إعجاز القرآن الكريم
بالصّرفة
دراسة ناقدة
إعداد
محمود توفيق محمد سعد
الأستاذ ورئيس قسم البلاغة والنقد
في جامعة الأزهر الشريف
شبين الكوم
-
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأمته أجمعين 0
حظيت آية نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم العظمى :" القرآن الكريم" بعناية كثير من العلماء في مجالات عديدة من مجالات العلم ،وكاد جانب من القول فيها لا يجد منازعًا في تقريره : جانب التسليم بأنها من عند الله تعالى، وأنه لايملك أحد من العالمين أن يأتي بمثلها ،وبقي جانب تبيان وجه عدم استطاعتهم الإتيان بسورة من مثله مناط نظر ،وهو ما يعرف عند أهل العلم بوجوه إعجاز القرآن الكريم، ولم يحظ وجه من الوجوه التي أشار إليها بعض أهل العلم بالمنازعة وتباين مواقف أهل العلم كمثل ما حظي وجه الإعجاز بالصرفة، فكانت بعض مقالات أهل العلم متسمة بالغموض أو التناقض ، مما يجعل ترديد النظر في تلك المقالات وتثويرها والسعي إلى استنطاقها واستنباط ما فيها أمرًا غير عقيم، إن لم يكن ذا منزلة علية،ولا سيما أنّ بعض أهل العلم يستشعر في النفس ميلا إلى قبول وجه من وجوه تفسير القول بالإعجاز بالصرفة ، فرغبت في أن أقف على الحق في تلك المسألة ، فرارًا من الإخلاد إلى التقليد في أمر جليل متعلق بكتاب الله عز وجلّ،ولاسيما أن قلوب بعض طلاب العلم قد يتسلل إليها شيء من القول بالصرفة كما تسلل إلى مقالات بعض أهل العلم قديما, فكانت هذه الوريقات الطامحة إلى ألاّ تكون ترديدًا عقيما لما سبقها ،وإلى أن تلفت البصائر إلى الحق المبين ،ولعل ضياع كثير من أسفار علمائنا ،ولا سيما أسفار إعجاز القرآن الكريم التي تنبؤنا عنها كتب الفهرسة لتراث أسلافنا قد يجعل ما أقول غير بالغ التحقيق على الذي أطمح إليه،ولو أن كثيرًا من تلك الأسفار أمكن الاطلاع على ما(1/1)
هو موجود ناءٍ عن ديارنا لكان للقول في تلك القضية وغيرها نحوًا آخر ،فكيف إذا ما كانت الأسفار المفقودة بين أيدنا قائمة تهدي إلى التي أعلى وأجدى 0
- .. تحقيقات اصطلاحية..
نشأة تسمية آيات الأنبياء معجزات ووجه التسمية ومفهوم المعجزة
روى الشيخان بسنديهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال :
"ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر0 وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"(البخاري :فضائل القرآن ، ومسلم : كتاب الإيمان)
هذا بيان نبوة قاطع بأن كلّ نبي من الأنبياء منذ آدم عليه الصلاة والسلام قد أعطاه الله – تعالى – من الآيات ما يكون هاديا وحاملا على الإيمان بنبوته ، وذلك لا يكون للآية المعطاة للنبي إلا إذا كان البشر غير قادرين على أن يأتوا بمثلها ، وإلا لم يك فيها ما يحملهم على الإيمان بمن جاء بها ، فالبيان النبوي سماها آية ، ومن قبله البيان القرآني سماها أيضًا أية وبرهانا وسلطانا :
" هذه ناقة الله لكم آية"( الأعراف:73)
" وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله"( الرعد:38)
"ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين "( غافر:23)
" يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم "(النساء:174)
" فذانك برهانان من ربك"( القصص:32)
وبهذا كان القرن الأول يسمى ما آتاه الله – تعالى - الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - ، وكانوا يوقنون فطرة أنها لن تكون كذلك وبملك أحد غير نبي أن يأتي بمثلها ، وكذلك ليس بملك نبي أن ياتي بها من عند نفسه إنما يأتي بها بإذن الله – تعالى –
" وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله" الرعد: 38"(1/2)
وكان هذا كافيا لكل مسلم ، غير أنّه لم يبق الأمر على ماكان مستغنيا به حتى كان القرن الثاني الهجري ، فنشأ في الأمة طائفة كأنّها رأت أنه لا يسعها ما وسع القرن الأول من العرفان بما جاء به الأنبياء ، فنشأت فرقٌ اتخذت الكلام في باب العقيدة علما هو العمل عندهم ، وكان مما اتخذوا الكلام فيه عملا ما آتاه الله تعالى أنبياءه من الآيات ، فلم يكتفوا بما هو راسخ في فطرة القرن الأول ،ولكنهم أبوا إلا التشقيق والاختلاف والتورك العقلي فيما لا يفتقر إلى العلم به بل اليقين به والطمأنينة إليه إلى شيء مما أغرقوا أنفسهم فيه ، واستفرغوا جهدهم ، وأنفقوا أعمارهم ، فكان لهم أن يشترطوا في آيات الأنبياء شروطا حتى تحقق أنها آية :
اشترطوا في آيات الأنبياء أن تكون خارقة للعادة التي يلزمها عجز الخليقة عن الإتيان بمثلها
ولم يكتفوا بهذا بل أعرضوا عما جاء به القرآن من أسماء لما جاء به الأنبياء من نحو الآية ، والبرهان ،والسلطان فأطلقوا على آيات الأنبياء اسم "المعجزة " وهو اسم لم يأت به القرآن الكريم أو السنة النبوية ، ولا يعرف جريانه على لسان القرن الأول وهو إطلاقٌ لازم الصفة على الموصوف ، فالإعجاز ليس هو الوصف الجوهري للآية بل الوصف الجوهري هو :الدلالة البينة على صدق النبي في مدعاة النبوة وفي البلاغ عن الله عز وجل 0استبدلوا بهذا الوصف الجوهري لازمه، وذلك اللازم هو عجز الخليقة عن الإتيان بمثلها، فقالوا عن الآيات : معجزات ، فما حقيقة العجز في اللغة التى هي المرجع الأول الذي يثاب إليه في استخدام الألفاظ وفقه دلالتها
حقيقة العجز في اللغة:(1/3)
العجز في لغة العرب تدور أصوله الثلاثة(ع0ج0ز) على معنى التأخر ، ويلزم هذا المعنى : الضعف ، فيظنُّ أنهما أصلان لا رحم بينهما ، ولكن الرحم بينهما موصولة، فإن الضعف من ولائد التأخر ، فالذي يعجز عن الأمر أي يضعف عنه إنما هو آتيه في آخر ذلك الأمر ، فلا يستقيم له الاقتدار عليه ، وأهل الحكمة يقولون: ’’ لا تُدبِّروا أعْجازَ أمورٍ قد ولَّتْ صُدُورها ‘‘ فإنَّ من فعل ذلك لامحال يضعف عن أن يقتدر عليها، فكلُّ من تأخر عن القيام بالأمر في عجزه ضعف عنه 0
وأيضًا من حاول في آخر أمره شيئًا في أوله لم يقتدر عليه ، فسواء أكان التأخير من شأن الفاعل أو من شأن المفعول ، فإنه يترتب على ذلك ضعف 0
ولا يقال : عجز عن كذا إذا لم يحاوله ، أو رغب في المحاولة ، فعلم من نفسه ضعفها عنه ، فكان علمه بحال نفسه ، وحال ما يريد محاولته بمنزلة من أراد وحاول ، فثبت له ضعفه عما حاوله ، فقيل له حين ذلك : عجز عنه 0
وهذا يبين لك أنه لا يكون حكم بعجز إلا من إرادة ومحاولة على سبيل التحقيق أو التنزيل 0
علاقة الآيات بعجز الخلائق :
وننظر في آيات الأنبياء في ضوء معنى العجز الذي أشرتُ إليه ، لنرى موقف الخلق إزاءها ، ووجه تسميتهم الآيات معجزات 0
حين يأتي النبيّ بآيته ماذا يقع من الخلق بمجرد إتيانه بها ؟ أتراهم يعمدون إلى فعل مثلها ومعالجته ، فإذا بهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلا ، فيعلمون ، ويعلم غيرهم أنهم من بعد هذه المحاولة عاجزون عن مثل ما جاء به النبي ، فيوصف حال الخلق حينذاك – وليس قبله - بالعجز؟
الذي هو أقرب إلى الواقع أنَّ علمهم بالآية ووقوفهم عليها يقيم في أنفسهم علمًا بأنهم يضعفون عن تلك المحاولة، فيكون هذا نازلاً في الدلالة على عجزهم منزلة من أراد وعزم وحاول ، فانتهي إلى يقينه بضعفه عن الإتيان به، فكان حينذاك عجزًا .(1/4)
وهذا آتٍ مما تكون عليه الآية من ظهور غرابتها ظهورًا لا يدع في قلبٍ عاقلٍ أنَّ بملك أحدٍ أن يعمد إلى تلك المحاولة ، وإن استعرت به الرغبة في أن يكون منه ذلك 0
فكلُّ آية بينة يأتي بها النبي ؛ لتكون برهانًا على صدقه في البلاغ عن ربه ـ تعالى ـ يقوم في قلب كل عاقل أنها خارجة عن مقدور غير الأنبياء ، وأنّه لن يأتي بها إلا نبي بإذن ربه – تعالى - وسواء في هذا أن يتحقق من النبي الآتي بها إعلان بالتحدي لمن جاءهم بها أو لم يتحقق منه إعلان لهم بالتحدي بها ومطالبة لهم بأن يأتوا بمثلها ؛ لما تتسم به من عظيم ظهور غرابتها ظهورًا يقيم في كل نفسٍ يقين الإحساس بالضعف عن الإتيان بمثلها بل الضعف عن محاولة ذلك بل الضعف عن إرادة تلك المحاولة ، وكأنََّّ النفس تقع حين ذلك في الدّهش والحير والانقطاع
لعلَّ هذا ما جعل " علماء الكلام" يرغبون – ظالمين – عن بيان القرآن الكريم عمَّا جاء به الأنبياء أقوامهم بالآية والبرهان والسلطان ، ورغبتهم في تسمية آيات الأنبياء " معجزات " ، فهم ناظرون إلى مآل حال تلك الآيات ، تنبيها إلى عظيم الغاية منها ، والتي يترتب عليها أمور أخرى لا تكون إلا من بعد تحققها ، فلن يستفيد من آية النبي إلا من آمن بالعجز عنها ، وأنَّها من عند ربّ العالمين 0
وهذا الذي قلته من أن قوم النبيّ إذا ما جاءهم بآياته لا يكونون في افتقار إلى أن ينظروا فيها وأن يحاولوا الإتيان بمثله ثم الوقوع في العجز ، بل إنهم واقعون في اليقين بأنَّ ما جاءهم به لا قبل لهم بمثله من غير أن يطمعوا في محاولة الإتيان مثله ــ هذا الذي قلته قد يظن أنه يتعارض مع ما جاء عن الإمام عبد القاهر الجرجاني0
يقول الإمام :
" أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها ......(1/5)
وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة ، وعُشْرًا عُشْرًا وآيةً آيةً ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبوا بها مكانها ، ولفظة ينكر شانها ، أو يرى أن غيرها أصلحُ هناك أو أشبه ، أو أحرى وأخلق ، بل وجدوا اتساقا بهر العقول ، وأعجز الجمهور ، ونظاما والتئاما ، وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم ، ولو حكَّّ بيافُوخِه السماء موضع طمع حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول وخَذِيت القروم ، فلم تملك أن تصول " (1)
وأنت إذا ما أبصرت مقالة الإمام رأيتها دالّة في حقيقتها على أنَّّ الإمام " عبد القاهر " يذهب إلى أنهم لمَّا تأملوا القرآن الكريم : سوره ومعاقده وآياته بهرهم نظامه ، فكان في ظهور تلك الحقيقة في نفوسهم مانعا لهم عن محاولة أن يأتوا بشيء من مثله ، فهم لم يحاولوا فعجزوا ، بل أقام ظهور حال القرآن الكريم من بعد علمهم به في نفوسهم انقطاع الطمع في شيءٍ من ذلك ، واليقين بأنه لايتأتى لهم شيء منه ، فما حاولوا
وقد يعكر على هذا الذي قلته أمران :
الأول: ما كان من شأنِ فرعون وقومه حين جاءهم سيدنا " موسى"عليه الصلاة والسلام بالآيات، فقالوا : لنأتينك بسحر مثله .قال تعالى :(( ولقَدْ أَرََيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّها فَكَذَبَ وَأَبَى * قالَ أ جِئْتنَا لِتخْرِجَنَا مِن أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلنأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوَى )) [ طه: 56- 58]
هذا كان من فرعون حين أدهشته الآيات ، فمكر بقومه : يوهمهم أنَّ ما جاء به موسى عليه السلام لا يعدو أن يكون من جنس ما هم بارعون فيه ، ولذا كان بيانه (( لنأتينك بسحر مثله)) فسماه سحرًا ، ولم يقل بآية مثلها ، وهذا من مكر فرعون .
__________
(1) - دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني –ت: محمود شاكر :39 – ف:31- ط: المدني(1/6)
الآخر: ما جاء في قول الله تعالى (( وإذا تُتْلَى عليْهِمْ آياتُنا بيِّناتٍ قالُوا قدْ سمِعنَا لو نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إنْ هّذَا إلاَّ أسَاطيرُ الأوَّلين)) {الأنفال : 31}
فهذا أيضًا من مكر وخداع الكافرين ، وقد جاءت الآية في سياق بيان مكرهم((وإذ يمْكُرُ بكَ الذين كفرُوا ....)){الأنفال :30}وكان من مكرهم أن قالوا عنه (( أساطيرُ الأولين))
وهى مقالة إن أريد بها المكر والخداع ،فهي في الوقت نفسه دالةٌ على أنها صادرة عن مأفونٍ لا يعرف الحياءُ من معابة الدهر وسبَّته إليه سبيلا ، فإنه لا يقولها شريف النفس أبدًا ، وهو يعلم أن كلّ ما حوله يكذبه ، ولذا كشف الحق عز وجلّ عن عظيم سفه عقول أمثالهم بقوله من بعد ذلك
(( وإذْ قالُوا اللهم إنْ كانَ هذَا هُوَ الحقَّ من عندكَ فأمطر علينا حِجارة من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ ))
أيدعو بهذه عاقل على نفسه ؟ !! أما كان لهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ، لكنه المكر المُنْبِئُ عن عظيم سَفِهٍ آخذ بقلوبهم .
المهم أنه تبين لنا ما جاء في البيان القرآنيّ الكريم ، والبيان النبوي من تسمية ما جاءت به الأنبياء أقوامها برهانا على صدق ما يخبرونهم به، وما اختاره " علماء الكلام" ، ووجه تسميتهم آيات الأنبياء " معجزات " وقد غلبت هذه التسمية على كثير غيرها في أسفار أهل العلم ، وهذه التسمية:(معجزات) قد يترتب عليها الوقوف عند ما يدل عليه مضمونها من الآية والبرهان والسلطان ، والناصح نفسه لا يقف من الآية عند تقرير إعجازها ، بل عليه أن يتجاوز ذلك من بعد تحققه إلى ما هو مرتب عليه من استثمار الإيمان بإعجازها إلى الاعتبار بما تضمنته من الهداية والرشاد، ولاسيما آية نبينا " محمد" صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم العظمى :" القرآن الكريم" فقد قال عنه الحق عزَّ وجلَّ: (( هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةً لِلْمُتَّقِين )) [آل عمران: 138] ...(1/7)
ذلك شأن آيات الأنبياء ،ولا سيَّما " القرآن الكريم" وكانت العرب حين تخلى بين القرآن الكريم ونفوسها تؤوب إلى شيءٍ من الرشد ، كالذي تراه من شأن " عتبة بن ربيعة " حين بُعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، فقرأ عليه آيات من (سورة: السجدة) ,فأبلس ، وما كان من شأن الوليد بن المغيرة في أول الأمر، فقال : ( والله إن له لحلاوة ..........إ الخ
وما كان من شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع (سورة :طه) من أخته فاطمة وزوجها ، فخلى بين نفسه وآيات الله - عز وجلَّ - فأسلم .
والكافرون يعلمون من أنفسهم هذه الحقيقة ، فيحرصون على ألا يخلوا بينهم وبين القرآن الكريم ، وقد سجل عليهم ذلك:
(( وقالَ الّذينَ كفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهّذَا القُرْآنِ وَالْغَوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )) {فصلت:26}
فهذا " يدلُّ على أنَّهم عارفون بأنَّ من سمعه ولا هوى عنده مال إليه ، وأقبل بكليته عليه ، وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها ، وذلك ؛ أنهم تُحُدّوا به في أن يأتوا من مثلِهِ بشيءٍ ؛ ليعدُّوا غالبين ، فلم يجدوا شيئًا يترجون به الغلب إلا الصفير والتصفيق ونحوه من اللغو في معارضة ما علا ذرى الكلام إلى حيثُ لا مطمع ولا مرام ، فلا يفيد ما أتوا به معنى غير أنَّهم عاجزون عن المعارضة ، قاطعون بأنهم متى أتوا بشيءٍ منها افتضحوا ، وقطع كلّ من سمع بأنّهم مغلُوبون "(1)
فالذي يعتري كلَّ ذي قلبٍ معافَى من الاستكبار حين يسمع القرآن الكريم ويرفع الحواجز بينه وبين قلبه إنما هو اليقين بأن ما سمع ليس من قول أحد من العالمين ، ولن يكون لأحد منهم سبيل إلى أن يأتي من مثله بشيءٍ ، ولو حكَّ بيافوخه السماء .
-
... نشأة القول في بيان وجه إعجاز القرآن الكريم ...
__________
(1) - نظم الدررفي تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي :6/568-ط:دار الكتب العلمية بيروت .(1/8)
إذا ما كان ذلك في القرن الأول من أمَّةِ الإجابة استغنى بهذا الذي قام في صدره ، وعمد إلى القيام بما يحقق لهم الهدى الذي أنزل الكتاب من أجله ، فلم يقيموا مدارسات من حول ما أعجز من القرآن الكريم العالمين ، ولم يجادلوا المعارضين في هذا بل كان انصرافهم إلى أن يربوا أنفسهم بهديه 0
بقي الأمر كذلك عِرفانًا قائمًا في الصدور يثمر يقينًا وتسليما وانصرافا إلى التخلق بهديه حتى كان من شأن الأمة ما كان من اتساع أرض الفتح الإسلامي ، ودخول الناس في دين الله أفواجا يغلب على كثير منهم اليقين والتسليم ، ويتخذ بعضهم الدخول تقية ، وفي قلبه غير الذي يتقاذف من لسانه ، وكان مما استكنّ في ذلك القلب المريض عشقٌ اّللدد في المماراة ، والإبحار بالعقول في قمماميس المجادلة بالتي هي أسوأُ ، فبزغت من هذه الفئة العاشقة للمجادلة والممارة في القرن الثاني فرقة ألقت في علوم المسلمين علما ما كانت الأمة غنية عن علم كمثل غناها عنه ، وما كان لعلم نسب إلى علم الإسلام من الإفساد في عقيدة المسلمين التي قامت في قلوبهم من بيان الوحي : كتابًا وسنة ، فعضّت عليه بالنواجذ مثل ما لهذا العلم الذي حملته هذه الفرقة إلى المسلمين : علم الكلام 0 هو علم قائم على عشق الملاحاة والمغالبة فتعادت الفرق التي ولجت حومته ،وكان من تلك الفرق ما عرف بفرقة المعتزلة، وقد بنوا مذهبهم على أصول خمسة اعتقادها والقول بها هو أساس الانتساب إلى هذا المذهب :
و" ليس يستحق أحد... اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة : التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي )) (1)
__________
(1) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد :لأبي الحسين الخياط – ت:د:بيبرج : 126)(1/9)
ولعل الأصل الرابع ( القول بالمنزلة بين المنزلتين) هو أول ما نشأ فيه الخلاف مع الحسن البصري، فهو أصل يقوم على اعتزل صاحب الكبيرة جانب المؤمن وجانب الكافر فهو في منزلة بين هاتين المنزلتين
ويستظهر محقق كتاب الانتصار(1) أن هذا الأصل الرابع اقتضاه الواقع الاجتماعي للأمة حينذاك إذ ظهر اقتراف الكبائر فنشأ جدل حول الحكم على هذا:
قالت المرجئة إن مقترف الكبيرة مؤمن وقالت الخوارج إنه كافر وقال الحسن البصري ( 21- 110هـ)إنه منافق ، وكان أبو حذيفة: واصل بن عطاء الغزال ( 80-131هـ) يتلقى العلم على شيخه الحسن فلم يعجبه قول أحد منهم فقال إنَّ صاحب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر هو فاسق ، فكانت المعتزلة تسمية للقائلين بهذا القول
وما قاله " واصل بن عطاء" ليس بمبتدع عند المحققين من علماء المعتزلة، فهو ((لم يحدث قولا لم تكن الأمة تقول به ، فيكون قد خرج من الإجماع ، ولكنه وجد الأمة مجمعة على تسمية أهل الكبائر بالفسق والفجور مختلفة فيما سوى ذلك من أسمائهم ، فأخذ بما أجمعوا عليه وأمسك عما اختلفوا فيه 0
وتفسير ذلك أن الخوارج وأصحاب " الحسن" كلهم مجمعون ، والمرجئة على أن صاحب الكبيرة فاسق فاجر ، ثم تفردت الخوارج وحدها ،فقالت : هو مع فسقه وفجوره كافر ، وقالت المرجئة وحدها : هو مع فسقه وفجوره مؤمن ، وقال " الحسن" ومن تابعه : هو مع فسقه وفجوره منافق ، فقال لهم واصل : قد أجمعتم أن سميتم صاحب الكبيرة بالفسق والفجور فهو اسم له صحيح بإجماعكم ، وقد نطق القرآن به في آية القذف وغيرها من القرآن فوجب تسميته به, وما تفرد به كل فريق منكم من الأسماء فدعوى لا تقبل منه إلا ببينة من كتاب الله أو من سنة نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم 0000) (2)
__________
(1) السابق : ص51- مقدمة الناشر
(2) الانتصار ص :165(1/10)
وإن كان المشهور أنهم سملوا بذلك لأنَّ شيخهم: واصل بن عطاء الله اعتزل مجلس شيخه الحسن واتخذ لنفسه سارية غير ساريته يجلس إليها 0
أيما كان فإن مؤسس هذه الفرقة هو واصل بن عطاء الله ، وكان ممن ناصره بالاعتزال" أبو عثمان:عمرو بن عبيد بن باب " (80-143هـ) وليس الكلام والمجادلة في آيات النبوة هو أساس الاعتزال ، ولا هو من أهم ما تكلم فيه أصحاب هذا المتجه بل لم يؤثر عن "واصل" و" عمرو بن عبيد" كلام في آيات الأنبياء وحججهم ،وإن كان لواصل بن عطاء كتاب في(معاني القرآن)(1) بل كانت مشغلة واصل" الكلام في المنزلة بين المنزلتين وفي القدر والصفات وأفعال العباد(2)
وكان " واصل بن عطاء" زوجا لواحدة من أخوات [أو بنات] صاحبه وقرينه " عمرو بن عبيد" ، وقد زوَّج " عمروٌ" الأخرى " أبا هذيل العلاف: حمدان بن الهذيل بن عبيد الله بن مكحول " (135- 226هـ) الآخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل (3) عن واصل بن عطاء الغزال ولم ير العلافُ " واصلا" لولادته (135هـ) من بعد موت " واصل" (131هـ )
هؤلاء لم تكن عنايتهم مصروفة إلى الجدل في آيات الأنبياء ووجه إعجازها بل إلى الجدل في (( ما كان ويكون وما يتناهى وما لا يتناهى والكلام في البعض والكل))(4) وما شابه ذلك من غامض الكلام ولطيفه
و كان ابو هذيل وأصحابه يتكلمون في هذا ويكثرون ذكره لشدة الكلام فيه والعناية به عندهم واجبه(( وهذه هي سبيل العلماء ـ كما يقول الخياط ـ إنما يعنون من العلم بأشده وأصعبه (5)
__________
(1) - الفهرست لابن النديم ص140
(2) = مداخل إعجاز القرآن : لمحمود شاكر ص:50
(3) الملل والنحل:1/49
(4) الانتصار (م0س) ص :7
(5) الانتصار _م0س) ص :13(1/11)
ويقول أبو فهر محمود شاكر – رحمه الله - : لم يكن "العلاف" قد حاد عمَّا تكلم فيه شيخه " واصل" فهو (يقرر مذهبه ويناظر عليه ويوافق " واصلا" ويخالفه حتى صار شيخ" المعتزلة" ورئيسها ، وشقّ لمن بعده من المتكلمين طريقا واسع الأرجاء ، بيد أنَّا لا نكاد نجد له قولا يذكر في آيات الرسل ولا في القرآن إى مسألة في " باب الإلهيات " وهي مسألة " كلام الله " (1)
إذن لم تكن العناية عندهم حينذاك مصروفة إلى الكلام في آيات النبوة، حتى وُلد لأخت إبي هذيل العلاف" وليد ، يدعى " إبراهيم بن سيار النظام بن هانئ" (160-221هـ) فشبَّ في حلقات خاله " العلاف" وابتلى " العلاف" به فناظره وكافحه وكاد يخمل ذكره ولاسيما في المسألة المشهورة عن العلاف بمسألة التناهي فنقضه النظام في كتابه (التوحيد) (2)
المهم أن النظام لم يقتصر في نشاطه الجدلي على ما كان من أسلافه ، فتكلم في آية النبوة ، وكانت قد نشبت في زمنه فتنة القول بخلق القرآن في ولاية" المأمون (198-218)
-
جهات القول في إعجاز القرآن الكريم
إذا ما كانت النبوة مفتقر كثير من الناس إلى أن يصطحبها آية دالة على صدقها فإن تلك الآية لابد أن تكون معجزة ،وهذا يغري أهل العلم بالقول في إعجاز آيات النبوة ، فكان القول في إعجاز القرأن الكريم ، وهو قول ذو جهات هي عندي ثلاث جهات كلية :
الجهة الأولى: جهة الكلام في العقيدة ، وعلماؤها كلامهم في الإعجاز في باب آيات النبوة، ولا يعدو اختصاصهم القول في الأدلة والبراهين المبينة والموثقة إعجاز القرآن الكريم,
وهم معنيون بما يعرف بوجوه دلالته على صدق النبوة المحمدية،وهو باب دقيق ،وقد جعل له الباقلاني الفصل الثاني من كتاب إعجاز القرآن قائلا :(فصل في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز)(3)
__________
(1) مداخل :شاكر (م0س) ص 51
(2) الانتصار لابن الخياط ص :14
(3) - إعجاز القرآن للباقلاني :ص21- تحقيق : السيد صقر – دار المعارف -(1/12)
وقد تناقل كثير من كلامه العلماء كما تناقل هو كلام سابقيه كالخطابي 0
فإذا ما تقرر من بيان علماء العقيدة إعجاز القرآن الكريم بأي وجه من وجوه الإعجاز فقد قاموا برسالتهم ، فإذا امتد القول بهم إلى جهات إعجازه فنافلة.
وعلماء العقيدة هم المعنيون بمناقضة الرافضين القول بإعجاز القول ،وأنه آية النبوة المحمدية،فخطاب علماء العقيدة مرمي به إلى الكافرين 0
نجد القاضي عبد الجبار الآسد آبادي (ت:415) جوابه سؤال قائل بالصرفة يقول:( إنما يصح هذا السؤال بين من يعترف بإعجاز القرآن إذا اختلفوا في الوجه الذي صار معجزا ، وغرضنا في هذا الباب الكلام على المخالفين الذين يظنون أن التحدي لا يصح به على وجه...)(1)
الجهة الثانية : جهة تأويل وعلومه
وعلماء تلك الجهة كلامهم في الإعجاز في باب وجوه إعجازه وتعديد هذه الوجوه ،وبيان منازلها من بعض ،وبيان ما هو الرئيس منها وما هو ظاهر منها للعامة ، وما هو قائم لكل الأمة في كل عصر ومصر،وماهو منها خاص بيانه وظهوره بعصر أو مصر دون غيره 0
وهؤلاء العلماء هم الذين لهم العناية بالقول في كل وجه على درجة سواء ومنها القول في الإعجاز بالصرفة الذي هو مناط نظرنا في هذا البحث 0
وكلام هؤلاء إنما هو مبني على تحقيقات علماء العقيدة وفراغهم من فرائضهم العلمية ويكون مع من آمن بإعجاز القرآن الكريم ،وأنه آية النبوة المحمدية،فإذا ما شغلوا بنافلة من تقرير وجه دلالته على الإعجاز والنبوة المحمدية على حساب تقرير وجوه الإعجاز فذلك انشغال بنافلة عن فريضة وخروج من سياق إلى سياق 0
سياقهم بيان وجوه الإعجاز المسلم ثبوته ،وسياق علماء العقيدة بيان وجه دلالة القرآن على الإعجاز وصدق النبوة المحمدية غير المسلم من مخاطبهم 0
__________
(1) - المغني في أبواب التوحيد والعدل : ج16ص218-ت: أمين الخولي – ط:1380(1/13)
فإنْ كان حديث علماء التأويل علومه في وجه الدلالة على الإعجاز توطئة للبيان وجوه إعجازه فذلك كالنافلة بين يدي الفريضة يحمد إيجازها ،ولا تجعل لها الغلبة على الفريضة 0
الجهة الثالثة: جهة بلاغته 0
وعلماء تلك الجهة فريضتهم في النظر في جهة واحدة من جهات إعجاز القرآن الكريم: بلاغته وفصاحته، هم مهمومون ببيان خصائص بيانه التي بها كان القرآن معجزا ،يفصلون بين ما هو عام في كل بيان بلسان العربية ،وما هو خاص لست بالواجده إلا في بيان القرآن الكريم 0
وهذا العلم الذي أنت واجده في كل بيان عال بلسان العربية شعرا وتثرا فنيا هو الذي سيقوم له ما يعرف عندنا بعلم البلاغة ،وهو علم بلاغة العربية العام يقرر أصولا كلية غير مختصة ببيان دون بيان بلسان العربية فلا يفرق بين البيان القرآني في هذا والبيان النبوي ، ولا بيانهما وبيان الشعر ، ولا بيان النثر الفني ،ولهذا تتجاور في كتب القوم شواهد من كافة أجناس البيان البليغ بلسان العربية بل ويجاورها أمثلة صناعية توضيحية ، وهذا الذي يتكلم فيه علم البلاغة العربية العام هو ما يعرف بـ(دلالات التراكيب) ،وهذا لا يبين شيئا من خصائص بيان القرآن وإعجازه البلاغي 0
وانظر في كتب القوم تجد عندهم مثلا كل مسند إليه مقدم على خبره الفعلي في حيز النفي مفيد للتخصيص سواء كان هذا في بيان القرآن الكريم أو بيان النبوة أو بيان الشعر أو بيان النثر الفني بل والمثال التوضيحي المصنوع ،وكذلك ما تراه في الأغراض العامة لأحوال المسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل وعلاقات الجمل ودلالات الأسلوب الإنشائي ، وما تراه في دراسة التشبيه والمجاز والكناية والبديع ،كل هذا لا يكشف لنا شيئا عن السمات والخصائص البيانية التي بها كان القرآن معجزا 0(1/14)
هذه السمات هي التي نسميها (خصائص التراكيب) وهي التي كان القرآن الكريم بها معجزا ،وهي التي أنت لست بالواجدها في غيره ،وهي التي لا تتكرر ،وإن تكرر النمط التركبيي في سياق آخر0
عالم الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم عليه أن تكون خصائص البيان القرآني هي مناط عنايته والوفاء بحق دراستها هو الفريضة اللازمة اللازبة , ومن ثم ينبغي ألا يتخذ عالم الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم القول في وجه دلالة القرآن على الإعجاز وكذلك القول في وجوه إعجاز القرآن الكريم غير وجه بلاغته فريضة يقوم لها فضلا عن آن يقوم بها، ،و إذا عرض لوجه من هذا فينبغي ألا يكون ذلك متجاوزا التوطئة للقول بإعجاز بلاغته من جهة ،ومن أخرى النظر في تلك الوجوه من جانب علاقتها بالإعجاز البلاغي كمثل النظر في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم – عند من يقول به منهم – لا يشتغل البلاغي به إلا من خلال ما في الآيات الكونية من منهاج بيان يتناسق مع الحقائق العلمية ،وكذلك الإعجاز التشريعي لحركة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية....
وكذلك نظر البلاغي في وجه الإعجاز بالصرفةِ ليس فريضة عليه أن يتكلم فيه،وأن يستفرغ الجهد في تحليل مقالة القائلين بذلك الوجه، وبيان ما في ذلك من شبهات وعورات ، وذلك إن عرض له البلاغي في البحث في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم فلا يعدو أن يكون موطئا أو مؤطدا قوله في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم 0
وهوقد ينظر في القول بالصرفة من جهة علاقتها بالإعجاز البلاغي ، كأن ينظر في الباعث لقائلين بالصرفة ومنازلهم في فقه البيان مما رمى بهم في القول بالصرفة ،وأنهم إن علت منازلهم في فيقه البيان ما يكون لهم بأن يقولوا إن الإعجاز بالصرفة 0
***(1/15)
من هذا الذي قلته يتبين لك أن الرماني في رسالته (النكت في إعجاز القرآن ) كان مقيما رسالته للإعجاز البلاغي ،وما عرض له من وجوه الإعجاز الأخرى كان نافلة ،وكمثله عصريه “الخطابي" في رسالته( بيان في إعجاز القرآن) وإن اختلف منهج كل منها في هذا 0وكمثلهما "الباقلاني" في كتابه (إعجاز القرآن) وإن طال نفسه عنهما في وجوه الإعجاز الأخرى ، أمَّا القاضي عبد الجبَّار في (المغني) فإنه قائم للقول في الإعجاز بيان وجه دلالة القرآن الكريم على صدق النبوة المحمدية ، وكلامه في الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم كان نافلة ، وإن علا قدره ، كمثل ما كان حديث الخطابي والرماني والباقلاني عن الوجه الأخرى غير البلاغى0
أما عبد القاهر الجرجاني في (الرسالة الشافية) فقد جمع بين أمرين :
الكلام مع من لا يقول بإعجاز القرآن الكريم فكان كلامه في وجه دلالة القرآن الكريم على إعجازه وصدق النبوة المحمدية ، وقد جعل لهذا الشق الأول من رسالته .
والكلام مع القائلين بأن القرآن معجز وآية على صدق النبوة المحمدية أى أن إعجازه من جهة الصرفة وليس من جهة بلاغته 0وقد جعل لها الشق الثاني للرسالة
0وفي جمعه بينهم في هذه الرسالة إشارة إلى أنهما متقاربان في الوصم بجهالة الحق ، وأنهما مبتليان بذلك الداء المبير ، ومن ثم سمى رسالته (الشافية) وهي تسمية ذات دلالة استهلالية شأنه في تسمية كتابيه : أسرار البلاغة ، ودلائل الإعجاز ، فإن كل اسم منهما دال على مضمون ورسالة كل كتاب .(1/16)
وكان من الحصافة أن لم يجعل "عبد القاهر" رسالته الشافية" مضمومة إلى "دلائل الإعجاز" توطئة" إشارة إلى أنَّها ليست من كتابه " دلائل الإعجاز" على الرغم من أن مواقع كتبه في سياق التأليف على ما يظهر على النحو التالي : اسرار البلاغة أولا ثم الرسالة الشافية ثم كان الختام كتابه " دلائل الإعجاز" فكتابه أسرا البلاغة تؤطئة للقول في دلائل الإعجاز ، ولن يفقه أحد شيئا مما قاله في "الدلائل" إذا لم يكن قد فقه بيانه في " أسرار البلاغة" فهو المهيئ القارئ إلى الولوج في قاموس " دلائل الإعجاز"
ذلك ما رغبت في بيانه بين يدي النظر في مقالات القائلين بالإعجاز بالصرفة .
-
بيان مفهوم الصرفة عند القائلين به
.إذا ما كان القول في آيات النبوة قد نبت في بيئة المتكلمين،فإن تشقيق القول في وجه إعجاز القرآن الكريم نابت في البيئة نفسها لما لقيه المتكلمون من دعاوى الإلحاد والتضليل من حولهم فلم تك مندوحة عن الولوج في قاموس تشقيق القول في وجوه إعجاز القرآن الكريم،وكان من تلك الوجوه التي تيسر سلوك المتكلمين سبيلها انتصارا سبيل القول بالصرفة،وكادت تتظاهر الأقوال على آن مبدأ القول بها كان بلسان "إبراهيم بن سيار النظام (ت:231هـ)
..مفهوم الصرفة عند النظام...
زعم بعض أهل العلم أن " النظام" ذهب إلى أن الإعجاز قائم من أمرين :
الأول: ما أخبر به القرآن الكريم من أمور الغيب
والآخر: " الصرفة"
اما الأمر الأول فإنا نجد "أبالحسين الخياط" يقول في رده اتهام "ابن الروندي" "ابراهيم النظام" :
"ثم قال [أي ابن الرواندي]:"وكان[أي النظام] يزعم أن نظم القرآن وتأليفه ليسا بحجة ،وأن الخلق يقدرون على مثله0
ثُمَّ قال[أي ابن الرواندي]: هذا مع قول الله عزَّ وجلَّ
)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه) (الاسراء:88)(1/17)
اعلم[والقول لابن الخياط] – علمك الله الخير- أنَّ القرْآنَ حجة للنبيِّ عليه الصلاة والسلام على نبوته عند "إبراهيم" من غير وجه [كذا] فأحدها : ما فيه من الإخبار عن الغيوب مثل قوله:)وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ) (النور:55) ومثل قوله :( )قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَاب)(الفتح: من الآية16) ومثل قوله ( الم * غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم:1-3).....ومثل إخباره بما في نفوس القوم وبما سيقولونه ،وهذا وما أشبهه في القرآن كثير 0
فالقرآن عند"إبراهيم" حجة على نبوة النبي صلى الله عليه من هذه الوجوه وما أشبهها ،وإياها عني الله بقوله)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (الاسراء:88)
)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...ً) (الاسراء:88) (1)
واضح من كلام "ابن الخياط" أنه مؤكد وجه إعجاز القرآن الكريم من جهة الإنباء بالغيب ، وأن قوله (من غير وجه) دال ظاهره على تعدد وجوه الإعجاز غير الإنباء بالغيب ، ولكنه لم يذكر لنا غير هذا الوجه ، فهل يعني تعدد وجوه الإنباء بالغيب مثل الغيب الذي مضى فلا يكون علم به عند احد من أخبار السَّابقين، والغيب الذي هو قائم في النفوس لا يطلع عليه أحد من العالمين،والغيب بما هو آت ،فهو تعدد وجوه الإنباء بالغيب وليس تعدد وجوه الإعجاز غير وجه الإنباء بالغيب كلية ؟ احتمالان أظهرهما الأول وإلا لكانت إشارة إلى الوجوه الأخرى ،وكل ذلك ظن لا يقارب اليقين لفقد الدليل القاطع .
__________
(1) _ الانتصار لابن الخياط: 27-28(1/18)
وواضح أيضا أنَّ "ابن الخياط" لم يرد اتهام "ابن الرواندي" "إبراهيم النظام" بنفي أن يكون نظم القرآن وتأليفه حجة ، وأن إبراهيم قائل بأن الخلق يقدرون على مثله0
فما رد به "ابن الخياط " مقرر أن القرآن الكريم حجة النبوة عند "النظام" ومناط المناقدة من" ابن الرواندي" أن "النظام" لا يقول بحجية النظم والتأليف ، وأنهما مناط الإعجاز ، فصرف " ابن الخياط" الرد إلى غير ما هو مناط المناقدة ، وهذا من التمويه ، فما يزال نقد " ابن الرواندي " واتهامه قائما لم يدفعه مقال "ابن الخياط " ، ففرق بين دفع الاتهام بأن نظم القرآن وتأليفه عنده ليس بحجة وغير معجز ، والقول بحجة القرآن الكريم من أي وجه.
وبهذا يتبين لك أن " ابن الخياط " لم ينتصر ، ولم يرد على " ابن الروندي " اتهامه ،فهل صنيع "ابن الخياط" في بقية المواطن من كتابه كمثل هذا فإن يكن – ولعله لا يكون – فكتابه حين ذاك لا يغني في بابه ، والأمر بحاجة إلى تدقيق وتحقيق،لست الآن بالقائم له 0
ولعلك تقول إن نصنيع"ابن الخياط" في الرد مسوق على منهاج أسلوب الحكيم: أعرض عن التصريح بنقض اتهام "ابن الروندي" "النظام" بأن نظم القرآن وتأليفه ليسا بحجة ،وأن الخلق يقدرون على مثله إلى تقرير وجه الإعجاز عند ابراهيم النظام إيماء إلى أن الوجه الذي ذكره هو الوجه القريب العلم به لكل ناظر عربيا فقيها ببيان العربية أو أعجميا لا يكاد يبين بالعربية أما الإعجاز في التأليف فلا يفقهه إلا من كان في فقه بيان العربية ماجدا ، والمقام مقام نظر في وجه الدلالة على أن القرآن معجز لأنه سياق بيان في علم الكلام ، وليس مقام بيان وجوه إعجاز القرآن الكريم .
فابن الخياط بصنيعه هذا مصحح لابن الرواندي منهج النظر في سياق علم الكلام ومبين له أنك قد جاوزت أدب البحث والمناظرة ، وخلطت بين سياقين : سياق النظر في وجه الدلالة على أن القرآن الكريم معجز .(1/19)
وسياق النظر في وجه إعجاز القرآن الكريم ،ومن لم يفرق بين السياقين أولى به أن يدع القول لغيره .
ربما يكون هذا مرمى صنيع "ابن الخياط" ، ولا يكون فيه حين ذاك نفي لزعم أن "النظام" لا يرى أن تأليف القرآن حجة ، وإن كان القرآن الكريم نفسه حجة من غير جهة تأليفه ، وهذا ما جاء الجاحظ فقرره وأكد اتهام "النظام "به،وسوف يأتيك بيانه في محله .
أما الأمر الآخر: القول بالصرفة فهذا ما نحن بصدد النظر فيه وفي رحلة هذه المقالة في أسفار أهل العلم أخذًا وردًّا 0
من المهم أن نقرر أنََّّ نصََّّ كلام " النظام" في هذا ليس بين أيدينا ، وإن نسبه إليه جمع من أهل العلم، وكثير من تراث المعتزلة في (إعجاز القرآن الكريم) فقدته الأمة على الرغم من أنهم كانوا أصحاب الكلمة المسموعة المنصورة زمن " المأمون" ومن بعده حتى جاء " المتوكل" فأخمد نارهم وكسر شوكتهم ،وأعاد لأهل السنة قدرهم 0
ولعل المعارضين للمعتزلة ، ولاسيما الذين اكتووا بطاغوتهم زمن علوهم أرادوا حماية الأمة من ضلالهم الذي أودعوه تراثهم ، فتخلصوا منه ، لعله يكون 0
وإذا ما نظرنا في مقدمة كتاب " الملل والنحل" لأبي الفتح الشهرستاني: محمد بن عبد الكريم بن أحمد( 479-548هـ ) رأيناه يقول:" وشرطي على نفسي أنْ أوردَ مذهب كلِّ فرقةٍ على ما وجدته في كتبهم ، من غير تعصبٍ لهم ، ولا كسر عليهم ، دون أن أبين صحيحه من فاسده ، وأعيِّنَ حقَّه من باطله ، وإنْ كان لا يخفى على الأفهام الذكيةِ في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ، ونفحات الباطل "(1)
وهو في ذكره مقالات المعتزلة وغيرهم لا يذكر- غالبا- المصدر الذي ينقل منه ، ومن الحيف العلمي نقد مقالات الرجال بروايات لم تستمد يقينا من أسفارهم ، ولاسيما إذا ما كانت الرواة من غير مذهبهم 0
يقول " الخياط" مقررًا أصلا علميا حميدًا :
__________
(1) الملل والنحل للشهرستاني :1/14ت عبد العزيز الوكيل ط1387هـ ](1/20)
(( إن قول الرجل إنما يعرف بحكاية أصحابه عنه أو بكتبه ))( (1)
وإذا ما كنا لم نستطع العلم بكتاب للنظام يقرر فيه رأيه في إعجاز القرآن الكريم ، فليس لنا إلا أن نستمع إلى مقالة أصحابه في حكايتهم عنه :
أول من ننظر في روايته مقالة " النظام" في الصرفة " أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ) قرين " النظام في التلقي عن " أبي هذيل العلاف " والخبير بأمره في شأن المجادلة ، والقائل عنه :
" إنَّ النظام وأصحابه كانوا يزعمون أنَّ القرآن حقٌ ، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل ، وليس ببرهان " (2)
فانظر ما أثبتوا للقرآن الكريم وما نفوا :
أثبتوا أنه حق ، وأنه تنزيل من عند الله تعالى،وهذا قاطع بأنهم قائلون بأن القرآن الكريم آية على صدق النبوة المحمدية.
ونفوا أن يكون تأليفه ونظمه معجزا وحجة وبرهانا ، فمناط المنازعة ليس إعجاز القرآن الكريم ،ولكن مناط المنازعة أن يكون وجه إعجازه نظمه وتأليفه . ذلك تحرير مناط المخالفة .
وفي رسالة أخرى يقول " الجاحظ":
" فكتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسي ....فلم أدع مسألة لرافضي ، ولا لحديثي، ولا لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع ، ولا أصحاب " النظام" ، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة، وأنّه تنزيل ، وليس ببرهان ولا دلالة " (3)
__________
(1) الانتصار للخياط (م0س) ص :22
(2) حجج النبوة للجاحظ: رسائل الجاحظ:ص:148
(3) خلق القرآن للجاحظ- رسائل الجاحظ : ج3 ص287(1/21)
مقالة " الجاحظ" مصرحة بأنَّ " النظام" ومن نجم بعده يرى أنَّ القرآن الكريم حقٌ منزلٌ من الله تعالى على نبيه ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ ولكنَّ هذا الحقّ المنزل من الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وصحبه ليكون آيته على صدق نبوته ليس تأليفه آية النبوة وحجتها وبرهانها ودلالتها،فقول" الجاحظ" : " وأنه تنزيل ، وليس ببرهان ولا دلالة" الضمير في ( أنه) يعود إلى تأليف القرآن الكريم ،؛ لأنه قرر أنّه حق، واسم (ليس) ضمير راجع إلى تأليف القرآن ، وليس إلى القرآن الكريم نفسه لأنه لو عاد إلي القرآن نفسه لكان "النظام" منكرًا إعجاز القرآن الكريم بأي وجه، وليس كذلك , فالضمير عائد إلى تأليف القرآن الكريم أي ( وأن تأليف القرآن تنزيل وليس هذا التأليف في نفسه ببرهان ولا دلالة ، بل البرهان والدلالة في أمر آخر من القرآن.)وعلى هذا يكون القرآن الكريم عنده شأنه شأن الكتب السماوية الأخرى هي معجزة بما فيها من الإنباء بالغيب وليس بالنظم(1) فالقرآن عند " النظام" حق معجز ، وهو حجة النبوة ، أمَّا التأليف والنظم ، فليس هو وجه الإعجاز ومناطه عنده بل وجهه ومناطه أمر آخر لم يصرح به " الجاحظ" فيما نقله لنا عن" النَّظام"وإن صرح لنا به "ابن الخياط" ،وهو من علماء القرن الثالث الهجري فهو قريب من عصر "النظام " و"الجاحظ" .
ويبقى النظر في دقة أبي عثمان الجاحظ في النقل عن قرينه "النظام" أهو مما يوثق به ومما لا ينازع فيه وأنه ممن ثبت أنه الثبت في روايته أقواله ؟
سؤال نطرحه تحريا للحقيقة0
__________
(1) - يقول الباقلاني ( ليس شيء من ذلك (أي التوراة والإنجيل والصحف) بمعجز في النظم والتأليف ،وإن كان معجزا كالقرآن فيما تضمنه من الإخبار عن الغيوب)(إعجاز القرآن ص 31-ت:السيد صقر – دار المعارف –ط:الخامسة .(1/22)
الذي يقرأ كتاب (الانتصار) لأبي الحسين الخياط يجده أحيانا يعلق على رواية الجاحظ بعض آراء النظام بأنه مما تفرد به ولا يعرف عن النظام ذلك :
يقول الخياط في نقض ادعاء ابن الرواندي على النظام أنه يقول بأن الأمة الإسلامية يجوز عليها الاجتماع على الضلال من جهة الرأي والقياس لا من جهة التنقل عن الحواس:
(يقال له: هذا غير معروف عن إبراهيم ،وإنما حكاه عنه عمرو بن بحر الجاحظ فقط ،وقد أغفل في الحكاية عنه ، وهذه كتبه تخبر بخلاف هذا الخبر )(1)
ويقول في نقض اتهام آخر من ابن الرواندي للنظام ( وهذا أيضا لم يحكه عنه غير عمرو بن بحر الجاحظ وقد أنكره أصحابه عليه)(2)
فهل الذي رواه الجاحظ عن النظام في شأن تأليف القرآن الكريم ونظمه أنه ليس بحجة النبوة عنده هو في قوة ما حكاه عنه في شأن اجتماع الأمة على ضلالة ؟
*****
ويأتي " أبو الحسن الأشعري" (260-324) وهو المولود من بعد وفاة " النظام "بتسعة وعشرين عاما وبعد وفات الجاحظ بخمسة وكان في مبدأ أمره من شيعة المعتزلة، فيقول:
" وقال " النظام" : الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من الأخبار عن الغيوب ، فأما تأليفه والنظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنعٍ وعجزٍ أحدثهما فيهم)(3)
فهذا دالٌّ على أن" النظام" يرى أن القرآن الكريم آية النبوة وأنه معجز ، كمثل ما صرح به " الجاحظ" عنه ، لكن " الأشعري" بين لنا أن وجه الإعجاز عند " النظام"بأمرين الأول :
إنما هو الإخبار عن الغيوب
وهذا قرره الخياط في (الانتصار)
__________
(1) الانتصار (م0س) ص : 51
(2) الانتصار ص :52
(3) مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري : ت: محمد محيي الدين – ج 1ص296(1/23)
والآخر : منع الله العباد بمنع وعجز أحدثهما فيهم عن أن يأتوا بمثله 0هذا الذي زاد في رواية الأشعري أهو شيء قرأه في كتاب للنظام أم شيء استخرجه بعقله من كلامه فهو لازم كلامه وليس بمنطوقه من أن القول بأن النظام قال بأن القرآن حجة النبوة وأن تأليفه ليس بحجة وأن العباد يقدرون على مثله يلزمه أن يكون المانع من معارضته هو المنع الإلهي ؛ لأنه إذا ما كان النظم والتأليف ليس بحجة ومما يقتدر عليه ، ولكنهم لم يعارضوه لا يبقى إلا أن يكون هنالك مانع قدري قهري هو الذي أعجز العباد0
هذا العجز والمنع ، هو ما عرف بالصرفة ، والأشعري في روايته لم يبين لنا بم كان الصرف عند النظام ، ولم؟ :
أكان صرفا للهمة عن المعارضة أم كان صرفا لقدرة ، وبم كان ذلك : أكان بسلب العلم بالمعارضة أم بسلب العقل ؟
فهذا الصرف يحتمل أن يتمثل في أمور :
= في سلب الهمة عن المعارضة مع قدرتهم وعلمهم وكمال عقلهم
= في سلب القدرة على المعارضة مع بقاء الهمة والرغبة في المعارضة
= في سلب العلم الذي به تتحقق المعارضة
= في سلب العقل أصلا 0
كل هذا لا تكشف عنه رواية الأشعري ، وهو في موقفه المناوئ للمعتزلة لا يجعل روايته في منزلة الثقة المسلمة حتى يؤيدها نص من كتاب للنظام أو نص لواحد من أصحاب النظام 0
******
ويأتي " عبد القاهر بن طاهر البغدادي( ت:429هـ) فيقول في بيان فضائح النظام :
" الفضيحة الخامسة عشرة من فضائحه قوله : إنَّ نظم القرآن ، وحسن تأليف كلماته ليس بمعجزة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولا دلالة على صدقه في دعواه النبوة ، وإنما وجه الدلالة منه على صدقه ما فيه من الإخبار عن الغيوب ، فأمّا نظم القرآن وحسن تأليف آياته ، فإنّ العباد قادرون على مثله ، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف " (1)
الجزء الأول من روايته كما هو عند الخياط ، الإعجاز عند إبراهيم النظام بالإخبار بالغيب
__________
(1) = الفرق بين الفرق للبغدادي :ص:143- - طبعة بيروت سنة1411(1/24)
والجزء الآخر : كما عند الجاحظ في بعضه وعلى ما عند الأشعري في بعضه ، وفيه زيادة قوله ( وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف)
فهل هذه الزيادة جاءت في نص موثق نسبه إلى النظام؟
الظن أن هذا لا يثبت نسبته إليه ؛ لأنه لو ثبت واطلع عليه الجاحظ أو الأشعري لكان جديرا بالرواية فإنَّهَّ حامل لما هو أعظم شناعة مما رووا عنه ، فكيف يدعون القوي في الدلالة على الخطإِ إلى ما هو أدنى في الدلالة عليه ؟
زيادة من البغدادي لا أجدني إلا متوقفا أو مبالغا في التوقف بقبولها وتوثيق نسبها إلى النظام 0
"البغدادي" يقرر أنّ " النظام" يرى القرآن الكريم آية النبوة ومعجزًا ، وأنّه يحصر إعجازه في الإخبار بالغيب ، وأما نظمه وإن كان بليغا إلا أنه غير معجز يمكن الإتيان بمثله ، وبما هو أحسن منه ، غير أن " البغدادي" لم يبين لنا وجه عدم إتيان العرب بنظم مثله أو أحسن منه عند النظام ، أي أنه لم يشر إلى " الصرفة" وإن فهمت ضمنًا ، كما سبق أن أشرت إلى مثله في رواية " الأشعري" 0
*****
ويقول " أبو الفتح الشهرستاني"(ت:548هـ) مصورًا ما تفرد به النظام عن المعتزلة :
" التاسعة: قوله في إعجاز القرآن إنّه من حيثُ الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرًا وتعجيزًا ، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما" (1)
في روايته هذه تصريح بإيمان " النظام" بإعجاز القرآن الكريم ، وتحرير لمناط الإعجاز ، وهو الإخبار بالغيب ، أمَّا النظم فليس بمعجز في نفسه ، ولو خلوا لأتوا ، ولكنهم صرفوا ، وبين أنه صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنعهم من الاهتمام بمعارضته 0
رواية" الشهرستاني" كما ترى تزيد عن سابقاتها بالتصريح بنسبة الصرفة إلى النظام وببيان وجه الصرف:
__________
(1) = الملل والنحل : ح1ص56-57- ت:عبد العزيز الوكيل – ط: الحلبي بمصر1387هـ(1/25)
الصرف في المقالة التي نقلها " الشهرستاني" إنما هو( صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا ( عبارة : صرف الدواعي عن المعارضة يتلقفها الغموض بل الإبهام 0
من البين أنّ الدواعي إنما هي في الاستدلال بالقرآن الكريم على النبوة وتحديهم وطلب معارضتهم ، وتقريعهم على ترك المعارضة وإلهاب ظهورهم ، وهم أهل حمية وأنفة ، فما يمموا نحو المعارضة ، ولكنهم أعرضوا عنها إلى أباطيلهم ، ثم إلى مقارعة السنان دون اللسان.
هذه هي الدواعي ، فهل هذه الدوعي صرفتهم عن المعارضة؟
إنها الحمالة لهم على المعارضة وليست الصارفة 0
فقوله – إن صح أنّ ذلك منطوقه – صرف الدواعي عن المعارضة سواء جعلته :" صرف الدواعي"من إضافة الشيء إلى فاعله ، فالدواعي هي الصارفة أم من إضافته إلى مفعوله ، فالدواعي مصروفة ، فإن الوجهين – ولاسيما الثاني- غير محررين بل مختلين 0
وكذلك قوله من بعده: ( ومنع العرب عن الاهتمام به جبرًا وتعجيزا ) فيه إبهام : منع عن الاهتمام بماذا : أبالقرآن الكريم أم بمعارضته ؟
عن الاهتمام بالقرآن كلمة لا تقال، فإنه ما أقضّ مضاجعهم مثله ، وهو الذي يكوي خياشيمهم صباح مساء ببيانه الغالب القاهر.
عن الاهتمام بمعارضته ، الأعلى أن يقال ( عن الاهتمام بها) أي المعارضة ، إلا أن يقال: التذكير حمل على المعنى : عن الاهتمام بفعل المعارضة ، ولكن التأنيث أكشف وأبين ، وهذا مقام كشف وتحرير 0
ويقول " بدر الدين الزركشي: محمد بن عبد الله بن بهادر ( 745-794هـ) :" إنَّ الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورًا لهم لكن عاقهم أمر خارجي ، فصار كسائر المعجزات " (1)
__________
(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي – ج 2ص93-94 – ت: محمد ابو الفضل - بيروت(1/26)
هذا ظاهر في أنَّ المسلوب منهم لمنعهم من المعارضة إنما هو عقولهم ، وغير بيّنٍ المراد بسلب العقل : أصاروا إزاء القرآن الكريم بلا عقول على الإطلاق ، أم الذي سلب منهم عقل خاص بالمعارضة ؟ أي سلب تعقلهم الوجه الذي به يعارضون والعلوم التي بها تقع المعارضة
العبارة ملبسة ، ولا أظنّ أن أحدًا يدّعي أن " النظام" يرى أنهم صاروا مع القرآن الكريم بلا عقول ، وكانوا أشبه بالمجانين ، فهذا من السفاهة بمكان عظيم
وهذا الذي ذكره " الزركشي" نقله بنصه" السيوطي (911هـ) في الإتقان (1)
مما مضى يتبين لنا أنَّ غالب من تحدثوا عن" النظام" من غير المعتزلة أثبتوا له القول بإعجاز القرآن الكريم ، وأنه آية النبوة ، وإن ذهب " البغدادي" إلى أنَّ " النظام" أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات ، ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف ، فأنكر إعجاز القرآن في نظمه(2) وهذا الاتهام لا يؤخذ به بغير دليل وبرهان قويم ،ولاسيما أن "ابن الخياط" القريب من عهد"النظام" يقول عنه:
" ولقد أخبرتي عدة من أصحابنا أن إبراهيم - رحمه الله - قال وهو يجود بنفسه : اللهم إن كنت تعلم أني لم أقصر في نصرة توحيدك ، ولم أعتقد مذهبا من المذاهب اللطيفة إلا لأشد به التوحيد ، فما كان منها يخالف التوحيد فأنا منه برئ . اللهم فإن كنت تعلم أني كما وصفت فاعفر لي ذنوبي ، وسهّل عليَّ سكرة الموت.
قالوا : فمات من ساعته . وهذه هي سبيل أهل الخوف لله والمعرفة به ، والله تعالى شاكر لهم ذلك"(3).
ولا يحسبن قارئ أني مناصر النظام وشيعته , فإني النفور عن ذلك إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، ولكني راغب عن أن أتهم مسلما بغير دليل وبرهان .
*****
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : ج4ص:6-7- ت: ابو الفضل – القاهرة
(2) الفرق بين الفرق للبغدادي :ص 131-132
(3) - الانتصار ص 41 -42(1/27)
وإذا ما كان " النظام" جاعلا إعجاز القرآن الكريم من إخباره بالغيب ، ألا يكفي هذا في إثبات إعجازه ، فما وجه أن جعل معه القول بالصرفة ؟
يقول شيخنا " أبو موسى" أعزَّه الله :" وإنما رمى بهذا القول في حومة الجدل ولجاجة الخصومة ، ولم يقل عن دراسة ومراجعة وتمام اقتناع " (1)
وهذا من شيخي إحسان ظنّ بـ" النظام" شأنه دائما مع أهل العلم ،وبذلك كان يؤدبنا ؛ ذلك أ نَّ " النظام" لم يكُ عييا ولا مسلوب الطبع والذوق ، بل كان بليغا شاعرا قادرا ببلاغته على تصوير الأشياء في صورتين متقابلتين ، ومن كان كذلك لا يغيم عليه فرق ما بين بلاغة القرآن الكريم وبلاغة البشر ، وإن اتهم بأنّه قال إنّ البشر قادرون على أنّ يأتوا بأحسن منه نظما وبلاغة.
قد ذكر " النظام" مع القول بالصرفة القول بالإعجاز بالإخبار عن المغيبات ، وذلك أنَّ هذه المغيبات الماضية والآتية لا يطلع عليها بشر إلا بإعلام علاَّم الغيوب ، فدلَّ ذكرها في القرآن الكريم على أنّ غير النبي لا يأتي بمثلها في كلامه ، فكان القرآن الكريم بهذا معجزًا 0
وإذا ما كان ما فيه إخبار بغيب في القرآن الكريم لا يشمل القرآن الكريم كلّه ,
أ فيكون ما ليس فيه إخبار بغيب مقدورًا عليه ؟
ذلك ما دفع " النظام" في حومة الجدل والملاحاة الكلامية إلى أن يقول إنهم يقدرون على الإتيان بمثله فيما ليس فيه إخبار بغيب نظما وبلاغة إلا أنهم في هذا مصروفون عنه بعجز ومنع أحدثهما الله فيه.
فهذا وجه الجمع بين الوجهين 0
وعلى ذلك يكون بعض معاني القرآن الكريم فيه مانع ذاتي هو ما كان من معاني الغيب ، وأما نظم هذه المعاني في صورة بليغة ، فإنهم مصروفون عنها بمانع خارجي .
وبعض معانى القرآن الكريم وهي التي ليست من الإخبار بالغيب ليس فيها ولا في نظمها معجز ذاتي ، بل في النظم والمعنى مانع خارجي هو الصرف 0
__________
(1) الإعجاز البلاغي لشيخنا أبي موسي :ص 356 – مكتبة وهبة بالقاهرة(1/28)
ويذهب شيخنا – حفظه الله – إلى أنه " يمكن أن يقال : إنه رمى بهذه المقالة [الصرف] في وجوه أهل الزيغ الذين كانوا يثيرون ما ينقض حجة النبوة ، ولم يشأ أن يجادلهم في أمر النظم ، لأنه يعلم أنّ النزاع فيه لا يُدفع إلا عند من كان ذا طبع إذا نبَّه انتبه ، فكيف مع قوم وصفهم خالقهم بأنهم : ( وإنْ يَرَوا كلَّ آيةٍ لا يُؤمنُوا بها ، وإن يّروا سبيلَ الرشْدِ لا يَتَّخذُوه سبيلاً ){الأعراف:146}
( وَلَوْ أننا نزَّلْنا إليْهم الملائكةَ وكَلَّمهُمُ الموتى وحشرنا عليْهم كلَّ شيٍْ قُبلاً ما كَانُوا لِيُؤمِنُوا ){ الأنعام:111)
أراد الشيخُ أن يسدّ باب الشبهة ، وأن يحسم الأمر مرة واحدة ، وقد قال أهل العلم :
" ومن ضعف الرأي أن تسلك طريقا يغمض وقد وجدت السنن اللاحب ، وأن تطاول المريض في علاجك ، ومعك الدواء الذي يشفي عن كثب ، وأن تُرخي من خناق الخصم ، وفي قدرتك ألا يملك نفسا ولا يستطيع نطقا " (1)
يفهم من هذا أنّ " النظام" يرى في نفسه أن القرآن الكريم معجز بنظمه ، ولكنه مع خصومه في حومة الملاحاة والمجادلة والمجالدة يدعُ ما آمنت به نفسه لطول سبيله وثقل مؤنته في الإجهاز على شبهة الخصم ، فليتخذ إلى صرعه وإزهاق باطله سبيلا غير سبيل ما آمنت به نفسه من إعجاز نظم القرآن ، فذلك من أدب المجادلة والمجالدة 0
وهذا الذي قاله شيخنا في شأن "إبراهيم النظام" كأنَّه منسول مما قاله " أبو الحسين الخياط" في شأن "أبي الهذيل العلاف"
يقول" أبو الحسين الخياط "في الرد على "ابن الرواندي" :" إنّ الماجن السفيه[يعني ابن الرواندي] ذكر أبا الهذيل – رحمه الله – فحكى عنه قولا قد كان أبو الهذيل يناظر فيه على البحث والنظر ،وذلك لأنه باب من الكلام شديد ،وهو أصل من أصول التوحيد عظيم ، وهو الكلام فيما كان ويكون ،وما يتناهى وما لا يتناهى ،والكلام في البعض والكلّ...."(2)
__________
(1) الإعجاز اليلاغي (م0س) ص 357
(2) - الانتصار ص 7(1/29)
وقال في موضع آخر :" ومن بعد فإن أبا الهذيل – رحمه الله – قد تاب من الكلام في هذا الباب عند ظنِّ الناس به أنَّه يعتقده ،وأخبر أنَّه كان يناظر فيه على البور والنظر – أخبر بذلك عنه جماعة ثقات لا يتهمون في إخبارهم ،فليس يحلُّ لأحد قرفه به "(1)
ففي هذا دلالة على أنه كان من منهاجهم أن يتخذوا قولا في سياق المجادلة والمجالدة ينتصرون به على خصومهم إذا ما رأوا أنه السبيل الأقرب والأقوى في صرع الخصم ،وإن لم يكن ذلك الذي اتخذوا سبيل مجالدة هو معتقد قلوبهم.
طريف هذا غير أنّ فيه شيئا :
لازم هذا أنّ النظام يذهب إلى أن القرآن الكريم معجز بنظمه ، وأنه لا يقول بالصرفة إلا في منازعة القائلين بأنه غير معجز ،وليس في أيدينا مقالة رويت من أصحابه أو أقرانه أو القريبين من عصره تشير مجرد إشارة إلى أن ذلك كائن منه في حومة المنازعة.
أضف إلى هذا أنَّه إذا كان الدّفع بأن النظام يقول بالصرفة في وجه الخصوم إسراعا في الغلبة ، فإنّ من المعابة أن يسلك المرء إلى غايته سبيلا قصير إلا أنه ذو خطر عظيم ، فلأن نعالج الداء بدواء يطول أمده ولا يورث خطرا من جانب آخر أحكم عند أولى الألباب من أن نعالجه بدواء عاجل الأثر إلا أنه يورث معه ما لا يحمد 0
إن القول بالإعجاز بالصرفة ينزع من القرآن الكريم أنه معجز لأن المعجز حين ذاك المنع والصرف وليس القرآن الكريم فينتهى أمر الإسراع إلى المغالبة بالقول بالصرفة إلى ضد ما يراد من تلك المسارعة ، وتلك لا يقع فيها إلا مأفون.
والقول بأن الإخبار بالغيوب هو وحده مناط الإعجاز متعاند مع ما جاءت به آية التحدي في (سورة هود:13) : )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
__________
(1) - السابق ص 16(1/30)
قوله(مفتريات) قاطع بأن مناط التحدي ليس ما تضمنه من معاني الحق سواء ما كان منها من باب الإخبار بغيب مضى أو غيب قائم أو غيب قادم .
وعلينا أن نفرق بين أمرين مناط التحدي ومناط الإعجاز :
أذهب إلى أن كل شيء في القرآن الكريم هو مناط إعجاز ، وأن مناط التحدي هو نظمه أي صورة المعنى وليس المعنى نفسه .
المعنى القرآني نفسه معجز ولكنه ليس هو مناط التحدي،والنظم معجز ومناط تحد،وهذا ما تقرره آية التحدي في (سورة هود:13)
-
... مفهوم الصرفة عند الجاحظ...
لايتوقف أحد في أن أبا عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ) قرينَ
(النظام) في التلقي عن (العلاف) مذهب الاعتزال،ولا يخفى أن " الجاحظ" كان من المجاهرين بالقول بخلق القرآن الكريم ، وله في تقرير هذا رسالة ، وكان من المجاهرين بأنّ القرآن الكريم هو آية النبوة وحجتها ،وأنه معجز ، وأنَّ إعجازه في نظمه ، وهو الذي ألف كتابا في نظم القرآن الكريم وإعجازه وقد أسماه ( الاحتجاج لنظم القرآن وغرايب تأليفه وبديع تركيبه)(1)
ويجهرفي رسالة ( حجج النبوة ) بأنّ( رجلاً من العرب لو قرأ على رجلٍ من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة لتبين له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها ، وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين ) (2)
__________
(1) = الحيوان : ج1ص9 – ت: هارون
(2) = رسالة حجج النبوة للجاحظ - ج3ص229 – رسائل الجاحظ – ت: هارون 0:(1/31)
فهذا دالٌ دلالة بينة على أنه ذاهب إلى أنّ نظم القرآن الكريم معجز ، غير أنَّا في كتابه: (الحيوان) نجده في معرض سياق خاص ، وهو سياق ذكر الدهريين وإنكارهم خبر " بلقيس " والهدهد و" سليمان" عليه السلام ،واحتجوا لذلك بأن الله قد أعطى لسليمان ملكا عظيما ، فكيف يكون " سليمان " عليه السلام ذاهلا عن خبر " بلقيس" ليعلمه إياه الهدهد، و" بلقيس"نابهة الذكر، وما بين موطنها وموطن سيدنا " سليمان" علي السلام ليس بالمقطوع سبيله ، فجاء جواب" الجاحظ" عن هذا بأنَّ ذهول " سليمان" عليه السلام عن خبر " بلقيس" معقول، فإنّ اللهَ يتدخّلُ قدره ، فيرفع عن الأوهام أشياء ويصرفها عن الفطن ، فيحدث ما جرى به القدر ، ويضرب لذلك مثالاً بسيدنا" يعقوب" و" يوسف" عليهما السلام ، فـ"يعقوب" عليه السلام نبي، و"يوسف " عليه السلام وزير بلد لا يجهل ، وكان " يوسف" عليه السلام فيه نابهًا معروفا ، ومع ذلك لم يعرف " يعقوب" مكان" يوسف" ، ولا" يوسف " مكان أبيه عليهما السلام ، فالله تعالى رفع عن أوهامهما ذلك ليجري قدره 0
وكذلك ما كان من أمر سيدنا " موسى" عليه السلام وقومه في التيه ، وموسى نبي ، وقومه أخبر الناس بأمر " سيناء" وقد وقعوا في التيه ولم يجدوا مخرجا ؛ لأنّ الله تعالى رفع عن أوهامها ذلك ليجري قدره 0
في هذا السياق المعقود لبيان أنّ الله عزَّ وجلَّ يرفع عن الأوهام ما يمكن لها علمه ، ليجري بذلك قدره يقول الجاحظ :(1/32)
" ومثلُ ذلك ما وقع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدًا طمع فيه ، ولو طمع فيه لتكلفه ، ولو تكلف بعضهم ذلك ، فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب والنساء وأشباه النساء ،ولألقى ذلك للمسلمين عملاً ، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض العرب ، ولكثر القيل والقال ، فقد رأيت أصحاب " مسيلمة " واصحاب ابن النواحة إنما تعَّلقوا بما ألّف لهم مسيلمة من ذلك الكلام ، الذي يعلم كلّ من سمعه أنَّه إنما عدا على القرآن فسلبه ، وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه ، فكان لله تعالى ذلك التدبير الذي لا يبلغه العباد ، ولو اجتمعوا له " (1)
" الجاحظ " في هذا السياق – كما ترى – قائل بأن الله عز وجلّ صرف أوهام العرب عن أن تحاول معارضة القرآن الكريم ، وهذه الصرفة ليست من صرفة " النظام" :
الصرفة عند "النظام" لولاها لأتى العباد بمثل نظم القرآن الكريم ، والصرفة عند الجاحظ لولاها لأتى العباد بمحاولة لما هو من دون نظم القرآن الكريم بكثير كثير 0
وعلة الصرف عند " النظام" منع أن يكون من العباد ما هو مثل نظم القرآن الكريم0 وعلة الصرف عند " الجاحظ" منع أن يحاول العباد الإتيان بما هو من دونه والشغب بهذا الساقط على القرآن الكريم وطلب التحاكم والتنافر ، ولو كان لو جدوا فيهم من يتعصب لهذلهم ودغلهم تحيفا ، الا ترى أن اليهود حين احتكم إليهم المشركون : أيهم أهدى هم أم محمد – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – وأصحابه ، فقضت يهود حيفا وعدوانا أنّ المشركين أهدى 0
" أَلمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصيبًا مِنَ الْكِتابِ يُؤمِنُونَ بِالجبْتِ والطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلذينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مَنَ الّذينَ آمَنُوا سَبِيلا" ( النساء:51)
__________
(1) = الحيوان :ج4ص89-ت: هارون 0(1/33)
فالصرفة عند " الجاحظ" صرفة عما يشغب به من الباطل على حق القرآن الكريم ، فهي من روافد حفظ قداسة القرآن الكريم ، وكأنَّ في هذا وجها من وجوه معاني قوله تعالى : " إنَّا نحنُ نزَّلْنا الذّكر وإنَّا له لحافظون" فصدر الآية قاطع بأنّ القرآن الكريم حقّ من عند الله تعالى ، وأنه ذكر بكل ما تحمله كلمة" ذكر" هنا من وجوه المعنى ، وفي قوله " له لحافظون" دلالة قاطعة على أن الله تعالى متكفلٌ بكلّ وجوه حفظه مما قد يمسّ قدسيته ،ومن وجوه حفظه أن يحفظه من أن يقوم في صدر أحد الشغب عليه بالباطل الذي قد يبهرج به على ضعاف العقول ومرضى القلوب وفاقدي تذوق البيان 0
الصرفة التى قال بها " الجاحظ " لا تتعاند مع مذهبه في إعجاز القرآن الكريم بنظمه وتاليفه ؛ لأنّ مناط هذا غير مناط ذاك ، فافترقاوقد هدانا إلى ذلك شيخنا أبو موسى أعزه الله (1)
وقد يطعن طاعن في مقالة " الجاحظ" هذه بأنَّه ينكر ما تواردت الأخبار بوقوعه : هو ينكر أن يكون قد وقع طمع من أحد في معارضة القرآن الكريم ، والواقع يقرر أن من الناس من طمع ، وأن مسيلمة قد روي عنه أنه تعاطى شيئًا من المعارضة ، فكيف تتحقق هذه الصرفة بمعناها عند " الجاحظ" ؟
الحق أنَّ "الجاحظ" لم ينكر ما روي من أمر " مسيلمة " بل عرض له بما يذل على أنه لا ينكر وجوده غير أن " الجاحظ" كما سمعت منه لم يجعل ما فعل مسيلمة وابن النّواحة من المعارضة بالباطل على القرآن الكريم بل جعل هذا لا يعدوا أن يكون عدوانا وسلبا وأخذًا لبعضه، وهذا ليس من المعارضة في شيء ، السرقة والسلب مع تغيير بعض الكلمات ليس معارضة ، فالمعارضة شيءٌ غير هذا ، ومن ثمّ لا يكون ما فعله " مسيلمة" من المعارضة في شيء ، وهذا من لقانة" الجاحظ" وفراسته البيانية وعرفانه البالغ بأصول المعارضة
__________
(1) = الإعجاز البلاغي لشيخنا أبي موسى :ص363-364- ط: وهبة(1/34)
وكأنّي بـ" الخطابي" من بعده قد اهتدى بتفريق " الجاحظ" بين المعارضة" وما فعل " مسيلمة" فيقول عنه :".... خال من أوصاف المعارضات وشروطها ، وإنما هو استراق واقتطاع من عرض كلام القرآن واحتذاء لبعض أمثلة نظومه ، وكلا لن يبلغوا شأوه أو يصيبوا في شيءٍ من ذلك حذوه
وسبيل من عارض صاجبه في خطبه أو شعر أن ينشئ له كلاما جديدًا ويحدث له معنى بديعًا ، فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين ، فيحكم بالفلج لمن أبر[أي عفّى وطغى ] منهماعلى صاحبه ،وليس بأن يتحيّفَ من أطراف كلام خصمه ، فينسف منه ثُمّ يبدل كلمة مكان كلمة ، فيصل بعضه ببعض وصلَ ترقيعٍ وتلفيق ، ثُمّ يزعمُ أنّه قد واقفه موقف المعارضين " (1)
*****
نقد بعض أهل العلم مقالة " الجاحظ" بالصرفة"
يذهب شارح رسالة " النكت " للرماني إلى أنه لايدفع القول بالصرفة على تفسير " الجاحظ" لها – وإن لم يصرح باسم " الجاحظ" : يقول :" أمَّا أن يكون القوم قد صرفوا عن المكابرة والمعاندة والإتيان بما هو عندهم دون القرآن والادعاء لأنه مثله أو فوقه فهذا الضرب من الصرف لا نأباه " (2)
هذا منه دقيق في تفسير الصرفة كما هي قائمة في مقالة " الجاحظ" ودقيق في عدم إبائه ذلك التفسير 0
***
يذهب الرافعي إلى أن قول "الجاحظ " بالصرفة مع قوله بالإعجاز البياني إنّما هو من تخليطه واضطرابه ،أو مما بقي من آثار أستاذه( النظام) في نفسه0
__________
(1) = رسالة بيان إعجاز القرآن لأبي سليمان الخطاب :ص:75- 85 – ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – ت: خلف الله وزغلول سلام – ط: دار المعارف بمصر
(2) = شرح رسالة النكت في إعجاز القرآن لمؤلف مجهول : ص:90-91- ت: د: زكريا سعيد – ط: الخانجي(1/35)
يقول : " أماأ " الجاحظ" فإنّ رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية ، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها ، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أنّ الرجل كثير الاضطراب ، فإنّ المتكلمين كأنّما كانوا من عصرهم في مُنْحُل... ولذلك لم يسلم هو أيضًا من القول بالصرفة ، وإن كان قد أخفاها , وأومأ إليها عن عُرضٍ ، فقد سرد في موضع من كتاب " الحيوان" طائفة من أنواع العجز ، وردها في العلة إلى أنّ الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم ، ثمّ عدّ منها ما رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحدّاهم الرسول – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بنظمه 0
وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه ، وهو شيءٌ ينزل على حكم الملابسة ، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبّه له أو نبه عليه ، أو يكون ناقلا ، ولا ندري" (1)
ما ذهب إليه " الرافعي " من أنّ قول الجاحظ بالصرفة إما من تخليطه ،أو مما تبقى من آثار شيخه فيه ، فذكره استرسالا إنما يقبل القول باضطرابه وتخليطه إذا ما كان مفهوم الصرفة وغايتها عنده مما يتناقض مع القول بإعجاز نظمه ، وقد بينت أنهما لا يتعاندان ، وإنما يقبل قوله بأن هذا من آثار أستاذه إذا ما كانت الصرفة عنده من بابة الصرفة عند أستاذه ، وقد بان لك أنهما ليسا من باب واحد ،وأن بينهما فرقا جوهريا 0
***
__________
(1) = أعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي :ص:164-165—ط:1389- المكتبة التجارية الكبرى بمصر(1/36)
ويأتى " عبد الكريم الخطيب" مبينا وجه الصرفة عند "الجاحظ" قائلا من بعد أن عرض مذهب " الجاحظ" في إعجاز القرآن الكريم بنظمه ويجعله إمام هذا المذهب في إعجاز القرآن الكريم وعمدة الرأي فيه :" ثُمّ لا تعجب إذا رأيت " الجاحظ" يقول بالصرفة في وجه الإعجاز في القرآن ، فالجاحظ كما نعلم معتزلى وجه من وجوه المعتزلة ورأس من رؤوسهم ، ونعلم أيضًا أنّ " النظام" وهوشيخ من شيوخ المعتزلة قد كان أول من جاهر بهذا الرأي ، وفتح للناس باب الكلام فيه ولا يذهبنّ بك الرأيُ إلى أن تحسب " الجاحظ" متابعا أو مقلدًا لإمام مذهبه" النظام" في هذا الرأي ، فالجاحظ وإن أخذ بقول " النظام" فليس ذلك عن تقليد ومتابعة ، وإنما عن نظر وموازنة ومراجعة.. ثُمّ اقتناع
ولهذا ، فإننا نرى " الجاحظ" يطلب لهذا الرأي أُسُسًا يقوم عليها ، وأوتادًا تمسك به ، وتجعل له معقولية ومنطقا !
ولهذا أيضًا كان رأي "الجاحظ" في القول بالصرفة هو الذي جعل لرأي " النظام" بعد هذا مكانًا بيْنَ للآراء التي دارت حول إعجاز القرآن ، ولولا هذا لما التفت الناس إلى رأي" النظام" هذا الالتفات ، ولما عاش هذا الرأي في الناس ينقضونه حينا ويقبلونه أحيانًا " (1)
كلام " الخطيب" دالٌ على أنَّه يرى أن صرفة" الجاحظ" هي صرفة" النظام" وهذا غير دقيق ، فهما مختلفان جوهرًا ومناطا وغاية ، وقوله إنّ الجاحظ أخذ بقول شيخه عن دراسة واقتناع لا متابعة وتقليد مبنى على باطل، وهو أنه أخذ عنه مذهبه، والمذهب لا يكون في الاسم وإنما في المسمى والمفهوم والجوهر ، ثُمَّ كيف تكون الدراسة لمذهب النظام والاقتناع به متوائمة مع القول بالإعجاز النظمى أيلتئمان أو يجتمعان في عقل نظر ووازن وراجع ثم اقتنع ؟ أي عقلٍ هذا ؟!
كلام الشيخ" الخطيب" متدافع يأكل بعضه بعضًا 0
__________
(1) = إعجاز القرآن: الإعجاز في دراسات السابقين لعبد الكريم الخطيب - ص:176- 177- دار الفكر العربي بمصر(1/37)
وعجيب أيضًا زعمه أن " الجاحظ " هو الذي جعل لمذهب "النظام" سيرورة وبقاء ، كيف وموقف " الجاحظ " في وجهيه: الإعجاز بالنظم ، وإلإعجاز بالصرفة الجاحظية يتناقض تماما مع صرفة" النظام ،؟
كيف يكون النقيضُ المقوّضُ المُبِيرُ مُمَكِّنًا لما يناقضه ويقوضه ويبيره ؟! عجيبة خطابية 0
ثُمَّ يقول الشيخ " الخطيب " : " وأمر آخر ، وهو أنّ " الجاحظ" إنما قال بالصرفة بعد أن أعياه الوقوع على الضوابط الدقيقة التي يضبط بها وجه إلإعجاز .. فذلك أمر إن أعجز " الجاحظ" فقد أعجز الإنس والجنّ جميعا ، فلو أنَّ سرّ الإعجاز قد انكشف – وهيهات – لعرفه الناس ، ومن ثمَّ لم يعُدْ بعيدًا عن متناول أيديهم.. وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن ......
ونقول: لا تعجب إذا عجز " الجاحظ "عن الكشف عن هذا السر المضمر أو هذا الروح الساري في القرآن فلم يعرف وجه الإعجاز فيه ! فألجاه هذا العجز إلى القول بالصرفة ..! فالجاحظ أستاذ الأساتيذ في نقد الكلام ، فلا عجب أن عرف قدر القرآن ، ولزم حده معه " (1)
بعض كلامه هنا فيه نظر لا يخفى : جعله الباعث للجاحظ على القول بالصرفة عجزه عن الوقوع على الضوابط الدقيقة التي يضبط بها وجه الإعجاز ... قول جدُّ عجيب !!
لو كان هذا صحيحا لكان باعثا كل العلماء الناظرين في إعجاز القرآن الكريم على أن يقولوا بالصرفة وحينئذٍ يكون القول بالصرفة هو المذهب المجمع عليه ؛ لأنه المذهب المدفوع إليه العلماء أجمعون ، ذلك أنهم يشاركون" الجاحظ" في حاله وهو " العجز عن الوقوع على الضوابط الدقيقة التي يضبط بها وجه الإعجاز ، والشيخ " الخطيب" يقرر أن هذا إن أعجز "الجاحظ" فقد أعجز الجن والإنس ، فما بال " الجاحظ" يدفع بهذا إلى القول بالصرفة ، ولا يدفع جلّ علماء البيان القرآني إلى القول بها فضلا عن الجن والإنس ؟!!
__________
(1) = إعجاز القرآن لعبد الكريم الخطيب :177-178(1/38)
قد بنى " الخطيب " ذهاب " الجاحظ" إلى القول بالصرفة على غير ما هو حقيقي فيه ، وهو في الوقت نفسه كأنَّه يفهم صرفة " الجاحظ" كمثل صرفة" النظام" وهما متباينان .
وإذا كان " الخطيب" قد نهانا عن أن نعجب من عجز " الجاحظ " عن الكشف عن سر الإعجاز فألجاءه إلى القول بالصرفة ، فإنا لابدَّ أن نعجب لِمَ لَمْ يبعثْ عجزُ" الخطيب" – وهو من الإنس - عن كشف سر الإعجاز على القول بالصرفة بمفهومها ومناطها وغايتها عند " النظام" ؟! أم أنّ " الخطابي" متعبدٌ بصرفة " النظام "؟
وفي نهاية كلامه في مبحث الجاحظ ورأيه في الإعجاز (1) يقول:
" هذا وسنرى رأي" الجاحظ" في القول بالصرفة عند عرضنا لهذا المذهب الذي كان " النظام" أول قائل به " على الرغم من أنه كان قد جعل خاتمة هذا المبحث تحت عنوان:"الجاحظ والقول بالصرفة"( (2)
وإذا ما نظرنا في مبحث( القول بالإعجاز بالصرفة) نجده يقرر:" فليس قولٌ أسقط من القول بالصرفة فيما قيل من أقوال حول إعجاز القرآن : إنه قول لامعقول له ..إذ كيف يقف العرب أمام آيات القرآن هذه السّنين الطويلة وهم ينظمون خلالها شعرًا ويقولون نثرًا ......وهم يجدون قواهم كاملة وملكاتهم التي كانت لهم لم يذهب منها شيءٌ ، ثُمَّ يقال بعد هذا إنَّ قوة قاهرة غير منظورة قد أمسكت بهم ولوت أعناقهم عن أن يتصدّوا للقرآن ويعرضوا له ؟! " (3)
كيف يلتئم قوله هذا مع قوله من قبل :" لا تعجب إذا عجز الجاحظ عن الكشف عن هذا السر المضمر .....فألجأه هذا العجز إلى القول بالصرفة.....؟ (4)
__________
(1) = السابق : 157- 178
(2) = السابق :ص176
(3) = السابق :ص 366
(4) = السابق : 178(1/39)
ولما جاء لبيان قول "الجاحظ " بالصرفة وهو من القائلين بالإعجاز البياني نَبَّه الشيخ " الخطيب" إلى السياق الذي جاءت فيه مقالة " الجاحظ" بالصرفة على نحو ما أشرت إليه في موطنه من قبل ، ويزيد " الخطيب" فيبيّن أن " الجاحظ" هنا لا يقول بالصرفة على إطلاقها ، ولكنها صرفة عن أمر هو معجز في ذاته .. فالقرآن في رأي " الجاحظ" معجز في ذاته ، ولكن الصرفة حمته من أنْ يتكلف للمعارضة بعض المتكلفين ، فيشوش على القرآن ، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس الأغرار والجهلة اضطرابًا .."
ما قاله الشيخ " الخطيب" هنا فهم صحيح للصرفة عند الجاحظ : وفقه لجوهرها ومناطها وغايتها ، ولو أنه اقتصر على هذا في كل موطن تكلم فيه على الصرفة عند "الجاحظ " لكان حميدًا
المهم أنه يعلق على هذا الموقف من " الجاحظ" بقوله:" ولا شكّ أنّ هذه من إحدى مغالطات " الجاحظ" وخلابته ، بما أوتي من قوة الحجة وسلطان البيان
ولو أراد " الجاحظ" أن ينقض هذا الرأي الذي أقامه على القول بالصرفة لنقضه بغمزة من قلمه دون أن يكد ذهنه، أو يطلق العِنانَ لقلمه " (1)
لا أحسب أنَّ " الجاحظ " القائل بالإعجاز البياني للقرآن الكريم بحاجة إلى أن يغالط بهذا القول في الصرفة، ومذهبه في إٌعجاز البلاغي قدير على أن يؤتيه ما يصبو إليه من غلبة وفَوْقٍ ، لابد أن يكون من أمرٌ جليلٌ يرمي إليه " الجاحظ" من وراء ذهابه إلى القول بهذه الصرفة التي أبان عن جوهرها ومناطها وغايتها
وقد أشرت إلى شيءٍ من هذا من قبل حين ألمحت إلى علاقة مذهبه بقول الله تعالى( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وأن في هذا المذهب نظر إلى إبلاغ الله تعالى في تقديس القرآن وحفظه من مجرد الشغب عليه 0
***
ويذهب " نعيم الحمصي " إلى استبعاد أن يكون " الجاحظ" قد قال بالإعجاز البلاغي ، والإعجاز بالصرفة معا , يقول:
__________
(1) = السابق :368-369(1/40)
" وأنا أستبعد أن يكون " الجاحظ" قد قال بالرأيين معًا في وقت واحد ؛ لما نعرف عنه من قوة التفكير ووضوح الحجة ، فإنّ الرأيين متناقضان " (1)
كأنّ " الشيخ" الحمصيّ" لم ير أن بين صرفة " النظام" وصرفة" الجاحظ" فرقا" فتساءل :" هل قال بالأول ( أي الصرفة) حين كان لا يزال متأثرًا بآراء أستاذه النظام ، وبالثاني( أي الإعجاز بالنظم) حين استقلّ بنفسه أو أنَّه جمع بين الرأيين معًا؟
لاندري فإنه يذكر الرايين في كتابه الحيوان(2) متتاليين تقريبا)(3)
من البين أنَّ كتابه " الحيوان" من آخر ما ألف وفي كتبه الأولى كان يجهر بالإعجاز النظمي ، ولم يصلنا رأيه في الصرفة إلا في الحيوان ، ومن ثَمَّ لا يكون قوله بالصرفة من رواسب تأثره بالنظام الذي لم يكن أستاذه بل قرينه وصاحبه في التلقي عن ( العلاف) وهو أكبر من " النظَّام" بعشر سنوات وبقي بعده ربع قرن تقريبًا ، وكان خبيرًا بأمر " النظام" ومنهجه في المناظرة ، وما كان " الجاحظ" ليبيع عقله له وهو الخبير بأمره 0
***
ومن بعد هذا نأتي إلى شيخ العربية :" إبى فهر محمود محمد شاكر" (1327- 1418هـ) وقد بسط القول في نشأة القول في إعجاز القرآن الكريم في كتابه الذي لم يكتمل نشره:" مداخل إعجاز القرآن " فكان من قوله في شأن " الصرفة" :" أن أبا إسحق النظام وأبا عثمان الجاحظ هما وحدهما اللذان تعاونا على صياغة هذا الشرط:" مدار الآية على عجز الخلائق"(4)
__________
(1) = فكرة إعجاز القرآن لنعيم الحمصي : ص 56- ط: الثانية- 1400- الرسالة – بيروت 0
(2) = الحيوان للجاحظ :ج:4ص 31-32- ت: هارون
(3) = فكرة إعجاز القرآن – الحمصي (م0س) ص: 56
(4) = مداخل إعجاز القرآن : امحمود شاكر (م0س) ص:54(1/41)
" وثقة من أبي عثمان ، وأبي إ سحق بذكائهما التمسا تصحيح شرطهما الوليد في آيات الرسل ، وتكتما بينهما مغمزه وفساده ، فرميا مرما بعيدًا : أن يجعلاه منطبقا أيضًا على الآية الفريدة في تاريخ الرسل ، بل في تاريخ البشر ، وهي القرآن الكريم ........جاءا برأيٍ لا يكاد يخطر ببال عاقل إلا ببال من اشتمل عقله اشتمالا ساطعا ، ثمّ انطفأ فجأة ، ولكن بقي منه في الأعين الوهج لا غير .....(1)
لا أدري كيف ضلّ الرجلان في تيه الحوار والمناظرة حتى اهتديا بعد الإرهاق والتعب والهمود والخمود إلى قولٍ مذهلٍ للعقول سمياه" الصرفة" لتكون هذه الصرفة في شأن القرآن مصححة أيضًا لشرطهما الذي أحدثاه ، وهو" مدار الآية على عجز الخليقة" ،ولتُخفِي أيضًا ما في هذا الشرط من المغمز المفضي إلى فساده واضطرابه ، وهذه " الصرفة " كما وصفها أبو عثمان الجاحظ نفسه ...هي أن الله تعالى " رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه...." وكذلك قال في مواضع أخر من كتبه ، ولم يزد على هذا 0
أمَّا بيان مقالة أبي عثمان وأبي إ سحق في " الصرفة" فهو كما ترى : الشأنُ في آيات الأنبياء هو أنَّ الله سبحانه حين فطر الخلائق سلبهم القدرة على أشياء استأثر بها سبحانه دونهم ، لأنها داخلة دخولاً مبينًا في صفاته سبحانه ، فإذا جاءت الخلائق " آية" هي حدوث [أمر] قد سلبوا القدرة عليه فطرة وجدوا"العجز" عنه في أنفسهم وجدانًا ظاهرًا مغروزًا في طباع الإنس والجن والملائكة المقربين" (2)
" ومعنى ذلك أنّ الله تعالى حين نزّلَ القرآن على نبيه منذ أوّل يوم كان قد أحدث في أنفس الخلائق " عجزًا" عن الإتيان بمثله ، فتلقت الخلائق " آية القرآن" بعجز قائم في أنفسها عن الإتيان بمثله 0
وبيّنٌ كل البيان أنّ " العجز" الذي هو شرط في آية كلّ نبيّ صار الآن :عجزين" :
__________
(1) = السابق : 58
(2) = السابق ك 59-60(1/42)
عجز قديم مغروز في أنفس الخلائق عند الفطرة الأولى ،لأنهم سُلِبُوا القدرة سلبًا جازمًا عن أفعالٍ قد استأثر اللهُ بها وحدَه – سبحانه – دون خلائقِه جميعا ، فتأتى آيات الأنبياء جميعا من هذا الباب ، فتتلقاها الخلائقُ بالتسليمِ والعجزِ
هذا هو "العجز الأول" ثُمّ " عجزٌ " أحدثه الله إحداثًا عند تنزيل آية نبينا – صلى الله عليه وسلم- وهي القرآن ، وهو " عجز" مستحدث فجأة في أنفس الخلائق ، وهو عجزٌ لا يسلبها القدرة على نظم الكلام ،وتأليفه بتة ، فذلك إلحاقٌ لها بالبهائم والعجماوات ، بل هو عجز يسلبها القدرة على نظم الكلام وتأليفه في حالة واحدة ليس غير ،هي الحالة التى تريغ فيها الخلائق ، أو تسوّل لها أنفسها معارضة القرآن بنظم وتأليفٍ يشابهه أو يدانيه ، فعندئذٍ يقطعها " العجز" قطعًا مبينًا على إتيان ما أراغته من الإتيان بمثل هذا القرآن ، ثُمّ هي بعد ذلك مطلقة قدرتها إطلاقًا على ما شاءت من نظم الكلام وتأليفه ، بلا حرج عليها في ذلك!
وهذا هو " العجز الثاني"
على هذا الوجه زال الإشكال فيما توهم "أبو إسحق النظام" ، و"أبو عثمان الجاحظ" ، وسلِم لهما الشرط الذي وضعاه وهو:" مدار الآية على عجز الخليقة " .....وقد استحدثا لهذا" العجز"اسما هو" الصرفة" ....."(1)
" هذا العبث الفاضح خليق أن يكون سجية من سجايا ذكاء "أبي إسحق" وحده ...لأنه مطبوع خلقة ووراثة على مثل هذه الحيل العابثة ....ولكن الأعجوبة...هو أن يكون " أبو عثمان الجاحظ " ممن تُقنِعُه هذه الأغلوطة ...وأن يكون "أبو عثمان " ممن يدافع عنها ويعتقدها لنفسه مذهبًا.....ولكنك سترى أنّ " أبا عثمان " لن يصبر طويلا على هذا الخضوع لحيل صاحبه وخليله..."(2)
__________
(1) = السابق ص:62-63
(2) = السابق :ص 64-65(1/43)
فلما جهر" النظام " بأن القرآن حجة، وأن تأليفه ليس بحجة " فزع " أبو عثمان " ... وعلم ...أن الاقتصار على تفسير " العجز" بهذه " الصرفة" وحدها مفضً إلى مثل هذا الهوس....فإن يكن خليله "أبو إسحق" قد اختلبه اختلابًا حتى سلّم عقله بالصرفة ، فإنَّ تذوقه[أي الجاحظ] للبيان وبراعته هو في البيان وبشاشة قلبه للبيان قطعت ما بينه وبين خليله " أبي إسحق" ، فتجرد لتأليف كتابه" الاحتجاج لنظم القرآن وسلامته من الزيادة والنقصان" (1)
فقرر فيه أنّ القرآن الكريم معجزٌ بنظمه ، ونقض مقالة "النظام" : " تأليفه ليس بحجة" فكان هذا منه دالا على أنه قد رمى بعقل خليله" النظام " تحت قدميه ولكن الأعجوبة أنّ هذا الظاهر الذي لاشك في تبلجه ووضوحه لم يكن إلا تناقضًا فاضحا في مذهب " أبي عثمان" فإنا نراه لم يزل مصرًا على اعتقاد " الصرفة " وعلى التبجح بها إلى أنْ الّفَ أواخر كتبه ، ككتاب " الحيوان" (2)
" ومعنى هذا أنّ مع القرآن العظيم " عجزين" :
عجزٌ مرده إلى الصرفة ، وعجز مردّه إلى نظم القرآن وتأليفه ، والذي لاشك فيه أن أحدهما كاف من صاحبه ....أما الجمع بين" العجزين" فليس يجتمع في عقل أحد يعقل ، فأحدهما يلغي الآخر .......ومع ذلك فأنا أظنّ أنّ " أبا عثمان" كان يعانى المشقة من هذا التناقض ... ودليل ذلك أنى رايته في كتاب " الحيوان" وهو من آخر كتبه ذكر مسألة هدهد " سليمان" وآيات أخرى مما جاء في كتاب الله سبحانه ، وأدار أمر تفسيرها على " الصرفة" بأسلوب جديد واستغرق ذلك أوراقا كثيرة..فلما بلغ أواخر تفسيره قال هذه الكلمة الصريحة الدلالة (3) :
" وفي كتابنا الذي يدلُّ على أنَّّه صدقٌ نظمُه البديعُ الذي لا يقدر على مثله العباد ، مع ما سوى ذلك من الدلائل التي جاء بها من جاء به"
__________
(1) = السابق : ص :64-67
(2) = السابق :ص 69
(3) = الحيوان للجاحظ(م0س) –ج4ص90(1/44)
ثُمّ ختم هذا الفصل بعد ذلك بتعريض القول بالصرفة لمناقشة الخصوم ، وإعادة النظر في أمرها ! وهذا حسبُك من الشك في سلامتها ، فقال هذه الكلمة الجليلة (1) :
" فبهذا وأشباهه من الأمور نحنُ إلى الإقرار به مضطرون بالحجج الاضطرارية ، فليس لخصومنا حيلة إلا أن يُواقِفُونا ( أي أن نجتمع نحن وهم معا للمناظرة ) وينظروا في العلة التي اضطرتنا إلى هذا القول( وهذه العلة هي الصرفة ) فإن كانت صحيحة ، فالصحيح لا يوجب إلا الصحيح ، وإن كانت سقيمة علمنا أنّما أُتينا من أقاويلنا"
فهذا تشكك .....وأظنه لولا الحياء والإلف لفارق " أبو عثمان " الشك المتلفع إلى اليقين السافر،ولطرح " الصرفة" حيثُ تستحق أن تطرح" (2)
حرصت على أن أخلى بينك وبين الشيخ- رفع الله ذكره عنده - تستمع إليه بنفسك على طول مقالته وليس من شأني أن أبسط النقل، ولكنى رغبت في أن تقف بنفسك على منهاج الشيخ في التشقيق والتوليد والتخمين ثم المناقشة والبناء على ما يراه أنه اليقين ، وكان من منهاج الشيخ أنه يولد القول ويحدس ، ويكاد يسحرك ببيانه وتقريراته وتأكيداته أن الذي حدسه لا يكون في منطق العقل ما يناقضه أو يخالفه، مما قد يسقط بعض قرّائه في رهبة المناقدة فضلا عن المناقضة .
وزاد الجرأة على البسط في النقل ، وهي معابة لامحالة أن كتابه (مداخل إعجاز القرآن) وأنا أكتب هذا البحث غير متيسر لكثير من طلاب العلم وقد علمت أنه يعد الآن للنشر ، فكان ضرورة أن أدعك تقوم في بيانه بنفسك لعلك ترى منه ما عجزتُ عن أن أبصره 0
تخليص مقالة الشيخ ما يأتي :
= الجاحظ وقرينه النظام أول من شرطا العجز في آيات الأنبياء 0
= هما معًا أوّلُ من قال بأن وجه العجز هو الصرفة 0
= النظام اقتصر في تفسير العجز على الصرفة 0
__________
(1) = السيوان :ج 4 ص93
(2) = السابق :ج 4 ص:70-72(1/45)
= الصرفة عند الجاحظ هي هي عند النظام : " الشأنُ في آيات الأنبياء هو أنَّ الله سبحانه حين فطر الخلائق سلبهم القدرة على أشياء استأثر بها سبحانه دونهم ، لأنها داخلة دخولاً مبينًا في صفاته سبحانه ، فإذا جاءت الخلائق " آية" هي حدوث [أمر] قد سلبوا القدرة عليه فطرة وجدوا " العجز" عنه في أنفسهم وجدانًا ظاهرًا معروزًا في طباع الإنس والجن والملائكة المقربين" 0
= تذوق الجاحظ " البيان" دفعه إلى الإحساس بالتناقض بين القول بالإعجاز بالصرفة والقول بالإعجاز بالنظم 0
= الجاحظ في كتابه " الحيوان " فسر الصرفة تفسيرًا آخر غير الذي كان متبعا أو متفقا في مع النظام .
= الجاحظ كان يعانى المشثقة من التنقض بين القول بالصرفة والقول بالإعجاز النظمي .
= الجاحظ عرض أمر الصرفة للشك والنظر فيها والمراجعة ، ولولا الحياء لفارق القول بها ولكنه ما فعل 0
ذلك تخليص مقالة الشيخ في " الصرفة عند الجاحظ"
***
نقد مقالة الشيخ شاكر
القول بأن الجاحظ والنظام أول من قال بالصرفة هو ظن لا يقوم على دليل قطعي ، ولو قيل إن ذلك مبنيّ على ما بلغنا من تراث القوم في القضية لكان القول أسلم من المناقدة ، فإن غير قليل من أسفار أهل العلم قد ضاع ، وغير قليل مما بقي لم يتسير لأهل العلم الاطلاع عليه وإن كان مكنونا في خزائن المخطوطات 0
القول بأنَّ "النظام" اقتصر على تفسير العجز بالصرفة غير مسلم ، فإن العجز عند النظام على ما بلغنا ممن نقلوا عنه أو عن بعض تلاميذه مرده عنده إلى أمر آخر أيضًا
فالجاحظ ، وهو قرين " النظام " لم يصرح – فيما علمته – بأنَّ " النظام" نطق بأمر الصرفة على النحو المشهور عنه ، وما قاله" الجاحظ" هو : " إنَّ النظام وأصحابه كانوا يزعمون أنَّ القرآن حقٌ ، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل ، وليس ببرهان " (1)
__________
(1) = حجج النبوة للجاحظ: ص148- رسائل الجاحظ:ت: هارون (م0س)(1/46)
وفي رسالة أخرى يقول " الجاحظ":" فكتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسي ....فلم أدع مسألة لرافضي ، ولا لحديثي، ولا لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع ، ولا أصحاب " النظام" ، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق ، وليس تأليفه بحجة، وأنّه تنزيل ، وليس ببرهان ولا دلالة " (1)
مقالة " الجاحظ" مصرحة بأنَّ " النظام" يرى أنَّ القرآن الكريم حقٌ منزلٌ من الله تعالى على نبيه ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ ولكنَّ هذا الحقّ ليس تأليفه آية النبوة وحجتها وبرهانها ودلالتها ، ولم يشر إلى أمر وجه العجز عنده ، فإذا نظرنا في مقالة " أبي الحسن الأشعري" (260-324) فإنه يقول عنه :
" وقال " النظام" : الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من الأخبار عن الغيوب ، فأما التأليف والنظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنعٍ وعجزٍ أحدثهما فيهم)(2)
فـ"الأشعري"هو الذي بلغتنى مقالته مفصلة وجه الإعجاز عند " النظام" مصرحة بأن مرد العجز عند النظام أمران : الإخبار عن الغيوب، وما أحدثه الله في العباد من المنع والعجز عن الإتيان بتأليف كتأليف القرآن الكريم ، ومن ثم لا يكون قصر " الشيخ شاكر" تفسير " النظام" العجز بالصرفة وحدها مما يسلم 0
تقرير " الشيخ شاكر" أن تفسير الصرفة عند " الجاحظ" هو هو عند قرينه" النظام" تقرير لم ينصّ الشيخ على مصدره ، ولم ينقل نصَّ تفسير الجاحظ لها منسوبًا إليه في كتاب من كتبه ، وكان حريًّا به أن ينقل هذا النصّ عنه ليكون الوثيقة التي لا تدفع في نسبة هذا التفسير للجاحظ ، فيبقى هذا التفسير من حدس الشيخ الذي قد يكون محلّ نظر، حتى يقوم بين يدينا ما يقرره
__________
(1) = خلق القرآن للجاحظ :ج3ص287- رسائل الجاحظ – ت: هارون (م0س)
(2) = مقالات الإسلاميين – لأبي الحسن الأشعري : ص 225- ت: هملوت رسيتر – ط: سلسلة الزخائر – القاهرة – وزارة الثقافة- 1321(1/47)
فإن كان الشيخ "شاكر" يريد بيان "الجاحظ" لها في " الحيوان(1) فإن تفسير الجاحظ لها هنا ليس هو تفسير " النظام" لها ، وذلك لا يخفى ، وقد بينتُ ما بينهما من قبل 0
وتفسير " شارح رسالة النكت للرماني " لهذه الصرفة عند الجاحظ وإن لم يصرح باسمه كما ذكرت آنفا هو الصواب ، وأنه صرف عن المكابرة والمعاندة والإتيان بما هو عندهم دون القرآن والادعاء لأنه مثله أو فوقه "(2)
القول بأن مكانة " الجاحظ" في تذوق البيان هي التى حملته على إحساسه بالتناقض بين القولين : الإعجاز بالصرفة على مذهب النظام ، والقول بالإعجاز النظمى يحتاج إلى تبيان ميلاد هذا الإحسأس : أكان " الجاحظ" أول أمره حين تبع أو اتفق مع قرينه على القول بالصرفة مفتقرًا إلى ذلك الإحساس ، فسقط في القول بالصرفة ، ولم يشعر بالتناقض، فلمَّا تولد الإحساس بالبيان فيه قام إدراكه التناقض في صدره ، أم أن الإحساس بتذوق البيان وعرفانه كان معه منذ قديم ، ولكن قرينه قد خلب عقله ودلّس عليه ؟
الأمر يحتاج إلى تبيان ليتقرر ذلك الحدس الذي حدسه الشيخ أبو فهر أعزه الله تعالى بالقرآن الكريم في الآخرة 0
القول بأن " الجاحظ" ما يزال يعانى مشقة التناقض بين جمعه القول بالصرفة والقول بالإعجاز النظمي مبني على الحدس الذي حدسه الشيخ ، ولن يسلم له ذلك حتى يستحيل الحدس بالدليل يقين .
القول بأن" الجاحظ" قد ختم الفصل الذي عقده في ( طعن الدهرية في ملك سليمان) بتعريض القول بالصرفة لمناقشة الخصوم ، وإعادة النظر في أمرهما ، وهذا حسبك من الشك في سلامتها......( (3) فإنّه قولٌ فيه نظر :
__________
(1) = الحيوان : ج 4 ص89
(2) = شرح رسالة النكت : لمؤلف مجهول :91(م0س )
(3) = مداخل لشاكر :71،والحيوان للجاحظ:4/92(1/48)
" الجاحظ" في مناقشته الدهرية في أنكارهم ملك سليمان عليه السلام بأنه على ما كان عليه لم يعلم أمر اليمن وملكته ، ونقده استدلالهم بما هو واقع في حيانتا وأخبار الأمم التى لا تنقض، مؤكد أن مثل هذا إنما يقع بتدبير الله عز وجل بشغل الأوهام كيف يشاء ليقع قدره ، إنما حديث "الجاحظ " فيما كان مقدورًا عليه ، فإنَّ عرفان سليمان عليه السلام أمر اليمن وملكته أمر لاشك مما يقدر عليه وعرفان "يعقوب" و"يوسف" وعرفان و"موسى" عليهم السلام وبنى إسرائيل مما يقدر عليه في العادة ، فهذا كلُّه مناطات الصرف فيه إنما هو مما يقدر عليه وهذا لا ينطبق أمره على النظم القرآنيّ ، لأنّ " الجاحظ" نفسه مما يؤمن ويجهر به أن النظم القرآني مما لا يقدر عليه العباد ، فلما أشار إلى شأن صرف الله العباد في شأن نظمه كان " الجاحظ" دقيقًا محررًا القول في مناط الصرف وحقيقة هذا الصرف :
أهو من جنس الصرف الذي كان منه تعالى في شأن عرفان "سليمان" و"يعقوب" و"يوسف" و"موسى" عليهم السلام وبني إسرائيل، ومناطه هنا هو مناطه هناك؟(1/49)
َ الصرف في شأن القرآن الكريم كان صرفًا عما هو معجوز عنه بنفسه، وكانت غاية الصرف ليس المنع مما يمكن الاقتدار عليه أو هو في مظنة الاقتدار عليه كما في شأن عرفان "سليمان" بملكة اليمن ...إلخ بل هو صرف عما هو معجوز عنه ، و غايته المنع من مجرد الشغب على ذلك المعجوز عنه بباطل قد يتعصب له المعاندين ظلما وعدوانا ، فافترق الأمران ، و" الجاحظ" إنما ختم كلامه بهذا جامعا بين الضربين من الصرف ( الصرف عما هو مقدور عليه) ليقع قدره ، و( الصرف عما هو معجوز عنه) ليحفظه من أدنى الشبهة بباطل 0فقول "الجاحظ":" ولولا الصرفة التى يلقيها الله على قلب من أحبّ .......لما اجتمع أهل داره ......على الإطباق بأنّه حي) إنما هو في شأن الضرب الأول من الصرفة أي الصرفة عن المقدور عليه لينفذ القدر، وقوله( فبهذا وأشباهه من الأمور نحن إلى الإقرار به مضطرون .....) إنما هو مصروف إلى احتجاجه بأن الصرف عن المقدور عليه ـ وليس منه النظم القرآني ـ إنما هو واقع لإنفاذ القدر ، ومن ثمّ دعاهم إلى النظر في هذه العلة : علة الصرف عن المقدور عليه لإنفاذ القدر ، ولن يكون من بابة هذا الصرف عن النظم القرآني المعجوز عنه لحفظه من الشغب على حقه القاهر بباطل زاهق ، إبلاغا في حفظه 0
وليس "الجاحظ" بالذي يرى المعرة والمعابة واختلاب الشك في ما كان من أمره ثُم يحجزه " الحياء والإلف" كما يقول الشيخ شاكر عن أن يفارق الشك المتلفع إلى اليقين السافر. الظنّ بعقل" الجاحظ" أنّه لن يلقى بنفسه في تلك المعرة وإلا كان مأفونا وجديرًا بأن يعرض عن مثله فيما يقول 0
مجمل القول أن ما قاله " الشيخ شاكر في شأن " الصرفة عند الجاحظ" لا يسلم له بعضه 0
- *****
... مفهوم الصرفة عند الرماني..(1/50)
يُعدّ الرُّمانيّ: أبو الحسن بن على بن عيسى(296-386هـ) رأسًا من رؤوس المعتزلة في القرن الرابع الهجريِّ ، وقد تلقى الاعتزال عن شيخه" ابن الإخشيد" ومنأهم كتب الرماني " رسالة : النكت في إعجاز القرآن" وهي من أقدم الكتب التى وصلتنا في إعجاز القرآن الكريم إذا عددنا مشكل تأويل القرآن لابن قتيبة من أسفار إعجاز القرآن ،
والرمانيُّ يبدأ رسالته " النكت" بأنَّ ( وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات) ولعله من أقدم من ذكر وجوه إعجاز القرآن ، ويرتب ذكرها أولا كالتالي:
= ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة 0
= التحدي للكافة
= الصرفة
= البلاغة
=الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة
= نقض العادة
= قياسه بكل معجزة (1)
وأنت إذا ما نظرت في هذه السبعة تتساءل :
أهي كلّها وجوه إعجاز القرآن الكريم ، أم الوجوه هي التي تظهر من هذه الجهات السبعة، فهي الجهة التي يظهر منها الوجه وليست الوجه نفسه ؟ وهل يفرق " الرماني" بين الأمرين : بين وجه الإعجاز ، والجهة التي يظهر منها وجه الإعجاز ؟
لم يتبيّن لي أنَّ " الرمانيّ" يفرق، وأن صياغته لعبارته: ( وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات) من ورائها تدقيق 0
ويخيّلُ إليّ أنه يجعل هذه السبعة هي وجوه إعجاز القرآن الكريم ،وأنت حين تدقق فيها ترى أنها ليست كلُّها وجوه إعجاز ، بل إنّ بعضها داخل في وجه الدلالة على الإعجاز ، وليس جهة الإعجاز ، وغير خفي الفرق بين ما كان دليل وبرهان إعجاز ، وما كان وجه إعجاز .
" البلاغة " مثلا ليست دليل وبرهان وحجة إعجاز بل هي وجه إعجاز ، أمَّا ترك المعارضة، والتحدي للكافة ، فذلك دليل وبرهان إعجاز 0
__________
(1) = النكت في إعجاز القرآن للرماني – ص :75- ضمن :ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – ت:" خلف الله وزغلول سلام – دار المعارف – مصر(1/51)
وهو إذا ما كان قد جعل ( الصرفة) الوجه الثالث ، و(البلاغة) الوجه الرابع في الذكر الإجمالى ، فإنه يقدم القول في البلاغة في الذكر التفصيلى ويبسط القول فيها ويجعلها عشرة0
وحين يأتى إلى الصرفة يقول: ( وأمَّا الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة ، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أنّ القرآن الكريم معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ، وذلك خارج عن العادة ، كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوة 0
وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر فيها للعقول )(1) ثُمّ لا يزيد على هذا 0
ما قاله يحتملُ وجهين من البيان دفع إليها ما عدم تعيينه ما إذا كان هذا صرف همم عن معارضة ما تستحيل معارضته بما أودع فيه من ، أو صرف همم عن معارضة ما تتيسر معارضته لو خُلِّيَ بيتهم وبينه؟
الاحتمال الأول :انهم صرفت هممهم عن المعارضة بما إقامه فيه من بديع النظم
والاحتمال الآخر: أنّهم صرفت هممهم عن معارضة ما هو متيسر لهم لو خُلِّيَ بين هممهم وبينه لجاءوا بمثله0
الأول يقويه ما قاله في الوجه السادس (نقض العادة) والوجه السابع(قياسه بكل معجزة)
معنى نقض العادة " أنّ العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة....فأتى القرآن الكريم بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كلّ طريقة...."(2)
فهذا صريح بمنطوقه أنَّ النظم قد جاء بنظم خرق به العادة، فكان هذا الخرق صارفًا للهمم عن المعارضة
ومعنى قياسه بكل معجزة أنَّّ كلَّ معجزة من معجزات الأنبياء سبيلها سبيل واحد في الإعجاز هو أن تخرج عن العادة وأن يقعد الخلق فيه عن المعارضة (3)
وقوله وهو يفسر الصرفة" وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة "(4)
__________
(1) = السابق : 110
(2) = السابق :111
(3) = الموضع السابق
(4) = السابق :110(1/52)
فالقرآن الكريم قد قعد الخلق عن معارضته بخروجه عن العادة شأن كلّ معجزة ، فالمُقعِدُ للخلق إنما هو خروج نظمه عن العادة ، وفي البيان بقوله( قعد الخلق فيه عن المعارضة) كشف لمعنى صرف الهمم ، وفي بيانه أن السور القصار كالطوال غير ممكن نظمها للناس تقرير أيضًا لمعنى الإقعاد بعلو النظم 0
ويزيدك بيانا لهذا أن " الرمانيَّ" في (باب التصريف) وهو يبيّنُ " تصريف المعنى في الدّلالات المختلفة " كما في القصص القرآنيّ يذكر وجهًا من حكمة هذا التصريف قائلا:
"منها التصرف في البلاغة من غير نقصان عن أعلى مرتبة ، ومنها تمكين العبرة والموعظة، ومنها حل الشبهة في المعجزة" (1)
قوله:" حلَّ الشبهة في المعجزة " فسّره شارح " النكت" بأنّ" تكرير المعنى الواحد بعبارات مختلفة ، كلّ واحدة منها معجزة على حدة يدلّ على أنّ العبارةَ الأُولَى لم تكنْ معجزةً من قِبَلِ أنّها تستحيلُ في العقولِ الإتيان بمثلِها ، وإنّما أعجزت المخلوقين لخروجها عن حدِّ ما يقدرون عليه "(2)
كلُّ هذا يقوي الأخذ بالاحتمال الأول في تفسير " صرف الهمم عن المعارضة" وحينئذٍ لن تجد هذا الوجه(الصرفة) على هذا التفسير متناقضًا مع القول بالإعجاز النظمى بل هو لازم من لوازمه 0
وعلى هذا تكون الوجوه السبعة التى ذكرها "الرُّمَّانِيُّ " في مفتتح الرسالة غير وجهين عند التحقيق:
الأول: الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة . والآخر: البلاغة
أما الصرفة فعلى هذا التفسير هي لازم من لوازم البلاغة وليست شيئا غيرها ، وكذلك " نقض العادة وقياسه بكل معجزة هما مما يتعلق بالبلاغة كما بينت ،أما ترك المعارضة والتحدي للكافة فليسا من وجوه الإعجاز ، وذكر " الرُّمَّانى " لهما ليس دقيقًا بل هما من أدلة وقوع الإعجاز وبرهانه وحجته 0
__________
(1) = السابق : 101- 102
(2) = شرح رسالة الرماني في إعجاز القرآن لمؤلف مجهول : ص:123(م0س)(1/53)
والاحتمال الآخر يعنى أنَّ الصرف للهم لم يكن بما أودع في النظم من دقائق ولطائف وبدائع لا تقدر عليها العباد ، بل بصرف العزم عن معارضة ما كانوا قادرين على عليه من قلب الصرف ، فالصارف غير قائم في المصروف عنه ، فالقدرة على المعارضة باقية، والعلم بجهة المعارضة في قبضتهم ، والعلوم التي بها تكون المعارضة لم تسلب منهم غير أنهم أُخلوا من الهمَّة والعزم والإقدام ، فكان التثبيط واستفراغ الصدور من العزائم ، فهو قهر قدريّ ، وهم في قبضة الجبر مسلوبو الإرادة والاختيار 0
أيكون هذا لازم مقالة " الرُمَّانِيّ" في الصرفة: " هي صرف الهمم عن المعارضة" ؟ إن يكن فهو المتعاند مع أصل عظيم من أصول مذهب الاعتزال الخمسة : العدل 0
لاأحسب أن " الرّمانيّ" يمكن أن يرمى إلى هذا
وتبقى مقالة " الرّمَانِيّ :( وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول)
ما معنى قوله( عندنا) أهو ناظر إلى قوله ( وعلى ذلك كان يعتمد بعضُ أهل العلم ) ، وما معنى قوله: " يظهر منها للعقول " ؟
يقول شيخنا " أبو موسى" – أعزّه الله تعالى - :" انظر إلى قوله " يظهر منها للعقول" تراه يحدد وجه صلاح هذا المذهب ، وأنه ظاهر للعقول وصالح للاحتجاج وبيّنٌ في الإقناع ، وليس هو الوجه الذي يراه " الرماني" في القرآن ؛ لأنه احتشد لبيان وجوه البلاغة المعجزة في القرآن الكريم ، وهذا الإقناع بإعجاز البلاغة القرآنية لا يجتمع في العقل مع الصرفة التي لولاها لجاء وا بمثله ، وهذا واضح"(1)
وهذا مثله كمثل ما ذكره شيخنا في شأن " قول النظام "بالصرفة وقد مضى.
__________
(1) = الإعجاز البلاغي لشيخنا أبي موسى: ص:367- 368(م0س)(1/54)
أيمكن لنا أن نجعل اسم الإشارة في قوله :"وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التى يظهر منها للعقول" راجعا إلى الخروج عن العادة فيكون المعنى على هذا النحو :وأما الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة ،وعلى ذلك يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ،وذلك (الإعجاز القرآني) خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة ،وهذا(الخروج عن العادة)عندنا أحد وجوه (الدلالة على) الإعجاز التي يظهر(إعجاز القرآن) منها (أي من وجوه الدلالة) للعقول.
هذا ما يظهر لى من تفسير عبارة الرماني
ويبقى أمر يؤخذ عليه : إنَّه لم يكن ذكره وجوه الإعجاز في صدر الرسالة منطقيًّا . المنطق يقضي أن يحرروجوه الإعجاز ،وألا يدخل فيها ما ليس منها ، فلا يذكر الأولين: ترك المعارضة، والتحدي للكافة، فليسا من باب وجوه الإعجاز بل من باب وجه الدلالة على الإعجاز
والمنطق يقتضي ألا يفرد اللازم عن الملزوم ، فيجعل اللوازم قسيما للملزوم ، فالبلاغة ملزوم لوازمه" الصرفة" بالتفسير أو الاحتمال الأول الذي ذهبت إلى تقويته ، وكذلك نقض العادة وقياسه بكلّ معجزة ، فكل ذلك متعلق بوجه الإعجاز بالنظم ، ومن ثم لا يخلص لنا إلا وجهان:
الإعجاز البلاغي، والإخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة .
- *****
مفهوم الصرفة عند شارح " النكت..
إذا ما كنَّا قد تلبثنا قليلا عند مقالة الرمَّاني في الصرفة في رسالته (النكت) فإنَّ هذه الرسالة قد حظيت بشرح لم يتيسر معرفة صاحبه ، وإن ظنَّ محقق الشرح الصديق "أد: زكريا سعيد علي" أنه الإمام " عبد القاهر " 0
المهم أن شارح النكت قد عرض للقول في الصرفة، فكان مصرحًا في بعض قوله بالرافض لها ، وفي بعض قوله بالأخذ ببعضها ، وهذا يقتضي تبيان ما هو المقبول منها ووجه القبول ، وما هو مرفوض وووجه الرفض0(1/55)
يقول الشارح:" إنَّا لاندفعُ أن يكون الله تبارك وتعالى هو الذي صرف الهمم عن معارضة القرآن الكريم ، لينقض بذلك العادة الجارية بين الناس في معارضة بعضهم لبعض عند التَّماري والتجادل ، وعند تحرك ما في النفوس من الحسد والحمية ، وإن كان المعارضُ مكابرًا عند نفسه إذا رجع إليها ، وعند قليل من الناس ممن يوازيه في درجته من أهل الطبقة العليا
ولكنّا إنما ندفع أن يكون هذا الصرف بشيءٍ غير الإبلاغ وحسن النظم ؛لأنَّا وجدنا هذا النظمَ مُباينًا لسائر النظم في الحسن والإعجاز والروع والإيناق "(1)
فهذا منه بيان لآلة الصرف عن المعارضة، إذ جعل الله عزّ وجل القرآن الكريم في منزلة من بلاغة النظم لا يتأتى لأحد من العالمين أن يستشرف إليها ، فكان جعله هذا صرفا لهم عن المعارضة ومنعًا لهم عن تكون لهم هممٌ يتطلعون بها إلى معارضته 0
هذا التفسير للصرف هو المتطابق مع القول بالإعجاز البلاغي، بل هو لازم من لوازم القول بالإعجاز البلاغي ، لأنه لا معنى للإعجاز بالنظم إلا أن يجعل النظم في منزلة ينقطع معها الطمع في محاولة معارضته ، فيكون هذا بمثابة الصرف والمنع .
وهذا من الشارح هو أشبه بأسلوب الحكيم والقول بالموجب .
وهو ينقض القول بالصرفة على التفسير المنسوب للنظام ، من الصرف عن معارضته مع سهولته على من يروم الإتيان بمثله وقدرة الناس عليه وعلى أمثاله إذا خُلّي بينهم وبين ما في طباعهم 0
وهذا من الشارح حميد 0
ويقرر الشارح" :" أن القرآن معجز ببلاغته وجودة نظمه ، ولا يكون فيها [أي بلاغته ] إذا وجدت دليل لمن يذهب مذهب الصرفة على صحة مذهبه ؛ لأنّ الذين قالوا بالصرفة ذهبوا إلى أنَّ القرآن ليس بمعجز من جهة البلاغة والنظم ...."(2)
__________
(1) = شرح رسالة الرماني في إعجاز القرآن لمؤلف مجهول – ت: زكرياسعيد: ص:88 (م0س)
(2) = السابق :91(1/56)
فدلَّ هذا على أن كلّ القائلين بالصرفة عما هو ممكن الإتيان به لو خلّي بينهم لا يرون إعجاز بلاغة القرآن ، وكأنّه يهدينا إلى وجوب تفسير الصرفة حين تجمع غير مفسرة تفسيرًا قاطعا مع القول بالإعجاز البلاغي تفسيرًا لا يتعاند مع القول بالإعجاز البلاغي ، لأنهما لا يجتمعان في عقل أبدًا.
ولا يقول عاقلٌ أبدًا إنه معجز ببلاغته ، وإنه معجز بالصرفة عن الإتيان بمثله لو خلي بينهم وبينه ، فذلك مما ينقض عجزه صدره، ولا يفعالها عاقل 0 ومن ثَمّ لا يبقى ما يحيّرُنا في جمع بعض أهل العلم بين " الصرفة" و"البلاغة" ؛ لأنه جمع بين ملزوم" البلاغة" ولازم" الصرفة" وليس جمعًا بين متعادلين متباين 0
ويقرر أنه لا يأبى أن يكون الصرف لهم عن المكابرة والإتيان بما هو عندهم دون القرآن الكريم والادعاء أنه مثله أو فوقه غير أنه لا يأخذ بذلك التفسير للصرفة وإن كان لا يأباه لأنَّ لديه ما هو أعلى في تفسير الصرفة :
" نقول إنهم قد كانوا قادرين على المكابرة والمعاندة وكانوا أحرص الناس على أن يعارضوا نوعا من المعارضة إلا أن القرآن بلغ بهم من الروع والإعجاب والهزّ والإيناق مبلغا ظهرت فيه أحوالهم وانكشفت انكشافا استوى في العلم به منهم خاصتهم وعامتهم ، فلم يجدوا عند أنفسهم للمعارضة موقعا لو اشتغلوا بها0فالصرف من الله جل ذكره لهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن هو الذي نذكره من روعِه إياهم بالكلام الرائع الذي سمعوه "(1)
وهذا الذي صرح به الشارح مما يعض عليه بالنواجذ كلُّ مؤمن بإعجاز بلاغة القرآن الكريم لا يعدوه إلى ما يناقضه من نحو ما فسرت به " الصرفة" عند " النَّظَّام" .
- *****
مفهوم الصرفة عند الشريف المرتضى
__________
(1) الموضع السابق(1/57)
يُعدُّ " أبو القاسم :الشريف المرتضى من أئمة أهل العلم الذين تحدّثوا في إعجاز القرآن الكريم ، وألّف فيه كتابًا ، وعرض لتأويل كثير من الآيات في أماليه على نهج مذهبه الشيعي الاعتزالي، وإذا ما كان كتاب " الشريف المرتضَى" في إعجاز القرآن الكريم لم يبلغنا منه إلا اسمه ، فإنّ لنا في بعض ما بقي من مؤلفاته شذراتٍ كاشفاتٍ عن موقفه من بلاغة القرآن الكريم ووجه الإعجاز فيه
جاء في نصّ إجازته لتلميذه" محمد بن محمد البصروي " بيانٌ بالكتب التىألّفها" المرتضى" والتي أجاز فيها تلميذه، ومنها كتاب " المُوضِحُ عن وجه إعجاز القرآن " وقد نشرت هذه الإجازة في مقدمة تحقيق: ديوان الشريف المرتضى" ،وقد ذكر الكتاب أيضًا منسوبا لـ" المرتضى" في مقدمة تحقيق أبي الفضل لكتاب" أمالي المرتضى" المعروف:" غرر الفوائد ودرر القلائد" وكذلك ذكره " الصيرفي" في مقدمة تحقيقه كتاب " طيف الخيال" للمرتضى
وعنوان الكتاب لا يكشف عن مضمون وجه الإعجاز عند المرتضى ،
ونجد" أبا الفضل الطَّبَرْسِي (ت:548) في مقدمة تفسيره( مجمع البيان لعلوم القرآن) يعرض للقول في إعجاز القرآن الكريم ووجهه:أ يكون ببلاغته أم بالصرفة التى هي: أن الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم وسلبهم العلم الذي به يتمكنون من مماثلته في نظمه وفصاحته ، ويقول إن موضع ذلك أجمع كتب الأصول ، وقد دونه مشايخ المتكلمين في كتبهم ، ولاسيما ... أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي ..." في كتابه الموضَّح عن وجه إعجاز القرآن ، فإنه فرّع الكلام فيه هناك إلى غاية ما يتفرع ونهاه إلى ما ينتهى ، فلا يشق غباره غاية الأبد إذ استولى فيه على الأمد"(1)
__________
(1) - تفسير الطبرسي0مجمع البيان لعلوم القرآن)ج1ص17-18)ط:1378مطبعة أحمد مخيمر بالقاهرة(1/58)
ونحن نجد " الطبَرْسِيَّ" في " مجمع البيان" يؤكد أن القرآن معجز بنظمه (1) ولم يصرح بالإعجاز بالصرفة وجها عليًّا من وجوه الإعجاز ،
ونجد محقق كتاب " الأمالى" قد " ذكر أنّ"أبا جعفر الطوسى : محمد بن على بن جعفر الطوسي " في كتابه " الفهرست" وكذلك" أبو العباس النجاشي" في كتابه " الرجال" سميا الكتاب :" كتاب الصرفة"
وقد كان " الطوسيّ" تلميذًا أثيرًا للشريف المرتضى(2)
و"العلوى " في " الطراز" نصّ على أنَّ القول بالصرفة مختار المرتضى من الإمامية(3) ولم يتيسر لي الوقوف على نصّ " المرتضى" في " الصرفة" في كتاب من كتبه التي بلغتني ، لكنا نجد " مصطفي الرافعي" من بعد أن يذكر رأي " النظّام" في " الصرفة " يقول :
" وقال " المرتضى " من الشيعة : بل معنى الصرفة أنّ الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن" (4) ولم يعين " الرافعي" المرجع الذي نقل منه هذا .
__________
(1) - السابق :1/120,121,124)
(2) - ينظر: ديوان المرتضى 0ت: رشيد الصفار- المقدمة :ص 124-130، وطيف الخيال مقدمة التحقيق ص:32- ط الحلبي 1381، والأمالى : مقدمة التحقيق ص:17-ط(2)بيروت:1387)
(3) - الطراز 3 / 391
(4) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي :ص162(1/59)
فإن صح أنَّ هذا منطوق " المرتضى " ففيه دلالة على أنَّ " المرتضى " يذهب إلى أنّ الصرف عن المعارضة لم يكن بسلب الهمم بل كان بسلب العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ،وهذا يلزمه أنَّ همتهم في المعارضة قائمة ، وأنهم من قبل السلب كانوا قادرين على مثل نظم القرآن الكريم ، فنظمه ليس بخارق للعادة ، وأنهم حين راموا المعارضة وجدوا علومهم التي بها تتحقق المعارضة قد سلبت منهم ، وكأنّ القول بأنَّ الصرفة كانت بسلب العلوم كان قولا قائمًا في عصر " المرتضى" لأنا نجد" القاضي عبد الجبار"(ت:415) وقد كان شيخا للمرتضى في الاعتزال يعرضُ بالنقد لهذا القول دون أن يصرح بقائله ، فنراه يرد على ذلك بقوله :
" امتنع ذلك عليهم بأن أعدمهم الله تعالى العلوم التي معها يمكن الكلام الفصيح ، فصار ذلك ممتنعا عليهم لفقد العلم ....." فينقده قائلا:" لست تخلو فيما ادعيت من وجهين :
إمّا أن تقول قد كان ذلك القدر من العلم حاصلا من قبل معتادًا ، فمنعوا منه عند ظهور القرآن ، أو تقول إن المنع من ذلك مستمر غير متجدد ، وأنهم لم يختصوا ، ولا من تقدمهم بهذا القدر من العلم "(1)
ويدفع الأول بأنّه يلزمه أنّ قدر فصاحة القرآن الكريم لا يعدو ما جرت به العادة ، وقد منعوا من المعتاد ، فالمعجز ليس القرآن ، وإنما ما حدث فيهم من المنع ، فالتحدي بالمنع لا القرآن الكريم ، وليس كذلك ،ولو كانت الآية هي المنع من المعتاد ، فلا حاجة لنزول القرآن الكريم ، فيكفي المنع من أمر معتاد مثل تحريك اليد أو العين 0
ويدفع الآخر بأنّ فيه إلزامًا بأنَّ المزية في القرآن الكريم لم تكن في شيءٍ قبله ، فهي مما لم تجر به العادة ، فهي خارقة للعادة ، والمنع من مثلها قائم في جنس البشر من حيثُ هم ، فليست من فعلِهم 0
__________
(1) - المغني لعبد الجبار :ج 16 ص 218(1/60)
فمزيّة الفصاحة القرآنية قائمة من قدر من العلم ليس للبشرِ أنْ يكونَ لهم منه شيءٌ ، فهو من خصائص العلم الإلهي ، والرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لم يكنْ يدّعي أنّه يملكُ هذا الضربَ من العلمِ ، بلْ كان يظهرُ أنّ القرآن الكريمَ إنما هو من جهة الله تعالى 0
)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ*فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (يونس: 15-17)
و للـ"المرتضَى" كتابٌ " الشافي"يرد به على شيخه" عبد الجبار" ، فهل كان فيما ردَّ به عليه شيءٌ في أمر " الصرفة" ؟
المهمّ أنَّ ما نقد به " عبد الجبار" القول بأنَّ الله عز وجلَّ سلب منهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة إنما هو نقد ملزم بما لا يرتضيه " المرتضى "
فليس المرتضَى بالذي يذهبُ إلى أنّ قدر الفصاحة القرآنية قدر ما جرت به العادة من قبل ، وإنما منعوا من مثله في المستقبل
والدليل على أنّ " المرتضَى " لا يقول بذلك بل يذهب إلى علو بلاغة القرآن الكريم أنّه في أواخر كتابه " الأمالى " يقول:(1/61)
" اعلم انّ من عادة العرب الإيجاز والاختصار والحذف طلبًا لتقصير الكلام واطراح فضوله والاستغناء بقليله عن كثيره ويفعلون ذلك فصاحة وبلاغة ، وفي القرآن من هذه الحذوف والاستغناء بالقليل من الكلام عن الكثير مواضع كثيرة نزلت من الحسن في أعلى منازله(1)
قوله نزلت من الحسن في أعلى منازله " دال بعبارته على أنّ " المرتضى" ذاهب إلى أنّ بلاغة القرآن الكريم في أعلى منازل الحسن البلاغي ، غير أنه ليس بقاطع أنَّ بلاغته متفردة بهذا المنزل إلا إذا ما قلنا إن أعلى منازل الحسن لا تكون إلا لضرب من ضروب البيان لا تكون لغيره شان الدرجة العليا من الجنة التي لن تكون إلا لعبد واحد.
ويؤكد هذا أيضًا مقالة له في كتابه " طيف الخيال " وقد عرض ثلاثة أبيات لـ" عمرو بن قميئة " يصف فيها الطيف: ...
" ولعمرو بن قميئة ،ويقال : إنّه أولُ من نطق بوصف الطيف:
نَأَتْكَ أُمَامَةٌ إِلاَّ سُؤَالاً وَإِلاَّ خَيَالاً يُوافِي خَيَالاَ
تُوافِي معَ الَّلَيْلِ مُسْتَوْطِنًا وَتَأْبَى مَعَ الصُّبْحِ إِلاَّ زِيَالاَ
خَيَالٌ يُخَيّلُ لِي إِلاَّ نَيْلَهَا وَلَوْ قَدَرَتْ لَمْ تُخَيِّلْ نَوَالاَ
فانظر إلى هذا الطبع المتدفق والنسج المطرد المتسق من أعرابيّ قُحٍ قيل إنّه مفتتحٌ لوصف الطيف ، وكأنَّه لانطباع سبكه وجودة رصفه قد قال في هذا المعنى الكثير ونظم منه الغزير وقلَّبَ ظاهره وباطنه وباشر أوله وآخره ،وكأنّه قد سمع فيه من أقوال المحسنين ، وإجادة المجيدين ما سلك منهجه وأخرج كلامه مخرجه لكن الله تعالى أودع هؤلاء القوم من أسرار الفصاحة ، وهذاهم من مسالك البلاغة إلى ما هو ظاهر باهر ، ولهذا كان القرآن معجزًا وعلمًا على النبوة ؛ لأنه أعجز قومًا هذه صفاتهم ونعوتهم "(2)
__________
(1) - أمالى المرتضى :ج2ص309 –ط(2) 1387- بيروت
(2) - طيف الخيال : ص 99-100- ت: الصيرفي 0(1/62)
فانظر قوله :" ولكن الله تعالى ......" فإنه دالٌ على أنّ العرب كانوا على اقتدار عظيم على أسرار البلاغة وأنهم كانوا أهلا لأن يتحدوا بالقرآن الكريم ، فأعجزهم ، وهو لن يعجزهم إلا بما هم فيه فرسان الحلبة ، فأعجزهم إذن ببلاغته
تأمل قوله :" ولهذا كان القرآن..." وانظر مرجع اسم الإشارة 0 ولهذا) وانظر قوله :" لأنَّه أعجز قومًا..." علام تدل هذه " اللام" في قوله " لأنه " .
منطوق عبارته دالٌ على أنّه ذاهبٌ إلى أنّ بلاغة القرآن الكريم فوق منزلة بلاغة العرب الذين هم فرسان حلبة البيان ،وأنّ هذه البلاغة أعجزتهم ، فكان القرآن الكريم علما على النبوة ، ولولا أنّ مجال المعاجزة هو البلاغة ، فجعلت سمة ما جعل علما على النبوة ، لكان اختيار العرب للمعاجزة لا مقتضَى له 0
والآخر من الوجهين لا يظن أن المرتضَى يرضَى به ، فلن تجد عاقلا يزعم أن العرب ما اختصوا بهذا القدر من العلم بأسرار البلاغة ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قد اختص بهذا ؛ لأنه يؤدي إلى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قادر على أن يأتي بمثل القرآن الكريم بما معه من العلم بأسرار البلاغة ، وهذا يكذبه ويفضحه ما جاءت به الآيات من سورة " يونس" الآنف ذكرها
وإذا ما كان "المرتضى " فيما ينسب إليه أنه ذاهب إلى أن الصرفة بسلب العلوم فإنّا لا نقف على ما يريد بتلك العلوم ، ولهذا يتساءلُ شيخنا " أبو موسى " قائلا : "ولا ندري المراد بهذه العلوم التى يحتاج إليها في بناء الكلام الفصيح ؟ وهل كانت للعرب علوم تعينهم على بلاغة الكلام ؟ أم أنّه لم يكن لديهم إلا سلائقهم أنفسهم وصحة طباعهم تمدهم بما يشاءون من البيان ما داموا قد صرفوا همهم نحو الغايات " (1)
__________
(1) - الأعجاز البلاغي لشيخنا : 371(م.س)(1/63)
ولكنَّا نرى " الرافعي" يفسر ما نسبَ إلى " المرتضَى " بقوله:" فكأنّه يقول : إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني ، إذ لم يكونوا أهل علم ، ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأيٌ بيّن الخلط ، كما ترى"(1)
تفسير " الرافعي" ما نسب إلى " المرتضَى" غير مرتضَى ،فإنّه يؤدي إلى أنّ " المرتضى" يذهب إلى أنَّ مناط التحدي هو المعاني التي جاء بهذا القرآن الكريم , وهم لم يكونوا أهل علم بتلك المعاني ، وإن كانوا قادرين على النظم والأسلوب ، وهذا الظنّ ينقضه أن " المرتضى" يستحيل أن يجهل آية سورة" هود" :
)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
فالمعاني القرآنية ليست هي مناط التحدّي ، ولكنه النّظم والأسلوب ، فليس العلم المسلوب علم معانٍ ، ولكنه علم ما هو مناط التحدي 0
نسبة القول بالصرفة للـ" المرتضَى"على مفهومها المنسوب للـ "النّظّام" يبقى في النفس منه شيءٌ لا يجليه إلا العثور على نصّ مقالة " المرتضى" في سفر من أسفاره هو؛ لنتيقن من منطوق عبارته، وإن سمى تلميذه " الطُوسِي" كتاب" الموضح عن وجه إعجاز القرآن" بكتاب " الصرفة" ويقوي التوقف عندي في القطع بتحقيق مفهوم " الصرفة" عند "المرتضَى" مقالة له في كتابه" غرر القوائد" يعرض فيها لتأويل قول الله تعالى :
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146)
__________
(1) - إعجاز القرآن للرافعي : 162(م.س)(1/64)
فيذكر وجوهًا من تأويل " سأصرف " يقول في " الخامس " منها :
" وخامسها : أنّ يريد – تعالى – أنى سأصرفُ من رام المنع من أداء آياتي وتبليغها ؛ لأنَّ من الواجب على الله تعالى [!!] أن يحول بين من رام ذلك وبينه ، ولا يمكنه منه(1)؛ لأنّه ينقضُ الغرض في البعثة ، ويجري ذلك مَجْرَى قوله تعالى :"
)يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة:67)
فتكون الآيات هنا " القرآن" وما جرى مَجْرَاه من كتب الله تعالى التي تحملها الرسل " (2)
تأويله هذا دالٌ على أنّ الله تعالى يمنع كلّ من رام من عبيده أن يمنع من أداء آياته ، والقرآن الكريم أعظمها ، وأن يمنع من تبليغها حتى لا ينقض ذلك الروم الغرض من بعثة الأنبياء ، وقوله:" من رام المنع من أداء آياتي وتبليغها" يحتمل وجهين :
الأول : الأداء التبليغي الإيصالي ، كمثل تلاوة القرآن الكريم على المدعوين ، وكمثل ما كان الكفار يتناصحون)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت:26) فيمكن الله عز وجل نبيه من التبليغ مهما أقام الكافرون من محاولات الصد والمنع ، ويؤكد هذا الوجه عطف قوله ( تبليغها) على قوله( أداء) ، ويكون المعنى : من رام منع الأنبياء من أداء آياتي وتبليغها إلى الناس
__________
(1) - هذه العبارة مبنية على ما يأخذ به الرضي من مذهب الاعتزال بأنه يجب على الله أن يفعل كذا وكذا ، وهو غير مسلم له ، فإنا لانقول بذلك بل نقول " كتب على نفسه بنفسه ،ولم يوجب عليه أحدٌ شيئا ، وعجيب أن يقول المرتضى: من الواجب على الله " ثم يقول:( تعالى) ، ولو أنه انتبه لقوله: (تعالى) ، لكان حريا به أن ينزهه عن قوله:" الواجب على الله ]
(2) - أمالي المرتضي :ج1ص311(1/65)
والآخر : يراد بالأداء والتبليغ تحقيق غاية الآية ، فإنّ الآيات تنزل للدلالة على صدق النبي في دعواه النبوة ، فهي بمنزلة قول الله تعالى له : صدقت فيما ادعيت ، وعلى هذا لا يكون المنع هنا منع تبليغ وإيصال إلى الناس ، بل المنع يكون بروم إبطال صفة الآية المحققة معناها وغايتها ، وهي كونها آية ودليلاً وحجة لا يستطيعُ البشر الإتيان بمثلها ، فيصرف الله عزّ وجلّ العباد عن إبطال ذلك المعنى فيها بالإتيان بمثلها ، فإنهم إذا ما جاءوا بمثل الآية أبطلوا أداءها ما أنزلت له 0
وعلى هذا الوجه يكون الصرفُ هنا صرفًا عن القيام بما يبطلُ معنى الإعجاز في الآية بالإتيان بمثلها ، وهذا يتواءم مع ما نسب إليه من القول بأن القرآن الكريم معجز بالصرفة ،وإن لم يبين آلة الصرف أهي نظمه أم قدر قهري ؟
وهذا الوجه الثانى يتواءم – أيضًا – مع الوجه " الثامن " من وجوه تأويله هذه الآية:" سأصرف عن آياتى ....." إذ يقول فيه :
" وثامنها : أن يكون الصرف هاهنا معناه المنع من إبطال الآيات والحجج والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلة وحججا ، فيكون تقدير الكلام : إني بما أؤيده من حججي ،وأُحكمه من آياتي وبيناتي صارفٌ للمبطلين والمكذبين عن القدح في الآيات والدلالات ومانع لهم مما كانوا لولا هذا الإحكامِ والتأييد يفترضونه ويغتنمونه من تمويههم الحق ولبسه بالباطل
ويجري هذا مجرى قول أحدنا : قد منع فلانٌ أعداءه بأفعاله الكريمة وطرائقه المهذبة وصرفهم عن ذمّه وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه ، وإنما يريد المعنى الذي ذكرناه " (1)
__________
(1) - أمالي المرتضي ج1ص 313(1/66)
هذا دالٌ على أنّ مناط الصرف عن إبطال الآيات والحجج من أداء رسالتها ودلالتها في صدق النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في ادعاء النبوة ، وفي بلاغه عن ربه عز وعلا إنّما هو قائمٌ في الآية نفسها ، وليس في أمرٍ خارجٍ عنها ،وهذا الأمر القائم في الآية نفسها متحقق في إحكامها إحكاما يكون الحجاز المنيع من الطعن والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلة وحججا 0
هذا الإحكام يتمثل في آية نبيينا " محمد " صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " القرآن الكريم" في إحكام بلاغته وفصاحته بحيُ لا يتأتى للمعاندين من العرب وهم فرسان بيان أن يطعنوا فيه ويقدحوا بما يخرجه عن صفته التي نزل لها : أنّه حجة النبوة وعلمها ، كما قال في كتاب :" طيف الخيال "
وتمثيله بقولهم : فلان يمنع أعداءه بأفعاله الكريمة وطرائقه المهذبة وصرفهم عن ذمّه وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه " كاشفٌ عن هذا المعنى ، ومؤيد له ومحكم 0
ويؤيد " المرتضى" هذا ويبينه بالرد على دعوى أنّ من المبطلين من طعن ، وأورد الشبهة ، فكيف يقال إنّ الصرف كان بإحكام الآية إحكامًا منع من القدح والطعن ،
يدفعُ هذه الشبهة بأنّه " لم يُردْ اللهُ تعالى الصرف عن الطعن الذي لا يؤثر ولا يشتبه على من أحسن النظر،وإنما أراد ما قدمناه ، وقد يكون الشيءُ في نفسه مطعونًا عليه وإن لم يطعن عليه طاعنٌ ، كما قد يكون بريئًا من الطعن، وإن طعن فيه بما لم يؤثر،ألا ترى أن قولهم : فلانٌ قد أخرس أعداءه عن ذمه ليس يراد به أنّه منعهم عن التلفظ بالذم ، وإنما المعنى فيه أنّه لم يجعل للذم عليه طريقًا ومجالا 0" (1)
__________
(1) - الموضع السابق(1/67)
وهو في هذا الرّد كأنّه ناظرٌ إلى معنى قوله تعالى :" لا ريب فيه " في صدر سورة " البقرة " فهو وإن ارتاب فيه ضعاف العقول والملكات البيانية فإنّه لا قيمة لريبهم في ميزان أهل الحجى وسلاطين البيان, والشيءُ لا يكون بريئًا من الطعن إذا لم يوجد طاعنٌ فيه ، فكم من باطلٍ خرست الألسنة عنه ، مثلما لا يكون الشيءُ غير بريءٍ وإن تكاثرت مطاعن الحمقى والمأفونين، فكم من طاعن في الحقّ الأبلج 0
إن الاعتداد عند أهل الحق بالطعن المؤثر الذي يشتبه على من أحسن النظر ، أمّا ذلك الذي لا يؤثر ولا يشتبه على من أحسن النظر ، فهو والعدم سواء ، فالله تعالى بإحكام آياته فيما جعله مناط التحدي والدلالة والحجة لم يجعل للطعن عليه طريقا ومجالا ، فصرفَ - تعالى – بإحكام القرآن الكريم عن أن يطعن فيه بما هو مؤثر معتد به عند أهل الحق ، فهو معجزٌ بإحكامه وصارفٌ به عن الطعن في أنَّه آية النبوة وحجتها 0
وهذا التوجيه " الثامن " للآية يعلي الوجه الأول من الوجهين اللذين أشرتُ إليهما في فقه قوله في التوجيه " الخامس " :" سأصرف من رام المنع من أداء آياتي وتبليغها ." فيكون الأداء هنا أداء إيصالٍ للناس وإيقافهم على الآية
وهذا التوجيه " الثامن " للآية هو – أيضا – أفضلُ ما يقال في معنى " الصرفة " وقد بينته في مبحث الصرفة عند " الرمانى" وعند " شارح النكت " فهو لا يتعاند مع القول بإعجاز القرآن الكريم بنظمه وبلاغته فحسب ، بل هو يتناغى ويتآخى معه ويؤيده ويؤازره ، وأوقن أن كلّ فقيه مستبصر مؤمن بإعجاز بلاغة القرآن الكريم لا يرتضي هذا التوجيه فحسب بل يعتنقه ويعتقده وينافح عنه ؛ لأنه لازم لزوما لا ينفك للقول بإعجاز بلاغة القرآن الكريم 0(1/68)
وهذا التوجيه " الثامن " لآية " الأعراف "كأنّه يمتحُ من معينِ مقالة " الجاحظ" التي ذهب فيها إلى أنّ الله تعالى صرف نقوس العرب عن المعارضة للقرآن الكريم بعد أن تحداهم بنظمه ، ولذلك لم نجد أحدًا طمع فيه ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة............إلخ(1)
" الجاحظ " ذهب إلى أنّ الصرف بالنظم إنّما هو عن مجرد الشغب بالباطل على حق القرآن الكريم ، فالله تعالى أحكم نظم القرآن الكريم وتحداهم بذلك النظم ، ولم يكتف بهذا بل أضاف إلى ذلك المعجز الذاتي معجزًا خارجيًا هو الصرف عن مجرد التشويش بالباطل ، فهو جامعٌ لعاملين من عوامل الإعجاز : عاملٌ ذاتيّ هو إحكام النظم ، وعاملٌ خارجيّ هو الصرف عن الشغب بالباطل على ذلك النظم المحكم المعجز ، فهو جامعٌ بين اقتدار العلم والحكمة وسلطان القهر الإلهي 0وكأنّه يرفض بهذا أن يكون قد وقع عن العرب معارضة بالباطل للقرآن الكريم ويرى أنّ مزاعم المعارضة التي اتهم بها بعضُ الناس ليس لها تحقق .
- *****
مفهوم الصرفة عند " الماوردي"
عرض " ابو الحسن الماوردي: على بن محمد بن حبيب البصريّ (364-450هـ) في الباب السابع من كتابه" أعلام النبوة" لما تضمنه القرآن الكريم من أنواع إعجازه فجعل إعجازه في خروجه عن كلام البشرمن عشرين وجها، جاعلا الوجه الأخير:العشرين هو" الصرفة عن معارضته(2)ناظرًا في مفهوم الصرفة عند العلماء:
" واختلف من قال بها : هل صرفوا عن القدرة على معارضته أو صرفوا عن معارضته مع دخوله في مقدوهم ؟ على قولين :
أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة ولو قدروا لعارضوا 0
والقول الثاني : أنهم صرفوا عن المعارضة مع دخوله في مقدورهم
والصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها وأثبتها ، فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة 0
__________
(1) - الحيوان للجاحظ :ج3ص89- ت: هارون .
(2) - أعلام النبوة ص 85 -:ت عبد الرحمن حسن – مكتبة الآداب بالقاهرة(1/69)
فإن قيل: فإن عجزوا عن معارضته بمثله لم يعجزوا عن معارضته بما تقاربه وإن نقص عن رتبته ، والمعجز ما لم يمكن مقاربته كما لا يمكن مماثلته ، فعنه جوابان :
أحدهما : أنّ مقاربته تكون بما في مثل أسلوبه إذا قصر عن كماله ، والأسلوب ممتنع ، فبطلت المقاربة وثبت الإعجاز
والثاني: أنّ المقاربة تمنع من المماثلة والتحدي إنما كان بالمثل دون المقاربة )(1)
الماوردي لم يضف جديدًا في مفهوم الصرفة ، ولم يحدد لنا ما الذي يرتضيه من المفهومين : أهي صرفة عن معارضة مع قدرة عليها لو خلي بينهم وبين القرآن الكريم ، أم مع عجز عنها عند التخلية ، لو قال بالأولى، فكيف تكون الوجوه التسعة عشر السابقة التي ذكرها ، فإن أكثرها منسول من القول بنظمه المعجز الخارق للعادة، وهذا لا يتلاقى معه البتة القول بصرفة عن معارضة لما يقتدر عليه عند التخلية .
وإن قال بالثاني ، فكيف تكون الصرفة عما هم عاجزون بأنفسهم عنه لما هو قائم به من أسباب الإعجاز الذاتية ؟ إلا أن قال إنه توكيد لما فيه من إعجاز ذاتي متمثل في كمال بلاغته ،
والأظهر أن الماوردي على أنهم كانوا عاجزين إذا خلوا ،ذلك أن الوجه التاسع عشر يفيد أنه يذهب إلى أنهم لم يكونوا قادرين على معارضته لمّا تحدوا إليه 0
وقول " الماوردي" :" والصرفة إعجاز على القولين معا في قول من نفاها وأثبتها " الضمير في قوله: (نفاها وأثبتها ) راجع إلى القدرة ،وليس إلى (الصرفة) فإن إرجاعه إلى الصرفة يلزمه التناقض والإحالة ،والماوردي أجل من أن يقع في هذا
والمعنى على أن الضمير في (أثبتها ونفاها) أن الصرفة إعجاز عند من زعم القدرة على المعارضة ولكنه لم يعارض لمنعه مما يستطيع بقهر إلهي،وعلى هذا يكون الإعجاز في المنع والصرف لا في القرآن الكريم.
وقوله( فخرقها للعادة فيما دخل في القدرة) راجع إلى من قالوا بالقدرة على المعارضة ولكنهم منعوا بقهر .
__________
(1) - أعلام النبوة : ص85-86(1/70)
أما من نفي القدرة على المعارضة فإن الصرفة تكون عنده إعجازا قهريا مؤكدا العجز الذاتي فيمن صرف قهرا , فيكون قد توافد على العالمين قهران :قهر ذاتي بعدم اقتدارهم على المعارضة ،وقهر قهري خارجي ، فلا فكاك لأحد من العالمين من أحدهما فكيف بهما معا .
وهو لا يرى تعارضا من الجمع بين الوجوه العشرين في الإعجاز ، فإذا ما كان كل واحد منها مبينا وجه الإعجاز فإن اجتماعها يزيد الأمر تأكيدَا وتأطيدًا:
" فإذا ثبت إعجاز القرآن من هذه الوجوه كلها صح أن يكون كل واحد منها معجزا ,فإذا جمع سائرها كان إعجازه أقهر وحجاجه أظهر وصار كفلق البحر،وإحياء الموتى؛لأنَّ مدارالحجة في المعجزة إيجادا ما لا يستطيع الخلق مثله سواء كان جسما مخترعا أوجرما مبتدعا أو عرضا متوهما "(1)
- *****
مفهوم الصرفة عند " ابن حزم "
في كتابه " الفصل في الملل والأهواء والنحل " تناول " ابن حزم: على بن أحمد بن سعيد الظاهري " (ت:456) القول بإعجاز القرآن الكريم من بعد ما عرض ونقد آراء العلماء في " كلام الله عز وعلا " مستفتحًا القول بتقرير أنّ القرآن الكريم معجز لايقدر أحد على مثله ، وأنَّه قد أعجز الله تعالى عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم النّاس أن يأتوا بمثله ، وتبكيتهم بذلك في محافلهم 0وهذا أمرٌ لاينكره أحدٌ مؤمن ولا كافر ، وأجمع المسلمون على ذلك(2)
ظاهر هذا التقرير أنّ "ابن حزم" على سبيل عصريه في المشرق " عبد القاهر الجرجانى " (ت:471) القائل بأنّ الذي أعجز الله به العرب نظم القرآن الكريم ، ولكنّ ذلك الظاهر من تقرير " ابن حزم " ليس كذلك ، كما سيبدو جليًا من بقية كلامه 0
يشفع " ابن حزم" تقريره السابق بأنّ أهل الكلام اختلفوا في مسألة إعجاز القرآن الكريم على خمسة أنحاء عرضها على النحو التالى :
__________
(1) -أعلام النبوة ص86
(2) - الفصل : 3/25(1/71)
النحو الأول : ماروي عن " ابي الحسن الأشعري "(ت: 324) أنّ الي أعجز الله عزّ وجلّ به العباد ليس ذلك الكلام الذي يتلوه بين دفتى المصحف ، بل هو كلامه الأزلي الذي لم ينزله ولم يزل معه ، ولم يفارقه قط ولا سمعناه 0
ويحكم ابن حزم عليه بأنه كلام في غاية النفصان والبطلان ، فهو تكليف بالمجيء بما لم يعرف ولم يسمع 0
ويشير إلى أنّ أبا الحسن الأشعري له قول كقول المسلمين : أن المتلو هو المعجز 0
النحو الثاني : بقاء الإعجاز وانقطاعه 0 ذهب بعضُ أهل الكلام إلى أنه انقطع بانقطاع التحدي زمن البعثة والوحي ، فإن عورض اليوم لاتبطل الحجة به 0
وجمهور أهل الإسلام على أنّ إعجازه باقٍ إلى يوم القيامة ، وذلك هو الحق الذي لايحلّ القول بغيره ، فهو نصّ ما جاء في آية الإسراء :" قُلْ لَئنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلَى أن يأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لايَاْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(ي:88) فنصها دالٌ على تأبيد الإعجاز
وهذان النحوان :" الأول"و"الثاني" ليس لي كبيراشتغال بهما في هذا البحث0, وغير خفي موقف " ابن حزم " من " أبي الحسن الأشعري " فقد قال فيه مقالات غير موثقة وقد تصدى له "التاج بن السبكي " في " طبقات الشافعية الكبرى " ونقد موقف " ابن حزم " من " الأشعري " (1)
النحو الثالث : ما المعجز من القرآن : نظمه أم نصه من الإنذار بالغيوب ،وهوما يعرف بالإخبار بالغيب عند النظام ؟
قال بعض أهل الكلام : نظمه غيرمعجز، وإنما إعجازه في الإخبار بالغيوب
ولم يبين لنا " ابن حزم " من أؤلئك الذي حصروا إعجازه في إخباره بالغيوب ، ولعله يريد " النظام "
وقال سائر أهل الإسلام :كلا الأمرين نظمه وما فيه من الإخبار بالغيوب 0
__________
(1) - طبقات الشافعية للسبكي : ج1 / 90-91- ت: الحلو والطناحي- ط:الحلبي(1/72)
ويقرر " ابن حزم " أن هذا الثاني هو الحق الذي ما خالفه فهو الباطل ، ويستدل على أنَّ حصر إعجازه في الإنذار بالغيوب ليس حقًا بأنّ قول الله تعالى :" فأتُوا بِسُورةٍ من مثْلِه "( البقرة: 23) نصٌّ في أن يأتوا بأي سورة من مثله وإن لم يكن فيها إخبار بغيب ، فمن جعل الإعجاز بالإخبار بالغيب خالف نصّ الله تعالى أنَّ هذه السورة معجزة 0
"ابن حزم" مانع من حصر الإعجاز في الإنذار بالغيب ، ومؤكدٌ أنه به وبالنظم معا ، ولكنْ ما ذلك النظم الذي يقول بأنه يشاطر الإنذار بالغيوب في إعجاز القرآن الكريم ؟ أهو الذي قال به عصريه " عبد القاهر " ،وقال به من قبل " عبد الجبار" ومن قبله " الخطابي" و" الرماني" ومن قبلهما " الجاحظ" ؟ ذلك ما يكشف حقيقته بيانه الآتي :
النحو الرابع : ما وجه إعجازه ؟
ذلك السؤال قد يظنّ أنه تكرير للنحو الثالث : ما المعجز من القرآن ؟ فإنا نجد أهل العلم يطلقون على الإعجاز بالنظم أو بالإنذار بالغيوب وجه إعجاز القرآن الكريم ، فيقولون من وجوه إعجاز القرآن الكريم كذا وكذا ، (1)
و" ابن حزم" يفصل بين ما تضمنه " النحو الثالث " و" النحو الرابع" ويبين وجه إعجاز القرآن الكريم عند العلماء ، ويجعلهم طائفتين: طائفة قائلة بأن وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة ، وطائفة قائلة : إنما وجه إعجازه أنّ الله – تعالى - منع الخلق من القدرة على معارضته فقط . (2)
__________
(1) - بيان إعجاز القرآن للخطابي :ص ص21-24,70, والنكت للرماني ص 75= ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن الكريم – ط:دار المعارف بمصر .
(2) - الفصل ج 3 ص27(1/73)
يجعل وجه الإعجاز أحد أمرين : البلاغة والصرفة ، يقول باحدهما طائفة ،وبالأخر طائفة أخرى ،وكأنّه ليس هنالك من يجمع بينهما او من يجمع إلى كل واحد منهما أمرًا آخر 0فهل في هذا دلالة على أن القول بالإعجاز البلاغي لايتجمع معه في منطق العقل القول بالصرفة ، مثلما لا يجتمع مع القول بالصرفة القول بالإعجاز البىغي ، وأنّ المرء ليس له إلا أن يختار أحدهما 0 إنْ يكن ذلك قصد " ابن حزم " مريدًا بـ" الصرفة" ما نسب إلى " النظام" وليس ما نسب إلى " الجاحظ" فهو على حق ، فإن صرفة " النظام " إن صحت إلإضافة لاتجتمع في منطق العقل مع القول بالإعجاز البلاغي للقرآن الكريم 0
وكأني بـ " ابن حزم" لايريد أنّه ليس هنالك من يجمع إلى الصرفة غير البلاغة ، أو يجمع إلى البلاغة غير الصرفة ، فغير قليل من القائلين بالإعجاز البلاغي لا يمنعون القول بوجه آخر من الإعجاز غير الصرفة مثل الإخبار بالغيب ، وكذلك القائلين بصرفة المنسوبة لـ " النظام" منهم من يجمع إليها الإعجاز بالإخبار بالغيوب ، فيكون صنيع " ابن حزم " هنا ناظر إلى الوجهين المتقابلين اللذين لايجتمعان في غمد
المهم أنّ " ابن حزم" يعمد إلى الطائفة القائلة بالإعجاز البلاغيّ ، فيؤكد أنهم شغبوا في ذلك ، وجعل شغبهم هذا محصورًا في أمرين :
= ذكرهم آيات من القرآن الكريم مثل قوله تعالى :" ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ " ( البقرة:179) ونحو هذا 0
= ما موَّهُوه بأنّه لو كان إعجازه بمنع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغثَّ ما يمكن من الكلام ، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ 0
هذان ما شغب بهما القائلون بأنّ وجه الإعجاز كونه في أعلى مراتب البلاغة ، ثالث لهما عند " ابن حزم " ، يقول :" ما نعلم لهم شغبًا غير هذين ، وكلاهما لاحجة لهم فيه "(1/74)
وحسنٌ أنْ نفى عن نفسه علم غيرهما ، ولم ينف وجود غيرهما عندهم ، فهذا اعتراف منه بقلة معلومه في هذا ، وأنّه لم يحط بمقالة أولئك الذّاهبين إلى أنّ إعجازه ببلاغته التى هي في أعلى المراتب ، وبيّنٌ أنّ " ابن حزمٍ" ذكر هذين الأمرين ، وهما من جهتين أو إلىجهتين :
جهة تؤطد القول بعلو مرتبة بلاغة القرآن الكريم ، كما هو قائم في قوله تعالى :" ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" ( البقرة:179)
وجهة : تنقد القول بأنّ إعدجازه بمنع الخلق من القدرة على معارضته فقط ولازم هذه الجهة مؤكد الجهة الأولى 0
ويعمد " ابن حزم" إلى الأخرى التي تنقض بها الطائفة الأولى مقالة الظائفة الأخرى بأنّ إعجازه بمنع الخلق عن معارضته فقط بأنّ ذلك يوجب أن يكون القرآن أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام ، فكانت تكون بذلك أبلغ ، يعمدُ " ابن حزم" إليها لينقدها أو ينقضها،فيحكم على ذلك بأنه هوالكلام الغثّ حقًا 0
ومن قبل أن أبيّنَ وجه نقده أو نقضه وحكمه بالغثاثة على هذا الذي دُفِعَتْ به مقالةُ المنع من القدؤرة على المعارضة أنظرُ في مقالة القائلين بذلك :
أمَّا الرمّانيّ ، فما قال بذلك،و"الخطابيّ"مادفعه بهذا بل دفعه بأمر آخر : هوشهرة قول الله تعالى :
" قلْ لئن اجْتَمَعَتِ الإنسُ والجنُّ....الآية" (الإسراء :88)
فإنّ الله تعالى قد " أشار في ذلك إلى أمرٍ طريقُهُ التكلف والاجتهادُ وسبيلُه التّأهبُ والاحتشادُ ، والمعنى في الصرفة التي وصفوها لايلائمُ هذه الصفة, فدلّ على انّ المراد غيرها " (1)
__________
(1) - بيان إعجاز القرآن للخطابي :ص 23(م.س)(1/75)
أمّا " الباقلاني" (403هـ) فإنه يدفع القول بالصرفة قائلا:" لو لم يكن معجزًا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع لكان مهما حطّ من رتبة البلاغة فيه ومنع [وضع] من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة إذا صرفوا عن الإتيان بمثله ، ومنعوا عن معارضته ، وعدلت دواعيهم عنه ، فكان يستغنى عن إنزاله على النظم البديع وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب " (1)
" الباقلاني" لم يقل :" لوجب أن يكون أعثّ ما يمكن أن يكون من الكلام، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ" كما ذكر" ابن حزم" ، ولكنه قال:" مهما حطّ من رتبة البلاغة فيه .... " وفرق غير خفيّ بين العيبارتين 0
ولم أجد هذه العبارة أيضًا في كتاب " نكت الانتصار لنقل القرآن " للباقلانيّ"
ويأتي " القاضي عبد الجبار" (ت:415) فيقول في دفع " الصرفة" :" إنَّ هذا القول يوجب أنّ القرآن ليس بمعجز – أي المعجز أمر خارج عنه وهو المنع – ويوجب أن يدل القرآن – أي على صحة النبوة – لو كان كلامًا متوسطا في الفصاحة حتى يكون حاله في الإعجاز ، وهو كذلك كحاله الآن ؛ لأن المعتبر صرف همهم ودواعيهم ، فالركيك في ذلك والفصيح بمنزلة " (2)
فالقاضي " عبد الجبار" لم يقل بمنطوق عبارة " ابن حزم" : " لوجب أن يكون أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام " كما زعم " ابن حزم"
__________
(1) - إعجاز القرآن للباقلاني :ص 29-30
(2) - المغني لعبد الجبار :ج16ص325(1/76)
وننظر في مقالة " عبد القاهر " :" إنّ من حقّ المنع إذا جعل آية وبرهانا ، ولاسيما للنبوة أنْ يكون في أظهر الأمور ، وأكثرها وجودًا وأسهلها على الناس وأخلقها بأن نبين لكل راءٍ وسامعٍ إن قد كان منعٌ لاأن يكون المنع من خفيّ لايعرف إلا بالنظر ،وإلا بعد الفكر ، ومن شيءٍ لم يوجد قطّ ولم يعهد ، وإنّما يظنّ ظنّا أنّه يجوز أن يكون وألأن له مدخلا في الإمكان إذا اجتهد المجتهد" (1)
لايخفى أن بينًا عظيمًا بين مقالة " عبد القاهر ومقالة " ابن حزم"
وكذلك نجد مقالة شارح " النكت" في هذا ليست هي التى نسبها " ابن حزم " إلى المانعين القول بالصرفة :
" إنه لو أريد به ماذهب إليه هؤلاء من صرف الهمم عن معرضته......لما رفع إلى هذه الدرجة ، ولجعل في الطبقة الوسطى من طبقات النظم الذي يقدر عليه البلغاء أو في السفلى ؛لأنّه لامعنى لرفع الكلام إلى أعلى الطبقات إذا أريد به هذا المعنى الذي ذهب إليه هؤلاء "(2)
فلا يبقى إلا أن نظنَّ أنَّ " ابن حزم" قد نقل عبارته عن أناس لم تصلنا مقالتهم 0
المهم أنّ " ابن حزم" نقض هذا الذي نسبه إليهم بأمور :
أحدها : أنه قول بلا برهان ؛لأنّه يعكس عليه قوله نفسه ، فيقال : لو كان إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة لما كالن حجة ؛ لأنّ كل ما كان في أعلى طبقة من جنسه كان معجزًا على هذا ، ولا يقال 0 وآيات الأنبياء خارجة عن المعهود ، فبطل أن بلوغ أعلى الدرجة معجز وحجة 0
وثانيها : أنّ الله تعالى لايسأل عمّا يفعل ، فلا يقال له لم أعجزت بهذا النظم دون غيره ، وحسب الآية خروجها عن المعهود 0
__________
(1) - الشافية في إعجاز القرآن الكريم لعبد القاهر ص 621-622- ذيل دلائل الإعجاز ت:شلكر ط: المدني.
(2) - شرح رسالة النكت في إعجاز القرآن للرماني لمجهول ص:88-98-ت:زكريا سعيد ط:المدني(1/77)
وثالثها : أنهم حين طردوا سؤالهم لم أعجزت بهذا النظم دون غيره لزمهم أن يقولوا : هلاّ جعلت إعجازه بسائر اللغات ليتساوى الخلق في إعجاز البلاغة ، بدلا من أن يجعل عجز العجم بإخبار العرب أنهم عجزوا ،وأنّه معجز "(1)
هذا ما نقد بها " ابن حزم" ما زعمه شغبًا ممن يذهبون إلى أنّ القرآن الكريم معجز ببلاغته التى حازت أعلى رتب البلاغة على أصحاب الصرفة ، وهذا من " ابن حزم" غيره الحزم 0
أمّا الأول : فإنه بُني على فهم خاطئ لمرادهم من أنهم يجعلونه في أعلى مراتب بلاغة الخلق ، فهذه لم يقل بها أحد منهم ، بل هم على أنها بلاغة ليست من جنس بلاغة الخلق حتى يقال هي في أعلاها أو أوسطها
الأمر عند أهل العلم أن آية النبيّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لاتكون من جنس فعل الخلق بل مما يقدر عليه الخلائق وتدرك في طبعها أنّ ذلك خارجٌ عن مقدورها وعن جنس فعلها ، بل أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم دال على ذلك فيما ذكره القرآن الكريم في سورة " يونس "الآية (15-16)
فهذا دالّ على أنّه ليس من جنس كلام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهوصاحب الكلام الفائق ، وليس في مقدوره ،وإذا ماكان هذا فلا يكون قولهم ( في أعلى مراتب البلاغة) مردًا به في أعلى مراتب بلاغة المخلوقين 0
وأمّا الثاني فلم يقل أحدٌ منهم أنّ الله تعالى يسأل عما يفعل ، ويقال له لم أعجزت بهذا النظم دون غيره ، بل هم يبنون على أنه لو كان إعجازه بالصرفة لكان الأعلى في الحكمة أن يكون نظمه على كا لا على كذا ، لا أنهم يوجبون على ألله تعالى أن يفعل كذا أو يسألونه لم فعلت كذا ولم تفعل كذا
وأسلوب التنزل من أساليب القرآن الكريم التى جاء بها في أعظم أبواب الهدى ( التوحيد ) قال تعالى:
)قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف:81)
__________
(1) - الفصل : ج ص(1/78)
أما الثالث ،فإنه مبني على الثاني الذي لم يسلم لـ" ابن حزم" وفضلا عن هذا فإن الحكمة لاتقتضي أن ينزل الكتاب بكلّ لغات البشر ، فالحكمة تقتضي أن ينزل الكتاب بلسان قوم النبي النازل عليه ذلك الكتاب ، أما أصحاب اللسان الآخر فإنَّ عجزهم لازم عجز من نزل القرآن الكريم بلسانه ،اَف إلى هذا أن غير العرب لم يكونوا أهل فصاحة وبلاغة وبيان ولوتحداهم ببلاغته نازلا بلسانهم لقالوا تحديتنا فيما نحن غير بارعين فيه ، فهلا تحديتنا فيما نحن فيه من عمران أو صناعة أو زراعة ..........إلخ فلا تتحقق الغاية التى كان لها القرآن الكريم معجزًا بنظمه وبلاغته 0
مجمل القول : إنّ " ابن حزم" في قضية أعجاز القرآن الكريم بالصرفة ونفيه أن تكون بلاغته المعجزة لم يكن له من اسمه نصيب ،وكان غير فاقه لظاهر معاني بيان آيات التحدي ،وهي معانٍ لايفتقر الناظر في بيانها إلى تاويل ،فإنها مؤذنة في كل أذنٌ واعية أنَّ ما دعي الكافرون بالقرآن الكريم إليه أمرٌ لاصرفون عنه بصارفٍ خارجٍ عن القرآن الكريم نفسه ،بل هو قائمٌ فيه قيامًا ظاهرًا دائمًا متحققا في كل آية من آياته البينات0
- *****
الصرفة عند " ابن سنان الخفاجي "
يعدُّ " ابومحمد : عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشيعي المعتزلي (422-466) تلميذ " أبي العلاء المعريّ من المجاهرين بأن القرآن الكريم غير معجز ببلاغته ونظمه ، ويفيدنا " ياقوت الحموي في ترجمته " أبا العلاء المعري" من كتابه " معجم الأدباء" أنَّ " ابن سنان" قد ألف كتابا في الصرفة زعم فيه أن القرآن الكريم لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وىله وصحبه وسلم ، وأن كلّ فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله إلا أنهم صرفوا عن ذلك "(1) وكتابه هذا لا نعرفه له وجودًا في خزانة من خزائن المخطوطات 0
__________
(1) - معجم الأدباء : ج3ص 140(1/79)
وهو في مفتتح كتابه " سر الفصاحة" يذهب إلى أنّ الخلاف ظاهر فيما كان به القرآن الكريم معجزًا ،ويرى الخلاف على قولين:
الأول : خرق العادة بفصاحته والآخر أن وجه الإعجاز فيه بصرف العرب عن المعارضة مع أنّ فصاحة القرآن الكريم كانت في مقدورهم لولا الصرف (1)
وفي معرض ردّه على " الرماني" في الكتاب نفسه ماذهب إليه من تقسيمه التأليف ثلاثة أقسام يقرر " ابن سنان"أن القرآن الكريم ليس من المتلائم في الطبقة العليا ، وغيره في الوسطى بل أنه ليرى أنّه لافرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار في هذه القضية (2)
ولا يكتفي بهذا بل يرى أن الرجوع إلى الحق والاعتماد على حسن الفقه لبيان العربية قاضٍ بأن في كلام العرب ما يضاهي القرآن الكريم في تأليفه وأن القول بعلو القرآن الكريم بلاغة وتأليفا ينفر عنه من له بالأدب ونقده صلة ، يقول: " ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معلرفة بالتأليف المختار وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه " و إن ادعاء أن تأليف القرآن الكريم في الطبقة العليا التى لاتطاول دعوى فاسدة, فإنَّّ " الأمر بحمد الله أظهر من أن يعضده بمثل هذا القول الذي ينفر عنه كلّ من شدا من الأدب شيئا أو عرف من نقد الكلام طرفا" (3)
__________
(1) - سر الفصاحة :ص 3 – 4 –ت: عبد المتعال الصعيدي.ط:1389-محمد صبيح بالقاهرة .
(2) - السابق :ص89
(3) - الموضع السابق(1/80)
وهذا دالٌ عنده على أنّ من يقول بعلو تأليف القرآن وبلاغته على بلاغة العرب إنما هو مجرد من أدنى المعرفة بالأدب ونقده , وهذه دعوى عريضة ليست بالمردودة فحسب بل هي المنقوضة بشاهد الحال والواقع الذي لايكاذب ، وأقرب شيءٍ إليه حال شيخه "أبي العلاء المعري " وهو من هو عنده ، وقد جلس بين يديه يتلقى عنه العلم، فشيخعه يقول في " رسالة الغفران" رادًا على الزنديق " ابن الراوندي"(ت:245) :" وأجمع ملحد ومهتدٍ وناكب عن المحجة ومقتد أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى اله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز ولقي عدوه بالإرجاز ما حذي على مثال ولا أشبه غريب الأمثال ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز من سهل وحزون ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة دوي الأدب، وجاء كالشمس اللائحة نورًا للمسرة والبائحة...وأنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق...."(1)
أيبقى متوقف في أنّ " أبالعلاء" شيخ" ابن سنان" جاهر بقولٍ قاهرٍ قالطعٍ إنَّه المؤمن بإعجاز بلاغة القرآن الكريم ؟
وهل أبو العلاء وهو شيخ " ابن سنان " أدنى معرفة بالتأليف المختار عند تلميذه "ابن سنان"،ولايعرف من نقد الكلام طرفا ؟
وكيف يطوي " ابن سنان" أعلام العلماء في أربعة قرون مضت لقوا ربهم على أنّ بلاغة القرآن الكريم وتأليفه هو وجه إعجازه الأعظم ؟ أكلّ أولئك ليس لهم من الأدب ونقده أدنى نصيب، فلم يبق إلا " ابن سنان" وإمامه" النظام" وشيعته هم فرسان نقد الأدب ؟!!
ويقرر " ابن سنان" أنّ العودة إلى التحقيق تنتهي به إلى أن " وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة وقت مرامهم ذلك "(2)
__________
(1) - رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ص 472-473- ـك بنت الشاطئ – دار المعارف بمصر
(2) - سر الفصاحة ص:89(م.س)(1/81)
هذا بيّنٌ في أنّ الصرف عن المعارضة عنده إنما هو بسلب العلوم التي كانوا بها يتمكنون من المعارضة فهم أصحاب علوم ، وهم سلاطينها المتمكنون منها ، وأن هذه العلوم كانت قائمة فيهم قبل نزول القرآن الكريم, بل هي قائمة فيهم يستخدمونها في نظم أشعارهمِ ونسج نثرهم حين لا يرومون معارضة حتى إذا ما نزعت نفوسهم إلى المعارضة سلبت هذه العلوم منهم ، فلا يجدون منها شيئًا
هذا إذا ما جعلنا قوله: ( في وقت مرامهم ذلك) متعلقا بقوله: ( سلبوا) أي سلبوا العلوم في وقت مرامهم المعارضة ، فهو سلب مقيد بظرف روم المعارضة ، وإن جعلنا قوله: ( في وقت مرامهم ذلك ) متعلقا بقوله: ( يتمكنون) ,أو قوله: ( المعارضة) فإن هذا لا يكون صريحا بأن السلب مقيد بزمن الإرادة ، بل هو ظرف للتمكن أو المعارضة 0
وهذا الوجه الثاني في التعلق ضعيف ؛ لأنه غير متلاحم النسج ، فلا معنى لقولنا : يتمكنون في وقت مرامهم المعارضة ، ولا قولنا يتمكنون من المعارضة حين يريدون المعارضة ؛ لأنّ التمكن ليس متوقفًا على الإرادة ،بل التمكن صفة بالقوة ، كما يقول المناطقة أي صفة قائمة بالنفس غير مقيدة بقيد زمني ،لهذا كان تعلق قوله:(في وقت مرامهم ذلك ) آنس بأن يتعلق بقوله:( سلبوا) فهذا أقرب إلى انتظام العبارة 0(1/82)
فإذا صحّ هذا – ولعله هو الصحيح – يكون " ابن سنان " لم يقلد ما نسب إلى " الشريف المرتضى" وهو مثيله في التشيع والاعتزال من أن الصرف كان بسلب العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة(1) مجرد تقليد بل أضاف إلى ذلك قيدًا دالاً هو أنّ السلب لهذه العلوم ليس قائما فيهم دائما مما يجعلهم مجردين من تلك العلوم ، فلا يملكون إبانة عما في نفوسهم ببديع الشعر والنثر الفنىّ ، بل تلك العلوم في قبضتهم وتحت إمرتهم مسخرة لهم إذا لم تنزع نفوسهم إلى المعارضة ، فما إن تنزع إليها إلا صاحبها ذلك السلب ، فإن رجعوا عن تلك الإرادة عادت إليهم مسخرة صاغرة 0
كأنّي بـ"ابن سنان" يرد بهذا القيد على الوجه الأول من وجهي النقد الذي ألقاه " القاضي عبد الجبار " في وجه قائله بأن الصرف كان بسلب العلوم التي نعها يمكن الكلام الفصيح ، فيقول له :
" لست تخلو فيما ادعيت من وجهين :
إما أن تقول : قد كان القدر من العلم حاصلا من قبل ، فمنعوا منه عند ظهور القرآن .........."(2) فـ" ابن سنان" بقوله" في وقت مرامهم" بيّن أن القدر من العلم كان حاصلا منهم قبل نزول القرآن الكريم ، بل هو حاصل فيهم من بعد نزوله حين لا يريدون معارضة ، ولكنه المرفوع من صدورهم إذا ما تحركت الرغبة فيها إلى المعارضة ، فإن الله يرفع تلك العلوم من تلك الصدور حينئذٍ 0
وقد كان لـ " الإمام عبد القاهر" عصري " ابن سنان" دفع بليغ لمثل تلك المقالة الخفاجية يقول فيه الإمام:
__________
(1) - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي : 162(م.س)
(2) - المغني لعبد الجبار :ج16ص218(م.س)(1/83)
" ومما يلزمهم على أصل المقالة أنّه كان ينبغي لهم لو أنّ العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم......ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك ، ولكانوا قد قالوا للنبي – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - :" إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به، ولكنك قد سحرتنا ، واحتلت في شيءٍ حال بيننا وبينه " فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور كما لا يخفى ،وكان أقل ما يجبُ في ذلك أن يتذاكره فيما بينهم ،ويشْكُوَه البعضُ إلى البعضِ ،ويقولوا:" مالنا قد نقصنا في قرائحنا ،وقد حدث كلول في أذهاننا " ففي أن لم يروا ،ولم يذكر أنّه كان منهم قولٌ في هذا المعنى ، لاما قلّ ولا ما كثر ، دليلٌ على أنّه قول فاسد ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل"(1)
ما جاء به " عبد القاهر" من نقض ليس خاصًا بالذي ذهب إليه " ابن سنان" من تقييد السلب بزمن إرادة المعارضة بل يحيط بكلّ ذاهبٍ إلى أنّ الصرف كان بسلب العلوم التي كانت لهم 0
والإمام " عبد القاهر" يكتفي بهذا النقض المستند إلى شهادة الحال والواقع الذي لا يكاذب ، بل عمد إلى ما هو أنكى ، إذ بيّن أنّ القائل بهذا الوجه من الصرف لا يفقه بيان آية التحدي ( الإسراء:88) فإنّ في سياقها ما يدل على فساد هذا القول :
" وذلك أنّه لا يقال عن الشيء يمنعه الإنسان بعد القدرة عليه ، وبعد أن كان يكثر مثله منه : " إني قد جئتكم بما لا تقدرون علي مثله ، ولو احتشدتم له ،ودعوتم الإنس والجن إلى نصرتكم فيه" وإنما يقال :" إني أعطيتُ أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعونه ، وأمنعكم إياه ،وأن أفحمكم عن القول البليغ ، وأعدمكم اللفظ الشريف " وما شاكل هذا ،ونظيره أن يقال للأشداء وذوي الأيد :" إنّ الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهلُ عليكم رفعه ، وما كان لا يتكَاءَ دُكم ولا يثقل عليكم "(2)
__________
(1) - رسالة الشافية لعبد القاهر :614-615(م.س)
(2) - الموضع السابق :(1/84)
دلّ هذا على أنّ القول بالصرفة بسلب العلوم إنما هو قول من لم يفقه بيان آية التحدي ولو تدبرها لعلم عوار ما يذهب إليه وشناعته ، وكأنّي بـ" عبد القاهر" يرمي إلى وسم " ابن سنان" ومن سبقه من القائلين بهذا على خرطومه حين ادعى أن من قال بإعجاز القرآن بنظمه لا يعرف من الأدب ونقده شيئًا ، فوسمه بأن الذي يقول بما اعتقده " ابن سنان" هو الذي لا يملك من فقه البيان ما يحجزه عن معرّة الدهر وسبته ؛ لأنه يقول بما يجاهر بجهالته ما هو ظاهر البيان في آية التحدي(الإسراء: 88)
ويزيد الإمام" عبد القاهر" الأمر بيانًا ، فيقول:
" ثُم إنّه ليس في العرف ولا في المعقول أن يقال :" لو تعاضدتم واجتمعتم جميعكم لم تقدروا عليه " في شيءٍ قد كان الواحد منهم يقدر على مثله ، ويسهلُ عليه ويستقلّ به ثُم يمنعون منه ، إنما يقال ذلك حيث يرادُ أن يقالَ : " إنكم لم تستطيعوا مثله قطَّ ،ولا تستطيعونه البتة ، وعلى وجه من الوجوه حتّى إنكم لو استضفتم إلى قواكم وقُدَرِكُم التي لكم قوىً وقُدُرًا ، وقد استمددتم من غيركم لم تستطيعوا أيضًا " من حيث إنّه لامعنى للمعاضدة والمظافرة والمعاندة إلا أن تضمّ قدرتَكَ إلى قدرةِ صاحبك حتى يحصل باجتماع قدرتكما ما لم يكن يحصل " (1)
فـ "ابن سنان " فيما ذهب إليه من أنّ القرآن الكريم معجز بصرف العرب عن معارضته وهم قادرون عليها صرفا متحققا بسلب علومهم التي يمتلكونها من قبل نزول القرآن الكريم ، ومن بعد نزوله حين لا يريدون معارضتها ، فإن أرادوا المعارضة تسلطت عليهم القدرة الإلهية فسلبتهم ما كانوا متمكنين فيه – " ابن سنان " كأنّه فيما جاهر به كان قد سلب عقله الذي به يبصر عوار ما يلفظه لسانه ،ولو أنّه راجع نفسه لرجع ،
__________
(1) - المرجع السابق :615-616(1/85)
وهو كما يقول عنه شيخنا :" لم أرَ واحدًا ممن احتفلَ بدراسة الفصاحة وأسرار الكلام أنكر الإعجاز البلاغي ورضي مذهب الصرفة إلا " ابن سنان" ، وهذا الرأي عنده يعدّ غميزة في أساس فقهه في هذا الباب ؛لأنّه ليس من الخطأ الذي يصدر عن غفلة أو عدم استيعاب الآراء في المسألة ، وإنما هو قادح في الإحساس والطبع ، وفرق بين "أبي إسحاق النّظّام" وهو في حومة الصراع يرمي بما يحسم الشبهة وبين" ابن سنان" وهو يكتب في أسرار البيان "(1)
- *****
مفهوم الصرفة عند الراغب الأصفهاني..
للراغب الأصفهاني " الحسين بن محمد بن المفضل السُنّيّ (ت:502) في فقه بيان القرآن الكريم منزلة عالية ، وكتابه" مفردات غريب القرآن" , وتفسيره" جامع التفاسير" من الآثار النافعة الماجدة , وقد كانت له وقفة في مقدمة تفسيره " جامع التفاسير" مع وجوه إعجاز القرآن الكريم ، فكان مما قال:
" إنّ الإعجاز في القرآن على وجهين: أحدهما : إعجاز متعلق بفصاحته ، والثاني : بصرف الناس عن معارضته(2) ومن بعد أن يبسط القول في هذا الوجه يقول :
" وأمّا الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته ، فظاهر أيضًا إذا اعتبر ، وذلك أنّه ما من صناعة ولا فعلة من الأفعال محمودة إلا وبينها وبين قومٍ مناسبات خفية واتفاقات إلهية بدلالة أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف ، فينشرح صدره بملابستها ، وتطيعه قواه في مزاولتها ، فيقبلها باتساع قلب ، ويتعاطاها بانشراح صدر ،وقد تضمن ذلك قوله تعالى :
__________
(1) -الإعجاز البلاغي لشيخنا أبي موسى :ص 373
(2) - مقدمة جامع التفاسير- ص :104 - ت - احمد حسن فرحات دار الدعوة – الكويت- 1405(1/86)
( لكُلٍّ جعلنا شرعةً ومنهاجا ) ( المائدة: 48) وقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم :" اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له" [البخاري: تفسير ، ومسلم: القدر ) فلما رُئِيَ أهلُ البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كلّ وادٍ من المعاني بسلاطة ألسنتهم ، وقد دعا الله تعالى جماعتهم إلى معارضة القرآن ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، وليس تهتز غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته لم يخف على ذي لبّ أنّّ صارفًا إلهيًا يصرفهم عن ذلك ، وأيّ إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيّرة في الظاهر أن يعارضوه ومجبرة في الباطن عن ذلك ، وما أليقهم بإنشاد ما قال " أبو تمام" :
فإنْ نَكُ أُهْمِلْنَا ، فأضعف بسعينا وإنْ نَكُ أُجْبِرْنَا ففيمَ نُتَعْتِعُ ؟(1)
والله ولي التوفيق والعصمة "(2)
كلام " الراغب" ليست دلالته قاطعة في مفهوم معيّن للصرفة عنده:
أهو كالمنسوب إلى " النظام" أو " المرتضى" أم مفهومها عند " الجاحظ"؟
ويذهب شيخنا – اعزّه الله تعالى – إلى أن ما قاله" الراغب":" قريب من الذي عند" الجاحظ" ، فكلاهما يذكر الصارف الإلهي للعرب عن الشيء في صورته ونظمه أمر إلهي لا طاقة للناس به ،ولو لم يصرفوا ،وأن الأمر فيه يدلّ ذا العقل عليه ، وأن القوم عاجزون في الواقع الظاهر ، ومصروفون في الباطن ، فما راموا وما طمعوا "(3)
__________
(1) - البيت من قصيدة يمدح يها أباسعيد الثغري ، أولها : " أما إنّه لولا الخليط المودّعُ" – ق:91 – الديوان:ج2ص319
(2) - مقدمة جامع التفاسير:108(م.س)
(3) - الإعجاز البلاغي لشيخنا :ص 365(م.س)(1/87)
لمَّا كان الجاحظ والراغب ذاهبين إلى الإعجاز النظمي للقرآن الكريم ، وكان لا يستقيم البتة أن يقول بهذا عاقل ، ثمّ يقول بالصرفة التي نسبت للنظام أو المرتضى القائمة على أنها صرفة عما يقتدر عليه لو خليَ بين القوم وما صرفوا عنه ، وكان الجاحظ قد صرح بأن الصرفة عنده صرفة عند الشغب بالباطل عن الحق الذي هم عاجزون عنه لما هو قائم به من إٌعجاز البلاغي، لما كان ذلك كان الأقرب أن تكون الصرفة عند الراغب كالتي عند الجاحظ، فهم بالتحدي بالنظم العلّي المعجز في صورة المخير أن يحاولوا أن يفعل، وهم بهذا الإعجاز النظميّ مجبرون على أن يتركوا المعارضة، فقوله( أن صارفا إلهيا يصرفهم عن ذلك ) كأنَّه يريد بهذا الصارف الإلهي إعجازه البلاغي ، ولا سيّما هذا الاستفهام الذي أردفه به قائلا:" وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مخيرة في الظاهر أن يعارضوه ، ومجبرة في الباطن عن ذلك" فهذا دالٌ على أنّ التخيير بالمعارضة هو في ظاهر الأمر تخيير في معارضة ما يمكن معارضته ؛ لأنه لا معنى أن تخير فيما لا يتحقق فيه التخيير ، ولكنه لما كان المخير في معارضته قد بلغ به حدًا لا تطيقه قوى العالمين كانوا في حقيقة أمرهم بهذا التجاوز به حد طاقتهم مجبرين على ترك المعارضة(1/88)
وتمثله ببيت "أبي تمام" فيه إشارة إلى أنّ العباد إذا خلي بين طاقاتهم في الإبانة والإبداع وبين معارضة ما بلغه القرآن الكريم من شرف الإبانة فلن يسطيعوا إلى تلك المعارضة سبيلا ، أي أن الحجاز عن المعارضة ليس هو عدم التخلية بينهم وبين القرآن الكريم، بل في ترك إعانتهم على تلك المعارضة ،وفي الإبلاغ بالقرآن الكريم شرف البيان الذي لا يستشرف إليه ، ففي بيت "أبي تمام" إشارة إلى أن العجز آت ليس من ترك التخلية بل من ترك الإعانة على تلك المعارضة ، ذلك أن بيت أبي تمام مرميٌّ به إلى أنَّ المرء إذا ما خلى بينه وبين الدنيا لينال رزقه بنفسه من غير إعانة على ذلك ، فإنه لن ينال شيئًا ، فعجزه من ترك إعانته ، وإن كان هو المجبر على ما هو عليه من رزقه ففيم سعيه وترديده ، ومما يزيد المعنى بيانًا أن " أبا تمام " يقول من بعد هذا البيت في مدح " أبي سعيد الثغري " :
لقد آسف الأعداءَ مجد ابن يوسف
وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
فانظر قوله " آسف الأعداء مجدُ ابن يوسف" فالذي أقامهم في هذا إنما هو مجد الممدوح ، وليس شيئًا من خارجه 0
فهذا فيه إشارة بينة إلى أنّ " الراغب" يرمى إلى أن البلغاء من العالمين إن تركوا وخلي بينهم وبين بلاغة القرآن الكريم ولم يكن لهم عون يؤازرهم فإنهم العاجزون عن المعارضة ، لما بلغه البيان القرآني من عظيم الشرف والسمو الذي لا يستشرف إليه 0(1/89)
ولهذا كانت قولة " الراغب " في مفتتح قوله في الصرفة:" وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته ، فظاهر أيضًا إذا اعتبر..." فيه إشارة إلى أن ظهور دلالة هذا في الإعجاز لا تكون إلا بالاعتبار ، ولن يكون اعتبار إذا قلنا إن الصرف بسلب القدرة على معارضة ما تمكن معارضته ، لأنّ الممنوع معارضته بهذا السلب لن يكون هو مناط الإعجاز ، فلا تكون الآية نفسها هي المعجز ، بل منزل تلك الآية ،لا يشك عاقل في أن الله عز وجل معجز العالمين بما يشاء ،فلا حاجة إلى مزيد اعتبار في هذا ، وإنما الاعتبار في أن يكون الصرف عن المعارضة بأمر يقام فيما يدعى العالمون إلى معارضته ، وذلك الأمر هو الذي يبهرهم ، وقد كان المدعوون إلى المعارضة الفرسان فيه ، وجميل قوله : " وليس تهتز غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته..." فهو دالٌّ على أنّه بلغ في سمو منزلته في البلاغة حدًا قطع عن نفوسهم مجردالطمع والاهتزاز إلى معارضته ، فأوقعهم في الإبلاس والدهشة ...
مما بينته يكون مفهوم الصرفة عند " الراغب " هو مفهومها عند" شارح النكت" الذي كان بيانه عن مفهومها جليًا لا يفتقر إلى مفاتشة كالتي افتقر إليها بيان" الراغب" عن مفهومها .
- *****
مفهوم الصرفة عند أبي العباس القرطبي
عرض أبو العباس : أحمد بن عمر القرطبي "ت: 656 (1)
__________
(1) - لم يقطع محقق كتاب"الإعلام" الدكتور: أحمد حجازي السقا " بمن يكون "القرطبي" صاحب(الإعلام) وذكر أن بروكلمان يقرر أنه القرطبي المفسر(671هـ) ، وكذلك الدكتور "زلط" وصاحب "هدية العارفين" لحق أنه ليس هو القرطبي المفسر المشهور
وقد نظرت في موقف " القرطبي" في تفسيره " الجامع" من الإعجاز ،ووجوه ، فرأيته يذكر في مقدمة تفسيره أن لإعجاز القرآن الكريم عشرة وجوه لم يجعل منها " الصرفة" بل إنه عقب علي هذه الوجوه العشرة بماهو دال على أنه لا يرتضي القول بالصرفة ،ولو على سبيل التنزل في مناظرة من لم يكن مؤمنا بأنّ القرآن الكريم آية النبوة المحمدية ،وإلا لأشار إلىذلك.
وقد قرأت في كتاب (الإبريز) للشيخ "أحمد بن المبارك" في معرض بيان معنى قول الله تعالى :" ومن أعرض عن ذكري فإنّ لَه معيشَةً ضَنْكًا" ما تتمخض عنه مناظرة علماء الإسلام لأحبار النصاري من ظهور الحق وزهوق باطل النصارى ، وإشار إلى المراجع العلمية النافعة في هذا فذكر منها : " تأليف أبي العباس القرطبي في الرد على النصارى ، وفيه العجب العجاب وفيه نحو من عشرين كراسة" (ص:155- الإبريز)
وأبو العباس هذا هو صاحب شرح صحيح مسلم : المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " 0(1/90)
في الجزء الثالث من كتابه :"الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ..." الأدلة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وجعل النوع الثالث منها الاستدلال بالقرآن الكريم على نبوته فقال :
" فإن قيل: فبينوا لنا وجوه إعجاز القرآن ، وهل هو من جنس ما يقدر عليه البشر ، فصرفوا عنه ، أو ليس من جنس ما يقدرون ؟
فالجواب : أن نقول : ذهب بعض علمائنا إلى أن وجه إعجازه إنما هو من جهة أن صرفوا عن الاتيان به ، وأنه من جنس مقدور البشر ، لكن لم يقدروا عليه ، وهذا إن كان ، فهو بليغ في الإعجاز ، وذلك أنَّ المعجزات ضربان :
ضرب خارج عن مقدور البشر ، كانفلاق البحر وانشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع
وضرب من جنس مقدور البشر إلا أنهم يمنعون من فعله ، ولا يقدرون عليه 0
فلو أن نبيا ادعى أنه رسول الله واستدل على صدقه بأن قال لقومه : آيتي ألا تقدروا اليوم على القيام ، فكان ذلك فهذا دليل صدقه ، وهو معجزة جلية ، أبلغ في الإعجاز من الإتيان بما ليس بمقدور 0
ولا يبعد أن يكون إعجاز القرآن من هذا القبيل ، لأنّ البشر قد صرفوا عن الإتيان بمثله بل عن الاتيان بآية طويلة من آياته ، ومن تنازع فيذلك ، فعليه بأن يأتي بقرن مثله أو بسورة من مثله ، وهذا من نوع خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم .......
ثم نقول : والذي ذهب إليه أكثر علمائنا : أن القرآن خارج عن مقدور البشر ، وليس من جنس مقدورهم ، وأن القرآن وإن كان كلاما ، فليس بينه وبين كلام العرب من المناسبة والالتقاء إلا ما كان بين الحية التي انقلبت عصى موسى عنها وبين حيات السحرة التي كانت تخيل للناظر إليها أنها حيات تسعى 0
ووجوه إعجازه كثيرة لكنا نبدي منها أربعة ونقتصر عليها لبيانها وظهورها ...... " (1)0
__________
(1) - الإعلام للقرطبي :327-328 - ت: السقّا(1/91)
ويذكر في ختام كلامه : ولا يظن ظانٌّ أن إعجاز القرآن إنما هو من هذه الوجوه الأربعة فقط بل وجوه إعجازه أكثر من أن يحصيها عدد أو يحيط بها أحد ، ولو شئنا لذكرنا منها وجوها كثيرة لكن شرط الاختصار منع من الإكثار ، ومن لم ينفعه الكلام المفيد فهو معرض كسل عن الكثير " (1)
بيان " أبي العباس القرطبي " الصرفة وقوله : أن هذا قال به بعض علمائنا لايفهم منه أنه من المعتزلة ، فإنه بصدد مخاطبة النصارى ، فقوله ( علماؤنا) يعنى به علماء المسلمين غير أنه لم يبين لنا مناط المنع والصرف الذي ترتب عليه عدم الاتيان بما تحدوا به أهو منع وسلب لقدراتهم أم هممهم أم علومهم أم عقولهم على نحو ما جاء مبينا عند سابقين عليه ، لكن الذي بان من بيانه أنهم منعوا مما هو في مقدورهم ، وأن هذا مذهب القائلين بالصرفة ، وأن الذهاب إلى أنه منع عن مقدور عليه هو أبلغ في تقرير الإعجاز من القول بالمنع مما ليس بقدور عليه ، ولم يستبعد أن يكون إعجاز القرآن من هذا القبيل أي إعجاز بمنع مما هو مقدور عليه لولا ذلك المنع 0
وغير خفي أن سياق كلام " صاحب الإعلام" إنَّما هو سياق مناظرة قوم غير مؤمنين بالقرآن الكريم ، فهو في سياق تنزل ومحاجة وتقرير إعجاز القرآن القرآن الكريم وأنه آية النبوة المتنازع فيها ،ومن ثم لايكون كلامه هذا ممثلا لما يقتصر عليه رضاه ومما هو قائل به في أي سياق من سياقات القول ، ولذلك تراه يردف هذا ببيان أربعة وجوه من وجوه الإعجاز التى يقول إنها أكثرمن أن تحصى وقد جعل الوجه الأول والثانى متعلقين ببلاغته وفصاحته ومنهاج نظمه ، بينا الثالث للإخبار بالمغيبات المستقبلية والرابع للمغيبات الماضوية من أخبار الأمم السالفة 0
__________
(1) - السابق :347(1/92)
الذي يعنينا أن ما ارتضاه " صاحب الإعلام " من قول بالصرفة في سياق محاجة الصليبين والرد على صاحب كتاب " تثليث الوحدانية" لا يقبل إلا على سبيل التنزل في المحاجة ،وأن يكون الغرض إثبات إعجاز القرآن الكريم ، وليس إثبات إعجاز بلاغته التى لايرمى إلى تقريرها إلا من بعد تقرير أن القرآن آية النبوة ، فإذا كان المناظر لم يسلم بهذه المقدمة ، فالأولى العناية بتقرير تلك المقدمة 0
ولا نكاد نجد في كلام " صاحب الإعلام " جديدًا ينسب إليه ، وكأن تلك الأمور قد أصبح القول فيها مقررا على منهاج سبق ، وأن ما تقرر كافٍ في بلوغ الغاية التى يرمى إليها ، ويؤخذ من هذا أنه لم تحدث من الطائفة المناهضة المعارضة ما ينقض تلك الأمور تقتضي تجديد النظر والقول والنقد والنقض ، ففي هذا التكرير والترديد آية على تمكن ماردد وتقرره ،وأنه لم يأتي عليه من الخصوم ما ينهنه من صرحه ، ولهذا عرجت عليه هنا ، وإلا لكان جديرًا بأن يشار إليه إشارة عجلى ولا يتوقف عنده.
-
القسم الثاني: تثوير أقوال الناقدين القول بالصرفة
لم يلق قول مما قيل في وجوه إعجاز القرآن الكريم من المناقدة أو المناقضة ما لقيه القول بالصرفة القائمة على أن نظم القرآن الكريم وتأليفه مما يقتدر عليه أما الصرفة القائمة على أن النظم والتأليف في القرآن الكريم مما لايقتدر عنه فذلك وإن سماه بعضهم صرفا فإنما هو من قبيل الانصراف عن نظر وإيمان بما عليه ذلك النظم والتأليف الذي جاء به القرآن الكريم من علو لا طاقة لأحد أن يطمع في مقاربته فعلينا أن نفرق بين أمرين:
= صرف من خارج .
= انصراف من داخل0
الصرف من خراج الذات القول به ممن يرى أن نظم القرآن الكريم وتأليفه وفصاحته مما يقتدر عليه.
والانصراف من داخل الذات المنصرفة القول به ممن يرى أن نظم القرآن الكريم وتأليفه وفصاحته مما لا يقتدر عليه ،وهو مذهب جمهور البلاغيين والمفسرين القائلين بالإعجاز البلاغي للقرآن الكريم 0(1/93)
والنظر هنا في مناقدة القائلين بالإعجاز البلاغي للقرآن الكريم مقالة القائلين بالصرفة لنرى الأطوار التى مرت بها تلك المناقدة وما أضافه كل عالم من أولئك إلى مقالة سابقيه تأسيسا وتأكيدًا ،فإن شأن كثير من أهل العلم السير على منهاج التأكيد والتأسيس على اختلاف أقدارهم في الأمرين معا ،ومن كان منهم عاريا عن التأسيس ولو في التفصيل والتبيين فليس أهلا لأن يكون من زمرتهم إنما المرء بما يضيفه إلى سابقيه وليس بما يحويه من مقالات سابقيه0
أعرض لمقالة ثلاثة كان لهم نقض بالغ مذهب أهل الصرفة،وهي مقالة أبي سليمان الخطابي،وأبي بكر الباقلاني،وعبد القاهر الجرجاني،فإن فيما جاء عنهم كفاء وغناء عن مقالة سواهم في هذا 0 0
موقف " الخطابيّ" من القول بالصرفة :
يعد الخطابي: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي (319:388) عصريَّ " الرّمّانِيّ" وإن لم يثبت عندنا التقاؤه به ، وهما مختلفان في أمور منها أن "الرُّمّانيّ" معتزلى متكلم معنى بالنحو والمنطق بينا" الخطابي" سنى محدث ، وأول من شرح صحيح البخاري ، وهو نافر نفورًا عظيما من علم الكلام وأهله، وقدألف فيه رسالته:" الغُنية عن الكلام وأهله " وكان يشبه في عصره بـ"أبي عبيد : القاسم بن سلام" علما وأدبا وزهدًا وورعا وتدريسًا وتأليفا (1))
استفتح رسالته في بيان إعجاز القرآن ببيان وجوه الإعجاز عند بعض أهل العلم ، فعرض لمقالة الإعجاز بالصرفة قائلا:
" وذهب قوم إلى أنّ العلة في إعجاز الصرفة أي صرف الهمم عن المعارضة ، وإن كانت مقدورًا عليها غير معجوز عنها ، إلا أن العائق من حيثُ كان أمرًا خارجًا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات " (2)
__________
(1) - يتيمة الدهر:4/334- للثعالبي,والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي:6/397،ومعجم الأدباء:ليقاوت10/268، وتذكرة الحفاظ للذهبي:3/1019، وطبقات الشافعية للسبكي:3 / 282
(2) - بيان إعجاز القرآن ص: 22 (م.س)(1/94)
ثم يضرب مثلا بمن ادعى النبوة و تحدى قومه بتحريك يده ، فحركها وعجز عنه بعد التحدي من كان قادرًا على ذلك من قبله " كان ذلك آية دالة صدقه 0
وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبيّ ، ولا إلى فخامة منظره ،وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمرًا خارجا عما مجاري العادات ناقضًا لها ، فمهما كانت بهذا الوصف كانت دالة على صدق من جاء بها "
ويعلق على هذا بقوله " وهذا أيضًا وجه قريب" وتعليقه هذا ينبغى أن يفهم في ضوء ما قاله من قبل في شأن الاستدلال على وقوع العجز من بعد التحدي وتوفر البواعث على التحدي ،وضربه مثلا بمن عطش عطشأ عظيما والماء بحضرته ولم يشرب حتى هلك ، دلّ حاله على عجزه ،فقال( وهذا بينٌ واضح لا يشكل على عاقل ) ثم يقرر أنَّ هذا من وجوه ما قيل في الإعجاز وأنه" أبينها دلالة وأيسرها مؤونة ، وهو مقنع لمن[لا] تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه "(ص:22)
وغير خفي أن هذا ليس وجه إعجاز ، وإنما هو حجة ثبوت الإعجاز،
فقول " الخطابي" في شأن صرف الهمة عن معارضة ماهو مقدور عليه ( وهذا أيضًا وجه قريب) يفهم على أنه قريب في الاحتجاج لثبوت إعجاز القرآن الكريم
يقول" عبد الكريم الخطيب" معلقا على قوله " الخطابي" :" وهذا أيضًا وجه قريب" :" أيْ التصوير للمعجزة ووقوعها على نحو هذا ممكن ، ولكن ذلك في المعجزة الماديّة التى تظهر في واقع الحسّ متحدية القدرة الإنسانية
أمَّا في القرآن فجاءت المعجزة فيه على غير هذا...."( (1)
وهذا بين في أن" الخطيب" لايرى الوصف بالقرب فيما تعلق بمعجزة عير حسية
ويبين شيخنا " أبو موسى" معنى القرب بقوله :" فقول " الخطابيّ" : " وهو وجه قريب " يعنى في إثبات النبوة وإقامة الحجة ، وأن من يقول به يصير من أهل القبلة "
__________
(1) - بيان إعجاز القرآن للخطابي : ص186(م.س)(1/95)
أي أنهم يرونه " طريقا مختصرًا وواضحا في إثبات المعجزة وبرهان النبوة ، وأن الاحتجاج به نافع مع أهل الجدل من المخالفين والمضلين الذين يعتبرون أنفسهم من أهل النظر ، وأن الدخول معهم في مسألة النظم يفتح باب اللجاجة والشغب والمدافعة بالباطل ؛ لأنه باب يضيق مجال الحجة فيه "(1)
ولك أن تنظر في القول بالصرفة أهو قول يرمى به لإثبات العجز ،وتقرير أن القرآن الكريم معجز ، أهو حجة وبرهان على ثبوت الإعجاز ، ويكون كلاما مع من ينازع في إثبات النبوة وإعجاز القرآن الكريم ودلالته على صدق دعوى النبوة ، أم يكون كلاما مع من يقر بالنبوة ، ويقر بأن القرآن كلمة الله تعالى ويقرّ بأن القرآن الكريم آية النبوة وحجة صدق دعوها ، ويتوقف في وجه إعجاز وسبب هذه الإعجاز ؟
لايخفى أن القول بالصرفة إنما يكون مع من أثبت النبوة وآمن أنّ القرآن الكريم كلمة الله تعالى التى أنزلها آية على صدق النبي في ادعائه النبوة ، آمن بإعجاز القرآن الكريم ، لكنه الطالب لبيان وجه إعجازه، المنازع في أن يكون نظمه معجزًا غير مقدور عليه 0
هذا ما أراه محرِّرًا مناط النظر في القضية
،وقد يقوم في صدرك أمر في شأن ما قاله " الخطابي" معلقا به على القول بالإعجاز بالصرفة:" وهذا أيضًا وجه قريب " هذا الأمر هو الفرق بين نظم القرآن وبين ما قيس عليه ، وهو التحدي بتحريك اليد
فإنه قياس مع الفارق ،وقد كان مهماً أن يبينه " الخطابي" وأن يؤكده : تحريك اليد مسلم بالقدرة عليه هوهو من قبل التحدي، أما نظم مثل القرآن الكريم ، فلا يسلم أنّه مقدور عليه من قبل التحدي ، فإن هذه المفارقة تبطل القول من أصله ، وحينئذٍ لن يكون قريبا ولا بعيدًا ، لأنه منقوض مدفوع في مقدمة قياسه ، فلا مجال للحكم عليه بالقرب أو البعد 0
__________
(1) - الإعجاز البلاغي لشيخنا :ص3-4(م.س)(1/96)
فمجانبة الصواب ليست في وصفه بالقرب أو البعد بل في جعله مما يصح الحكم عليه بأحد الوجهين : القرب والبعد ، لأن هذا إنما يبنى على التسليم بالمقدمات ، والتسليم بها لا يسلم
هذا هو مناط ما يرد على " الخطابي" من قوله 0
هذا ما يمكن أن يقوم في صدرك عندما تقف عند قوله ( وهذا أيضًا وجه قريب) ولكن ما قام في صدرك من الرد على " الخطابي" ينهار إذا ما قرأت قوله من بعد ذلك مباشرة :
" إلا أنَّ دلالة الآية تشهد بخلافه ، وهي قوله سبحانه :
)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
فأشار في ذلك إلى أمرٍ طريقُهُ التكلف والاجتهاد ،وسبيله التأهب والاحتشاد ، والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائمُ هذه الصفة ، فدلّ على أنّ المراد غيرها 0 والله أعلم " (1)
هذا دلالٌ دلالة بينة على أنَّه يرى مفارقة بين طرفي القياس ،فالتحدي بالقرآن تحد بما لايقتدر عليه ،فالآية دالة بقولها( ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرًا) على أنه مما لا يتأتى إتيانه ، وهذا مخالف لمعنى الصرفة التي قالوا بها ، فإنه معنى قائم على أنه صرف همة عما هو مقدور عليه ومغير معجوز عنه ، فافترق ، وهذه من " الخطابي" حميدة مجيدة ، وقد توارثها أهل العلم
-
... موقف القاضي الباقلاني من الصرفة...
__________
(1) - بيان إعجاز القرآن للخطابي :ص 23(1/97)
يقرر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن أنَّ الغرض من تصنيفه "التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن" وليس الكلام على مطاعن الملحدة في القرآن ،وأن أكثر ما يقع من الطعن عليه فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني أو بطريقة كلام العرب"،وأنه ممل في هذا كتاب"معاني القرآن" وهو مما لم يبلغه علمنا به(1) ،وما جاء في كتابه (إعجاز القرآن) في شأن الرد على المنكرين إعجاز القرآن القرأن الكريم ،وكذلك القائلين بأن إعجازه بالصرفة كان نزيرا غير مبسوط ،وهو متكلم في إعجاز القرآن الكريم في كتاب آخر : كتاب"هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين" وهو ما تزال بعض أجزائه مفقودة ،وبعضها مخطوطا ، وقد أخبر الأستاذ :السيد صقر أنه اطلع على مجلد منه في مكتبة الأزهر " مقصور على القول في النبوات ،وأهم ما فيه وأروعه تلك الأبحاث الجليلة الطويلة التي أدار الباقلاني الكلام فيها على "إعجاز القرآن" وملأ بها ستا وخمسين وملئة ورقة (61-217) وهي أكبر حجما من كتاب "إعجاز القرآن" وأغزر مادة وأكثر تفصيلا وأعمق بحثا وأدق بيان"(2) ولعلى أوفق إلى قراءة هذا المجلد ودراسته قريبا 0
مما هو بين أن الباقلاني ذاهب إلى أن إعجاز القرآن قائم من الإنباء بغيب آت ،وغيب قد مضى ،ومنبديع نظمه وعجيب تأليفه ،وأنه بالأمر الثاني: بديع النظم وعجيب التأليف فارق القرآن في إعجازه إعجاز التوراة والإنجييا المشاركين القرآن الكريم في الإعجاز بالإنباء بغيب مضى وغيب آت (3)
__________
(1) - إعجاز القرآن :ص246-ت:السيد صقر- دار المعارف0
(2) - أعجاز القرآن للباقلاني – تقديم السيد صقر ص 39
(3) - ا‘جاز القرآن للباقلاني :ص ص31,33(1/98)
وعرض في فصل جعله (في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز) لمقالة الذاهبين إلى إن إعجازه بالصرفة،ولطيف من الباقلاني أن يتكلم في مناقضة القول بالصرفة في فصل معقود لوجه الدلالة على أنَّ القرآن الكريم معجز) وهذا لايكون إلا مع من أنكر إعجازه،وليس مع مع من أمن بإعجازه ،وقد جعل وجه الإعجاز الصرفة،ففرق – كما يقول شيخنا – بين الكلام في وجه الدلالة على أن القرآن معجز ،والكلام في وجوه إعجاز القرآن (1)
وكأن هذا هو الذي أغرى "عبد القاهر" بالجمع بينهما في "رسالة الشافية"
يعرض "الباقلاني" مقالة أهل الصرفة في سياق اعتراض يجيب عنه :
" فإن قيل:فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الاتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات ،وتصرفهم في أجناس الفصاحات ؟
وهلا قلتم :إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرا،وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف ـوأو يمنعه من الإتيان بمثله ضربا من المنع ،أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ،ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة ؛لإنَّ من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلها ،وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى ،وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة " (2)
ويمكننا أن نجمل نقض الباقلاني تلك المقولة فيما يأتي :
= إذا لم يكن إعجاز القرآن بعلو بلاغته بل بالصرفة (لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة )
ووجه هذا انه إذا ما كان الإعجاز بالصرف فهذا يقتضي أن يكون المصروف عنه مما يقتدر عليه كل ذي بيان ثم يمنع منه كل أحد ،فيتحقق عظيم الإعجاز عما كانوا عليه مقتدرين 0
وهذا استدلال منه بمنطق العقل الفطري الذي لايملك أحد المنازعة فيه 0
__________
(1) - الإعجاز البلاغي لشيخنا ص 181- مكتبة وهبة بالقاهرة 0
(2) - إعجاز القرآن للباقلاني :29(1/99)
= القول بالصرفة يعني أنَّ ذلك المنع إنما حدث بالنزول ،وأنه لم يكن منع لمن كانوا من قبل نزول القرآن ،وهذا يقتضي أن يكون السابقون على نزوله قادرين على مثله ،فيلزم هذا أن يكونوا قائلين شيئا مما يماثله ،وهذا ما لا يمكن لأحد أن يدعيه ،وإلا لقالوا إن أباءنا وأجدادنا قد قالوا مثل ما قلت (فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان)
وهذا من الباقلاني ترقِ في الاستدلال ,إذ هو استدلال بالواقع المشهود الذي لا ينكر ،ولا يكون محل مجادلة من بعد الاستدلال بمنطق العقل الفطري 0
= لو كان الإعجاز بالصرفة لما كان القرآن معجزا بل المعجز هو المنع ،وعلى ذلك لا يكون القرآن هو آية صدق النبوة المحمدية بل آيته المنع والصرف ,وأنتم تقولون بأن القرآن هو آية النبوة .
وهذا إلزام بمنطق العقل العلمي إذ جعلوا مناط الآية شيء ومناط الإعجاز شيء آخر بكان تخالف يتحرج كل عاقل أن يتلبس بشيء منه 0القائلون بالصرفة إذا خالفوا بقولتهم هذه منطق العقل الفطري ،وشاهد الواقع المشهود ،ومنطق العقل العلمي،ومن كان واقع في واحدة منها جدير بأن يستحيي من نفسه فكيف بالوقع في ثلاثتها ؟!!!
وما ذكره الباقلاني هنا إضافة حميدة إلى ما ذكره الخطابي من معاندة القول بالصرفة لما دل عليه البيان في آية الإسراء)قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88) فإن البيان فيها مشير إلى أمر طريقه التكلف والاجتهاد , وذلك لا يتلاءم مع القول بالصرفة لأنه لاتكلف فيها ولا اجتهاد ،فمن قال بالصرفة لم يفقه – عند الخطابي- وجه البيان في الآية،وهذا من لطائف فقه الخطابي(1/100)
وما جاء عن الباقلاني أظهر في الاستدلال ،وألزم في الحجاج ,وما جاء عن الخطابي ألطف وأوثق عند أهل البيان وفيه مزيد طعن في القائلين بالصرفة فإذا ما كان الباقلاني قد طعنهم في صحة عقوله في مستواها الفطري والعلمي فإن الخطابي قد سبقه إلى طعنهم في عرفانهم بالبيان العالي الزاعمين أن بيان القرآن الكريم لا يعلو فيه بيان البشر ، فعدم فقههم وجه البيان في آية الإسراء شاهد عدل على أنهم لا يملكون القدرة على فقه البيان العالي فضلا عن أن يوازنوا بين بيان القرآن الكريم فيقرروا أنه ليس في نفسه عاليا على بيان البشر
-
....موقف الإمام عبد القاهر من القول بالصرفة ....
أفرد الإمام عبد القاهر للقول في إثبات إعجاز القرآن الكريم وأنه آية صدق النبوة المحمدية،وكذلك إثبات فساد القول بأن وجه إعجازه الصرفة رسالة أسماها (الشافية) وهي تسمية ذات دلالية لطيفة ،وكأنه بالجمع بين الفريقين : الفريق الذاهب إلى أن القرآن غير معجز بأي وجه من الوجوه ،وأنه ليس آية النبوة ،والفريق الذاهب إلى أن القرآن الكريم معجز ،وأنه آية صدق النبوة المحمدية إلا آن وجه إعجازه ليست بلاغته وإنما الصرفة يشير بهذا الجمع إلى انهما سواء في الجهالة والضلالة ،وأن من يقول بالصرفة قريب ممن يقول بعدم الإعجاز ،وأن رسالته قائمة بنقض مقالة كل في بابه نقضا يشفي من الضلالة والجهالة 0
وهذه الرسالة كأنها تمهيد للقول في دلائل وأمارت إعجاز بلاغة القرآن الكريم التي أفرد لها كتابه (دلائل الإعجاز )
يستفتح الإمام الرسالة بكلية مهمة هو مؤكدها أيضا في دلائل الإعجاز ،تقول ( اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعا من اللفظ هو به أخص وأولى وضروبا من العبارة هو بتأديته أقوم ،وهو فيه أجلى ومأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب وبالقبول أخلق وكان السمع له أوعى والنفس إليه أميل )(1)
__________
(1) - الرسالة الشافية ص 575- ذيل دلائل الإعجاز – ت:شاكر .(1/101)
يفهم من هذه الكلية أن أنواع المعاني مقتضية أنواعا من النظم والتأليف تختلف باختلافها وهذا مقرر أن معاني القرآن الكريم ليست كمعاني غيره فيكون نظمه وتأليفه ليس كمثله نظم غيره وتأليفه 0
وان معاني القرآن الكريم لها مآخذ لا تكون لغيرها ،ومن ثم أمكن فهم معاني القرآني على علوها ولطفها 0
وهو يقرر أنه في بيانه وجه الدلالة على أن القرآن الكريم معجز متحر الإيضاح والتبيين وأنه يحذو الكلام حذوا هو بعرف علماء العربية أشبه وفي طريقهم أذهب ،وإلي الإفهام جملة أقرب،وهذا إشارة منه إلى أنه متنكب طرائق المتكلمين في ذلك 0
وهو في الشطر الأول من الرسالة جاعل كلامه مع من أنكر إعجاز القرآن بالجملة وأبى أن يكون القرآن الكريم آية على صدق النبوة المحمدية بأي وجه من الوجوه .
وهو في الشطر الثاني من الرسالة جاعله (في الذي يلزم القائلين بالصرفة)
يبتدإ مقاله ببيان منطلقهم إلى القول بها ،وهو أن يكونوا قد حسبوا أن مناط التحدي إنما هو التعبير عن أنفس معاني القرآن الكريم بمثل لفظه ونظمه فيكون التحدي بنفس المعاني وبمثل الألفاظ والنظم ،وأنهم لم يخيروا في المعاني كلها ،فيكون العائق عندهم هو إلزامهم بالتعبير عن أنفس المعاني القرآنية .
وهو في بيانه هذا المنطلق يشير إلى أنه يحميهم من أن يتهموا بما هو أشنع من ذلك الحسبان على الرغم من شناعة ذلك الحسبان الذي أسنده إليهم الإمام عبد القاهر إذ هو مقرر غفلتهم عن آية سورةهود )أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13)
وهذه الشناعات التي لايرى عبد القاهر وقوع القائلين بالصرفة فيها زعم أن ما كان من أشعار العرب بعد التنزيل من دون ما كان منهم أنفسهم من قبل التنزيل ،وهذا يكذبه واقع الإبداعي الشعري لهم قبل التنزيل وأثناءه وبعده .(1/102)
وعبد القاهر يلجأ إلى تكذيب واقع العرب ما يقتضيه القول بالصرفة من حسبان وزعم ،وهذا منه ذهاب إلى ما لايحتمل منازعة ولا توقفا في التسليم به ،وهو منهاج في الحجاج والإلزام قوي مبين :
يعمد إلى توهم أن يكون قد حدث بالعرب نقصان من بعد التنزيل لم يشعروا به فينقضه بأن ذلك مؤداه أن يكونوا الجهلاء بما يفضل به القرآن كلامهم الباقي لهم ،وجهلهم هذا لو سلم جدلا يؤدي إلى أنهم لم يحاولوا ما يمتاز به بيان القرآن إذ كيف يحاولون ما يجهلونه ،وإذا لم يحالوا لم يحسوا بالمنع ، وإذا لم يحسوا بالمنع لم تقم عليهم الحجة ، وكل ذلك يكذبه الواقع لأنهم مقرون بأن ما جاء به القرآن الكريم فوق ما كان منهم من قبله وفي أثناء تنزله 0
ويعمد إلى أمر آخر يجعل موقف أهل اصرفة من شأن العرب كمثله شأن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ،وهو أن تكون النبوة قد منعته شطرا من بيانه الذي كان له قبل تنزل القرآن عليه , وأنه قبل البعثة أفصح منه بعدها ،وهذا أيضا يكذبه الواقع إلا أن تردوا في الحماقة وزعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قبيل المبعث لم يكن كمثل العرب فصاحة، وأن حاله قبله وبعده في الفصاحة من دون حالهم , وهذا أيضا يكذبه الواقع
وينقض حسبان أ ن تكون العرب بنزول القرآن قد نقصت من فصاحتها شيئا كانت عليه من قبله أن يكون من حالهم تعجبا من أنفسهم ما أصابها بنزول القرآن من نقصان ما كانت عليه فصاحة ,أن يزعموا أنهم عن فصاحتهم قد سحروا ،وهذا أيضا يكذبه حالهم فلم يتعجب أحد منهم أنه نقص من قدرته على قول ما كان يقوله من قبل تنزل القرآن الكريم .
كذلك يتخذ الإمام عبد القاهر تكذيب الواقع ما يقتضيه مذهبهم من الحسبان والزعم سبيلا إلى نقض مذهبهم نقضا لا قبل لهم بنفيه ،فيكون ذلك ألزم وأبلغ إلى المقصد،وهذا منهج حجاجي عقلي متين 0(1/103)
وهو في هذا مستمد من الباقلاني حين عمد إلىنقض مذهب اهل الصرفة بالاعتماد على تكذيب منطق العقل الفطري مذهبهم وتكذيب العقل العلمي ,وتكذيب الواقع،وبالغ عبد القاهر في تفصيل تكذيب الواقع مال يقتضيه مذهبيه من الحسبان والزعم 0
***
ويعمد عبد القاهر إلى وجه آخر من النقض هو الوجه البياني إذ يكشف عن جهالتهم وضلالهم في فهم وجه البيان في آية التحدي0
سياق آية التحدي دال على غير ما يقتضيه مذهب أهل الصرفة ,فإنه لايقال لم كان مقتدرا على شيء ثم منعه :غني قد جئتكم بما لاتقتدرون عليه مجتمعين متناصرين ،وإنما يقتال لهم أني مانعكم مما كنتم عليه مقتدرين فمن فقه بيان آية التحدي يدرك أنهم لم يتحدوا بالمنع مما كلنوا عليه مقتدرين بل تحدوا بأن يأتوا بأمر لم ولن يكون ا قادرين على مثله وإن تناصروا وتظاهروا 0
وهذا من الإمام مطعن لأهل الصرفة في منزلهم من فقه البيان ،ومن كان كذلك في فقه وجه البيان في آية هي ألصق الأيات بالمقام ،وما تضمنته من المعني غير خفي فكيف به في فقه وجوه البيان في غيرها ، فأني لخم انم يزعموا أن بلاغة القرآن كمثل بلاغة غيره كما قال عصري عبد القاهر " ابن سنان الخفاجي"
كذلك كان مطعن عبد القاهر قاسيا ،وهو كما ترى مستمد من مقالة الخطابي من قبله كما سبق بيانه .
ويعمد عبد البقاهر من بعد إلى النظر في حسبان أن مناط التحدى هو أنفس المعاني بنظم مماثل نظم القرآن الكطريم ،فيبين أن آية هود:)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود:13) دالة على فساد ذلك إذ الافتراء إنما يكون منهم لمعانيها ،فدل هذا على أن المعنى لم يكن قط مناط التحدي .(1/104)
ويستمر عبد القاهر في تقرير ما بينته لك مجملا ،ثم يعمد إلى أمر كان قد بدأ به "الباقلاني" وهو أن منطق العقل يقضي بأنه إذا ماكان مناط الإعجاز المنع فإن الأعلى أن يكون الممنوع عنه مما يسهل أمره على كل واحد .يقول :
" آن من حق المنع إذا جعل آية وبرهانا ولا سيما للنبوة آن يكون في أظهر الأمور.....لاأن يكون المنع من خفي (1)
لك إجمال بعض ما نقض به عبد القاهر مقالة (الصرفة) في الرسالة (الشافية), وهو في دلائل الإعجاز يعرض لها في موطن واحد في معرض تحريره الوصف الذي تجدد بالقرآن ،والذي هو مناط الإعجاز على الحقيقة ، فيعرض للقول بالصرفة ،وينقضها بأنَّ التسليم بعلو شأن بلاغة القرآن وتعاظمها وإكبار أمره فيها وتعجب العرب منها وانه قد بهرهم وعظم كل العظم عندهم مناقض للقول بالصرفة ؛فإن القول بها يوجب أن يكون الإعظام لما حل بهم من المنع وليس لما عجزوا عنه
(كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذي دخل من العجزعليهم ، ورأوه من تغير حالهم ،ومن أنه حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلا ،وأن سد دونه باب كان لهم مفتوحا .
أرأيت لو آن نبيا قال لقومه:"إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم " وكان الأمر كما ال مم يكون تعجب القوم أمن وضعه يده على رأسهأم من عجزهم أن يضعوا أيديهم على رؤوسهم"(2)
وهذا نقض قد قال به في الرسالة الشافية وصرف البيان عنه،وقرر أنه لم ينقص من حال العرب التي كانت لهم من قبل المبعث بنزول القرآن الكريم .
__________
(1) - الرسالة الشافية ص 621-622(م.س)
(2) - دلائل الإعجاز ص 390-391- ت :شاكر(1/105)
من الذي مضى تبيان لنا آن الثلاثة الأعلام قد سدوا كل سبيل من السبل التي يمكن أن يتوهم أن القول بالصرفة مما ينمكن أن يكون وجها من وجوه إعجاز القرآن الكريم ،وتبين لنا أن الثلاثة الأعلام لم يغن كلام واحد منهم عن كلام ما جاء بعده ،وان أبسطهم في المناقضة "عبد القاهر" وأنه قد نسل بعض كلامه المبسوط من كلام الخطابيّ وكلام الباقلاني نفهو منه كلامهما ،وأن بدا أنه ليس هو هو ،وذلك شأن عبيد القاهر مع كثير من معارف سلفهم 0
- *******
فاصلة الهمهمة
إذا ما كانت رحلتنا في هذا البحث قد امتدت فإنَّه – كما يقول الباقلاني- " متى عظم محل الشيء فقد يكون الاسهاب فيه عيّا ،والإكثار في وصفه تقصيرا ،وقد قال الحكيم،وقد سئل عن البليغ متى يكون عييا ؟فقال متى وصف هوىً أو حبيبا"
ومذهب الصرفة على الرغم من تهافته إلا أن القول فيه شائك ،ومن ثم كانت همهمتي في بيانه ونقضه مبسوطة،
ومن ثَمَّ أشير إلى أمور أراها تخليصا لموقفي من تلك المقولة .
= القول بالصرفة على معنى المنع مما هم قادرون عليه لو خلي بينهم يلزمه آن يكون القرآن الكريم نفسه غير معجز ، وليس بأية النبوة المحمدية ، وأنَّ المعجز هو المنع نفسه ، وهذا المنع لا علاقة له بالقرآن الكريم من حيث هو قرآن إذ المنع يمكن تحقيقه في أيّ شيء غير القرآن الكريم ،ومن قال بالصرفة على هذا المعنى واستحضر ما يلزمه لنفر من القول به إلا أن يكون مأفونا .
= هنالك فوق بين صرف العباد عن المعارضة وهم قادرون عليها ،وصرفهم عنها وهم عنها عاجزون لسمو ما صرفوا عنه سموا لو خلوا بينهم وبين المعارضة ما اسطاعوا على ذلك سبيلا:(1/106)
الأول لايقبله قلب معافى من داء الغفلة بأي وجه , ذلك أنَّ الذي يصرف عما يمكن أن يؤتى به الأولى به أن يأتي بما لا يمكن أن يؤتى به فينصرف الناس عنه لما فيه من إعجاز لاينصرفوا عنه لأنهم صرفوا رغما عنهم فيعتذرون عند أنفسهم بأنهم قد ظلموا بالقهر والمنع ،فيكون ذلك أدعى إلى نفورهم من الإيمان بما صرفوا مرغمين عنه ، فلا يتحقق للإعجاز غايته .
والوجه الآخر: صرفوا عما هم عنه عاجزون ،وهم عند أنفسهم موقنون بأنه فوق طاقتهم وجه يمكن أن يتقبله العقل على ضرب من التسامح في قبوله , فإنه لا يتعاند مع القول بالإعجاز البلاغي للقرآن الكريم ,فإن المعنى عليه أن الله عزَّ وجلَّ قد جمع للقرآن الكريمِ وجهين من الإعجاز أحدهما مؤسس والآخر مؤكد :
الأول الإعجاز البلاغي ،والآخر الإعجاز القهري ،وهو مؤكد الأول في تحقيق غايته.
لايعنى هذا أنني أناصر القول بذلك ،ولكنى أقول إنه إن قيل به فإن القلب المعافى لايبالغ في دفعه ونقضه .
= هنالك فرق بين أمرين :
الصرف عن المعارضة من خارج الذات المصرفة عنها ،والانصراف عنها من داخل الذات المنصرفة عنها .
الأول من باب القهر الخارجي ،والآخر: الانصراف مبعثه إدراك الذات المنصرفة أن ماهي قائمة أمامه ذو جلال يهولها ،فتلبس وتدهش ،فتنصرف موقنة أنه ليس لها إلى معارضة سبيل,وهذا ادعى إلى إيمانها به .
فكل نفس مؤمنة هي نفس منصرفة من ذاتها عن معارضة القرآن لإيمانها بما في القرآن الكريم مما لا قبل لأحد من العالمين أن يأتي بشيء من مثله .فهذا الانصراف لازم ما كان عليه القرآن الكريم من الجلال والجمال والكمال في معانيه ونظمه وكل ما هو قائم به .(1/107)
مجمل الأمر أن القلوب قد صرفت بما في القرآن الكريم من عظيم البيان عن معاني الهدى إلى الصراط المستقيم الذي يبتهل به كل مسلم في كلّ ركعة من صلاته)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) فيأتيه البيان عن ذلك الصراط المستقيم في صدر سورة البقرة )ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) فاسم الاشارة في قوله (ذلك) مرجعه معمول قوله اهدنا في (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) والله عزَّ وجلَّ الهدي إلى ما يحب ويرضى ،والحمد لله رب العالمين .
*****
المصادر والمراجع
= الإتقان في علوم القرآن- جلال الدين السيوطي- ت: محم أبو الفضل إبراهيم – ط(1) 1387- المشهد الحسيني – القاهرة
= الإعجاز البلاغي = دراسة تحليلية لتراث أهل العلم – محمد أبوموسى – ط(1) – مكتبة وهبة – القاهرة
= إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني – ت: السيد أحمد صقر –ط:(5) دار المعارف
= إعجاز القرآن: الإعجاز في دراسات السابقين – عبد الكريم الخطيب – ط(1) 1974- دار الفكر العربي - القاهرة
= إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – مصطفى صادق الرافعي- ط(8) 1389- التجارية الكبرى – القاهرة
= أعلام النبوة – ابو الحسن البصري الماوردي – ت: عبد الرحمن حسن – ط: 1407- مكتبة الآداب – القاهرة
= الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام – لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي – ت: أحمد حجازي السقا –
= الأمالى للمرتضى – ط(2) سنة 1387- بيرةت
= الانتصار والرد على ابن الرواندي الملحد لأبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط المعتزلي – ت: الدكتور نيبرج – ط(2) 1413-الدار العربية للكتاب – القاهرة
= البرهان في علوم القرآن – لبدر الدين الزركشي – ت: محمد أبي الفضل إبراهيم – دار المعرفة بيروت(1/108)
بيان إعجاز القرآن لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي – ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – ت: محمد خلف الله ،و محمد زغلول سلام – ط: دار المعارف 1387 – القاهرة
حجج النبوة للجاحظ – ضمن رسائل الجاحظ – ت : عبد السلام هارون – مكتبة الخانجي –(د .ت)
الحيوان للجاحظ – ت: عبد السلام هارون – ط: الحلبي – القاهرة
خلق القرآن للجاحظ – ضمن رسائل الجاحظ (م.س)
دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني – ت: محمود شاكر – مطبعة المدني – مكتبة الخانجي.
ديوان المترضي – ت: رشيد الصفار
الرسالة الشافية لعبد القاهر الجرجاني – ت: محمود شاكر – ذيل دلائل الإعجاز (م.س)
رسالة الغفران لأبي العلاء المعري – ت: عائشة عبد الرحمن – ط: دار المعارف 0
سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي – ت: عبد المتعال الصعيدي - ط: صبيح.
شرح رسالة النكت للرماني – المؤلف مجهول – ت: الدكتور زكريا سعيد – ط: دار الفكر العربي – الثقاهرة – 1417هـ
طيف الخيال للشريف المرتضي – ت:حسن كامل الصيرفي – ط: وزارة الثقافة - مصر
طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي – ت: عبد الفتاح الحلو , ومحمود الطناحي – ط: الحلبي .
الفرق بين الفرق للبغدادي – ط: بيروت 1411-
فكرة إعجاز القرآن لنعيم الحمصي – ط: 2 سنة 1400- الرسالة بيروت
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم .
مجمع البيان لعلوم القرآن لأبي الفضل بن الحسن الطبرسي – ط: دار التقرييب – 1378- القاهرة
مداخل إعجاز القرآن لمحمود شاكر .
المغنى في أبواب التوحيد والعدل – ج 16 – إعجاز القرآن – ت: أمين الخولي – وزارة الثقافة – القاهرة 1380
مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين لأبي الحسن الأشعري -:هلموت ريتر – ط(4) قصور الثقافة – القاهرة 1421.
مقدمة جامع التفاسير للراغب الأصفهاني .ت: أحمد حسن فرحات – دار الدعوة – الكويت سنة 1405.
الملل والنحل للشهرستاني – ت: عبد العزيز الوكيل – ط: 1387- الحلبي .(1/109)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي –
النكت في إعجاز القرآن لأبي الحسن الرماني – ضمن : ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – ط: دار المعارف (م.س)(1/110)