخاري أيضا: أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما الكبائر. قال: "الإشراك بالله".
قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس".
قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يَقتَطع مال امرئٍ مسلمٍ -يعني- بيمين هو فيها كاذبٌ".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسباً، وسمع وأطاع، فله الجنة -أو دخل الجنة-.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2114)، ومسلم في كتاب البيوع برقم(1532).
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة برقم (1607).
(3) سورة آل عمران الآية (77).
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان رقم (6675).(2/8)
وخمس ليست لهن كفارة: الشركُ بالله، وقتلُ النفس بغير حقٍّ، وبَهْتُ مؤمنٍ، والفرار من الزَّحف، ويمينٌ صابرة يُقتطعُ بها مالٌ بغير حقٍّ". (1)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". (2)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى عليّ أني لا أغفر لفلان قد غفرت له وأحبطت عملك". (3)
يتألى: يحلف.
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بغير الله فقد كفر" وفي لفظ "فقد أشرك". (4)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف علي يمين ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان". قيل وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك". (5)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله". (6)
__________
(1) رواه أحمد، صحيح الترغيب (1836).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم(106)، وأبو داود في كتاب اللباس برقم(4087)، والترمذي البيوع برقم (1211)، والنسائي في كتاب البيوع (7/245).
(3) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2621).
(4) أخرجه الترمذي في أبواب الإيمان والنذور برقم (5335)، والحاكم في المستدرك (1/18)، والطيالسي (1896)، وأحمد (2/34 و 86 و 125)، وأبو داود(3251) ، والبيهقي (10/2/)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/359)، وابن حبان (1177 - موارد) وأبو نعيم ذكر أخبار أصبها (2/141)، والحديث صححه الحاكم على شرطهما وأقره الذهبي في التلخيص، وحسنه الترمذي. وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (3251).
(5) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم(137و139)،والنسائي في كتاب القضاء (8/46).
(6) رواه البخاري في كتاب الأدب برقم (6107)،ومسلم في كتاب الإيمان برقم(1647).(2/9)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحلف عبد عند هذا المنبر على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار". (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" (2) .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلفَ على مال امرئ مسلمٍ بغير حقهِ، لَقيَ الله وهو عليه غضبان"
قال عبد الله: ثمَّ قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقَهُ من كتاب الله عزَّ وجلَّ { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانِهم ثمناً قليلاً } إلى آخر الآية".
زاد في رواية بمعناه قال: فَدَخل الأشعثُ بن قيس الكنديِّ فقال ما يحدثكم ابو عبد الرحمن. فقلنا: كذا وكذا. قال: صدَقَ أبو عبد الرحمن، كان بيني وبين رجلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "شاهداك أو يمينه".
قلت: إذاً يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلفَ على يمين صبر يُقتطعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجرٌ، لقيَ الله وهو عليه غضبانٌ، ونَزَلت: { إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } إلى أخر الآية". (3)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند(2/329 و 515)،وابن ماجة في كتاب الأحكام برقم(2326)، والحاكم في المستدرك (4/297) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين == == فإن حسن بن يزيد هذا هو أبو يونس العابد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح فأجاد لأنه ليس على شرط الشيخين كما قال الحاكم فإن أبا يونس هذا لم يخرج له من الستة سوى ابن ماجة. وصححه العلامة الألباني في سنن ابن ماجة برقم (2326).
(2) السلسلة الصحيحة (1/131) و (3/155)، والمشكاة برقم (3419).
(3) رواه البخاري في كتاب المساقاة برقم (2356، 2357)، وفي كتاب الرهن رقم (2515، 2516)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (138).(2/10)
يمين الصبر: هي التي تلزم وتجبر عليها حالفها.
وعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ مِنْ (حَضرَمَوت) ورجلٌ من كِندَة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحَضرَميُّ: يا رسول الله! إنَّ هذا قد غلبني على أرضٍ كانت لأبي. فقال الكنديُّ: هي أرضي في يدي، أزرعُها، ليست له فيها حقٌ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: "ألك بيِّنة؟" قال: لا. قال: "فلك يمينُه". قال: يا رسول الله! إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما حَلَف عَليهِ، وليس يَتَورع عن شيءٍ، فقال: "ليس لك منه إلا يمينُه". فانطلق ليَحلِف فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أدبر: "لئن أحلف على مالٍ ليأكله ظُلماً، ليلقيَّنَّ الله وهو عنه مُعرِض". (1)
أفاد الخطابي قال: فيه دليل على أن اليمين إنما كانت في عهده - صلى الله عليه وسلم - عند منبره - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك لم يكن لإنطلاقه في مجلسه - صلى الله عليه وسلم - وإدباره عنه معنى.
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلَف على يمينٍ مصبورةٍ كاذبَةٍ، فليتبوّأ مقعَدَه من النار". (2)
قال الخطابي: "اليمين المصبورة: هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من أجلها إلى أن يحبس، وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، ومنه قولهم: قُتل فلان صبراً، أي: حبساً على القتل، وقهراً عليه. أ.هـ. (3)
وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "منِ اقتَطَع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه، فقد أوْجَبَ الله له النار، وحرَّم عليه الجنَّة".
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (139)، وأبو داود والترمذي.
(2) رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1837).
(3) معالم السنن (4/355).(2/11)
قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيباً من أراكٍ". (1)
ورواه مالك، إلا أنه كرر: "وإن كان قضيباً من أراكٍ -ثلاثاً-".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحلفُ عند هذا المِنبر عبدٌ ولا أمةٌ على يمينٍ آثمةٍ ولو على سواكٍ رَطْبٍ، إلا وجَبَت له النار". (2)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ حَلَفَ على يمينٍ آثمةٍ عند منبَري هذا، فليَتَبوَّأ مقعَده من النار، ولو على سِواك أخضر". (3)
وهذان الحديثان استدل بهما أبو عبيد الخطابي كذلك: على أن اليمين كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند المنبر.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنا نعد من الذنب ليست له كفارة، اليمينَ الغموسً. قيل: وما اليمين الغموس؟ قال: الرجل يقتَطعُ بيمينه مال الرجُل". (4)
وعن عبد الله بن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكبر الكبائر، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، والذي نفسي بيده لا يحلِفُ رجلٌ على مثلِ جَناحٍ بعوضةٍ، إلا كانت نُكتةً في قلبه يوم القيامة". (5)
ورواه البيهقي إلا أنه قال فيه: "وما حلفَ حالفٌ بالله يمين صَبرٍ، فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت نُكتةً في قلبه يوم القيامة".
باب
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (137)، والنسائي، وابن ماجة.
(2) رواه ابن ماجة وقال الألباني: صحيح، صحيح الترغيب (1842).
(3) رواه ابن ماجة -واللفظ له- وابن حبان في صحيحه ولم يذكر السواك، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1843).
(4) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1833).
(5) رواه الترمذي وحسنه، والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه واللفظ له، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3364).(2/12)
الوفاء بالوعد
قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً ن
َبِيّاً } . (1)
وقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } . (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". (3)
وعن الحسن بن عبيد الله قال: قلت لإبراهيم: الرجل يواعد الرجل الميعاد ولا يجيء؟ قال: لينتظر ما بينه وبين أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء. (4)
وعن شعبة رحمه الله،قال:ما واعدت أيوب موعداً قط،إلا قال لي حين يريد أن يفارقني: ليس بيني وبينك موعد،فإذا جئت وجدته قد سبقني. (5)
وعن أبي عوانة قال: كان رقبة رحمه الله يعدنا في الحديث، ثم يقول: ليس بيني وبينكم موعد يأثم من تركه، فيسبقنا إليه. (6)
وعن أبي اسحاق قال: كان أصحاب عبد الله - رضي الله عنه - ، يقولون: إذا وعد فقال: إن شاء الله، فلم يُخلف. (7)
??????
كتاب
اللباس والزينة
باب
ثواب ما يقول إذا لبس ثوباً
عن معاذ بن أنس الجهني الأنصاري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبس ثوباً جديداً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه" (8) .
__________
(1) سورة مريم الآية (الآية:54).
(2) سورة الإسراء الآية (الآية: 34).
(3) رواه البخاري برقم (33)، باب علامة المنافق ، ومسلم برقم (59)، باب بيان خصال المنافق .
(4) أخرجه ابن ابي الدنيا في الصمت برقم (460).
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/5) وابن أبي الدنيا في الصمت برقم (462).
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (463).
(7) أخرجه ابن ابي الدنيا في الصمت برقم (464).
(8) صحيح أبي داود (3394) والمشكاة (4374) الترغيب (2042).(2/13)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال : لبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثوباً جديداً فقال: الحمد لله الذي كساني ما أُواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من لبس ثوباً جديداً فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في كنف الله وفي حفظ الله وفي ستر الله حياً وميتاً" (1) .
وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبس ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" (2) .
باب
النهي عن لباس الشهرة
نجد في هذا الزمان كثيراً من الناس يتسابقون إلى ارتداء الملابس النفيسة وغالية الأثمان -وخصوصاً النساء- لكي يلفتوا إليهم أنظار الناس ولكي يشتهروا بها.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" (3) .
قال ابن الأثير: الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، ورواه البيهقي وغيره عن عبيد بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم عنه به. وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم (5395)و(5827).
(2) أخرجه أبو داود برقم (4023) بتمامه من طريق أبي مرحم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعاً.
(3) رواه أحمد برقم (5631) واللفظ له، وأبو داود برقم (4029) وابن ماجه برقم (3066)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (3399).
(4) عون المعبود المجلد السادس (11/50ـ51).(2/14)
قوله: "ثوب مذلة": أي ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، والمراد به ثوب يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوباً يتعزز به على الناس ويترفع عليهم (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وتكره الشهرة من الثياب، وهو المترفع الخارج عن العادة، والمنخفض الخارج عن العادة، فإن السلف كانوا
يكرهون الشهرتين، المرفع والمنخفض، وفي الحديث: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة" وخيار الأمور أوساطها" (2) .
وقال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز بها ويفتخر على غيره فيلبسه الله يوم القيامة ثوباً يشتهر مذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل. أ.هـ. عون المعبود.
باب
التحذير من إسبال الإزار تعززاً ونحوه
قال الله تعالى: { ولا تمش في الأرض مرحاً } (3) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" (4) .
قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار، فكني بالثوب عن بدن لابسه، ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة. (5)
وعنه قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً" (6) .
__________
(1) عون المعبود المجلد السادس (11/50ـ51).
(2) مجموع الفتاوى (22/138).
(3) سورة لقمان الآية (18 ).
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5787) باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار.
(5) فتح الباري (10/257) .
(6) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (1/382) باب من جر ثوبه من الخيلاء.(2/15)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينما رجل يمشي في حُلةٍ تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" (2) .
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" (3) .
وعن جابر بن سليم: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إياك وإسبال الإزار فإنها
من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة" (4) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (106)، وأبو داود في اللباس (4087) والترمذي في أبواب البيوع (1211)، والنسائي في البيوع (7/245)، والطيالسي في المسند (467).
(2) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5789)،ومسلم في كتاب اللباس برقم (2088).
(3) أخرجه أبو داود في اللباس (4094)، والنسائي كتاب الزينة (8/208)، وفي السنن الكبرى كما في تحفة الإشراف (5/385)، وابن ماجه في اللباس (3576) والبغوي في شرح السنة (12/9)، وهناد في الزهد (2/432).وقال الحافظ في الفتح (10/262) : أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي واستغربه ابن أبي شيبة وفيه عبدالعزيز بن أبي رواد فيه مقال.
(4) أخرجه أبو داود في اللباس (4/344)، وأحمد في المسند (5/64و94)، وعبدالرزاق في المصنف (11/82)، والبخاري في التاريخ الصغير (1/118)، والدولابي في الكنى والأسماء (1/20و66)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (ص18)، وابن حبان (350ـ مواد)، والمروزي في زوائد الزهد (360)، وأبو عبيد في الخطب والمواعظ (15).(2/16)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اذهب فتوضأ" فذهب فتوضأ ثم جاء فقال "اذهب فتوضأ" فقال له رجل: يا رسول الله ! مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره" (1) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" (2) .
نجد ممن يحتج بهذا الحديث على الإسبال، ويقولون نحن لا نفعل ذلك خيلاء ! فنقول لهم أنتم على حق إذا توفرت فيكم ثلاثة أمور.
الأول: أن يكون ثوبك قصيراً أصلاً، لأن أبا بكر كان إزاره قصيراً ويسترخي وأن أحد شقي إزارك يسترخي وليس من جميع جوانبه.
الثاني: أن تتعاهد ثوبك برفعه كلما سقط، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يفعل، فيكون ذلك بغير اختيار منك.
قال ابن حجر: "عند أحمد ـ أي في رواية عند أحمد ـ: "إن إزاري يسترخي أحياناً" قال: فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره، فإذا كان محافظاً عليه لا يسترخي لأنه كلما كان يسترخي شده. إ.هـ. (3)
الثالث: أن يشهد لك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنك ممن لا يفعله خيلاء !
وهذا الأمر الأخير منتفٍ الآن، ولا سبيل إليه. فتنبه رحمك الله.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة (638)، وفي اللباس (486)، وأحمد في المسند (4/67) من طريق أبي جعفر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة . وأخرجه النسائي في السنن الكبرى كتاب الزينة كما في تحفة الأشراف (11/188) عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواه البخاري في اللباس رقم (5791) باب من جر ثوبه من الخيلاء و(5784) باب من جر ثوبه من غير خيلاء.
(3) ) ) فتح الباري (10/266) .(2/17)
فإذا كان إسبال الثوب للخيلاء، فهذا لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
وإذا كان بشكل دائم وليس خيلاء وإنما يتبع للعادة فهذا ينطبق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار".
وهذا يتعذب عقوبة كما قال الخطابي رحمه الله.
وإذا كان لعارض طارئ ولا يكون فيه خيلاء فهذا لا بأس به. لوقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما خسفت الشمس: "فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد" (1) . قال ابن حجر (2) فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي. أ.هـ. وكذلك لوقوعه من أبي بكر - رضي الله عنه - كما مر معنا.
وقال أبو سعيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه" (3) .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبدالله! ارفع إزارك فرفعته ثم قال: زد فردت فما زلت أتحراها بعد" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً" (5) .
__________
(1) رواه البخاري برقم (5785).
(2) فتح الباري (10/267).
(3) رواه أبو داود في اللباس (4093) وأخرجه الطيالسي المسند (2228) وابن حبان (7/399-400 -مع الإحسان) ومالك في اللباس (12) والبغوي في شرح السنة (3080) وابن ماجة في اللباس (3573)، صحيح الجامع برقم (921).
(4) رواه مسلم في كتاب اللباس رقم (2086).
(5) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5788)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2087).(2/18)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خُيلاءَ" (1) .
وعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم". قال فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسِرُوا، من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". وفي رواية "المسبل إزاره" (2) .
المسبل: هو الذي يطول ثوبه ويرسله إلى الأرض كأنه يفعل ذلك تجبراً واختيالاً.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5783)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2085).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (106)، وأبو داود في اللباس (4087) ، والترمذي في أبواب البيوع (1211)، والنسائي في البيوع (7/245)، والطيالسي في المسند (467).(2/19)
قال ابن حجر : قوله من يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص وقد فهمت ذلك أم سلمة رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن بن عمر متصلا بحديثه المذكور في الباب الأول فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن فقال يرخين شبرا فقالت إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه لفظ الترمذي وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم فإنها ليست عنده وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار عن أم سلمة وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد بن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة وأخرجه النسائي من رواية يحيى بن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى ومع ذلك فله شاهد من حديث بن عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن بن عمر قال رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال أن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء قال النووي ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلا الإسبال من أجل ستر العورة لأن جميع قدمها عورة فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ومراده منع الإسبال لتقريره(2/20)
- صلى الله عليه وسلم - أم سلمة على فهمها إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال والحاصل أن للرجال حالين حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين وكذلك للنساء حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الفاء عن حميد عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال هذا ذيل المرأة وأخرجه أبو يعلى بلفظ شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا ولم يسم فاطمة قال الطبراني تفرد به الفاء عن حميد قلت و أو شك من الراوي والذي جزم بالشبر هو المعتمد ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبر لفاطمة شبرا ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا محتقر لمن ليس له مثله ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة ففي صحيح مسلم عن بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة. اهـ. (1)
باب
النهي عن لبس الرقيق من الثياب
ووجوب ستر العورة
قال الله تعالى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنُون } (2) .
__________
(1) فتح الباري (10/259) .
(2) سورة الأعراف (26 ـ 27) .(2/21)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( من الله على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش، فاللباس يستر العورات وهي السوآت، والريش ما يتجمل به ظاهراً ، فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات ) (1) إ.هـ.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجلُ إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (2) .
وعن المسور بن حمزه - رضي الله عنه - قال: أقبلت بحجرٍ أحمله ثقيلٍ وعليَّ إزارٌ خفيفٌ، قال: فانحل إزاري ومعي الحجر لم أستطع أن أضعه حتى بلغتُ به موضعه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ارجع إلى ثوبك فخذهُ ولا تمشوا عراة" (3) .
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: قلت: يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها". قال: قلت: يا رسول الله إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: " الله أحق أن يستحيا منه من الناس" (4) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/217).
(2) رواه أحمد في مسنده (1127)، ورواه مسلم برقم (338) ، والترمذي (2793) ، وابن ماجة برقم (661).
(3) رواه مسلم برقم (341)، وأبو داود برقم (4016).
(4) رواه أبو داود برقم (4017)، والترمذي برقم (2794)، وابن ماجة برقم (1920)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (3391).(2/22)
وروى يعلى - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله عز وجل حييٌ ستير يحبُ الحياءَ والسترَ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر" (1) .
البَراز : بالفتح: المكان الفضاء من الأرض البعيد الواسع.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون في آخر أُمتي رجال يركَبون على سُروجٍ كأشْباهُ الرِّحال، ينزلون على أبْوابِ المساجِدَ، نساؤهم كاسياتٌ عاريات، على رؤوسهنَّ كأَسْنِمَةِ البُخْتِ العِجافِ، العَنُوهُنَّ فإنَّهُنَّ مَلْعونَاتٌ. لَو كَان وراءَكُم أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ خَدَمَتْهُنَّ نساؤكم كما خَدَمَكُم نساءُ الأمَمِ قبلَكُمْ" (2) .
سُرُوج: جمع سراج .
الرحال: بالحاء المهملة جمع رحل: وهو كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير. كما في "المصباح المنير".
قال الألباني رحمه الله: الحديث يشير إلى السيارات التي تتجمع اليوم على أبواب المساجد يوم الجمعة، أو يوم إدخال الجنازة إلى المسجد للصلاة عليها، والمشيعون ينتظرون ولا يصلون ونساؤهم كاسيات عاريات.
__________
(1) رواه أبو داود برقم (4012) ورواه أحمد برقم (17509) والنسائي برقم (406). وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
(2) رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له ـ والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. السلسة الصحيحة (2682)، وصحيح الترغيب رقم (2043).(2/23)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صنفان مِنْ أهلِ النارِ لم أرَهُما: قومٌ معهم سياطٌ كَأذْناب البَقَرِ يضربونَ بها الناسَ، ونساءً كاسياتٌ عارياتٌ، مميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسُهنَّ كأسْنِمَةِ البُخْتِ المائلَةِ، لا يدْخُلْنَ الجنَّةَ ولا يجْدنَ ريحَها، وإنَّ ريحَها لتوجَدُ مِنْ مسيرَة كذا وكذا" (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها: أن أسماءَ بنت أبي بكر دخلَتْ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثيابٌ رِقاقٌ فأعرضَ عنها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا أسماءُ ! إنَّ المرأة إذا بلَغَت المحيضَ لم يَصلُح أنْ يُرى مِنْها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجْهِهِ وكَفَّيْهِ. (2) .
وللشيخ ابن عثيمين رحمه الله كلام في لبس الضيق من اللباس، نذكره للفائدة، فقال: لبس الملابس الضيقة التي تبين مفاتن المرأة وتبرز ما فيه الفتنة محرم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: رجالٌ معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس
__________
(1) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2128).
(2) رواه أبو داود وقال: هذا مرسل، وقال الألباني: حسن لغير ، صحيح الترغيب برقم (2045)، جِلباب المرأة (ص57 ـ 60).(2/24)
- يعني ظلماً وعدواناً- ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات ". فقد فسر قوله: "كاسيات عاريات " بأنهن يلبسن ألبسة قصيرة لا تستر ما يجب ستره من العورة، وفُسر بأنهن يلبسن ألبسة تكون خفيفة لا تمنع من رؤية ما وراءها من بشرة المرأة، وفُسرت بأن يلبسن ملابس ضيقة فهي ساترة عن الرؤية لكنها مبدية لمفاتن المرأة، وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس هذه الملابس الضيقة إلا لمن يجوز لها إبداء عورتها عنده وهو زوجها فإنه ليس بين الزوج وزوجته عورة لقول الله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } (1) .
وقالت عائشة: "كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه" (2) .
فالإنسان بينه وبين زوجته لا عورة بينهما، وأما بين المرأة والمحارم فإنه يجب عليها أن تستر عورتها، والضيق لا يجوز عند المحارم ولا عند النساء إذا كان ضيقاً شديداً يبين مفاتن المرأة (3) . أ.هـ.
باب
النهي عن ارتداء الملابس التي عليها صلبان أو تصاوير
انتشر بين الناس وخصوصاً الشباب منهم إلا من رحم الله ارتداء الملابس التي عليها صور أو صليب، ونرى بعض الشباب يدخلون المسجد وهم يرتدون ملابس عليها تصاوير أو صلبان.
__________
(1) سورة المؤمنون آية (5 ـ 6).
(2) رواه البخاري برقم (247)، باب غسل الرجل مع امرأته، ومسلم برقم (321) ، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة وغسل الرجل والمرأة في إناء واحد في حالة واحدة وغسل أحدهما بفضل الآخر .
(3) فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين (2/825 ـ 826) . ط دار عالم الكتب .(2/25)
فعن عائشة رضي الله عنها: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب فلم يدخل، فقلت أتوب إلى الله مما آذيت. قال: "ما هذه النمرقة؟" قالت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه الصورة" (1) .
وعنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه، وقال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" قالت فجعلناه وسادة أو وسادتين" (2) .
وعن عمران بن حطان، أن عائشة رضي الله عنها، حدثته: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه" (3) .
يتبين لنا فيما سبق أن التصاوير من ذوات الأرواح أو الصلبان إذا كانت على الملابس أو الستائر أو نحوها، لا يجوز لبسها أو تعليقها، فالواجب طمسها ونقضها.
فهل تصح صلاة من صلى بلباس فيه تصاوير أو صلبان؟
أجابت اللجنة الدائمة: لا يجوز له أن يصلي في ملابس فيها صور ذوات الأرواح من إنسان أو طيور أو أنعام أو غيرها من ذوات الأرواح، ولا يجوز للمسلم لبسها في غير الصلاة، وتصح صلاة من صلى في ثوب فيه صور مع الإثم في حق من علم الحكم الشرعي.
وفي جواب آخر لها عن لبس الساعة أو صليب قالت اللجنة: لا يجوز لبس الساعة أو صليب لا في الصلاة ولا في غيرها حتى يزال الصليب بحك أو بوية تستره، لكن لو صلى وهي عليه فصلاته صحيحة. والواجب عليه البدار بإزالة الصليب،لأنه من شعار النصارى،ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم (4) .
__________
(1) رواه البخاري برقم (5957)، ومسلم برقم (2107) .
(2) رواه البخاري برقم (5954)، ومسلم برقم (2107) .
(3) رواه البخاري برقم (5952) .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة رقم (3932) (6/178) .(2/26)
أما الصور التي تكون على النقود أو الأوراق الرسمية كالبطاقة الشخصية ونحوها، فلها حكم الضرورة، ولا تدخل في النهي والله أعلم.
باب
النهي عن لباس الحرير والذهب للرجل
قال الله تعالى: { ولباس التقوى ذلك خير } (1) .
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (2) .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة" (3) .
الخلاق: النصيب.
وقال - صلى الله عليه وسلم - :"حرم لباس الذهب والحرير على ذكور أمتي وأحل لإناثهم" (4) .
وقال حذيفة: "نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه" (5) .
الديباج: بكسر الدال: هو الثياب المتخذة من الإبريسم، فارسي معرب.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من شرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" (6) .
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص في الحرير للحكة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية (26) .
(2) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5834) ورواه مسلم في اللباس برقم (2073)
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم 5835)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2068) .
(4) أخرجه الترمذي في كتاب اللباس برقم (1720)، والنسائي في المجتبى كتاب الزينة (8/161) من حديث أبي موسى الأشعري في صحيح الترمذي (1404) .
(5) رواه البخاري في كتاب الأطعمة برقم (5426) وفي الأشربة برقم (5633) .
(6) رواه البخاري في كتاب الأشربة رقم (5634)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة رقم (2065).(2/27)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسهُ في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (1) .
وقال ابن الزبير:مَنْ لَبِسَه في الدنيا،لم يَدْخُلِ الجنَّة، قال الله تعالى: { ولبَاسُهُم فيها حرير } (2) .
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: أُهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حرير، فلَبسَه، ثم صلى فيهِ، ثم انْصرَف فَنَزَعهُ نَزْعاً شديداً كالكارِهِ لَهُ، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتقينَ" (3) .
الفروج: بفتح الفاء وتشديد الراء وضمها وبالجيم: هو القباء الذي شق من خلفه.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخَذّ حريراً فجعَلهُ في يَمينهِ، وذَهباً فجعلَه في شماله، ثم قال: "إنَّ هذينِ حرامٌ على ذكورِ أُمَّتي" (4) .
ورواه البيهقي وزاد: "حل لإناثهم".
وعن هشام بن أبي رقيه قال: سمعت مسلمة بن مخلد وهو على المنبر يخطُبُ الناسَ يقول: يا أيها الناسُ! أمَا لكم في العَصْبِ والكتَّانِ ما يُغنيْكُمْ عنِ الحريرِ؟ وهذا رجلٌ يخبرُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُمْ يا عقبةُ! فقام عقبة بن عامرٍ -وأنا أسمَع- فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من كَذبَ عليَّ متعَمّداً فليتبوأْ مقعَدهُ مِنَ النارِ".
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5830)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2069).
(2) رواه النسائي في الكبرى (5/465/9584)، وأحمد (1/37) والحاكم (4/191) وصححه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني : صحيح موقوف، إرواء الغليل (1/309) ، صحيح الترغيب (2/464) .
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5801) وفي كتاب الصلاة برقم (375) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2075).
(4) رواه أبو داود والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان (2/215/2)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب رقم (2049).(2/28)
وأشهدُ أني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لَبِسَ الحريرَ في الدنيا، حُرِمَهُ أن يَلْبَسه في الآخِرَةِ". (1)
العَصْب: بفتح العين وسكون الصاد مهملتين: هو ضرب من البُرود.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا استحلت أمتي خمساً فعليهمُ الدمار: إذا ظَهر التلاعُنُ، وشرِبوا الخمورَ، ولَبسوا الحريرَ، واتخَذوا القِيانَ، واكتَفى الرجالُ بالرجالِ والنساءُ بالنساءِ" (2) .
القيان: جمع قينة: هي الأمة المغنية، وتجمع على قينات أيضاً .
وعن عبد الله بن عمرُ رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ماتَ مِنْ أُمتي وهو يَشربُ الخمرَ، حرَّم الله عليه شُرْبَها في الجنَّةِ، ومّنْ ماتَ من أمتي وهو يتحَلَّى بالذهَبِ، حرّمَ الله عليه لِباسَهُ في الجنَّةِ" (3) .
وعن خليفة بن كعب قال:
سمعتُ ابن الزبير يخطُب ويقول: لا تُلبِسوا نساءَكم الحريرَ، فإنِّي سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تَلْبَسوا الحريرَ، فإنّهُ منْ لبسَهُ في الدنيا، لم يَلْبَسْهُ في الآخِرَةِ" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سره أن يسقيَه اللهُ الخمرَ في الآخرةِ، فليتركه في الدنيا، ومن سَرَّه أن يكسِيَه الله الحريرَ في الآخرةِ فليَتركه في الدنيا" (5) .
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (2052).
(2) حسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2054)، وانظر صحيح الجامع (4273) .
(3) رواه أحمد والطبراني وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب (2059).
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5834)ومسلم في اللباس والزينة برقم(2069) .
(5) رواه الطبراني في الأوسط، وقال العلامة الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب رقم (2065) .(2/29)
وعن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر ـ والله ما كذبني ـ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستحلون الخمر والحرير"
وذكر كلاماً قال:"يُمسَخُ منهم آخرون قردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة" (1)
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحرير المحض: هل يجوز للخياط خياطته للرجال؟ وهل أجرته حرام؟ وهل ينكر عليه لذلك؟ وهل تباح الخياطة بخيوط الحرير في غير الحرير؟ وهل تجوز خياطته للنساء؟.
فأجاب: الحمد لله . لا يجوز خياطة الحرير لمن يلبس لباساً محرماً. مثل لبس الرجل للحرير المصمت في غير حال الحرب، ولغير التداوي، فإن هذا من الاعانة على الاثم والعدوان. وكذلك صنعة آنية الذهب والفضة، على أصح القولين عند جماهير العلماء. وكذلك صنعة آلات الملاهي، ومثل تصوير الحيوان، وتصوير الأوثان، والصلبان، وأمثال ذلك مما يكون فيه تصوير الشيء على صورة يحرم استعماله فيها.
وكذلك صنعة الخمر، وأما أمكنة المعاصي والكفر ونحو ذلك، والعوض المأخوذ على هذا العمل المحرم خبيث، ويجب إنكار ذلك. وأما خياطته لمن يلبسه لبساً جائزاً فهو مباح: كخياطته للنساء، وإن كان الرجل يمسه عند الخياطة، فإن هذا ليس من المحرم، ومثل ذلك صناعة الذهب والفضة لمن يستعمله استعمالاً مباحاً.
ويجوز استعمال خيوط الحرير في لباس الرجال، وكذلك يباح العلم والسجاف، ونحو ذلك مما جاءت به السنة بالرخصة فيه، وهو ما كان موضع إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة مكفوفة بحرير.
وسئل رحمه الله تعالى: عن خياط خاط للنصارى سير حرير فيه صليب ذهب. فهل عليه إثم في خياطته؟ وهل تكون أجرته حلالاً أم لا؟
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأشربة برقم (5590) .(2/30)
فأجاب: نعم! إذا أعان الرجل على معصية الله كان آثماً: لأنه أعان على الإثم والعدوان؛ ولهذا: لعن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر وعاضرها، ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها، وساقيها. وشاربها، وآكل ثمنا.
وأكثر هؤلاء كالعاصر والحامل والساقي إنما هم يعاونون على شربها؛ ولهذا ينهى عن بيع السلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً: كقتال المسلمين، والقتال في الفتنة، فإذا كان هذا في الإعانة على المعاصي، فكيف بالإعانة على الكفر، وشعائر الكفر.
والصليب لا يجوز عمله بأجرة، وغير أجرة، ولا بيعه صليباً، كما لا يجوز بيع الأصنام، ولا عملها. كما ثبت في الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام». وثبت عنه أنه لعن المصورين، وأنه كان لا يرى في البيت صورة إلا قَضَبَه. فصانع الصليب ملعون لعنه الله ورسوله.
ومن أخذ عوضاً عن عين محرمة، أو نفع استوفاه، مثل أجرة حمال الخمر، وأجرة صانع الصليب، وأجرة البغي، ونحو ذلك فليتصدق بها، وليتب من ذلك العمل المحرم، وتكون صدقته بالعوض كفارة لما فعله؛ فإن هذا العوض لا يجوز الانتفاع به؛ لأنه عوض خبيث، ولا يعاد إلى صاحبه لأنه قد استوفى العوض، ويتصدق به. كما نص على ذلك من نص من العلماء، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك، وغيرهم. (1)
__________
(1) )) مجموع الفتاوى (22/132-133) .(2/31)
قال ابن قيم الجوزية: إنما مسخوا قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن والظاهر مرتبط به أتم ارتباط وعقوبات الرب جارية على وفق حكمته وعدله، وقال ابن تيمية: المسخ واقع في هذه الأمة ولا بد وهو واقع في طائفتين علماء السوء الكاذبين على اللّه ورسوله الذين قلبوا دينه وشرعه فقلب اللّه صدورهم كما قلبوا دينه والمجاهرين المنهمكين في شرب الخمر والمحارم ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة.اهـ. (1)
وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرير للحاجة، أوالشيء اليسير من الحرير .
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثٍ أو أربع.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : فهذه أربعة أشياء تستثنى :
الأول : إذا كان لحاجة كالحكة ، ويكون مما يلي الجسد ، والحكمة في ذلك واضحة .
الثاني : إذا كان أربعة أصابع فأقل .
إذا كان مختلطاً والأكثر ظهوراً ما سوى الحرير .
والرابع : في الحرب من أجل إغاظة الكفار .
فهذه المواضع الأربعة لا بأس فيها من الحرير . (2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعَهُ وطرحه وقال: "يعمدُ أحدكم إلى جمرةٍ من نار فيطرحها في يدهِ".
فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خُذْ خاتمك وانتفع به. قال: لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
__________
(1) )) إغاثة اللهفان (1/267) .
(2) )) شرح رياض الصالحين (3/89) .
(3) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2090) .(2/32)
ويباح استخدام الذهب للرجال للضرورة، كما حدث لعرفجة رضي الله عنه. فعن عبدالرحمن بن طرفة أن جده عرفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من وِرق فأنتن عليه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتخذ أنفاً من ذهب (1) .
باب
تحذير المترجلة من النساء والمخنث من الرجال
قال الله تعالى: { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لعن الله الرجلة من النساء" (3) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنَّثينَ من الرجالِ والمترجلات من النساء" (4) .
(المخنث) بفتح النون وكسرها: مَنْ فيه انخناث وهو التكسر والتثني كما يفعله النساء لا الذي يأتي الفاحشة الكبرى.
والمترجلة: اللاتي يتشبهن بالرجال في الحركة والكلام والمخالطة ونحو ذلك.
وفي رواية للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين مِنَ الرجال بالنساء، والمتشبِّهات مِنَ النساءِ بالرجالِ" (5) .
وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يَدْخُلونَ الجنَّةَ أبداً: الديُّوث، والرُجلَةُ مِنَ النساءِ، ومُدْمِنُ الخَمرْ".
قالوا: يا رسول الله! أما مُدمنُ الخمرِ فقدْ عَرْفناه، فما الديُّوثُ؟
قال: "الذي لا يُبالي مَنْ دَخلَ على أهْلهِ"
قلنا: فما الرجُلَةُ مِنَ النساء؟ قال:
__________
(1) رواه أبو داود برقم (4232) وأحمد برقم (18527) والترمذي برقم (1770) والنسائي برقم (5161) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (3561) .
(2) سورة الشورى الآية (37) .
(3) أخرجه أبو داود في اللباس عن عائشة (4099)، صحيح الجامع برقم (5096) ، حجاب المرأة المسلمة (ص 67).
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5886).
(5) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5885).(2/33)
"التي تتشّبه بالرجالِ" (1) .
قال الإمام الذهبي رحمه الله: ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ من تحت النقاب، وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر والحرير والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها إلى غير ذلك إذا خرجت.
وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. وقال: "أخرجوهم من بيوتكم".
قال: فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلاناً، وأخرج عمر فلاناً (2) .
فيه لعن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيد شديد لهذا الصنف من الناس.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسةَ المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل" (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (4) .
__________
(1) صححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (2071).
(2) رواه البخاري في اللباس برقم (5885) و (5886).
(3) أخرجه أحمد في المسند (2/325) وابن حبان (5721) و (5722) مع الإحسان ، وأبو داود في اللباس برقم (4098) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/194) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2069) .
(4) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2128)ومالك في الموطأ كتاب اللباس(7). وأحمد في المسند (2/356و440) .(2/34)
قال الإمام النووي: هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين.أ.هـ. (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :"ألا هلك الرجال حين أطاعوا النساء" (2) .
باب
النهي عن القزع
نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القزع، وهو أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك البعض الآخر ، وهذا وللأسف الشديد كثير ومنتشر في زماننا وكثير ما يفعله عوام الناس فنسأل الله لنا ولهم الهداية
فعن نافع مولى عبد الله أنه سمع بن عمر رضي الله عنهما يقول : "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن القزع". (3)
قال عبيد الله قلت: وما القزع فأشار لنا عبيد الله قال إذا حلق الصبي وترك ها هنا شعرة وها هنا وها هنا فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه قيل لعبيد الله فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري هكذا قال الصبي، قال عبيد الله وعاودته فقال أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر وليس في رأسه غيره وكذلك شق رأسه هذا وهذا . (4)
وعنه - صلى الله عليه وسلم - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم عن ذلك، وقال: "احلقوه كله أو اتركوه كله" . (5)
__________
(1) شرح مسلم (14/13) .
(2) أخرجه أحمد في المسند(5/45) والطبراني كما في كنز العمال (16/287) وأبو نعيم ذكر أخبار أصبهان (2/37) وابن عدي الكامل في الضعفاء (2/475) والحاكم في المستدرك (4/291) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . فيض القدير (6/356) .
(3) ) ) رواه البخاري برقم (5576)، باب القزع، ومسلم برقم (2120)، باب كراهة القزع .
(4) ) ) رواه البخاري برقم (5576)، باب القزع، ومسلم برقم (2120)، باب كراهة القزع .
(5) ) ) رواه أبو داود برقم (4195)، باب في الذؤابة .(2/35)
قال ابن الأثير : القَزَعِ هو أن يُحْلَق رأسُ الصَّبيِّ ويُتْرك منه مواضعُ مُتَفَرِّقةٌ غير مَحْلوقة تشبيها بقَزَع السَّحاب . (1)
وأما بالنسبة للاناث فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حلق شعورهن ، لما روى النسائي عن علي - رضي الله عنه - قال : "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تلحق المرأة رأسها" .
حتى المولود إذا كان ذكراً يحلق رأسه أما الأنثى فلا يحلق .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : إذا ولد المولود فإنه يحلق رأسه يوم السابع مع العقيقة ، إذا كان ذكراً ، أما الأنثى فلا يحلق رأسها .اهـ. (2)
باب
النهي عن حلق اللحية
قال الله تعالى: { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك } (3) .
وقال تعالى: { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } (4) .
وقال جل في علاه: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدينُ القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (5) .
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن صورة، وزيَّنه في أحسن زينة، ومن الزينة التي زين الله سبحانه الرجال هي اللحية، حتى أن عائشة رضي الله عنها كانت كثيراً ما تحلف (والذي زين الرجال باللحى)، فاللحية هي من الزينة الظاهرة، ومن الفطرة التي فطر الناس عليها.
__________
(1) ) ) النهاية في غريب الحديث (4/59) .
(2) ) ) شرح رياض الصالحين (4/221) .
(3) سورة الانفطار الآية (6ـ7) .
(4) سورة التين الآية (4) .
(5) سورة الروم الآية (30) .(2/36)
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "عشرة من سنن الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاض الماء" (1) .
وقال الراوي ونسيت العاشرة لعلها المضمضة فهي من خصال الفطرة.
حد اللحية لغة وشرعاً:
قال المجد الفيروز آبادي في "القاموس المحيط": اللحية: بالكسرِ، شعر
الخدين والذَّقن(ِ (2) .
وقال الشيخ عبدالستار الدهلوي: فإذا فهمتَ ما جاء بكتب اللغة العربية عرفت حينئذٍ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين يقال له: لحية، ما عدا الشارب (3) .
والذي يحلق لحيته يكون مطيعاً للشيطان ومن المنفذين لأمره وهي تغيير وتبديل خلق الله.
قال الله تعالى حكاية عن الشيطان: { ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } (4) .
أي يأمرهم بتغيير الفطرة التي فطروا عليها.
فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله دون إذنٍ منه سبحانه وتعالى إطاعة لأمر الشيطان، وعصيان للرحمن جل جلاله. قال الشيخ التهانوي في تفسيره "بيان القرآن": أن حلق اللحية داخل في هذا التغيير.
أدلة تحريم حلق اللحية من السنة المطهرة:
__________
(1) رواه مسلم برقم (261)، وأحمد في مسنده (6/137)، وأبو داود برقم (53) ، والترمذي برقم (296)، والنسائي (8/126ـ127) ، وابن ماجة برقم (293) ، والدارقطني برقم (1/95)، والبغوي في شرح السنة (205) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/52،53) .
(2) القاموس المحيط (4/387) ،وكذلك الحافظ ابن حجر قال مثله في الفتح(10/350).
(3) جواهر السنة في إعفاء اللحية ، وانظر آداب الزفاف للشيخ الألباني (ص120).
(4) النساء (119).(2/37)
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خالفوا المشركين واتركوا اللحى وأعفوا الشوارب". وفي رواية: "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى" (1) .
قوله: "أنهكوا" النهك: التنقص، وهو المبالغة في كل شيء، والناهك والنهيك المبالغ في جميع الأشياء. فأنهكوا الشوارب أي بالغوا في الأخذ منها. (2) .
ولكن نجد بعضهم من يحلق شاربه، وهذا الفعل لا يجوز، وثبت عن الإمام مالك أنه قال: أنها مثلى.
وعنه أيضاً قال: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بإعفاء اللحية" (3) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "جزوا الشوارب وأعفوا اللحى" (4) .
فهذه الأحاديث بصيغة الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، والذي يخالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل في عموم قوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (5) .
وقال تعالى: { ما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب } (6) .
ورد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وأبو يعلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته (7) .
أقوال الأئمة في حلق اللحية
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: ما نصه: ويحرم على الرجل قطع لحيته."الدر المختار".
ومذهب المالكية: ويحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال. "التمهيد".
ومذهب الشافعية: قالوا بحرمة من حلق اللحية وكذا قصها إذا كان يحصل به مثله.
__________
(1) رواه البخاري برقم (5892،5893) ، ومسلم برقم (259).
(2) فتح الباري (10/351) .
(3) رواه مسلم برقم (259) وأحمد برقم (2/52) والترمذي برقم (2913) و (2914) والبيهقي (1/151) في سننه.
(4) رواه مسلم برقم (260) وأحمد (2/366).
(5) سورة النور الآية (63).
(6) سورة الحشر الآية (7).
(7) سورة الإحياء الآية (1/144).(2/38)
وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله على تحريم حلق اللحية. الأم.
ومذهب الحنابلة: اتفق جميع فقهاء المذهب على حرمة حلق اللحية حيث قال السفاريني: المعتمد في المذهب حرمة حلق اللحية. غذاء الألباب.
والمذهب الظاهري: قال ابن حزم رحمه الله: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا يجوز. مراتب الإجماع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد (1) .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه حديث: "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى": أنه وردت روايات خمس في ترك اللحية، وكلها على اختلاف ألفاظها تدل على تركها على حالها وقد ذهب كثير من العلماء إلى منع الحلق والاستئصال، لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإعفائها من الحلق ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في أن إطلاق اللحى من سنن الإسلام فيما عبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق الذي روته عائشة "عشرة من الفطرة".
ومما يشير إلى أن ترك اللحية وإطلاقها أمر تقره أحكام الإسلام وسسنه مما أشار إليه فقه الشافعي من أنه: "يجوز التعزير بحلق الرأس لا اللحية" وظاهر هذا حرمة حلقها على رأي أكثر المتأخرين.
ونقل ابن قدامة الحنبلي في المغنى: أن الدية تجب في شعر اللحية عند أحمد وأبي حنيفة والثوري، وقال الشافعي ومالك: فيه حكومة عدل.
وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " .
جاء في المصباح المنير : عفا الشيء : كثر . وفي التنزيل : " حتى عفواً " أي حتى كثروا . ومنه عفا بنو فلان إذا أكثروا . وعفوت الشعر أي تركته حتى يكثر ويطيل ومنه : " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " .
__________
(1) الاختيارات العلمية (ص6).(2/39)
وجاء في إكمال المعلم في شرح فوائد مسلم : قوله : " وأعفوا اللحى " وفي رواية " أوفوا اللحى " وهما بمعنى : أي اتركوها حتى تكثر وتطول ثم قال : وقال أبو عبيده في إعفاء اللحى : هو أن توفر وتكثر . يقال : عفا الشيء إذا كثر وزاد . وأعفيته أنا .
بعد أن ذكر الدبيان أدلة المانعين من قص اللحية قال وأجيب بجوابين :
الأول منهما قال : معنى أعفو اللحى أي أعفوها من الإحفاء . قال القاضي أبو وليد ويحتمل عندي أنه يريد أن تعفى من الإحفاء لأن كثرتها ليس بمأمور بتركه.
الجواب : كيف استجاز الدبيان أيراد هذا الكلام البارد الساقط بل الباطل الظاهر البطلان وجعله معنى أعفو اللحى . أرخوا اللحى .
وفروا اللحى مقلوب المعنى أي أعفوها من الإحفاء ؟ أي فهم هذا لكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم معنى الإعفاء الصحيح .
وقد قال الحافظ بن حجر : وفروا بتشديد الفاء من التوفير وهو الإبقاء أي أتركوها وافرة وإعفاء اللحية تركها على حالها . ذكره الدهلوي في كتابه "شمس الضحى في إعفاء اللحى" (ص10) .
قال القرطبي في المفهم (1/512) : لا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قص الكثير منها فأما أخذ ما تطاير منها وما يُشّوِّه ويدعو إلى الشهرة طولاً وعرضاً فحسن عند مالك وغيره من السلف . إنتهى . (1)
باب
تحذير الواصلة في شعرها والمتفلجة والواشمة
قال الله تعالى عن إفساد الشيطان للفطرة البشرية: { لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ولآضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } (2)
__________
(1) إشعار الحريص على عدم جواز التقصيص
(2) النساء (118و119).(2/40)
عن أسماء رضي الله عنها: أن امرأةً سألتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: يا رسولَ الله إنَّ ابنَتي أصابَتْها الحَصْبَة فتمرَّقَ شَعْرُهَا،، وإني زَوَّجْتُها، أفأصِلُ فِيهِ؟ فقال: "لعن الله الواصِلة والموصُولَةَ".
وفي رواية قالت أسماء: لعن النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصِلَةَ (1) .
الحصبة: مرض يصاب به الأطفال غالباً، وضرره في الكهول قليل.
قال النووي : وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا وهذا هو الظاهر المختار وقد فصله أصحابنا فقالوا إن وصلت شعرها بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف لعموم الأحاديث ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه وان وصلته آدمي فان كان شعرا نجسا وهو شعر الميتة وشعر مالا يؤكل إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث ولأنه حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمدا . (2) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "لعن الله الواشِمات والمستوشماتِ والمتَنَمِّصَاتِ والمتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ، المغيرات خلق الله" فقالت لهُ امرأةٌ من في ذلك فقال: وما لي لا ألْعَنُ مَنْ لعَنَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله؟
قال الله تعالى: { وما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكُم عنه فانْتَهُوا } قالت بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: إني أرى أهلك يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري: فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً.فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها" (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5941) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2122).
(2) شرح النووي (14/104) .
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5931و5939و5943)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2125).(2/41)
وعن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عامَ حَجٍّ، فقام على المنبر وتناوَل قُصَّةً من شَعَرٍ كانتْ في يد حَرَس فقال: يا أهل المدينة أين عُلماؤكم؟ سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنْ مثلِ هذه ويقول: "إنَّما هلَك بنو إسْرائيلَ حين اتخذ هذه نِساؤُهم" (1) .
وفي رواية: قدم معاوية المدينة، فخطَبنا، وأخرج كُبَّةً من شَعَرٍ، فقال: ما كنت أرى أنَّ أحداً يفعله إلا اليهود. إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَلَغَهُ، فسمَّاه "الزُّورَ" (2) .
وفي رواية: أنَّ معاوية قال ذاتَ يوم: إنكُم أحدثتم زيَّ سوءٍ، وإنَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى عنِ الزورِ.
قال: وجاءَ رجلٌ بعَصاً رأْسِها خِرْقَةٌ فقال مُعاويَةُ: ألا هذا الزُّورُ.
قال قتادة: يعني ما يكثِّر به النساءُ أشعارَهُنَّ مِنَ الخِرَق (3) .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" (4) .
الواصلة: هي التي تصل شعرها والمستوصلة: التي يوصل لها.
الواشمة: هي التي تزين جلد غيرها ببعض الرسوم أو النقط وخاصة في الوجه واليدين وذلك بغرز إبرة في المكان المراد وذر مادة ( النيلج ) عليه.
المتنمصة: النمص: ترقيق الحواجب وتدقيقها طلباً لتحسينها.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم(3468)،وكتاب اللباس برقم (5932)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2127).
(2) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5938)،ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2127).
(3) رواه البخاري برقم (3299)، ومسلم برقم (2127)، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله .
(4) رواه البخاري في اللباس (5931و5939و5940و5947)، ومسلم في اللباس رقم (2125).(2/42)
المتفلجة: الفلج تباعد ما بين الثنايا والمتفلجة: تفعل ذلك بأسنانها طلباً للحسن.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "ثمن الكلب والدم حرام وكسب البغي ولعن الواشمة والمستوشمة وأكل الربا وموكله ولعن المصورين" (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ جاريةً من الأنصارِ تزوَّجت، وأنَّها مرِضَتْ فَتَمَعَّطَ شعْرُها، فأرادوا أنْ يَصِلوها، فسألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لعن الله الواصِلَة والمسْتَوْصِلَة".
وفي رواية: أنَّ امرأةَ مِنَ الأنصار زوَّجت ابنتهَها، فتمعط شعْرُ رأسِها، فجاءَتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكَرتْ ذلك له وقالتْ: إنَّ زوْجَها أمَرني أنْ أصِلَ في شعرها. فقال: "لا إنَّه قد لُعِنَ الموصولاتُ" (2) .
معط شهرها: سقَط وتناثر.
واللعن لا يختص النساء فقط بل يدخل فيه الرجال إذا فعلوا ذلك، سواء نمصوا، أو وشموا، أو وصلوا الشعر الذي تسمى ( الباروكة )، أو تفلجوا للحسن.
ونجد وللأسف الشديد بعض الناس ينمصون سواء لنفسهم أو لغيرهم، فإذا فعلوا ذلك فإنهم آثمون هم والذين ينمصون لهم، فهم في الإثم سواء.
باب
النهي عن إظهار المرأة زينتها إلا لمن استثناهم الله
والتحذير من خروجها معطرة
قال الله تعالى: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن } (3) .
قال الشيخ السعدي رحمه الله: أي الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها.أ.هـ. تيسير الكريم الرحمن.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2238و2086).
(2) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5934)، وفي كتاب النكاح برقم (5205) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2123).
(3) سورة النور الآية (31).(2/43)
وقوله: { ولا يبدين زينتهن } أي الباطنة كالوجه والعنق والحلي والكفين، فلا يجوز لها إظهار هذه الزينة إلا لمن استثناهم الله عز وجل.
ثم قال تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } (1) . قال العلامة عبد الرحمن بن سعدي : أي: لا يضربن بأرجلهن، ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة إلى الفتنة. (2) .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ عينٍ زانيةٌ، والمرأةُ إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا. وكل عين زانيةٌُ" (3) .
وعن موسى بن يسار قال: مرت بأبي هريرة امرأةٌ وريحُها تَعصِفُ، فقال لها: أين تريدين يا أمةَ الجبار؟ قالت: إلى المسجد. قال: وتطيَّبْتِ؟ قالت: نعم. قال: فارْجعي فاغتسلي، فإنني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقبل الله من امرأةٍ صلاةَ خرجَتْ إلى المسجد وريحُها تَعْصِفُ حتى ترجع فتَغْتَسِلَ" (4) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيما امرأةٍ أصابت بخوراً فلا تشهدَنَّ مَعنا العِشاءَ -قال ابن نفيل:- الآخِرَةَ" (5) .
باب
نهي المرأة عن صبغ شعرها بالسواد
لا حرج إن شاء الله من استخدام صبغات الشعر كالحناء والكتم وغيرها من الصبغات الغير طبيعية مادامت تخلو من خداع أو تلبيس وأما التزين للزوج بذلك فلا بأس إن شاء الله ، وعليها أن تتجنب اللون الأسود .
__________
(1) سورة النور الآية (31).
(2) تيسير الكريم الرحمن (5/412).
(3) صحيح الترغيب (2019).
(4) صحيح ابن خزيمة (3/91)، وصحيح الترغيب رقم (2020) .
(5) صحيح الترغيب رقم (2021) .(2/44)
فعن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - قال : أتي بأبي قحافة أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" . (1)
باب
تحذير المصور في الثياب والحيطان ونحو ذلك
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ". (2)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". (3)
وقالت عائشة رضي الله عنها: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فهتكه وتلون وجهه وقال: "أشد الناس عذابا عند الله الذين يضاهون خلق الله". (4)
السهوة: كالمجلس والصفة في البيت.
والقرام: الستر الرقيق.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرج عنق من النار فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلها آخر وبكل جبار عنيد وبالمصورين". (5)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم". (6)
__________
(1) )) رواه مسلم برقم (2102) ، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد .
(2) رواه البخاري في كتاب البيوع (2225) وفي كتاب اللباس (5963) ورواه مسلم في كتاب اللباس (2110).
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5950)، ومسلم في كتاب اللباس (2109).
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5954)، ورواه مسلم في كتاب اللباس برقم (2107).
(5) اخرجه الترمذي في أبواب صفة جهنم برقم (2574)، وأحمد في المسند (2/336)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح.
(6) رواه البخاري في اللباس (950 و 5951)، ورواه مسلم في اللباس برقم (2018).(2/45)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورةٍ صورها نفسا فتعذبه في جهنم". (1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أو ليخلقوا ذرة". (2)
وعن سعيد بن ابي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني رجل اصور هذه الصور فافتني فيها. فقال له: ادن مني فدنا ثم قال: ادن مني فدنا حتى وضع يده على رأسه وقال: أنبئك بما سمعت عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورةٍ نفسا فيعذبه في جهنم" قال ابن عباس: فإن كانت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له. (3)
وفي رواية للبخاري قال: كنت عند ابن عباس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي وإني اصنع هذه التصاوير فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها ابداً" فربا الرجل ربوةً شديدة فقال: ويحك! إن ابيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر كل شيء ليس فيه روح". (4)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسو الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن اشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون". (5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع (2225)، ورواه مسلم في اللباس برقم(2110).
(2) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5953)، ورواه مسلم في كتاب اللباس برقم (2111).
(3) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2225)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2110).
(4) رواه البخاري في كتاب البيوع برقم (2225)، ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2110).
(5) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5950)،ومسلم في اللباس والزينة برقم(2109)(2/46)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: ومن أظلم من ذهب يخلق كخلقي! فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة وليخلقوا شعيرة". (1)
وعن حيان بن حصين قال: قال لي علي - رضي الله عنه - : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته". (2)
وعن أبي طلحة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل". (3)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: واعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبرائيل عليه السلام أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فلقيه جبرائيل عليه السلام فشكا إليه فقال: "أنا لا أدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة". (4)
كتاب القرآن
باب
ما جاء في فضل قراءة القرآن
لقد امتدح الله تعالى عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه الكريم، حيث قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } . (5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5953)،وفي كتاب التوحيد برقم(7559) ، ورواه مسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2111).
(2) رواه مسلم في كتاب الجنائز برقم (969).
(3) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم(5949)،ومسلم في كتاب اللباس والزينة برقم (2106).
(4) رواه البخاري في كتاب اللباس برقم (5960).
(5) سورة فاطر الآية (29-35).(2/47)
قال القرطبي : وجلت قلوبهم أي خافت وحذرت مخالفته، فوصفهم بالخوف والوجل ثم ذكره وذلك لقوة يقينهم ومراعاة لربهم وكأنهم بين يديه ووصفهم بالصبر وإقامة الصلاة وإدامتها . (1)
وقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . (2)
إن من صفات المؤمنين أن يخشعون لذكر الله تعالى ويزدادون إيماناً مع إيمانهم بتلاوة القرآن الكريم وسماع آياته.
وقال تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } . (3)
وقال تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً } . (4)
وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . (5)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه". (6)
فالله سبحانه وتعالى يُشفِّع القرآن في أصحابه، وأصحاب القرآن هم الذين كانوا يتلونه ويقرؤونه في الدنيا ويعملون به ويكون حجة لمن يقرآه ويعمل به في الدنيا وكذلك يكون حجة على الذين يقرؤونه ولا يعملون به في الدنيا.
__________
(1) تفسير القرطبي (12/59) .
(2) سورة الأنفال الآية (2).
(3) سورة العنكبوت الآية (45).
(4) سورة الإسراء الآية (45).
(5) سورة الإسراء الآية (82).
(6) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1871).(2/48)
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما". (1)
قوله: تقدمه: أي تتقدمه.
تحاجان عن صاحبهما: تجادلان عن التالي لهما العامل بهما.
فالقرآن يكون شفيع لأصحابه يوم القيامة وثواب تلاوة وحفظ سورة البقرة وآل عمران وإنهما تحاجان عن صاحبهما.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف". (2)
وعن ابي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". (3)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران".
الماهر: أي الحاذق، والمراد هنا جودة التلاوة مع حسن الحفظ.
والمراد بالسفرة: الكتبة.
والبررة: أي المطيعين المطهرين من الذنوب.
يتتعتع فيه: أي الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران: أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته.
وليس معناه: الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجراً. شرح النووي (6/85)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1873) والترمذي في كتاب فضائل القرآن برقم (2883).
(2) أخرجه الترمذي في سننه برقم (2910) ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر ، سعيد بن منصور برقم (6)،مصنف عبد الرزاق (5993) .
(3) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2699).(2/49)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حسد إلا في اثنين: رجل علمهُ الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعهُ جارٌ له فقال: ليتني أُوتيتُ مثل ما أُوتي فلان، فعملتُ مثلَ ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجلٌ: ليتني أُوتيتُ مثل ما أُوتيَ فلانٌ، فعمِلتُ مثلَ ما يَعْمَل". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسَجَد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله – وفي رواية: يا وَيْلي- أُمِرَ ابنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فسَجَد فلَهُ الجنة، وأُمِرتُ بالسُّجود فأبَيْتُ فِلي النّار". (2)
السجدة: يعني: آية السجدة.
وعن جابر - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد (يعني في القبر) ثم يقول: "أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟" فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد". (3)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم بها آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". (4)
الآناء: الساعات.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5026).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (81).
(3) رواه البخاري برقم (4737)،باب اغتباط صاحب القرآن، ومسلم برقم(815) ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها .
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم (73)، وفي كتاب التوحيد برقم (7529) ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1891 و 1892 و 1893).(2/50)
قال العلماء: الحسد قسمان حقيقي ومجازي، فالحقيقي تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة، وأما المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى زوال النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها فإن كانت في أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما.
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". (1)
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار". (2)
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ القرآن وتعمله وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثلُ ضوء الشمس ويُكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا فيقولان: بما كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن". (3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين ومن قرأ في ليلةٍ مائة آية كتب من القانتين". (4)
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين". (5)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5027).
(2) أخرجه ابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان عن جابر، صحيح الجامع(4319).
(3) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ورواه أبو داود بالمعنى، المشكاة رقم (2139).
(4) أخرجه ابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، صحيح الترغيب حديث رقم (377).
(5) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1894)، وابن ماجة في المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه برقم (218).(2/51)
الله سبحانه وتعالى يرفع ذكر الذين يعملون بالقرآن في الدنيا والذين لا يعملون به يكونون في أدنى المنازل.
والله سبحانه من سعة رحمته وكرمه جل وعلا يضاعف الأجر للعباد فضلاً منه ونعمة وأن الأجر يقع على الحرف وأن الحسنات تتضاعف.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدراً، وثواب كثرة القراءة أكثر عدداً فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبداً قيمته نفيسه جداً، والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عدداً من العبيد قيمتهم رخيصة، وفي صحيح البخاري عن قتادة قال: سألت أنساً عن قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يمد مداً. أ.هـ. (1)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر". (2)
خصت الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعام والريح كالتفاحة لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية ويستخرج من حبها دهن له منافع وفيها منافع أخرى، وقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى فوائد عديدة للأترج وقال: وحقيق بشيء هذه منافعه أن يشبه به خلاصة الوجود وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح. أ.هـ. (3)
__________
(1) ) ) زاد المعاد (1/252) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5020 و 5059 و 7560)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1857).
(3) ) ) زاد المعاد (4/230) .(2/52)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟" قلنا نعم قال: "فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفاتٍ عظام سمان". (2)
(الخلفات) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام: الحوامل من الإبل إلى أن يمضي عليها نصف أمدها ثم هي عشار والواحدة خلفة وعشراء.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن يا رب حلهِ فيلبس حلة الكرامة ثم يقول: يا رب زده فيلبس تاج الكرامة ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه فيقال له: اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة". (3)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". (4)
ارتق: اصعد في درج الجنة بقدر ما حفظته من آي القرآن.
ومنازل المؤمنين تتفاوت في الجنة حسب أعمالهم واجتهادهم في الدنيا، وفيه فضيلة حفظ القرآن وترتيله وتكون منزلته بقدر ما حفظ من القرآن.
__________
(1) رواه البيهقي عن ابن مسعود، وهو في صحيح الجامع برقم (6165).
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1869)، وابن ماجة في كتاب الأدب برقم (3782).
(3) رواه الترمذي وحسنه وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد،
صحيح الجامع رقم (8030).
(4) رواه أبو داود والترمذي برقم (2914) وابن ماجة (3780) وأحمد (2/192)، المشكاة رقم (2134)، صفة ( ص 125).(2/53)
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أبشروا فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ في يوم وليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مئة آية كتب من القانتين ومن قرأ مئتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة ومن قرأ خمس مئة كتب له قنطار من الأجر". (2)
لم يحاجه أي : لم يخاصمه.
والقرآن يخاصم صاحبه من جهتين في التقصير في تعهده لأنه يؤدي النسيان وفي العمل به لأن فيه استهتار بحقه فمن ترك إحداها خوصم بها والله أعلم.
وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين".
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله أهلين من الناس" قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". (3)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، ولا ينبغي أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً ولا حديداً. (4)
صخاباً: الصخب: شدة الصوت.
الحديد: شديد الغضب.
وقال الفضيل رحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام، ولا ينبغي أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهوا مع من يلهو، تعظيماً لله تعالى.
__________
(1) أخرجه الطبراني عن جابر، السلسلة الصحيحة (713).
(2) رواه ابن السني، السلسلة الصحيحة (642 - 643 - 757).
(3) رواه النسائي، وابن ماجة، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1432).
(4) مختصر منهاج القاصدين (ص 51).(2/54)
ولا ينبغي أن يكون له الى أحد حاجة، بل ينبغي أن تكون حوائج الناس إليه". (1)
باب
ما جاء في فضل من تعلم القرآن
وعلمه لوجه الله تعالى
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". (2)
فينبغي على كل من تعلم القرآن وكذلك على العالم أن يبذل علمه بعد تعلمه وفيه أجر عظيم أن يتعلم المرء القرآن ويعلمه لغيره ويبلغه.
وفي هذا الحديث تشريف لمن تعلم شيئاً من القرآن وعلمه ورفع منزلته بما تعلم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام رب إني منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان". (3)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران". (4)
السفرة: هم الملائكة الرسل إلى الرسل صلوات الله عليهم، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله، وقيل السفرة الكتبة.
والبررة: المطيعون من البر وهو الطاعة.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5027).
(3) رواه أحمد والطبراني، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/181): (رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال الطبراني رجال الصحيح)، وقال في (10/381): رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثقه. وصححه الألباني في تمام المنة (ص 94)، والمشكاة رقم (1963)، وصحيح الترغيب رقم (973).
(4) أخرجه البخاري برقم (4937)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1859).(2/55)
فالذي يداوم على قراءة القرآن ويحرص عليه أعظم من منزلة من لا يداوم على قراءته ومن يقرأ القرآن وهو شاق عليه فله أجران أجر على قراءته وآخر على مشقته وتعتعته.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة السفرة لإتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، قال: ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم.
وعن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفةِ فقال: "أيكم يحب أن يغدوا كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟" فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك قال: "أفلا يغدوا أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث واربع خير له من أربع ومن إعدادهن من الإبل؟" (1)
(بطحان) بضم الباء وإسكان الطاء: موضع بقرب المدينة.
والكوما من الإبل بفتح الكاف: العظيمة السنام.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". (2)
فيه الحث على طلب العلم والاجتماع له ومذاكرته، وأشرف العلوم التي تُذاكر وتُدارس هي القرآن كتاب الله تعالى.
ومجالس العلم لها منزلة خاصة عند الله تبارك وتعالى بأن تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة، ويتوج ذلك كله بذكر الله لهم فيمن عنده، ولله ملائكة سياحين في الأرض يلتمسون حلق الذكر وهي مجالس العلم.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1870)،وابو داود في كتاب الصلاة برقم(1456).
(2) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6793)، وأبو داود في كتاب الأدب (4946)، وابن ماجة برقم (225).(2/56)
قال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.
باب
هجر القرآن
من الأمور التي نهى الله تعالى عنها ونهى عنها رسوله - صلى الله عليه وسلم - هجر القرآن والجفاء عنه،
فقال الله تعالى :وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } . (1) مهجورا : أي تركوه وقالوا فيه غير الحق .
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط" . (2)
والجفاء أن يتركه بعد ما علمه لا سيما إذا كان نسيه فإنه عد من الكبائر قال في النهاية ، ومنه الحديث : "اقرؤا القران ولا تجفوا عنه" أي تعاهدوه ولا تبعدوا عن تلاوته بأن تتركوا قراءته وتشتغلوا بتفسيره وتأويله ولذا قيل اشتغل بالعلم بحيث لا يمنعك عن العمل واشتغل ومعناه بحيث لا يمنعك عن العلم وحاصله أن كلا من طرفي الإفراط والتفريط مذموم والمحمود هو الوسط العدل المطابق لحاله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأقوال والأفعال ، كذا في المرقاة شرح المشكاة . (3)
وهجر القرآن أنواع :
1- هجر قراءته .
2- وهجر سماعه والإيمان به .
3- وهجر تدبره .
4- وهجر العمل به .
5- وهجر تحكيمه .
6- وهجر الاستشفاء به من أمراض القلوب وأمراض الأبدان .
فمن لم يقرآ القرآن فقد هجره ، ومن قرأه ولم يعمل به فقد هجره .
كل هذا داخل في قوله تعالى :
{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } . (4)
قال ابن كثير في تفسيره في تعليقه على هذه الآية :
__________
(1) ) ) سورة الفرقان الآية (30) .
(2) ) ) رواه أبو داود برقم (4843) ، باب في تنزيل الناس منازلهم .
(3) ) ) عون المعبود (13/132) .
(4) الفرقان الآية (30) .(2/57)
"وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } . (1)
فكانوا إذا يتلى عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه ، وترك الإيمان به ، وترك تصديقه من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به ، وامتثال أوامره ، واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر ، أو قول ، أو غناء ، أو لهو ، أو كلام ، أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه ، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه ويعلمنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب" .اهـ . (2)
أسباب هجر القرآن (3) :
1- عدم الإيمان به ، والتكذيب به في الباطن وإن لم يصرح بذلك .
2- الجهل بمعانيه وأوجه إعجازه .
3- الانهماك في الدنيا والغفلة عن الآخرة .
4- سماع الغناء والمعازف .
5- طول الأمل والتسويف بالطاعات ومنها تلاوة القرآن .
6- التكبر عن تعلم تلاوة القرآن ، فيهجره حتى لا يقال لا يُحسن القراءة
7- الانشغال عنه بغيره كهجر بعض طلبة الحديث للقرآن – وإن كانوا قليلون - زاعمين أنهم يُحيون السنة ، والحق أن السنة لا تحيا إلا بالقرآن .
باب
تحذير فيمن ليس في جوفه شيء من القرآن
على المسلم أن يجعل من القرآن منهجاً لحياته ، وأن يجعل من قلبه وعاءاً له ، وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - القلب الذي ليس فيه شيء من القرلآن بالبيت الخرب ، وهو القلب الذي يكون أشبه بالقلب الميت .
__________
(1) فصلت الآية (26) .
(2) تفسير ابن كثير (3/318) .
(3) ) ) حالنا مع القرآن إعداد القسم العلمي بدار الوطن .(2/58)
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب" . (1)
وعن أبي الأحوص ، عن عبد الله - رضي الله عنه - ، قال :
"إن هذا القرآن مأدبة الله فخذوا منه ما استطعتم فإني لا أعلم شيئا أصغر من بيت ليس فيه من كتاب الله شيء ، وإن القلب الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الذي لا ساكن له" . (2)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً قال :
"إن أفقر البيوت بيت ليس فيه شيء من كتاب الله". (3)
"افقر" أي : أفرغها وأجوعها .
باب
النهي عن المراء (4) في القرآن
قال تعالى : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } . (5)
وقال تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } . (6)
__________
(1) ) ) أخرجه الدارمي في كتاب فضائل القرآن برقم (3306) ، باب فضل من قرأ القرآن .
(2) ) ) أخرجه الدارمي في كتاب فضائل القرآن برقم (3307) ، باب فضل من قرأ القرآن .
(3) رواه الحاكم موقوفا، وقال: رفعه بعضهم، وقال الألباني: حسن لغيره موقوف، صحيح الترغيب.
(4) المِرَاءُ : الْجِدَالُ والتَّمارِي والممَارَاةُ المُجَادَلَةُ على مذهب الشَّكِّ والرِّيبَة، ويقالُ لِلْمُناظَرَة مُمَاراة لأن كلَّ واحِدِ منهما يَسْتَخْرجُ ما عند صاحِبِه ويَمْتَرِيه كما يَمْتَري الحالِبُ اللَّبَنَ من الضَّرْعِ . النهاية في غريب الحديث (4/322) .
(5) سورة غافر الآية (56).
(6) سورة العنكبوت الآية (46).(2/59)
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا { وما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون } ". (1)
وعن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
"المراء في القرآن كفرٌ". (2)
المراء: الجدال ، والتماري ، والمماراة : المجادلة على مذهب الشك والريبة.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :
"كنا جلوساً عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر، يَنْزِعُ هذا بآية، ويَنزِع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما يُفقأ في وجهه حبُّ الرمان، فقال: "يا هؤلاء أبهذا بعثتم، أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض". (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي في (أبواب التفسير) (3253) وابن ماجة في (المقدمة) (48) وأحمد في (المسند) (5/552و 556) وابن جرير في (جامع البيان) (25/53) == == والحاكم (المستدرك) (2/447 - 448) والطبراني في (المعجم الكبير) (8/333) وابن أبي عاصم في (السنة) (101) والآجري في الشريعة (ص54) والخطيب في (الفقيه والمتفقه) (1/320 و 231) وابن عبد البر (الجامع) (2/97) والبغوي في (معالم التنزيل) (6/138)، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)، صحيح الجامع (5633)، وصحيح الترغيب برقم (141).
(2) رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب (143).
(3) رواه الطبراني في (الكبير) وفي المجمع (1/157) رجاله ثقات أثبات، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (140).(2/60)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "أُنزل القرآن على سبعة أَحرف ، والمِراء في القرآن كفر (ثلاثاً) ، وما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمِه" . (1)
باب
قراءة سورة الفاتحة وفضلها
عن أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرةٍ سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحدٍ منكم من شيء. فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ (الحمد لله رب العالمين) فكأنما أنشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحهوهم عليه فقال بعضهم: اقسموا فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ذلك فقال: "وما يدريك أنها رقية أصبتم أقسموا واضربوا لي معكم بسهم". (2)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله وتفويض الأمر كله إليه والاستعانة به والتوكل عليه وسؤاله مجامع النعم كلها وهي الهداية التي تجلب النعم وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية. أ.هـ. (3)
__________
(1) ) ) موارد الظمآن برقم (1490) ، صححه الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (1780) ، والسلسلة الصحيحة برقم (1522) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطب برقم (5749)، ومسلم في كتاب السلام برقم (2201).
(3) زاد المعاد (4/141) .(2/61)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج. قال: يا أبا هريرة إني إحيانا أكون وراء الإمام؟ قال: يا فارسي إقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل" إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله: مجدني عبدي أو قال: فوض إلي عبدي فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
قال سفيان: دخلت على العلاء بن عبد الرحمن في بيته وهو مريض فسألته عن هذا الحديث فحدثني به. . (1)
عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - قال: كنت أصلي بالمسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: "ألم يقل الله تعالى { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } " ثم قال: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورةٍ في القرآن قال: " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } " هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيتُه". (2)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة برقم (395)، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها .
(2) رواه البخاري في كتاب التفسير برقم (4474).(2/62)
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع صوتاً نقيضاً من فوقه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم فسلم وقال: "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطتيه". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل". (2)
وعن انس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير فنزل، ونزل رجل إلى جانبه، قال: فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا أخبرك بأفضل القرآن؟" قال: بلى فقال: "الحمد لله رب العالمين". (3)
قوله (نقيضاً): النقيض: هو الصوت. وقال النووي: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح.شرح النووي (6/91)
باب
قراءة سورة البقرة وفضلها
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة". (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1874)، باب فضل الفاتحة، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (ص 438) وفي المجتبي كتاب الافتتاح.
(2) أخرجه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(5436).
(3) ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال:صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1454).
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1821)، والترمذي في سننه أبواب فضائل القرآن.(2/63)
وعن أبي سعيد الخدري، عن أسيد بن حضير، وكان من الناس صوتاً بالقرآن قال: قرأت الليلة بسورة البقرة وفرسي مربوطة ويحيى ابني مضطجع قريباً مني وهو غلام فجالت جولة فقمت ليس لي هم إلا يحيى ابني فسكنت الفرس ثم قرأت فجالت الفرس فقمت ليس لي هم إلا ابني ثم قرأت فجالت الفرس فرفعت رأسي فإذا بشيء كهيئة المظلة فيها مثل المصابيح مقبل من السماء فهالني فسكنت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: اقرأ يا أبا يحيى قلت: قد قرأت يا رسول الله فجالت الفرس وليس لي هم إلا ابني فقال: اقرأ يا أبا يحيى قال: قد قرأت فرفعت رأسي فإذا كهيئة المظلة فيها مصابيح فهالني فقال: "ذلك الملائكة دنوا لصوتك ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم". (1)
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة" (2) .
قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
قال النووي رحمه الله تعالى: سميتا الزهراوين لنورهما وهداتيهما وعظيم أجرها.
قوله: غمامتان: قال أهل اللغة: الغمامة والغيابة كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرها.
قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين.
وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران".
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (4730)، باب نزول السكينة والملائكة ثم قراءة القرآن .
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1871).(2/64)
وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: "كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حِزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما". (1)
الفرقان: بكسر الفاء وإسكان الراء.
الحزقان: بكسر الحاء المهملة وإسكان الزاي. ومعناهما واحد وهما قطيعان وجماعتان يقال في الواحد فرق وحزق وحزيقة أي جماعة.
أو ظلتان سوداوان بينهما شرق: بفتح الراء وإسكانها أي: ضياء ونور.
وعن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً: "تعلموا (البقرة) و (آل عمران) فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافَّ". (2)
باب
قراءة آية الكرسي وفضلها
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1873)، والترمذي في كتاب فضائل القرآن برقم (2883).
(2) رواه الحاكم وقال:صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1466).(2/65)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان على تمر الصدقة فوجد أثر كف كأنه قد أخذ منه فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:تريد أن تأخذه؟ قل: من سخرك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال أبو هريرة: فقلت فإذا جني قائم بين يديّ فأخذته لأذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما أخذته لأهل بيت فقراء من الجن ولن أعود قال: فعاد فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تريد أن تأخذه؟ فقلت: نعم فقال: قل سبحان من سخرك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت فإذا أنا به فأردت أن أذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعاهدني أن لا يعود فتركته ثم عاد فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تريد أن تأخذه فقلت: نعم فقال: قل سبحان من سخرك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت فإذا أنا به فقلت: عاهدتني فكذبت وعدت لأذهبن بك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خل عني أعلمك كلمات إذا قلتهن لم يقربك ذكر ولا أنثى من الجن قلت: وما هؤلاء الكلمات؟! قال: آية الكرسي إقرأها عند كل صباح ومساء قال أبو هريرة: فخليت عنه فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "أو ما علمت أنه كذلك".
وفي رواية فإنه لن يزال عليك من الله حافظا حتى تصبح قال "صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان". (1)
وعن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا المنذر! آية من كتاب الله معك أعظم؟" قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟" قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر". (2)
__________
(1) رواه الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري وقال: حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1469).
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم(1882)، وابو داود في الصلاة(1460).(2/66)
قال النووي رحمه الله تعالى: إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات والله اعلم. أ.هـ. (1)
باب
قراءة خواتيم سورة البقرة وفضلها
عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه". (2)
(كفتاه): قيل معناه: كفتاه من قيام الليل وقيل من الشيطان وقيل من الآفات ويحتمل من الجميع.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا الباب قد فتح من السماء ما فتح قط قال: فنزل ملك فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفاً منه إلا أعطيته". (3)
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فضلنا على الناس بثلاث : جعلت الأرض كلها لنا مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يُعط منه أحد قبلي ولا يعطي منه أحد بعدي". (4)
__________
(1) شرح مسلم (6/333-334) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة.
(3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (806)، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة ، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) وفي (المجتبى) كتاب الافتتاح والحاكم في المستدرك (1/558).
(4) رواه مسلم في أول كتاب المساجد مواضع الصلاة برقم (522)، وأحمد في مسنده برقم (5/383).(2/67)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنز الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن". (1)
باب
قراءة سورة الكهف وفضلها
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ الكهف كما أنزلت كانت له نوراً يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه ومن يتوضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة" (2) .
ورواه النسائي وقال في آخره: "ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة".
وعن البراء قال: كان رجل يقرأ بسورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنوا وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال" "تلك السكينة تنزلت للقرآن" (3)
(شطن): هو الحبل الطويل المضطرب وشطن تثنية شطنين.
وقال النووي رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث جواز رؤية آحاد الملائكة وفيه فضيلة القراءة وأنها سبب نزل الرحمة وحضور الملائكة وفيه فضيلة استماع القرآن.
__________
(1) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، المشكاة (2173).
(2) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني، الصحيحة برقم (582)، وصحيح الترغيب برقم (218).
(3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5011)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1853).(2/68)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". (1)
نص الشافعي على استحباب قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويوم الجمعة.
وعن ابي الدرداء - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال". (2)
قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن يتدبرها لم يفتتن بالدجال وكذا في آخرها قوله تعالى { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي } .
وفي رواية لمسلم: "من آخرِ سُورةِ الكَهف". (3)
قراءة سورة تبارك وفضلها
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك". (4)
__________
(1) أخرجه النسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه أبو سعيد الدارمي في مسنده موقوفاً على أبي سعيد إلا أنه قال: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة اضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. و صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6346)، والإرواء برقم (619).
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1880)، وأبو داود في كتاب الملاحم برقم (4323)، والترمذي في كتاب فضائل القرآن برقم (2886)، وأحمد في مسنده (6/446و 449)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) ص 527.
(3) صحيح مسلم (1/556).
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة برقم (2891) والترمذي في كتاب فضائل القرآن (2891) وقال: (حديث حسن)، وأخرجه النسائي في كتاب التفسير من الكبرى (624) وفي (عمل اليوم والليلة) (710) وابن ماجة في الأدب (3786) والحاكم في المستدرك (2/497 - 498) وفيه: (ما هي إلا ثلاثون آية) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1474).(2/69)
فيه فضيلة سورة الملك وأن كتاب الله يشفع لمن يقرأه ويعمل به.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله ضربت خباءي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر". (1)
باب
ما جاء في قل هو الله أحد وفضلها
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن" قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن".
وفي رواية "إن الله عز وجل جزأ القرآن بثلاثة أجزاء فجعل (قل هو الله أحد) جزءاً من أجزاء القرآن". (2)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن". (3)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد، قال: "إن حبها أدخلك الجنة". (4)
فيه إثبات ثواب وفضل سورة الإخلاص وأنها تعدل ثلث القرآن وأنه يدخل صاحبها الجنة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن (2890) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وضعفه الشيخ الألباني في سنن الترمذي برقم (2890).
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (811).
(3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم (5013).
(4) أخرجه البخاري تعليقاً ووصله الترمذي (2901) من طريقه عن إسماعيل بن ابي أويس.(2/70)
قال عبد الله بن خبيب: خرجنا في ليلة مطرٍ و ظلمةٍ شديدة نطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي لنا فأدركناه فقال: قل فلم أقل شيئاً ثم قال "قل" فلم اقل شيئا قال "قل" قلت يا رسول الله: ما أقول؟ قال: "قل هو الله أحد" والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات يكفيك من كل شيء". (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة". (2)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن" فحشد من حشد ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: (قل هو الله أحد) ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبر جاءه من السماء فذاك الذي أدخله ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثلث القرآن إلا أنها تعتدل ثلث القرآن". (3)
قال المازري: قيل معناه: أن القرآن على ثلاثة أنحاء قصص وأحكام وصفات لله تعالى. وقل هو الله أحد متمحضة للصفات فهي ثلث وجزء من ثلاثة أجزاء وقيل: معناه أن ثواب قراءتها يضاعف بقدر ثلث قراءة ثلث القرآن بغير تضعيف.
قوله (احشدوا) أي: اجتمعوا.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ (قل هو الله أحد) فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك" فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أخبروه أن الله يحبه". (4)
__________
(1) صحيح الكلم الطيب (31).
(2) الصحيحة (589)، المشكاة (2185).
(3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1885)، والترمذي في كتاب فضائل القرآن برقم (2900)
(4) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد برقم (7375)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1887).(2/71)
وفي رواية للبخاري من حديث أنس: فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال: إني أحبها فقال: "حبك إياها أدخلك الجنة".
باب
فضل قراءة الزلزلة وما يذكر معها
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن"، و "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن، و "قل يا أيها الكافرون" تعدل ربع القرآن". (1)
باب
المعوذتان وفضلهما
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنزلت عليَّ آيات لم ير مثلهن قط المعوذتين". (2)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وفي المعوذتين الإستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلاً فإن الإستعاذة من شر ما خلق تعم لك شر يستعاذ منه سواء كان في الأجسام أو الأرواح.
وقال رحمه الله تعالى: فقد جمعت السورتان الإستعاذة من كل شر ولهما شأن عظيم في الإحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر بقراءتها عقب كل صلاة، ذكره الترمذي في جامعه (3)
وقال في هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة وقال: ما تعوذ المعوذون بمثلهما. أ.هـ. (4)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقرأ يا جابر!" فقلت: وما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس).
__________
(1) رواه الترمذي والحاكم كلاهما عن يمان بن المغيرة العنزي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1477).
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، برقم (1889) وأحمد في مسنده (3/150 و 153) والدارمي في سننه والترمذي في أبواب فضائل القرآن.
(3) أخرجه الترمذي في أبواب فضائل القرآن (2912). وضعفه الألباني في سنن الترمذي برقم (2912).
(4) ) ) زاد المعاد (4/143) .(2/72)
فقرأتهما فقال: "أقرأ بهما ولن تقرأ بمثلهما". (1)
??????
كتاب الذكر والدعاء
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } . (2)
قوله تعالى : وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً : أي أول النهار وآخره .
قال الإمام الطبري رحمه الله : يقول تعالى ذكره يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله اذكروا الله بقلوبكم ، وألسنتكم ، وجوارحكم ذكرا كثيرا فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك ، وسبحوه بكرة.اهـ. (3) .
ثواب حلق الذكر والاجتماع عليه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله ملائكة فضلاً عن كتاب الناس يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا: هلموا إلى حاجتكم".
قال: "فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا".
قال: "فيسألهم ربهم تعالى وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟"
قال: "يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك".
قال: "فيقول: هل رأوني؟".
قال: "فيقولون: لا والله ما رأوك".
قال: "فيقول: كيف لو رأوني؟"
قال: "فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادةً وأشد لك تحميداً وتمجيداً وأكثر لك تسبيحاً".
قال: "فيقول: ما يسألوني؟".
قال: "فيقولون: يسألون الجنة".
قال: "فيقول: وهل رأوها؟".
قال: "فيقولون: ل ا والله يا رب ما رأوها".
قال: "فيقول: كيف لو أنهم رأوها؟".
قال: "يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبةً".
قال: "فيقول: فمم يستعيذون؟".
__________
(1) رواه النسائي، وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب رقم (1486).
(2) سورة الأحزاب الآية (41-43).
(3) ) ) تفسير الطبري (22/17) .(2/73)
قال: "فيقولون: من النار".
قال: "فيقول: وهل رأوها؟".
قال: "يقولون: لا والله يا رب! ما رأوها".
قال: "يقول: كيف لو رأوها".
قال: "يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافةً".
قال: "يقول: فاشهدكم أني قد غفرت لهم".
قال: "فيقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجةٍ".
قال: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم". (1)
فيه من الفوائد فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم، وفضيلة مجالسة الصالحين وبركتهم.
فضلاً قال العلماء: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق الذكر.
ملائكة سيارة معناه: سياحون في الأرض.
ويستجيرونك من نارك أي: يطلبون الأمان منها.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وذكر الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب وذكر باللسان وذكر القلب نوعان:
أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها: الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سمواته وأرضه ومنه الحديث: (خير الذكر الخفي) والمراد هذا.
والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهي فيتمثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه ويقف عما أشكل عليه وأما ذكر اللسان مجرداً فهو أضعف الأذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث.
وقال رحمه الله تعالى: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب؟ فقيل: تكتبه ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها وقيل: لا يكتبونه لأنه لا يطلع عليه غير الله.
قال النووي رحمه الله تعالى:قلت:والصحيح أنهم يكتبونه وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده والله أعلم.أهـ . (2)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة". (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات تعليقاً برقم (6408)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6780).
(2) شرح مسلم (17/18) .
(3) رواه الإمام أحمد (2/177 و 190).(2/74)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم". (1)
وعن أنس - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات". (2)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء"
قال: فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله جلهم لنا نعرفهم قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى يجتمعون على ذكر الله". (3)
وعن معاوية رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: "ما أجلسكم" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا.
قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك" قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة". (4)
__________
(1) رواه الحسن بن سفيان عن سهل ابن الحنظلية، وقد صححه شيخنا العلامة الألباني في صحيح الجامع برقم (5383).
(2) رواه أحمد (3/142)، وقال الهيثمي في المجمع (10/76): (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في "الأوسط" ، وهو في صحيح الجامع برقم (5486).
(3) رواه الطبراني في مجمع الزوائد (10/77).
(4) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (2701).(2/75)
وعن أبي هريرة ، وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقعد قوم يذكرون الله عزوجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده". (1)
السكينة: حالة يطمئن بها القلب فيسكن عن الميل إلى الشهوات وعند الرعب، وغشيتهم: عمتهم.
فيه فضيلة مجالس الذكر وفضله ومجالسة أهله وأن من ذكر الله ذكره الله تعالى.
باب
ما يقوله عند القيام من المجلس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك". (2)
وعن أبي برزة - رضي الله عنه - واسمه نضلة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأخرةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس قال: "سبحانك اللهم وبحمدك اشهد إن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فقال رجل: يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى قال: "ذلك كفارة لما يكون في المجلس". (3)
قوله: (بأخرة) هو بالهمز مقصورة مفتوحة وبفتح الخاء ومعناه: في آخر الأمر.
اشتمل هذا الدعاء على ثلاثة أمور:
الأول : تنزيه الله عن كل نقص وحمده على كل فعل.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6795)، وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم (3378)، وابن ماجة في كتاب الأدب برقم (3791).
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2730).
(3) رواه أبو داود برقم (4759) والدارمي (2658) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (426)، والحاكم (1/537) من طرق عن الحجاج بن دينار عن أبي هشام عن أبي العالية عنه به، وهو في صحيح أبي داود برقم (4068) والكلم (801) والإرواء (340) والطحاوية (179) وصحيح الترغيب (220).(2/76)
الثاني : إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له وذلك من تمام العبادة لله وتمام المدح له.
الثالث : الرجوع والإستغفار والتوبة لمن ملكها وهو الله تعالى.
وثمرة هذا المدح والإستغفار والتوبة كفارة لمن قالها.
وفي حديث آخر: "أنه إن كان في مجلس خير كان كالطابع له وإن كان في مجلس كان كفارة له". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة". (2)
باب
ثواب ذكر الله على الإطلاق وفي كل الأحوال
قال الله تعالى: { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } . (3)
فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرةً وأصيلاً هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً } . (4)
وقال تعالى: { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً } . (5)
وعن عبد الله بن بسر قال: جاء اعرابي فقال: يا رسول الله! كثُرت عليَّ خلال الإسلام وشرائعه فأخبرني بأمر جامع يكفيني قال: "عليك بذكر الله تعالى" قال: ويكفيني يا رسول
الله! قال: "نعم ويفضل عنك". (6)
__________
(1) السلسلة الصحيحة برقم (81).
(2) السلسلة الصحيحة برقم (77).
(3) سورة البقرة (152).
(4) سورة الأحزاب الآية (41-43).
(5) سورة الأحزاب الآية (35).
(6) أخرجه الترمذي (3435 تحفة) وابن ماجة (2793) والحاكم (1/495) ، وابن حبان (2717 موارد)، وهو صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1491).(2/77)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله تبارك وتعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا آتاني يمشي آتيته هرولة". (1)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه". (2)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله تعالى على كل أحيانه. (3)
فعلى المسلم أن لا يغفل عن ذكر الله في أي حال من الأحوال ولا يعيقه شيء عنه، والحديث فيه دلالة على قراءة القرآن وذكر الله للحائض والنفساء لأنهما يدخلان في عموم الذكر.
قال النووي رحمه الله تعالى : هذا الحديث أصل في جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتكبير والتحميد وشبهها من الأذكار وهذا جائز بإجماع المسلمين.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى قال: "ذكر الله". (4)
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6970)، باب قول الله تعالى ويحذركم الله نفسه وقوله جل ذكره تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6746).
(2) أخرجه ابن ماجة وابن حبان، المشكاة (2285).
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان تعليقا(634)،ومسلم في كتاب الحيض برقم(824).
(4) رواه الترمذي برقم (3377) ، وابن ماجة برقم (3790) ، وأحمد (5/195) ، والحاكم (1/496) وقال: إسناده صحيح، وصححه شيخنا الألباني في المشكاة برقم (2269)، الكلم (1).(2/78)
أزكاها: أكثرها ثواباً وأطهرها، وأرفعها: أزيدها.
فيه بيان فضل الذكر وأنه خير من الضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل ونفقة الأموال في سبيل الله.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً" قال: قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون لله أفضل درجة". (1)
وعن معاذ - رضي الله عنه - ،عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلاً سأل فقال: أي المجاهدين أعظم أجراً؟ قال: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" قال: فأي الصائمين أعظم أجراً" قال: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكرا" فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أجل". (2)
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: فأفضل الذاكرين المجاهدون وأفضل المجاهدين الذاكرون.
وعن الأغر أبي مسلم قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقعد قوم في مجلس يذكرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده". (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الدعاء برقم (3376).
(2) رواه أحمد في المسند (3/169)، والترمذي في كتاب الدعوات.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6795)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3378).(2/79)
وعنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وآتاه رجل فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي عز وجل؟ قال: "قل: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع دنياك وآخرتك". (1)
وعن عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها فأخبرني بما شئت أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى، وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به: قال: "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى". (2)
وعن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت". (3)
وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت". (4)
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أدلك على ماهو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار قول:
الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، وتسبح الله مثلهن تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك". (5)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6791).
(2) أخرجه الترمذي (3435 تحفة) وابن ماجة (2793) والحاكم (1/495) وابن حبان (2317موارد) وهو صحيح،صححه الألباني رحمه الله تعالى في الكلم (3) ، والمشكاة رقم (2279) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6407) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (1820).
(4) أخرجه البخاري في الدعوات برقم(6407)،ومسلم في صلاة المسافرين برقم(1820)
(5) رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، وصحيح الجامع رقم(2615)(2/80)
وعن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما عمل أدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل". (1)
ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال وأنه ينجي من عذاب الله تعالى.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له : جُمْدان، فقال: سيروا هذا جُمْدانُ سَبقَ المفردون" قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات". (2)
قال ابن قتيبة وغيره : وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم وأنفرودوا عنهم وبقوا يذكرون الله تعالى.
وعن الحارث الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله سبحانه وتعالى أمَرَ يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يَعملَ بها ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمُرَهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني أن يخسف بي وأُعذب، فجمع يحيى الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعملهن وآمركم أن تعملوا بهن:
أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وإن مثل من اشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورقٍ فقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأدِّ إليَّ فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟!
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (5/639) وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5644).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6749).(2/81)
وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت.
وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجبه ريحه وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.
وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وأنا آمركم بخمسٍ الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم"، فقال رجل: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟!
قال: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سَّماكم المسلمين المؤمنين عباد الله". (1)
جثا: الشيء المجموع.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث العظيم الشأن الذي ينبغي لكل مسلم أن يحفظه وأن يتعقله ما ينجي من الشيطان وما يحصل للعبد به الفوز والنجاة في دنياه وأخراه. أ.هـ. (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي (2863 و 2864) وأحمد (4/202) والحاكم (1/421) وصححه على شرط الشيخين، وابن حبان (6200) والطيالسي (1161) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (870 و 3553) ، والسنة برقم (1036) ، والمشكاة برقم (45 و 3694) ، وصحيح ابن خزيمة برقم (483 و 930).
(2) الوابل الصيب .(2/82)
وقال رحمه الله تعالى: وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "وآمركم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله"، فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى وأن لا يزال لهجاً بذكره فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه وإذا ذكر الله تعالى خنس أي: كف وانقبض. انخس عدو الله وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع فإذا ذكر الله خنس.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس فإذا ذكر الله تعالى خنس. أ.هـ. الوابل الطيب
الوصع: طائر أصغر من العصفور.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا".
قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر". (1)
(الرتع): هو الأكل والشرب في خصب وسعة.
باب
ثواب كلمة التوحيد: لا إله إلا الله
قال تعالى: { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن الله } . (2)
قال ابن عباس وغيره : الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه". (3)
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1511).
(2) سورة إبراهيم (24-25).
(3) رواه البخاري في كتاب العلم برقم (99).(2/83)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قال موسى - صلى الله عليه وسلم - يا رب علمني شيئا أذكرك به قال: قل: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقول هذا، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفةٍ ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله". (1)
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". زاد جُنادَةُ: "من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء". (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه".
وقال: "ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". (3)
بيان فضل التهليل والتسبيح، ذكر الله حصن حصين من وسوسة الشيطان وكيده ومن مكفرات الذنوب وذكر الله قربة عظيمة إلى الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة) برقم (834)، وابن حبان والحاكم في المستدرك (1/528) بنحوه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كلمة الإخلاص ص 58.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء برقم (3435)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (139).
(3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3293)، وفي كتاب الدعوات برقم (6403)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6783).(2/84)
يستحب أن يقول العبد ذلك في اول النهار متوالياً ليكون له حرزاً في جميع نهاره وكذا في أول الليل.
وفي سعة رحمة الله بعباده وتفضله عليهم بجزيل الثواب وغفران الذنوب.
قال القاضي عياض: أن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة الحسنات ومحو السيئات وما فيه من فضل عتق الرقاب وكونه حرزاً من الشيطان زائداً على فضل التسبيح وتكفير الخطايا لأنه قد ثبت أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار فقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة ومع ما فيه من زيادة مائة درجة وكونه حرزاً من الشيطان ويؤيده ما جاء في الحديث بعد هذا: "أن أفضل الذكر التهليل" مع الحديث الآخر: "أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له."
الحديث وقيل: أنه اسم الله الأعظم وهي كلمة الإخلاص والله أعلم.انتهى (1)
عن أبي عياش - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام وكتب له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي وإن قالها إذا أمسى كان مثل ذلك حتى يصبح". (2)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما قال عبد: لا إله إلا الله قط مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى يُفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر". (3)
باب
ثواب من قالها عشر مرات
__________
(1) شرح مسلم (17/21) .
(2) رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (653)، والمشكاة برقم (2395).
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1524).(2/85)
"من قال حين يصبح عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه بها عشر سيئات وكانت كعدل عشر رقاب وأجاره الله يومه من الشيطان الرجيم وإذا أمسى فمثل ذلك حتى يصبح" (1) .
باب
ثواب من قالها مئة مرة
وقال: "من قال حين يصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من
الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عَمِلَ أكثر منه" (2) .
وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك ومن قال: "سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" (3) .
وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كعدل محرراً أو محررين" (4) .
__________
(1) رواه البخاري برقم (3293) و (6403) ومسلم برقم (2691).
(2) رواه البخاري برقم (3293 و 6403) ومسلم برقم (2691).
(3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3293) وأخرجه في كتاب الدعوات برقم (6403) ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6783).
(4) رواه رواه الطبراني، قال في المجمع (10/84): (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).(2/86)
وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل" (1) .
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من منح منحةً وِرِقٍ أو منحة لبن أو هدى زقاقاً فهو كعتاق نسمةٍ ومن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فهو كعتق نسمةً" (2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك". (3)
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأتِ أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه" (4) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6404)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6785).
(2) رواه أحمد،وابن حبان،ورواه الترمذي باختصار التهليل،قال في المجمع(10/85) : (رواه الترمذي باختصار التهليل وثوابه،رواهما أحمد ورجالهما رجال الصحيحين)، صحيح الترغيبرقم (889)، المشكاة رقم (1917).
(3) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3293)، وفي كتاب الدعوات برقم (6403)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6783).
(4) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6784) وأبو داود في كتاب الأدب برقم (5091) والترمذي في كتاب الدعوات برقم(3469)(2/87)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة" (1) .
باب
الذكر عند ما يقول ما يسخط ربه عز وجل
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف منكم فقال في حلفه واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه، تعالى أقامرك فليتصدق" (2) .
فكفارة الشرك التوحيد وهي كلمة "لا إله إلا الله".
باب
ثواب التسبيح وفضله
قال الله تعالى: { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } (3) .
وقال تعالى: { يسبحون الليل والنهار لا يَفتُرُونَ } (4) .
والآيات في الباب كثيرة.
معنى التسبيح: التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحبة والنقائص وسمات الحدوث مطلقاً.
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض". (5) .
وعن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة" (6) .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله أي الكلام أحب إلى الله تعالى؟
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب برقم (5081)، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (71).
(2) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار برقم (3836) ، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (4236).
(3) سورة الصافات الآية (143).
(4) سورة الأنبياء الآية (20).
(5) صححه الألباني رحمه الله في الترغيب برقم (184، 379) والإيمان (ص48) والطحاوية (572) ومشكلة الفقر (59) والمشكاة (281).
(6) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، صحيح الجامع (6305).(2/88)
قال: "ما اصطفى الله تعالى لملائكته: سبحان ربي وبحمده سبحان الله" (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم". (3) .
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لأن أقول سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" (4) .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟" قلت: يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله فقال: "إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده" (5) .
وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الكلام أفضل قال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده" (6) .
__________
(1) رواه مسلم في الذكر والدعاء برقم (2731)، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن.
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3293)، وفي كتاب الدعوات برقم (6403)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم(6783).
(3) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات برقم(6406)، وفي الإيمان والنذر برقم(7563). وفي كتاب التوحيد برقم (6682)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم(6786).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2695) و (6787)، والترمذي برقم (3597).
(5) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء برقم(6863)،والترمذي في الدعوات برقم(3593).
(6) المصدر السابق.(2/89)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال: "يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" (1) .
السلامي: بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم: المفصل.
على كل سلامى: بضم السين وتخفيف اللام وأصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في جميع العظام البدن ومفاصله.
وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (2) .
قال النووي رحمه الله تعالى: "قوله - صلى الله عليه وسلم - : وسبحان الله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض" وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله والتفويض والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمد لله والله أعلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة" (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم(1668)،وأبو داود في الصلاة (1285).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة برقم (533)، وأخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم (3517).
(3) أخرجه البخاري في الصلح برقم (2707)، وفي كتاب الجهاد والسير برقم (2891) و (2989)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة برقم (2332).(2/90)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل وسبح الله واستغفر الله وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار" (1) .
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً سئل بعض أهل العلم :أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟
فقال:إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له، فقال لي رحمه الله تعالى:فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ . (2)
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة!" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: "يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" (3) .
وعن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الكلام سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (1007).
(2) الوابل الصيب .
(3) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6792)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3463).
(4) رواه أحمد بإسناد صحيح، وصححه الألباني في الصحيحة برقم (3/485).(2/91)
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت" (1) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لقيتُ إبراهيم ليلة أُسري بي فقال: يا محمد أقرئ أُمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء,انها قيعان وأن غراسها سُبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" (2) .
قيعان: جمع قاع وهي الأرض المستوية الخالية من الشجر.
غراس: جمع غرس وهو : ما يستر الأرض من البذر ونحوه.
ذكر الله سبب لدخول الجنة وكلما أكثر العبد من ذكر الله كثرت غراسه في الجنة.
وعن أبي سلمة راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بخٍ بخٍ لخمسٍ ما أثقلهن في الميزان لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه" (3) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الأدب برقم (5566)، والنسائي وزاد: وهن من القرآن، وأخرجه ابن ماجة في كتاب الأدب برقم (3729)، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (4958)، والترمذي في كتاب الأدب برقم (2836).
(2) رواه الترمذي برقم (3462) وقال: "حديث حسن"، صحيح الكلم الطيب (ص27) وصحيح الترغيب برقم (1550)
(3) رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1204)، والسنة برقم (781).(2/92)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: " أوليست قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكرٍ صدقة وفي بضع أحدكم صدقة" ، قالوا : يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : " أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (1) .
أهل الدثور : أي أهل الأموال والدثور : بضم الدال وجمع دثر بفتحها وهو المال الكثير والبضع : هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، هو الجماع وقيل الفرج نفسه.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : قوله - صلى الله عليه وسلم - :" وفي بضع أحدكم صدقة" وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعاً من النظر إلى الحرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
__________
(1) رواه البخاري برقم (807) ، باب الذكر بعد الصلاة ، ومسلم برقم (595)، باب إستحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته .(2/93)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب الدثور بالدرجات العُلى والنعيم المقيم فقال: ( وما ذاك؟) فقالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: " تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثلة؟فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (1) .
وعن جويرية ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: " ما زلت على الحال التي فأرقتك عليها؟" قالت : نعم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لقد قلت بعدك كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (843)، وفي كتاب الدعوات برقم (6329) ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد برقم (1346).
(2) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6851)، والترمذي برقم (3555) والنسائي في كتاب السهو برقم (1351)، وابن ماحه في كتاب الأدب باب فضل التسبيح برقم (3808).(2/94)
وعن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال: " إن الله اصطفى من الكلام أربعاً سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فمن قال: سبحان الله كتب له عشرون حسنة وحطت عنه عشرون سيئة ومن قال : الله أكبر فمثل ذلك ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك ومن قال الحمد لله ربِّ العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة وحطت عنه ثلاثون سيئة" (1) .
باب
التسبيح بالأصابع وأنه أفضل من السبحة
روت يسيرة إحدى المهاجرات رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة وأعقدن بالأنامل فإنهن مسؤلات ومستنطقات" (2) .
باب
ثواب كلمة لا حول ولا قوة إلا بالله
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟" فقلت: بلى يا رسول الله قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". (3)
كنز من كنوز: سمي هذه الكلمة كنزاً لنفاستها وصيانتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله من ذخائر الجنة ومحصلات نفائسها ويحصل لقائله ثواباً نفيساً يدخر له في الجنة.
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالإذعان له وأنه لا صانع غيره ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر.
__________
(1) أخرجه أحمد والنسائي والحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1718).
(2) أخرجه أبو داوود برقم (1501)، والترمذي برقم (3653 تحفة ) وإسناده حسن ، المشكاة رقم (2316).
(3) رواه البخاري برقم (4205 و 6384 و 6409 و 6610 و 7386) ، ورواه ومسلم برقم (2704) و (6802).(2/95)
ومعنى الكنز هنا: أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما ان الكنز النفيس أموالكم.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا ادلك على باب من أبواب الجنة" قال: وما هو؟ قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". (1)
وعن قيس بن سعد بن عبادة، أن أباهُ دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخدمه قال: فأتى عليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صليت ركعتين فضربني برجله، وقال: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة" قلت: بلى، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". (2)
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسري به مر على إبراهيم عليه السلام فقال: من معك يا جبريل؟ قال: هذا محمد فقال له إبراهيم عليه السلام: يا محمد مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة قال: "ما غراس الجنة" قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. (3)
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علمني كلاماً أقوله قال: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله رب العالمين لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم" قال فهؤلاء لربي فمالي؟ قال: "قل اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني". (4)
__________
(1) رواه الإمام أحمد والطبراني بإسناد صحيح ، وقال الألباني: صحيح لغيره، السلسلة الصحيحة رقم (1746)، وصحيح الترغيب رقم (1581)
(2) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1582).
(3) رواه أحمد بإسناد حسن، وابن أبي الدنيا، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1583).
(4) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6788).(2/96)
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم من أسلم يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني". (1)
باب
ثواب من تعوذ بكلمات الله التامات
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة قال: "أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك". (2)
وفي رواية لأبن السني وقال فيه: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً لم يضره شيء".
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله وتمنع من وقوعه وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً وإن كان مؤذياً والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء فالتعوذات والأذكار إما أن تنفع وقوع هذه الأسباب وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه فالرقى والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض أما الأول: فكما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه { قل هو الله أحد } والمعوذتين ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يده من جسده.
وأما الثاني: فكما تقدم من الرقية بالفاتحة والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي. أ.هـ. (3)
وعن خولة بنت حيكم السلمية: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك". (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6790).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6818 و 6819).
(3) زاد المعاد (4/144و145) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6817)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3437)، وابن ماجة في كتاب الطب برقم (3547).(2/97)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أعوذ بكلمات الله التامات" قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قيل معناه: الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب وقيل: النافعة الشافية، وقيل: المراد بالكلمات هنا القرآن، والله أعلم.
باب
ثواب الذِكر طرفي النهار
وهما بين الصبح وطلوع الشمس وما بين العصر والغروب.
قال سبحانه وتعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرةً وأصيلاً } (1) .
و الأصيل قال الجوهري : هو الوقت بعد العصر إلى المغرب وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة.
ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير و بعيران.
وقال تعالى { وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } (2) .
والإبكار: أول النهار، والعشي: آخره.
وقال تعالى { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } (3) .
وهو قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل عما جاء به إلا أحدٌ قال مثل قال أو زاد عليه" (4) .
وفي رواية لأبي داوود : "سبحان الله العظيم وبحمده" .
قال النووي رحمه الله تعالى : ظاهر إطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في مجالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزاً له في جميع نهاره. (5)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية (41، 42)
(2) سورة غافر الآية (55).
(3) سورة ق الآية (39).
(4) رواه البخاري برقم (3119) و (6040)، باب فضل التهليل ،ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6784)، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء .
(5) شرح النووي (17/17) .(2/98)
وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد والشكر فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يُمسي فقد أدى شكر ليلته" (1) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال في كل كل يوم حين يصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة " (2) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً" (3) .
قال القاضي: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب برقم (5073)، والنسائي في ( عمل اليوم والليلة ) برقم (7). وابن حبان (861/1)، والبغوي في شرح السنة رقم (1328) من طرق عن عبد الله بن عنبسة ، الكلم رقم (26)، والمشكاة برقم (2407).
(2) أخرجه ابن السُني في عمل اليوم والليلة رقم(71)،وأبو داود في الأدب برقم(5081).
(3) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم (3459) و(5102)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6857)، والترمذي في كتاب الدعوات (3459).(2/99)
عن عبد الله بن خبيب - رضي الله عنه - قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليُصلي بنا فأدركناه فقال: " قل " فلم أقل شيئاً ، ثم قال "قل" فلم أقل شيئاً ثم قال "قل" فقلت: يا رسول الله ما أقول؟ قال "قل هو الله أحد" والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء" (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قال حين يمسي ثلاث مرات : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" لم تضره حُمة تلك الليلة".
قال سُهيل: فكان أهلُنا تعلموها ، فكانوا يقولونها كل ليلة ، فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعاً . (2)
عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيد الإستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت،قال: ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة" (3) .
أبوء: أُقر وأعترف بباء مضمومة ثم واو وهمزة ممدودة.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (643) والكلم (19)، والمشكاة رقم (2163).
(2) صحيح الترغيب رقم (646) .
(3) رواه البخاري في الدعوات برقم (5947)، باب أفضل الاستغفار (6306)(2/100)
قال بن أبي جمرة : جمع - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له، إنه يسمى سيد الاستغفار ففيه الإقرار لله وحده بالالهية والعبودية والاعتراف بأنه الخالق والاقرار بالعهد الذي اخذه عليه والرجاء بما وعده به والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه واضافة النعماء الى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه ورغبته في المغفرة واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، فإن تكاليف الشريعة لا تحصل إلا إذا كان في ذلك عون من الله تعالى .
وقال أيضاً : من شروط الاستغفار صحة النية، والتوجه، والأدب، فلو ان أحداً حصل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ الوارد واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد لكن أخل بالشروط هل يستويان، فالجواب: ان الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة والله اعلم .اهـ. (1)
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما من عبدٍ يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلية : باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء" (2) .
هذا لفظ الترمذي، وفي رواية ابي داود "لم تصبه فجأة بلاء" وكان أبان قد أصابه طرَفُ فالج فجعل الرجل ينظر إليه، فقال أبان: ما تنظر؟ أما إن الحديث كما حدثتك ولكنني لم أقله يومئذ ليمضيَ الله قَدَرَه.
__________
(1) فتح الباري (11/100) .
(2) رواه أبو داود في الأدب (5088)، والترمذ ي في الدعوات (3388)، وقال : حديث حسن صحيح، وأخرجه في مسنده (446-474-528/1)، والطيالسي(79) والبخاري في الأدب المفرد(660)، وابن ماجه في الدعاء (3869)، والنسائي في(عمل اليوم والليلة ) (346)، والحاكم (1/ 514) ،وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب برقم (649)، والكلم برقم (23)، والمشكاة برقم (2391) .(2/101)
وقال - صلى الله عليه وسلم - "من قال حين يصبح وحين يمسي : رضيت بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبياً" كان حقاً على الله أن يرضيه" (1)
وعن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً" (2)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : معنى الحديث صح إيمانه واطمأنت به نفسه، وظاهر باطنه لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطته بشاشة قلبه لأن من رضي أمراً سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له والله تعالى أعلم .
عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال حين يصبح وحين يمسي : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه". (3)
ووقع في رواية أبي داود وغيره " وبمحمد رسولاً" وفي رواية الترمذي " نبياً" فيستحب أن يجمع الإنسان بينهما فيقول " نبياً ورسولاً" ولو اقتصر على أحدهما كان عاملاً بالحديث.
وكذلك حديث " اللهم إني أصبحت أُشهدك وأُشهد حملة عرشك". (4)
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب (5088)و(5089)،والحاكم في الدعاء(1905/1)، والترمذي في الدعوات(3389)،النقد (ص33)،والكلم رقم(24)،والمشكاة رقم(2399).
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم (150)، والترمذي في كتاب الإيمان(2623).
(3) رواه الترمذ1ي (3389)، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (4و 565) وأبو داود (5072) وابن ماجه (3870)، والحاكم في المستدرك وابن المسني في (عمل اليوم والليلة ) (68).
(4) رواه أبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر وكذلك الشيح ابن باز رحمهما الله تعالى في تحفة الأخيار برقم (23)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1201) .(2/102)
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة:بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء". (1)
يتحصن العبد المسلم بالله ويمضي في حياته على اسمه وبسم الله يحتمة به العبد من كل سوء من معنى أو عين أو دابة أو جني أو شيطان لأنه السميع لأحوالهم العليم بها في سائر أزمنتها فلا يقع شيء إلا بإذنه سبحانه وتعالى.
والإتيان بهذا الذكر يوقي بقدر الله جميع البأس والضر.
وجاء في نهاية الحديث:" وكان أبان قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل الذي سمع منه الحديث ينظر إليه فقال له : مالك تنظر إلي؟! فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني غضبت فنسيت أن أقولها).
الغضب آفة تحول بين المرء وعقله ، وفيه الدعاء يرد القضاء,
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسى قال: " أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله لا إله إلا الله وحده لا شريك له " (2)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (446- 4747-528/1)، والطيالسي(79)، والبخاري في الأدب المفرد (660)، والترمذي في الدعوات (3388)، وابن ماجه في الدعاء(3869) والنسائي في ( عمل اليوم والليلة) (346)، والحاكم (1/514)، وصححه الذهبي وأقره.
(2) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6845)، وأبو داود في كتاب الأدب برقم (5071)، والترمذي في كتاب الدعوات برقم (3390)(2/103)
قال الراوي : أراه قال فيهن: "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير مافي هذه الليلة وخير ما بعدها ,أعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها ربَّ أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر ربِّ أعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر وإذا أصبح قال ذلك أيضاً : "أصبحنا وأصبح الملك لله" (1)
عن عبد الله بن خبيب - رضي الله عنه - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقرأ : "قل هو الله أحد" والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلا ث مرات تكفيك من كل شيء". (2)
وعن أبي عياش - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا أصبح: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كان له عدل رقبةٍ من ولد إسماعيل وكتب له عشر حسنات ، وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي فإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح" (3) .
قال حماد فرأى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرى النائم فقال: يا رسول الله !إن أبا عياش يحدث عنك بكذا وكذا؟ قال : صدق أبو عياش.
(العدل): بالكسر وفتحه لغة هو المثل ، وقيل بالكسر ما عادل الشيئ من جنسه وبالفتح ما عادله من غير جنسيه.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) رواه أبو داود والترمذي برقم (3575) .
(3) رواه أبود داود واللفظ له والنسائي وابن ماجه واتفقوا كلهم على المنام،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (650) ، و(أبو عياش ) قيل اسمه زيد ابن الصامت وقيل:زيد بن النعمان وقيل غير ذلك .(2/104)
وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من قال" سبحان الله " مائة مرة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها كان أفضل من مائةِ بدنةٍ، ومن قال: " الحمد لله " مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، كان أفضل من مائةٍ فرس يُحمَلَ عليها في سبيل الله ومن قال: " الله أكبر" مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها كان أفضل من عتق مائة رقبة ومن قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يجيء يوم القيامة أحد بعملٍ أفضل من عمله إلا من قال مثل قوله أو زاد عليه (1) .
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أنه قال -وهو في أرض الروم-: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال غدوة :" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" عشر مرات ، كتب الله له عشر حسناتٍ، ومحى عنه عشر سيئات وكن له قدر عشر رقاب وأجاره الله من الشيطان، ومن قالها عشيةً فمثل ذلك" (2) .
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله : - صلى الله عليه وسلم - " من صلى عليَّ حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامةِ" (3) .
باب
ثواب الإستغفار
قال تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعم أجرُ العاملين } (4) .
__________
(1) رواه النسائي في(عمل اليوم والليلة)،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم(651).
(2) رواه أحمد والنسائي واللفظ له وابن حبان في صحيحه ،وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(653).
(3) حسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (656).
(4) سورة آل عمران (136).(2/105)
وقال سبحانه وتعالى عن نبيه نوح : - صلى الله عليه وسلم - { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويُمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً } (1) .
رغب الله تعالى بمغفرة الذنوب وما يترتب عليها من الثواب واندفاع العقاب بعد ما يتوبوا ويستغفروا الله تعالى من ذنوبهم.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم وأتوب إليه غُفرت ذنوبه وإن كان قد فرَّ من الزحف". (2)
تعظيم الإستغفار وأنه يُكفر الكبائر ، فضل المدامومة على الاستغفار.
و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيُحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له" (3) .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَمّ فرجاً ومن ضيقٍ مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب" (4) .
ويذكر ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" (5) .
__________
(1) سورة نوح الآية (10-12).
(2) صحيح أبي داود برقم (1343).
(3) رواه أبو داود (1343).
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة برقم (1518) ، وابن ماجه في الأدب برقم (3819) وأحمد في مسنده (2234/1) والطبراني في الدعاء (1774) والنسائي (456) في (عمل اليوم والليلة) والحاكم (4/ 262) والبيهقي 3/351وابن السني في (عمل اليوم والليلة) برقم (364)، والمزي في تهذيب الكمال (5/107) ط دار الفكر.
(5) ذكره البيهقي في الطب النبوي (ص24) والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (7/179)، السلسلة الصحيحة رقم(199)،والتوسل(ص133)،والمشكاة(2452).(2/106)
وثبت في الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة . (1) .
وفي الترمذي : "أنها باب من أبواب الجنة" (2) .
قال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: ( هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعاً من الدواء فإن لم تقوَ على إذهاب داء الهم والغم والحزن فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه ويحتاج إلى استفراغ كلي.
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني : توحيد الإلوهية.
الثالث: التوحيد العلمي الإعتقادي.
الرابع : تنزيه الربُّ تبارك وتعالى عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء وهو أسماؤه وصفاته ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات الحيُّ القيوم.
السابع: الإستعانة به وحده.
الثامن : إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه والإعتراف له بأن ناحيته في يده يصرفه كيف يشاء وأنه ماضٍٍ فيه حكمه عدلٌ فيه قضاؤه.
العاشر : أن يرتع قلبه في رياض القرآن ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات وأن يتسلى به عن كل فائت ويتعزى به عن كل مصيبة ويستشفي به من أدواء صدره فيكون جلاء حزنه وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الإستغفار.
الثاني عشر : التوبة .
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر : الصلاة .
الخامس عشر البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.أ.هـ (3)
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات برقم (3592)، ومسلم في الذكر والدعاء برقم (2704).
(2) في الدعوات برقم (3592).
(3) زاد المعاد (4/159-160) .(2/107)
وعن أنس - رضي الله عنه - قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" (1) .
فيه بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى.
والإيمان بالله شرط في مغفرة الذنوب فإن الله لا يغفر لأأن يشرك به ولا يغفر لمشرك وإذا تاب العبد ن ذنوبه توبة نصوحاً غفرها الله له ولو كانت ملئ الأرض أو بلغت عنان السماء.
عنان السماء: بفتح العين قيل هو السحاب وقيل : هو ما عنَّ لك منها أي ظهر.
قراب الأرض:بفتح القاف وروي بكسرها والضم أشهر وهو ما يقارب ملأها .
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروى عن الله عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم" (2) .الحديث.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (3540)، وللحديث شاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه أحمد (5/132)، والدارمي (2/322) من طريق غيلان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب عنه به، الصحيحة (ص595)، المشكاة (4336).
(2) رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم (2577) .
(3) رواه مسلم في كتاب التوبة برقم (6899).(2/108)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (1) .
والاستغفار : هو طلب المغفرة وهي الصفح عن الذنب وتبديله.
وتكفير الذنوب على قسمين:
الأول : المحو كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "واتبع السئة الحسنة تمحها " وهذا مقام العفو.
الثاني : التبديل كما في قوله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } (2) . وهذا مقام المغفرة.
فالمغفرة فيها زيادة إحسان وتفضل على العفو وكلاهما خير وبشرى.
والتوبة : هي العزم على التوبة .
وهذا حضٌ للأمة على الاستغفار والتوبة منه - صلى الله عليه وسلم - مع كون غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه.
وفيه حضٌ للعبد على الإكثار من التوبة والإستغفار لأن العبد لا ينفك عن ذنب أو تقصير وإنه إلى الله المصير كما قال - صلى الله عليه وسلم - "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" (3) .
قال النووي رحمه الله تعالى : ( قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزماً جازماً أن لا يعود إلى مثلها أبداً ، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو: ردّ الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه والتوبة أهم قواعد الإسلام وهي : أول مقامات سالكي طريق الآخرة.
__________
(1) رواه البخاري برقم (5948)، باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة.
(2) سورة الفرقان الآية (70).
(3) رواه مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه برقم (6799).(2/109)
وعن أبي أيوب أنه قال: حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لو لا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم" (1) .
وعنه - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لولا أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم" (2) .
عن الأغر المزني وكانت له صحبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " (3) .
الغين هنا : ما يتغشى القلب قال القاضي : قيل المراد: الفترات والغفلات عن الذكر كان شأنه الدوام عليه فإذا فتر عنه أو غفل عدَّ ذلك ذنباً واستغفر منه.
وعن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وأذا حدثني من أصحابه استحلفته فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه، قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من عبد يذنب ذنباً فيُحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له" ثم قرأ هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } (4) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب التوبة برقم(6797)،والترمذي في الدعوات برقم(3539).
(2) رواه مسلم في كتاب الدعوة برقم(6869)،والترمذي في كتاب الدعوات برقم(3539)
(3) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم( 6768)، وأبو داود في كتاب الصلاة برقم (1515).
(4) رواه أبو داود برقم (1343).(2/110)
وعن أبي مالك عن أبيه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل فقال يا رسول الله : كيف أقول حين أسأل ربّي عز وجل ، قال قل " اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني" ويجمع أصابعه إلا الإبهام (فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك" (1) .
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - ،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة (2) .
هذا الدعاء جامع لمعاني التوبة كلها مع الإقرار لله بالإلوهية والإعتراف بأنه الخالق والإقرار بالعهد الذ1ي أخذه عليه بما وعده به الاستعاذة من شر النفس وإضافة النعماء إلى موجدها وإضافة الذنب إلى نفسه واعترافه بأنه لا يقدر على ذلك إلا هو كل هذا مسبوك ببديع المعاني وأحسن الألفاظ ولذلك سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد الاستغفار.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لله تسعةٌ وتسعون اسماً من حَفِظَها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر" (3) .
وفي رواية ابن أبي عمر " من أحصاها"
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6791) ، وابن ماجه في كتاب الدعاء برقم (3845).
(2) أخرجه البخاري برقم (5947)، باب أفضل الاستغفار .
(3) رواه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6410)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6750).(2/111)
قال النووي رحمه الله تعالى : قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أحصاها دخل الجنة) فاختلفوا في المراد بإحصائها فقال البخاري وغيره من المحققين معناه: حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسراً في الرواية الأخرى (من حفظها) وقيل : أحصاها عدها والطاعة بكل اسمها والإيمان بها لا يقتضي عملاً وقال بعضهم : المراد حفظ القرآن وتلاوته كله لأنه مستوفٍ لها وهو ضعيف والصحيح الأول.
و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من مسلم يسأل الله الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة اللهم أدخله الجنة ومن استجار من النار قالت النار اللهم أجره من النار" (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا رأى أحدكم ما يُعجِبه في نَفسِه أو ماله، فليبرك عليه فإن العين حق" (2) .
وقال أبو سعيد - رضي الله عنه - ،كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما (3) .
و عن رجل قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعثرت دابته فقلت: تَعِسَ الشيطان فقال: " لا تقل تَعِسَ الشيطان فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول: بقوتي، ولكن قل بسم الله فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب" (4) .
باب
ثواب الدعاء عند الرفع من الركوع وفي الاعتدال
قال رفاعةُ بن رافعٍ: كنا يوماً نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" فقال رجل وراءه "ربنا ولك الحمد حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه" فلما انصرف قال: "من المتكلم؟" قال: أنا قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول". (5)
__________
(1) رواه الترمذي (2575).
(2) الكلم (243).
(3) صحيح الكلم الطيب (ص115)
(4) صحيح الكلم الطيب (ص237).
(5) أخرجه البخاري برقم (766)، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد ، ومسلم برقم (600)، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة(2/112)
يبتدرونها أي: يسارعون إلى كتابة هذه الكلمات لعظم قدرها.
ولمسلم عن أنس - رضي الله عنه - ، أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: أيكم المتكلم بالكلمات؟" فأرم القوم، فقال: "أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً" فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها: فقال: "لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها". (1)
"حفزه النفس" هو بفتح حروفه وتخفيفها أي ضغطه لسرعته.
"فأرم القوم" هو بفتح الراء وتشديد الميم أي سكنوا، قال القاضي عياض: ورواه بعضهم في غير صحيح مسلم فأزم بالزاي المفتوحة وتخفيف الميم من الأزم وهو الإمساك وهو صحيح المعنى.
فيه دليل على أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة أيضاً.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". (2)
وفي رواية: "ربنا ولك الحمد" بالواو.
باب
وسوسة الشيطان وعلاجها
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خَلق كذا؟ من خلقَ كذا؟ حتى يقول من خلق رَبَّك؟ فإذا بَلَغَهُ فليستعِذْ بالله ولينتَهِ". (3)
وفي رواية لمسلم: "فليقل آمنت بالله ورسوله". (4)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة برقم (600)، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان برقم (749)، باب الرجعة المأموم بالتأمين ، ومسلم في الصلاة برقم (912).
(3) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم(3276)،ومسلم في كتاب الإيمان برقم(134).
(4) صحيح مسلم (1/120).(2/113)
وعن عثمان بن ابي العاص - رضي الله عنه - ، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا".
قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني. (1)
"يلبسها": أي يخلطها ويشككني فيها، وهو بفتح أوله وكسر ثالثه.
ومعنى حال بيني وبينها: أي نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها . (2)
باب
ثواب الأذكار بعد الصلاة وفضلها
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال: "ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين". (3)
الدثور: هو المال الكثير.
وعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاثاً وثلاثين تسبيحة وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة". (4)
قوله: "معقبات" معناه: تسبيحات تفعل أعقاب الصلاة، سُميَّت معقبات لأنها تفعل مرة بعد مرة أخرى. شرح النووي (5/95).
__________
(1) رواه مسلم في كتاب السلام برقم (2203).
(2) شرح النووي (14/190) .
(3) رواه البخاري في كتاب الأذان برقم (843)، ومسلم في كتاب المساجد برقم(595).
(4) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (596).(2/114)
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قرآ آية الكرسي عقب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت". (1)
يعني لم يكن بينه وبين دخول الجنة إلا أن يموت.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خصلتان أو خلتان لا يحافظ عليها عبد مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله تعالى دبر كل صلاة عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً فذلك خمسون ومئة باللسان وألف وخمس مئة في الميزان ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويسبح ثلاثاً وثلاثين فذلك مئة باللسان وألف بالميزان" قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها بيده، قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بها قليل؟ قال: "يأتي أحدكم يعني الشيطان في منامه فينومه قبل أن يقوله ويأتيه في صلاته فيذكره حاجةً قبل أن يقولها". (2)
باب
الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة الصبح والمغرب
عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت كأجر حجة وعمرة تامة تامةٍ تامةٍ". (3)
__________
(1) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة برقم (100)، وابن السني في عمل اليوم والليلة) برقم (123)، والطبراني (7532)، من طرق عن محمد بن حمير، المشكاة (974)، والسلسلة الصحيحة رقم (972)، تمام المنة (ص 227).
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي،المشكاة(2406)،والكلم(111)،وصحيح الترغيب
(3) صحيح الجامع للشيخ الألباني برقم(6222)، وصحيح الترغيب برقم (461).(2/115)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال في دبر صلاةِ الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كُتِبَ له عشر حسنات ومحي عنه عشر سئيات ورُفعَ له عشر درجات وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحُرِسَ من الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه اليوم إلا الشرك بالله تعالى". (1)
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حَسَناً". (2)
"حَسَناً" بفتح السين وبالتنوين أي طلوعاً حسناً أي: مرتفعة.
وعن عمارة بن شبيب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير (عشر مرات) على أثر المغرب بعث الله له مسلحة يحفظونه من الشيطان حتى يصبح، وكتب الله له بها عشر حسنات موجبات ومحا عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له بعدل عشر رقباتٍ مؤمناتٍ". (3)
وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (عشر مرات) كتب الله له بهن عشر حسنات ومحا بهن عشر سيئات ورفع له بهن عشر درجات وكن له عدل عِتاقةِ أربع رقابٍ وكن له حَرَساً حتى يمسي، ومن قالهن إذا صلى المغرب دُبر صلاته فمثل ذلك حتى يصبح". (4)
__________
(1) تمام المنة (ص 922).
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (670).
(3) رواه النسائي والترمذي وقال:حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد، لا نعرف لعمارة سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (469).
(4) رواه أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه، وهذا لفظه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (470).(2/116)
وزاد ابن حبان في رواية له: "وكن له عدل عشر رقاب".
(إذا أصبح): أي إذا صلى الصبح.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال دبر صلاةِ الغداةِ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مائة مرة قبل أن يثني رجليه كان يؤمئذ من أفضل أهل الأرض عملاً إلا من قال مثل ما قال، أو زاد على ما قال". (1)
وعن عبد الرحمن بن غنم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" عشر مرات كتب الله له بكل واحدةٍ عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشرَ درجات وكانت جِرزاً من كل مكروه وجرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يَجلّ الذنبِ أن يُدركه إلا الشرك وكان من أفضل الناس عَمَلاً، إلا رجلاً يفضُلُهُ، يقول أفضل مما قال". (2)
باب
ثواب ذكر الله بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة".
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تامة تامة تامة". (3)
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (471).
(2) رواه أحمد ،وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم(472)
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (464).(2/117)
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله، من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن اقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة". (1)
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناً" أي طلوعاً حسناً أي مرتفعة". (2)
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن أقعد أذكر الله سبحانه وتعالى، وأكبره، وأحمدْ، وأسبحه، وأهلله، حتى تطلع الشمس، أحب إلي من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل، ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل". (3)
وعنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى صلاة الغداة في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجةٍ وعمرةٍ". (4)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الصبح، ثم جلس في مجلسهِ حتى تُمِكنَه الصلاةُ، كان بمنزلة عمرةٍ وحجةٍ متقبلتين". (5)
__________
(1) السلسلة الصحيحة رقم (2916)، وصحيح الترغيب رقم (465).
(2) رواه مسلم في كتاب المساجد برقم (670).
(3) رواه أحمد بإسناد حسن، وحسنه الألباني في الترغيب برقم (466).
(4) رواه الطبراني بإسناد جيد،وكذا قال الهيثمي،الصحيحة برقم (3403) ،صحيح الترغيب برقم (467).
(5) رواه الطبراني في الأوسط، ورواته ثقات إلا الفضل بن الموفق، ففيه كلام، وقال الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب رقم (468).(2/118)
وعن عبد الله بن غابر، أن أبا أمامة وعُتبة بن عبدٍ حدثاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت حتى يسبح لله سبحة الضحى، كان له كأجر حاجٍ ومعتمر، تاماً له حجهُ وعمرته". (1)
عن أبي وائل قال: غدونا على عبد الله بن مسعود يوماً بعدما صلينا الغداةَ، فسلمنا بالباب فأُذِنَ لنا قال: فمكثنا بالباب هُنية قال: فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخُلُونَ؟ فدخلنا فإذا هو جالس يُسبِّحُ فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أُذِنَ لكم؟ فقلنا: لا، إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، قالَ: ظننتم بآل ابن أم عبد غَفْلَةً؟ قال: ثم أقبل يسبح حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لم تطلُع، فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت. فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، (فقال مهدي وأحسبُهُ قالَ) ولم يُهلكنا بذنوبنا، قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة كُلَّهُ قال، فقال عبد الله: هذا كهذا الشعر؟ إنا لقد سمعنا القرائن وإني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤُهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر من المفصلِ وسورتين من آل حم. (2)
ذكر الأبي في شرحه على مسلم في شرح هذا الحديث:
فائدة الحديث قبول خبر الواحد والعمل بالظن مع القدرة على اليقين لأنه اكتفى بخبرها مع قدرته على رؤية طلوعها.
وفيه أن الأوقات المخصوصة بالذكر ثواب الذكر فيها أكثر من ثواب التلاوة، وفيه، ان الكلام بمثل هذا لا يقطع ورد التسبيح والذكر.أهـ. (3)
باب
ثواب الأذكار بعد صلاة الصبح
__________
(1) رواه الطبراني، وبعض رواته مختلف فيه، وللحديث شواهد كثيرة، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (469).
(2) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين برقم (278).
(3) شرح مسلم للأبي (3/174)(2/119)
عن أبي ذر - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه، وحُرِس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله". (1)
ورواه النسائي وزاد فيه: "بيده الخير" وزاد فيه أيضا: "وكان له بكل واحدةٍ قالها عتقُ رقبة مؤمنةٍ".
باب
ما يقول حال خروجه من بيته
عن أنس - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قال يعني إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له :كُفيتَ ووقيت وهديت وتنحى عنه الشيطان" (2) .
وزاد أبو داود في رواية : "فيقول يعني الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل هُديّ وكُفي ووقي؟"
باب
ما يقوله إذا كان يفزع من نومه أو يرى في منامه ما يكره
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا أنه يفزع في منامه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا أويت إلى فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" (3) .
فقالها فذهب عنه.
عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان فمن رأى رؤيا يكره منها شيئاً فلينفث عن يساره ثلاثاً
__________
(1) رواه الترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن غريب صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب برقم (472).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب برقم (5095) ، والترمذي برقم (3426) في كتاب الدعوات وقال : حديث حسن ، المشكاة(2443) ، والكلم (61) ، وصحيح الجامع (4249 و 6419).
(3) رواه ابن السني، السلسلة الصحيحة حديث رقم (246).(2/120)
وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره ولا يُخبر بها أحد وإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب" (1) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - من عُرضت عليه رؤيا فليقل لمن عَرَضَ عليه خيراً (2) .
وعن جابر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يسار ه ثلاثاً ، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن مكانه الذي كان عليه" (3) .
وفي رواية للبخاري ومسلم : "وإذا رأى ما يكرهه فليتعوذ بالله من شرِّها وشرِّ الشيطان، وليتفل عن يساره ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره".
وروياه عن أبي هريرة وفيه: " فمن رأى شيئاً يكرهه ، فلا يقصه على أحد ، وليقم فليصل". (4)
الحلم: بضم الحاء وسكون اللام وبضمها: هو الرؤيا وبالضم والسكون فقط هو رؤية الجماع في النوم، وهو المراد هنا.
فليتفُل: بضم الفاء وكسرها أي : فليبزق.
وقيل: التفل أقل من البزق، والنفث أقل من التفل.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي – أو دعا- استجيب له، فإنْ توضأ ثم صلى قبلت صلاتُه". (5)
تعار: بتشديد الراء أي استيقظ.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم(3292)،ومسلم في كتاب الرؤيا برقم(2262)
(2) أخرجه الدارمي برقم (2163) عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه مسلم في كتاب الرؤيا برقم (2262) ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
(4) رواه البخاري في كتاب التعبير برقم(7017)،وصحيح مسلم كتاب الرؤيا برقم(2263) .
(5) رواه البخاري في كتاب التهجد برقم(1154)، باب فضل من تعار من الليل فصلى .(2/121)
قال علي - رضي الله عنه - : فهذه إباحة لذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل الوضوء نصا وهي فضيلة والفضائل لا تنسخ لأنها من نعم الله علينا قال الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ... (1)
باب
ثواب ما يقول من استيقظ من نومه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد يضرب على كل عقدةٍ مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة
فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" (2) .
(على قافية رأس أحدكم) : القافية آخر الرأس وقافية كل شيءٍ آخره ومن قافية الشعر.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فأصبح نشيطاً طيب النفس" معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة ووعده به من ثوابه مع ما يبارك في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه.
(انحلت عقده كلها) قال الألباني رحمه الله تعالى : قلت في تفسير " العقد" أقوال، والأقرب أنه على حقيقته بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام، كما يعقد الساحر من سحره، كما أخبر بذلك المولى تعالى ذكره في كتابه الكريم { ومن شر النفاثات في العقد } فالذي خذل يعلم فيه ، والذي وفق يصرف عنه ، ومما يدل على أنه على الحقيقة ما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً : " على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد" الحديث، وما رواه ابن خزيمة وذكره المصنف في هذا الباب عن جابر رضي الله عنه " على رأس جرير معقود" وفسر الجرير بالحبل .أ.هـ. (3)
__________
(1) المحلى لابن حزم (1/86) .
(2) البخاري برقم (1091)، باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل ، ومسلم برقم (776)، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح .
(3) صحيح الترغيب (ص324).(2/122)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من ذكر ولا أُنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد بالليل فإن استيقظ فذكر الله انحلت عُقدةٌ فإذا قام فتوضأ وصلى انحلت العُقَدُ، وأصبح خفيفاً طيب النفس، قدأصاب خيراً" (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد على روحي و عافاني في جسدي و أذن لي بذكره". (2)
قوله: "إذا استيقظ أحدكم" قال المناوي: أي رجعت روحه لبدنه بعد نومه، فليقل ندباً الحمد لله أي الثناء على الله سبحانه وتعالى، الذي ردّ علي روحي احساسي وشعوري، والنوم أخو الموت، قال الله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } الآية (3) ، ومن ثم قيل النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل "وعافاني" سلمني من الآفات والبلاء "في جسدي" أي بدني وظاهره أنه يقوله وإن كان مريضاً أو مبتلى لأنه ما من بلاء إلا وفوقه أعظم منه "وأذن لي بذكره" أي فيه بأن أيقظ قلبي وأجري لساني به ، وفيه ندب الذكر عند الانتباه من النوم وأفضله المأثور وهو كثير ومنه هذا المذكور .
__________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه و قال الجرير: الحبل، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (608).
(2) قال المناوي رواه ابن السني في اليوم والليلة عن أبي هريرة، قال النووي: سنده صحيح. وقال ابن حجر: حسن فقط لتفرد محمد بن عجلان به وهو سيء الحفظ وتبعه المؤلف فرمز لحسنه وظاهره اقتصاره على ابن السني أنه لم يخرجه أحد من السنة ولا كذلك بل رواه الترمذي والنسائي وقال مغلطاي ليس لحديثي عزو حديث في أحد الستة لغيرها إلا لزيادة ليست فيها أو لبيان سنده ورجاله. فيض القدير . صحيح الجامع حديث رقم (329).
(3) سورة الزمر الآية (42) .(2/123)
وفي رواية عنه: "إذا قام أحدكم عن فراشه ثم رجع إليه فلينفضه بصنفة إزاره ثلاث مرات فإنه لا يدري ما خلفه عليه بعده و إذا اضطجع فليقل : باسمك ربي وضعت جنبي و بك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها و إن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين فإذا استيقظ فليقل: الحمد لله الذي عافاني في جسدي و رد على روحي و أذن لي بذكره". (1)
باب
ما يقول إذا أراد النوم واضطجع على فراشه.
عن علي - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له ولفاطمة رضي الله عنهما: "إذا أويتما إلى فراشكما أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين"
وفي رواية " سبحا أربعاً وثلاثين".
وفي رواية "سبحا أربعاً وثلاثين" وفي رواية "وكبرا أربعاً وثلاثين".
قال علي: فما تركته منذ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قيل له: ولا ليلة صفين، قال: ولا ليلة صفين" (2) .
وفي رواية: "أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها" الحديث.
ليلة صفين: هي ليلة الحرب المعروفة بصفين وهي موضع بقرب الفرات كانت فيه حرب عظيمة بينه وبين أهل الشام.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقدس الله روحه: بلغنا أنه من حافظ على هذه الكلمات لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره.
__________
(1) صحيح الجامع حديث رقم (716).
(2) رواه البخاري في كتاب فرض الخمس برقم (3113)، وفي كتاب فضائل الصحابة برقم (3705)، وفي كتاب النفقات برقم (5360) و (5362)، وفي كتاب الدعوات برقم (6318)، وأخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم (6853 و 6856).(2/124)
وعن البراء بن عازب ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أخذت مضدجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت واجعلهن من آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة" واجعلهن آخر ما تتكلم به".
قال: فرددتهن لاستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي ارسلت قال: "قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت" وزاد في حديث حصين: "وإن أصبح أصاب خيراً".
"أسلمت نفسي إليك" أي: توكلت عليك واعتمدتك في أمري كله كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده.
"رغبة ورهبة" أي طمعاً في ثوابك وخوفا من عذابك.
"مت على الفطرة" أي: الإسلام.
"وإن أصبحت أصبت خيراً" أي: حصل لك ثواب هذه السنن واهتمامك بالخير ومتابعتك أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال النووي رحمه الله: وفي هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة:
إحداها: الوضوء عند إرادة النوم فإن كان متوضأ كفاه ذلك الوضوء لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق الرؤيا وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه.
الثانية: النوم على الشق الأيمن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيامن ولأنه أسرع إلى الانتباه.
الثالثة: ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله.
قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا، ونبيك الذي ارسلت " قال الألباني رحمه الله تعالى: "فيه تنبيه قوي على أن الأوراد والأذكار توقيفية، وأنه لا يجوز فيها التصرف بزيادة أو نقص، ولو بتغيير لفظ لا يفسد المعنى فإن لفظ "الرسول" أعم من لفظة "النبي" ومع ذلك رده النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أن البراء - رضي الله عنه - قاله سهواً لم يتعمده! فأين منه أولئك المبتدعة؟ الذين لا يتحرجون من أي زيادة في الذكر، أو نقص منه ؟! فهل من معتبر؟(2/125)
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خصلتان أو خلتان لا يحافظ المرء عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة ، هما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح في دبر كل صلاة عشراً ، ويحمد عشراً ، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسائة في الميزان، يكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه ، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان " فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقدها قالوا: يا رسول الله : كيف "هما يسير ، ومن يعمل بهمها قليل"؟ قال: " يأتي أحدكم ( يعنى) الشيطان في منامه فينَوِّمُهًُ قبل أن يقوله ، يأتيه في صلاته، فيذكره حاجةً قبل أ ن يقولها" (1) .
وزاد ابن حبان في " صحيحه"
" وألف وخمسمائة في الميزان" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأيكم يعمل في اليوم والليلية ألفين وخمسمائة سيئة؟"
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: باسمك ربّي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (2) .
حياة العبد يجب أن تكون مرتبطة بمنهج الله وأعماله قائمة على اسم الله تعالى، والتوفيق أن لا يكلك الله طرفة عين وأن يحفظك ويرعاك برحمته، والخذلان أن يكّلك إلى نفسك، ومن حفظ الله حفظه الله ولذلك فالله يحفظ عباده الصالحين في أنفسهم وأموالهم وأبنائهم.
__________
(1) رواه أبو داود واللف له والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب برقم (603).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات برقم (6320)، ومسلم برقم(2714)و(6830).(2/126)
وعن أبي مسعود الأنصاري البدري عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الآيتان من آخِرِ سورةِ البقرة من قرأ بهما ليلةٍ كفتاه" (1) .
قيل كفتاه من الآفات في ليلته.
قال النووي رحمه الله في كتاب الأذكار قلت: ويجوز أن يُراد الأمران.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام.. . وذكر الحديث وقال في آخره: " إذا أويت إلى
فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله تعالى حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " صدقك وهو كذوب ذاك شيطان" (2) .
قال ابن حجر : قوله: وهو كذوب من التتميم البليغ الغاية في الحسن لأنه أثبت له الصدق فاوهم له صفة المدح، ثم استدرك ذلك بصفة المبالغة في الذم بقوله وهو كذوب . (3)
فوائد الحديث :
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن برقم(5008 و5009)و(5040)و(5051).
(2) رواه البخاري برقم (2187)، باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا فأجازه الموكل فهو جائز وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز .
(3) فتح الباري (4/489) .(2/127)
قال ابن حجر : وفي الحديث من ما تقدم أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن وأن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها، وأن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وأن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمنا، وبأن الكذاب قد يصدق، وبأن الشيطان من شأنه أن يكذب، وأنه قد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته، وأن قوله تعالى أنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها، وأن من أقيم حفظ شيء سمي وكيلا، وأن الجن يأكلون من طعام الإنس، وإنهم يظهرون للإنس لكن بالشرط المذكور، وإنهم يتكلمون بكلام الإنس، وإنهم يسرقون ويخدعون، وفيه فضل آية الكرسي، وفضل آخر صورة البقرة، وأن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه، وفيه أن السارق لا يقطع في المجاعة ويحتمل أن يكون القدر المسروق لم يبلغ النصاب ولذلك جاز للصحابى العفو عنه قبل تبليغه إلى الشارع، وفيه قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، وفيه اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على المغيبات، ووقع في حديث معاذ بن جبل أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعلمه بذلك، وفيه جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر وتوكيل البعض لحفظها وتفرقتها.اهـ. (1)
عن رجل قال: كنت جالساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله : لُدغت الليلة فلم أنم حتى أصبحت قال: "ماذا؟" قال: عقرب ، قال: " أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك شيء إن شاء الله تعالى" (2) .
__________
(1) فتح الباري (4/489) .
(2) رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح ، صحيح الجامع (1318).(2/128)
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أوى إلى فراشه طاهراً وذكر الله عز وجل حتى يدركه النعاس لم ينقلب من الليل يسأل الله عز وجل فيها خيراً من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده".
وفي رواية لهما : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فقرأ فيها: { قل هو الله أحد } و { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقيل من جسده فعل ذلك ثلاث مرات" (2) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لوأن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً" (3) .
(لم يضره) : لا يصيبه الشيطان بأذى .
وفيه استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتى في حالة الجماع والاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسماء، وفيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا يفتر عنه إلا إذا ذكر الله تعالى.
باب
ما يقول إذا نزل منزلاً
__________
(1) صحيح الكلم الطيب (ص43).
(2) رواه البخاري برقم (5960)، باب التعوذ والقراءة ثم النوم، ومسلم برقم (2192)، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء برقم (141)، وأخرجه أيضاً في كتاب بدء الخلق برقم (3271 و3283)، وفي النكاح (5165)، وفي الدعوات برقم (6388)، وفي كتاب التوحيد برقم (7396)، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح برقم (3519).(2/129)
عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" (1) .
التامات: معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب، وقيل النافعة الشافية.
عن أنس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا بُني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك" (2) .
عن جابر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء". (3)
كل ما يذكر اسم الله عليه ييأس الشيطان منه فإذا غفل حل في غفلته ونال مراده منه.
الشيطان يبيت في البيوت التي لم يذكر الله تعالى فيها ويأكل من طعام أهلها إذا لم يذكروا اسم الله عليها.
وعن أمية بن مخشي الصحابي - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً ورجل يأكل فلم يسمِ الله حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة فلما رفعها إلى فيه قال: بسم الله أوله وآخره فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله استقاء ما في بطنه" (4) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء برقم(2708)، والترمذي برقم 3437، وابن ماجه برقم (3547) ، والدارمي برقم (2680)
(2) رواه الترمذي (2698)وقال: حديث حسن صحيح، الكلم(62)، والمشكاة(4652).
(3) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم(5230)،وأبو داود في كتاب الأطعمة برقم(3765)
(4) رواه أبو داود والنسائي، مشكاة المصابيح رقم (4203)، والكلم الطيب رقم(183)، والرياض رقم (735).(2/130)
الشيطان يشارك في طعام من لم يذكر اسم الله عليه إن ذكر الله على الطعام ولو لم يبق منه إلا جزء يسير يحرم الشيطان من كل ما كان قد أكل قبل.
كتاب النكاح
باب
الحث على النِّكَاح سيَّما بذاتِ الدِّين الوَلُود
عن أبي ذر - رضي الله عنه - : "أن ناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (1) .
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أعض للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" (2) .
المعشر : هم الطائفة الذين شملهم وصف. فالشباب معشر والشيوخ معشر والأنبياء معشر، والشباب جمع شاب، وهو مَنْ بلغَ ولم يجاوز الثلاثين.
الباءة: أصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل.
والوِجاء :بكسر الواو وبالمد: هو رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء . (3)
__________
(1) ) ) أخرجه البخاري برقم (807) ، ومسلم برقم (1006) .
(2) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5065)،ومسلم في كتاب النكاح برقم(1400).
(3) شرح النووي (9/173).(2/131)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء رهطٌ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم الدهر فلا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا؟
أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
تقالوها: أي استقلوها، وأصل تقالوها: تقاللوها، أي رأى كل منهم أنها قليلة.فتح الباري (9/105)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (1) .
قال النووي رحمه الله: "الصحيح في معنى هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بما يفعله الناس في العادة، فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين. أ.هـ (2) .
وقوله: "تربت يداك" كلمة معناها الحث والتحريض، وقيل: هي هنا دعاءٌ عليه بالفقر، وقيل: بكثرة المال واللفظ مشترك بينهما، قابل لكل منهما، والآخر هنا أظهر. ومعناه: اظفر بذات الدين لا تلتفت إلا المال ، وأكثر الله مالك، والله تعالى أعلم.
باب
نهي المؤمن عن نكاح المشركة
ونهي المؤمنة عن نكاح المشرك
حرم الله سبحانه وتعالى على المؤمن أن ينكح المشركة، كما حرم على المؤمنة نكاح المشرك .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم(5090)،ومسلم في كتاب الرضاع برقم(3620).
(2) شرح النووي (10/293).(2/132)
فقال الله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } . (1)
قيل في سبب نزولها: أن رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي، - صلى الله عليه وسلم - ، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم اعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد: ألا تخلو؟ فقال إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئت تزوجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، استأذنته في ذلك، فقالت له: أبي تتبرم؟ واستغاثت عليه، فضربوه ضربا شديدا، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فسأله: أتحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي.
وعن نافع : أن بن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله . (2)
__________
(1) )) سورة البقرة الآية (221) .
(2) )) رواه البخاري برقم (4981) ، باب قول الله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } .(2/133)
قال ابن حزم رحمه الله تعالى : فإنما حرم فيهن النكاح فقط والنكاح ليس إلا عقد الزواج أو الوطء فقط فإذا ملكناهن فلم تحرم علينا أعيانهن إذ لا نص في ذلك ولا إجماع وإنما حرم وطئهن فقط وبقي سائر ذلك على التحليل بملك اليمين كالمملوكة والحائض والمحرمة والصائمة فرضا والمعتكفة فرضا والحامل السيد ولا فرق فلما لم يكن في واحدة من العين كن فراشا الوطء فكان الوطء وإن كان حراما فهو في فراش لم يحرم فيه إلا الوطء فقط وكل وطء محرم العين فليس عهرا ولا زنى وإنما العهر ما كان العين فقط وبالله تعالى التوفيق . (1)
وقال تعالى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } . (2)
قال الإمام الطبري : يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر ففارقتني والكوافر جمع كافرة والعصم جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد والسبب وهذا نهي من الله للمؤمنين عن الإقدام على نكاح النساء المشركات من أهل الأوثان وأمر لهم بفراقهن . (3)
قال الشافعي : وقد قيل في هذه الآية إنها نزلت في جماعة مشركي العرب الذين هم أهل الأوثان فحرم نكاح نسائهم كما حرم أن ننكح رجالهم المؤمنات .
وقال : وإن كانت الآية نزلت في تحريم نساء المؤمنين على المشركين وفي مشركي أهل الأوثان فالمسلمات محرمات على المشركين منهم بالقرآن على كل حال وعلى مشركي أهل الكتاب لقطع الولاية بين المشركين والمسلمين وما لم يختلف الناس فيه علمته . (4)
باب
النهي عن نكاح الشغار
__________
(1) )) المحلى لابن حزم (11/255-256) .
(2) )) سورة الممتحنة الآية (10) .
(3) )) تفسير الطبري (28/71) .
(4) )) كتاب الأم (5/6) .(2/134)
الشِّغار: الطَّرْد، يقال: شَغَرُوا فلاناً عن بلده شَغْراً و شِغَاراً إِذا طَرَدُوهُ ونَفَوْهُ. والشِّغار، بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أَن تُزوِّج الرجلَ امرأَةً ما كانت، على أَن يزوّجك أُخرى بغير مهر، وخص بعضهم به القرائب فقال: لا يكون الشِّغار إِلا أَن تنكحه وَلِيَّتك، على أن ينكحك وليَّته؛ وقد شَاغَرَهُ؛ الفراء: الشِّغار شِغَارُ المتناكحين، ونهى رسولا، عن الشِّغار؛ قال الشافعي وأَبو عبيد وغيرهما من العلماء: الشِّغار المنهي عنه أَن يزوّج الرجل الرجلَ حريمتَه على أَن يزوّجه المزوَّج حريمة له أُخرى، ويكون مهر كل واحدة بُضْعَ الأُخرى، كأَنهما رفعا المهر وأُخليا البضع عنه . (1)
وعن نافع، عن بن عمر رضي الله عنهما ،"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق". (2)
باب
نكاح الكتابيات
قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . (3)
قال ابن قيم الجوزية: ويجوز نكاح الكتابية بنص القرآن. قال تعالى: { وَالمُحصنَاتُ منَ المُؤْمنات وَالمُحْصنَات منَ الذينَ أوتوا الكتابَ منْ قَبْلكمْ } والمحصنات هنا هُن العَفائف، وأماَ المحصنات المحرمَات في سورة "النسَاء" فهن المزوجات.
__________
(1) )) لسان العرب (4/417) .
(2) )) رواه البخاري برقم (4822)، باب الشغار، ومسلم برقم (1415)، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه .
(3) )) سورة المائدة الآية (5) .(2/135)
وقيل: المحصنات اللاتي أُبحن هنّ الحرائر، ولهذا لم تحل إماء أهل الكتاب.
والصحيح الأول بوجوه: أحدها أن الحريِة ليست شرطاً في نكاح المسلمة.
الثاني: أنه ذكر الإحصان في جانب الرجل كما ذكره في جانب المرأة فقال: { إذَا آتيَتمُوهُن أجوُرَهُن مُحْصنين } وهذا إحصان عفة بلا شك، فكذلك الإحصان المذكور في جانب المرأة.
الثالث: أنه سبحانه ذكر الطيبات من المطاعم، والطيبات من المناكح فقال تعالى: { الْيومَ أحِل لَكُمْ الطيبَاتُ، وَطَعامُ الذينَ أوتوُا الكتابَ حل لَكُمْ وَطَعَامكُمْ حل لَهُمْ، وَالمُحْصناتُ منَ المُؤْمِناتِ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الذيِنَ أوتوا الكِتَابَ مِنْ قبلِكُمْ } . والزانية خبيثة بنص القرآن، والله سبحانه وتعالى حرم على عباده الخبائثَ من المطاعم والمشارب والمناكح، ولم يبحْ لهم إلا الطيبات.
وبهذا يتبين بطلان قول من أباح تَزوج الزواني.
وقد بينا بطلان هذا القول من أكثر من عشرين وجهاً في غير هذا الكتاب.
والمقصود أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب، وفعله أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - فتزوج عثمان نصرانية، وتزوج طلحة بن عبيد اللّه نصرانية، وتزوج حذيفة يهودية.
قال عبد اللّه بن أحمد: سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية؟.
فقال: ما أحب أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال صالح بن أحمد: حدثني أبي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة أن حذيفة بن اليمان وطلحة بن عبيد اللَه، والجارود بن المعلى،- وذكر آخرَ- تزوجوا نساء من أهل الكتاب، فقال لهم عمر: طلقوهن، فطلقوا إلا حذيفة.
فقال عمر: طلقها.
فقال: تشهد أنها حرام.
قال: هي جمرة، طلقها.
فقال: تشهد أنها حرام؟ فقال: هي جمرة! قال حذيفة: قد علمت أنها جمرة، ولكنها لي حلال.(2/136)
فأبى أن يطلقها، فلما كان بعد طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ فقال: كرهت أن يظن الناس أني رَكبت أمراً لا ينبغي. (1)
باب
نكاح الزانية
قال الله تعالى : { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } . (2)
سبب نزول الآية :
__________
(1) )) أحكام أهل الذمة (2/791) .
(2) )) سورة النور الآية (3) .(2/137)
عبد بن حميد، حدثنا روح بن عبادة، عن عبيد الله بن الأخنس، أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : "كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وإنه كان وعد رجلا من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى من حوائط مكة في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت يخلو ظلي بجنب الحائط فلما انتهت إلي عرفته، فقالت: مرثد ،فقلت: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة، قال: قلت: يا عناق حرم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، قال: فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى كهف أو غار فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فطل بولهم على رأسي وأعماهم الله عني، قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه كبله فجعلت أحمله ويعينني حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد علي شيئا حتى نزلت: { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها" . (1)
باب
النهي عن نكاح المتعة
المتعة : هو أنّ الرجل كان يُشارِط المرأة شَرْطاً على شىء بأجلِ معلوم يستحِلّ به فرَجْها ثم يفارقُها من غير تَزْويج ولا طلاق أُحِلّ ذلك للمسلمين بمكة ثلاثة أيام حين حَجّوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم حُرّم .
__________
(1) )) رواه الترمذي برقم (3177) ، باب ومن سورة النور ، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .(2/138)
وهي الآن حرام ومن فعل ذلك فهو زانٍ .
عن الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله، عن أبيهما: أن عليا - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عباس : "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر" . (1)
وعن سبرة الجهني - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيءٌ فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً".
وفي رواية لمسلم أيضاً عنه - رضي الله عنه - ، أنه قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج منها حتى نهانا عنها". (2)
والشيعة الروافض جعلوا الزنا من دينهم وسموه بالمتعة ، وإن امرأة واحدة لتتمتع بخمسة رجال ولا يدري أحدهم بالآخر ، وقد ذكر بعض الثقات كما قدّمنا أن ثلاثة من علمائهم اجتمعوا للغسل في حمام واحد فسأل بعضهم بعضاً، فإذا الثلاثة قد زنوا تلك الليلة بإمرأة واحدة ولا يدري بعضهم ببعض ، ولله در القائل :
قال الروافض نحن أطيب مولداً
كذبوا على دين النبي محمد
أخذوا النساء تمتعاً فولدت من
تلك النساء فأين طيب المولد (3)
ثم نسبت الشيعة كذباً وزوراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين ومن تمتع مرتين كانت درجته كدرجة الحسن ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي بن أبي طالب ومن تمتع أربع مرات فدرجته كدرجتي .
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (4825) ، باب نكاح المتعة .
(2) أخرجه مسلم في كتاب النكاح (1406) ، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ إلى يوم القيامة .
(3) ) ) مختصر التحفة الإثنى عشرية ، محمود شكري الآلوسي البغدادي.(2/139)
فاللهم إنا نبرأ إليك مما يدعي هؤلاء الثلة المارقة ونكل أمرهم إلى الله الجبار القهار، لا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم .
باب
عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح
عن محمد بن سلام، حدثنا بن فضيل، حدثنا هشام، عن أبيه، قال : "كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" . (1)
قال ابن حجر: قوله باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، أي فيحل له نكاحها بذلك، وهذا يتناول صورتين: إحداهما: مجرد الهبة من دون ذكر مهر، والثاني: العقد بلفظ الهبة، فالصورة الأولى ذهب الجمهور إلى بطلان النكاح وأجازه الحنفية والأوزاعي ولكن قالوا: يجب مهر المثل، وقال الأوزاعي: أن تزوج بلفظ الهبة وشرط أن لا مهر لم يصح النكاح، وحجة الجمهور قوله تعالى خالصة لك من دون المؤمنين فعدلوا ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأنه يتزوج بلفظ الهبة بغير مهر في الحال ولا في المال وأجاب المجيزون عن ذلك بان المراد أن الواهبة تختص به لا مطلق الهبة والصورة الثانية ذهب الشافعية وطائفة إلى أن النكاح لا يصح إلا بلفظ النكاح أو التزويج لأنهما الصريحان اللذان ورد بهما القرآن والحديث، وذهب الأكثر إلى أنه يصح بالكنايات، واحتج الطحاوي لهم بالقياس على الطلاق فإنه يجوز بصرائحه وبكناياته مع القصد .اهـ. (2)
__________
(1) ) ) رواه البخاري برقم (4823)، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، ومسلم برقم (1464) ، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها .
(2) )) فتح الباري (9/164) .(2/140)
قال الشافعي: فسمى الله تبارك وتعالى النكاح اسمين النكاح والتزويج، وقال عز وجل: قال الله تعالى: { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } . (1) ، فأبان جل ثناؤه أن الهبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المؤمنين، والهبة والله تعالى أعلم نجمع أن ينعقد له عليها عقدة النكاح بأن تهب نفسها له بلا مهر، وفي هذا دلالة على أن لا يجوز نكاح إلا باسم النكاح أو التزويج ولا يقع بكلام غيرهما وإن كانت معه نية التزويج وأنه مخالف للطلاق الذي يقع بما يشبه الطلاق من الكلام مع نية .اهـ. (2)
باب
عرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح
قال الله تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } . (3)
__________
(1) )) سورة الأحزاب الآية (50) .
(2) )) الأم (5/37).
(3) )) سورة القصص الآية (27) .(2/141)
عن سالم بن عبد الله، أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث : أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شهد بدرا توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت : نعم ، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو تركها لقبلتها. (1)
سفيان أخبرتها أنها، قالت : يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان ، فقال: "أو تحبين ذلك"، فقلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن ذلك لا يحل لي"، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: "بنت أم سلمة"، قلت: "نعم"، فقال: "لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن"، قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرِّ حِيبةٍ، قال له: ماذا لقيت، قال: أبو لهب لم ألق أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة" . (2)
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (3783) .
(2) )) رواه البخاري برقم (4813) ، باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، ومسلم برقم (1449) ، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة .(2/142)
قوله : بشرِّ حِيبةٍ ، أي بسوء حال .
عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله مالك تنوَّق في قريش وتدعنا، فقال: "وعندكم شيء"، قلت: نعم بنت حمزة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" . (1)
قوله : تنوَّق ، أي تختار وتبالغ في الاختيار .
باب
نظر الرجل إلى من يريد الزواج منها
يندب نظر الرجل إلى من يريد نكاحها فينظر إلى وجهها وكفيها ويجوز على غفلتها، وعلى هذا جماهير العلماء .
فعن أبي حازم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أنظرت إليها؟" قال:لا،قال: "فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً" . (2)
__________
(1) )) رواه مسلم برقم (1446) ، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة .
(2) )) رواه مسلم برقم (1424) ، باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها .(2/143)
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: "فهل عندك من شيء؟" فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا"، فذهب ثم رجع، فقال : لا والله ما وجدت شيئا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "انظر ولو خاتم من حديد" ، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد ولكن هذا إزاري، قال سهل: ماله رداء فلها نصفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء"، والحاصل الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موليا فأمر به فدعى فلما جاء، قال: "ماذا معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟" قال: نعم، قال : "اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن" . (1)
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (833) ، باب قول الله جل وعز ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ، ومسلم برقم (1425) ، باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها .(2/144)
قال الصنعاني: دلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء، والنظر إلى الوجه والكفين لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده والكفين على خصوبة البدن أو عدمها وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم، وقال داود ينظر إلى جميع بدنها والحديث مطلق فينظر إلى ما يحصل له إليه ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور أن عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لما بعث بها إليه لينظرها، ولا يشترط رضا المرأة بذلك النظر بل له أن يفعل ذلك على غفلتها كما فعله جابر . اهـ. (1)
باب
التحذير من إفساد المرأة على زوجها
والعبد على سيده
عن بُريدةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليسَ منّا مَنْ حلَف بالأمانَةِ، ومن خَبَّبَ على امْرئٍ زوجتَه أوْ مَمْلوكَه فليسَ مِنَّا" (2) .
خَبَّبَ: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة الأولى، معناه: خدع وأفسد.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس منا من خبب امرأةً على زوجها أو عبداً على سيِّدهِ" (3) .
ورواه ابن حبان في "صحيحه" ولفظه: "من خبب عبداً على أهله فليس منا، ومن أفْسَد امرأةً على زوجها فليس منا".
__________
(1) )) سبل السلام (3/113) .
(2) رواه أحمد واللفظ له ـ والبزار، وابن حبان في صحيحه. وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (2013).
(3) رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم(2014).(2/145)
وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ إبليسَ يضَعُ عرشَه على الماءِ، ثم يبعثُ سراياه، فأدْناهُم منه منزِلةً أعظمهم فتنةً، يجيءُ أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقولُ: ما صنعتَ شيئاً. ثم يجئُ أحدُهم فيقولُ: ما تركْتُه حتى فَرَّقْتُ بينه وبينَ امْرأَتِهِ! فيُدْنيهِ منه ويقولُ: نعم أنتَ. فيلْتَزِمُه " (1) .
قوله: "فيلتزمه": أي يضمه إلى نفسه ويعانقه.
باب
نهي المرأة عن نعت المرأة لزوجها
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة عن أن تصف المرأة لزوجها كأنه يراها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها". (2)
قال القابسي هذا أصل لمالك في سد الذرائع فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة او الافتتان بالموصوفة .اهـ. (3)
باب
التحذير من إفشاء السّر سيما ما كان بين الزوجين
عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من شر الناسِ عند الله منزلة يوم القيامة، الرجلَ يُفضي إلى امرأتِهِ أو تفضي إليه، ثم ينشُرُ أحدُهما سِرَّ صاحبه" (4) .
وفي رواية: "إن من أعظمِ الأمانة عند الله يومَ القيامة، الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه، ثم ينشر سِرَّها" (5) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب صفات المنافقين برقم (2813).
(2) البخاري في كتاب النكاح .برقم (4942)، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها .
(3) فتح الباري (9/338) .
(4) رواه مسلم في كتاب صفات المنافقين برقم (2813).
(5) رواه مسلم في كتاب النكاح برقم (1437).(2/146)
قال النووي رحمه الله: "في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيلَ ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه، لأنه خلاف المروءة. ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه إعراضه عنها أو تدعى عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأفعله أنا وهذه"، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "أعرستم الليلة"، وقال لجابر: "الكيس الكيس"، والله أعلم أ.هـ. (1)
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود فقال: "لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل المرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرم القوم"، فقلت: وأي والله يا رسول الله: إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون، قال: "فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون". (2)
باب
نهي المرأة عن عصيان الزوج والحذر من إسخاطه
ومخالفة أمره
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأةٍ أن تصوم وزوجها شاهِدٌ إلا بإذنِه، ولا تأذَنَ في بيتِهِ إلا بإذنه" (3) .
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دعا الرجلُ امرأتهُ إلى فراشه، فلم تأتِهِ، فباتَ غَضْبَانَ عليها، لعنتها الملائكة حتى تُصْبحَ" (4) .
__________
(1) )) شرح النووي (10/8) .
(2) أخرجه أحمد وغيره، وانظر آداب الزفاف (ص 63) الطبعة السابعة.
(3) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5195)، ومسلم في كتاب الزكاة برقم (1026).
(4) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم(3237)،ومسلم في كتاب النكاح برقم(1436)(2/147)
وفي رواية لهما : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده، ما مِنْ رجلٍ يَدْعُو امرأتَهُ إلى فراشِه، فتأبَى عليه إلا كانَ الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يَرْضَى عنها".
ومن رواية لهما: "إذا باتَتِ المرأةُ هاجرةً فِراشَ زوجها لعنتها الملائكةٌ حتى تصبحَ" (1) .
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية: (حتى ترجع) هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي، وليس الحيض بعذر في الامتناع لأن له حقاً في الاستمتاع بها فوق الإزار، ومعنى الحديث أن اللعنة تستمر عليها حتى تزول المعصية بطلوع الفجر والاستغناء عنها أو بتوبتها، ورجوعها إلى الفراش. (2)
باب
تحذير المرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير بأس
عن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأةٍ سألتْ زوجَها طلاقها من غير ما بأسٍ، فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّةِ".
وفي رواية: "وإن المختلعات والمنتزعات هنَّ المنافِقاتُ، وما مِن امْرأَةٍ تسألُ زوجَها الطلاقَ مِن غيرِ بأسٍ، فتجد ريحَ الجنةِ، أو قال: رائِحة الجنَّةِ" (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح رقم (5073)، باب إذا باتتِ المرأة مهاجرَةً فِراشَ زوجها ، وصحيح مسلم في كتاب النكاح برقم (3493)، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم .
(3) صحيح الترغيب برقم (2018)، والإرواء (7/100)، والسلسلة الصحيحة برقم (632)، وصحيح الجامع حديث رقم (6681).(2/148)
قوله: المختلعات: قال الطيبي: ينزعن أنفسهن من أزواجهن وينشزن عليهم هن المنافقات أي اللاتي يطلبن الخلع والطلاق من أزواجهن لغير عذر هنّ منافقات نفاقاً عملياً. قال ابن العربي: الغالب من الناء قلة الرضا والصبر فهن ينشزن على الرجال ويكفرون العشير فلذلك سماهن منافقات والنفاق كفران العشير قال في الفردوس: وقيل إنهن اللاتي يخالعن أزواجهن من غير مضارة منهم. تتمة: نقل ابن عبد البر عن مالك أن المختلعة هي التي اختلعت من جميع مالها، والمفتدية من افتدت ببعضه والمبارية من بارت زوجها قبل الدخول قال: وقد يستعمل بعض ذلك موضع بعض . (1) .
باب
تحذير المرأة من النشوز
قال الله تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إنّ اللهَ كانَ عليًّا كبيراً } (2) .
الحل الأول: هو الوعظ، وتكون الموعظة بالتي هي أحسن ، فإذا كانت الموعظة لا تنفع فعليك بالحل الثاني وهو الهجر .
فيكون الحل الثاني : الهجر في المضجع ، فإذا الزوج سيطر على نفسه ولم يأتيها فقد حطم أقوى الأسلحة للمرأة، ويكون من باب التأديب، وعلاجها من النشوز، فإذا لم ينفع فعليك بالحل الذي بعده، وهو الضرب .
فيكون الحل الثالث : هو الضرب،ويكون ضرب غير مبرح ، ولا يكون تعذيباً ، ولا انتقام ، ولا تشفي ، ولا يكون فيه إهانة ولا تحقير ولا إذلال .
فعلى المرأة أن تتقي الله تعالى وتطيع زوجها فيما أحل الله، لأنها معرضة لعقوبة الله تعالى وسخطه والعياذ بالله .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) فيض القدير .
(2) سورة النساء الآية (34).(2/149)
"إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأتهِ فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" (1) .
وفي لفظ في الصحيحين: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة".
وفي لفظ قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها" (2) .
قال - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحل لامرأةٍ أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (4) .
وقالت عمة ابن محصن وذكرت زوجها للنبي - صلى الله عليه وسلم - : فقال: "أنظري أين أنت منه، فإنه جنتك ونارك" (5) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح (3065)، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومسلم في كتاب النكاح (1436)، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها .
(2) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5193)، ورواه مسلم في كتاب النكاح برقم (1436).
(3) رواه البخاري في كتاب النكاح برقم (5195).
(4) أخرجه الترمذي أبواب الرضاع برقم (1159)، وابن حبان رقم (1291ـ موارد) والبيهقي في السنن الكبرى (7/291)، والحاكم في المستدرك (4/171ـ172)، والبزار كما في المجمع (9/4) عن أبي هريرة، وقال الحاكم صحيح الإسناد، إرواء الغليل (7/54)
(5) أخرجه أحمد في المسند(4/241)، النسائي في السنن الكبرى(13/113ـ114).(2/150)
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" (1) .
باب
علاج نشوز الرجل
كما أعطانا الله سبحانه وتعالى علاج المرأة من النشوز فكذلك أعطانا علاج الرجل من النشوز .
قال الله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } . (2)
فإذا رأت المرأة من زوجها الجفاء ، أو خشيت أن يطلقها زوجها ، أو تركها زوجها معلقة لاهي ذات زوج ولا مطلقة ، فليس عليها حرج بأن تتنازل عن بعض فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية ، كأن تترك له جزءاً من نفقتها الواجبة على الزوج ، أو تتنازل عن قسمتها وليلتها للزوجة الثانية إذا كان له زوجة ثانية ، ويكون هذا من باب الصلح بينهما، وهو خير من الطلاق كما قال الله تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } .
باب
علاج الخلاف بين الزوجين
وإذا اشتد الخلاف بين الزوجين وتفاقم، فكذلك جعل الله سبحانه وتعالى له العلاج .
__________
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (6/300) والحاكم في المستدرك (2/190) و(4/174) والبيهقي في السنن الكبرى (7/294) والديلمي الفردوس (5/133) رقم (7723)، والبزار والطبراني كما في مجمع الزوائد (4/309) وقال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين والطبراني وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي .
(2) )) سورة النساء الآية (128) .(2/151)
فقال الله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } . (1)
فإذا كانت الرغبة في نفس الزوجين في الإصلاح وكان الغضب هو الحاجز والحاجب بينهما ، وكان الرغبة كذلك في نفس الحكمين بالإصلاح يقدر الله تعالى الصلح بينهما ويوفق بينهما { إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا } ، فالله تعالى يستجيب لهما ويوفق { بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } .
باب
الإيلاء من الزوجة
قال الله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . (2)
الإيلاء: هو اليمين على ترك وطء المنكوحة مدة، مثل: والله لا أجامعك أربعة أشهر . (3)
إذا حلف الرجل ألا يطأ زوجته مدة دون أربعة أشهر ، عليه أن يكفر عن يمينه ويطأ زوجته وهذا الأولى له .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه" . (4)
وإذا حلف ألا يطأ زوجته أبداً ، أو أكثر من أربعة أشهر ، فلا يحق له ذلك فعليه أن يكفر ويعود إلى وطئها ، وإلا انتظرت الزوجة حتى تمضي أربعة أشهر فلها أن تطالبه بوطئها أو طلاقها ، لقوله تعالى: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
__________
(1) )) سورة النساء الآية (35) .
(2) )) سورة البقرة الآية (226) .
(3) )) التعريفات (1/59) .
(4) )) رواه مسلم برقم (1650) ، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه .(2/152)
وعن نافع ، أن ابن عمر رضي الله عنهما، كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى : "لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق، كما أمر الله عز وجل" . (1)
باب
في الخلع
قال الله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } . (2)
الخلع : هو إزالة ملك النكاح بأخذ المال . (3)
وعرفه الفقهاء : بأنه فراق الرجل زوجته ببدل يأخذه منها .
وقال ابن حجر : الخلع : بضم المعجمة وسكون اللام، وهو في اللغة فراق الزوجة على مال مأخوذ من خلع الثوب، لأن المرأة لباس الرجل، مصدره تفرقة بين الحسي والمعنوي . (4)
فإذا اشتد الخلاف بين الزوجين ولم يمكن التوفيق بينهما ورغبت المرأة في الفراق جاز لها أن تفدي نفسها من زوجها بمال تعويضاً له عن الضرر الذي يلحقه بفراقها، قال الله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }
وقد ثبت ذلك في السنة المطهرة .
فعن عكرمة، عن بن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتردين عليه حديقته؟"، قالت: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" . (5)
__________
(1) )) رواه البخاري برقم (4985) .
(2) )) سورة البقرة الآية (229) .
(3) )) التعريفات (1/135) .
(4) )) فتح الباري (9/395) .
(5) )) رواه البخاري برقم (4971) ، باب الخلع .(2/153)
قال ابن قدامة: وجملة الأمر أن المرأة إذا كرهت زوجها لِخُلُقِهِ، أوخَلْقِهِ، أو دينه، أو كبرهن أو ضعفه، أو نحو ذلكن وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه، لقوله الله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به البقرة ...".
ثم قال : وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام، قال ابن عبد البر ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله سبحانه: وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج النساء، الآية ..." . (1)
وهل الخلع يعتد به في التطليقات أم لا، وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى وقال أبو ثور إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة . (2)
وقال الشوكاني : وقد ثبت بالنص والإجماع أنه لا رجعة في الخلع . (3)
باب
حرمة امتناع الزوجة عن زوجها
إذا دعاها إلى فراشه
لا يجوز للمرأة أن تمتنع عن زوجها إذا دعاها إلى فراشه ليجامعها حيث بامتناعها عنه يعرضها للعنة الملائكة لها والعياذ بالله .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح" . (4)
وفي رواية لهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده، ما مِنْ رجلٍ يَدْعُو امرأتَهُ إلى فراشِه، فتأبَى عليه إلا كانَ الذي في السماء ساخطاً عليها، حتى يَرْضَى عنها".
__________
(1) )) المغني (7/246) .
(2) )) بداية المجتهد (2/52) .
(3) )) نيل الأوطار (7/39) .
(4) )) رواه البخاري برقم (4897) ، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها ، ومسلم برقم (1436) ، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها .(2/154)
ومن رواية لهما: "إذا باتَتِ المرأةُ هاجرةً فِراشَ زوجها لعنتها الملائكةٌ حتى تصبحَ" (1) .
مسألة : هل للمرأة أن تمتنع عن زوجها بسبب عدم وجود الماء لكي تغتسل به هي وزوجها من الجنابة ؟
الجواب على ذلك : عليها أن تطيعه ولا تمتنع عنه حتى لو فقد الماء ولا يكون لديها للاغتسال
فعن عطاء رحمه الله قال : إذا طهرت الحائض فلم تجد ماء تتيمم ويأتيها زوجها . (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وليس للمرأة أن تمنع زوجها الجماع ، بل يجامعها فإن قدرت على الاغتسال ، وإلا تيممت وصلت ، إذا طهرت من الحيض لم يجامعها إلا بعد الاغتسال وإلا تيممت ووطئها زوجها ويتيمم الواطئ حيث يتيمم للصلاة . (3)
باب
التحذير من المحلل والمحلل له
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" (4) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له" (5) .
وسئل عمر بن الخطاب عن تحليل المرأة لزوجها فقال: "ذلك السفاح" (6) .
وقال إبراهيم النخعي: (إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول).
وقال سعيد بن المسيب إمام التابعين في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها (الأول) فقال: (لا تحل له).
__________
(1) فتح الباري رقم (5194) كتاب النكاح، وصحيح مسلم رقم (1436) كتاب النكاح
(2) )) مصنف ابن أبي شيبة (1/93) رقم (01033) .
(3) )) مجموع الفتاوى (21/454) .
(4) رواه النسائي (6/149) والترمذي (3/428) رقم (1120) وأحمد (1/448 و 462) والدارمي (2/158) وابن أبي شيبة (4/295) والبيهقي (7/208) وعبدالرزاق (6/269)، وابن راهويه كما في نصب الراية (3/293)، كلهم من حديث ابن مسعود، الإرواء (6/307).
(5) رواه ابن ماجة بإسناد جيد.
(6) الكبائر للذهبي.(2/155)