بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة الربان
للمقالات الدعوية في
مجلة البيان
مختارات
من المقالات الدعوية
من مجلة البيان
www.dawahmemo.com
تأملات دعوية
بطاقة الانتماء
بقلم : محمد محمد بدري
إذا كنا نتطلع نحو ترشيد للعمل الإسلامي ؛ فلا بد لنا من نظرة عميقة في
إمكاناته .. وفعالياته .. ونقائصه ؛ حتى ندرك دون لبس ، أو غموض ، أو إيهام
أين ينبغي علينا إحداث التغيير في أنفسنا ليغير الله ما بنا : ? إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? [الرعد : 11] ، فالتغيير إنما يحدث وفق سنن ربانية
ثابتة لا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة ! ! .
ومن سنن الله الثابتة التي لا يفيد معها (تعجّل) الأذكياء ، ولا ( أوهام )
الأصفياء ، أنه حين يتوقف أفراد مجتمعٍ ما عن العطاء ، ويكتفون بالأخذ : فإن هذا
المجتمع يسير من الشلل إلى الفناء .. الفناء البطيء الذي لا يراه إلا العارفون بسنن
الله في النفس والمجتمع ! ! .
فأين نجد أنفسنا من هذه السنة الثابتة ؟ .
إن منا من يؤكد انتماءه للعمل الإسلامي ، بينما هو يقف في مواقع الأخذ
والاستهلاك دون أدنى عطاء أو عمل ! ! .. فإذا ساءلنا أحد عن دورنا في إحياء
الأمة وعودتها إلى قيادة القافلة البشرية من جديد : أخرج كلّ منا بطاقة انتماء لهذا
الفصيل أو ذاك من فصائل العمل الإسلامي ! ! .
.. هكذا ، وكأن بطاقة الانتماء تغني عن العمل الجاد والتحرك الواعي ! ! .
أو كأن فصائل العمل الإسلامي قاعات للنوم والخمول والكسل ! ! .
فهل هذا هو الانتماء للعمل الإسلامي ؟ ! .
.. إن الانتماء الحقيقي (وسيلة) إرضاء الرب وإنقاذ الذات .. فهو (بداية)
السير ، وليس (دليل) اجتياز المراحل ..
إن الانتماء الحقيقي ارتباط مصيري بالعمل الإسلامي .. ارتباط يغيرّ منهاج
حياة الفرد ، بل وآماله وأحلامه ? مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ(1/1)
فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ? [الأحزاب : 23] ، هذا
هو المفهوم الحقيقي للانتماء ..
فإذا انطلقنا بهذا المفهوم من مجرد (التنظير) إلى آفاق (المعالجة) الواقعية
للعمل الإسلامي ، فلا بد لنا من وسائل ، منها :
1- توفير المناخ التربوي الذي يفسح المجال لنمو شخصية أفراد العمل
الإسلامي ، ويتحول بهم من روح (القطيع) والعمل عبر (التقليد الأعمى) .. إلى
روح (الفريق) والعمل على (بصيرة) ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ? [يوسف : 108] .
2- اختيار أساليب العمل القائمة على توجيه العلماء والدعاة الموثوقين
والمعروفين بصدق معتقدهم وحسن الإمساك بدفة القيادة ، مع الأخذ بأكبر قدر من
المبادرات الفردية ، فيصبح عملنا الإسلامي في إطار وصف النبي -صلى الله عليه
وسلم- للمسلمين : (يسعى بذمتهم أدناهم) .. وقبوله مبادرة امرأة من المسلمين : (قد
أجرنا من أجرت يا أم هانئ) .
.. وهكذا عبر هذه الوسائل وغيرها ، يمكن إخراج المسلم الذي يتفاعل مع ما
حوله تفاعلاً حيّاً ، ويعمل للإسلام وسط كل الظروف .. لأنه يدرك أن عمله إنما هو
ضمن إطار (عمل) وليس إطار (انتماء) ! .
إطار عمل محمود شرعاً ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ? [آل عمران : 104] .
إطار عمل منصور قَدَراً (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ، لا يضرهم
من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله) [رواه مسلم ] .
إطار عمل يجعل كل فرد في العمل الإسلامي (رِفداً) للعمل ، وليس (عبئاً)
عليه .. هذا ما أردنا التأكيد عليه في هذه العجالة :
وليدرك كل فرد من أفراد العمل الإسلامي أن الانتماء للعمل الإسلامي بعد(1/2)
تجديد الإخلاص لله وتجريد المتابعة لرسوله إنما يعني : العمل الجاد .. الصبر ..
المصابرة .. المرابطة .. ذلك أن (العطاء) هو (بطاقة الانتماء) .
________________________
تأملات دعوية
العلم والدعوة والصراع المفتعل
بقلم : عبد لله المسلم
تعد دعوى التعارض بين طلب العلم والدعوة إلى الله (عز وجل) من أكثر
القضايا الساخنة في أدبيات الصحوة الإسلامية اليوم ، ويأخذ نقاش هذه القضية مكاناً
رحباً في الكتابات الدعوية ، وفي المناقشات والمداولات ، وفي التساؤلات التي
تطرح على المهتمين .
ومنشأ الصراع والجدل حول هذه القضية يتمثل في أن فئة من الناس ترى أن
ارتباط العلم بالدعوة ارتباط وثيق ؛ فالدعوة بلا علم دعوة بلا رصيد ، بل حقيقة
الدعوة هي تبليغ ما يعلمه المرء من الدين الصحيح للناس ، ومن ثم : فلا يسوغ
لدى هؤلاء المشاركة في الدعوة لمن لم يتأهل التأهل العلمي الكافي .
وتنظر فئة أخرى إلى أن مشكلات المسلمين اليوم عديدة ، وأنها تحتاج لحشد
الطاقات وجمع الجهود ، ويرون أن التفرغ للتحصيل العلمي يعطل كثيراً من هذه
الطاقات التي يحتاج إليها الصف الدعوي ، ويضيف هؤلاء : أن طلب العلم لا
ينتهي بصاحبه إلا حين يغادر الدنيا ، ثم إن كثيراً من مشكلات المسلمين في نظرهم
لا تحتاج إلى كبير علم في معالجتها ومواجهتها .
ومهما حاول أي كاتب البحث المستفيض في القضية والسعي لوضع النقاط
على الحروف فيها .. فستبقى مجالاً للنقاش والأخذ والعطاء ؛ فحجم هذه القضية
أكبر من أن يحيط به كاتب غير مبرأ من الهوى والمقررات السابقة ، وهذه محاولة
لوضع إضاءات على الطريق ، علها أن تقرب المسافة بين فئات ممن يعيشون جدلاً
حول هذا القضية :
1- إن على جيل الصحوة أن يضع التحصيل العلمي ضمن أولوياته ، ويجب
على المؤسسات والجمعيات الإسلامية أن تضع رفع المستوى العلمي ضمن برامجها
الدعوية .
2- إن على الدعاة تبني برامج لتعليم الناس ، وأن تستفيد هذه البرامج من(1/3)
معطيات التقدم المادي ونتاج التقنية المعاصرة في ذلك .
3- لا ينبغي التهوين من شأن العلم وقيمته ، أو احتقار من يعنى بطلبه وجمع
مسائله .
4- الإخلال بذلك يحول الدعوة إلى ميدان من التخبط والاضطراب ، ويفتح
مجالاً واسعاً للآراء الشخصية والاجتهادات الفردية ، ويؤدي إلى الانحراف والزيغ .
5- دعوة عامة المسلمين لترك المنكرات الظاهرة ، وفعل الواجبات المعلومة
من دين الله بالضرورة .. أمر يجب على جميع المسلمين .
6- دعوة المرء لأمر محدد يعلمه ، ونشره للعلم في حدود ما يعلم .. أمر ربى
النبي-صلى الله عليه وسلم- عليه أصحابه ، فقال : (بلغوا عني ولو آية) [1] ،
وقال صلى الله عليه وسلم : (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه ؛
فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه) [2] .
7- هناك مشاركات دعوية مهمة يمكن أن يقوم بها كل فرد مسلم مهما قل
نصيبه من العلم ما دام قادراً عليها ، ومن ذلك : الأعمال الإغاثية ، والإدارة الدعوية ، والأعمال المساندة للدعاة وأهل العلم ، كالرصد والأرشفة والتوثيق .
8- هناك أعمال دعوية ضرورية تشتد الحاجة فيها إلى أصحاب التخصصات ، كالترجمة ، والكتابة الأدبية ، والنقد ، والأعمال المالية ، والتطوير الإداري ...
وغيرها ، وكل هذه الأعمال تعتبر اليوم من ضرورات العمل الدعوي .
9- حين لا يوجد لدى أحد من الشباب الحماس للعلم الشرعي (أعني : القدر
الزائد عن الحد المفروض) فينبغي ألا تبدد طاقته في حمله على ذلك ، بل يجب
صرف جهده إلى ما يفيد ، وإلى ذلك يشير ابن القيم (رحمه الله) بقوله : (ومما
ينبغي أن يتعمد : حال الصبي ، وما هو مستعدّ له من الأعمال ، ومهيأ له منها ،
فيعلم أنه مخلوقٌ له ، فلا يحمله على غيره ، ما كان مأذوناً فيه شرعاً ، فإنه إن
حمله على غير ما هو مستعدّ له لم يفلح ، وفاته ما هو مهيأ له) [3] .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/3461 .(1/4)
(2) رواه أبو داود ، ح/3660 ، والترمذي ، ح/2656 .
(3) تحفة المودود ، ص243 .
دراسات دعوية
النقد الذاتي خطوة على الطريق
بقلم : يوسف عمر قوش
النقد الذاتي هو إحدى العمليات الأكثر ضرورة وإلحاحاً في حياة الفرد
والجماعة ويقصد به : المراجعة الدائمة ، والتقييم المستمر الذي يجب أن يقوم به
الفرد أو الجماعة دون توقف ضمن مجموعة من الضوابط السليمة التي تكفل لهذه
العملية أن تنمو وتتطور وتتواصل بشكل كامل وموضوعية تامة .
ولذا فإننا لا نعجب حين نجد القرآن يُقسِم بتلك النفس التي تعيش دوماً عملية
اللوم والمعايبة ، والمراجعة لذاتها ، أو بالأحرى لصاحبها ؛ تحاسبه ، وتدفعه إلى
تصحيح أخطائه ، والندم عليها ، والعزم على تلافيها في المستقبل أملاً في النجاة
يوم الحساب الأعظم .. يوم القيامة : ? لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ ? [القيامة : 1 ، 2] .
إن المعطيات والمقدمات الصحيحة توصل إلى النتائج الصحيحة ، ذلك قانون
من قوانين هذا الكون ، وسنّة من سنن الحياة ، وإن على من يُخفق أو يصل إلى
نتائج خاطئة تخالف الأهداف التي وضعها نصب عينيه ، عليه أن يبحث جيداً
وبعمق وصدق في أسباب إخفاقه وهزيمته ، لكن مثل هذا كان عليه ألا ينتظر
الإخفاق ، بل كان من الواجب عليه أن يتابع باستمرار ، ويتفحص أولاً بأوّل مدى
صلاحية المواد المتفاعلة (المدخلات) وشروط التفاعل (الوسائل والإمكانيات
وظروف الواقع) ، وذلك كي لا يتوقف هذا التفاعل فجأة أو ينحرف عن مساره
فيؤدي ذلك إلى كارثة قد لا يدركها إلا بعد فوات الأوان .
إننا أمام سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تنحرف ، بل تسير بشكل ثابت
وفي مسارٍ ثابت ، ? فَلَن تََجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ?(1/5)
[فاطر : 43] ، وإن هذه السنّة ، بل وجميع السنن الكونية لم تخلق للمسلم فحسب لكنها خلقت للإنسان الذي يعيش في هذا الكون ، فالأقدر على فهمها ووعيها واستيعابها هو دون شك الأقدر على تسخيرها لنفسه والاستفادة منها لصالحه ؛ فسنن الله ليس
حكراً على فرد دون غيره أو جماعة دون أخرى ، وفي حين أنها تصطدم بمن يسير
في عكس اتجاهها أو يناقضها فإنها أداة طيّعة في يد من يعيها ويستوعبها ويسير
وفقها .
ضرورة النقد الذاتي :
وعملية النقد الذاتي مهمة وضرورية في التغيير والبناء سواء على صعيد
الفرد أو الجماعة ؛ لأن عملية التغيير التي تتم دائماً وعلى مراحل تتطلب بعد كل
مرحلة وقفة مراجعة وتأمّل وتقييم يتمّ من خلالها اكتشاف الخلل وتشخيصه ، ووضع
العلاج المناسب له بغية تعديل الانحراف وتقويم الاعوجاج .
إن السير وفق السنن الكونية يقتضي إرساء منهج للنقد الذاتي يهدف إلى منع
حالة الفوضى والترهّل التي قد تصيب الفرد أو الجماعة في حال غياب هذه العملية
الحيوية .
إنني على قناعة تامة أننا نعيش ومنذ وقت ليس بالقليل أزمة النقد الذاتي ،
وأزمة استخلاص العبر . إننا نعيش إشكالية التناقض مع نظرياتنا وقناعاتنا ومبادئنا
وأفكارنا رغم أننا نمتلك أو ندّعي امتلاك المنهج الذي يدعونا دائماً إلى التفكّر
والتأمل ، والقراءة والنظر ، واكتساب الخبرة واستخلاص العبر ، والاستفادة من
قصص التاريخ وأحداثه وأمثاله !
إن الكثير من التساؤلات التي تبدو معقدة وصعبة تجد جواباً لها إذا وعينا
حركة التاريخ ، ونواميس الكون ، وسنن الحضارات .
وعملية النقد الذاتي لكي تأخذ شكلها المتكامل لا بد أن تشمل باستمرار مراجعة
النظرية (الاستراتيجية) التي ننطلق أو انطلقنا منها ، وكذلك مراجعة أسلوب العمل
(التكتيك) أو وسائل العمل وأدواته ، وذلك رغبة في الوصول إلى الصواب وتلافي
الأخطاء .
خصائص النقد الذاتي :(1/6)
لعملية النقد الذاتي سمات مهمة يجب أن تتوفر فيها كي تحقق هذه العملية
أهدافها وتخرج في صورتها الرائعة ، هذه الصفات هي :
1- الشمولية . …2- الاستمرارية . …3- الموضوعية .
1- الشمولية : وهذا يعني : أن النقد الذاتي يجب أن يكون شاملاً بحيث
يتعرض لكل عناصر الصحوة وقياداتها دون استثناء ، ولتاريخها بأكمله ، وواقعها
وحاضرها ، ومنهجها وأهدافها ، وأساليبها ووسائلها ، واستراتيجياتها وتكتيكاتها ،
ورؤيتها المستقبلية ، كل ذلك وغيره يجب أن يخضع لعملية النقد التي يجب أن لا
يُعفى منها أحد أو شيء ؛ فيصبح فوق النقد أو خارج الدائرة .
2- الاستمرارية : إن النقد الذاتي عملية دائمة ومستمرة ومتواصلة ويجب أن
تكون كذلك ، ويجب الحفاظ على ذلك بأيّ ثمن ، أي يجب عدم إيقافها في أيّ زمان
ومكان ولأي سبب كان ، سواء على صعيد الفرد أو الجماعة ؛ وذلك لضرورتها
وأهميتها وحيويتها فهي كالماء والهواء والغذاء للإنسان والجماعة ، وإذا تمّ الاستغناء
عنها أو تعطيلها فإن الجسد يصاب بالمرض والموت والتعفن والتحلل .
إن عملية النقد الذاتي يجب أن لا تكون خاضعة في توقيتها للأهواء والأمزجة
بحيث يتم الاستنفار لها في المناسبات المختلفة وللمناسبات المختلفة ، بل يجب أن
تلازمنا حتى نشعر بأنها جزء منّا لا نستطيع التخلي عنه في أي وقت من الأوقات .
3- الموضوعية : وهي تعني التزام جانب العدل في الحكم ، والنزاهة في
الموقف ، وعدم التحيّز أو التعصب بدون حق .
والموضوعية أهم صفات النقد الذاتي ؛ لأن النقد إذا خرج على الموضوعية
كان نقداً ظالماً وسلبياً وغير بنّاء ؛ ومن هنا فإننا أمام نوعين من النقد :
1- نقد موضوعي غير متحيز ولا متعصب يهدف إلى البناء ، والتغيير
والتقدم نحو الأفضل .
2- نقد غير موضوعي وهو متحيز ومتعصب لا يعمل على البناء ، بل على
الهدم والتراجع إلى الأسوأ ؛ لأن الإصرار على الخطأ خطيئة .
صفات الناقد :(1/7)
وحتى يكتمل حديثنا عن النقد الذاتي لا بد من التطرق إلى الصفات التي يجب
أن يتحلّى بها الناقد ، ومن هذه الصفات ما يلي :
1- الوعي : والمقصود بالوعي هنا أن على الناقد أن يكون عالماً بطبيعة
الظاهرة التي يريد نقدها ، ويفضّل أن يكون خبيراً بها ? فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ?
[ الفرقان : 59] ، ? وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ? (فاطر : 14) .
ولا يمكن أن يكون واعياً وخبيراً بها إذا لم يدرس تاريخ الظاهرة فيربط
ماضيها بحاضرها مما يمكّنه من تصوّر الظاهرة في شكلها الكلّي المتكامل والمتداخل
والمتشابك ، ويمكّنه بالتالي من تشخيص الخلل الذي يريد انتقاده ويحاول علاجه .
إن رؤية الأحداث كلاّ على حدة ، والنظر إلى الأمور منفصلة عن بعضها ،
والتفكير في الأشياء منفردة ، أو باختصار : ما يطلق عليه المفكر الجزائري (مالك
ابن نبي) مصطلح : (الذريّة في التفكير) يقود بلا شك إلى ضياع الوقت ، ويؤدي
إلى عملية نقد غير مجدية يدور فيها صاحبها حول نفسه ، ويراوح مكانه دون أن
ينطلق بنفسه أو بجماعته خطوة واحدة .
2- الإخلاص : إن الدافع لذكر الإخلاص هنا هو أن الوعي أو العلم أو
الخبرة قد لا يجدي نفعاً إذا صاحبته الأهواء والمطامع والشهوات ؛ فالأهواء
والمصالح الخاصة تدفع بالأفراد أحياناً إلى نقدٍ غير نزيه وغير عادل ، أما إذا كان
الإخلاص هو الدافع وأعني بالإخلاص : الحرص على المصلحة العامة والتفاني في
سبيلها فإن النقد هنا وبدون شك لن يهدف إلى إرضاء جهة معينة أو مجاملتها ، كما
أنه لن ينبع من كراهية جهة أخرى أو الحقد عليها .
وكما أن النقد إذا لم يرافقه الوعي والعلم قد يتحول إلى ضربٍ من اللغو
والهراء والمراء ، فإنه إذا لم يرافقه الإخلاص والتجرد عن الهوى قد يتحول إلى
شيء من الطعن والتجريح والتشويه والتشهير .
3- الالتزام : فعلى الناقد أن لا يمارس عملاً ينقده لفظاً ، وإلا ذهب نقده(1/8)
أدراج الرياح ، لذا يجب عليه أن يعمل بما يقول فقد ? كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا
مَا لا تَفْعَلُونَ ? [الصف : 3] ، فمن انتقد عملاً مّا ، وجب عليه اعتزاله .
مجالات النقد الذاتي :
تتم عملية النقد الذاتي على صعيدين : صعيد الفرد وصعيد المجموعة ، فالفرد
قد يوجّه النقد لنفسه على أخطاء ارتكبها ، والمجموعة أيضاً قد تتناول في داخلها
نقداً لعناصر ثلاثة هي :
1- المنهج . 2- القيادة . 3 الأفراد .
فأيّ مرضٍ أو خلل أو انحراف ينشأ في مجموعة ما ، فإنما يكون ناتجاً عن
خللٍ في أحد العناصر الثلاثة المذكورة : (المنهج ، القيادة ، الأفراد) .
والنقد يجب أن يوجه أولاً إلى منهج المجموعة ؛ لأنه هو الذي يصنع القيادات
والأفراد ، فإذا كان المنهج سليماً وخالياً من النقائص والثغرات والتناقضات ، فإن
النقد يجب أن يتجه إلى القيادة نفسها من حيث كفاءتها وقدراتها والتزامها وإخلاصها ، فإذا كانت القيادة خالية من العيوب ، بعيدة عن الانحراف فإن النقد سيوجّه إلى
أفراد الجماعة على اعتبار أن الخلل كامنٌ فيهم أو كائنٌ بينهم .
من هنا أقول : إن النقد الذاتي يجب أن يطال منهج الصحوة الإسلامية
ودعاتها وأبناءها بحيث لا يبقى أحدٌ فوق النقد ، أما أن يبقى المنهج والقيادة خارج
دائرة النقد خوفاً من خدش قدسيتهما ، فإن ذلك يحوّل هذه العملية الرائعة البنّاءة إلى
عملية ترقيعية تؤدي مع مرور الوقت إلى تفاقم المرض وانفجار الموقف .
النقد الذاتي والجماعات الإسلامية :
إن النقد الذاتي لا يعفى منه الإنسان المسلم كما لا يعفى منه كُثُرٌ من المنتسبين
للدعوة ، فالنقد الذاتي ليس منحة تمنحها أي جماعة لأبنائها وتمنّ عليهم بها ، إنه
حقّ منحنا الله إياه ، أو بالأحرى هو واجب كلّفنا الله (سبحانه وتعالى) به ، وأمرنا
أن نقوم به ، وهو عبادة نتقرب بها إلى الله ، وإذا فرّطنا في هذه العبادة فسوف
نُحاسَب من قِبَلِ الله (تعالى) عليها .(1/9)
يجب أن ننقد منهجنا وقيادتنا وأنفسنا ، وربما يسأل سائل هنا : كيف ينقد أبناء
الحركة الإسلامية منهجَها ، ومنهجُها هو الإسلام ؟ ! وكيف ينتقدون قادتهم ، وهم
يمثلون الإسلام ؟ ! ! .
وللإجابة على هذه التساؤلات وغيرها أقول : إنه جائز للمنضوين في سلك
الدعوة ، بل واجب عليهم أن يوجهوا نقدهم لمنهجهم ولقادتهم ولا يخافوا في ذلك
لومة لائم ، وعليهم أن يدركوا أن منهج الله شيء ومنهج غيره شيء آخر ؛ فمنهج
الله هو الإسلام كما أنزل على محمد ، ومنهج الجماعة أياً كانت هو المنهج الذي
وضعه مؤسسوها وقادتها ؛ إذ أخذوا من الإسلام ما أخذوا ووضعوا من اجتهاداتهم ما
وضعوا ، واجتهاد البشر قد يخطئ وقد يصيب .
لذا فإنني أؤكد هنا أن لا قدسية لمنهج غير منهج الله ، ولا عصمة لأحدٍ بعد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وأخيراً : فإن النقد الذاتي عملية مهمة وضرورية ولازمة لكل زمان ، وهي
عملية لها خصائصها التي يجب ألا تفارقها ، كما أن للناقد أيضاً صفاته التي يجب
أن تلازمه ، وللنقد الذاتي أيضاً مجالاته التي يتمّ فيها .
وأعود مؤكداً : أن على كل فرد أن يمارس النقد الذاتي داخل نفسه ، وداخل
أسرته وبيته ، وداخل جماعته ومجتمعه ، ويعمل على التشجيع عليه باستمرار ،
وإن من يدّعي أن النقد يثير الفتن ويمزّق الصفوف لا بد له أن يعلم جيداً أن
الصمت والسكوت أشد خطراً وهو الذي يمزّق ويهدم ، أما النقد الذاتي الموضوعي
والمنصف فيوحّد ويبني .
والله ، نسأل للجميع التوفيق والسداد ،
________________________
تأملات دعوية
بين العمل المؤسسي والعمل الفردي
بقلم : عبد الله المسلم
لم يعد اليوم مجالاً للنزاع -في الساحة الفكرية على الأقل -أن العمل المؤسسي
خير وأولى من العمل الفردي الذي لا يزال مرضاً من أمراض التخلف الحضاري
عند مجتمعات المسلمين ، وقد يرث الدعاة إلى الله شيئاً من هذه الأمراض من(1/10)
مجتمعاتهم باعتبارهم نتاجاً لها ، ومن ثم فأنت تجد عناصر منتجة في المستوى
الفردي أكثر مما تجدها ضمن أولئك الذين يجيدون العمل الجماعي ، وكثير من
الأعمال التي تصنف أنها ناجحة في الميدان الإسلامي وراءها أفراد .
إن العمل المؤسسي يمتاز بمزايا عدة على العمل الفردي منها :
1- أنه يحقق صفة التعاون والجماعية التي حث عليها القرآن الكريم والسنة
النبوية ? وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ?
[المائدة :2] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : (يد الله مع الجماعة) [1] وقوله - صلى الله عليه وسلم- : (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) [2] .
والعبادات الإسلامية تؤكد على معنى الجماعية والتعاون ، كل ذلك يبعث
رسالة للأمة مفادها أن الجماعة هي الأصل .
2- عدم الاصطباغ بصبغة الأفراد ، ذلك أن العمل الفردي تظهر فيه بصمات
صاحبه واضحة ، فضعفه في جانب من الجوانب ، أو غلوه في آخر ، أو إهماله في
ثالث لابد أن ينعكس على العمل ، وقد يقبل بقدر من الضعف والقصور في فرد
باعتبار أن الكمال عزيز ، والبشرية صفة ملازمة للعمل البشري ، لكن لا يقبل
المستوى نفسه من القصور في العمل الجماعي المؤسسي ، وإن كان لابد فيه أيضاً
من قصور ، فقد يقبل من مصلح وداعية معين أن يكون لديه قصور وضعف في
الجانب السياسي أو الاقتصادي مثلاً باعتبار أن الفرد لا يمكنه الإحاطة بكل ذلك ،
لكن ذلك لا يقبل من مؤسسة دعوية بأكملها ؟ إذ هي قادرة على تحقيق هذا التكامل
من خلال مجموع أفرادها .
3- الاستقرار النسبي للعمل ، أما العمل الفردي فيتغير بتغير اقتناعات الأفراد ، ويتغير بذهاب قائد ومجيء آخر ، يتغير ضعفاً وقوة ، أو مضموناً واتجاهاً .
4 -يمتاز العمل المؤسسي بالقرب من الموضوعية في الأراء أكثر من الذاتية ؛ ذلك أن جو المناقشة والحوار الذي يسود العمل المؤسسي يفرض على أصحابه أن(1/11)
تكون لديهم معايير محددة وموضوعية للقرارات ، وهذه الموضوعية تنمو مع نمو
النقاشات والحوارات ، أما العمل الفردي فمرده قناعة القائم بالعمل .
5- العمل المؤسسي أكثر وسطية من العمل الفردي ؛ إذ هو يجمع بين كافة
الطاقات والقدرات التي تتفاوت في اتجاهاتها وآرائها الفكرية مما يسهم في اتجاه
الرأي نحو التوسط غالباً ، أما العمل الفردي فهو نتاج رأي فرد وتوجه فرد ، وحين
يتوسط في أمر يتطرف في آخر .
6- الاستفادة من كافة الطاقات والقدرات البشرية المتاحة ، فهي في العمل
الفردي مجرد أدوات للتنفيذ ، تنتظر الإشارة والرأي المحدد من فلان ، أما في العمل
المؤسسي فهي طاقات تعمل وتبتكر وتسهم في صنع القرار .
7- العمل المؤسسي هو العمل الذي يتناسب مع تحديات الواقع اليوم ،
فالأعداء الذين يواجهون الدين يواجهونه من خلال عمل مؤسسي منظم ، تدعمه
مراكز أبحاث وجهات اتخاذ قرار متقدمة ، فهل يمكن أن يواجه هذا الكيد بجهود
فردية ؟ !
بل إن العمل التجاري المؤسسي اليوم أكثر نجاحاً من العمل الفردي .
كل ما سبق يؤكد قيمة العمل المؤسسي ، وضرورة ممارسته وتجاوز الفرديات ، وهذا لا يعني بالضرورة أن العمل المؤسسي معصوم من الخطأ والخلل ، لكن
فرص نجاحه أكثر من العمل الفردي ، واحتمال الخلل في العمل الفردي أكثر منه
في العمل المؤسسي .
وفي العدد القادم بإذن الله حديث حول عوامل نجاح العمل المؤسسي .
________________________
(1) رواه الترمذي (2166) وصححه الألبانى في صحيح الجامع .
(2) رواه البخاري (481) ومسلم (2585) .
مقال
النقد الهدَّام
مظاهره - أسبابه - علاجه
بقلم : مراد بن أحمد القدسي
دعاني للكتابة حول هذا الموضوع أهمية التعرف على هذا الخُلُق الذميم الذي
أصبح منتشراً بين بعض شباب الدعوة ؛ حيث انبرى للنقد من لا يعرف آدابه ولا
يعرف ما هي الأمور المنتقدة والأسلوب الأمثل للنقد ؛ وإسداءً للنصيحة لكل من يقع(1/12)
في هذا الاتجاه الذميم ، ولأهمية بيان آثاره الوخيمة على الدعوة والدعاة ، ودفاعاً
عن إخواني الدعاة والعلماء والمصلحين : أضع بين يدي إخواني القراء هذا
الموضوع راجياً من الله التوفيق والسداد .
تعريف النقد :
يأتي النقد في اللغة بمعنيين :
الأول : نقد الشيء بمعنى نقره ليختبره أو ليميز جيده من رديئه .
الثاني : إظهار العيب والمثالب ، وغمط الناس وبخسهم أشياءهم فيقال : فلان
ينقد الناس : أي يعيبهم ويغتابهم [1] .
وأهل العلم قسموا النقد إلى قسمين على نحو ما ورد في اللغة .
فسموا أحدهما : النقد البنّاء ، وهو النقد الذي يقوّم به صاحبه الخطأ ، ويحاول
إصلاحه .
وهو (واجب أو مستحب وهو الذي يحق الحق ، ويبطل الباطل ، ويهدف إلى
الرشد) [2] .
وسموا الآخر : النقد الهادم (أو الهدام) . وهو (محرم أو مكروه وهو ما يكون
لدفع الحق أو تحقيق العناد) [3] .
وهذا فيه إظهار عيب الآخرين للنيل منهم وتشويه سمعتهم والطعن في نياتهم
من غير حجة ولا برهان .
أهميه النقد البناء :
تكمن أهميته في عدة جوانب رئيسة ألخصها فيما يلي :
1- هو نوع من النصيحة تحقيقاً لقول رسول الله : (الدين النصيحة : لله
ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم) [4] .
2- هو كذلك نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ?
[آل عمران : 110] ولقوله : (من رأى منكم منكراً فليغيره ... ) [5] .
3- وهو نوع من الجرح والتعديل ؛ ذلك العلم الذي اختصت به أمتنا المسلمة
والذي حفظ الله به الدين من التحريف والغلو .
4- كذلك هو نوع من محاسبة النفس لقوله (تعالى) : ? وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ ? [الحشر : 18] ، ولما جاء في الأثر : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ،
وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا) .
مظاهر النقد الهدام :(1/13)
فإذا عرفنا أهمية النقد البناء ؛ فالمناقض له ذو سمات يلمسها المتابع وهي غير
خافية على اللبيب ، ومن أهمها :
1- الجرح في شخصية من يوجه إليه النقد : كوصف بعض الدعاة بالميوعة
أو عدم القدرة على نطق بعض الحروف العربية ؛ أو أن بضاعته في العلم مزجاة .
وهذا بعيد كل البعد عن التعرض للأخطاء من أجل تقويمها وتبيين الحق من
الباطل ؛ مما يجعل الناقد مغرضاً وصاحب هوى . نسأل الله السلامة .
2- الجرح بلا دليل : فيتعرض بعضهم لجرح الآخرين من غير حجة ولا
برهان ؛ وإنما للتشفي ، وليصبح النقد مهنة لذلك المنتقد في نقد المخالفين .
فالجرح في أي داعية أو عالم ، سواء أكان من أهل السنة أم من المبتدعة
دعوى تحتاج إلى مستند .
والدعاوى إن لم يُقِمْ أصحابُها بيناتٍ ، فأصحابُها أدعياءُ
3- الاعتماد في النقد على حجة واهية :
إما لعدم التثبت ، أو لعدم عدالة الناقل ، أو لأنه يَهِمُ في خبره ، أو تحميل
الكلام ما لا يحتمل ؛ وهذا ملحوظ والله المستعان .
4- تتبع العثرات ، وعدم الموازنة بين هفوة الداعية أو العالم وفضائله الكثيرة ، بل وغَمْر تلك الفضائل العظيمة من أجل زلة وقع بها .
(ومن مستندات المشنعين) الجراحين : تتبع العثرات وتلمس الزلات ؛ فمن ذا
الذي سلم من الخطأ غير أنبياء الله ورسله ؟ وكم لبعض المشاهير من العلماء من
زلات لكنها مغتفرة بجانب ما هم عليه من الحق والهدى والخير ؟
ولو أخذ كل إنسان بهذا لما بقي معنا أحد ، ولصرنا مثل دودة القز تطوي على
نفسها بنفسها حتى تموت) [6] .
5- الطعن في النيات والمقاصد : بدعوى أن مقصد ذلك الداعية خبيث والحكم
عليه في نيته بالظن ؛ وهذا مسلك خطير ؛ فمعرفة ما في السرائر موكول إلى الله
(سبحانه وتعالى) ، مثل أن يقال : يظهر السلفية ويبطن الصوفية ، أو أنه ذو نية
خبيثة ، أو أنه صاحب فتنة ويريدها ، أو أنه عدو للسنة .
6- التندر على الدعاة في المجالس ، واستغلال أي فرصة للغمز والطعن(1/14)
بحجة بيان الحق وتعرية الباطل وأهله ؛ وهذا خُلق ذميم .
7- التهويل : في نقد بعض العلماء أو الدعاة ، ورميهم بالكذب أو البدعة ، أو
أنهم أخطر من اليهود والنصارى .
8- الطعن فيما يجيده ذلك الداعية أو العالم ؛ فقد يكون بعض أهل العلم يشتغل
في دراسة الحديث فينتقد بأنه ليس لهم همّ إلا : حدثنا وأخبرنا ، أو لاهتمامه بفقه
الواقع ومن يعمل فيه ؛ فيتنقص بأن ذلك فقه (القواقع) مثلاً ؛ بحيثُ يُزْهَدُ من هذا
الفن الذي هو من فروض الكفايات .
أسباب النقد :
سأحاول الإيجاز في عرضها حتى تظهر للعيان ومن أهمها :
1- الغيرة : الغَيْرةُ بالفتح محمودة من أجل دين الله وحرماته ، لكنها قد تجر
صاحبها إن لم يتحرز شيئاً فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء والدعاة من حيث لا
يشعر .
وأما الغِيرَة بالكسر فهي مذمومة وهي قرينة الحسد والمقصود بها : هو كلام
العلماء بعضهم في بعض [7] .
2- الحسد : وهو يعمي ويصم ؛ ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال أو
القرب من شيخه أو كسب رضاه فقد يبغي على إخوانه بسبب ذلك .
3- الهوى : هو كل ما خالف الحق وللنفس فيه حظ ورغبة من الأقوال
والأفعال والمقاصد [8] ورغبة النفس في الوقوع في أعراض الآخرين .
وكان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه) [9] .
4- التقليد والتعصب : (قد يوجد رجل ينقد آخر لا بناءً على علم أو فهم أو
دليل ، بل مجرد تقليد أعمى : سمع فلاناً ينقده أو ينتقصه أو يذمه فسار على أثره
بغير هدى ولا برهان) [10] وهذا التقليد المذموم كان المشركون يفعلونه وكانوا
يقولون : ? إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ? [الزخرف : 22] .
قال ابن مسعود (رضي الله عنه) : (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً : إن آمن ..
آمن ، وإن كفر كفر ؛ فإنه لا أسوة في الشر) [11] .(1/15)
5- التعالم : لقد كثر المتعالمون في عصرنا ، وأصبحت تجد شاباً حدثاً
يتصدر لنقد العلماء ، وتفنيد آرائهم وتقويم قولهم ، وهذا أمر خطير ؛ فإن من أجهل
الناس من يجهل قدر نفسه ويتعدى حدوده) [12] [*].
6- النفاق وكُرْهُ الحق : إن دسائس المنافقين والكارهين للحق من العلمانيين
بشتى اتجاهاتهم من أقوى أسباب النقد .
فالإخوة الذين يتبعون أعداء الدعوة من حيث يشعرون أو لا يشعرون
سيكونون فريسة سهلة فيما بعدُ لهم ، فإنهم قد أعانوا الأعداء على إخوانهم ؛ وهل
سيتركهم الأعداء ؟ لن يتركوهم كما هو ملموس في الواقع .
7- سوء الظن : وهو حمل التصرفات ، قولاً وفعلاً ، على محامل السوء
والشكوك وسوء الظن [13] .
8- وقوع التفرق في الأمة : (وبهؤلاء المشنعين) آل أمر طلائع الأمة وشبابها
إلى أوزاع وأشتات وفرق وأحزاب ، وركض وراء السراب ، وضياع في المنهج
والقدوة ، وما نجا من غمرتها إلا من صحبه التوفيق وعمر الإيمان قلبه . ولا حول
ولا قوة إلا بالله) [14] .
9- بُعد الأمة عن علمائها : إن تصنيف العالم الداعية وهو من أهل السنة
ورميه بالنقائص : ناقض من نواقض الدعوة وإسهام في تقويضها ، ونكث الثقة ،
وصرف الناس عن الخير ، وبذلك ينفتح السبيل للزائغين) [15] .
فضلاً عما في ذلك من السعي في الأرض بالفساد ؛ لأنه يوقع الشحناء
والبغضاء في صفوف الدعوة الإسلامية ، ويعمل على تأخر النصر والتمكين للأمة .
10- ضياع الأوقات ، وإهدار الجهود والطاقات والقدرات في غير فائدة تعود
على الإسلام والمسلمين .
علاج النقد الهدام :
يمكن علاج هذه النزعة التي يحاول بعضهم إثارتها وادعاء التعالم بواسطتها
بانتشار الأخلاق الإسلامية في نفوس أهل هذه الفئة ومن ذلك :
1- تذكر الخوف من الله وضرورة حفظ اللسان : عن البراء بن عازب
(رضي الله عنه) قال : قال رسول الله : (الربا اثنان وسبعون باباً ، أدناها مثل إتيان(1/16)
الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه ) [16] .
2- التجرد في النقد : وعدم الغيرة والحسد والهوى وعدم سوء الظن ، فالغيرة
تهلك صاحبها وتجعله في همّ وغم ؛ لأنه يحسد الآخرين ويغار منهم ، عن أبي
هريرة (رضي الله عنه) قال : قال : رسول الله : ( ... لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ،
ولا تباغضوا ، ولا تدابروا) [17] .
وأما الهوى فيضل الإنسان عن الحق وإن كان يعرف ذلك ، فإذا صار الهوى
هو القائد والدافع صار أصحابه شيعاً يتعصب كل واحد لرأيه ، ويعادي من خالفه
ولو كان الحق معه واضحاً ؛ لأن الحق ليس مطلوبه) [18] .
والأصل في المسلم حسن الظن به : -قال (تعالى) : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ? [الحجرات : 12] (فأمر
الله عز وجل باجتناب كثير من الظن ؛ لأن بعض هذا الكثير إثم ) [19] .
وفي حادثة الإفك دروس ينبغي لكل مسلم أن يعيها فقوله (تعالى) : ? لَوْلا إذْ
سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُّبِينٌ ?
[النور : 12] .
فكما أنه يحسن الظن بنفسه فعليه أن يحسن الظن بإخوانه .
ثم وعظنا الله (تعالى) بقوله : ? يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ ? [النور : 17] . وفي هذا تحذير أي تحذير لمن يفقه ذلك والله المستعان .
3- لا بد من الموازنه بين فضائل المنتقَد ومساوئه والحكم على الغالب :
هذا هو هدي النبي : ففي يوم بدر عندما رأى عتبة بن ربيعة بين المشركين
على جمل أحمر قال : (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر
إن يطيعوه يرشدوا) [20] .
وقال في أسارى بدر : (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء
لتركتهم له) ، فيظهر من هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر محاسن
المشركين .(1/17)
وهذا هدي السلف الصالح من بعده : قال سعيد بن المسيب : ليس من عالم
ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ؛ ولكن إن كان فضله أكثر من نقصه ذهب
نقصه لفضله ؛ كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله) [21] .
وقال ابن القيم : (فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملةً ، وأُهدرت محاسنه
لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها) [22] .
وقال الذهبي : (ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه
لاتباع الحق أهدرناه وبدّعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا ، رحم الله الجميع بمنه
وكرمه) [23] .
(وهذا الكلام في الموازنة بين الحسنات والسيئات إنما هو في الحكم على
الأشخاص) [24] وكذلك الهيئات والجماعات .
أما في تصحيح الأخطاء أو ذكر الأمور الحسنة العظيمة والموافقة في الحق :
فإذا كنت في مقام رد خطأ عالم من العلماء فلا يلزم ذكر الحسنات ، وعلى هذا فإذا
بينت خطأ إمام فقلت : أخطأ في الأمر الفلاني كفاك ذلك .
إذا كان بعض أهل البدع يجيدون فناً معيناً كعلم البلاغة أو النحو أو الصرف
أو المواريث فأثنيت عليه وذلك في مقام ذكر أي فن ، كأن تثني على الزمخشري
بأنه بارع في علم البلاغة فلا بأس .
هذا إذا أمنت الفتنة على السامع ، أما إذا كان السامع سيفهم الكلام على غير
وجهه ويظنه حكماً مطلقاً فلا بد من البيان [25] .
4- عدم رواية كلام الأقران : فقد قعّد السلف قاعدة عظيمة هي : (كلام
الأقران يطوى ولا يروى) . وقد ورد معناها عن السلف ، فعن ابن عباس (رضي
الله عنهما) أنه قال : (خذوا العلم حيث وجدتم ، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على
بعض ؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة) .
يقول الذهبي : (كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ، لا سيما إذا لاح
لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصم الله ، وما علمت أن
عصراً من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ، ولو شئت لسردت
من ذلك كراريس) [26] .(1/18)
5- الشعور بالولاء لمن تنتقده :
عندما نوجه أي انتقاد لأي داعيه أو عالم ؛ لبيان الخطأ أو الزلة التي وقع
فيها فعلينا ألا نُفرِطَ في الأمر حتى يصبح الكلام فيه حديث المجالس ، وكذلك لا
نبغضه بغضاً أشد من أعداء الإسلام المعادين له ؛ لأن أصل الولاء ما زال بيننا
وبينه ، قال ابن تيمية : (ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات ، فيحمد
ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ؛ وهذا هو مذهب أهل
السنة والجماعة)
6- الاشتغال بأخطائنا نحن :
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إن عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه في كل نفس عماها عن مساويها
عرفتها بعيوب الناس تبصرها منهم ولا تبصر العيب الذي فيها [27]
7- عدم التهويل في الأمور الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد :
فقد تكون الأمور التي ينتقد عليها بعض الدعاة أو العلماء أمور اجتهادية يسوغ
فيها الخلاف ، وقد يكون الخلاف فيها قد حصل عند السلف فيأتي بعضهم مُهوّلاً أن
فلاناً قد خالف في المسألة الفلانية ، وأن هذا خلل في المنهج وانحراف عنه ؛ وليس
الأمر كذلك ؛ فلا ينبغي أن تجرنا الخصومة إلى هذا الحد ؛ بل لا بد من الترفق
بإخواننا ؛ فإن المخالفة تسوغ في الفروع وفي الأمور الظنية .
8- الأدب مع العلماء ، والرجوع إليهم ، ووضع الثقة فيهم :
فالكثير من العلماء يثنون على شخص أو هيئة أو جماعة لما علموا من حالهم
فترى هؤلاء الجراحين لا يقبلون منهم ذلك ، ويقبلون ممن هم أقل منهم علماً ودراية ؛ فلا بد أولاً إذاً من التأدب مع العلماء في كل الأحوال مع احترام آرائهم والثقة في
علمهم .
قال طاووس بن كيسان : (من السنة أن يوقر العالم) .
وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول : (إن من إجلال الله (تعالى) :
إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام
ذي السلطان المقسط) [28] .
نصيحة عامة لمن ابتلي بالجراحين :(1/19)
استمسكْ بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك
جادة السلف الصالحين ، ولا يثيرنك تهييج المرجفين وتباين أقوالهم فيك فتزل عن
وقارك فتضل .
لا تبتئس بما يقولون ، ولا تحزن لما يفعلون ، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده
ونبيه نوح (عليه السلام) ? وَأُوحِيَ إلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلاَّ مَن قَدْ آمَنَ
فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? (هود : 36) .
ولا يثنينك هذا (الإرجاف) عن موقفك الحق وأنت داع إلى الله على بصيرة ؛
فالثباتَ الثباتَ متوكلاً على مولاك ؛ والله يتولى الصالحين .
ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء والصفاء والشفقة على الخلق ما يحملك
على استيعاب الآخرين ، وكظم الغيظ والإعراض عن عرض من وقع فيك ، ولا
تشغل نفسك بذكره ، واحتسب ذلك عند الله .
وأنت بهذا كأنما تسفّ الظالم المَلّ ؛ والأمور مرهونة بحقائها ، ? فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً ? [الرعد : 17] والله أسأل للجميع التوفيق والسداد .
________________________
(1) المعجم الوسيط : 2/944 .
(2) الرد على المخالف للشيخ بكر أبو زيد ص 47 .
(3) المرجع السابق ص49 .
(4) أخرجه البخاري بهذا اللفظ ، كتاب الإيمان .
(5) أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، وقال هذا حديث حسن صحيح .
(6) تصنيف الناس بين الظن واليقين للشيخ بكر أبو زيد ص 31 .
(7) لحوم العلماء مسمومة (د ناصر العمر) .
(8) الهوى وأثره في الخلاف للشيخ عبد الله الفتيمان ص 12 .
(9) لحوم العلماء ص 21 .
(10) النقد أدبه ص 99 .
(11) النقد وأدبه ص 100 .
(12) لحوم العلماء مسمومة ص 24 .
(*) وللشيخ العلامة (بكر أبو زيد) حفظه الله كتاب عن (التعالم) أبدع فيه أيما إبداع وهو نسيج وحده كشف فيه هذه الظاهرة المرضية وننصح طلاب العلم بالاطلاع عليه مع قرينه كتاب : (حلية طالب العلم) للشيخ نفسه - البيان - .
(13) تصنيف الناس ص 32 .
(14) تصنيف الناس ص 40 .(1/20)
(15) المصدر السابق ص 79 .
(16) رواه الطبراني في الأوسط ، وصححه الألباني ، انظر : السلسلة الصحيحة للألباني رقم الحديث 1871 .
(17) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب .
(18) الهوى وأثره في الخلاف ص 23 .
(19) منهج أهل السنة والجماعة في النقد ص 21 .
(20) البداية والنهاية لابن كثير 3/268 .
(21) حقيقة البدعة وأحكامها للشيخ سعيد الغامدي 2/359 .
(22) مدارج السالكين لابن القيم 2/39 .
(23) سير أعلام النبلاء للذهبي عند ترجمة ابن خزيمة 14/374 .
(24) قواعد التعامل مع العلماء ص 138 .
(25) قواعد في التعامل مع العلماء ص 138 .
(26) منهج أهل السنة في النقد ص 61 .
(27) لحوم العلماء مسمومة ص 44 .
(28) رواه أبو داود (4843) .
من قضايا المنهج
العمل الإسلامي
ومنهجية التغيير
بقلم : د .جلال الدين صالح
لقد بات تجديد الإسلام في نفوس المؤمنين به أكبر هَمٍّ يؤرق شانئيه ، وصار
تتبع توسعه ، واقتفاء نموه بين جيل الشباب بخاصة يشغل حيزاً واسعاً واهتماماً
كبيراً في عقول أعدائه من الذين أوتوا الكتاب من قبلنا والمارقين من من صفوفنا ،
حتى تمخض عن ذلك هذه الأساليب المشؤومة لكبح المد الإسلامي وإعاقته مما سُمّيَ
بـ (مكافحة الإرهاب) ، وليس في هذا ما يدعو إلى القلق والانزعاج ما دام خط
العمل الإسلامي في حد ذاته منضبطاً بضوابط الشرع ، ومحكوماً بقواعد التصور
الصحيح في تأسيس مفاهيمه ، فما كان الدين أبداً على ودٍ مع خصومه ، ولن
يضيره ذلك إلا حين تدب في المؤمنين به مفاهيم التدين المنحرف ، وتجتالهم عن
مصادر التدين الصحيح إلى مساقط الزيغ والهلاك ؛ ذلك أن إمامة المسلمين في
الأرض مرهونة بوعي الإسلام على النحو الذي كان عليه جيل الصحابة (رضوان
الله عليهم) فالرب (عز وجل) كما يقول المفسر ابن سعدي (رحمه الله) : (عندما
سأله نبيه إبراهيم أن يوقف الإمامة على ذريته من بعده قال : ? لا يَنَالُ عَهْدِي(1/21)
الظَّالِمِينَ ? [البقرة : 124] [1] والظلم من أبلج صوره الانحراف المنهجي ، وتتعدد
صور هذا الانحراف تبعاً لتعدد مصادر التلقي والتفقه ، وأكبرها مقتاً عند الله وأشدها
أذى على العمل الإسلامي تلك التي تكدّر صفاء الرؤية العقدية وتشذ عن مألوف
الدين ومعروفه ، وتحاول أن تجعل منه مادة جامحة ، أو جافة مخلوطة بما هو
غريب عنه . وقد عرف مجتمع الإسلام هذا النوع من الانحراف في وقت مبكر من
تاريخه ، وكان من جراء ذلك تنامي توجهات تحمل خللاً منهجياً في تدينها ؛ فمنها
من آثر خلخلة قواعد المجتمع وقتال أهله على مواجهة الكفر ومجاهدته ظناً منه أن
ذلك أفضل ما يتقرب به المرء إلى الله كالخوارج الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز
حناجرهم ، وإن منها من كسب انحياز السلطان نحوه ؛ فسخر ذلك لإعلاء كلمته ،
واستغله في فرض انحرافاته المنهجية على غيره ؛ كما فعل المعتزلة في عهد
المعتصم (رحمه الله وغفر له) مع الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) .
الانحراف المنهجي في واقع العمل الإسلامي :
والعمل الإسلامي اليوم ليس على براءة من ذلك الإرث المنحرف ؛ فكثير من
شبابه وبعض من قياداته من يؤصل لهذا الفهم السقيم ويزيّنه في قلوب المتحلقين
حوله حتى إن قيادياً بارزاً رأيت له مؤلفاً يعدّد فيه منجزات حركته التي منها إعادة
الاعتبار إلى الفكر الاعتزالي في نطاق الحركة وتفاعلاتها الفكرية . وهذا من شأنه
أن يحيي تلك المواقف التاريخية التي انبهرت بأطروحات الفلسفة اليونانية
ومعاييرها في إصابة الحق ، ويبعث فيها من جديد روحَ تخطي النصوص
وإخضاعها لتلك المعايير ؛ الأمر الذي يحول دون تعميق التمايز الفكري بين الجانب
الإسلامي والآخر المزاحم ، في حين أن نقاء مصدر التغيير الإسلامي وتفرده في
تكوين الذات وتشكيل مفاهيمها ومنهجها ضرورة لا بد منها تحتمها طبيعة هذا الدين . ولقد أدرك سيد قطب رحمه الله هذه الحقيقة حين أكدها بقوله : (ولكني أقرر وأنا(1/22)
على يقين جازم بأن التصور الإسلامي لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ
إلا حين نلقي عنه جملةً كلّ ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية ، وكل مباحث علم
الكلام ، وكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً ، ثم نعود إلى القرآن الكريم) [2] .
ولا شك أن هذه العودة بجانب ما تعمقه فينا من أصالة التفكير والتحرر من
التبعية تضفي على مشروعنا التجديدي خاصيتي : العلم بالحق ، والرحمة بالخلق ؛
على نقيض الاتجاهات المنحرفة ، فلا يصدر لنا قول أو فعل إلا عن معرفة بالحق
ورحمة بالعباد ، كما قال ابن القيم رحمه الله في وصف أهل السنة والجماعة :
(يعرفون الحق ويرحمون الخلق ؛ فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة ، وربهم
تعالى وسع كل شيءٍ رحمة وعلماً ، وأهل البدع يكذبون الحق ، ويكفرون الخلق ؛
فلا علم عندهم ولا رحمة) [3] .
وأرى أن من أهم مقتضيات هاتين الخاصيتين : قراءة نصوص الاستدلال
قراءة بعيدة عن (تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين) والالتزام
بمرادفها في تحقيق مفاهيم الدين وإلا كان فسادٌ في الأفهام ، واعتراضٌ على شرع
الله ودفعٌ نحو الشتات والهوان .
يقول ابن قتيبة رحمه الله : (وقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون
على الله ما لا يعلمون ... لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحدٍ في الدين :
ف (أبو الهذيل العلاّف) يخالف (النظّام) ، و (النجّار) يخالفهما .. وفلان وفلان ليس
منهم واحدٌ إلا وله مذهب في الدين) [4] .
وهذه المنهجية المعوجة لا تصلح أبداً لتصحيح المسار وإحداث التغيير في
واقعنا الحالي ، وغالباً ما تكون مجالاً للاختراق الفكري ، وتقويض دعائم المجتمع
الإسلامي وتخريبه .
اتقاؤها ومقاومتها :
وحيث إن وجودها لا يكون إلا على حين غفلة عن العلم الشرعي وغياب عنه
تأصيلاً وتربية ، فإن اتقاءها ومقاومتها بداهة لا يكون إلا بتحصيل العلم الشرعي(1/23)
والتزود منه ، وإلا انقلب الأمر من غاية النهوض بالدين إلى الاستخفاف به ، وهذا
ما نقله ابن عبد البر عن أهل البدع في كتابه جامع بيان العلم وفضله : (وما ينعى
على أهل البدع إلا أنهم اتخذوا الدين رأياً ، وليس الرأي ثقة ولا حتماً .. فلا أجد
أحداً أشد استخفافاً بدينه ممن اتخذ رأيه ورأي الرجال ديناً مفروضاً ) [5] .
ولكن لا معنى للعلم ما لم يكن مقروناً بالعمل سوى أن يوظف لمكاسب دنيوية
عابرة تعكس تناقضاً بين المقول والمعمول ، وتجعل المتصف بهذا في مصاف
علماء السوء الذين يقول فيهم ابن القيم رحمه الله : (علماء السوء جلسوا على باب
الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم) [6] .
وفي هذا الصنف من العلماء يجد دعاة الضلالة وسيلة لإغواء الأمة وتخديرها
عن إدراك رسالتها في الحياة . والسقوط في هذا الخلق حتماً يتنافى مع غاية العمل
الإسلامي ، ويحبس الذات في نطاق شهواني ضيق لا يتجاوز حد الهموم المادية ،
ويسلب الشخصية الإسلامية تأثيرها بخلاف تلك التي تربط بين العلم والعمل ؛ فإنها
لا محالة تكون مثالاً للاحتذاء والاقتداء ، ومن ثَمّ طريقاً إلى التغيير المنشود .
التغيير الإسلامي بين خيارين :
والتغيير الإسلامي اليوم في مفاهيم كثير من الشباب يفتقر إلى تأصيل شرعي
تتوازن فيه المصالح والمفاسد ساعة الإقدام أو الإحجام ، وأرى في هذا قصوراً في
فهم الواقع المعاش ، وخللاً في فهم مقاصد الإسلام من عملية التغيير ذاتها ، وأحسب
أن قصة عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أفضل ما يمكن إيراده عند مناقشة هذه
الظاهرة لدى هؤلاء الشباب فإنه رضي الله عنه بكى من غير جزع حين قرر الملك
الروماني إلقاءه في قدر يغلي بزيت متمنياً أن لو كانت له أكثر من نفس تعذب في
سبيل الله ، ولكنه في الوقت ذاته رضي بتقبيل رأس الملك بعد أن اشترط عليه
إطلاق أسرى المسلمين ، ولقد مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنهما صنيعه هذا(1/24)
وكافأه بتقبيل رأسه حيث قال : (حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقام فقبل رأسه) [7] .
هذا الموقف من عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بكل ما فيه من إخلاص ،
وصدق وتضحية يبرز لنا من جانب آخر قدراً عالياً من فقهه في حمل الرسالة
الإسلامية فلم تكن الدعوة في ذهنه تعني فقط إجادة الموت في سبيل الله ، ولكن
أيضاً تعني إجادة الحياة في سبيل الله ؛ والافتقار إلى هذا النوع من الفقه يعني خللاً
في العمل الإسلامي ، واعتماده يعني اقتفاءً لجيل الصحابة ؛ وواقعنا الإسلامي أشد
ما يكون حاجة إلى هذا الفقه ، ومن ثَمّ تصريف العمل الإسلامي وفق قدرات الذات
في مغالبة تحديات هذا الواقع ومجاهدته .
يقول ابن سعدي (رحمه الله) : (لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار
وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها أفراد الشعب من حقوقهم الدينية
والدنيوية لكان أوْلى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية) [8] .
إن هذا التأصيل من ابن سعدي يحملني على لَوْم وتخطئة أولئك الشباب الذين
يحجّرون واسعاً ، ويحشروننا بين خيارين لا ثالث لهما : القتال حتى الموت ، أو
إقامة الدولة الإسلامية ، دون النظر إلى واقع الذات من ضعف وقوة ، وواقع
التغيرات السياسية دولياً وإقليمياً ، وواقع الوعي الإسلامي في المجتمعات التي
ينشطون فيها ، ويدفعني أيضاً إلى القول : بأن في الأمر سعة .
والله المستعان ، ، ،
________________________
(1) تفسير السعدي (1/135 136) .
(2) خصائص التصور الإسلامي ص 10 11 .
(3) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 2/ 430 432 .
(4) تأويل مختلف الحديث ص 12 13 .
(5) انظر ص 325 .
(6) الفوائد ص 61 .
(7) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/588 .
(8) تفسير السعدي 3/457 .
دراسات دعوية
فتن ..
يجب الفرار منها
بقلم : عبد العزيز بن ناصر الجليل(1/25)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
وبعد :
فإن منشأ الفتن كلها من فتنة الشيطان الذي حذرنا الله عز وجل منه بقوله :
?يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ? [ الأعراف : 27] ولذا في معرض الحديث في هذا
المقال لن أفرد فتنة الشيطان بحديث مستقل ؛ لأن الحديث عن أنواع الفتن المختلفة
إنما هو في الحقيقة حديث عن فتنة الشيطان أعاذنا الله منه ومن شرور الفتن ما
ظهر منها وما بطن .
وسأحاول إن شاء الله (تعالى) أن أربط الموضوع بواقعنا المعاصر ؛ وذلك
بذكر بعض الصور والمظاهر لكل نوع من أنواع الفتن في زماننا اليوم .
ومن الفتن التي ستكون محوراً للحديث :
1 - فتنة الغربة . 2- الفتنة في العقيدة . 3- فتنة المعاصي وترك إنكارها .
4 - فتنة الدنيا وزخرفها . 5- فتنة الاختلاف والفرقة بين المسلمين .
6 - الفتنة بالعلم . 7- فتنة المصائب والمكاره .
أولاً : فتنة الغربة : إن البدء بالحديث عن هذه الفتنة يأتي من كونها نتيجة
تراكم مجموعة من الفتن تنشأ الغربة بسببها ، ويحسن بنا في بداية الكلام عن هذه
الفتنة أن نتطرق لحديث الغربة والغرباء الذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - من عدة طرق ، ثم نعرج على كلام السلف في شرحهم لهذا الحديث ، ونختم
الموضوع بذكر بعض مظاهر الفتنة في عصور الغربة وخاصة في زماننا اليوم .
روايات حديث الغربة :
1- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله : (بدأ
الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء) قال : قيل : ومن الغرباء ؟ قال : (النّزّاع من القبائل) [1] .
2- عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً ؛ فطوبى
للغرباء) قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : (الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس) [2] .(1/26)
3- عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال : (إن الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، وهو يأرِزُ بين
المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) [3] .
4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال : قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده : (طوبى للغرباء) فقيل : من
الغرباء يا رسول الله ؟ قال : (أناس صالحون في أناس سوء كثير ، من يعصيهم
أكثر ممن يطيعهم) [4] .
من خلال هذا السرد للروايات الصحيحة لحديث الغربة يتضح لنا وصف حال
أهل الغربة ، وأنهم نُزّاع من القبائل ، وهذا يشير إلى قلتهم ، وأنهم يُصلِحُون إذا
فسد الناس ، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن
يطيعهم .
وتدلنا هذه الأوصاف المذكورة للغرباء أنهم أهل غيرة ودعوة وإصلاح ولم
يكونوا صالحين يائسين مستسلمين لواقعهم الفاسد ، كما تدلنا هذه الروايات على بقاء
المصلحين مهما اشتدت الغربة ولو كانوا قلة ونزاعاً من القبائل . ولن تخلو الأرض
من قائم لله بالحق حتى يأتي أمر الله (عز وجل) .
ولذلك والله أعلم صدّر الإمام الهروي ، (رحمه الله تعالى) منزلة الغربة بقوله
(تعالى) : ? فَلَوْلا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ
إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ? [ هود : 116] .
وقال ابن القيم (رحمه الله تعالى) في شرحه لمنازل السائرين عند هذه الآية :
(استشهاده ، أي : مؤلف كتاب منازل السائرين بهذه الآية في هذا الباب يدل على
رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن ؛ فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة
المذكورة في الآية) [5] .
من أقوال السلف في الغربة وأهلها :
- قال الأوزاعي (رحمه الله) في قوله : (بدأ الإسلام غريباً ... ) الحديث :
أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل
واحد) [6] .(1/27)
- وقال يونس بن عبيد (رحمه الله تعالى) : (ليس شيء أغرب من السنة ،
وأغرب منها من يعرفها) [6].
- وعن سفيان الثوري (رحمه الله تعالى) قال : (استوصوا بأهل السنة فإنهم
غرباء) [6].
- وقال ابن رجب (رحمه الله تعالى) : (وهؤلاء الغرباء قسمان : أحدهما :
من يصلح نفسه عند فساد الناس ، والثاني : من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى
القسمين وهو أفضلهما) [7] .
وقد شرح حديث الغربة هذا أئمة أجلاء منهم شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى)
في [مجموع الفتاوى : 18/251] ، والإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) في [منزلة
الغربة : 3/194] والإمام الشاطبي (رحمه الله تعالى) في كتابه النفيس (الاعتصام) : 1/97 والإمام ابن رجب (رحمه الله تعالى) في كشف الكربة فليرجع إلى هذه
الشروحات ففيها فوائد جمة .
وخلاصة ما قاله الأئمة حول الغربة وأهلها :
1- أن الغربة المطلقة في كل الأرض لا تكون إلا قبيل قيام الساعة ، أما قبل
ذلك فلن تخلو الأرض من قائمين بالحق ولو كانوا قلة ، ولكن قد توجد غربة تامة
في مكان دون مكان وفي جانب من الشريعة دون جانب . والله أعلم .
2- أن أهل الغربة الممدوحين في كل مكان وزمان هم الفرقة الناجية ،
الطائفة المنصورة ، أهل السنة والجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وفَهْمِ الصحابة
(رضي الله عنهم) والتابعين لهم بإحسان .
3- أهل الغربة في كل مكان قليلون ولكن أثرهم على الناس عظيم ؛ لأن من
أهم أوصافهم أنهم يدعون إلى الله (عز وجل) ويصلحون ما أفسد الناس ويجددون
لهم دينهم .
4- المخالف لأهل الغربة كثير ، والأذى الذي يتعرضون له عظيم ؛ لكنهم
بالحق الذي يحملونه ، والمهمة الشريفة التي يؤدونها ، والصبر الجميل الذي يتحلون
به ثابتون مطمئنون .
5- في حديث الغربة معنى لطيف أشار إليه شيخ الإسلام (رحمه الله تعالى)
بقوله : (وهو لما بدأ غريباً لا يُعرف ثم ظهر وعرف ؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرف ،
ثم يظهر ويُعرف) [8] .(1/28)
وفي هذا رد على من يفهم من أحاديث الغربة انحسار الإسلام وعدم الأمل
بعودته ، وهذا ما يفهمه كثير من اليائسين من هذا الحديث ، وفي كلام شيخ الإسلام
السابق رد على هذا الفهم الخاطئ ، وذلك أن الإسلام إذا عاد غريباً كما بدأ ، فإنه
سيعود قوياً ظاهراً كما حصل ذلك بعد غربة الإسلام الأولى .
وهذا الفهم الصحيح هو الذي تشهد له أحاديث صحيحة كثيرة منها قوله : (إن
الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي
منها) [9] ، وقوله : (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر
ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل : عزاً يعز الله به الإسلام ،
وذلاً يذل به الكفر) [10] .
6- الغربة في شدتها وعظم أجر أهلها ليست على رتبة واحدة وإنما هي
متفاوتة ، فهناك غربة أهل الإسلام بين أهل الأديان الكافرة ، وأشد منها غربة أهل
السنة والإيمان بين أهل الإسلام والفرق الضالة من أهل القبلة . وأشد منها غربة
أهل العلم بين عامة أهل السنة . وأشد منها غربة العلماء المجاهدين الصابرين بين
أهل العلم القاعدين . وهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن القيم رحمه الله (تعالى) : (هم
أهل الله حقاً فلا غربة عليهم) وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - :
(إن من ورائكم أياماً : الصبر للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم ،
قالوا : يا نبي الله أوَ منهم ؟ قال : بل منكم) [11] .
7- أهل الغربة وإن كانوا قلة فهم السعداء حقاً ولا وحشة عليهم ، وإن خالفهم
أكثر الناس ؛ فحسبهم راحةً وطمأنينةً أنهم في قافلة الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
مظاهر الغربة في زماننا اليوم :
يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
1- غربة في العقيدة ، فلا يوجد مَنْ هو متمسك بعقيدة السلف من جميع(1/29)
جوانبها إلا القليل من الناس ؛ حيث تنتشر الخرافة والشركيات والبدع في أكثر
بلدان المسلمين .
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها ، فلا يُحكم اليوم في أكثر بلدان
المسلمين إلا بأحكام الإفرنج الكافرة .
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام ، سواء ما كان منها بين العبد وربه ، أو
بين العبد وبين الخلق ؛ فلا يوجد الملتزم بها إلا القليل .
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة ، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة
الشهوات .
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام ، وتسلط الأعداء عليهم ، وإيذاؤهم لهم
بأشد أنواع الأذى والنكال .
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء ؛ حيث مُيّعَتْ هذه العقيدة عند كثير من
الناس ، وأصبح ولاء أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب .
7- غربة في أهل العلم ؛ حيث قلّ أهل العلم الشرعي الصحيح ، وانتشر
الجهل وكثرت الشبهات وقلّ العاملون بالعلم والداعون إليه .
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة : إن من أشد ما يخشى على أهل الإسلام في
أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي : (والتفصيل يأتي في
الحديث عن بقية أنواع الفتن كلاّ في بابه) إن شاء الله (تعالى) .
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية
في عصور الغربة ، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات سواء ما يتعلق منها
بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى ، وتسويغ ذلك بشبهة شرعية
تبرز عادة في غيبة الحق وفشو الجهل .
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات التي تطمّ وتنتشر عادة في
عصور الغربة وقلة أهل الحق وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس ؛ فلا يكاد يثبت
ويستقيم على أمر الله (عز وجل) مع كل هذه الضغوط إلا القليل الذين يعتصمون
بالله ، ويقومون بأمره ، ويدعون إلى سبيله ، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم ، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة ؛ سواء كان ذلك(1/30)
التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام .
3- فتنة اليأس والقنوط من ظهور الحق وانتصاره أمام تكالب الأعداء
وتمكنهم وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة
إلى اليأس وترك الدعوة حين يرى (إقبال الدنيا على المبطلين ، ورؤية الناس لهم
ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم
العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة ، وهو مهمل منكر لا يحس به
أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله
الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً ... فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله ، كانت
الفتنة أشد وأقسى ، وكان الابتلاء أشد وأعنف ، ولم يثبت إلا من عصم الله) [12] .
وإن فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى (عز وجل) في عصور الغربة لا
يقف عند حد ؛ بل قد تؤدي بصاحبها والعياذ بالله إلى الضعف والنقص في دينه شيئاً
فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات ؛ ذلك لأن أيامَ الغربةِ أيامُ فتنٍ وإغراءات وفشو
منكرات وظهور وتمكين لأهل الباطل والفساد . فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة ولو
كانت قليلة يأوي إليها ويدعو معها إلى الله (عز وجل) حسب الوسع والطاقة فإنه لا
بد أن يتأثر بالفساد وأهله إلا من رحم الله (عز وجل) ومن غير المقبول عقلاً
وشرعاً وحساً أن يبقى المسلم محافظاً على دينه أمام الغربة وهو تارك للدعوة بعيد
عن أهلها ، فإما أن يؤثّر أو يتأثّر .
نعم ! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال
التام عن الناس في شعف من الجبال ، ولا إخال هذا متيسراً في هذا الزمان ، ثم لو
كان ذلك ممكناً : فمن ذا الذي يدعو إلى الله (عز وجل) ويواجه الفساد . وعلى أي
حال فالعزلة الشرعية لها أحكامها وضوابطها التي سنعالجها (إن شاء الله تعالى) في
حلقة قادمة .
إذن : فلن ينجو من فتنة الغربة في أي زمان أو مكان إلا أحد رجلين :(1/31)
إما مجاهد في سبيل الله (عز وجل) داع إلى الخير آمر بالمعروف وناهٍ عن
المنكر .
أو رجلٌ معتزلٌ عن الناس في مكان من الأرض يعبد ربه ، ولا يخالط الناس .
وما سواهما فهو على شفا هلكة ، ولعل هذا ما يفهم من الحديث الذي رواه أبو
هريرة (رضي الله عنه) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (مِنْ خَيْرِ
معاش الناس لهم : رجل ممسك عنان فرسه يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو
فزعة طار على متنه يلتمس الموت ، والقتل مكانه . أو رجل في رأس شعفة من
الشعاب ، أو بطن واد من هذه الأودية : يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، ويعبد ربه حتى
يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في خير) [13] .
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة ؛ مما يؤدي ببعض من
يقاسي ضغوطها إلى التسرع والاصطدام مع أهل الفساد دون مراعاة للمصالح
والمفاسد ؛ فينشأ من جرّاء ذلك فتنة أشد وفساد أكبر على أهل الغربة .
________________________
(1) الترمذي 5/18 ، أحمد 1/398 ، والبغوي في شرح السنة 1/18 وصححه .
(2) أخرجه أبو عمر الداني في (السنن الواردة في الفتن) (3/ 633) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة 3/ 267 .
(3) مسلم شرح النووي 2/76 .
(4) أخرجه أحمد (2/ 177 ، 222) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (6650) .
(5) مدارج السالكين : 3/194 .
(6) كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب ص28 ، 29 .
(7) كشف الكربة ص32 .
(8) انظر مجموع الفتاوى : 18/305 .
(9) رواه مسلم في الفتن (2889) .
(10) رواه ابن حبان بنحوه (6699 إحسان) ، وصححه الألباني في السلسلة 1/7 .
(11) أبو داود في الملاحم (4341) ، والترمذي في التفسير (3508) وصححه الألباني في
السلسلة (494) .
(12) في ظلال القرآن 5/2719 ، 2720 (باختصار) .
(13) مسلم في الإمارة : (3/1503 ، 1504) (1889) .
دعوية تأملات
رفقاً بالشباب
بقلم : عبد الله المسلم(1/32)
لقد كان من نتاج الصحوة المباركة أن توافد فئام من الشباب الغض إلى ركاب
الصالحين ، بل إن عامة أتباع الصحوة اليوم وحاملي لوائها هم من الشباب ؛ وليس
ذلك بغريب ، إذ إن ذلك سنة الله في الأمم السابقة واللاحقة .
وحين يتأمل المصلحون اليوم واقع الشباب يرون أن ثمة ثغرات ومواطن
ضعف وخلل لديهم لا بد من علاجها وتسديدها ، فينبرون للإصلاح والنصح
والتوجيه . ويأخذ معظم الحديث في هذه الدائرة صفة النقد ، ومع الحماس وتوقد
العاطفة يتحول إلى نقد لاذع ؛ كأن يقال : الشباب مهمِلون في جانب العبادة ،
ومقصرون في الدعوة ، ومفرطون في حقوق الأخوة ، وضعاف في العلم الشرعي ،
والتزامهم غير جاد بل مصطنع ..
وينصت الشباب الأخيار الأفاضل إلى هذا الحديث الناصح ، ينصتون إليه
بآذانهم وقلوبهم ، وتغرورق عيونهم بالدموع التي يجتهدون في حبسها ، وينصرفون
داعين لمحدثهم بالسداد والثبات والتوفيق .
إن النقد العلمي الموضوعي المعتدل مطلب لا بد منه ، لكن الإفراط في
استخدام هذا الأسلوب ينطوي على محاذير عدة ، منها :
1- نسيان محاسن هؤلاء الشباب وإيجابياتهم ؛ فهم وإن قصروا في قيام الليل
إلا أنهم سرعان ما يهبّون من فراشهم لصلاة الفجر رغم الجهد والتعب ، وربما في
بيوت لا يستيقظ فيها سواهم ، وهم الذين تعففوا عن الحرام في ظل واقع مليء
بوسائل الإثارة والإغراء ، وهم الذين يتورعون عن الصغائر ، ويبادرون بالتوبة
من اللمم في حين يفاخر غيرهم بارتكاب الكبائر ويسعون إليها بما أوتوا من سبيل ،
ومع ذلك كله فشباب الصحوة متفوقون في أعمالهم ودراستهم مع ما يحملونه من
هموم الدعوة والإصلاح .
2- كثير من الأهداف التي يرتجى تحقيقها من خلال النقد يمكن الوصول إليها
بطرق أخرى غير طريق النقد ؛ فالحديث عن النماذج في مجال ما من المجالات
يشحذ الهمم على التأسي والاقتداء ، والحديث عن أهمية أمر من الأمور يأخذ بيد
المقصرين فيه .(1/33)
والإيحاء غير المباشر يفعل فعله في النفوس ، ولنا في النبي - صلى الله عليه
وسلم - أسوة حسنة ؛ فحين رأى ابن عمر (رضي الله عنهما) رؤيا وقصها على
حفصة ؛ فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (نِعْمَ
الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) [1] .
وعن سليمان بن صرد (رضي الله عنه) قال : استب رجلان عند النبي -
صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس ، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ
وجهه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه
ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) [2] .
3- أن هذا الأسلوب يخرج جيلاً فاقداً للثقة في نفسه ، محطم الآمال ، يشعر
أنه مجموعة متراكمة من الأخطاء ، بل إنه يشكك ربما في صدق انتمائه وصلاحه ؛
إذ هو لا يسمع إلا النقد والتقريع ، وجيلٌ يعيش هذه النفسية سيكون بعيداً عن
المزاحمة في ميادين العمل والنشاط الخير .
4- أن كثيراً ممن يمارس هذا الأسلوب قد يوجب ما لا يجب ، ويمنع ما لا
يلزم منعه ، فالنوافل نوافل لا يمكن أن تتحول إلى واجبات لا يعذر بتركها ، ودقائق
الورع إنما هي مراتب فاضلة للخاصة لا العامة ، فعلامَ نؤثّم من لم يؤثّمه الشرع ؟
ونوجب ما لم يوجبه ؟
وهذا لا يعني التخلي عن النقد ، ولا عن بيان الأخطاء والحديث عنها ، فقد
كان يفعل ذلك ، وليكن ذلك بتوازن واعتدال ؛ فقد كان يثني على أفراد من أصحابه
في مواقف لا تحصى ، وأثنى على قبائل كأسلم وغفار ، وأثنى على المهاجرين
والأنصار ، وعلى أهل اليمن ... وغير ذلك كثير .
________________________
(1) رواه البخاري (1122) ومسلم (2479) .
(2) رواه البخاري (6115) ومسلم (2610) .
تأملات دعوية
بين المنهج والرموز
بقلم : عبدالله المسلم
الدعوة السلفية بين سائر الدعوات بأنها دعوة لا تتمحور حول شخص من
الأشخاص ، بل تتمحور حول المنهج المستقى من الكتاب والسنة الصحيحة وآثار(1/34)
السلف الصالح ؛ ولهذا عرّف الإمام مالك أهل السنة بأنهم الذين ليس لهم لقب إلا
أهل السنة .
بخلاف سائر الطوائف ؛ فكثير منها تعلو درجة ارتباطها بالشخص لدرجة أن
يرتبط اسمها باسمه فتنسب إليه ، ويعتقد بعضهم العصمة في شيوخهم وأئمتهم ، وأن
الراد على الشيخ كالراد على الله ، وأن التلميذ يجب أن يكون بين يدي الشيخ
كالميت بين يدي من يغسله . أما أهل السنة فإنهم يعتقدون أنه ما من بشر إلا ويؤخذ
من قوله ويرد إلا محمد ، ومع ذلك فلهم أئمة منزلتهم ومكانتهم ليست كغيرهم ،
ولأقوالهم وتقريراتهم قيمة وقدر ، ومنهم من هو كما أخبر عنه أنه : (على رأس كل
مئة سنة يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها) .
وثمة هفوات تصيب بعض الأخيار من أهل السنة تجاه هذا ؛ فالقضية قد
تخدش صفاء المنهج ، وقد تطول فتؤذن بنوع من التعصب المقيت المشين .
1- فمن ذلك أن يُربط الناس بالرجال ، وأن يكون الحديث دائماً حول منهجهم
أكثر من الحديث حول نصوص الوحيين ، وأن تكون المخالفة لرأي أحدهم أشد
وأشنع من المخالفة لنصوص الوحي الصريحة ، ومن ذلك : أن أحد الأفاضل كان
يتحدث عن ضرورة ارتباط الدعاة إلى الله بمنهج فلان من المجددين وأساليبه ،
فعقب أحد الحضور بأن الأوْلى ربط الناس بمنهج النبي -صلى الله عليه وسلم- ،
فاستدرك آخر على المعقِّب بعد أن وصمه بألقاب لا تليق بأنه ما من وسيلة
استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا واستخدمها هذا المصلح المجدد ! وَهَبْ
أن ذلك حق ! أفليس الأصل الاقتداء بالمعصوم ؟
2- قد سلك دعاة الضلالة في سبيل الحرب على أهل السنة أسلوب وَصْمِ
دعاتهم بالسوء والانحراف ، ولبّسوا في ذلك على العامة ، فما أن يسمعوا اسم فلان
إلا عنى لديهم الانحراف . وإزاء هذه الظاهرة كان لا بد من منهج أسلم في التعامل
معها بالأساليب التالية :
أ- لا داعي لإقامة معارك مع العامة ولا أمامهم حول شخص فلان خاصة حين(1/35)
نعلم أن ذلك سيصطدم باقتناعات راسخة لديهم قد يصعب تغييرها ، فَلِمَ لا نجعل
قضيتنا الكبرى معهم هي قضية المنهج ، وقضية نصوص الوحيين ؟ وهب أنهم
تركوا الضلال والبدعة وماتوا وهم يسيئون الظن بفلان من علماء المسلمين لأنه
لُبِّسَ عليهم شأنه وأمره ؛ فالخطب حينها أيسر من الموت على الضلالة والبدعة .
ب- ولماذا الإصرار على ربط الدعوة بهؤلاء من خلال التركيز على توزيع
كتبهم وترديد أسمائهم ، أو تسمية المشاريع والمدارس بها ؟ فتقيم الدعوة ابتداءاً
حاجزاً بينها وبين الناس ! ألا يمكن لدعاة السلفية أن يكتبوا كتابة جديدة للناس
تخاطبهم بنصوص الوحيين التي لا يجرؤ أحد على رفضها ؛ وذلك كله ليس رغبة
في تجاوزهم وإنكار فضلهم ، إنما لسلوك أفضل سبيل لإنقاذ الناس من الضلال .
3- الإمامة لا تستلزم العصمة عند أهل السنة ، فقد يستدل هذا الإمام الجليل
بحديث ضعيف أو يستشهد برواية باطلة ، أو يتبنى رأياً مرجوحاً في مسألة ما ،
فهل من حرج في الاستدراك عليه وبيان خطأ اجتهاده ؟ وهب أن أحداً اجتهد فبان
خطؤه في مسألة من المسائل ورأينا أن في ذلك فتح باب للطعن وإساءة الظن :
أيعالج هذا الخطأ بخطأ آخر ؛ فنكابر في السعي لتصحيح حديث أو ترجيح قول
ضعيف لمجرد أن فلاناً قال به ؟
مرة أخرى : الأئمة والمجددون لهم قيمتهم ومكانتهم ، ولا ينبغي الحط من
شأنهم وتجرئة صغار الطلبة على انتقادهم ، لكن هذا كله لا ينبغي أن ينسينا أنهم
بشر ليسوا معصومين ، وأن الإمامة الأساس هي للوحيين ، وأن أهل السنة هم :
من كانوا على مثل ما كان عليه محمد وأصحابه ، لا من كانوا أتباعاً لفلان من
الناس .
________________________
من قضايا المنهج
من أجل إنتاجية أفضل
أهمية رسم الأهداف
بقلم : د . عبد الكريم بكار
يعيش العالم المتقدم أزمة حضارة بسبب افتقاده الوجهة أو الهدف الأكبر الذي
يجذب إليه جميع مناشط الحياة ، ويمنحها المنطقية والانسجام . أما المسلمون(1/36)
فأزمتهم الأساسية ، هي أزمة حركة في العالم ، وأزمة شهود على العصر ؛ فهم في
أكثر الأحيان يتأثرون ، ولا يؤثرون ، ويأخذون من الحياة أكثر مما يعطونها ؛ وذلك
بسبب انخفاض إنتاجيتهم ، وضعف إدارتهم لإمكاناتهم الشخصية والعامة . نقرأ
آيات الاستخلاف وشروط التمكين في الأرض ، وأدبيات النجاح والفلاح ، لكنّ
قليلين منا الذين يسألون أنفسهم عن وظيفتهم الشخصية في تحقيق كل ذلك !
إن الأماني الوردية حول قيادة أمتنا للعالم تداعب أخيلة الكثيرين منا ، وتدغدغ
مشاعرهم ، لكن لا أحد يسأل عن آليات تحقيق ذلك ، ولا عن الإمكانات المطلوبة
للسير في طريقه !
إني أعتقد أن هناك حقيقة أساسية غائبة عن أذهان الكثيرين منا ، هي أننا لا
نستطيع أن نوجد مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده ؛ ولذا فإن النهوض بالأمة يقتضي
على نحوٍ ما أن ينهض كل واحد منا على صعيده الشخصي ، وما لم نفعل ذلك ،
فإن الغد لن يكون أفضل من اليوم .
إن رسم الأهداف نوع من مدِّ النظر في جوف المستقبل ، وإن الله جل وعلا
يحثنا على أن نتفكر في الآتي ، ونعمل له : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ
نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر : 18]
إن المسلم الحق لا يكون إلا مستقبلياً ، ولكننا بحاجة إلى أن نعمم روح الالتزام
نحو الآخرة على مسلكنا العام تجاه كل ما يعنينا من شؤون وأحوال .
أهمية وجود هدف :
من الأدوات الأساسية في تحسين وضعية الفرد أن يكون له هدف يسعى إلى
تحقيقه . ونرى أن حيوية وجود هدف واضح في حياتنا تنبع من اعتبارات عديدة ،
أهمها :
1- إن كل ما حولنا في تغير دائم ، والمعطيات التي تشكل المحيط الحيوي
لوجودنا لا تكاد تستقر على حال ، وهذا يجعل كل نجاح نحققه معرضاً للزوال ؛
ووجود هدف أو أهداف في حياتنا ، هو الذي يجعلنا نعرف على وجه التقريب ما(1/37)
العمل الذي سنعمله غداً ، كما أنه يساعد على أن نتحسس باستمرار الظروف
والأوضاع المحيطة ؛ مما يجعلنا في حالة دائمة من اليقظة ، وفي حالة من الاقتدار
على التكيف المطلوب .
وقد جرت عادة الكثيرين منا أن يسترخوا حين ينجزون عملاً متميزاً ؛ مما
يضعهم على بداية الطريق إلى أزمة تنتظرهم . ولذا فإن الرجل الناجح ، هو الذي
يسأل نفسه في فورة نجاحه عن الأعمال التي ينبغي أن يخطط لها ، ويقوم بإنجازها ؛ فالتخطيط هو الذي يجعل أهمية المرء تأتي قبل الحَدَث . أما معظم الناس فإنهم لا
يفكرون إلا عند وجود أزمة ، ولا يتحركون إلا حين تحيط بهم المشكلات من كل
جانب ، أي يستيقظون بعد وقوع الحدث ، وبعد فوات الأوان !
2- إن وعي كثيرين منا بـ (الزمن) ضعيف ، ولذا فإن استخدامنا له في حل
مشكلاتنا محدود . وحين يجتمع الناس برجل متفوق فإنهم يضعون بين يديه كل
مشكلاتهم ، ويطلبون لها حلولاً عاجلة متجاهلين عنصر (الزمن) في تكوينها
وتراكمها ، وطريقة الخلاص منها . ووجود هدف في حياة الواحد منا يجعل وعيه
بالزمن أعظم ، ويجعله يستخدمه في تغيير أوضاعه . إذا سأل كل واحد منا نفسه :
ماذا بإمكانه أن يفعل تجاه جهله بعلم من العلوم مثلاً أو قضية من القضايا ؟ فإنه يجد
أنه في الوقت الحاضر لا يستطيع أن يفعل أي شيء يذكر تجاه ذلك . أما إذا سأل
نفسه : ماذا يمكن أن يفعل تجاهه خلال خمس سنين ؟ فإنه سيجد أنه يستطيع أن
يفعل الكثير ؛ وذلك بسبب وجود خطة ، واستهداف للمعالجة ، وهما دائماً يقومان
على عنصر الزمن . إني أعتقد أن كثيراً من الخلل المنهجي في تصور أحوالنا ،
وحل أزماتنا ، يعود إلى ضيق مساحة الرؤية ، ومساحة الفعل معاً ، وذلك كله
بسبب فقد النظر البعيد المدى .
3- إن كثيراً من الناس يظهرون ارتباكاً عظيماً في التعامل مع (اللحظة
الحاضرة) وذلك بسبب أنهم لم يفكروا فيها قبل حضورها ، فتتحول فرص الإنجاز(1/38)
والعطاء إلى فراغ قاتل ومفسد ؛ وهذا يجعلنا نقول : إننا لا نستطيع أن نسيطر على
الحاضر ، ونضبط إيقاعه ، ونستغل إمكاناته ، إلا من خلال مجموعة من الآمال
والأهداف والطموحات ، وبهذا تكون وظيفة الهدف في حياتنا هي استثمار اللحظة
الماثلة على أفضل وجه ممكن .
إني أتجرأ وأقول : إن ملامح خلاص جيلنا ، والجيل القادم على الأقل من
وهن التخلف والانكسار قد تبلورت في أمرين : المزيد من الالتزام بالمنهج الرباني ، والمزيد من التفوق ، ولا نستطيع أن نجعل هذين الأمرين حقيقة واقعة في حياتنا
من غير تحديد أهداف واضحة .
سمات مطلوبة في الهدف :
1- المشروعية :
إن مجمل أهداف المرء في الحياة ، يعادل على نحو تام (استراتيجية) العمل
لديه ، ولذا فإن الذين لا يأبهون لشرعية الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها يحيون
حياة مضطربة ممزقة ، تختلط فيها عوامل البناء مع عوامل الهدم ، وينسخ بعضُها
بعضَها الآخر . إن الهدف غير المشروع ، قد يساعد على تحقيق بعض النمو في
جانب من جوانب الحياة ، لكنه يحطّ من التوازن العام للشخصية ، ويفجّر في داخلها
صراعات مبهمة وعنيفة . وليس المقصود بشرعية الهدف أن يكون معدوداً في
(المباحات) فحسب ، وإنما المقصود أن يكون مندمجاً على نحو ما في الهدف
الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض ، ألا وهو الفوز
برضوان الله تبارك وتعالى وهذا يعني أن الأهداف المرحلية والجزئية للواحد منا
يجب ألا تتنافر معه في وضعيتها أو مفرزاتها أو نتائج تفاعلها . ولعل من علامات
الانسجام بينها وبين الهدف الأكبر شعور المرء أنه يحيا (حياة طيبة) وهي لا تولد
من رحم الرخاء المادي ، ولا من رحم التمتع بالجاه أو الاستحواذ على أكبر كمية
من الأشياء ، وإنما تولد من ماهية التوازن والانسجام بين المطالب الروحية والمادية
للفرد ، ومن التأنق الذي يشعر به من يؤدي واجباته .(1/39)
الهدف المشروع عامل كبير في إيجاد التطابق بين رموزنا وخبراتنا ، وهو
إلى ذلك مولِّد لما نحتاجه من حماسة للمضي في الطريق إلى نهايته .
2- الملاءمة :
لكل منا طاقاته وموارده المحدودة ، وله ظروفه الخاصة ، وله إلى جانب ذلك
تطلعات وتشوّفات ؛ ومن الواضح اليوم أن الحضارة الحديثة أوجدت لدى الناس
طموحات فوق ما هو متوفر من إمكانات لتلبيتها ، وهذا يؤدي بكثير من الناس إلى
أن يسلكوا طرقاً غير مشروعة لتلبيتها ، أو يؤدي بهم إلى الشعور بالعجز والانحسار .
والهدف الملائم ، هو ذلك الهدف الذي يتحدى ولا يعجز . ومعنى التحدي دائماً : طلب تفجير طاقات كامنة أو استخدام موارد مهملة ، لكنها جميعاً ممكنة . حين
يكون الهدف سهلاً فإنه لا يؤدي إلى حشد إمكاناتنا الذاتية ، ولا إلى تشغيل أجهزتنا
النفسية والعقلية ، كما لو أننا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة ، أو
يستغفر عشر مرات .
في المقابل فإن الهدف الكبير جداً يصد صاحبه عن العمل له ، وفي هذا
السياق نرى كثيراً من أهل الخير ، يشعرون بالإحباط ، ويشكون دائماً من سوء
الأحوال ، وتدهور الأوضاع ، وهذا نابع من وجود هدف كبير لديهم هو (الصلاح
العام) لكن ليس لديهم أهداف صغيرة ، أو مرحلية تصب فيه . إن كل هدف صغير
يقتطع جزءاً من الهدف الكبير ، ويؤدي إلى قطع خطوة في الطريق الطويل ؛ وعدم
وجود أهداف صغيرة ، يجعل الهدف النهائي يبدو دائماً كبيراً وبعيداً ، وهذا يسبب
آلاماً نفسية مبرحة ، ويجعل المرء يظهر دائماً بمظهر الحائر العاجز . إنه لا يأتي
بالأمل إلا العمل ، وقليل دائم خير من كثير منقطع .
3- المرونة :
إن أنشطة جميع البشر ، تخضع لعدد من النظم المفتوحة ، ومن ثم فإن النتائج
التي نتطلع إلى الحصول عليها ، تظل في دائرة التوقع والتخمين . حين يرسم
الإنسان هدفاً ، فإنه يرسمه على أساس من التقييم للعوامل الموجودة خارج طبيعة(1/40)
عمله ، وخارج إرادته ، وهذه العوامل كثيراً ما يتم تقييمها على نحو خاطئ ، كما
أنها عرضة للتغير ، بالإضافة إلى أن إمكاناتنا التي سوف نستخدمها في ذلك هي
الأخرى متغيرة ؛ ولهذا كله فإن الهدف يجب أن يكون (مرناً) ، أي : له حدود دنيا ،
وله حدود عليا ؛ وذلك كأن يخطط أحدنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع
ساعات ، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا .. هذه المرونة تخفف من
ضغط الأهداف علينا ؛ فالناس يشعرون حيال كثير من أهدافهم أنها التزامات أكثر
منها واجبات ، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من الحرية ، وسيكون من الضار بنا
تحوّل الأهداف إلى قيود صارمة ، وحواجز منيعة في وجه تلبية رغبات شخصية
كثيرة .
4- الوضوح :
هذه السمة من السمات المهمة للهدف الجيد ، حيث لا تكاد تخلو حياة أي إنسان
من الرغبة في تحقيق بعض الأمور ، لكن الملاحظ أن قلة قليلة من الناس ، تملك
أهدافاً واضحة ومحددة ، ولذا فمن السهل أن يتهم الإنسان نفسه أو غيره بأنه لم يتقدم
باتجاه أهدافه خطوة واحدة خلال عشرين سنة ، مع أنك لا تراه خلال تلك المدة إلا
منهمكاً ومتابعاً بما يعتقد أنه هدف يستحق العناء !
إنه يمكن القول بسهولة : إن كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما
أنجز منه ، وما بقي ؛ ليس بهدف . ولذا فإن من يملك أهدافاً واضحة يحدثك دائماً
عن إنجازاته ، وعن العقبات التي تواجهه . أما من لا يملك أهدافاً واضحة ، فتجده
مضطرباً ، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير ، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه ؛
إنه كمن يضرب في بيداء ، تعتسفه السبل ، وتشتته مفارق الطرق ! نجد هذا
بصورة أوضح لدى الجماعات ؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافاً واضحة محددة ، تظل
مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته ، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم
لذلك ! لا يكفي أن يكون الهدف واضحاً ، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه ،(1/41)
فالزمان ليس ملكاً لنا إلى ما لا نهاية ، وطاقاتنا قابلة للنفاد . ثم إن القيمة الحقيقية
للأهداف ، لا تتبلور إلا من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها ، والجهد
والتكاليف التي نحتاجها . ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف ، ووضوح تكاليفه
المتنوعة ، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة !
إن من أسباب ضبابية أهدافنا أننا لا نبذل جهداً كافياً في رسمها وتحديدها ،
وهذا لا يؤدي إلى انعدام إمكانية قياسها فحسب ، وإنما يؤدي أيضاً إلى إدراكها
بطريقة مبتذلة أو رتيبة ، مما يُفقدها القدرة على توليد الطاقة المطلوبة لإنجازها .
سنعمل الكثير من أجل أهدافنا إذا أدركنا أنه عن طريقها تتم الصياغة النهائية
لوجودنا .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
دراسات تربوية
نظرات في التربية بالأهداف
بقلم : عبد الله عبد الرحمن البريدي
إن في الإسلام منهجاً تربوياً فريداً ، يقوم على دعائم وأسس من شأنها إن هي
لُمست وجُلِّيت وأُبرزت أن تكوِّن نظرية تربوية إسلامية متكاملة الأهداف ، واضحة
الخطوات ، متناسقة المراحل ، مضمونة الثمرات بإذن الله .
إن النظرات الجزئية للمنهج الإسلامي التربوي مفيدة ولا شك ؛ بيد أنها تعجز
عن تكوين وصياغة تلك النظرية ؛ لأن ذلك فقط هو من شأن النظرات الشاملة
العميقة المتكئة على دعائم قرآنية ، وأسس نبويّة ، وتطبيقات صحيحة يجب أن
تنداح دائرتها لتشمل النظريات والتطبيقات المعاصرة المفيدة في علوم التربية
والنفس والاجتماع ونحوها .
إن عملية تحديد دعائم وأسس النظرية التربوية الإسلامية ضرورة حتمية
لصياغة النظرية وتكوينها ، وهي في الوقت ذاته صعبة وشاقة ؛ لذا فهي تستحق
من أرباب العلم والفكر والإبداع : إجالة نظر في النصوص ، وتأملاً وتفكراً في
التطبيقات ، كيما يتضح السبيل لصياغة النظرية التربوية المنشودة ، وبلورة
تفصيلاتها وإجراءاتها ، وتجلية أهدافها وغاياتها .(1/42)
إن منظومة الدعائم والأسس التربوية تنتظم عدداً كبيراً ، لعل من أبرزها
وأوضحها ما يلي :
1- تحقيق التوحيد في النفس الإنسانية .
2- الأهداف التربوية : تحديداً وربطاً وتذكيراً .
3- الترغيب والترهيب .
4- مراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية .
5- الشمول والتكامل .
وفي هذا الموضوع سيكون التركيز على أساس ودعامة الأهداف مبيناً كيفية
استخدام المنهج الإسلامي وتفعيله لهذا الأساس ، ليكون توطئة وتمهيداً للحديث عن
التربية بالأهداف .
معنى الهدف :
يدور المعنى اللغوي والاصطلاحي للهدف على معنى واحد مفاده : الغاية التي
يُسعى إلى الوصول إليها وإلى تحقيقها ، والغرض الذي يُراد إدراكه ونيله [1] .
كل له غرض يسعى ليدركه والحر يجعل إدراك العلا غرضاً
المنهج الإسلامي والأهداف :
إن المتأمل للمنهج الإسلامي ليدرك بجلاء دون أن تلحقه صعوبة أو تعتريه
مشقة قدر العناية التي أولاها ذلك المنهج لقضية الأهداف ، وكيف أن الإسلام يتكئ
بكامل ثقله على أهداف محددة ؛ تبني بمجموعها الهدف الأسمى والغرض الأوحد
الذي جاء الإسلام لتحقيقه : وهو تحقيق العبودية الحقة لله تعالى ، ويُتوصل بذلك
إلى تحقيقه ونيله ، قال تعالى : ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ لاَّ يَعْبُدُونِ ???
[الذاريات : 56] .
بعد تأمل للكيفية التي انتهجها المنهج الإسلامي فيما يتعلق بالأهداف ، تمكنت
من لمس الخطوات التي نفذها هذا المنهج لتفعيل دور الأهداف والإفادة منها ، وهي
متمثلة بحسب اجتهادي فيما يلي :
أولاً : تحديد الأهداف بدءاً ؛ وذلك بكل دقة ووضوح :
نقرأ في القرآن الكريم أنه خاطب رسولنا الأمين-صلى الله عليه وسلم- في
أول آياته نزولاً [2] بأن يقوم عازماً ، وينهض راشداً ، ويسير ثابتاً واثقاً صابراً ،
مزيلاً اللحاف والدثار ليحقق أهدافاً شاملة عظيمة : ? يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ(1/43)
(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? ?
[المدثر : 1-6] ، ثم توالت بعد ذلك آي القرآن العظيم لتبين هذه الأهداف وتفسرها
وتكملها وتفضلها ، فهدف العلم محدد بقوله تعالى : ? اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ ?
[العلق : 1] ، وهدف التحلي بجميل الخلق وعاطر المعاملة وحسن السلوك بقوله
تعالى : ? وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ? [القلم : 4] ، وقوله تعالى : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ
اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ?
[آل عمران : 159] ، وهدف التماس الحكمة في الدعوة بقوله تعالى ? ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?
[النحل : 125] .
وهدف الثبات بقوله تعالى : ? وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاًتِيَكَ اليَقِينُ ? [الحجر : 99]
وهدف الانتماء للدين وأهله بقوله تعالى : ? اللَّهُ وَلِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى
الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة : 257] ، وقوله تعالى :
? لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [الأنعام : 127] ، وغير
ذلك من الأهداف التي ناسب تقريرها في المجتمع المكي الذي كان يمر بظروف
بداياته ، ويتطلب التركيز على قضايا محددة .
ولقد أكد القرآن الكريم على أكثر الأهداف حتى بعد انتقال الجماعة المؤمنة من(1/44)
طور التأسيس العقدي والإيماني (مكة) إلى عهد البناء الشامل المتكامل (المدينة) ؛
لأنها أهداف متناسقة متكاملة ، بيد أنه قرر أهدافاً أخرى ، تستطيع الجماعة المؤمنة
من خلالها أن تقيم البناء الإسلامي الحضاري الشامل ، فمن ذلك ما قرره القرآن
بقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ? [التوبة : 122]
لقد دفع القرآن الكريم الأفواج المؤمنة لاقتحام مجالات الجهاد المتعددة وطرق أبوابه
المتنوعة .
ثانياً : ربط الحياة بهذه الأهداف :
رَبَطَ الإسلامُ حياة المسلمين بأهدافه السامية التي حددها في البداية بكل جلاء
ووضوح عبر قوالب متعددة ووسائل متنوعة ، لعل من أكثرها وضوحاً القالب
المشكّل بـ ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? ، ? قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لله162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ ? [الأنعام : 162 ، 163] ، فهل ثمة جزء من حياة الإنسان بقي دون أن
يربط بالعبودية لله تعالى ؟ ! لا وحاشا .
ثالثاً : التذكير بالأهداف :
إن المنهج الإسلامي رباني يتعامل مع الإنسان ، مدركاً طبعه وجبلّته ،
ومراعياً نقصه وضعفه ؛ لذا فمن غير المستغرب أن تكثر النصوص التي تذكِّر
الإنسان الذي يغفل ويذهل وينسى بحكم طبيعته بالأهداف التي يجب أن يحققها ، بل
إنه يمكن تقرير أن نصوص الشرع جميعها تذكر بالأهداف ولكنها مختلفة في طبيعة
التدكير وقوته وقالبه ، إن قول الله تعالى : ? إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?
[الفاتحة : 5] من أقوى النصوص تذكيراً وأكثرها ترداداً .
ولعل مما يجدر ذكره وتقريره أن الخطوات الثلاث سالفة الذكر لا تخص(1/45)
المنهج الإسلامي التربوي فحسب ، بل هي صبغة اصطبغ الإسلام بها بأكمله ؛ لذا
فإنه يمكن الإفادة منها عند دراسة وتأصيل المناهج السياسية والاقتصادية والإدارية
والنفسية والاجتماعية ونحوها .
وبعد هذا الاستعراض المجمل للكيفية التي انتهجها الإسلام وذلك حسب فهمي
تجاه الأهداف ، يمكنني أن أتناول موضوع التربية بالأهداف : مصطلحها ومنطلقاتها
ومراحلها [3] وذلك عبر النقاط التالية :
تعريف التربية بالأهداف :
يمكن تعريف التربية بالأهداف بأنها (عملية إكساب المتربين سلوكاً جديداً ، أو
ترسيخ سلوك معين من خلال تحديد الأهداف عبر المربين والمتربين معاً والتي
يجب تحقيقها مع تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيقها) .
منطلقات التربية بالأهداف :
تقوم هذه التربية على أسس ، منها ما يلي :
1- ضرورة تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بشكل واضح ودقيق .
2- ضرورة مشاركة المتربين في عملية تحديد الأهداف أو بعضها ، وذلك
بحسب استطاعتهم ، وقدراتهم العلمية والفكرية والنفسية والعمرية ؛ طلباً لتحقيق
الأهداف التالية :
أ - شعور المتربين بتحقق ذواتهم ، وذلك لاستشارتهم وأخذ آرائهم .
ب - شعورهم بالارتياح النفسي التام ؛ لأنهم يعملون على تحقيق أهداف
ساهموا هم في تحديدها .
ج - التوفيق بين أهداف المربين والمتربين (في حالة وجود تعارض) .
3- تحديد الوسائل التي تحقق الأهداف المنشودة من خلالها .
خطوات التربية بالأهداف :
ثمة خطوات في ضوء التربية بالأهداف ، يجب على المؤسسات التربوية
(كوزارات المعارف والتربية والتعليم) أن تقوم بها :
أولاً : تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بكل دقة ووضوح : وتحت
هذه الخطوة يجب مراعاة الأمور التالية :
أ - وصفت الأهداف المحددة المنشودة بالواجبة التحقيق ، وهذا يعني عدم
ترك المربي ليحقق من الأهداف ما تميل إليها نفسه ، أو تتفق معها طبيعته وجبلته ،(1/46)
أو أن تحقيق تلك الأهداف سهل المنال ، أو أنها مما يتقنه ويقدر عليه ! ! إن الأمانة
التربوية تقتضي تحديد الأهداف التربوية الواجبة التحقيق ليتم تحقيقها في الواقع
التربوي ، ولهذا ندرك أن ممارسات بعض المربين السلبية مخالفة للأمانة التربوية.. إنهم أولئك الذين لا يحققون إلا الأهداف التي تتفق مع قدراتهم وطبيعتهم وميولهم
ورغباتهم .. إن بعضهم مغرم بالكمال ، متشدق به ، متكلف لأحواله ، متلبس بزيه ،
إنه ليس ثمة نقص يعتريه ، ولا عيب يكتنفه ! ! لذلك فقد استحالت ممارساتهم
التربوية إلى (استنساخ تربوي) ! ! وبعضهم لا يريد ذلك ، ولكنهم يتجهون إلى
الأهداف التي يتمنون تحقيقها بمقتضى الجبلّة والفطرة ، وبهذا نعرف قدر وصية
أحد السلف لابنه وأهميتها ؛ إذ هو يقول له : (يا بني تعلم العلم كله ؛ فإن الإنسان
عدو ما جهل ، ولا أريدك أن تكون عدواً لشيء من العلم) ، إن الإحاطة والإلمام
بفنون العلم والثقافة في الوقت الحاضر من الصعوبة بحيث لا مفر من أن يستفيد
بعضنا من بعض ، فكلنا يكمل الآخر .
ب - ثمة اعتبارات علمية يجب مراعاتها عند تحديد الأهداف التربوية :
1- تحديد الأهداف بدقة ووضوح بحيث تفهم من الجميع فهماً واحداً ،
ولتوضيح المقصود نفترض أن من ضمن الأهداف المحددة : حفظ ما تيسر من
القرآن .
إن هذا الهدف عام وفضفاض ، وقابل لتفسيرات متعددة .
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها .
3- واقعية الأهداف ، وذلك بإمكانية تحقيقها ، وهي باعتبارين :
أ - باعتبار كل هدف على حدة ؛ وذلك بكونه ممكن التحقق .
ب - باعتبار الأهداف مجتمعة ؛ وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت واحد .
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس طلباً لتحديد نسبة النجاح في تحقيقها
وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية :
أ - الزمن : مثل : حفظ كتاب الله تعالى في فترة لا تتجاوز السنتين .
ب - الكمية : مثل : حفظ وجه واحد من القرآن يومياً .(1/47)
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها .
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد ، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية) أو
مرحلية (تكتيكية أو فرعية) ، ولا يصح الجمع بينها ؛ لأن الرئيسة تشمل المرحلية
(مثل هدف : تعبيد الأفراد لله تعالى (رئيس) وهدف : تربية الأفراد على أعمال
القلوب (فرعي) أليست التربية من التعبيد لله ؟ ) ومن البدهي وجوب كون الأهداف
التربوية مشروعة وشاملة .
ج - لتسهيل عملية تحديد الأهداف وعملية تحقيقها ، يمكن أن تقسم إلى أقسام :
فمن حيث النوع : يمكن تقسيمها إلى : أهداف رئيسة ، وأهداف مرحلية .
ومن حيث الزمن : يمكن تقسيمها إلى : أهداف طويلة أو متوسطة أو قصيرة
الأجل .
ثانياً : تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة بأعلى كفاءة ممكنة ؛
وعند تحديد مثل تلك الوسائل يجب مراعاة الأمور التالية :
1- أن تحقق الوسائل (البرامج العملية) الأهداف المحددة بأعلى كفاءة ممكنة .
2- أن تكون الوسائل مرنة ، بحيث يمكن تعديلها عند الحاجة .
3- أن تتضمن البرامج العملية كيفية مواجهة العقبات المستقبلية (إن وجدت) .
4- الاستفادة من العلوم الحديثة النافعة ، كعلوم التربية والنفس والاجتماع
والفسيولوجيا والإدارة والاقتصاد وغيرها .
بالإضافة إلى الاعتبارات العلمية الثلاثة الأولى المذكورة آنفاً (الخاصة
بالأهداف) .
ثالثاً : يجب تحديد نسبة النجاح في تحقيق كل هدف عقب فترة محددة طلباً
لتشجيع وزيادة الإيجابيات والنجاحات ، والتماساً لعلاج الأخطاء والسلبيات وتلافيها ، وهذه الخطوة تظهر بجلاء أهمية كون الأهداف قابلة للقياس (الاعتبار العلمي
الخاص بالأهداف رقم 4) .
رابعاً : التذكير بالأهداف الواجب تحقيقها على فترات دورية ، لئلا يُنسى
بعضها ! !
إن شركة (ماتسوشيتا) وهي شركة يابانية استطاعت أن تحقق نجاحات كبيرة
لتصبح من كبريات الشركات العالمية ، تؤكد على هذه الخطوة ، وتعرف أهميتها(1/48)
وثمرتها ، وذلك بأنها تطلب من مديريها وعمّالها أن يرددوا أهداف الشركة صباح
كل يوم [4] .
خامساً : مراجعة الأهداف المنشودة والوسائل المحددة عقب فترة زمنية معينة ؛ وذلك لإجراء التعديلات اللازمة لمقتضيات شرعية أو واقعية ، وتجدر الإشارة هنا
إلى أهمية التجديد في البرامج العملية طرداً لسآمة المربين ودفعاً لملل المتربين ! ! .
الخلل التربوي :
يجمع المربون على وجود خلل واضح في المنتجات التربوية ناتجٍ من وجود
تصدع بيِّن في البنية التحتية للتربية ، بيد أنهم يختلفون كثيراً في أسباب الظاهرة
وعلاجها ، وفي رأيي المتواضع أن للظاهرة أسباباً متعددة يمكن إرجاعها إلى سبب
واحد هو غياب الأهداف التربوية الواضحة التي يجب على المربي تحقيقها .
فكيف والحالة كهذه يحقق المربي نجاحاً مثمراً وهو لا يدري في حالات كثيرة
ما هي المواصفات التي يجب التقيد بها ؟ ! !
إن بعض المربين قد يغفل عن بعض الأهداف لمدة قد تصل إلى سنوات ؟ !
فماذا عن المُنتَج .. ؟ قطعاً إنه معيب ! ! وهنا يأتي دور المؤسسة التربوية في
صياغة وتحديد الأهداف التربوية ، ومطالبة المربين بتحقيقها ، وذلك لئلا يُلجأ
المربي لأن يجتهد .. فيخطئ ويغفل وينسى ! [5] .
المعادلة التربوية الفعالة :
إن خلاصة القول يمكن قراءتها في أحرف هذه المعادلة :
قصد ونية خالصة نقية <---
أهداف ووسائل شرعية علمية <---
صنع أجيال فتية للمجد بانية .
________________________
(1) المنجد في اللغة والأعلام ، مادة هدف ، ص 858 .
(2) ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول : (أول شيء نزل من القرآن ] يا أيها المدثر [والجمهور بأنها ] اقرأ باسم ربك الذي خلق [ ، والمهم أنها من أول الآي نزولاً .
(3) استندت كثيراً من فلسفة المدرسة الإدارية الحديثة0 (الإدارة بالأهداف) ، ولمزيد من المعلومات عن هذه المدرسة يمكنك مراجعة كتاب : (الإدارة بالأهداف النظرية والتطبيقية) د علي عبد الوهاب .(1/49)
(4) لم أقصد أن السبب الوحيد في نجاح الشركة هو ترديد الأهداف ، وإنما قصدت أنه من ضمن الأسباب الرئيسية في ذلك ولمزيد من المعلومات عن هذه الشركة وفلسفتها ، انظر كتاب : (فن الإدارة اليابانية) باسكال وآخر ، ترجمة حسن ياسين .
(5) إن عملية تحديد الأهداف صعبة وهي مناطة بالمؤسسة التربوية ، ولا مناص من الاجتهاد في حالة تقصيرها ، ويمكن الاستفادة من بعض الكتب في هذا الموضوع مثل : أهداف التربية الإسلامية ، محمد الحريري ، وأهداف التربية الإسلامية وغايتها ، د مقداد يالجن .
دراسات تربوية
نظرات في التربية بالأهداف
بقلم : عبد الله عبد الرحمن البريدي
إن في الإسلام منهجاً تربوياً فريداً ، يقوم على دعائم وأسس من شأنها إن هي
لُمست وجُلِّيت وأُبرزت أن تكوِّن نظرية تربوية إسلامية متكاملة الأهداف ، واضحة
الخطوات ، متناسقة المراحل ، مضمونة الثمرات بإذن الله .
إن النظرات الجزئية للمنهج الإسلامي التربوي مفيدة ولا شك ؛ بيد أنها تعجز
عن تكوين وصياغة تلك النظرية ؛ لأن ذلك فقط هو من شأن النظرات الشاملة
العميقة المتكئة على دعائم قرآنية ، وأسس نبويّة ، وتطبيقات صحيحة يجب أن
تنداح دائرتها لتشمل النظريات والتطبيقات المعاصرة المفيدة في علوم التربية
والنفس والاجتماع ونحوها .
إن عملية تحديد دعائم وأسس النظرية التربوية الإسلامية ضرورة حتمية
لصياغة النظرية وتكوينها ، وهي في الوقت ذاته صعبة وشاقة ؛ لذا فهي تستحق
من أرباب العلم والفكر والإبداع : إجالة نظر في النصوص ، وتأملاً وتفكراً في
التطبيقات ، كيما يتضح السبيل لصياغة النظرية التربوية المنشودة ، وبلورة
تفصيلاتها وإجراءاتها ، وتجلية أهدافها وغاياتها .
إن منظومة الدعائم والأسس التربوية تنتظم عدداً كبيراً ، لعل من أبرزها
وأوضحها ما يلي :
1- تحقيق التوحيد في النفس الإنسانية .
2- الأهداف التربوية : تحديداً وربطاً وتذكيراً .
3- الترغيب والترهيب .(1/50)
4- مراعاة مقتضيات الفطرة الإنسانية .
5- الشمول والتكامل .
وفي هذا الموضوع سيكون التركيز على أساس ودعامة الأهداف مبيناً كيفية
استخدام المنهج الإسلامي وتفعيله لهذا الأساس ، ليكون توطئة وتمهيداً للحديث عن
التربية بالأهداف .
معنى الهدف :
يدور المعنى اللغوي والاصطلاحي للهدف على معنى واحد مفاده : الغاية التي
يُسعى إلى الوصول إليها وإلى تحقيقها ، والغرض الذي يُراد إدراكه ونيله [1] .
كل له غرض يسعى ليدركه والحر يجعل إدراك العلا غرضاً
المنهج الإسلامي والأهداف :
إن المتأمل للمنهج الإسلامي ليدرك بجلاء دون أن تلحقه صعوبة أو تعتريه
مشقة قدر العناية التي أولاها ذلك المنهج لقضية الأهداف ، وكيف أن الإسلام يتكئ
بكامل ثقله على أهداف محددة ؛ تبني بمجموعها الهدف الأسمى والغرض الأوحد
الذي جاء الإسلام لتحقيقه : وهو تحقيق العبودية الحقة لله تعالى ، ويُتوصل بذلك
إلى تحقيقه ونيله ، قال تعالى : ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ لاَّ يَعْبُدُونِ ???
[الذاريات : 56] .
بعد تأمل للكيفية التي انتهجها المنهج الإسلامي فيما يتعلق بالأهداف ، تمكنت
من لمس الخطوات التي نفذها هذا المنهج لتفعيل دور الأهداف والإفادة منها ، وهي
متمثلة بحسب اجتهادي فيما يلي :
أولاً : تحديد الأهداف بدءاً ؛ وذلك بكل دقة ووضوح :
نقرأ في القرآن الكريم أنه خاطب رسولنا الأمين-صلى الله عليه وسلم- في
أول آياته نزولاً [2] بأن يقوم عازماً ، وينهض راشداً ، ويسير ثابتاً واثقاً صابراً ،
مزيلاً اللحاف والدثار ليحقق أهدافاً شاملة عظيمة : ? يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ
(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ? ?
[المدثر : 1-6] ، ثم توالت بعد ذلك آي القرآن العظيم لتبين هذه الأهداف وتفسرها(1/51)
وتكملها وتفضلها ، فهدف العلم محدد بقوله تعالى : ? اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ ?
[العلق : 1] ، وهدف التحلي بجميل الخلق وعاطر المعاملة وحسن السلوك بقوله
تعالى : ? وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ? [القلم : 4] ، وقوله تعالى : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ
اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ?
[آل عمران : 159] ، وهدف التماس الحكمة في الدعوة بقوله تعالى ? ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?
[النحل : 125] .
وهدف الثبات بقوله تعالى : ? وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاًتِيَكَ اليَقِينُ ? [الحجر : 99]
وهدف الانتماء للدين وأهله بقوله تعالى : ? اللَّهُ وَلِيُّ الَذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى
الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [البقرة : 257] ، وقوله تعالى :
? لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [الأنعام : 127] ، وغير
ذلك من الأهداف التي ناسب تقريرها في المجتمع المكي الذي كان يمر بظروف
بداياته ، ويتطلب التركيز على قضايا محددة .
ولقد أكد القرآن الكريم على أكثر الأهداف حتى بعد انتقال الجماعة المؤمنة من
طور التأسيس العقدي والإيماني (مكة) إلى عهد البناء الشامل المتكامل (المدينة) ؛
لأنها أهداف متناسقة متكاملة ، بيد أنه قرر أهدافاً أخرى ، تستطيع الجماعة المؤمنة
من خلالها أن تقيم البناء الإسلامي الحضاري الشامل ، فمن ذلك ما قرره القرآن(1/52)
بقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ? [التوبة : 122]
لقد دفع القرآن الكريم الأفواج المؤمنة لاقتحام مجالات الجهاد المتعددة وطرق أبوابه
المتنوعة .
ثانياً : ربط الحياة بهذه الأهداف :
رَبَطَ الإسلامُ حياة المسلمين بأهدافه السامية التي حددها في البداية بكل جلاء
ووضوح عبر قوالب متعددة ووسائل متنوعة ، لعل من أكثرها وضوحاً القالب
المشكّل بـ ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? ، ? قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لله162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ ? [الأنعام : 162 ، 163] ، فهل ثمة جزء من حياة الإنسان بقي دون أن
يربط بالعبودية لله تعالى ؟ ! لا وحاشا .
ثالثاً : التذكير بالأهداف :
إن المنهج الإسلامي رباني يتعامل مع الإنسان ، مدركاً طبعه وجبلّته ،
ومراعياً نقصه وضعفه ؛ لذا فمن غير المستغرب أن تكثر النصوص التي تذكِّر
الإنسان الذي يغفل ويذهل وينسى بحكم طبيعته بالأهداف التي يجب أن يحققها ، بل
إنه يمكن تقرير أن نصوص الشرع جميعها تذكر بالأهداف ولكنها مختلفة في طبيعة
التدكير وقوته وقالبه ، إن قول الله تعالى : ? إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?
[الفاتحة : 5] من أقوى النصوص تذكيراً وأكثرها ترداداً .
ولعل مما يجدر ذكره وتقريره أن الخطوات الثلاث سالفة الذكر لا تخص
المنهج الإسلامي التربوي فحسب ، بل هي صبغة اصطبغ الإسلام بها بأكمله ؛ لذا
فإنه يمكن الإفادة منها عند دراسة وتأصيل المناهج السياسية والاقتصادية والإدارية
والنفسية والاجتماعية ونحوها .(1/53)
وبعد هذا الاستعراض المجمل للكيفية التي انتهجها الإسلام وذلك حسب فهمي
تجاه الأهداف ، يمكنني أن أتناول موضوع التربية بالأهداف : مصطلحها ومنطلقاتها
ومراحلها [3] وذلك عبر النقاط التالية :
تعريف التربية بالأهداف :
يمكن تعريف التربية بالأهداف بأنها (عملية إكساب المتربين سلوكاً جديداً ، أو
ترسيخ سلوك معين من خلال تحديد الأهداف عبر المربين والمتربين معاً والتي
يجب تحقيقها مع تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيقها) .
منطلقات التربية بالأهداف :
تقوم هذه التربية على أسس ، منها ما يلي :
1- ضرورة تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بشكل واضح ودقيق .
2- ضرورة مشاركة المتربين في عملية تحديد الأهداف أو بعضها ، وذلك
بحسب استطاعتهم ، وقدراتهم العلمية والفكرية والنفسية والعمرية ؛ طلباً لتحقيق
الأهداف التالية :
أ - شعور المتربين بتحقق ذواتهم ، وذلك لاستشارتهم وأخذ آرائهم .
ب - شعورهم بالارتياح النفسي التام ؛ لأنهم يعملون على تحقيق أهداف
ساهموا هم في تحديدها .
ج - التوفيق بين أهداف المربين والمتربين (في حالة وجود تعارض) .
3- تحديد الوسائل التي تحقق الأهداف المنشودة من خلالها .
خطوات التربية بالأهداف :
ثمة خطوات في ضوء التربية بالأهداف ، يجب على المؤسسات التربوية
(كوزارات المعارف والتربية والتعليم) أن تقوم بها :
أولاً : تحديد الأهداف الواجب تحقيقها في البداية بكل دقة ووضوح : وتحت
هذه الخطوة يجب مراعاة الأمور التالية :
أ - وصفت الأهداف المحددة المنشودة بالواجبة التحقيق ، وهذا يعني عدم
ترك المربي ليحقق من الأهداف ما تميل إليها نفسه ، أو تتفق معها طبيعته وجبلته ،
أو أن تحقيق تلك الأهداف سهل المنال ، أو أنها مما يتقنه ويقدر عليه ! ! إن الأمانة
التربوية تقتضي تحديد الأهداف التربوية الواجبة التحقيق ليتم تحقيقها في الواقع(1/54)
التربوي ، ولهذا ندرك أن ممارسات بعض المربين السلبية مخالفة للأمانة التربوية.. إنهم أولئك الذين لا يحققون إلا الأهداف التي تتفق مع قدراتهم وطبيعتهم وميولهم
ورغباتهم .. إن بعضهم مغرم بالكمال ، متشدق به ، متكلف لأحواله ، متلبس بزيه ،
إنه ليس ثمة نقص يعتريه ، ولا عيب يكتنفه ! ! لذلك فقد استحالت ممارساتهم
التربوية إلى (استنساخ تربوي) ! ! وبعضهم لا يريد ذلك ، ولكنهم يتجهون إلى
الأهداف التي يتمنون تحقيقها بمقتضى الجبلّة والفطرة ، وبهذا نعرف قدر وصية
أحد السلف لابنه وأهميتها ؛ إذ هو يقول له : (يا بني تعلم العلم كله ؛ فإن الإنسان
عدو ما جهل ، ولا أريدك أن تكون عدواً لشيء من العلم) ، إن الإحاطة والإلمام
بفنون العلم والثقافة في الوقت الحاضر من الصعوبة بحيث لا مفر من أن يستفيد
بعضنا من بعض ، فكلنا يكمل الآخر .
ب - ثمة اعتبارات علمية يجب مراعاتها عند تحديد الأهداف التربوية :
1- تحديد الأهداف بدقة ووضوح بحيث تفهم من الجميع فهماً واحداً ،
ولتوضيح المقصود نفترض أن من ضمن الأهداف المحددة : حفظ ما تيسر من
القرآن .
إن هذا الهدف عام وفضفاض ، وقابل لتفسيرات متعددة .
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها .
3- واقعية الأهداف ، وذلك بإمكانية تحقيقها ، وهي باعتبارين :
أ - باعتبار كل هدف على حدة ؛ وذلك بكونه ممكن التحقق .
ب - باعتبار الأهداف مجتمعة ؛ وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت واحد .
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس طلباً لتحديد نسبة النجاح في تحقيقها
وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية :
أ - الزمن : مثل : حفظ كتاب الله تعالى في فترة لا تتجاوز السنتين .
ب - الكمية : مثل : حفظ وجه واحد من القرآن يومياً .
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها .
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد ، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية) أو
مرحلية (تكتيكية أو فرعية) ، ولا يصح الجمع بينها ؛ لأن الرئيسة تشمل المرحلية(1/55)
(مثل هدف : تعبيد الأفراد لله تعالى (رئيس) وهدف : تربية الأفراد على أعمال
القلوب (فرعي) أليست التربية من التعبيد لله ؟ ) ومن البدهي وجوب كون الأهداف
التربوية مشروعة وشاملة .
ج - لتسهيل عملية تحديد الأهداف وعملية تحقيقها ، يمكن أن تقسم إلى أقسام :
فمن حيث النوع : يمكن تقسيمها إلى : أهداف رئيسة ، وأهداف مرحلية .
ومن حيث الزمن : يمكن تقسيمها إلى : أهداف طويلة أو متوسطة أو قصيرة
الأجل .
ثانياً : تحديد الوسائل الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة بأعلى كفاءة ممكنة ؛
وعند تحديد مثل تلك الوسائل يجب مراعاة الأمور التالية :
1- أن تحقق الوسائل (البرامج العملية) الأهداف المحددة بأعلى كفاءة ممكنة .
2- أن تكون الوسائل مرنة ، بحيث يمكن تعديلها عند الحاجة .
3- أن تتضمن البرامج العملية كيفية مواجهة العقبات المستقبلية (إن وجدت) .
4- الاستفادة من العلوم الحديثة النافعة ، كعلوم التربية والنفس والاجتماع
والفسيولوجيا والإدارة والاقتصاد وغيرها .
بالإضافة إلى الاعتبارات العلمية الثلاثة الأولى المذكورة آنفاً (الخاصة
بالأهداف) .
ثالثاً : يجب تحديد نسبة النجاح في تحقيق كل هدف عقب فترة محددة طلباً
لتشجيع وزيادة الإيجابيات والنجاحات ، والتماساً لعلاج الأخطاء والسلبيات وتلافيها ، وهذه الخطوة تظهر بجلاء أهمية كون الأهداف قابلة للقياس (الاعتبار العلمي
الخاص بالأهداف رقم 4) .
رابعاً : التذكير بالأهداف الواجب تحقيقها على فترات دورية ، لئلا يُنسى
بعضها ! !
إن شركة (ماتسوشيتا) وهي شركة يابانية استطاعت أن تحقق نجاحات كبيرة
لتصبح من كبريات الشركات العالمية ، تؤكد على هذه الخطوة ، وتعرف أهميتها
وثمرتها ، وذلك بأنها تطلب من مديريها وعمّالها أن يرددوا أهداف الشركة صباح
كل يوم [4] .(1/56)
خامساً : مراجعة الأهداف المنشودة والوسائل المحددة عقب فترة زمنية معينة ؛ وذلك لإجراء التعديلات اللازمة لمقتضيات شرعية أو واقعية ، وتجدر الإشارة هنا
إلى أهمية التجديد في البرامج العملية طرداً لسآمة المربين ودفعاً لملل المتربين ! ! .
الخلل التربوي :
يجمع المربون على وجود خلل واضح في المنتجات التربوية ناتجٍ من وجود
تصدع بيِّن في البنية التحتية للتربية ، بيد أنهم يختلفون كثيراً في أسباب الظاهرة
وعلاجها ، وفي رأيي المتواضع أن للظاهرة أسباباً متعددة يمكن إرجاعها إلى سبب
واحد هو غياب الأهداف التربوية الواضحة التي يجب على المربي تحقيقها .
فكيف والحالة كهذه يحقق المربي نجاحاً مثمراً وهو لا يدري في حالات كثيرة
ما هي المواصفات التي يجب التقيد بها ؟ ! !
إن بعض المربين قد يغفل عن بعض الأهداف لمدة قد تصل إلى سنوات ؟ !
فماذا عن المُنتَج .. ؟ قطعاً إنه معيب ! ! وهنا يأتي دور المؤسسة التربوية في
صياغة وتحديد الأهداف التربوية ، ومطالبة المربين بتحقيقها ، وذلك لئلا يُلجأ
المربي لأن يجتهد .. فيخطئ ويغفل وينسى ! [5] .
المعادلة التربوية الفعالة :
إن خلاصة القول يمكن قراءتها في أحرف هذه المعادلة :
قصد ونية خالصة نقية <---
أهداف ووسائل شرعية علمية <---
صنع أجيال فتية للمجد بانية .
________________________
(1) المنجد في اللغة والأعلام ، مادة هدف ، ص 858 .
(2) ثبت في صحيح البخاري عن جابر أنه كان يقول : (أول شيء نزل من القرآن ] يا أيها المدثر [والجمهور بأنها ] اقرأ باسم ربك الذي خلق [ ، والمهم أنها من أول الآي نزولاً .
(3) استندت كثيراً من فلسفة المدرسة الإدارية الحديثة0 (الإدارة بالأهداف) ، ولمزيد من المعلومات عن هذه المدرسة يمكنك مراجعة كتاب : (الإدارة بالأهداف النظرية والتطبيقية) د علي عبد الوهاب .(1/57)
(4) لم أقصد أن السبب الوحيد في نجاح الشركة هو ترديد الأهداف ، وإنما قصدت أنه من ضمن الأسباب الرئيسية في ذلك ولمزيد من المعلومات عن هذه الشركة وفلسفتها ، انظر كتاب : (فن الإدارة اليابانية) باسكال وآخر ، ترجمة حسن ياسين .
(5) إن عملية تحديد الأهداف صعبة وهي مناطة بالمؤسسة التربوية ، ولا مناص من الاجتهاد في حالة تقصيرها ، ويمكن الاستفادة من بعض الكتب في هذا الموضوع مثل : أهداف التربية الإسلامية ، محمد الحريري ، وأهداف التربية الإسلامية وغايتها ، د مقداد يالجن .
دراسات تربوية
المعلم المسلم والهدف البعيد
بقلم : إبراهيم داود
( إني أعالج أمراً لا يُعين عليه إلا الله ، قَدْ فَنِيَ عليه الكبير ، وكبر عليه
الصغير ، وفصح عليه الأعجميّ ، وهاجر عليه الأعرابيّ ، حتى حسبوه ديناً لا
يرون الحقّ غيره) [1] .
لا زالت هذه العبارة البليغة التي قالها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز
ترسم لنا صورة المعلم المسلم في هذه الأيام ، وإن لم يعد هذا المعلم (يعالج) الأمر
الذي يهمّه كما كان خامس الراشدين رحمه الله ورضي عنه يفعل .
لا شك أن الذين ما زالوا يعالجون أمر التربية والتعليم من المعلمين المسلمين
يعانون مثلما عانى عمر ، ولكنهم أفذاذ قليلون لا يُقاسون بالكثرة الكاثرة التي تعكس
صورة الحيرة والتردد حيناً وصورة الغفلة والضياع أحياناً . وممّا لا سبيل إلى
إنكاره أنّ المسلم في هذه الأيام معلماً وغير معلم مُوَزّعٌ بين إسلامٍ يأمره بالمعروف ،
وواقع يغريه بالمنكر أو يُكرهه عليه إكراهاً ، وأنّ هذه الحال تعرقل عمل المعلم
وتزيد معاناته أضعافاً مضاعفة !
فبحسب المعلم المسلم المعاصر أن المَثَل التربويّ الأعلى الذي يُراد له أن
يصبّ تلاميذه في قالبه هو التربية الغربية الغريبة التي يتولى كبرها ويضع مناهجها
وبرامجها رجال لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [2] ، وبحسب المعلم أنّ له شركاء(1/58)
في التربية يحادّونه ويعادونه : يُفسدون إذا أصلح ، ويهدمون إذا بنى ، ويُدمّرون إذا
عمّر ، وأنهم وهذا أدهى وأمرّ يملكون من أسباب النجاح في الإفساد والهدم والتدمير ، ما لا يملك هو مثله ولا دونه في الإصلاح والبناء والتعمير ، وأنّ الهدم أهون من
البناء كما أن القائمين عليه أمضى سلاحاً وأكثر عدداً :
فلو أَلْفُ بانٍ خلفهم هادم كَفَى فكيف ببانٍ خلفه أَلْفُ هادم ؟ !
وبحسب المعلم كذلك أنّ نجاح عمله موقوف على كفاءة النظام التربوي السائد ، وعلى اضطلاع الأسرة بواجباتها ، وعلى قيام وسائل الإعلام بمسؤولياتها ، بل
وعلى كون المجتمع بكافة قطاعاته ومؤسساته ساعياً بصدق وقوة إلى تحقيق الغاية
الكبرى من الحياة الدنيا ، وهي عبادة الله تعالى وتعبيد الأجيال له سبحانه ... فإنْ
صَحّ ذلك وإنّه لصحيح فهل تبقى على المعلم حجة إن غفل أو فشل أو نكص على
عقبيه ؟ ! نعم ؛ لأن تفريط أحد لا يكون حجة لأحد ، ولأنّ أسباب الفشل وإن
تعددت وتجمعت لا تُبطل حقاً ولا تُحقّ باطلاً ؛ ولأن المسلمين لا يكونون إمّعات ،
ولا يقول قائلهم :
وهل أنا إلا من غَزِيّة إنْ غوتْ غويتُ وإنْ ترشدْ غزيّة أرشد
إنّ إحجام مَنْ يُحجم عن أداء واجبه لا يسقط وجوب الواجب ، ونكوص من
ينكص من أهل المسؤولية لا يُحلّ لغيره النكوص ، ولا يُبطل ذلك ولا يقدح فيه ما
يكون بين درجات المسؤولية ومستوياتها من التكامل والتكافل وصِلات التأثّر
والتأثير ، بل الحق الذي لا ريب فيه أنّ فشل الأفشال ونكول الناكلين ما هو في
أعراف المجاهدين الصابرين إلا دوافع إلى مزيد من الصبر والثبات :
ومَن تكن العلياء همّة نفسه فكلّ الذي يلقاه فيها مُحبّبُ
والنفوس الكبيرة تثق بفضل ربها وقدرته ورحمته ، أكثر مما تثق بالقوى
الخاصة والظروف المحيطة ، وطاعة الله تعالى حقّ على الفرد والمجتمع وإن
كثرت الأعباء وثقلت التكاليف ، وبلوغُ الهدف كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز(1/59)
رحمه الله تعالى يتطلب تأسيس العمل على نيّة تستهدف أعلى درجات الكمال
المستطاع ، وإلا كان التوقف والتهافت والنكوص ؛ ولذا يأمرنا القرآن الكريم بأن
نجاهد في الله حقّ الجهاد ، وأن ننشد الأفضل ، ونُسابق على المراتب الأولى ،
ويأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقنع ونرضى بما قسم الله لنا من نعيم
الدنيا ، وأن نسمو إلى مَنْ هم أَسْمى منا في مضمار التقوى والعمل الصالح . يقول :
(خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا
شاكراً ولاصابراً : مَنْ نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به ، ونظر في دنياه
إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله به عليه ، كتبه الله شاكراً صابراً . ومن
نظر في دينه إلى من هو دونه ، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته
منها لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً) [3] .
ومن الثابت قطعاً أنّ الله تعالى لم يكلّف نفساً إلا وسعها ، ولم يأمرها إلا بما
تستطيع ؛ ولكن الوُسْعَ في قوله تعالى : ? لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا ?
[البقرة : 286] ، والاستطاعة في قوله عز وجل : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? [التغابن :16] لا يدل أيّ منهما على تكليف الفرد أو الجماعة ببذل أدنى الجهد ؛ بل كلاهما دليل على التكليف ببذل أعظم الجهد ، وهذا ظاهر في كلمة ? وسْعَهَا ? .
قال الرازي : [والوُسْع والسّعة بالفتح الجدة والطاقة ، وأَوْسَع الرجل صار ذا سَعَة
وغنى ومنه قوله تعالى : ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإنَّا لَمُوسِعُونَ ? [الذاريات : 47] أي
أغنياء قادرون ، والتوسيع خلاف التضييق .. ] [4] ، وقال صاحب الظلال في
تفسير قوله تعالى : ? وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ? [الأنفال : 60] فهي
حدود الطاقة إلى أقصاها بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة(1/60)
يدخل في طاقتها) [5] ؛ ولذا كان المسلم بعشرة من الكفار في حال قوته ، وباثنيْن
منهم في حال ضعفه كما نص على ذلك قوله تعالى : ? إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? [الأنفال :
65 ، 66] .
ولو جاز لامرئ أن يُقيم حركة حياته على الأخذ بالرّخَص ، للزم أرباب
المسؤوليات الكبرى والمعلمُ منهم أن يقيموها على العزائم ، والأمة المسلمة هي أمة
جهاد واجتهاد على كل حال ؛ وهذا المعنى جليّ في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [آل عمران : 200] .
فهل صبر المعلم وصابر ؟ وهل بذل وسعه ، وأدّى ما عليه من حقّ الجهاد
والاجتهاد ؟ ما بال أكثر أبناء المسلمين إذاً يتأسّوْن بـ (نجوم الفنّ) و (أبطال الكرة) ، ويلتمسون المجد في ملاعب الرياضة ودور الأزياء ومعاهد التمثيل ؟ ! بل ما بال
الأمة عامة تستبدل بالأعمال الجليلة ألفاظاً طنانة ، وبالمبادئ العظيمة شعارات تافهة ، وبالجهاد في سبيل الله أشكالاً عقيمة من الشجب والنّدب والتنديد والاحتجاج ؟ !
لقد سقط المعلم إلا من رحم الله في مستنقع الواقع ، وأصبح قانعاً بشرح ما
بين يديه من معلومات أيّاً ما كانت مكتفياً بحشو رؤوس تلاميذه بها دون أدنى اهتمام
ببناء الشخصية المسلمة ، القادرة على التأثير والتغيير ، وهكذا اتّخذت المظاهر
الجوفاء أرباباً تُعبد من دون الله ، وتَحَوّل أكثر طلبة العلم إلى (مرتزقة) ، لا يرون(1/61)
فيه إلا سبباً لكسب الرزق ، أو سبيلاً إلى تحقيق الوجاهة الاجتماعية ، ونسي
الطالب والمعلم كلاهما أنّ العلم لا يُطلب في شرعة الإسلام إلا للعمل ، وأنّ كلاً من
العلم والعمل عبادة يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة ، وأنّ الأجيال التي تتخرج في
المدارس والجامعات وهي لا تعرف معروفاً ، ولا تنكر منكراً إلا ما أُشربتْ من
هواها ليست من العلم على شيء .
إنّ الغاية من التربية والتعليم هي نفسها الغاية من خلق الله تعالى الإنسان في
هذه الدنيا : أن تُعمر الأرض وفق مقتضى المنهج الإلهي العظيم ، فما ينبغي لمعلم
مسلم أن يهون عليه عمله حتى يصبح مجرد دروس تُلقى ، ثم يتفرق الطلبة بعدها
أشتاتاً ، ثم يُسألون عنها فينجحون أو يرسبون ، وما ينبغي للغاية العظمى أن تتحول
من إعداد أجيال تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله على بصيرة ، إلى تخريج أجيال
تحمل الشهادات ، وتميل مع الشهوات ، ثم لا يكون أكبر همّها إلا أنْ تتقلّد الوظائف ، وتُخلد إلى الأرض ، وترضى من الدنيا بمتاعها الرخيص !
كلا ، بل التعليم تربية للأقوياء الأمناء ، العلماء العاملين ، الذين لا يزالون
(ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [6] ، ولقد
وعى أسلافنا الأوائل ذلك حقّ الوعي ، وأخلصوا له كل الإخلاص ، فوفّقهم الله
تعالى لتخريج أجيال عالمة عاملة ، تجعل رضوان الله عز وجل غاية غاياتها ،
وتتخذ من عقيدة الإسلام قوام حياتها ، كما تتخذ من الحلال والحرام مقياساً لسلوكها
وضابطاً لتصرفاتها .
إنّ الله تعالى لم يخلقنا عبثاً ولن يتركنا سدى ، وإنّ ذلّنا المعاصر ليُشير إلى
انحراف خطير عن صراط الغاية التي خُلقنا من أجلها ، والتي نحن محاسبون على
تحقيقها ، فكان حقاً علينا أن نُغَيِّر ما بأنفسنا من انحراف ليغيّر الله تعالى ما بنا من
ذلّ : ? إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? [الرعد : 11] ، وليت(1/62)
شعري ما فَرْقُ بين مَنْ أسلم لله تعالى ومَنْ لم يسلم إذا استويا في الافتتان بزهرة
الحياة الدنيا ، ولم يعلما أنّ ما عند الله خير وأبقى ؟ !
إن الله تعالى لم يأمرنا إلا بالسعي الذي يحقّق شَرْطي الإخلاص والإصابة ،
فما نحن بمسؤولين عن تحقيق النتائج وقطف الثمرات :
على المرء أن يسعى إلى المجد جهده وليس عليه أن تتم الرغائب
حسبنا أن نخلص ديننا لله ربنا ، وأن نحرص على أن نكون الأمناء الأقوياء ،
فإن وُفّقنا إلى تحقيق طلبتنا وبلوغ غايتنا ، فذلك فضل الله علينا ، وإلا فقد أبرأنا
ذممنا واعتذرنا إلى ربنا . قال تعالى في شأن الناهين عن المنكر من بني إسرائيل :
? وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً
إلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ
وَأَخَذْنَا الَذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ? . [الأعراف : 164 ، 165] .
إنّ العمل نفسه مقصود في نظر الإسلام ؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام : (إنْ
قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك
أجر) [7] ، ولا ريب أن نتيجة العمل مطلوبة بقوة ، ولكنها ليست شرطاً في قيام
العمل نفسه ، وإلا لكفّ الناس عن العمل بمجرد تحقيق النتائج ، على أن ذلك لا
يعني أبداً عدم الاهتمام بالنتائج ، فلا بد من درس النتائج ومراجعتها والوقوف على
أسباب تحققها أو تخلّفها ، واستخلاص العِبَر المستفادة منها ، ومن ثم تقويم العمل
نفسه على ضوئها ، ويبقى المعيار الأمثل لنجاح أي عمل في نظر هذا الدين هو أن
يُرضي الله عز وجل ، وبهذا المعنى لا يُخفِق عَمَلُ عاملٍ مسلم ما دام يجمع بين
فضيلتي الإخلاص من جهة والصواب (بموافقة الشرع) من جهة أخرى .(1/63)
فليكن كل معلم مسلم على بصيرة ، وليعلم واقعه وواجبه ، ثم ليأت من ذلك
الواجب ما استطاع . ومن يدري فلعل الله تعالى يبارك عمل المعلمين العاملين ،
فيكشف بهم ما نزل بأمتهم من هوان وخذلان ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو
حسبنا ونعم الوكيل .
________________________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز ؛ لابن عبد الحكم/ 37 .
(2) من الإنصاف أن نشير إلى أن التعليم في المملكة العربية السعودية يمتاز عن التعليم في سائر أنحاء العالم الإسلامي بصبغته الإسلامية الظاهرة ؛ فما ذكرناه حكم عام .
(3) الترمذي ، كتاب صفة القيامة ، باب 58 وانظر : دستور الأخلاق في القرآن ، للدكتور محمد عبد الله دراز ، ص 666 ، وما بعدها ، والحديث إسناده ضعيف ، ضعفه الألباني في الضعيفة رقم (1924) والأرناؤوط فيشرح السنة رقم (4102) - البيان -
(4) مختار الصحاح ، مادة : وسع .
(5) في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله تعالى ، ج3 ، ط9 ، دار الشروق ، ص 1544 .
(6) من حديث رواه مسلم ، وأوله : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين) .
(7) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني ، باب الحرث والزراعة .
دراسات دعوية
التخطيط في خدمة الدعوة إلى دين الله
بقلم : خالد صقير الصقير
لا يخفى على كل داعية نذر نفسه لتحمل هذه الأمانة العظيمة مدى الحاجة إلى
دعوة راشدة تنهض بهذه الأمة ، وتستند إلى قواعد صلبة من كتاب الله ، وسنة
رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وهدي السلف الصالح .
ولا ريب أن من أهم السمات المطلوبة في الداعية إلى الله هي البصيرة
بمفهومها الواسع ، والتي تشمل غير العلم بموضوع الدعوة معاني أخرى كثيرة من
أهمها : وجود الفهم الشامل لدى الداعية بأهداف دعوته ومقاصدها ، وإدراكه
للوسائل الشرعية التي ينبغي أن يسلكها لتحقيق هذه الأهداف ، والتنبؤ بما قد
يعترضه من عوائق ومشكلات ، وهذا الوعي والإدراك لمثل هذه الأمور هو ما
نسميه بلغة الإدارة : (التخطيط) .(1/64)
ماهية التخطيط :
لا شك أن كل داعية إنما يهدف من وراء دعوته إلى تحقيق جملة من
الأهداف ؛ إذن : فما هي أهدافه ؟ ولديه العديد من الوسائل التي ينوي القيام بها :
فما هي أفضل هذه الوسائل لتحقيق أهدافه ؟
ويطمح لأن تتحقق أهدافه ومقاصده : فكيف تتحقق هذه الأهداف بالشكل
المطلوب ؟
ويرد في ذهنه العديد من العوائق والصعوبات عند رسم برامجه : فما السبيل
لتلافي هذه المعوقات وتوقعها مسبقاً ؟
إن هذه الخواطر والتساؤلات تبرز مسيس الحاجة إلى التخطيط في برامجنا
الدعوية ؛ لأن ضعف جانب التخطيط أحياناً وانعدامه في أحيان أخرى أسهم في
إضاعة الكثير من جهود الدعاة وأضعف ثمار أعمالهم الدعوية وأضحى الكثير من
البرامج تنفذ لمجرد التنفيذ فقط أو لتكون أرقاماً تضاف إلى أعداد البرامج المنفذة .
وإذا تأملت في آثارها فلا تكاد تجد لها أثراً في الواقع أو أنها قد حققت الحد
الأدنى من أهدافها ، وبتتبع معظم السلبيات في الجهود الدعوية نجد أن الكثير منها
يمكن إرجاعه إلى ضعف أو انعدام التخطيط .
وهذا لا يعني إغفال العوامل الأخرى كسلامة المنهج وإخلاص النوايا لدى
العاملين ، وغيرها ، ولكن هذه الجوانب قد تكون معلومة لدى معظم الدعاة وليست
بخافية كما هو حال التخطيط الذي لا زال قليلاً أو شبه معدوم في واقع كثير من
الدعاة أو الجهات العاملة في حقل الدعوة ؛ ولا زالت الارتجالية والعشوائية
والفوضى المالية والإدارية أحياناً هي السمة البارزة في كثير من الأعمال الدعوية .
إيجابيات التخطيط :
ويمكن أن نبرز أهم ما يمكن أن يسهم به التخطيط للنهوض بالأعمال الدعوية
والارتقاء بها حتى تحقق أهدافها بإذن الله تعالى ثم بجهود الدعاة الصادقين
المخلصين ، وأبرز هذه الإيجابيات هي :
1- أن التخطيط يحدد أهداف الدعاة وغايات البرامج والمشروعات الدعوية ،
كما يفيد في حسن الأداء أثناء التنفيذ والتقويم الدقيق بعد ذلك ، ولا زال هذا الأمر(1/65)
وهو وضوح الهدف غائباً عن كثير من العاملين في الدعوة ؛ فهو لا شك يدرك
الهدف العام وهو تبليغ دين الله ولكنه قد يجهل الأهداف الخاصة لكل برنامج مما
يُوجِد في كثير من الأحيان سلبيات كثيرة على هذه البرامج .
2- يساعد التخطيط في اختيار طرق الدعوة المناسبة والملائمة لكل داعية
بحسب قدراته وإمكاناته والمتوافقة مع طبيعة البرنامج والأهداف المرسومة له ؛
وفي تحديد الرأي الأقرب للتقوى لكل برنامج ؛ فأحياناً قد يختار الداعية أساليب
للدعوة لا تؤدي إلى نجاح البرنامج : إما لعدم مناسبتها لأهداف البرنامج ، أو لطبيعة
البرنامج وأهدافه ، أو لعدم مناسبتها لإمكانات من يتولى تنفيذ البرنامج وقدراته
الدعوية ، أو أنها غير ملائمة لبيئة الدعوة أو نوع المدعوين وطبيعتهم ، وقد
(يجتهد) الداعية أحياناً في اختيار وسيلة غير منضبطة بضوابطها الشرعية .
3- يجعل من السهل التوقع لمعوقات البرنامج الدعوي التي قد يفاجأ بها
الداعية أثناء أو قبل تنفيذ البرنامج ، ويتم هذا بالاستفادة من المعلومات والبيانات
التي يجمعها واضع الخطة الدعوية مما يجعله بإذن الله أكثر أماناً وأقل عرضة
للمفاجآت التي قد تُذهب جهوده أو تضعف ثمارها إضافة إلى أنه يعالج الخطأ في
الوقت المناسب وقبل أن يتراكم فيمنع الرؤية وتصعب معالجته .
4- يسهم التخطيط في ترتيب الأوليات لدى العاملين والقائمين على البرنامج
الدعوي مما يساعد في اختيار الأهم منها عند حدوث تضارب أو تداخل ، أو عند
الحاجة لتقديم برنامج على الآخر ، أو إلغاء أحدهما ، أو غير ذلك .
5- يُحدث التخطيط كثيراً من الانسجام والتناسق بين أعمال الداعية ، مما
يمنع الازدواجية والتضارب في أعماله وبرامجه ؛ فلا تضيع بفعل ذلك كثير من
الجهود والأوقات التي يمكن استغلالها لتنفيذ برامج أخرى .
6- يعمل التخطيط على توفير كثير من النفقات المالية والجهود البشرية التي(1/66)
توضع في غير موضعها بسبب ضعف التخطيط أو انعدامه مما يساعد على استثمار
هذه الجهود والنفقات لإقامة برامج دعوية أخرى .
ولا شك أن عدم وجود تصور واضح للميزانيات المتوقعة لتنفيذ البرنامج هو
من آثار ضعف التخطيط .
7- يفيد التخطيط في تحديد مواعيد زمنية تضبط بدء الأنشطة وانتهاءها ؛
وهذا يجعل الداعية قادراً على تقويم أعماله ومدى التزامه بالمدة الزمنية المحددة
لتنفيذها ، وكذلك في حسن التوقيت لإقامة البرامج ومنع التضارب مع أنشطة أخرى .
8- يفيد التخطيط في التجديد في الأساليب والوسائل الدعوية وفي البعد عن
الرتابة والتمسك بالأساليب التقليدية ؛ مع التمسك بثوابت المنهج الصحيح في الدعوة .
9- يفيد التخطيط في التنسيق بين العاملين أو الجهات الدعوية في الساحة
الدعوية بأشكال مختلفة سواء في التنسيق في توزيع المواقع الجغرافية ، أو
التخصص في البرامج الدعوية ، أو غير ذلك . كما يفيد في منع التكرار في البرامج
ويحول دون إضاعة الجهود أو إغفال برامج أخرى قد تكون الحاجة إليها أكثر .
10- يفيد التخطيط في تقويم الواقع الدعوي في المواقع المختلفة التي تنفذ
فيها الخطط الدعوية ، وفي تحديد مواطن الضعف في الخطة أو في أسلوب التنفيذ
ليتم تلافيها في الخطط القادمة ؛ وهذا مما يؤكد أهمية التخطيط في أنه يساعد في
عدم تكرار الأخطاء التي ترتكب ، وفي عمل مراجعات شاملة في نهاية كل خطة
دعوية ليتم تقويم النتائج والنسب المتحققة من أهدافها وأبرز سلبياتها وإيجابياتها .
11- يجعل من السهل على الداعية أن يحصر حاجاته من البرامج والأنشطة
والخطط اللازمة لتوجيه مسار الدعوة بالشكل الصحيح .
12- يسهم في معرفة مواضع الضعف في القوى البشرية ومن ثَمّ في تحديد
البرامج التدريبية اللازمة للارتقاء بالكفايات الدعوية من كافة الجوانب العلمية
والإدارية والقيادية .
13- يساعد التخطيط القائمين على الأعمال الدعوية في وضع معايير وأسس(1/67)
لمتابعة أداء الدعاة والعاملين في البرامج ، ومدى تحقيقهم لأهداف البرنامج .
14- يفيد التخطيط في تحديد مهام العاملين في البرنامج الدعوي أو الخطة
الدعوية عموماً ، وطريقة أدائهم ؛ مما يساعد على إدارتهم وتوجيههم بالطريقة
المناسبة لتحقيق الأهداف المطلوبة .
15- يزيد التخطيط من فاعلية وإنتاجية المديرين للبرامج أو الخطط الدعوية ؛ فما دام أن التخطيط يساعد في وضع الأهداف بشكل واضح ومحدد فإنه كذلك
يساعد القائمين عليه في اتخاذ القرارات المناسبة التي تحكمها الأهداف الموضوعة
للخطة الدعوية .
16- يساعد التخطيط في استغلال الفرص الدعوية حيث يفيد في الإعداد
المبكر وحسن التوقيت للبرامج وجمع المعلومات الخاصة بالبرامج وخصوصاً
مواعيد إقامتها ، وتحديد ذلك مسبقاً والإعداد الجيد له .
17- يفيد التخطيط في جعل البرامج والخطط أكثر شمولية وتكاملاً ؛ ويلاحظ
أثر ذلك في جهود بعض الدعاة أو الجهات الدعوية حيث تركز على شرائح معينة
من المجتمع أو على موضوعات وجوانب معينة في برامجها ، وتهمل غيرها ؛ بينما
التخطيط يجعل للعمل الدعوي والجهود الدعوية سمة الشمولية في طروحاتها
وبرامجها .
18- يساعد التخطيط على استمرار الجهود الدعوية بإذن الله فكثيراً ما تتوقف
الأنشطة وتتعطل البرامج بسبب حدوث المفاجآت كانقطاع الدعم ، أو سوء التنفيذ ،
أو سوء التوقيت ، ولعدم وضع بدائل لهذه الحالات الطارئة .
________________________
دراسات تربوية
معالم في المنهج التربوي النبوي
بقلم : محمد عبد الله الدويش
تكامل الشخصية النبوية لنبينا محمد جعلت منه الحاكم والقائد والزوج والمعلم
والداعية والمربي . وما تتبع قارئ للقرآن الكريم والسيرة النبوية إلا وجد فيهما
عناصر التفوق ووسائل النجاح من خلال الكثير من المواقف التربوية الراقية التي
هي قدوة حسنة لكل راغب في الوصول إلى الحق . وعن طريق هذا المنهج ينشأ
الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الإسلامي الكريم .(1/68)
ولقد استقرأ الكاتب نماذج وصوراً من المنهج التربوي النبوي ، وقربها للقارئ
الكريم تذكيراً وترغيباً في هذا المنهج المتكامل الذي أرسل الله به نبيه للناس كافة
? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء : 107] .
وكم نحن بحاجة للوقوف أمام هذه المعالم النبوية وتمثلها في حياتنا وسلوكنا ؛
إذ هي السر في تميز الرعيل الأول رضي الله عنهم أجمعين .
-البيان-
1- الصبر وطول النفس :
يسهل على الإنسان أن يتعامل مع الآلة الصماء ، ويستطيع الباحث أن يصبر
ويكافح في دراسة هذه الظاهرة المادية أو تلك ، لكن التعامل مع الإنسان له شأن
آخر وبعد آخر ، ذلك أن الناس بشر لا يحكم تصرفاتهم ومواقفهم قانون مطرد ؛
فتراه تارة هنا وتارة هناك ، تارة يرضى وتارة يسخط .
ولهذا أجمع المختصون بأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة معقدة ، وأن البحث فيها
تكتنفه صعوبات عدة ؛ فكيف بالتعامل المباشر مع الإنسان والسعي لتقويمه وتوجيه
سلوكه ؟
ومن يتأمل سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى كيف صبر وعانى حتى
ربى هذا الجيل المبارك ، وكم فترة من الزمن قضاها ؟ وكم هي المواقف التي
واجهها ؟ ومع ذلك صبر واحتسب ، وكان طويل النفس بعيد النظر .
إن البشر مهما علا شأنهم فلن يصلوا إلى درجة العصمة ، وهل هناك من هو
أعلى شأناً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا الأنبياء ، فها هم يتنزل
فيهم في بدر : ? لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?
[الأنفال : 68] وفي أحد : ? مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ?
[آل عمران : 152] وفي حنين : ? وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ? [التوبة : 25] .
وحين قسم غنائم حنين وجد بعض أصحابه في نفوسهم ما وجدوا .(1/69)
وكان يخطب فجاءت عير فتبعها الناس فنزل فيهم قرآن يتلى .
ومع ذلك يبقى هذا الجيل وهذا المجتمع هو القمة ، وهو المثل الأعلى للناس
في هذه الدنيا ، ولن تكون هذه المواقف سبباً للحط من شأنهم ومكانتهم رضوان الله
عليهم . فكيف بمن دونهم ؟ ! بل لا يسوغ أن يقارن بهم . إن ذلك يفرض على
المربي أن يكون طويل النفس صابراً عالي الهمة متفائلاً .
2- الخطاب الخاص :
وكما كان يوجه الخطاب لعامة أصحابه ، فقد كان يعتني بالخطاب الخاص
لفئات خاصة من أصحابه .
فقد كان من هديه حين يصلي العيد أن يتجه إلى النساء ويخطب فيهن ، كما
روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم
عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد ، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن
وأمرهن أن يتصدقن ، فجعلت المرأة تلقي القُلْب والخُرْص [1] .
بل تجاوز الأمر مجرد استثمار اللقاءات العابرة ؛ فعن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه أن النساء قلن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : غلبنا عليك
الرجال ؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك . فواعدهن يوماً ، فلقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ، فكان مما قال : (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من
النار) . فقالت امرأة : واثنين فقال : (واثنين) [2] .
وقد يكون الخصوص لقوم أو فئة دون غيرهم ، كما فعل في غزوة حنين حين
دعا الأنصار ، وأكد ألا يأتي غيرهم .
وكما بايع بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً .
3- المشاركة العملية :
اعتاد بعض المربين أن يكون دورهم قاصراً على إعطاء الأوامر ومراقبة
التنفيذ ، وهو مسلك مخالف لمنهج المربي الأول ، الذي كان يعيش مع أصحابه
ويشاركهم أعمالهم وهمومهم .
فشاركهم في بناء المسجد : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن(1/70)
عوف ، فأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم أربع عشرة ليلة ... وجعلوا ينقلون
الصخر وهم يرتجزون والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وهو يقول : اللهم لا
خير إلا خير الآخرة ؛ فاغفر للأنصار والمهاجرة) [3] .
وشاركهم في حفر الخندق : فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال :
كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق ، وهو يحفر ونحن ننقل
التراب ويمر بنا فقال : (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار
والمهاجرة) [4] .
وكان يشاركهم في الفزع للصوت : فعن أنس رضي الله عنه قال : كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة
فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد استبرأ الخبر
وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول : (لم تراعوا لم
تراعوا) ثم قال : (وجدناه بحراً ، أو قال : إنه لبحر) [5] .
وأما مشاركته لهم في الجهاد : فقد خرج في (19) غزوة [6] ، بل قال عن
نفسه : (ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية) [7] .
وهي مشاركة لا تلغي دورهم وتحولهم إلى مجرد آلات صماء ، بل هي تدفع
للتوازن بين هذا وبين تعويدهم على العمل والمشاركة .
إن مجرد إصدار الأوامر والتوجيه أمر يجيده الجميع ، لكن الدخول مع الناس
في الميدان ومشاركتهم يرفع قيمة المربي لديهم ويعلي شأنه ويشعرون أنه واحد منهم ، وذلك أيضاً يدفعهم لمزيد من البذل والهمة والحماس عكس أولئك الذين يدعون
للعمل ويربيهم بعيدٌ عنهم ، وقد عبر عن هذا المعنى ذاك الحداء الذي كان يردده
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- :
لئن قعدنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل لذاك منا العمل المضلل
ثم إنه يشيع روح الود والإخاء ، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين
المربي ومن يربيهم .
4- التربية بالأحداث :(1/71)
من السهل أن نحدث الناس كثيراً عن معاني عدة ، وأن ننظر لجوانب متعددة ، لكن ذلك وإن أتّر فإن أثره يبقى باهتاً محدوداً .
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فمع توجيهه لأصحابه في كل موطن ، إلا
أن تربيته كانت تتم من خلال الأحداث ، فكان يضع الناس في الموقع والميدان
ويأتي التوجيه حينها .
يشكو إليه الحالَ أبو بكر رضي الله عنه وهما في الغار ، فيقول : (ما ظنك
باثنين الله ثالثهما) .
ويسأله رجل في الميدان والمعركة : أرأيت إن قتلت ؟ فيجيبه إجابة تصل إلى
شغاف قلبه فيتقدم حتى يستشهد ؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال
رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد : أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : (في
الجنة ? فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل) [8] .
ويوصي علياً رضي الله عنه بالدعوة ويذكِّره بفضلها وذلك ؟ حين بعثه داعياً
إلى الله مجاهداً في سبيله . عن سهيل بن سعد رضي الله عنه قال : قال النبي -
صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر : (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب
الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويحبه الله ورسوله) فبات الناس ليلتهم أيهم
يعطى ، فغدوا كلهم يرجوه ، فقال : (أين علي ؟ ) فقيل يشتكي عينيه ، فبصق في
عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ،
فقال : (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما
يجب عليهم ؛ فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر
النعم) [9] .
أترى أن تلك التوجيهات لو تلقاها أصحابها وهم جالسون قاعدون في بيوتهم
ستترك أثرها ؟ إن مثل هذه التربية هي التي خرّجت الجيل الجاد العملي ، الذي لم
يتربّ على مجرد التوجيه الجاف البارد ، إنما كان يعيش العلم والعمل معاً .
5- الاختيار والاصطفاء :
إن التربية كما أنها موجهة لكل أفراد الأمة أجمع مهما كان شأنهم ، والدين(1/72)
خطاب للجميع صغاراً وكباراً ، رجالاً ونساءً .
إلا أن الدعوة تحتاج لمن يحملها ولمن يقوم بأعبائها ، إنها تحتاج لفئة خاصة
تُختار بعناية وتُربى بعناية .
لذا كان هذا الأمر بارزاً في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتربيته
لأصحابه ؛ فثمة مواقف عدة في السيرة يتكرر فيها ذكر كبار أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- وعلى رأسهم أبو بكر وعمر ؛ مما يوحي أن هؤلاء كانوا يتلقون
إعداداً وتربية أخص من غيرهم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن
الخطاب وقد وضع على سريره ؛ إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي
يقول : رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت
أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (كنت وأبو بكر وعمر ، وفعلت
وأبو بكر وعمر ، وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما ؛
فالتفتّ فإذا هو علي بن أبي طالب [10] .
ومنها قصة أبي هريرة حين كان بواب النبي -صلى الله عليه وسلم- ،
فاستأذن أبو بكر ، فقال : ( ائذن له وبشره بالجنة ) ، ثم استأذن عمر ، ثم عثمان [11] .
وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- صعد أُحُداً وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم فقال : (اثبت أُحُد ؛ فإنما
عليك نبي -صلى الله عليه وسلم- ، وصدِّيق ، وشهيدان) [12] .
ومثله ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير فتحركت
الصخرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (اهدأ ؛ فما عليك إلا نبي ، أو
صدِّيق ، أو شهيد) [13] .
ويحكي لنا أحد أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن توجيه خاص بهم ،
حين بايعهم على أمر لم يعتد أن يبايع عليه سائر الناس .
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله -صلى(1/73)
الله عليه وسلم- تسعة ، أو ثمانية ، أو سبعة ، فقال : (ألا تبايعون رسول الله ؟ )
وكنا حديثي عهد ببيعة ، فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ،
ثم قال : (ألا تبايعون رسول الله ؟ ) فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال : (ألا
تبايعون رسول الله ؟ ) قال : فبسطنا أيدينا ، وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ؛ فعلامَ
نبايعك ؟ قال : (على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، والصلوات الخمس ،
وتطيعوا ، وأسرّ كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيت بعض أولئك النفر
يسقط سوط أحدهم ؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه [14] .
وهذا الأمر لم يكن عاماً لأصحابه رضوان الله عليهم ، بل خاصاً بهؤلاء ، فقد
كان بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ويعطيهم ، ولم يكن
يمنعهم أو ينهاهم عن السؤال .
ومن ذلك أنه كان لا يأذن بالسؤال لخاصة أصحابه كما يأذن لغيرهم ، كما
روى نواس بن سمعان رضي الله عنه قال أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء ، قال : فسألته عن البر والإثم ، فقال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك
وكرهت أن يطلع عليه الناس) [15] .
6- التدرج :
إن الجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع
والتعدد والتنوع ما يجعل تحصيلها في وقت وجهد أمر عسير ومتعذر .
لذا فإن التدرج كان معلماً مهماً من معالم التربية النبوية ، فخوطب الناس
ابتداء بالاعتقاد والتوحيد ، ثم أمروا بالفرائض ، ثم سائر الأوامر .
وفي الجهاد أمروا بكف اليد ، ثم بقتال من قاتلهم ، ثم بقتال من يلونهم من
الكفار ، ثم بقتال الناس كافة . ومثل ذلك التدرج في تحريم الخمر ، وإباحة نكاح
المتعة ثم تحريمها ، وهكذا . لكن يبقى جانب مهم مع الإيمان بمبدأ التدرج ، ألا(1/74)
وهو أن ما نص الشرع على تحريمه لا يجوز أن نبيحه للناس ، وما نص على
وجوبه لا يجوز أن نسقطه عن الناس .
7- تربية القادة لا العبيد :
ثمة سؤال يفرض نفسه ويقفز إلى أذهاننا : هل نحن نعنى بتعليم الناس
وتهيئتهم ليكونوا أهل علم يستنبطون ، ويبدعون ويبتكرون ؟ أم أننا نربيهم على
تلقي أقوال أساتذتهم بالتسليم دون مراجعة ، وربما دون فهم لمضمون القول ؟
هل نرى أن من أهدافنا في التعليم أن نربي ملكة التفكير والإبداع لدى طلابنا ، وأن نعوِّدهم على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص ، وعلى الجمع بين ما
يبدو متعارضاً ؟
وهل من أهدافنا تربيتهم على تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع التي يرونها ؟
إن المتأمل في واقع التعليم الذي نقدمه لأبنائنا ليلحظ أننا كثيراً ما نستطرد في
السرد العلمي المجرد ، ونشعر بارتياح أكثر حين نقدم للطالب كماً هائلاً من
المعلومات ، وهو الآخر لِمَا غرسنا لديه يقيس مدى النجاح والإنجاز بقدر ما يسطره
مما يسمعه من أستاذه ، والتقويم والامتحان إنما هو على أساس ما حفظه الطالب من
معلومات ، واستطاع استدعاء ذلك وتذكره .
وشيء من ذلك حق ولا شك ؛ لكن توجيه الجهد لهذا النوع وهذا النمط من
التعليم لا يعدو أن يخرج جيلاً يحفظ المسائل والمعارف ثم ينساها بعد ذلك أو يكون
ظلاً لأستاذه وشيخه .
ولأن تُعَلِّمَ الجائع صيد السمك خيرٌ من أن تعطيه ألف سمكة .
وقد مثل ذلك في الأعمال الدعوية التي نقوم بها ؛ فهل نحن نربي الناس على
أن يكونوا عاملين مبدعين مشاركين ، أم نربيهم على مجرد الاتباع والتقليد لما عليه
كبراؤهم ؟
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت تربيته لأصحابه لوناً آخر ؛ ففي
تربيته العلمية لهم خرّج علماء وفقهاء ، ولم يكن يقتصر على مجرد إعطاء معلومات
مجردة .
وكشف الواقع آثار هذه التربية النبوية ، ففي ميدان العلم واجهت أصحابه
قضايا طارئة مستجدة ؛ لكنهم لم يقفوا أمامها حيارى ، فاستثمروا نتاج التربية(1/75)
العلمية التي تلقوها ، ولذا اجتهدوا في اتخاذ السجون ، وجمع القرآن ، وجلد الشارب ، والخراج وغيرها .
وفي ميدان الجهاد وإدارة الدولة والدعوة قضوا في شهور على المرتدين بعد
أن حسموا الموقف الشرعي من قضية الردة ، ثم اتسعت الدولة ووطئت أقدام
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بلاد المشرق حتى وصلوا أذربيجان وما
وراء النهر ، وبلاد المغرد حتى وصلوا غرب أفريقيا ، ودفن منهم من دفن تحت
أسوار القسطنطينية .
ولو تربى أولئك على غير هذه التربية لما صنعوا ما صنعوا .
فأين المربون اليوم الذين يترك أحدهم الفراغ حين يمضي ؟ أين هم من هذه
التربية النبوية ؟
8- التوجيه الفردي والجماعي :
لقد كان يجمع بين التربية والتوجيه الفردي من خلال الخطاب الشخصي
المباشر ، وبين التربية والتوجيه الجماعي .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( علمني رسول الله التشهد كفي بين كفيه ) [16] .
ومن ذلك ما ورد عن غير واحد من أصحابه : أوصاني رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- .
ومن ذلك حديث معاذ رضي الله عنه كنت رديف النبي -صلى الله عليه
وسلم- على حمار فقال : (يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد ؟ وما حق العباد
على الله ؟ ) [17] .
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما زوّجه أبوه امرأة فكان
يتعاهدها ، فتقول له : نِعْمَ الرجل لم يكشف لنا كنفاً ولم يطأ لنا فراشاً تشير إلى
اعتزاله فاشتكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فدعاه فكان معه الحوار الطويل
حول الصيام وختم القرآن وقيام الليل .
وقد كان هذا الحوار والتوجيه له شخصياً ، بينما نجد أنه في مواقف أخر
يوجه توجيهاً عاماً ، كما في خطبه ولقاءاته وتوجيهاته لعامة أصحابه ؛ وهي أشهر
من أن تورد وتحصر .
وها هنا مأخذ مهم في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه إذ
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه وناقشه منفرداً به ، بينما نجده في موقف آخر(1/76)
شبيه بهذا الموقف يعالج الأمر أمام الناس ؛ فحين سأل طائفةٌ عن عبادته وتقالّوها
وقالوا ما قالوا صعد المنبر وخطب في الأمر .
عن أنس رضي الله عنه أن نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-
سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا
أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ؛
فحمد الله وأثنى عليه فقال : (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ، لكني أصلي وأنام ،
وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني) [18] .
ومثل ذلك في قصة الذي قال : هذا لكم وهذا أهدي إليّ ، فعن أبي حميد
الساعدي رضي الله عنه قال استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد
يقال له ابن الأتبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- على المنبر قال سفيان أيضاً فصعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال : (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول : هذا لك ، وهذا لي ؛ فهلاّ جلس في
بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده ! لا يأتي بشيء إلا جاء به
يوم القيامة يحمله على رقبته : إن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة
تيعر) ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه : (ألا هل بلغت) ثلاثاً [19].
إذن فهناك جوانب يمكن أن تطرح وتناقش بصورة فردية ، ولا يسوغ أن
تطرح بصفة عامة ، ولو مع عدم الإشارة إلى صاحبها ؛ لأنها ربما كانت مشكلات
فردية لا تعني غير صاحبها ، بل قد يكون ضرر إشاعتها أكثر من نفعه .
وهناك جوانب يجب أن تطرح بوضوح وبصورة عامة وتعالج وتناقش أمام
الجميع .
والمربي الناجح هو الذي يضع كل شيء موضعه .
9- التعويد على المشاركة والعمل :
اعتاد كثير من ناشئة المسلمين اليوم أن يُكفى كل شيء ، فهو في المنزل يقدم
له الطعام والشراب ، ويتولى أهله تنظيم غرفته وغسل ملابسه ، فساهم ذلك في(1/77)
توليد جيل كسول لا يعرف العمل والمسؤولية .
وفي المدرسة وميادين التعليم اعتاد التلاميذ الكسل الفكري ، وصار دورهم
مجرد تلقي المعلومات جاهزة دون أي جهد ، وحتى حين يطلب منهم بحث أو مقالة
فلا بد أن تحدد لهم المراجع ، وبأرقام الصفحات ، وقل مثل ذلك في كثير من
المحاضن التربوية .
إننا حين نريد تخريج الجيل الجاد فلابد من تعويده من البداية على المشاركة
وتحمل المسؤولية : في المنزل بأن يتولى شؤونه الخاصة ، وفي المدرسة بأن يبذل
جهداً في التعلم .
وعلى القائمين اليوم على المحاضن التربوية أن يأخذوا بأيدي تلامذتهم ، وأن
يسعوا إلى أن يتجاوزوا في برامجهم التي يقدمونها القوالب الجاهزة ، وأن يدركوا
أن من حسن تربية الناشئة أن يمارسوا المسؤولية ، وألا يبقوا أكلاّء على غيرهم في
كل شيء ، فينبغي أن يكون لهم دور ورأي في البرامج التي يتلقونها .
وحين نعود لسيرة المربي الأول فإننا نرى نماذج من رعاية هذا الجانب ؛ فهو
يعلم الناس أن يتحملوا المسؤولية أجمع تجاه مجتمعهم ، فليست المسؤولية لفرد أو
فردين ؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال النبي -صلى الله عليه
وسلم- : (مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة ، فصار
بعضهم في أسفلها ، وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء
على الذين في أعلاها ، فتأذوا به ، فأخذ فأساً ، فجعل ينقر أسفل السفينة ، فأتوه ،
فقالوا : ما لك ؟ قال : تأذيتم بي ، ولا بد لي من الماء ، فإن أخذوا على يديه أنجوه
ونجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم) [20] .
ومن ذلك أيضاً استشارته لأصحابه في كثير من المواطن ، بل لا تكاد تخلو
غزوة أو موقف مشهور في السيرة من ذلك ، وفي الاستشارة تعويد وتربية لهم ،
وفيها غرس للثقة ، وفيها إشعار لهم بالمسؤولية ، ولو عاش أصحاب النبي -صلى
الله عليه وسلم- على خلاف ذلك ، أتراهم كانوا سيقفون المواقف المشهودة في(1/78)
حرب أهل الردة وفتوحات فارس والروم ؟
وعلى المستوى الفردي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يولي أصحابه
المهام ، من قيادة للجيش وإمارة ودعوة وقضاء وتعليم ، فأرسل رسله للملوك ،
وبعث معاذاً إلى اليمن ، وأمّر أبا بكر على الحج ، بل كان يؤمِّر الشباب مع وجود
غيرهم ، فأمّر أسامة على سرية إلى الحرقات من جهينة [21] ، ثم أمّره على جيش
يغزو الروم [22] ، وولى عثمان بن أبي العاص إمامة قومه [23] ... وهكذا
فالسيرة تزخر بهذه المواقف .
فما أجدر الدعاة والمربين اليوم أن يسيروا على المنهج نفسه ليخرج لنا بإذن
الله جيل جاد يحمل المسؤولية ويعطيها قدرها .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/1431 ، ومسلم ، ح/884 القلب : الإسورة الخُرص : القرط .
(2) رواه البخاري ، ح/101 ، ومسلم ، ح/2633 .
(3) رواه البخاري ، ح/428 ، ومسلم ، ح/ 524 .
(4) رواه البخاري ، ح/6414 ، ومسلم ، ح/ 1804 .
(5) رواه البخاري ، ح/2908 ، ومسلم ، ح/2307 .
(6) رواه البخاري ، ح/3949 ، ومسلم ، ح/1254 .
(7) رواه البخاري ، ح/36 ، ومسلم ، ح/1876 .
(8) رواه البخاري ، ح/4046 .
(9) رواه البخاري ، ح/3009 .
(10) رواه البخاري ، ح/3677 ، ومسلم ، ح/2389 .
(11) رواه البخاري ، ح/3674 ، ومسلم ، ح/2403 .
(12) رواه البخاري ، ح/ 3675 .
(13) رواه مسلم ، ح/2417 .
(14) رواه مسلم ، ح/1403 .
(15) رواه مسلم ، ح/2553 .
(16) رواه البخاري ، ح/831 ، ومسلم ، ح/402 .
(17) سبق تخريجه .
(18) رواه مسلم ، ح/1401 .
(19) رواه البخاري ، ح/7174 ، ومسلم ، ح/1832 .
(20) رواه البخاري ، ح/2686 .
(21) رواه البخاري ، ح/4269 ، ومسلم ، ح/96 .
(22) رواه مسلم ، ح/468 .
(23) رواه مسلم ، ح/468 .
تأملات دعوية
لنحترم أوقات الآخرين
عبد الله المسلم
ندرك جميعاً أن من واجبات المرء أن يحافظ على وقته ويرعاه ، وأن يحاسب
نفسه على الأوقات التي أضاعها لا الأوقات التي اغتنمها .(1/79)
لكننا أحياناً في تعاملنا مع غيرنا خاصة من أهل العلم والدعوة الذين
يقصدهم الناس ويزدحمون عند أبوابهم ربما أسأنا لأوقاتهم من حيث لا نشعر ،
وأحياناً يغيب عن أذهاننا أن من مسؤوليتنا المحافظة على أوقات الآخرين أو على
الأقل احترامها .
ومن صور تلك المحافظة : افتراض الخلاف حول تحديد الأولويات ، فما نراه
مهماً لدينا قد لا يكون كذلك لديهم ، وحتى حين يبقى الخلاف قائماً فالقضية تتعلق
بصاحب الوقت ؛ فرأيه أوْلى أن يعتبر .
وقد نرى أننا بحاجة إلى مساعدة شخصية من أمثال هؤلاء ، كقراءة مسودة
كتاب ، أو مشروع عمل ، أو تقديم استشارة في أمر ما ، وهذا مطلب مشروع ؛
لكنه حين يتجاوز دائرة الطلب إلى الإلحاح والإصرار فهو ينم عن صورة من صور
الوصاية على أوقات الآخرين .
وحين يعتذر لنا بالانشغال فتقديرنا لانشغاله وقبولنا لعذره يمثل صورة من
صور احترام وقته ، وكيف نلوم من اعتذر عن استقبالنا وهو حق شرعي له ؛ وقد
أدّبنا القرآن بهذا الأدب ? وَإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ?
[النور : 28] والرجوع الأزكى ينبغي أن يصحب بالتقدير للاعتذار لا الانصراف بالسخط واللوم .
روى ابن جرير بإسناده إلى قتادة قال : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت
عمري كله هذه الآية ، فما أدركتها : أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي :
ارجع ، فأرجع وأنا مغتبط ? وَإن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ? [النور : 28] .
وقد جاء تحديد ذلك بالثلاث في السّنّة النبوية ، فعن أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له
فليرجع) [1] .
وتقدير الانشغال بأعمال خاصة بهم أنفسهم كالذكر والقراءة ونحو ذلك مظهر
من مظاهر رعاية أوقاتهم ، خلافاً لما يسلكه بعض الناس حين يقدم على من هو
منشغل بذكر أو تلاوة فيقطع عليه ذلك لأمر لا يستحق .(1/80)
وقد نبه ابن القيم رحمه الله إلى أن إيثار المرء الناس بوقته أمر يفسد عليه
حاله فقال : (مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك ، وتوجهك وجمعيتك على الله ،
فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار ، فيكون مثلك كمثل مسافر
سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه ، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق ، وهذا
حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى ؛ فإيثارهم عليه عين الغبن ، وما
أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره ، وما أقل المؤثرين الله على غيره . وكذلك
الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً ، مثل أن يؤثر بوقته ، ويفرق قلبه في
طلب خلقه ، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله ؛ فيفرق قلبه عليه بعد
جمعيته ، ويشتت خاطره ، فهذا أيضاً إيثار غير محمود . وكذلك الإيثار باشتغال
القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك ، على الفكر النافع ،
واشتغال القلب بالله ، ونظائر ذلك لا تخفى ، بل ذلك حال الخلق ، والغالب عليهم .
وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثر به أحداً ؛ فإن
آثرت فإنما تؤثر الشيطان وأنت لا تعلم) [2] .
ومن مظاهر احترام أوقات الآخرين احترام مواعيدهم من حيث الانضباط فيها ، والاعتذار عند حصول مانع مفاجئ .
ومن الأدب مع أوقاتهم ، أن يبادر المرء بالاستئذان متى ما انتهى من شغله
وحاجته ، أو شعر أنه قد أطال بما فيه الكفاية ؛ إذ قد يجد الرجل حرجاً من أن
يطلب من زائره الانصراف وهو ربما كان ينتظر انصرافه على أحر من الجمر .
وقد يظن بعض الناس أن الإلحاح في الدعوة والمشاركة في المناسبات
الخاصة أمر يعكس عظم قدر الشخص عنده ، وقد لا يكون الأمر كذلك ، بل يمثل
إهداراً لوقت كان يمكن أن يستفيد منه فيما هو أوْلى .
ويبقى الأمر بعد ذلك محتاجاً إلى الاتزان ؛ فعلى الدعاة وأهل العلم أن يسعوا
للإعطاء من أوقاتهم والاحتساب في ذلك ، وعلى من يعاملهم أن يوازن بين استفادته(1/81)
من أوقاتهم ، وبين إسهامه في المحافظة عليها .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/6245 ، ومسلم ، ح/2154 .
(2) مدارج السالكين ، 2/310 .
تأصيلات دعوية
كيف نعالج الاختلاف ؟
مبارك عامر بقنه
الاختلاف بين البشر ظاهرة طبيعية ، وأمر فطري ؛ وذلك لاختلاف عقولهم
وأفهامهم وتعدد رغباتهم وأهوائهم مما يؤثر في تصورهم للأشياء ، ومن ثَمّ حكمهم
على الأمور . وبعض الاختلاف قد يكون سائغاً ومقبولاً ؛ وذلك إذا كان الاختلاف
في الأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص قطعي الدلالة والثبوت ؛ فهذا لا ضير فيه
إذا بذل الإنسان فيه وسعه وكان قصده الحق من غير تعصب ولا هوى متبع ؛ فإنه
يكون مأجوراً وإن أخطأ ، وهذا الذي وقع بين الصحابة - رضي الله عنهم - وهو
الذي يكثر وروده في كتب الفقه . وهذا النوع هو اختلاف تنوع لا يوجب شقاقاً أو
نفرة . قال يحيى بن سعيد : (ما برح المستفتون يُستفتون ، فيحل هذا ، ويحرم هذا ، فلا يرى المحرِّم أن المحلل هلك لتحليله ، ولا يرى المحلل أن المحرِّم هلك
لتحريمه) [1] .
وأما الاختلاف في أصول الدين كالاختلاف في الألوهية أو الربوبية أو
الأسماء والصفات أو في الرسل أو في القرآن ، أو نحو ذلك من أصول الاعتقاد ،
فإنه لا يسيغ الاتفاق والاجتماع على ذلك ؛ لأن في ذلك فساد الدين ، ونصر الباطل ، وتأييد أهل البدع على بدعتهم ، بل يجب أن يكون موقفنا ممن خالف أمراً معلوماً
من الدين بالضرورة الافتراق ؛ لأن التعاون والتكاتف لا يكون على حساب الدين
والقيم ومبدأ الإسلام . فإن الجماعة والوحدة المطلوبة هي ما وافقت الحق ولو كانت
فئة قليلة . قال عمرو بن ميمون الأودي : (صحبت معاذاً باليمن ، فما فارقته حتى
واريته التراب بالشام ، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه - فسمعته يقول : عليكم بالجماعة ، فإن يد الله على الجماعة ، ثم سمعته يوماً(1/82)
من الأيام وهو يقول : سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فصلوا
الصلاة لميقاتها ، فهي الفريضة ، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة . قال : قلت : يا
أصحاب محمد ، ما أدري ما تحدثونا ؟ قال : وما ذاك ؟ قلت : تأمرني بالجماعة
وتحضني عليها ، ثم تقول : صلِّ الصلاة وحدك ، وهي الفريضة ، وصل مع
الجماعة وهي نافلة ؟ قال : يا عمرو بن ميمون ، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه
القرية ، تدري ما الجماعة ؟ قلت : لا . قال : إن جمهور الجماعة : الذين فارقوا
الجماعة ؛ الجماعةُ ما وافق الحق ، وإن كنت وحدك) [2] .
وتشتد حاجة الأمة في هذا العصر إلى الوحدة والترابط بالمفهوم الشامل ،
فالعالم اليوم يسعى إلى التضامن والتوحد من أجل السيطرة والبقاء ، فنحن نعيش في
عصر التكتل والجماعات ؛ فلا بقاء للوحدة والانفراد . فلا بد أن يكون في حس
الداعي إلى الله الدعوة إلى ائتلاف القلوب ، ووحدة الصف ، وجمع الكلمة على
الحق ، ونبذ الفرقة والشقاق : ? وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ?
[المؤمنون : 52] . فهذا هارون - عليه السلام - عندما عبد بنو إسرائيل العجل
نهاهم عن ذلك وحذرهم وقال لهم : ? يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ
فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ? [طه : 90] ، فلما رجع موسى - عليه السلام - عاتب
هارون - عليه السلام - بسبب تأخره عنه ؛ حيث لم يلحقه فيخبره بما حدث ، فكان
جواب هارون - عليه السلام : ? إنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ
تَرْقُبْ قَوْلِي ? [طه : 94] ، فاعتذر بعدم اللحاق به بأنه خشي فرقة بني إسرائيل ،
فحرص على وحدة قومه واجتماعهم على ما فيهم من منكر عظيم إلى أن يرجع إليهم
موسى - عليه السلام - فيحكم بينهم .
فالاختلاف والتفرق من أشد العوامل التي تنخر في جسد الأمة حتى تجعلها(1/83)
كالخشبة المسندة ، تسقطها أدنى ريح ، وتقلعها أهون عاصفة . فالاختلاف يسبب
العداوة والبغضاء والتحزب والتقاتل ؛ ولذلك جاء النهي عنه والتحذير منه في آيات
وأحاديث كثيرة ، كقوله - تعالى : ? وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشرِكِينَ (31) مِنَ الَذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ? [الروم : 31-32] وقوله -
تعالى : ? أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ? [الشورى : 13] ، وقول النبي : ( أيها
الناس عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة . ثلاث مرات ) [3] . وقوله : ( لا تختلفوا ،
فإن من كان قبلكم اختلفوا ، فهلكوا) [4] .
ومع هذا التحذير إلا أننا نجد أن الشارع الحكيم قد أخبر أن الاختلاف واقع في
هذه الأمة قَدَراً وأنه لا مفر منه قال - تعالى : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ?
[هود : 118- 119] ففي رواية عن الحسن البصري أنه قال : ( وللاختلاف خلقهم ) [5] . وفي الحديث : ( وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) [6] والجمع بين الأخبار التي وردت بأن الاختلاف واقع في هذه الأمة وبين النهي عن الاختلاف والتفرق ، هو أن الاختلاف لا بد أن يقع على هذه الأمة ولكن ليس على جميعها ، فالله عصم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الضلال ؛ فلا تزال طائفة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ؛ ففي الأوامر الشرعية حث على الاعتصام بهذه الطائفة المنصورة التي تسترشد بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف من خالف ؛ ففي النهي عن الاختلاف تكثير لهذه الطائفة المنصورة ، وتثبيتها ، وزيادة إيمانها [7] .
وكذلك فيه أمر بالمعروف وإنكار على هذا الاختلاف والتفرق ؛ فهو لا يعني(1/84)
الاستسلام للخلاف وعدم المحاولة في إزالة أسبابه ، وقلع جذوره ؛ لا ، ليس هو
كذلك ؛ فنحن مطالبون شرعاً بالاعتصام والائتلاف ، ونبذ الفرقة والاختلاف .
فيجب أن نفرق بين الأمر الشرعي والأمر القدري . فعلينا أن نسلك الأسباب
والآداب التي تمنع الاختلاف والتشتت ؛ ومن هذه الأسباب :
1- الاعتصام بالكتاب والسنة : فأحكام الله ورسوله جاءت لتؤلف القلوب ،
وتوحد الصف ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [الأنعام : 153] . فالرجوع عند التنازع إلى
كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من أنجع السبل في الوقاية من داء
الاختلاف ، كما قال الله - تعالى : ? فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاًوِيلاً ? [النساء : 59]
ونستضيء بفهم السلف الصالح لفهم نصوص الوحي حتى لا نضل وتموج بنا
الأهواء ، فلا تقدم الآراء والعقول على الوحي المطهر فتلوى أعناق النصوص
وتُؤول لتوافق شهوة في النفس ، فترد الأخبار الصحيحة ويصبح الدين لا مرجعية
له إلا الآراء والعقول الفاسدة .
وفي هؤلاء يقول عمر - رضي الله عنه : (أصبح أهل الرأي أعداء السنة ؛
أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا : لا
نعلم) [8] .
2- العلم والفهم بالمسألة المختلف فيها : فكثير ما تحدث الخلافات في القضايا
بسبب عدم الإلمام بالمسألة من جميع جوانبها ، فلو أحاط الشخص بالمسألة لوجد أن
هناك متسعاً في الأمر . (فكثيراً ما يؤدي الاهتمام بناحية - أي ناحية - على حساب
الفهم الكلي إلى الانحراف عن الطريق السوي ، ولعل هذا من أكبر أسباب نشوء(1/85)
الفرق الإسلامية) [9] . قال ابن تيمية : (أكثر ما يكون المنازعة في الشيء القليل
قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه) [10] . قال الشاطبي : (الاختلاف في بعض
القواعد الكلية لا يقع في العادة الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة ، الخائضين
في لجتها العظمى ، العالمين بمواردها ومصادرها) [11] ، فقد يعتقد الإنسان في
نفسه - بعد قراءته لبعض الكتب - أنه من أهل العلم والاجتهاد ، فإذا به يتصدر ،
ويخالف العلماء ويقول برأيه ، فيهدم من حيث لا يدري ، ويضل الناس من حيث لا
يشعر ، فعن ابن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي لله قال : (إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق
عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا) [12] . قال بعض العلماء : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قِبَلِ
علمائهم ، وإنما يؤتون من قِبَلِ أنه إذا مات علماؤهم ؛ أفتى من ليس بعالم ، فيؤتى
الناس من قِبَلِهِ [13] .
3- التثبت والتبين : فكثير من الناس يحكمون على الآخرين من خلال ما
يسمعونه عنهم من غير أن يكلفوا أنفسهم السؤال والتحري عن حقيقة ما سمعوا ؛ قد
يكون ما سمعوه هو من اختلاق بعض المغرضين القاصدين للفرقة والنزاع في
الصف الإسلامي . والتثبت مما نسمع هو من منهج الأنبياء - عليهم صلوات الله
وسلامه - ، فهذا سليمان - عليه السلام - يقول للهدهد بعد أن أخبره الخبر :
? سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ ? [النمل : 27] وقد عاتب الله داود في حكمه للخصمين قبل أن يسمع ويتثبت من الآخر ، قال النحاس : (ويقال إن خطيئة داود هي قوله : ? لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ ? [ص : 24]لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت) [14] والله - سبحانه - يقول : ? إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا ??(1/86)
[الحجرات : 6] . ومن أصول التثبت في الأخبار هو النظر في عدالة المخبر ، وضبطه لما ينقل ، والتبين ممن أخذ المخبر ؛ فقد يكون أخذه من كاذب ، ثم النظر في هذا الخبر قبل الحكم على الأمر ؛ فقد يحتمل أوجهاً متعددة فيحمل على أحسنها .
4- الحوار في المختلف فيه : فطرح القضية للنقاش بأسلوب هادئ بعيد عن
التجريح وتسفيه رأي الآخر ، مع إتاحة الفرصة لتبادل الرأي ، وسماع الطرف
الآخر ، خليق بأن يجعل هناك نوعاً من التقارب في وجهات النظر . ومما يؤسف
له حقيقة أن كثيراً من المختلفين لا يجتمعون ولا يتحاورون فيما بينهم ، وإن
اجتمعوا للنقاش والتحاور فلا يحسنون آداب الحوار وعرض القضايا ، مما يجعل
كل طرف يتعصب لرأيه وإن ظهر له الحق خلاف ذلك . ولكي تتقبل الآراء يجب
أن يكون الحوار بالحسنى ، فإذا كان الله أمرنا أن نجادل أهل الكتاب بالحسنى ،
فإخواننا في العقيدة أوْلى بذلك منهم .
5- حسن الظن بالطرف الآخر : فالشكوك والقدح في نيات الآخرين كفيلة
بإيجاد جفوة وشقة بعيدة لا يمكن التلاقي فيها ، فكل قول أو فعل يحمل على خلاف
الظاهر المتبادر منه للذهن من دون قرينة تصرفه عن ظاهره فيه ظلم وتجنٍّ على
الآخرين ، ورحم الله الشافعي حيث قال : (رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي
غيري خطأ يحتمل الصواب) . فهكذا يجب أن نحمل آراء الآخرين على المحمل
الحسن ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً ، عندها سنجد أن كثيراً من الاختلافات قد زالت .
6- الإخلاص في تحري الحق : فالانتصار للذات ، والتعصب للرأي ، يؤدي
إلى رفض الحق ، ومخالفة وجهة النظر ؛ فمن قصد الانتصار لنفسه وهواه فلا
يوافق الآخرين في رأيهم وإن بدا له أنه صواب ، ولا شك أن هذا خلاف منهج
الصالحين ؛ فهذا الشافعي يقول : (والله ما أبالي أن يظهر الحق على لساني أو على
لسان خصمي) ؛ فالتجرد للحق ، والإخلاص لله ، يزيل عقبات الاختلاف ؛ ولكن(1/87)
الأمر يحتاج إلى مجاهدة النفس في ذلك ، وإلزامها الحق بقوة . والله الموفق .
________________________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/903) .
(2) إغاثة اللهفان ، لابن القيم (1/69) .
(3) أحمد (5/370) ومجمع الزوائد للهيثمي رقم (9096) .
(4) صحيح الجامع رقم (7255) .
(5) تفسير ابن كثير (2/482) .
(6) السلسلة الصحيحة ، ح/203 .
(7) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/152) .
(8) جامع بيان العلم وفضله (2/1042) .
(9) الفتور في حياة الدعاة (21) .
(10) اقتضاء الصراط (1/149) .
(11) الاعتصام (2/679) .
(12) صحيح الجامع الصغير رقم (1854) .
(13) الاعتصام (2/680) .
(14) فتح القدير (4/598) .
تأصيلات دعوية
بين إدارة الوقت وإدارة الذات
خالد أبو الفتوح
روي عن الحسن البصري (رحمه الله) أنه قال : (يا ابن آدم ، إنما أنت أيام ،
كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك) .. وهذا (البعض) يتبعض أيضاً إلى ساعات ودقائق
وثوانٍ .. كلما ذهبت دقيقة أو ثانية ذهب بعضك ؛ فالوقت هو الحياة ، وهذا معنى
مشترك يعرفه الناس جميعاً ، ولكن الإسلام زاد على ذلك المعنى حين جعل الوقت
بمثابة رأس مال يحاسب عليه الإنسان ؛ حيث قال رسول الله لله : (لا تزول قدما
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ... ) [1] وتزداد
المحاسبة حين يزداد رأس المال ؛ قال (تعالى) : ? أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ? (فاطر : 37) ، وقال المصطفى لله : (أعذر الله إلى امرئ
أخّرَ أجله حتى بَلّغَه ستين سنة) [2] .
ولكن الوقت يزيد عن المال ؛ فالمال يُدخر ويُقايض وقد يُعوّض إذا أُهدر ،
ولكن الوقت لا سبيل لادخاره أو مقايضته أو استرجاعه ، إضافة إلى ذلك : فإن
الوقت هو المورد الوحيد الذي نُرغم على صرفه سواءً أأردنا أم لم نرد !
لذا : فالإسلام يحثّ المسلم على الاستفادة القصوى من الوقت حتى في أشد(1/88)
الظروف صعوبة ؛ فعن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله لله :
( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها
فليفعل) [3] .
كانت هذه نبذة عن قيمة الوقت ، فماذا عن قيمته في حياة مسلمي زماننا ؟ ..
يبدو أنه المورد الأكثر تبديداً في ثرواتهم ، وإذا وقع هذا التبديد في أرصدة الدعاة
والمصلحين تعدى الضرر إلى فئات كثيرة ، ولكننا إذا نظرنا إلى الممسكين بطرف
الحضارة اليوم رأينا أنهم يستثمرون أوقاتهم في الشر والخير بدقة محسوبة ، فما هو
السبب في هذا التباين ؟ إنه ليس راجعاً إلى فروق عنصرية أو صفات جسمانية أو
ذهنية موروثة ، بل لأن الغرب استطاع أن يضع وينفذ نظاماً تربوياً يبث في أبنائه
من خلاله ضمن ما يبث مبادئ إدارية فعالة ، قام عليها نظام حياتي تُمَارس فيه
أسس إدارية سليمة ، بل أصبحت هذه الأسس والمبادئ علوماً قائمة بذاتها لها فروع
وفنون تسمى (علوم الإدارة) ، ويبرز من هذه العلوم فرع يسمى (إدارة الوقت) [4] .
وقفة مع الذات :
عزيزي القارئ .. ! حتى لا نبدد وقتك ونحن نتحدث عن الوقت وأهميته :
تمهل قليلاً وتأمل هذه الأسئلة ، ثم أجب عليها بصدق واصفاً حالك :
هل تردد كثيراً : (ليس لديّ وقت لإنجاز ما أود القيام به) ؟
هل تتأخر دائماً عن مواعيدك ؟ وهل تأخذ المهمات التي تقوم بها وقتاً أكبر
مما تحدده لها ؟
هل تتضارب مواعيدك مع بعضها ؟
هل تقدم تنفيذ العمل الذي تحبه أو الأكثر إلحاحاً على العمل الأهم ؟
هل تفاجئك الأزمات ، وبعدها تتصرف وتتخذ الإجراءات حسبما يتفق لك
وتسمح به الظروف ، وليس بما تخطط له ؟
إذا كانت إجاباتك على كل ما سبق بـ (لا) فأنت لست بحاجة إلى إكمال قراءة
هذا المقال ، أنت بالتأكيد أحد شخصين : إما إنك منظم جداً تعرف كيف تستثمر
وقتك جيداً ، وإما إنك صاحب أهداف متدنية ولا تجد ما تشغل فراغك به ، فإذا كنت
كذلك فابحث لنفسك عن هدف يملأ عليك حياتك .(1/89)
أما إذا كانت إجاباتك بـ (نعم) حتى ولو على تساؤل واحد منها ، فأهلاً بك
ضيفاً في مصحة (إدارة الوقت) .. ولكن قبل أن ندخل سوياً هذه المصحة ، هل
تعترف فعلاً أنك مريض وبحاجة إلى علاج ؟ .. إن اعتراف المرء بأن العيب في
ذاته هو أول خطوة على الطريق الصحيح .. لعلك ما زلت غير مقتنع ، ولعلك كنت
تنتظر من هذا المقال أن يرشدك إلى أدوات خارج ذاتك لإدارة وقتك .. إذا كان
الأمر كذلك فانتبه إلى أن أهم الممتلكات (الذي يسمى بالوقت) يوزع بالتساوي على
كل البشر بغض النظر عن المرحلة السنية أو الموقع الوظيفي أو المكان الجغرافي
أو الاعتقاد الديني ، فكل شخص لديه(7)أيام في الأسبوع ، و ( 24 ) ساعة في
اليوم ... حتى من يحركون (النظام العالمي الجديد أو القديم) .. لا يملكون إلا ما
تملكه أنت من الوقت .. قد تقول : إن تحت أيديهم إمكانات هائلة .. نعم ، ولكنك
أيضاً لا تدير النظام العالمي ، وليس لديك أهدافهم ولا طموحاتهم .. نحن نتحدث
عن إدارتك لبيتك أو لعملك أنت ، نتحدث عن هدفك أنت وطموحاتك أنت .. إذن :
هل الوقت هو المشكلة أم إننا نحن المشكلة ؟ .... إن أكثر الأشياء فائدة والتي يمكن
أن تقوم بها عندما تسيء التصرف في وقتك هي أن تعترف بذلك ، فما دمت مستمراً
في الإنكار أو التسويغ فلن تحل المشكلة .. فإذا أدركت ذلك ورغبت أن تنتزع وقتاً
لك : فإنه ينبغي أن تكون راغباً في ذلك فعلاً .. فهل أنت راغب ؟
نحن الآن نتحدث إلى صنف من الجادين في حياتهم المخلصين في أعمالهم ،
كثير منهم يسهر على إنجاز عمله ويتفانى في ذلك ، ولكنه لا يحسن استثمار وقته ،
ولا يدرك أنه بقدر من المعرفة والممارسة يمكنه أن يحقق نتائج أفضل مثل غيره أو
أكثر منهم ، ليس بالضرورة أن يكون مديراً أو موظفاً في منشأة ، فقد يكون قائماً
على رأس عمل دعوي ، أو طالب علم لا يستطيع السيطرة على وقته ، أو حتى
ربة بيت في منزلها .. مرضهم واحد ، وأيضاً قواعد علاجهم واحدة .. فالمهام(1/90)
الكثيرة المتنوعة غير المتجانسة يصلح لها جميعاً أسس إدارة الوقت ومبادئه ؛ لأن
العملية الإدارية كلها عملية نمطية وإن كان أسلوب ممارستها يختلف باختلاف الهدف
والموقف ..
ولأنك لا تستطيع السيطرة على مقدار الوقت ذاته فأنت في حاجة إلى إدارة
ذاتك من خلال السيطرة على استخدام الوقت . فما هي الخطوات التي تقود إلى هذه
السيطرة ؟ سنحاول في هذا المقال استخدام العملية الإدارية في إدارة الوقت
واستثماره ؛ لذا : فقبل أن تشرع في اتخاذ الخطوة الأولى لا بد أن يكون حاضراً في
ذهنك أن العملية الإدارية تتكون من مهام : التخطيط ، والتنظيم ، والتنفيذ ، والرقابة ، وهي مهام يخدم بعضها بعضاً ...
التخطيط مدخل إدارة الوقت :
فإذا تم ذلك فاعلم أن الخطوة الأولى في العملية الإدارية هي أن تسترخي ! ..
نعم تسترخي ، وتنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام ، أي أن تمارس
(التخطيط) ، خذ وقتاً كافياً للتخطيط ولا تترك الأزمات تضطرك للتصرف غير
المحسوب أو العشوائي ، فبرغم أن التخطيط يأخذ وقتاً طويلاً أول الأمر ، إلا إن
ذلك الوقت يعوض حين يثمر نتائج أفضل ، فالمشكلة واضحة المعالم تصبح نصف
محلولة .. وعلى ذلك : يجب أن تخصص بعض الوقت للتفكير والتأمل والتخطيط
بأسلوب مبدع ، وهو ما يسمى بـ (الساعة الهادئة) ، وهو وقت هادئ خالٍ من
المقاطعات والشواغل والمنغصات ، يقع في أوج نشاطك وقمة منحنى صفائك
الذهني ، فإذا لم تتوفر لك هذه العوامل حيث توجد فلا تتردد في البحث عن ركن
هادئ آخر تمارس فيه هذا التفكير الهادئ ، فإذا لم تجد فابحث في مكان آخر .
ولكن احذر أن يكون التخطيط في (الساعة الهادئة) أحد وسائل الهروب من
مهمة غير سارة أو معقدة ..
فماذا ستفعل في هذا الوقت طال أم قصر ؟ .. ستشخّص مرضك ..
ولأجل أن يكون التشخيص دقيقاً فقد تحتاج إلى بعض التحاليل ! وبما أنك
تنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام فالتحاليل ستشمل هذا الخلف ( الماضي )(1/91)
وأيضاً ذلك الأمام ( المستقبل) ، والمختبر الذي ستضع فيه الماضي ( المستمر معك )
يسمى : (جداول تحليل الوقت) ، بينما تسمى جداول تركيب المستقبل ( الذي تأمله) :
( جداول تنظيم الوقت) .
جداول تحليل الوقت :
فعادة استخدام (جداول تحليل الوقت) تهدف إلى أن تعلم كيف تتحكم في وقتك ، بما يعني أن تغير بعضاً من عاداتك في تمضيته ، ولكنك لن تستطيع تغيير عادات
وقتك حتى تعرف أولاً ما هي هذه العادات ؟ .. كيف يمضي الوقت ؟ .. وفي ذلك
يُقترح :
* الاحتفاظ بسجل تبين فيه كيف تمضي أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر ..
* سَجّل كل ما تقوم به عند القيام به حتى لا تنسى أي شيء .
* وسجل أيضاً السبب الدقيق للنشاط وعلاقته بتحقيق هدفك .
* احذر أن تنشغل بحساب مقدار الدقائق التي قضيتها وتفقد الهدف الأساس
لتحليل الوقت ؛ فقد تقوم من خلال محاولة حسابك للوقت الضائع بإضاعة وقت آخر
بدون مسوّغ .
* وفي نهاية كل أسبوع لخّص ما قمت به وتأكد من النسبة المئوية لكل نشاط .
* ثم قيّم أهمية هذه النشاطات أو تكرارها ..
هذا التحليل يمكّنك من رؤية عاداتك السيئة في استخدام الوقت ، ومن ثم :
القضاء على تلك العادات في المستقبل .. وسيعطيك تلخيص هذه الجداول فكرة جيدة
عما إذا كنت فعلاً متحكماً في وقتك أو أن وقتك تتحكم فيه مؤثرات خارجية ، كما
يجب أن تخرج من هذه الجداول بفكرة واضحة عن : مضيعات الوقت لديك ،
سلبيات أسلوبك في التعامل مع الأمور ، نقاط الضعف والقوة الشخصية عندك ..
وغير ذلك من النتائج المحددة .. هل انتهيت من التخطيط ؟ ..
لم تنته بعد ؛ فالتخطيط عملية مستمرة ومتصلة .. تستطيع القول : إنك
انتهيت من تحليل (الماضي) .. عليك الآن أن تخطط للمستقبل .. لتصحيح (ماضيك
المستمر) ولتنفيذ أعمالك .
أهداف × أولويات :
لماذا نهتم بتحديد الأهداف والأولويات ؟ ..
لأنه عندما تكون أهدافنا واضحة أمامنا على الورق فإن ذلك يساعدنا على(1/92)
تذكرها دائماً ، إضافة إلى أننا نستطيع الحكم عليها دائماً من حيث كونها ما زالت
أهدافاً أو أنها بحاجة إلى تحديث ، فإذا طرأت أولوية أخرى أكثر منها أهمية ، فإنه
يمكن إحلالها في ترتيب متقدم مما نود إنجازه ، ثم نعود إلى الأولوية السابقة ،
وبدون تحديد الأولويات والأهداف نقع في (مصيدة النشاط) ، وهو التورط في
النشاط ذاته دون رؤية السبب الذي من ورائه نقوم بالنشاط ، فيصبح النشاط هدفاً
مزيفاً ، ويصبح غاية في حد ذاته ، أي يصبح النشاط مجرد انشغال (بذل عرق) ،
وهو بخلاف (الشغل) ، وحتى الشغل ينبغي أن نفرق فيه بين (الكفاءة) و (الفاعلية) ، فالكفاءة تعني : مجرد القيام بالعمل وتحقيق النتائج المطلوبة ، بينما تعني الفاعلية : تحقيق النتائج المطلوبة من أول مرة ، ومن خلال القيام بالعمل الصحيح ، حسب
التسلسل الصحيح في أهميتها ، في الوقت المناسب ، وبأدنى تكلفة ، فعندما تكون
نشيطاً وكفءاً في مهمة خاطئة ، أو في مهمة صحيحة في الوقت الخطأ ، فإنك
تعتبر غير فعال حتماً ..
إذن : حدد أهدافك أولاً .. الأهداف طويلة الأمد والأهداف قصيرة الأمد ، ضَعْ
قائمة لكل نوع ، فعندما تكون أفكارك وأعمالك منظمة ستكون منتبهاً إلى أن أهدافك
اليومية (قصيرة الأمد) تساهم بشكل مباشر في تحقيق الأهداف الطويلة الأمد ، لذلك : عليك أن تدرّب نفسك على العمل وفي ذهنك في الوقت نفسه صورة من أعمال
الأسبوع القادم أو الشهر أو السنة ، ولا يتم ذلك إلا بأن تكتب أهدافك : للعمل ،
وللمهنة ، وللحياة الشخصية ، وحتى للأمور المالية .. ولا بد أن تكون هذه الأهداف :
* محددة وواضحة . * واقعية وممكنة التنفيذ . * ذات قيمة حقيقية . * يمكن
قياسها وتقييمها .
رتّب هذه الأهداف في صورة أولويّات ، ثم قسّم أولوياتك في برنامج عملك
اليومي إلى قوائم : أعمال يجب القيام بها (ضرورية وملحة) ، وأعمال ينبغي(1/93)
القيام بها (ضرورية وغير ملحة ) ، وأخرى (يمكن القيام بها) .. مرة أخرى تطرق
( جداول الوقت ) الباب علينا ، وذلك لإعداد جدول الأهداف ، وذلك قبل يوم العمل .
وهذا الجدول سوف يمكنك من وضع جدول تنظيم الوقت ، حيث سيتم فيه تصنيف
أولويات الأعمال حسب (أهميتها) و (إلحاحها) (ليس كل مُلحّ يكون بالضرورة
مهماً) ، وإمكانية (تفويضها إلى غيرك) ..
ومن الواضح أن أكثر الأعمال أولوية هي تلك التي لا يمكن تكليف غيرك بها ، والملحة ، وفي الوقت نفسه : على درجة عالية من الأهمية ..
بعد أن حددت الأولويات خصص الوقت حسب هذه الأولويات ، وعليه : حدد
مواعيد للإنجاز ؛ فعندما تحدد لنفسك مواعيد للإنجاز فإنك تمارس على نفسك نوعاً
من الضغط ، وبعض الضغط يحدث دافعاً لديك ، بينما زيادة الضغط عند عدم تنظيم
الوقت تضعفك .. وعند تخصيصك للأوقات حسب الأولويات ينبغي أن تكون مرناً ،
فالذي يخطط لملء كل دقيقة من يوم العمل سيجد أنه غير قادر على اتباع الجدول
بسبب عدم المرونة فيه ، وعلى هذا : يمكن أن نتوقع أن نصف الوقت سيمضي في
معالجة الأزمات والطوارئ وضغوط العمل ، لذا : ينبغي أن ندرك أن 50% من
يوم العمل يمكن جدولته بأعمال مختارة للإنجاز خلال نصف اليوم ، وفي الوقت
نفسه تستحق هذه الأعمال إنجازها ، كما عليك أن تحتفظ ببعض المهام البسيطة في
متناول يدك لإنجازها في الوقت المعطل أو غير المستثمر ، فيمكنك قراءة جريدة أو
كتاب وأنت في انتظار دورك عند طبيب أو وأنت راكب في وسيلة المواصلات ،
أو التعرف على بعض الزملاء أو الاستماع إلى المذياع وأنت تتناول الطعام ، وإذا
كنت مديراً أو مشرفاً فيمكنك قراءة البريد أو إجراء مكالمة هاتفية بينما تكون
منتظراً لتقرير من مرؤوسيك مثلاً .. فمثل هذه الأشياء لا تتطلب فترات محددة من
الوقت .. وذلك للاستفادة من كامل الوقت من ناحية ، ومن ناحية أخرى حتى لا(1/94)
تكتسب عادات سيئة في تمديد العمل والإبطاء فيه لملء الوقت المتاح .. تذكر دائماً : ( يتمدد العمل ليشغل حيز الوقت المتاح له ) وهذا ما يسمى بقانون ( باركينسون ) .
يكفي ما سبق على التخطيط ؛ إذ إننا لن نقضي عمرنا تخطيطاً ؛ فالتخطيط
ليس هدفاً في ذاته ، بل هو الخطوة الأولى في الإدارة ، ولكن نذكرك بأن عليك أن
تسأل نفسك وأنت تخطط : هل سلوكك مثمر أم غير مثمر ؟ متى ستقوم بالعمل ؟ كم
من الوقت ستصرف حتى تقوم بالعمل ؟ مع من تقوم بالعمل ؟ أين وصلت حتى
الآن ؟ ..
من التخطيط إلى التنظيم :
ليس الأمر الذي نعنيه هنا متعلقاً بالترتيب ؛ فهذا الترتيب نظري افتراضي ،
وإنما تتم الأمور معاً ، ولا متعلقاً بالكمال ، ولكننا نريد إبراز مجموعة من الأدوات
والأساليب والطرق التي تساعدنا على الوصول إلى ما نريد .. وحتى تكون الأمور
واضحة فإن للتنظيم ثلاثة مجالات رئيسة : إدارة الناس ، وإدارة الأوراق ، وإدارة
الوقت بمعنى التحكم فيه واستثماره وتجنب مضيعاته .
أولاً : إدارة الناس : التفويض .. التفويض :
في إدارة الناس سنتحدث عن التفويض ، باعتباره أحد العوامل المهمة
لاستثمار الوقت .
كم مرة رددت : (في الوقت الذي أشرح له فيه ما هو مطلوب منه أكون قد
أنهيت العمل وحدي بأعلى جودة وفي نصف الوقت) ؟ .. إن هذا المنطق البراق
يعتبر من أكثر الخدع التي يقع فيها كثير منا ، فتفويض بعض الصلاحيات
والسلطات لآخرين يمكنهم إنجاز أعمال مطلوبة منك يعتبر على المدى البعيد
استثماراً لأوقات الآخرين لصالحك ، لتتولى أنت القيام بالأعمال التي لا يمكن
تفويضها لغيرك .
ولكن ينبغي أن تلاحظ أن التفويض لكي لا يكون مهدراً للوقت (عندما يعاد
العمل مرة أخرى) لا بد أن يراعى فيه :
* أن يكون قائماً على أسلوب إداري قائم على تنظيم علاقة تتسم بروح الثقة
القائمة على التساؤل والتعاون والصراحة ، حتى تتكون أرضية مشتركة بين
المتعاونين يمكن تنسيق العمل على أساسها .(1/95)
* أن تكون الصلاحيات والسلطات واضحة ، وكذا : الزمن المتاح لاستخدام
هذه الصلاحيات .
* أن يتم تحديد الأعمال التي سوف تستخدم فيها هذه الصلاحيات بدقة ،
والنتائج المستهدفة منها .
* اختيار الشخص المناسب الذي سيتم تفويضه ، والتأكد من أنه أفضل من
يصلح لذلك .
* أن تكون المسؤولية ودرجة المساءلة عند التفويض واضحة للجميع .
ننتقل الآن إلى الجانب الثاني من عملية التنظيم وهو :
ثانياً : إدارة الأوراق :
في نبذة يسيرة حيث لا يتسع المقام للتفصيل نستطيع القول : إن المقصود
بإدارة الأوراق هنا ليس تقسيمها حسب موضوعاتها ، بل المقصود إدارتها حسب
حركتها بما يوفر الوقت ؛ فالمشكلة الحقيقية في التعامل مع الأوراق ليس في ترتيبها
ولكن في اتخاذ القرار بشأنها ، فمكتبك يجب أن يكون محطة مؤقتة مختصرة تقف
فيها الأوراق قليلاً حتى تحدد اتجاه كل منها سواء إلى آخرين أو إلى الملفات أو سلة
المهملات ...
ثالثاً : من التنظيم : إدارة الوقت ..
ونقصد هنا إبراز الوسائل الفعالة لاستثمار الوقت ، وأيضاً : معرفة ( مضيّعات
الوقت) ومعرفة أساليب التنظيم التي تحد من هذه المضيّعات .
من مبادئ توفير الوقت :
وقبل أن ندخل في (مضيعات الوقت) بتفصيل أكثر هاك بعض العوامل التي
قد تساعد على استثمار أكبر للوقت :
* من العوامل المساعدة على تنظيم الشخص لنفسه : كتابة المعلومات المراد
تذكرها على ورق عند ورودها مباشرة ، ثم وضع هذه الورقة في مكان تكون متأكداً
من وقوع البصر عليه ..
* ومن موفرات الوقت : اعتماد مبدأ التجاهل المتعمد والإهمال المقصود ؛
فبعض المشكلات عندما تترك وحدها فإنها تختفي كليّاً لعدم أهميتها .
* ومنها : تقسيم النشاطات المتشابهة إلى مجموعات ؛ لأنها تتطلب لإنجازها
بيئة وموارد مماثلة ، إضافة إلى الحضور الذهني والتهيؤ النفسي .
* ومنها : دمج بعض المهام المسجلة في جدول الأولويات ، أو دمج بعض(1/96)
خطوات إحدى المهام ، وكذلك إسقاط المهام التي لا علاقة لها بك أو بالمحيط الذي
تعمل فيه ولا مكان لها في جدول أعمالك .
* ومنها : عدم ترك المهام غير منتهية ؛ فالتنقل من مشكلة لأخرى سوف
يدمر فيما بعد قدرتك على التركيز على أي شيء لأكثر من بضع دقائق في المرة
الأولى .
* ومنها : الإقلال من الأعمال (الروتينية) ، وهي الأعمال اليومية ذات
الطبيعة النمطية والتي تشكل قيمة يسيرة لتحقيق الأهداف العامة .
* ومنها : استغلال الأجهزة والمعدات الحديثة لتفويض الأعمال المناسبة إليها ، كأجهزة التصوير والهاتف المصور ( الفاكس ) والحاسب الآلي ( الكمبيوتر ) ...
* ومنها : أن تتعلم في الاتصالات الشفاهية (هاتف أو مقابلات) كيف تقطع
المحادثات أو النقاش بأسلوب لبق وواضح عندما تعتقد أن الموضوع قد تم تغطيته
تماماً .
* ومنها : إتقان قول (لا) عندما ترى أن الاستجابة معناها ضياع الوقت
وإفساد سلم أولوياتك ، فالخجل والمجاملات قد يضران بك وبالآخرين كثيراً .
من التوفير : عدم التبديد :
قبل أن ندخل في بعض تفاصيل مضيعات الوقت (المعوقات) نذكرك بأن
العامل المهم في وقوع كثير من مضيعات الوقت حتى الخارجية منها يكون نمط
إدارتك لذاتك ؛ ولذلك فإن عليك أن تتذكر (جدول تحليل الوقت) الذي كنت رصدت
فيه سلوكك (الماضي) وحللته .. لا بد أنك وجدت بعض المضيعات التي تشغل حيزاً
كبيراً من وقتك ( البريد الجرائد الهاتف عدم التفويض الاجتماعات الزائرين التأجيل... ( .. عليك أن تختار بعضاً منها (خمسة مضيعات أو ستة) وترتبها حسب أولوياتها ، ثم تتعامل معها واحداً واحداً ؛ لأن محاولة تغيير العادات السيئة مرة واحدة يمكن أن يؤدي إلى الإحباط والفشل ، كما ينبغي أن تكون غاياتك عند معالجة هذه المضيعات واضحة ومحددة ويمكن قياسها ، حتى تستطيع أن ترى مدى تقدمك في تحقيقها .
وبدورنا نختار هنا مضيعاً شائعاً ونتحدث عنه بشيء من التفصيل ، وهو :
الهاتف .
الهاتف :(1/97)
يعتبر الهاتف في الأساس إحدى وسائل توفير الوقت ، لكن إساءة استخدامه قد
تجعله من مضيعات الوقت ، ولتفادي ذلك :
* عليك أن تنظر إلى الهاتف بوصفه آلة لتوصيل الرسائل فقط .
* ولهذا : أوقف المكالمة مباشرة عند انتهاء هذا الهدف .
* الاختصار في المكالمة يمكن تسهيله بأن تخطط للمكالمة والحوار من قبل ،
وذلك بكتابة الموضوعات التي تود التحدث فيها وتضعها أمامك ، كما عليك إجراء
المكالمات المتشابهة والتي تحتاج إلى إعداد متقارب وجو نفسي واحد ... عليك
إجراء هذه المكالمات متتابعة ، وذلك في حالة طلبك لآخرين .
* ويمكنك تحديد وقت معين تستقبل فيه مكالمات الآخرين ، إلا إذا كانت
المكالمة ذات أهمية فلا بد من استقبالها حال ورودها .
* والوقت المناسب للرد على مكالمات الآخرين هو في فترات انخفاض
إنتاجيتك ، فلا تستخدم الهاتف في فترات صفائك وارتفاع إنتاجيتك . أما فترات
الصباح الباكر عندما يبدأ الناس أعمالهم فتتميز بأنها أفضل وقت لالتقاط الخط من
أول محاولة .
* كما ينبغي أن تلاحظ فترات وجود الشخص المطلوب .
* وعندما تكون المناقشة مثيرة للأعصاب ، وعندما يوجد خطر تحطيم
العلاقات الجيدة مع الآخرين .. فلا بد أن تفكر أكثر من مرة قبل استخدام الهاتف ؛
فالحوار الهاتفي السيئ يمكن أن يكلفك ساعات من الوقت الضائع فيما بعد لمعالجة
سوء الفهم الذي حصل .
التنفيذ لب العمل :
هناك بعض المبادئ والإجراءات التي تتصف بالصفة التنفيذية المحضة والتي
تساعد أيضاً على استثمار الوقت بشكل جيد ، وهي تقوم على أن نأخذ بعنان
المبادرة بأنفسنا ، فكلما قلّت إدارتنا للوقت وسمحنا للآخرين بتحديد ما نقوم به من
عمل : عملنا أكثر وأنتجنا أقل ..
وللسيطرة على إدارتك للعمل لا بد من استحضار برنامج العمل اليومي ،
وذلك :
* بصنع قائمة بالأشياء التي يجب القيام بها .
* ولا تنس أن يكون عملك مجزأً بين إنجاز عمل اليوم والتفكير في أعمال
الغد ونشاطاته .(1/98)
* حدد ساعات اليوم التي تكون فيها في أوج طاقتك ، وهي تختلف من
شخص إلى آخر ..
* ضع أكثر النشاطات أهمية وأكثرها صعوبة والأعمال التي تتطلب تركيزاً
كبيراً في ساعات صفائك الذهني ، والتي تكون فيها في أوج نشاطك .
* حاول أن تجمع الأعمال المتشابهة بعضها مع بعض في هذه القائمة .
* وعند إنجاز عملٍ ما من القائمة عليك شطبه منها ، وهذا في حد ذاته يعتبر
حافزاً لك على مواصلة العمل ، ولكن احذر أن يتسرب إليك إحساس خادع بالرضا
من شطب الأشياء من قائمة المهام ، خاصة إن كان معظمها ذا أولية منخفضة ..
* وفي نهاية اليوم احصر المهام المتبقية ولا تحتفظ بها في القائمة نفسها ، بل
حوّلها إلى قائمة اليوم التالي ، إلا إذا كنت فوّضت بعضاً منها إلى آخرين أو
أسقطتها لعدم أهميتها ..
* وأثناء العمل : كن متأكداً بأنك تركز على تنفيذ العمل الصحيح بشكل
صحيح في الوقت الصحيح .
وأثناء التنفيذ :
* ابدأ يومك بطلبات تطلبها من الآخرين ؛ فبينما تقوم أنت بعمل أشياء أخرى
سيعمل الآخرون في الوقت نفسه على إنجاز الأعمال التي طلبتها منهم ، وإذا تعذر
وجود وقت للقيام بكل المهام فاعمل على إنجاز المهام الكبرى والمهمة أولاً ، ذلك
من معاني : (اعمل بذكاء لا بجهد أكثر) .
* وعندما يكون الموضوع لا يزال جديداً أمامك فلا تتردد في أخذ موقف
حياله ؛ لأن هذا يوفر عليك مشقة إعادة تذكر الموقف مرة أخرى .
* لا تضيّع وقتك في القيام بالمهام المستحيلة .
* وفي الوقت نفسه : حاول أن تكون لك قدرة على التنفيذ الفوري ، وإذا لم
يكن للمهمة حل مباشر فعليك أن تستمر في القيام بعمل شيء آخر .
* تذكر أن المهام البسيطة التي لا ترتبط بوقت محدد والتي كنت وضعتها في
جدول أعمالك هي لمثل هذه الأوقات .
* لا تستهن بإنجاز أعمال الأهداف القصيرة الأمد المصاحبة للأهداف الطويلة
الأمد ، فإننا إذا لم نقم بتحقيق الأهداف القصيرة الأمد فلن ترى الأهداف الطويلة
الأمد الحياة أبداً .(1/99)
* لا بأس بأن تقدم عقارب ساعتك بضع دقائق إلى الأمام ؛ فالأشخاص الذين
يهتمون بالإنجاز يفعلون ذلك غالباً ؛ لأن ذلك يوجد إحساساً بالعجلة الزائدة ..
* لكن لا تكن مهتمّاً بشكل زائد بمسألة إنهاء العمل بسرعة ؛ فالنتائج غير
المتقنة تعني أنك ستضطر إلى إعادة القيام بالعمل ، مما يعني ضياع وقت آخر .
* وجّه نظرك دائماً نحو النتائج بدلاً من القلق حول الإجراءات .. كثيراً ما
ننشغل بالوسائل وتغيب عن أعيننا الغاية .. وأثناء اهتمامك بالنتائج تجنب الوقوع
في (شلل الكمال) ؛ فبعض الأعمال ينبغي أن تنجز بأسرع ما يمكن ، وحينها :
عليك أن تدرك أن هناك تضحية متبادلة بين الفاعلية والكمال .
عينك على المراقبة :
وننتقل الآن إلى الجزء الأخير في دائرة إدارة الوقت ، وهو المراقبة ،
والمقصود بالمراقبة : مراقبة العمل وليس التجسس على القائمين بالعمل أو (الوقوف
على رؤوسهم) أثناء عملهم وإحصاء الدقائق عليهم بحجة المحافظة على الوقت ؛
فالهدف من المراقبة هو : (المراجعة والنقد المؤدي إلى التصحيح) ، مراجعة للعمل
ذاته من حيث خطته أو إجراءات تنظيمه أو خطوات تنفيذه ، ومراجعة للقائمين
بالعمل لبيان جوانب القصور فيهم وما يحتاجونه من تعديل لسلوك أو اكتساب لعلم
أو تنمية لخبرة بما يوفر أوقاتهم ؛ فتكرار الخطأ مرة بعد مرة يعد من أكثر العوامل
التي تضيع الوقت .
وعليك مراقبة مدى التقدم في إنجاز العمل ، وذلك حتى لا تعود إلى ممارسة
عاداتك السيئة السابقة ، وحتى تجري إصلاحات وتعديلات على خطتك ، وذلك من
خلال مقارنة الأداء الفعلي بالخطة وبالجدول ، بما يفيد معرفة العائد الحقيقي ، وبما
يسمح بتعديل التخطيط أو التنظيم أو التنفيذ كلها أو بعضها لتتلاءم مع الهدف ومع
الظروف التي تواجهها .
وذلك يقودنا إلى (مبدأ إعادة التحليل) ؛ إذ ينبغي إعادة تحليل استخدام الوقت
على الأقل مرة كل ستة أشهر لتفادي العودة للعادات السيئة في إدارة الوقت عند(1/100)
الإحساس بصعوبة تنفيذ الخطة اليومية السابقة .
وفي الختام :
فإن الأشخاص الفعالين لم يولدوا هكذا بالفطرة ، بل هم مصنوعون ، فإذا
كانت الخطوات والإجراءات المذكورة سابقاً قد كثرت عليك وطالت فلا تستصعبها ،
ولا تتردد في تعديل الاقتراحات السابقة لتناسب حقيقة وضعك في العمل وفي الحياة ؛ فالهدف ليس استخدام اقتراح معين لإدارة الوقت ، بل إحراز تقدم وإنجاز ، أيّاً
كان اختيارك للأفكار التي تناسب أسلوبك وتفيدك كثيراً ، والنقطة المهمة والمحورية
التي يجب أن تتذكرها هي استمرار الوعي بالكفاءة من خلال الوعي بأهمية الوقت ؛
فذلك أكثر أهمية من مجرد الانصياع وتطبيق كل المبادئ التي يمكن وصفها .
وتذكر أيضاً أنك لا تستطيع إرضاء كل شخص ، وأن الطريقة التي ستستثمر
بها وقتك قد تزعج آخرين ، وقد لا يعاونونك عليها .
وانتبه إلى أنك من السهل أن تجعل نفسك متحمساً أكثر من اللازم بالنسبة
لإدارة الوقت ؛ فقد تكون تلك الظروف ناجحة معك تماماً ، إلا إنها تتصف أيضاً
بأنها فردية الطابع والكفاءة لا جماعية الكفاءة ، وهي لا تشجع على العمل الجماعي... وعلى ذلك : فكل موقف يجب أن يكون مختلفاً بناءً على عوامل عديدة ، مثل : نوع المحيط الذي تعمل فيه ، وطبيعة العمل ، وكمية الأعمال ، والمهام المنوطة بالفرد ، وحاجات الشخص المتعاون معك ، وشخصية القائم على العمل .
________________________
(1) أخرجه الترمذي ، 2/67 ، والطبراني في المعجم الكبير ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) ، ح/7300 .
(2) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر .
(3) أخرجه الإمام أحمد ، 3/191 ، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة) ، ح/9 ، و (صحيح الجامع) ، ح/1424 .(1/101)
(4) يعتبر هذا المقال استعراضاً لموضوع إدارة الوقت ، اعتماداً على كتاب (إدارة الوقت) ، ضمن سلسلة (فن وعلم إدارة الأعمال) لمحررها أ ديل تيمب ب ، ترجمة : د وليد عبد اللطيف هوانة ، وهو يضم 95 مقالة لمختلف المتخصصين في هذا المجال وهناك ملحوظتان على الكتاب لا بد من ذكرهما:
(أ) يعتبر الكتاب تعبيراً عن النظرية الإدارية الغربية من خلال رؤيتها الأمريكية ، وبالطبع : هناك نظريات أخرى لم يتطرق الكتاب إليها ، كالنظرية اليابانية ، والنظرية الإدارية الإسلامية التي لم تخرج بعد إلى حيز التنظير المتكامل رغم وجود مبادئها المتميزة القائمة على أصول شرعية وأسس أخلاقية وشبكة علاقات اجتماعية مغايرة لما قامت عليه النظريات الأخرى .
(ب) الكتاب عبارة عن ضم شذرات مقالات مختلفة للعديد من الكتاب ، مما أثر في عدم تماسك مادته المعلوماتية ، إضافة إلى تشتت المعلومة الواحدة بين ثنايا الكتاب .
تأملات دعوية
معيار تصحيح الأخطاء
عبد الله المسلم
لا شك أن تصحيح الخطأ أمر يسعى إليه كل امرئ جاد في حياته حريص
على تحقيق أهدافه ، فضلاً عن المؤمنين الصادقين ، الذين يرون الخطأ يأخذ مدى
أبعد من مجرد لوم الضمير وعتاب النفس .
لكن علاج الأخطاء أحياناً يوقع في خطأ آخر ، ومن ثم فوقوع الخطأ ليس هو
وحده المعيار الأوحد في تقبل مقولة من ينتقِد واعتباره أنه على الحق ، والسعي
لإثبات وقوع الخطأ ليس منجياً للمنتقَد ولا كافياً في سلامة موقف المنتقِد .
وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ينكر على أصحابه في أكثر من موقف
أسلوب تعاملهم مع الخطأ وعلاجهم له ، ومن ذلك القصة المشهورة للرجل الذي بال
في المسجد ، وقصة معاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة ، وقصة الشاب
الذي جاء يستأذن بالزنا فهمّ به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وغيرها
كثير .
وحين نتحدث عن أخطاء إخواننا فإن دراسة الظروف والأجواء التي ولّدت(1/102)
الموقف الخاطئ أمرٌ له أهميته في إعطاء الخطأ حجمه الطبيعي والمعقول ، إضافة
إلى إدراك البيئة وطبيعة المجتمعات التي يعيشها إخواننا .
ومن الأمور المهمة لتقويم أخطاء إخواننا أن نطبق المقياس والمعيار الشرعي
في الحكم على الأعمال والمشروعات والبرامج ؛ فمجرد كون الأمر لا يروق لنا ،
أو لم نألفه ، أو لم يعجب فلاناً من الناس ، أو حكم عليه بأنه غير مناسب .. مهما
كان شأن هذا الشخص ، كل ذلك ما لم يكن منطلقاً من جانب شرعي فلا يسوغ قبوله ، فضلاً عن أن يكون سبباً في الحكم على إخواننا وإسقاطهم .
وأحياناً في تقويمنا للأعمال والبرامج الدعوية نفترض الكمال في البشر ،
فنريد فقيهاً متمكناً ، وأن يكون في الوقت نفسه سياسياً ماهراً ، واقتصادياً بارعاً ،
ومفكراً يدرك القضايا الساخنة في عصره ويعيها ، وقيادياً يجيد فن الإدارة وتوجيه
الناس وتفعيل الطاقات ، إلى غير ذلك مما يصعب أن يتحقق في جماعة فضلاً عن
فرد . ولماذا لا نقبل في فرد من الأفراد أن يتميز في ميدان من الميادين ولو على
حساب ثغرة أخرى يسدها غيره ؟
وحين يُلْجِئُ إخوانَنا صراعُهم مع أعداء الله تبارك وتعالى إلى الوقوع في
أخطاء وتجاوزات ، فذلك وإن كان لا يسوغ منهم ، ونبل مقصدهم لا يسوّغ لهم ذلك ، إلا أن من يتحدث عنهم ينبغي أن يتحدث عن الجميع ، ولا يسوغ له أن يشن
حملة ظالمة على إخوانه ، ويدع الظالم الأكبر الذي يتربص بأهل الإسلام الدوائر ،
فظلمه وجوره وخطؤه لا يقارن بخطأ الدعاة .
بل الأدهى من ذلك أن يقف المنتقِد في صف واحد مع أعداء الله في مواجهة
إخوانه ورفاق دربه ، وأن يسوّغ للظالمين بطشهم وجورهم .
فمتى ندرك حق إخواننا علينا ؟ ومتى نعي مسؤوليتنا عن نصرتهم وموالاتهم
والوقوف معهم في صف وخندق واحد ؟
كل ذلك لا يعني ألا نتحدث عن الأخطاء وألا ننتقد ؛ بل هذا من النصح
الواجب للمؤمنين ، لكن ينبغي أن يكون في إطار ما يحقق المصلحة ، وألا يخل ذلك(1/103)
بواجب الولاء والنصرة للمؤمنين .
________________________
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي ..
حول التفكير : مقدمات عامة
(1/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
مدخل :
يجسد التفكير نعمة عظيمة وهبها الله تعالى للإنسان ليتعرف عليه ويعبده ،
وليعمر الأرض ويقيم البناء الحضاري على هدي الرسالات النبوية . ولقد امتاز
الإنسان بها وتفرد عن بقية المخلوقات ، وهي نعمة لا ينفك عنها إنسان عاقل ، ولا
يتصور خلو الحياة الإنسانية منها لحظة من الزمن . ومن هنا تتجلى أهمية التفكير
في حياتنا الخاصة والعامة .. الدينية والدنيوية .. العلمية والعملية .. ومن هذه
الأهمية تنبثق ضرورة مراجعة أساليب التفكير السائدة ، لتحديد ما إذا كانت قادرة
على تحقيق هدف العبودية الشاملة ؛ أم أنها تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة ؛ وذلك
بعد القيام بعملية هدم للأساليب المغلوطة ، وفل للقيود الذهنية ، وتكسير للحواجز
العقلية التي قد تعيق التفكير السليم والإنتاج الإبداعي .
والتفكير قضية معقدة من حيث ماهيتها ، ومنهجيتها ، وما يؤثر بها من الدوافع
النفسية الذاتية والعوامل البيئية الخارجية . إن التفكير في حقيقة الأمر ليس مجرد
منهجية جوفاء تهذر بها الألسنة ، وتؤلف بها الكتب ، وتنمق بها الدراسات ، بل هو
ما يسترشد به الفكر ، وما يضيء به العقل ، وما تنجذب إليه النفس من خطوات
ذهنية ، يحوطها انفعال صادق يروم العطاء والبذل ، وتزحمها رؤى متناثرة ،
استجلبها تعلّم فطن وتأمل حاذق .
وثمة أسئلة كثيرة تعوزها إجابات دقيقة ، من خلالها يمكن تصحيح طرائق
التفكير واسترداد (العافية الذهنية) الكاملة ، ومن ثم ترقية الأهداف ورفع الأداء ،
كما أنها بدرجة ثانية تجسّد ما يحيط بعملية التفكير من تعقيد وإشكالية ، وأهم هذه
الأسئلة ما يلي :
ما هو التفكير ؟ وكيف يفكر الإنسان ؟
هل ثمة عوامل تنضج التفكير وتخصبه ، وأخرى تفسده وتسطحه ؟(1/104)
لماذا يبدو أحدنا مندفعاً في قضية دون أخرى ؟ ! ! وفي وقت دون آخر ؟ !
ما علاقة اللغة بالتفكير ؟ وهل نستطيع أن نفكر بدون لغة معينة ؟
ألا يمكن أن تمارس حواسنا خداعاً لنا في عملية الإدراك التي تسبق عملية
التفكير ؟
هل تؤثر العوامل البيئية على التفكير إيجاباً أم سلباً ؟
كيف يؤدي التفكير بالإنسان إلى النجاح بعد توفيق الله تعالى ؟
أيمكن اكتساب التفكير العلمي بالتعلم والممارسة أم أنه فطري جِبِلّي ؟
ما مدى انسجام التفكير السائد مع التفكير العلمي ؟
لماذا لا نستفيد في بعض الأحيان عندما نفكر جماعياً ؟ !
ما هو التفكير الإبداعي ؟ وهل يمكن تحول الإنسان إلى مبدع ؟ وكيف ؟ !
بإيجاز مشوب بشيء من التفصيل ، يحاول هذا الموضوع أن يتلمس إجابات
لما سبق ، مصاغةً بقالب يرجى أن يكون واضحاً ، ومدعمة بأمثلة تطبيقية .
قبل المضي قدماً :
أود لفت نظر القارئ الكريم قبل قراءة هذا الموضوع إلى ما يلي :
1- أن القراءة في موضوع كالتفكير يجب أن تتلبس بتركيز شديد .
2- أهمية إعادة قراءة بعض أجزاء الموضوع التي يشعر القارئ بأهميتها ،
أو على الأقل تلك التي طولب بإعادة قراءتها .
3- ثبت علمياً أن التفكير لا يمكن أن يكتسب من خلال قراءة عجلى وتفاعل
بارد ، بل لا بد من القراءة المتأنية والتفاعل الجاد مع التطبيقات المبثوثة في ثنايا
الموضوع ، والتقيد الدقيق بخطواتها المحددة .
4- أهمية الربط بين أجزاء الموضوع وحلقاته ، وذلك بإعادة قراءة
الموضوعات السابقة التي تعتبر تمهيداً لموضوعات لاحقة .
5- ضرورة الاعتقاد بأن التفكير السديد المنتج مهارة يكسبها التعلم وعادة
يصنعها التدرب .. ، والإيمان بخبر القرآن : ? إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ ? [الرعد : 11] .
الوحي يحث على التفكير :
ثمة نصوص قرآنية كثيرة تحث على التفكير والتفكر ، وتعلي من شأن العقل(1/105)
والعقلاء ؛ فلقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم (20) مرة بصيغ مختلفة ، منها :
قول الله تعالى : ? كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ?
[البقرة : 219] ? أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ? [الروم : 8] وقوله : ? فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الأعراف : 176] [1] .
كما جاء في الكتاب العزيز صيغ أخرى تؤكد على أهمية التفكير ، كما في
قوله عز وجل : ? إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لأُوْلِي الأَلْبَابِ (190) الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلََى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ? [ال عمران : 190 ، 191] ، وقوله : ? كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? [البقرة : 242] ، وقوله : ? ... انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ
الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ? [الأنعام : 65] ، وقوله : ? يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [البقرة : 269] .
ماهية التفكير :
فكر في الأمر : أعمل العقل فيه ، ورتب بعض ما يعلم ليصل به إلى مجهول ، وأفكر في الأمر : فكر فيه فهو مفكر ، وفكّر في الأمر : مبالغة في فَكَرَ وهو أشيع
في الاستعمال من فَكَرَ ، فالفكر : إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى المجهول .
والتفكير : إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها ، الفِكَر : جمع أفكار ، وهي
تردد الخاطر بالتأمل والتدبر بطلب المعاني [2] .
هذا في اللغة ، أما في الاصطلاح فلعله من المناسب أن أتجاوز إشكالية
التعريف التي تحيط بهذا المصطلح إلى التعريف الذي أرتئيه للتفكير وهو :(1/106)
» العملية الذهنية التي ينظم بها العقل خبرات ومعلومات الإنسان من أجل اتخاذ قرار معين إزاء مشكلة أو موضوع محدد « .
ومن التعريف السابق نخلص إلى أن التفكير يتطلب :
قالباً ينتظم خبرات ومعلومات الإنسان .
مخزناً يحتويها ويحتفظ بها لحين استدعائها .
بيئة نفسية معينة ومحيطاً اجتماعياً محدداً (التفكير لا يمكن أن يحدث في
فراغ وإنما في بيئة ما) .
ولذا كان من الواجب أن أعرض لعلاقة اللغة والذاكرة والحالة النفسية من جهة ، والتفكير من جهة أخرى ؛ ذلك أن اللغة هي القالب الذي يشكّل الخبرات
والمعلومات ، والذاكرة هي ذلك المخزن الذي يحتويها ، والحالة النفسية
(سيكيولوجية التفكير) هي الجو الذي يتنفس فيه التفكير .
ثراء لغتك سبب في عمق تفكيرك :
ثمة علاقة عضوية متينة بين اللغة والتفكير ، فاللغة هي القالب الذي ينصبّ
فيه الفكر ، والفكر هو المضمون الذي يحتويه ذلك القالب اللغوي . ويعبر البعض
عن هذه الوشيجة بالقول بأن اللغة والفكر يعتبران وجهين لعملة واحدة .
يتعذر التفكير التجريدي (الذي هو في المعنويات لا في المحسوسات) في حالة
انعدام اللغة ويتسطح بضعفها ؛ ذلك أنها السبيل الأوحد لتحويل التفكير الحسي (في
المحسوسات) إلى تفكير تجريدي نافع . ويستلزم التفكير العميق ثراءً لغوياً وعمقاً
في فهم دلالات وإيحاءات الكلمات المكونة للبناء اللغوي ، وفي هذا المعنى يقول د .
محمد الشنيطي : » وليس من شك في أننا حين نفكر لا سبيل لنا إلى التفكير إلا في
لغة ، ولا حيلة لنا إلى ضبط هذا التفكير إلا إذا كان القالب اللغوي واضح المعالم لا
يفضي إلى غموض ولا يدعو إلى لبس ، ولا ينم عن قلق واضطراب ينعكس بالتالي
على تفكيرنا « [3] .
ولتأكيد هذه الأهمية المتناهية للثراء اللغوي ، أشير إلى أن التفكير في أي
مشكلة إنما يعتمد على مجموعة محددة من الكلمات والمصطلحات ، وبدهي أن من
كان فهمه أعمق لهذه الكلمات والمصطلحات فإن تفكيره سيكون أعمق وأنضج ،(1/107)
فهب أن مشكلة ما تعتمد على الكلمات التالية :
أناس حق واجب استطاعة كذب صدق حرية دقة ضوابط حوافز نجاح تحقق
ذات استشعار المسؤولية اجتهاد صواب خطأ استئناف العمل ثقافة أزمة إدارة .
ومن هنا فإن كل من يتفهم هذه الكلمات والمصطلحات ، بجانب سيرورة
تفكيره وفق المنهج العلمي سيكون أحظى بالصواب وأظفر بالنجاح بعد توفيق الله
تعالى له من كل من تتمنع عليه هذه الكلمات ، وتتشوه في عينيه هذه المصطلحات !
[يمكنك لاحقاً مراجعة معنى ما يلي : الصدق ، تحقق الذات ، الاستئناف] .
ولقد أثبتت بعض الدراسات قوة العلاقة بين اللغة والتفكير ؛ حيث اكتشفت
دراسة متخصصة أن لغة قبيلة هوبي الهندية لا تحتوي على صيغة الماضي
والمستقبل ، وإنما تحتوي فقط على صيغة الحاضر ، ولذا فإن أفراد هذه القبيلة
يتكلمون كل شيء وكأنه يحدث الآن ، مما أثّر على تفكيرهم ! ! [4] .
التفكير السليم وعاؤه ذاكرة جيدة :
سبق أن أسلفت أن التفكير عملية ذهنية ينظم بها العقل الخبرات والمعلومات
من أجل اتخاذ قرار معين ، ومن هذا التعريف نخلص إلى أهمية الذاكرة لهذه العملية ، ذلك أنها المخزن الذي يحوي تلك الخبرات والمعلومات التي يستخدمها العقل
الإنساني في التفكير ، ومن هنا تبرز أهمية التعرض لآلية الذاكرة ، وكيفية تفعيلها
بقدر معقول من التفصيل بحيث يسهم في تعميق التفكير وتسهيل مهامه وتسريع
عمله .
تنقسم الذاكرة إلى [5] :
1- مخزن المعلومات الحسي : ولا تستطيع الذاكرة الاحتفاظ بالمعلومات في
هذا المخزن بما يتجاوز ثواني ؛ فعند سيرك في شارع عام في سيارتك تلحظ لافتات
المحلات عن اليمين والشمال ، وتجد أن تلك المعلومات لا تلبث أن تزول .
2- الذاكرة قصيرة المدى : وهي التي تحتفظ لمدة ساعات بالمعلومات التي
يشعر الإنسان بأهمية تخزينها وبضرورة اصطحابها على الدوام ؛ فأنت عندما تسأل
عن رقم هاتف لا تحتاج الاتصال به إلا مرة واحدة تجد أنك تردده في نفسك بضع(1/108)
مرات لكي تتمكن من تخزينه في ذاكرتك القصيرة حتى تنهي الاتصال ، ثم لا يلبث
هذا الرقم في تلك الذاكرة إلا لمدة تتناسب مع تقديرك لأهميته في المستقبل القريب .
3- الذاكرة طويلة المدى : وهي التي تحفظ لمدة طويلة المعلومات التي يبذل
الانسان في سبيل تخزينها جهداً كبيراً ويمضي وقتاً طويلاً ، ويعتقد بعض علماء
النفس أن تلك المعلومات يستديم وجودها في تلك الذاكرة ؛ بمعنى أنها لا تزول
بمرور الوقت ، والحقيقة أنه قد تزول وتتشوه بعض أجزائها ، إلا أن الجزء الأكبر
يبقى على سبيل الدوام . ويجب التنبيه إلى أن عدم استرجاع معلومة من تلك
المعلومات في لحظة معينة لا يعني عدم وجودها ، وإنما يعني فقط عدم مناسبة
طريقة الاسترجاع ، ولوجود اضطرابات نفسية معينة .
وتمر آلية التذكر بالمراحل التالية :
1- استقبال المعلومة المراد تخزينها في أيٍ من أقسام الذاكرة وفق ما سبق
تفصيله ، ويجب أن تتعود على التركيز عند استقبالك للمعلومات .
2- ترميز تلك المعلومة وذلك بإعطائها رمزاً معيناً تستدعى من خلاله عند
الحاجة إليها ، وتعتبر هذه المرحلة الأخطر والأهم ؛ فكلما كان ترميزك للمعلومة
أدق وأوضح كلما استطعت أن تخزّن المعلومة لمدة أطول وتسترجعها بطريقة أسرع .
هل تتذكر من قتل الآخر ... قابيل أم هابيل ؟ قد تتذكر بسرعة وقد لا تتذكر
بسرعة ، بل قد لا تتذكر مطلقاً ؟ ! لكن أرأيت لو أنك تعوّدت على ترميز معلوماتك
بصورة دقيقة ، كأن تقول في نفسك عند سماعك أو قراءتك لهذه المعلومة لأول مرة
ومعرفتك بأن قابيل هو القاتل : قابيل هو القاتل .. ق ق (البدء بحرف القاف) ، هل
تعتقد انك ستنسى تلك المعلومة ؟ ! وخذ مثالاً آخر .. عند استماعك للرقم الجديد
لهاتف صديقك حاول ترميزه بشكل منطقي ، فبافتراض أن الرقم هو 1545/240.. سيبدو لك ذلك الرقم صعباً في البداية ! لكن ماذا لو قلت 240 ... قبل وفاة الإمام(1/109)
أحمد رحمه الله بسنة واحدة ، 1545 ... بينه وبين نهاية الحرب العالمية الثانية
400 سنة ! ! وكذلك بالنسبة للتواريخ ، فإنك تستطيع أن تثبت تواريخ معينة في
كل قرن أو قرنين لتصبح كالأوتاد الذهنية التي تشد بها غيرها .
ومن طرق الترميز الجيدة استخدام الصور الذهنية ، فمثلاً : هب أنك تريد
شراء قلم ودفتر من المكتبة ، وخبز وقشطة ولعبة لطفلك الصغير من الدكان ، فإنه
يمكنك حينئذ أن تتخيل نفسك أنه بعد تناولك للإفطار قمت بكتابة موضوع عن لعب
الأطفال ! !
3- تخزين المعلومات في خلايا الذاكرة التي يبلغ تعدادها ما يقارب 10
مليارات خلية ، كل خلية تستوعب 100 ألف معلومة ! ! كما دلت الدراسات
المعاصرة المتخصصة على أن الإنسان في المتوسط يخزّن 15 تريليون معلومة ..
فما أعظم الخالق عز وجل وما أجهلنا بقدراتنا ! !
4- استدعاء المعلومة المطلوبة من خلال رمزها .
وثمة نوعان للذاكرة هما :
1- الذاكرة الدورية : وهي التي تعتمد على الترداد والتكرار وهي مفيدة في
حفظ النصوص المختلفة .
2- الذاكرة المنطقية : وهي التي تعتمد على الترتيب والربط المنطقيين ، كما
في الأمثلة السابقة ، ويجب أن تفعّل دور هذه الذاكرة بقدر استطاعتك .
وأخيراً لماذا ننسى ؟
ثمة أسباب أربعة بل خمسة تؤدي إلى النسيان هي :
1- ضعف انطباع المعلومة (الصورة الذهنية) في الذاكرة لضعف التركيز !
2- عدم تثبيت المعلومة بعد تخزينها إلا بعد وقت طويل .
3- تداخل المعلومات بعضها على بعض .
4- طرد المعلومات غير السارة (الكبح في علم النفس) !
5- تجاهل ما أوصى به (وكيع) من ترك المعاصي ! !
سيكيولوجية التفكير :
التفكير عملية ذهنية تتأثر بالعامل النفسي سلباً أو إيجاباً ، وبمدى الاقتناع
بالقضية محل التفكير ، فإذا ما تمتع الإنسان بصحة نفسية رائقة حال تفكيره في
قضية توافرت أسباب اقتناعه بها ، فإنه يندفع للتفكير فيها بحماس وانفتاح بطريقة(1/110)
قد توصل إلى الحل المناسب بعد توفيق الله تعالى له ، في حين أنه قد يعجز ذلك
الإنسان عن مجرد إقناع نفسه بأهمية استمراره في التفكير في تلك القضية في حالة
اعتلاله نفسياً ! ! ويمكن تسمية تلك الحالة بـ » الانغلاق الذهني النفسي « ، وربما
يجد أحياناً أن لا مفر من هجر التفكير حينذاك والانهماك في عمل آخر ريثما تعاوده
صحته النفسية ! !
كيف نفكر ؟
على الرغم من كون التفكير عمل لا ينفك عنه إنسان حي ، إلا أنه حقيقة
معقدة من حيث تفاصيلها وخطواتها ، ويتفق علماء الجهاز العصبي على أن الدماغ
الإنساني هو أعقد شيء في كون الله الواسع [6] ، غير أن هذا لا يعني استحالة
الإحاطة العامة بمثل تلك التفاصيل والخطوات بعيداً عن تعقيدات بعض المناطقة ،
وسفسطة جُل الفلاسفة التي يمكن تلخيصها بما يلي :
1- وجود مثير في قوالب مختلفة تنجذب إليه عقولنا من خلال حواسنا
(الانتباه) . والعوامل التي تؤثر على قوة ذلك الانتباه ما يلي :
عوامل داخلية : كالدوافع ، والقيم ، والميول .
عوامل خارجية : كطبيعة المثير وقوته وموضعه ومدى حداثته .
2- ترجمة ذلك المثير في المخ بمساعدة الذاكرة والمخيلة إلى رموز يدركها
العقل (أشخاص ، أشياء ، معاني) (الإدراك) [7] .
3- إعمال العقل لتلك الرموز من أجل الوصول إلى نتيجة معينة .
ويمكن تقسيم العقل البشري في ضوء العملية الذهنية التي يقوم بها إلى : [8]
أ - العقل الواعي (الوعي) : وعن طريقه يمكننا إدراك الأشياء والمعلومات ،
وتخزينها وربط بعضها ببعض على نحو مفيد ، واتخاذ القرار بالفعل أو عدمه .
ب - العقل الباطن (اللاوعي) : وهو الذي يتحكم بالوظائف التلقائية
(اللاإرادية) ، وتخزين الأحداث ودفع الإنسان لممارسة ما اعتاد عليه (العادات) .
وهناك تواصل بين الوعي واللاوعي وتكامل في الأدوار .
ومن الشرود ما قتل :
كثير من الناس يشكون من » الشرود الذهني « أثناء تفكيرهم ، مع أنهم(1/111)
يدّعون مجاهدة أنفسهم للظفر بنسبة من التركيز تمكنهم من إنهاء عملية التفكير
بسرعة قبل أن يفترس الشرود بنات أفكارهم ! !
فما هو التركيز ؟ وكيف نظفر به ؟
لا يعني التركيز كما هو شائع أن يبقى العقل عاكفاً على قضية واحدة ، أو
حول فكرة واحدة ، أو في مكان واحد ، وإنما يعني تناول مشكلة أو موضوع
باستمرار ووضعه نصب عيني الشخص حتى يتم التوصل إلى نتائج معينة .
ويرجع أغلب التشتت الذهني إلى عدم الاقتناع بأهمية ما نفكر به ، أو إلى أن هناك
ما هو أهم منه [9] .
والآن كيف السبيل إلى التركيز ؟
إذا رغبت في اصطحاب التركيز دائماً فعليك :
1- أن تعتاد على التركيز ؛ فالتركيز هو عادةٌ قبل أي شيء آخر ، كما أن
الشرود عادةٌ ! فجاهدْ نفسك وكن صارماً مع الأفكار التي تحاول أن تصدك عن
تفكيرك ، وقم بقطع حبالها قبل أن تخنقه ، ولا تكن عينك رقيباً يجوب أطراف
المكان ويتعاهد أجزاءه ، ولا تكن أذنك جهاز ترصّد للأصوات المشتتة ! ! .
2- أن تقتنع بما تفكر به ، ثم تختار الوقت المناسب للتفكير .
3- أن ترخي ذهنك وبدنك . وبعضهم يقول بأن عدم الاسترخاء أفضل
للتركيز ، وقد يكون الرأي الأرجح أن الناس يختلفون في ذلك ، فاختر الأنسب
لك [10] .
وثمة طريقة قد تؤدي إلى التركيز خاصة عند من يعانون من نوبات التشتت
المزمنة ، وهي الإمساك بقلم والاستعداد لتدوين أمالي العقل وتدفقات الفكر ، وهي
طريقة مجربة استخدمها بعض النابهين ، وأشادوا بجدواها وأبانوا عن طيب نتائجها ، وقد يشعر من يمسك بقلمه لتدوين أفكاره في حالات خاصة بأنها تتدفق بقوة دافعة ، وحينئذ قد يحسن إلقاء القلم والاسترسال في عملية التفكير ، ريثما تخف درجة
التدفق ، ومن ثم معاودة التدوين ، فإن في وسعك أنت تجريبها [11] !
فيروسات يعتل بها تفكيرنا :
ثمة فيروسات خطيرة متناثرة في بيئتنا الثقافية بمنظوماتها المختلفة ، أصابت(1/112)
تفكيرنا بفقر الدم ، وأذهاننا بالشلل ، وعقولنا بالكساح ، مما يظهر أهمية تفعيل جملة
من النصوص الشرعية في عقلنا الجمعي والفردي للاستشفاء والتداوي بها ، والتي
من شأنها إجراء عملية (جراحة ذهنية) نتمكن بها من إزالة تلك الفيروسات وإزهاقها ، كقوله تعالى في الحث على الثتبت والتحري : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ?
[الحجرات : 6] ، وقوله : ? إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً ? [يونس : 36] ،
وقوله جل وعز في الحث على العدل ومجافاة الهوى : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) ? [النساء : 135] ، وقوله تعالى في بيان سبب
المصائب : ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ?
[الشورى : 30] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الانتفاش
الكاذب : » لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، قيل : إن الرجل
يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً ؟ قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر
بطر الحق وغمط الناس « [12] .
ومع أهمية استحضار هذه النصوص وغيرها وتفعيلها في العقول ، يجب
تعاهد تلك العقول بالتربية والإنضاج ، والحزم في إزالة ما علق بها من تلك
الفيروسات لسبب أو لآخر ، والجرأة في » الإنكار الذهني « على المعتلين
والمتلبسين بها ، والديمومة في تذكير الغافلين أو المتغافلين ! ! .
ومن أهم هذه الفيروسات ما يلي [13] :(1/113)
1- التفكير القائم على أساس الهوى (اللاموضوعية) .
2- التفكير القائم على مشاعر الكمال الزائف (الانتفاخ الذهني) .
3- التفكير المستند على المواقف المسبقة (التحيز المسبق) .
4- التفكير المبني على المشاعر وكأنها حقائق ثابتة (المراهقة الذهنية) .
5- التفكير المبني على التمنيات وكأنها توقعات حقيقية (التوهم الذهني) .
6- التفكير المتكئ على العادة (الجمود الذهني) .
7- التفكير الذي يعتقد صاحبه دوماً أن جهة ما مسؤولة عن كل ما يحدث
(عقدة المؤامرة) .
8- التفكير الذي يعتقد صاحبه أنه يستطيع دائماً أن يعرف ما يفكر فيه
الآخرون (الفراسة المتوهمة) .
9- التعميم في التفكير من خلال رؤى محدودة غير كافية (الأرنبة الذهنية) .
10- التردد والبطء في التفكير (السلحفة الذهنية) .
11- التردد والبطء في اجترار الأفكار (الاجترار الذهني) .
التفكير المعلّب :
أصحاب هذا اللون من التفكير هم أولئك الذي يستنتجون قواعد عامة من
حوادث شخصية ، أو تجارب ناقصة ، أو ملاحظات سطحية ، فيخلصون منها إلى
تعميمات متسرعة ، وأحكام جاهزة ، وقوالب جامدة ، وهم لا يعترفون بتغير
الظروف والملابسات ، ... وترى الواحد منهم يسألك عن مسألة شائكة ويطالبك
بجواب يتلخص بنعم أو لا ! ! ، وإذا خالفته قاطعك ، وحسم القضية بقوله : » إن
المسألة كلها تتلخص في ... « ، ثم يصدر حكماً نهائياً ... وربما التفت إليك
مستطيلاً حديثك ، مستغرباً عجزك عن حسم المسألة ، ومستجدياً عينيك نظرة
إعجاب وإكبار على قدرته الفائقة على الحسم ! ! .. إن نتائج تفكير أولئك أشبه ما
يكون بما نخرجه من جوف المعلبات التي نشتريها من الأسواق [14] ! !
تطبيقات عملية :
وقبل أن أعرض للمنهج العلمي في التفكير ، ومن أجل استفادة تطبيقية أكيدة
من الموضوع ، أرجو أن نفكر (فردياً وجماعياً) بشكل جاد ومكتوب ومتكامل في
إيجاد حل للمشاكل التالية :(1/114)
التطبيق الأول : اكتشف الأستاذ أحمد مدير التسويق في شركة ناجحة أن ابنه
البالغ من العمر (16) سنة يتعاطى الدخان ، وتفاجأ أحمد بمثل هذا الخبر ، وبدأ
يتساءل.. حقاً إنها مشكلة خطيرة .. ولكن كيف ؟ فأنا لا أتعاطاه ولا أحد إخوته !!... ومضى في حيرته ... (مع العلم أن أحمد يمنح ابنه مصروفاً مدرسياً قدره
خمسة ريالات يومياً) .
التطبيق الثاني : أذهل الجميعَ ... الأستاذ حسن ! كيف يطلب من مديره
الموافقة على انتقاله من القسم الذي خدم فيه طيلة 17 سنة ، والذي أتقن جميع
الأعمال المتعلقة به لدرجة أصبح معها مرجعاً ومستشاراً !
حاول المدير ثنيه عن طلبه بحجة عدم وجود من يخلفه في قسمه ، بالإضافة
إلى عدم إتقانه لأعمال القسم الآخر ..
التطبيق الثالث : طلب المعلم من أحد تلاميذه الذي أخفق في الاختبار كشرط
لاجتياز المادة : أن يرسم خطين متساويين ويضع في طرفي الخط الأول رأس سهم ، وفي طرفي الثاني مقلوب رأس سهم ، وأعطاه مسطرة . فقام التلميذ برسم هذين
الخطين كما يلي :
<----------------> >-----------------<
الأول الثاني
صعق المعلم ! وصرخ في التلميذ : تستحق الرسوب بجدارة !
هل توافقه على ما ذهب إليه ؟ وهب أنه يعنيك أمر ذلك التلميذ .. هل ثمة
مساعدة يمكنك تقديمها له ؟ !
ملاحظة : ستتم مناقشة تلك التطبيقات في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
________________________
(1) محمد عبد الباقي ، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، ص666 667 .
(2) د إبراهيم أنيس ، المعجم الوسيط ، مادة فكر ، ص698 ، وانظر : المنجد في اللغة والإعلام ، مادة فكر ، ص591 .
(3) د محمد الشنيطي ، أسس المنطق والمنهج العلمي ، ص137 .
(4) د محمد نجاتي ، علم النفس في حياتنا اليومية ، ص258 .
(5) د عبد المجيد نشواتي ، علم النفس التربوي ، ص373 402 ، وانظر جيفري ديدلي ، كيف تضاعف قدرتك على الدراسة والنجاح ، ترجمة د عمر علي ، ص13 46 90 .(1/115)
(6) د/ مالك بدري ، التفكر من المشاهدة إلى الشهود ، (المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، فيرجينيا ، ط3) ، ص26 - 27 .
(7) د حمد المليجي ، علم النفس المعاصر ، ص167 168 .
(8) (هذا التقسيم ليس عضوياً فسيولوجياً وإنما هو اصطلاحي من أجل التوضيح) د عيسى الملا ، الإنسان والتفكير الإيجابي ، ص54 62 .
(9) هنري هازليت ، التفكير علم وفن ، ترجمة د حامد العبد ، ص73 80 .
(10) كيف تضاعف قدرتك على الدراسة والنجاح ، ص96 110 .
(11) أرنست دمينة ، ترجمة رشدي السيسي ، فن التفكير ، ص129 132 .
(12) رواه مسلم (19) ، أبو داود (4091) ، والترمذي (1999) .
(13) د محمد الخطيب وآخرون ، التفكير العلمي ، لدى طالب التعليم العام في المملكة العربية السعودية الواقع والطموحات ، ص52 53 ، د جليل شكور ، كيف تجعلين ابنك مجتهداً ومبدعاً ،
ص65- 67 .
(14) د/ رجبسون ، كيف تفكر ، ص69 - 81 .
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي ..
كيف تكون علمي التفكير ؟
(2/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
التفكير نعمة ربانية اختص الله بها الإنسان ، فإن كان تفكيره سليماً ومستقيماً
هداه إلى معرفة الله وعبادته على بصيرة . وفي الحلقة الأولى تناول الكاتب مقدمات
عامة تطرق فيها إلى ماهية التفكير ، وكيف يفكر الإنسان ، وآلية التفكير ، وكيف
يعتل التفكير . …
ويواصل الكاتب أبعاداً أخرى في صلب الموضوع .
- البيان -
أهمية التفكير العلمي وخصائصه :
تكمن أهمية التفكير العلمي في نتائجه وثماره ، وتتجلى في خصائصه وميزاته ، وتنبثق من منهجه وآليته ؛ فهو يؤدي إلى الوصول إلى الحل المناسب بعد توفيق
الله تعالى في الوقت الملائم وبتكلفة أقل . ويمتاز بأنه :
1- تفكير واضح المنهج ، مترابط الخطوات .
2- تفكير موضوعي .
3- تفكير منطقي .
4- تفكير هادف .
إنه باختصار تفكير واعٍ ، منظّم ، منطقي ، واضح ، إنه تفكير : ماذا ؟ ..
ولماذا ؟ ... وكيف ؟(1/116)
قد لا يدرك أهمية التفكير العلمي من لم يتفحص طريقته في التفكير ، ومن لم
يعش ضمن منظومة اجتماعية يفكر أفرادها علمياً ، كما قد لا يستشعر أهميته من لم
يتلبس بمنهجية التفكير العلمي يوماً من الدهر ولم يذق طيب ثمارها . وقد لا يقتنع
البعض إلا بالتطبيق والمثال ؛ وهذا أمر طبيعي ، مما يحتم مزج الطرح النظري
بالتطبيق .
منهج التفكير العلمي :
يتمخض عن التفكير إزاء مشكلة معينة أو مشروع معين قرار ما ، بمعنى أن
المفكر في الأغلب عندما يكدّ ذهنه في التفكير فإنه لا يخلو من حالتين :
إما تفكير في مشكلة ماضية أو قمة أو متوقعة .
أو في مشروع معين .
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قد يفكر الإنسان في موضوعات جزئية كالتفكير
في العلاقة بين قضيتين ، وهذا ما يخرج في نظر البعض عن الحالتين السابقتين ،
وبالتأمل نجد أن مثل هذا التفكير عادة ما يكون حلقة في منظومة تفكير متكاملة إزاء
مشكلة أو مشروع معين ، وإن لم يكن كذلك ، فالمنهج العلمي يشدد على أهمية أن
يستحضر صاحب التفكير في مثل ذلك الموضوع الأهداف التي دفعته إلى التفكير ،
مع إمكانية وضرورة الاستفادة من المنهج الخاص بالحالتين السابقتين .
ومن أجل وضوح أشد في المنهج ، وثمرة أطيب في النتائج فإنه من المناسب
أن تفرد كل حالة بمنهج خاص ، وفق ما يلي من تفصيل نظري وإيضاح تطبيقي : (أ) التفكير في حل مشكلة معينة :
دخلتُ ذات يوم المنزل بخطى استعجلها صوت والدتي : إخوتك جميعهم قد
ناموا ! وماذا في ذلك ؟ الصغار استيقظوا من النوم ليجدوا الباب مقفلاً ... والكبار
أصابتهم نومة أهل الكهف . بدأنا نصرخ جميعاً : قوموا .. انهضوا .. استيقظوا ..
لا أحد يجيب غير الصغار وبصراخ يتزايد .. أصابتني رعشة أحسست معها بأنني
أفكر بطريقة بدائية ! ! يممت وجهي شطر زاوية من الزوايا .. وأخذت أسائل نفسي..
ما المشكلة ؟ وما أسبابها ؟ وماذا أريد بالضبط ؟ وكيف أصل إلى ما أريد ؟(1/117)
إذاً من المهم جداً ونحن نفكر أن ندرك كيف نفكر (ما وراء التفكير) ؟ !
المشكلة انحباس الصغار داخل الغرفة ... والسبب هو إغلاق الباب بالمفتاح
وعدم استيقاظ الكبار لفتحه .. وما أريده هو إخراج الصغار بسرعة لئلا يتأثروا
نفسياً .. فما هو الحل ؟ !
إما كسر الباب .. أو إيصال صوتنا بطريقة توقظ الكبار .. كسر الباب يبدو
أنه مزعج ومكلف والحالة لا تستدعيه .. إذاً فالحل المناسب الثاني ؛ ولكن كيف ؟
الغرفة في الطابق العلوي ولكن نافذتها مفتوحة .. لماذا لا أسجل صوتي في شريط
كاسيت ثم أقوم بإنزال جهاز المسجل من أعلى المنزل إلى النافذة ... حل معقول !
نجحت الفكرة بإيقاظهم من جراء الصوت المتطاير من الجهاز ..
قصة ليست من نسج الخيال ، قصدت من إيرادها فهم خطوات التفكير العلمي
بعمق ، والتأكيد على منطقيتها وسلامة نتائجها بعد توفيق الله تعالى ، والإشارة إلى
أنه يمكن للواحد منا أن يفكر علمياً بسرعة جيدة متى عوّد نفسه على المنهج العلمي
وتمرّس عليه ...
إذاً فعند تفكيرك في مشكلة معينة يجب اتباع الآتي :
1- تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها (بماذا تفكر) .
2- تحديد الهدف من حل المشكلة (لماذا تفكر) .
3- تحديد البدائل (الحلول) الممكنة (كيف تصل لما تريد) .
4- اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه . (كيف تصل إلى ما تريد على
أفضل وجه) .
قبل المضي قدماً أرجو أن تعيد قراءة الخطوات السابقة مرة أخرى ..
والآن من المناسب أن أتعرض لهذه الخطوات على نحو مفصّل كما يلي :
1- تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها :
(أ) تحديد المشكلة بدقة :
ما هي المشكلة ؟ وكيف يُشعر بوجودها ؟ ولماذا تُحدد ؟ وكيف ؟
بعبارة بليغة موجزة يعرّف د . سيد الهواري المشكلة بأنها : (انحراف الواقع
عما يجب) [1] ، وهذا التعريف إن إردنا أن يتضمن المشكلة الماضية والمتوقعة
إلى جانب المشكلة القائمة فيجب أن نقول :
المشكلة هي : (الانحراف عما يجب) .(1/118)
ولا يمكن أن تشعر بوجود المشكلة إلا من خلال :
* معرفة واقع الحال .
* ومعرفة ما يجب أن يصير إليه ذلك الواقع .
فإذا كان هناك انحراف بين ما هو قائم واقعاً وبين ما كان يجب أن يقوم ، فإنه
بإمكانك إدراك أن ثمة مشكلة معينة تحتاج إلى حل .
ويمثل تحديد المشكلة بوابة العبور إلى جزيرة الحلول الملائمة ، والقنطرة إلى
الوصفات الناجعة ؛ إذ لا وصف للدواء إلا بعد تشخيص الداء ؛ وهذا أمر بدهي لا
يعوزه برهان . لقد أجمع علماء الإدارة على أن من أهم أسباب نجاح الإدارة اليابانية
(أو التفكير الياباني) هو التركيز على تحديد المشكلة بدقة ، وإمضاء وقت طويل
لتحقيق ذلك بعكس البعض ؛ إذ يفترضون دوماً أن المشكلة واضحة لدرجة لا يجوز
معها أن يضيعوا شيئاً من الوقت في تحديدها ! مع أنهم في حالات كثيرة يفكر كل
واحد منهم في مشكلة تختلف عن تلك التي يفكر فيها الآخر !
هل اعتاد الواحد منا أن يسأل من يفكر معه عن المشكلة : ما هي المشكلة التي
نفكر فيها ؟
ولقد ثبت لديّ بالتجربة العملية أنّ من طالبتهم بالتفكير الجماعي في مشكلة
معينة لم يسأل أحدهم الآخر عما يفكرون فيه ؛ مع أنه بسؤالي بعضهم تبين لي أن
البعض كان في الشمال والآخر في الجنوب ! أو في الشمال الغربي !
وهنا نتلمس سبباً رئيساً من أسباب إخفاق التفكير الجماعي :
(يفكر بعضنا غرباً وبعضنا الآخر شرقاً ! ) .
ويجب في حالة التفكير الجماعي أن تكون القناعة بأهمية المشكلة متجانسة ،
أو متقاربة ، ولا بد أن يكون إلمام المشاركين في التفكير الجماعي بتفاصيل المشكلة
وأجزائها كذلك ، كما أنه من البدهي تقارب مستوياتهم الفكرية والثقافية ، وإلا فإنه
يجب أن يُصار إلى التفكير الفردي ؛ إذ إنه حينذاك يصبح أكثر كفاءة وأعظم
جدوى [2] .
من الأمور المُعِينة على تحديد المشكلة أن توجه مجموعة من الأسئلة لنفسك ،
على أن تتناسب مع طبيعة المشكلة ، فمثلاً :(1/119)
ما هو الخلل ؟ ما هو النقص ؟ ما هو الانحراف ؟ ما هو الخطأ ؟
ما هو الشيء الذي وقع فيه الخلل ؟ وكيف ؟
وأين يوجد الخلل في الشيء نفسه ؟
متى لوحظ الخلل أول وآخر مرة ؟
هل الخلل في ازدياد أم في نقص ؟ ماذا كان يجب أن يكون ؟ وكيف كان ؟
من هو المسؤول عن الخلل ؟
هل أنا جزء من المشكلة أم من الحل ؟ ؟ ! !
وعندما تتلمس المشكلة يجب أن تفرق بين :
1- المشكلة الظاهرية (العرضية) : وهي تلك التي تبدو في الوهلة الأولى
بأنها هي المشكلة التي يجب حلها ، غير أنه بالتركيز والعمق يتبين لك زيفها
ويتعرى خداعها .
في التطبيق الأول : ما هي المشكلة ... أهي تعاطي الابن للدخان [3] !
وفي التطبيق الثاني : ما هي المشكلة .. أهي خسارة ذلك الموظف [4] الجاد في قسمه وعدم وجود من يخلفه فيه ؟
وفي التطبيق الثالث : ما هي المشكلة .. أتراها إخفاق الطالب في جعل
الخطين متساويين [5] !
2- المشكلة الحقيقية : وهي ما يجب حلها والتركيز عليها ، وهي قد لا تجود
بنفسها لمن أصيب بـ (العجلة الذهنية) وقد تحتاج لكي تكتشفها إلى ارتداء (نظارة
ذهنية ثاقبة) .
في التطبيق الأول : ألا توافق أن المشكلة أعمق من تعاطي الابن للدخان ،
وأنها تتمثل بحدوث تغير فكري لدى ذلك الابن ، تمخضت عنه رؤية القبيح حسناً ؟
وفي التطبيق الثاني : ألا تعتقد أن المشكلة قد تكمن في معاملة مدير القسم
القاسية لذلك الموظف ، أو لعدم وجود الحوافز في القسم كما هي في الأقسام الأخرى ، أو غير ذلك من المشاكل التي توجد داخل القسم نفسه ! !
وفي التطبيق الثالث : ... ألم تسأل نفسك بدءاً عن مدى وجود هذه المشكلة
أصلاً ... لو قمت بقياس الخطين لاكتشفت أنه ليس هناك مشكلة ... فالخطان
متساويان ! ألا زلت توافق المعلم ؟
ترى كم من المشاكل المتوهمة استهلكتنا فكرياً واستنزفتنا مادياً ونفسياً ؟
حواسنا تمارس خداعاً :
إن التطبيق الثالث يبين لنا أن حواسنا قد تمارس خداعاً لنا ؛ فكل من يرى(1/120)
بعينه المجردة الخطين السابقين فإنه يعتقد أن الثاني أطول من الأول ! وهذا ما يؤكد
على أهمية التفطن لمثل هذا الخداع من جهة ، وعلى أهمية التأكد من مدى وجود
المشكلة التي تعتني بالتفكير في إيجاد حل لها .
حاول أن تقرأ الجملة التالية بصوت مسموع :
عند التفكير في مشكلة معينة يجب أن نتأكد
من من مدى وجودها فعلاً قبل المضي في إيجاد حلٍ لها .
هل لاحظت تكرار من ؟ هل قرأت (من) من مدى .. ؟ أم أنك اكتفيت بمن
واحدة ؟
من الطبيعي أن تكتفي بواحدة ؛ ذلك أن رؤية عينك تتأثر بما تفكر به ...
فأنت لم تتعود على تكرار حرف الجر مثلاً ... و (لا وعيك) يوحي إلى عينك بعدم
إمكانية مثل ذلك التكرار ..
وربما لا نستطيع أن نتغلب دائماً وبشكل تام على مثل هذا الخداع ، غير أننا
نستطيع أن نقلل من تأثيره من خلال :
* الاعتماد على أكثر من حاسة ؛ فمثلاً يمكننا استخدام العين لإبصار شيء
معين والأنف لشمه في آن ..
* عدم الاعتماد على ما تمليه علينا حواسنا فقط ، فمثلاً يمكننا القياس الكمي
للشيء ...
* جعل العقل مفتوحاً بحيث لا نستبعد شيئاً ..
* التركيز الشديد ...
(ب) تحديد أسباب المشكلة :
وبعد تحديد المشكلة بدقة وصياغتها بعناية ، يجب تحديد الأسباب التي أوجدتها ؛ ويفضل تصنيف تلك الأسباب وتقسيمها وفق اعتبارات معينة مع ترتيبها وفق
اهميتها ، فمن هذه التصنيفات ما يلي :
* أسباب رئيسة وأخرى فرعية .
* أسباب داخلية وأخرى خارجية .
* أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة .
* أسباب مادية وأخرى معنوية .
من الأخطاء الشائعة عند التفكير في الأسباب الاعتقاد بأن هناك سبباً واحداً
لكل مشكلة ، في الوقت الذي يكون فيه هناك أكثر من سبب . فتجد بعض الناس
عندما يسألك عن مشكلة انحراف الأحداث مثلاً فإنه يقول لك : ما السبب في
انحراف الأحداث ؟ وهو ينتظر منك أن توقفه على سبب واحد ، ولذا تجده يتبرم إذا(1/121)
فصّلت في الأسباب ، وربما ينفجر إذا أوصلتها إلى أربعة أو خمسة ، أو قمت
بتصنيفها ! [6] إن أولئك يوقفون مشاكل بحجم الفيل على رأس دبوس .. إن تلك
الظاهرة التي يمكن تسميتها بظاهرة (دبوس الفيل) تنتشر عادة في البيئات الثقافية
الضحلة ، ذلك أن الضحالة ؛ تحجب عن أصحابها بعض جوانب الموضوع وربما
أهم زوايا التفكير ! ! وبهذه الظاهرة أضحت القضايا الكبيرة عند أولئك مجرد
(بالونات منتفخة) تفتقر فقط إلى ذلك (الدبوس) !
2 - تحديد الهدف من حل المشكلة :
لماذا تفكر في تلك المشكلة دون غيرها ؟
قد تقودك الإجابة أحياناً إلى الامتناع عن البدء أو الاستمرار في التفكير في
المشكلة عندما تشعر أن الأهداف التي يمكن تحقيقها بعد حل المشكلة لا تستحق ما
سيبذل في سبيلها من جهد وعطاء .. ، وتفيد هذه الخطوة إذا عزمت على البدء أو
الاستمرار في التفكير في مشكلة معينة :
* في إضاءة الطريق الذي يجب أن تسلكه لحل المشكلة .
* وفي المساعدة في تحديد كافة البدائل .
* وفي اختيار أفضل البدائل الممكنة ؛ وذلك أنها تعد معياراً موضوعياً
للاختيار ؛ فالبديل المناسب هو الذي يحقق الأهداف على أفضل وجه كمّاً وكيفاً .
ومن أجل اختيار موضوعي للبديل المناسب ، يجب أن :
* ترتب الأهداف طبقاً لأهميتها .
* تعطي لكل هدف وزناً خاصاً (تقييم الأهداف) .
مثال : أحصِ أهدافك تكن موضوعياً أكثر !
بافتراض أن هناك ثلاثة أهداف وبديلين ، وتوفرت المعلومات الآتية :
--------------
الهدف الوزن
--------------------
الأول … 5 نقاط
الثاني … 3 نقاط
الثالث … نقطتان
البديل الأول يحقق الهدفين الثاني والثالث ، في حين أن البديل الثاني يحقق
الهدفين الأول والثالث .
مجموع النقاط التي يحققها البديل الأول = 3 +2 = 5 .
مجموع النقاط التي يحققها البديل الثاني = 5 + 2 = 7 .
البديل الذي يجب اختياره هو الثاني .
قد تقول إننا لا نستطيع دائماً أن نعطي أهدافنا أوزاناً معينة ؛ وهذا صحيح ،(1/122)
ولكن لا أظنك تدّعي عدم استطاعتنا ترتيبها وفق أهميتها ، وهذا قد يكفي كمعيار
للاختيار في مثل تلك الحالات .
3 -تحديد البدائل الممكنة :
عند التفكير في البدائل الممكنة يجب اصطحاب الأهداف وتذكرها ؛ لأن ذلك
مُعينٌ على توليد البدائل من جهة ، وعلى استيعاب كافة البدائل الممكنة من جهة
أخرى .
اشتكى المستأجرون لصاحب العمارة بطء المصاعد في العمارة ، وهددوا
بالخروج ما لم يتم استبدالها ! خشي صاحب العمارة أن ينفذ المستأجرون تهديدهم
فيخسر ما يدفعونه من إيجارات مرتفعة ، فكاد أن يتخذ قراراً بالاستبدال ! فاقترح
البعض أن يخفض شيئاً من الإيجار نظير بطء المصاعد ، وأشار عليه البعض
بتركيب مرايا في كل طابق عند كل مصعد ! في حين بارك الأغلبية قرار الاستبدال
وشجعوه على الإسراع لئلا يخسر !
ما رأيك بهذه البدائل ؟ قد يبدو لك أن بعضها غريب وساذج في آن .. أليس
كذلك ؟
في هذه الخطوة يجب تسجيل كافة البدائل الممكنة التي تخطر على بالك ،
حتى تلك التي قد تبدو لك معالم سذاجتها ومواطن سطحيتها ونقاط ضعفها ! لماذا ؟
* لأن هذه الخطوة تركز فقط على تسجيل كافة البدائل الممكنة .
* لأنك قد تكتشف أو يكتشف غيرك ممن يشاركك التفكير أن البديل الناضج
هو ذلك البديل الذي سبق اعتباره ساذجاً !
تعد تقنية (العاصفة الذهنية) من التقنيات الجيدة والطرق الناجحة والمجربة في
توليد البدائل . (سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى لاحقاً في الحلقة القادمة) .
4 - اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه :
يجب إخضاع البدائل التي تم تحديدها لدراسة علمية موضوعية يتمخض عنها
تحديد البديل المناسب ، من خلال تحديد البديل الذي يحقق الأهداف على أفضل
وجه كمّاً وكيفاً . بمعنى أن هذه الخطوة تعادي نظرية : (أنا لا أرتاح نفسياً لهذا
البديل) واضطرابها ! !
في الحالة السابقة اقتنع صاحب العمارة بضرورة عرض المشكلة على مكتب(1/123)
استشاري ، فقام المكتب بدراستها وأوصى بتركيب المرايا ؛ لأن الدراسة أثبتت أن
المصاعد جيدة وليست بطيئة ، وتوصلت إلى أن السبب في تبرم المستأجرين يعود
إلى عدم وجود ما ينشغلون به أثناء انتظارهم للمصعد ، ومن هنا جاءت فكرة
تركيب المرايا لكي ينشغل كل واحد منهم بهندامه ريثما يأتيه (الفرج) ! !
أثبتت الدراسة أن بطء المصاعد ليس المشكلة الحقيقية .. إذاً ما هي تلك
المشكلة من وجهة نظرك ؟ أرجو أن تكون قد أدركت قدر المبالغ التي وفرها ذلك
البديل (الساذَج ! ) على صاحب العمارة ترى كم من المبالغ والجهود ننفقها في
بدائل فاشلة ؟
وكم من الأفكار العظيمة اعتبرناها ساذجة وفيها الدواء !
ويجب أن تتضمن هذه الخطوة متابعة تنفيذ البديل وذلك باستشراف المستقبل
وما ينطوي عليه من عقبات وصعوبات ، تمهيداً لرسم البرنامج العملي اللازم
لتجاوزها وتلافيها .
(ب) التفكير في مشروع معين :
يقصد بالمشروع (عملٌ يراد القيام به لتحقيق أهداف معينة) . وقد يكون هذا
المشروع خاصاً أو عاماً ، عملياً أو ذهنياً ، دنيوياً أو دينياً .... أو خليطاً بين هذا
وذاك .
ما هي الخطوات التي تعتقد أنه يجب اتباعها عند التفكير في مشروع معين ؟
حدثني أحد أولئك الذين يفكرون علمياً أنه كان جالساً في مجلس شرع أحد
الحاضرين فيه في عرض مشروع خيري ، وقال ما مفاده :
أيها الإخوة ... تعلمون أهمية مثل هذا المشروع للفقراء والمحاويج وعظم
أجره عند الله تعالى ، وهذا المشروع الخيري يتلخص في جمع تبرعات من
المحسنين لتوزيعها على هؤلاء الفقراء ... وقبل معرفة من سيشارك منكم في أعمال
المشروع أود أن أتيح الفرصة للإضافة والتعقيب !
تجاذب الحاضرون أطراف الكلام وتدافعوها حتى ظفر صاحبي بطرف ،
فشكر المقدم واستحسن الفكرة واستجاد المشروع ، غير أنه فاجأ الجميع بأن تحدث
عن :
أولاً: أهمية تحديد الأهداف لهذا المشروع بدقة :(1/124)
فالأهداف قد تكون خيرية فقط ، أو خيرية دعوية ، أو خيرية اجتماعية ...
ثانياً : البدائل :
من جهة الزمن : يتم التوزيع مرة في السنة ، مرتين ، ثلاث ..
ومن جهة النطاق الجغرافي للمشروع : يغطي المشروع حياً واحداً ، اثنين ،
ثلاثة ... كافة الأحياء في المدينة . ومن جهة طريقة التوزيع : توزيع نقدي ، أو
عيني ، أو نقدي عيني .
ومن جهة الإشراف الإداري ...
ومن جهة .... .
ثالثاً : يجب بعد تحديد البدائل والموازنة بينها ، واختيار أفضلها في ضوء
الأهداف المحددة .
لم يحتج صاحبي إلى ساعات طويلة ولا إلى جهد كبير من أجل بلورة أفكاره
التي استجادها الحاضرون .. لماذا ؟
لأنه عوّد نفسه على التفكير بطريقة علمية .
إذاً فالخطوات التي تتبع في حالة التفكير في مشروع معين هي ذاتها التي تتبع
في حالة التفكير في مشكلة معينة باستثناء الخطوة الأولى ، وعليه تكون الخطوات
هي :
1- تحديد الأهداف التي يجب أن يحققها المشروع .
2- تحديد البدائل الممكنة .
3- اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه .
وحيث إنه سبق تناول هذه الخطوات بتفصيل لا يسوّغ الإعادة ، فإنني
سأعرض للنقاط التي لها تعلق أكبر في التفكير في مشروع معين عبر ما يلي :
كيف تحدد أهدافك ؟
بدءاً يجب التأكيد على أن نقطة الانطلاق في التفكير في مشروع معين هي
الاقتناع بالأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال هذا المشروع .
وثمة اعتبارات علمية ينبغي مراعاتها عند تحديد الأهداف لمشروع معين ،
يمكن تلخيصها فيما يلي [7]:
1- أن تحدد الأهداف بدقة ووضوح ؛ بحيث تُفهم من قِبَلِ الجميع فهماً واحداً .
2- تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها .
3- واقعية الأهداف ، وذلك بإمكانية تحقيقها ، وهذه الواقعية على مستويين
هما :
(أ) على مستوى كل هدف على حدة ، وذلك بكونه ممكن التحقق .
(ب) على مستوى الأهداف مجتمعة ، وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت
واحد .(1/125)
4- صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس من أجل تحديد نسبة النجاح في
تحقيقها ، وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية :
(1) الزمن : توزيع المواد العينية على الفقراء في بداية كل شهر .
(ب) الكمية : إعطاء كل فقير ثلاثة أكياس من الأرز .
(ج) التكلفة : يجب ألا تزيد قيمة المواد الموزعة على كل فقير عن مبلغ
3000 ريال .
5- ترتيب الأهداف بحسب أهميتها .
6- أن تكون الأهداف من نوع واحد ، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية أو
نهائية) أو فرعية (تكتيكية أو مرحلية) ، وذلك أن النوع الأول يتضمن الثاني .
ومن الأمور التي تعين على صياغة الأهداف وتحقيقها ومتابعة ذلك التحقيق
أن تقسّم وتصنّف اعتماداً على أساس أو آخر ، فمثلاّ يمكن تقسيمها :
* من حيث النوع : إلى أهداف رئيسة وأهداف مرحلية .
* من حيث الزمن : إلى أهداف طويلة الأجل (5 -10سنوات) ومتوسطة
الأجل (1- 5 سنوات) وقصيرة الأجل (أقل من سنة) .
أقدِم إلى حيث يحجم الآخرون ! :
لا يكن إخفاق غيرك في تنفيذ مشروع تضافرت اسباب اقتناعك به صارفاً لك
عن محاولة إيجاد آلية تمكن من تنفيذه على نحو يوصلك إلى تحقيق أهدافك ..
لتتصف بالشجاعة الذهنية ... فكم من المشاريع الرائعة حكم عليها البعض بالإخفاق
لأن عبقرياً أو (متعبقراً) أخفق في إنجاحها ! !
فما لبثتْ أن انتشلها شجاع اقتنع بها ثم فكر .. ثم استشار .. ثم نفّذ .
ألا يمكنك أن تكون شجاعاً ولو مرة في حياتك ؟ !
ولا إخالك إلا مفرقاً بين (الشجاعة الذهنية) و (التهور الذهني) ! !
تطبيقات عملية :
قبل التعرض لموضوع التفكير الإبداعي في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى
أرجو أن تفكر بشكل جاد ومتكامل ومكتوب في التطبيقات التي سأوردها لضمان
الاستفادة وترسيخ الفهم .
التطبيق الأول :
لاحظت إدارة شركة رائدة في الإنتاج الحيواني زيادة غير عادية في استهلاك
إطارات الشاحنات التي تستخدمها الشركة في تسويق منتجاتها ، وبعد البحث(1/126)
والتحري عن سبب مثل هذه الزيادة تبين للإدارة أن سائقي الشاحنات يقومون ببيع
الإطارات في السوق ، ومن ثم استبدالها بأخرى جديدة والادعاء بأنها تلفت .
بافتراض أنك إداري فاعل في تلك الشركة . فكر في المشكلة السابقة إبداعياً
وحدد البديل الذي تراه مناسباً وكافياً لكي نخلع عليك لقب مبدع .
التطبيق الثاني : أمامك الشكل التالي :
5 5 5
5 5 5
5 5 5
المطلوب أن توصل بين هذه الدوائر بخطوط ، بالشروط الآتية :
أن يكون عدد الخطوط أربعة .
أن تكون مستقيمة .
ألا ترفع قلمك عن الورقة وألا تعيد الخط مرتين [8].
________________________
(1) د سيد الهواري ، الإدارة الأصول والأسس العلمية ، ص457 .
(2) د عبد الكريم بكار ، فصول في التفكير الموضوعي ، ص 39
(3)هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة ، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(4)هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة ، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(5) هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة ، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .
(6) هاي روتشليس ، التفكير الواضح ، ترجمة لطيف دوس ، ص 32 .
(7) عبد الله البريدي ، نظرات في التربية في الأهداف ، مجلة البيان ، العدد 122 ، شوال 1418هـ.
(8) TOM VERBERNE , CREATIV FITNESS , TRAING & PEVELOPMENT , 1997, P 69-70 .
قضايا ثقافية
التفكير العلمي والإبداعي ..
كيف تكون مبدعاً ؟
(3/3)
عبد الله بن عبد الرحمن البريدي
تناول الكاتب في الحلقتين الماضيتين مقدمات عامة حول ماهية التفكير ،
وآليته ، وخصائصه ، ومنهج التفكير العلمي الذي أفرد فيه حالات محدودة للتفكير
مثل : حل مشكلة معينة ، والتفكير في مشروع معين ...
ويواصل في هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى للموضوع ..
- البيان-
ماهية التفكير الإبداعي :
الإبداع في اللغة يعني الإنشاء على غير مثال سابق ، والبديع هو المبدَع(1/127)
والمبدِع ، قال تعالى في محكم التنزيل : ? بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ?
[البقرة : 117] ، واستبدعه : عده بديعاً [1] .
أما من الناحية العلمية ، فلعلي أقفز كما سبق في مقال سابق إلى التعريف الذي
ارتأيته ؛ متجاوزاً بذلك إشكالية التعريف التي لا تهم القارئ كثيراً ، وهذا التعريف
هو :
(عملية ذهنية مصحوبة بتوتر وانفعال صادق ينظم بها العقل خبرات الإنسان
ومعلوماته بطريقة خلاقة تمكنه من الوصول إلى جديد مفيد) [2] .
أهمية التفكير الإبداعي :
ها هي البشرية جمعاء ترفل بصور من النعم ، وأشكال من الترفيه ، وألوان
من التيسير ، تَفَضّل بها المولى عز وجل وقضى بحكمته البالغة بجعل الإبداع
وسيلة فاعلة يمتطيها المبدعون ليسهموا في بلورة أفكارهم نظرياً ، وفي إنجازها
واقعياً .
ومن هنا تنبثق أهمية التفكير الإبداعي من كونه بعد توفيق الله تعالى :
* قناة أكيدة إلى جزر الاكتشافات الجديدة . * ومعبراً مضيئاً إلى النجاح
والتفوق .
* ومنفذاً قاصداً إلى تحقيق أهدافنا بكفاءة وسرعة .
* وسبيلاً ذكياً إلى التجديد الذي يزهق روح الملل ويريق دم السآمة ! !
جوهر الإبداع :
على الرغم من أن هناك اعترافاً بين علماء الإبداع على أنه نوع من أنواع
النشاط العقلي ، إلا أنهم اختلفوا في طرق معالجته وتحديده وقياسه ، بمعنى أنهم
اختلفوا في الإجابة عن السؤال : متى نحكم لعمل أو لشخص بالإبداع ؟ كما أنهم
اختلفوا في جوهر الإبداع على النحو الآتي :
أ - منهم من تناول الإبداع على أنه مجموعة من الخطوات تبدأ بتلمس
المشكلة وتنتهي بإشراق الحل والتحقق منه ، فمن طبق تلك الخطوات فقد مارس
عملاً إبداعياً ! ! (منهم : والاس ، ماسلو ، عبدالغفار) .
ب - ومنهم من جعل محور الإبداع هو الناتج الإبداعي وحدد مجموعة من
الصفات كالجِدّة وعدم الشيوع والقيمة الاجتماعية ، وجعل توافرها دليلاً على الإبداع
بغضّ النظر عن شخصية القائم بالعمل ! ! (منهم : روقيرس ، ستن) .(1/128)
ج - وبعضهم ركز على مجموعة من الخصائص العقلية وغير العقلية وجعل
تلبّس البعض بها دليلاً على إبداعه ، سواءٌ أبدع واقعاً أم لم يبدع ! ! (منهم :
جيلفورد ، تورانس) [3] .
إذاً فالأول يعتني بالخطوات الإبداعية ، والثاني بالناتج الإبداعي ، والثالث
بالشخصية الإبداعية . ومن هنا فلعله من الواضح أن كل رأي منها يعجز عن تفسير
ظاهرة الإبداع ، ذلك أنه يعالج ضلعاً واحداً من أضلاع المثلث الإبداعي ، ومن ثم
فالرأي السديد في نظري يتمثل في الأخذ بهذه الآراء مجتمعة على نحو ما سيجري
تفصيله .
منهج التفكير الإبداعي :
كاد أن يقتتل الناس من أجل إخراج (طائر الكروان) الذي احتبس في حفرة
رأسية في جدار سميك .. فأحضر أحدهم عوداً وبدأ بإدخاله وتحريكه داخل الحفرة
حتى كاد باجتهاده أن يقتله ! ، والآخر بإخلاصه حاول أن يدخل يده الطويلة لعله
يمسك به ، ولكن بلا جدوى ، وبعضهم اقترح تخويفه بالأصوات المزعجة عله أن
ينهض ! كل ذلك وطفل في الرابعة عشرة من عمره كان يرقب الموقف وتبدو عليه
آثار توتر التفكير وانفعال البحث .. وفجأة يصرخ وجدتها ! ما رأيكم لو بدأنا بسكب
كمية من الرمل في الحفرة بصورة تدريجية .. إنه الإبداع ، أليس كذلك ؟ !
قد تبدو لك هذه القصة بسيطة ، وبالفعل هي كذلك ، غير أني أريد أن تفهم أن
المقصود منها فقط هو تسهيل عرض منهج التفكير الإبداعي الذي أراه بعد أن تم
استيعاب نظريات الإبداع ، واستقراء آراء الباحثين .
ما الخطوات التي يجب اتباعها لنكون مبدعين ؟ !
التفكير الإبداعي ينتظم نفس الخطوات التي يمر بها التفكير العلمي ولكن على
نحو فذ ؛ فذلك الطفل حدد المشكلة بدقة وتعرف على أسبابها ، وعرف على وجه
الدقة ما يريد ، وفكر في مجموعة من البدائل ، وخلص أخيراً إلى البديل الإبداعي ،
بيد أن المبدع دائماً ما يتفاعل بإخلاص مع ما يفكر به لدرجة يكون معها :
* معايشاً لأجزاء الفكرة ومفرداتها ، مستظلاً تحت شجرتها وأغصانها ،(1/129)
ومتأملاً ثمارها وأشواكها . ومن ثم فإنه يصل إلى درجة من النضج التفكيري يصبح
معها :
** قادراً على المرور بهذه الخطوات بكل سرعة وكفاءة . ** مرناً في
تطبيقها .
** متوثباً صوب الفكرة الإبداعية (الجديدة) إلى حد تطّرد معه الأفكار
الأخرى إذا ما لاحت في أفق تفكيره ، بمعنى أن ما يعايشه المبدع من توتر وانفعال
إزاء الفكرة يجعله يدمج الخطوتين الثالثة والرابعة (تحديد البدائل الممكنة ، واختيار
أفضلها) في خطوة واحدة ؛ فهو يفكر بطريقة خلاّقة في بدائل كثيرة ، غير أن
إبداعه يمكّنه من القضاء على الأفكار الهزيلة ليسير على جثثها صوب البديل
الإبداعي .
** محتضناً البديل الإبداعي في (رحم فكري) ، متعاهداً إياه بكل ما ينميه
ويغذيه .
** فاحصاً للفكرة المنبثقة من ذلك الرحم ، ليحدد أخيراً مدى صحتها نظرياً
وجدواها عملياً [4] .
أسئلة تعينك على الإبداع :
ثمة أسئلة تعين على الإبداع ، يمكن لكل واحد منا توجيهها لنفسه ومن ثم
محاولة تلمس إجابة لها ، وليس هناك أسئلة نمطية تصلح في كل الأحوال ، وإنما
يجب اختيار الأسئلة التي تناسب المشكلة محل التفكير . فعلى سبيل المثال يمكنك
في مرحلة توليد الأفكار توجيه الأسئلة الآتية :
* ماذا لو فعلت أو لم أفعل كذا .......... . ؟ * لِمَ لا أفعل كذا ........... ؟
* هل أغير زاوية التفكير (أفكر رأساً على عقب) ؟ * ما هي الافتراضات
التي يمكن تجاوزها ؟
وعند تقييم الأفكار يمكنك توجيه الأسئلة التالية :
* هل هذه فكرة جيدة ؟ * هل نستطيع تنفيذها ؟
* هل الوقت مناسب لتنفيذها ؟ * من يستطيع مساعدتنا ؟
* ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب في حالة إخفاقها ؟
إن كثيراً من المبدعين لم يصلوا إلى درجة الإبداع إلا بعد أن تخطوا عقبة
الأسئلة (التقليدية) ، ذلك أن الإجابة التي تتبلور في أذهاننا إنما تتشكل بحسب
السؤال ؟ [5] .
من هو المبدع وما خصائصه ؟(1/130)
إن المبدع إنسان كغيره ... غير أنه وعاء مملوء بانفعالات صادقة ، تأتيه من
كل صوب ، من قراءاته ، تأملاته ، ملاحظاته ، احتكاكاته ، اهتماماته ، ومعاناته ..
فينفذ ما قرأه وما سمعه وما شاهده وما وعاه ، ليتخفف من وطأة الانفعالات ، ومن
ازدحام عقله بالرؤى [6] .
ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع ، غير أن من أهمها في نظري ما
يلي :
1 - الخصائص العقلية :
أ - الحساسية في تلمس المشكلات : يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في
المواقف المختلفة أكثر من غيره ، فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن
حل لها ، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام) ! ! ، أو يتلمسون
مشكلة دون الأخريات .
ب - الطلاقة : وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار
في فترة زمنية قصيرة نسبياً . وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع وتنمو شجرته .
وهذه الطلاقة تنتظم :
** الطلاقة الفكرية : سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار .
** طلاقة الكلمات : سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها
بصورة تدعم التفكير .
** طلاقة التعبير : سهولة التعبير عن الأفكار وصياغتها في قالب مفهوم .
ج - المرونة : وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل
والعكس ، ومن اليمين إلى اليسار والعكس ، ومن الداخل إلى الخارج والعكس ،
وهكذا) من أجل توليد الأفكار ، عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة
التلقائية) ، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التَكيّفية) .
فمثلاً باستنطاق قصة الكروان ، نجد أن أكثر الناس كانوا يفكرون :
من أعلى إلى أسفل __________ كيف نمسك بالطائر من أعلى ؟ ذلك أنهم
كانوا يعتقدون بأن الحل يكمن في إيجاد وسيلة معينة يتم استخدامها من جانبهم
(الأعلى) وإنزالها إلى الطائر (الأسفل) ، وهذه زاوية تفكير جيدة قد تنجح ، ولكن
الخطورة تكمن في الجمود عليها وعدم التماس زوايا أخرى ! ! .(1/131)
بينما وجدنا الطفل المبدع يفكر من زاوية أخرى مع الزاوية الأولى :
من أسفل إلى أعلى ___________ ماذا لو جعلنا الطائر يرتفع من جانبه
لكي نتمكن من الإمساك به ! ! وفعلاً .. جاءت فكرة سكب الرمل بكميات قليلة من
الجهات المختلفة للحفرة لكي يرتفع الطائر شيئاً فشيئاً . ويسمي البعض هذا اللون
من التفكير بـ (التفكير رأساً على عقب) .
د - الأصالة : وتعني القدرة على إنتاج الأفكار الجديدة على منتجها ، بشرط
كونها مفيدة وعملية .
هذه الخصائص الأربع حددها جلفورد ، وتشكل هذه الخصائص بمجموعها ما
يسمى بالتفكير المنطلق (المتشعب) ، وهو استنتاج حلول متعددة قد تكون صحيحة
من معلومات معينة وهذا اللون من التفكير يستخدمه المبدع أكثر من التفكير المحدد
(التقاربي) وهو استنتاج حل واحد صحيح من معلومات معينة .
هـ الذكاء : أثبت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع ليس شرطاً للإبداع ، وإنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع [7] .
2 - الخصائص النفسية :
يمتاز المبدع نفسياً بما يلي :
أ - الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها . ب قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب
المغامرة .
ج - القدرة العالية على تحمل المسؤوليات . د تعدد الميول والاهتمامات .
هـ عدم التعصب .
و الميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله ، مع خصائص اجتماعية وقدرة
عالية على اكتساب الأصدقاء .
ز الاتصاف بالمرح والأريحية . ح القدرة على نقد الذات والتعرف على
عيوبها [8] .
خصائص متفرقة :
أ - حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل .
ب الميل إلى النقاش الهادئ .
ج - الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان) .
د - دائم التغلب على (العائق الوحيد) . (العائق الذي يتجدد ويتلون لصرفك
عن الإنتاج والعطاء) [9] .
هـ البذل بإخلاص وتفان ، وعدم التطلع إلى الوجاهة والنفوذ ؛ بمعنى أن
تأثره بالدافع الداخلي (كالرغبة في الإسهام والعطاء ، تحقق الذات ، لذة الاكتشاف ،(1/132)
والانجذاب المعرفي ونحوها) أكثر من الدافع الخارجي (المال ، الشهرة ، المنصب
ونحوها) .
هل يلزم توافر هذه السمات جميعها في الإنسان حتى يكون مبدعاً ؟
بالنسبة للخصائص العقلية يلزم توافرها كلها بدرجة معقولة ، أما الخصائص
الأخرى فيكفي أغلبها .. وأظنك الآن قادراً على تحديدها .
أقفال الإبداع :
تأبى بعض الأقفال الذهنية إلا أن تصد قطاعاً عريضاً من الناس عن ولوج
باب الإبداع ، ويرجع بعضها إلى البيئة الثقافية بمفهومها العام التي تنتظم العقائد
والأخلاق ، وتصوغ الأهداف والغايات ، وتشكل طرائق التفكير وقيم الأداء ؛ بينما
يرجع بعضها الآخر إلى تراكمات نفسية خلفها سوء التربية الذاتية والانهزام في
معركة بناء الذات والانطوائية ! !
وهذه الأقفال في غاية المكر وقمة التلبيس في تعاملها معنا ، فهي تعرف كيف
تتلون بلون جذاب أخاذ ، وتتدثر بثوب المخلص المشفق ؛ وفوق هذا وذاك تخدرنا
بأسلوب بليغ ، فهي قد تقول لي أو لك :
* الإجابة الصحيحة * لست مبدعاً * لا أقحم نفسي في غير تخصصي *
ألتزم القواعد .
* ليس من المنطق في شيء * كن عملياً * إياك والغموض * من الخطأ أن
تخطئ .
وعقب هذا الإيحاء ، تتشرب عقول بعضنا تلك الأقفال وتعض عليها
بأضراس العقل ، ونواجذ الفكر ! !
ولعل استعراض تلك الأقفال التي حددها روقرفون Rogervon تعين على
التخلص من شرورها :
1 - الإجابة الصحيحة :
من الأخطاء التعليمية التركيز على قضية الحفظ مع إغفال الفهم ، فتنشأ مع
الطفل عقدة (الحل الوحيد) أو (الإجابة الصحيحة) ، ويعتقد أنه ليس ثمة حل أو
إجابة أخرى ، حتى لو كانت المسألة تحتمل مائة حل أو إجابة ! ! ومن مظاهر ذلك
في مؤسستنا التعليمية والتربوية شيوع الأسئلة التالية :
اذكر ... ؟ عدّد ... ؟ ، عرّف ... ؟ ، اسرد ... ؟ .... .
وندرة أو غياب بعض الأسئلة التالية : اشرح .... ؟ ، ما أوجه الاختلاف أو(1/133)
التشابه بين .... ؟ ، علّق على العبارة التالية ... ، ما وجهة نظرك في ... ؟
إذاً من الأقفال الذهنية : اعتقادك بأنه ليس هناك إلا حل وحيد للمشكلة ( أو
الموضوع) محل التفكير التي قد تقبل أكثر من حل ، فإذا ما تم التوصل إليه توقفت
عن التفكير ... ! !
2 - لستُ مبدعاً :
من أشد الأقفال وأصلبها أن ننظر إلى أنفسنا نظرة ازدراء واحتقار ، وأن
نتمثل دائماً وأبداً بـ (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه) ! ! ، ولا يعني هذا الدعوة
إلى الغرور أو مجافاة التواضع ، لا .. وإنما المقصود التأكيد على أهمية الثقة
بالنفس كشرط رئيس لولوج باب الإبداع ..
ولقد كشفت دراسة أن المبدعين يذكرون أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم بثقة لا
بغرور ! !
3 - لا أقحم نفسي :
كثيراً ما نسمع أحداً يقول : (هذا ليس من تخصصي ! ) أو (ليس من جملة
اهتماماتي ! ) وأضرابها من عبارات الأقفال التي تصد عن الإبداع ! ! لماذا لا يفكر
أحدنا عند تعطل سيارته ؟ ! ألأننا لسنا ميكانيكيين ؛ ألا يمكننا وبخاصة عند تعذر
وجود المختص أن نحاول اكتشاف العطل ؟
من الصعب أن تجد في عصرنا الحاضر المعقد مشكلة يمكن عزوها إلى
تخصص أو فن واحد ، ومن هنا فالمبدع لا يقف مكتوف الأيدي أمام أجزاء المشكلة
التي تخرج عن الدائرة الضيقة للتخصص ، وإنما يحاول التفكير فيها بغية الاهتداء
إلى الحل المناسب ، مع الرجوع إلى ذوي الاختصاص لاستفتائهم والإفادة من علمهم .
4 - التزم القواعد :
أقصد بالقواعد هنا الذهنية منها (طرائق التفكير والاستنتاج) ، والتي يتم
تشكيلها في أذهاننا عبر مرحلتين هما :
** أنها تبنى في البداية على أسباب منطقية ووجيهة .
** يدفعنا هذا إلى الاعتقاد بصحتها وبضرورة اتباعها .
ولكن بمرور الوقت قد تنتفي أسبابها ومن ثم تنعدم صحتها ، غير أننا قد
نستمر في احترامنا لها ! !
5 - ليس من المنطق في شيء :
تعد القواعد المنطقية كالقياس والاستدلال والتصنيف والتقسيم والترتيب من(1/134)
أهم وسائل التفكير ، غير أن الإفراط في محاكمة الأفكار في مرحلة توليدها إلى
تلك القواعد قد يعيق تدفقها ويعقّد بلورتها ؛ ذلك أنه قد تنتفي الأسس التي استقت
منها القواعد المنطقية صحتها ، أو يصدر المفكر في تلك المرحلة حكماً خاطئاً بسبب
(العجلة الذهنية) ... إذاً لا تغالِ عند توليد أفكارك في محاكمتها إلى القواعد المنطقية ، ورحّل تلك المحاكمة إلى مرحلة تقييم الأفكار ، استعن بالله وانزع قفل المغالاة
المنطقية !
6 - كن عملياً :
عقدة (البديل العملي) قد تمارس أحياناً نشاطاً تدميرياً لمصنع بناء الأفكار ، ألم
تطرح أنت أو غيرك بديلاً جوبهت بعد فراغك منه ب : يا أخي (كن عملياً) ! ! ...
وبعد فترة طالت أم قصرت تبين أن بديلك هو البديل العملي ؟
سؤال : (ماذا لو ( : يمكنك التحليق في عالم الأفكار التي قد تبدو لك أو لغيرك
في الوهلة الأولى أنها غير عملية ... فمثلاً يمكن لمدير العلاقات العامة الذي يريد
تدعيم العلاقة مع الجمهور أن يسأل نفسه :
** ماذا لو قدمنا هدية جذابة لكل واحد منهم ؟
** ماذا لو فتحنا المجال للتدرب على أعمالنا للمتخرجين حديثاً ومنحناهم
شهادات تدرب ؟
** ماذا لو احتفظنا بمعلومات كاملة عن أهم عملائنا في جهاز الحاسب الآلي
وصممنا برنامجاً Software يمدهم بما نريد من معلومات في فترات محددة عبر
شبكة الإنترنت ؟
** ماذا لو نظمنا رحلة اجتماعية لعملائنا الجدد ؟
7 - إياك والغموض :
قد يُخيفك الغموض من التجول في شوارع الفكرة المظلمة وحدائقها المرعبة
وأسواقها المكتظة ، أو في مطاعمها البائسة ... أليس كذلك ؟ !
قد يبدو لك غموض كثيف يلف الفكرة الإبداعية بدثار مخيف ، ويحيطها
بسياج منيع ... فإذا لم تستجمع قواك حينئذ وتستحث شجاعتك وتستعين بالله تعالى
قبل أي شيء وبعده على ذلك المارد الغامض فقد يفوتك الإبداع ، وتعتل بالجمود ! !
8 - من الخطأ أن تخطئ :(1/135)
ليس ثمة طريق يوصل للإبداع إذا كان الإنسان يخاف من الخطأ ، ويعده (ذنباً
ذهنياً) يجب أن يترفع عنه ، أو يعتقد أنه (منقصة عقلية) قد يُنال منه بسببها ... إن
التحرر من هذا القفل :
* يتيح لك الاستفادة من الأفكار التي كنت تعتقد بخطئها ، ولكن بالتجربة
والتحقق ثبتت صحتها .
* يجعلك أكثر انطلاقاً في التفكير ؛ وذلك أن الفكرة التي تعتقد بخطئها دون
التأكد من ذلك تظل عالقة في اللاوعي ، وتعرض لك بين الوقت والآخر مما يعيق
عملية توليد الأفكار لديك .
لمريدي الإبداع فقط :
ثلاث خطوات فقط وبلا حشو توصلك إلى الإبداع هي بعد الاستعانة بالله :
1 - الثقة بالنفس وحسن التعامل معها ، والتعايش الصادق والاستغراق الهادئ
في ما تفكر به .
2 - نزع الأقفال الذهنية وجعل التفكير مفتوحاً .
3 - إدراك آلية التفكير الإبداعي وخطواته والتعامل معها بمرونة .
صناعة الإبداع :
هل ثمة طريق تتوصل به المجتمعات الإنسانية إلى إيجاد مناخ فكري تُغرس
فيه شجرة الإبداع وتُصنع فيه منتجاته ؟
بكل جزم : نعم ... ذلك أن الإبداع ظاهرة إنسانية اندمجت أسباب عقدية
وثقافية ونفسية فكونت إطاراً يستعصي على التجزئة أسهم في إنتاج تلك الظاهرة
وفي تشكيلها ، ومن ثم ندرك أن الإبداع نتيجة يمكن الظفر بها متى توافرت
وتضافرت أسبابها . وبنظرة خاطفة إلى المجتمعات الإنسانية نتلمس سر نجاح
بعضها في صناعة الإبداع في عقول أفرادها على نحو مكنها من النهوض
الحضاري .
لقد استطاع اليابانيون مثلاً أن يحدثوا انقلاباً إبداعياً تمكنت به شركة يابانية أن
تلتزم باختراع جهاز كل أسبوع ، حتى ولو لم يتم تسويق منتجاتها في بعض
الأسابيع بالصورة المطلوبة ! ! قد تتساءل : لماذا لا ينتظرون حتى يتم تسويق
المنتجات التي تم عرضها بشكل جيد ، ثم يقومون بعد ذلك بإنزال المنتج الجديد ؟ !
إنهم لا يفعلون ذلك ؛ لأنهم يجزمون بأنهم لو تأخروا يوماً واحداً أو أقل من(1/136)
ذلك فإن شركة أخرى ستقوم بالمهمة وبذلك يخسرون .... ! ترى ماذا يخسرون ؟ !
وبالتفاتة عاجلة إلى المجتمعات المسلمة نشعر بـ (دوار حضاري) ، ونستنشق
تقليدية مقيتة ، تستوجبان الإسراع في صناعة سفينة الإبداع لتبحر في ذلك الخضم
صوب بلاد ما وراء التقليد في طريقها إلى جزر الاكتشافات العلمية والتقنية ، ولا
سيما أنها تملك الإطار العقدي والقيمي الصحيح الذي يحث على العمل المبدع
المخلص ، ويجلّ حملة لوائه ورافعي رايته ، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- :
(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) [حديث حسن ، صحيح الجامع 1880] .
وتتأكد أهمية اقتناء سفينة إبداع للعاملين في الحقول الإسلامية في هذا الوقت
بالذات ، الذي تكالبت فيه العوائق والصعوبات ، وتفاقمت فيه الانشطارات
والانقسامات ، وشحت فيه الموارد والمساعدات . والتفكير العلمي والإبداعي يضمن
بالإخلاص والمتابعة التغلب على تلك المشاكل والأزمات ، ويرسم طريقاً تعرف فيه
الأولويات ، وترسخ به الثوابت ، وتميز به الصفوف ، وتلتحم به العلاقات ،
وينهض به العمل الإسلامي ، وتطيب ثماره ، وتدار مشاريعه ومؤسساته ،
وتستكشف آفاقه ومجالاته .
وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام
بمصدر التلقي كتاباً وسنة وبعد توفيق الله تعالى وعونه :
1- الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانيته ، وبضرورة انبثاقه من
قوله تعالى : ? إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? [الرعد : 11] ،
الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد
سواء ، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمعرفة ذاتها ، ولا لتحصيل لذة عقلية ،
ولا للظفر بشهرة علمية ، ولا لتحقيق رغبة دنيوية ، وإنما هو انجذاب للمعرفة
بقصد تطوير الذات وبنائها ، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً ... وإنما للإبداع(1/137)
وللنهوض وللنماء وللعطاء .. المراد به وجه الله تعالى .
2- الإشاعة في العقل المسلم والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تكتسب
بشيء من البذل في تعلم وسائلها ، والتلبس في خصائصها ، والتدرب على تطبيقاتها .
3- تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعاً للإبداع ومحضناً
للمبدعين ، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية ، ومن ثم في وسائلها وبرامجها ، بمعنى أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق
التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية .
4- صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل
متلبس به ، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول .
5- تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح
العمل الإسلامي .
6- ضرورة تلبس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ولو تكلفاً تجسيداً
للقدوة الصالحة .
7- الاحتفاء بالمبدعين وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنوياً
ومادياً .
من تقنيات الإبداع الجماعي : العاصفة الذهنية [10] :
هي طريقة تستخدم من أجل حفز الذهن لتوليد الأفكار (صممها أوسبورن في
1938م) ، وتتلخص في طرح مشكلة معينة على مجموعة من الأفراد ، يتولى إدارة
تلك العاصفة واحد منهم يمتاز بأنه يستطيع :
* تهيئة المناخ المناسب لتوليد الأفكار .
* إثارة الآخرين لتقديم وعرض أفكارهم .
* الانتقال والربط بين أجزاء الموضوع المختلفة بشكل منطقي .
وتمر هذه العاصفة بالمراحل التالية :
أ - توضيح وتجزئة المشكلة : وذلك بتفتيتها إلى أجزاء ومطالبة المشتركين
بالتفكير فيها .
ب - توليد وعرض الأفكار : وذلك بإتاحة الفرصة للمشتركين للانطلاق في
توليد الأفكار ، وفي هذه المرحلة ينبغي لمدير العاصفة الذهنية مراعاة ما يلي :
* عدم السماح لأحد بمهاجمة أفكار الآخرين أو الحكم عليها أو التعليق عليها
إيجاباً أو سلباً .(1/138)
* خلق مناخ يتقبل أي أفكار غريبة أو خيالية ، وعدم إبداء أي نوع من
السخرية تجاهها .
* التأكيد على أهمية توليد وعرض أكبر قدر ممكن من الأفكار .
* تسجيل الأفكار المطروحة بلا استثناء ( يفضل تعيين أحد المشاركين
للتسجيل) .
ج - تقويم الأفكار المطروحة : وذلك بنقدها وتمحيصها وصولاً للفكرة
المناسبة .
وتستغرق هذه العاصفة الذهنية عادة من 15 -60 دقيقة بمتوسط 30 دقيقة ،
ويفضل أن يكون عدد المشاركين ما بين 5- 7 ، ويجب ألا يزيد العدد عن 15
مشاركاً .
ويمكن استخدامها في المشكلات التي تتطلب حلولاً كثيرة كالمشكلات التجارية
(مثل الإعلانات) والمشكلات التقنية (مثل كيفية استخدام الحاسب الآلي ومواصفاته )
والمشكلات التربوية (مثل احتواء الشباب) ، كما أنها أثبتت فعاليتها في مجالات
البحث والتطوير .
ولعله من المناسب في هذا السياق أن أشير كدليل على أهمية الإبداع الجماعي
لا سيما في المشكلات المعقدة إلى أن اختراع (الترانزيستور) الذي أحدث ثورة
إلكترونية ظهر كنتاج لإبداع جماعي ... ولقد أكد عدد من المبدعين أن :
(الجماعة تستوعب المشكلات أكثر) .
(لدى الجماعة تنمو ظروف الصياغة والإعداد المتكامل للمشكلات) .
(في إطار الجماعة تتسع دائرة الرؤية وتوزع المهام) ... فهل نجتمع لنبدع ؟ !
وهذا لا يعني أن الإبداع يستحيل تحققه فيمثل تلك الحالات المعقدة إلا في
إطار الجماعة ، وإنما المقصود التأكيد على أهمية العمل الجماعي الإبداعي .
إبداع المدير ... متى ؟
إنه ليس ثمة شك في أن ما سبق من حديث عن الإبداع وجوانبه المختلفة
يصلح للإنسان رجلاً وامرأة .. صغيراً وكبيراً .. مديراً ومداراً .. غير أن وظيفة
المدير تنتظم أعمالاً وأهدافاً ذات خصوصية وخطورة بالغتين تفرضان توجيه
خطاب إبداعي خاص للمدير .. ومن هنا أقول :
إن المدير المبدع هو من يقود مؤسسته إلى النجاح بعد توفيق الله ، ...(1/139)
ويتلمس المشكلات التي قد تفترس ذلك النجاح ... إذاً فالمدير المبدع هو من يتعرف
على أسباب النجاح وقنواته ويتكلف في امتطائها .. إن عوامل النجاح في
المؤسسات التجارية والتربوية والتعليمية تدور حول عوامل خمسة حث عليها
الإسلام ورغب في استخدامها وتفعيلها في غير ما نص ، وهذه العوامل هي :
1- الطاقم البشري : إن المدير المبدع يعرف كيف يستغل من تحته من
الموظفين والعاملين ، ويدرك مواهبهم وامتيازاتهم ، ويفهم نفسياتهم ودوافعهم ،
ويحسن تشجيعهم ودفعهم ، ويتقن تحريض أفكارهم واستفزاز إبداعهم ، ويضمن
تفاعلهم مع بنك المؤسسة الخاص باقتراحات التطوير واستشراف المستقبل .. في
عام 1991م تمكنت شركة تويوتا من توفير مناخ خاص لموظفيها وعمالها نتج عنه
تقديم 2 مليون اقتراح في ذلك العام بمعدل 35 اقتراحاً لكل واحد منهم ، وقد استُفيد
من 97% من تلك الاقتراحات .. فماذا عن مؤسساتنا والاقتراحات ؟ ؟ ! ! [11] .
2- الوقت : يتصف المدير المبدع بالاستخدام الأمثل للوقت ، ويعرف متى
يجب أن يغير من الأساليب الإدارية والتنظيمية والنفسية ، ويسرع في الاستجابة
لطلبات العملاء ، ويختار الوقت المناسب لإنزال المنتج الجديد ، ويدرك أهمية
الالتزام بالمواعيد ..
3- الجودة : تشكل الجودة العالية قضية يوليها المدير المبدع اهتماماً كبيراً ..
لا سيما في وقت اشتدت فيه المنافسة ، واحتدم فيه البحث عن السلعة والخدمة ذات
الجودة العالية في الجوهر والشكل والتصميم والحجم .
4- التكلفة : باتت إدارة التكاليف بغرض تخفيضها تشكل محوراً رئيساً لا في
نجاح المؤسسات فقط ، وإنما في قدرتها على البدء أو الاستمرار في العطاء .. ومن
هنا فالمدير المبدع هو من يستطيع إقناع الجميع بصورة بلورة برنامج (تقشفي)
لتخفيض التكاليف ، مع ضمان تفاعلهم عند تنفيذه في الواقع .
5- الابتكار (الإبداع) : القدرة على الابتكار وحمل الآخرين عليه وتوفير(1/140)
مناخه صفة هامة يتمتع بها المدير المبدع ، وعلامة تميزه عن (مدير الجمود)
و(رئيس التقليد) ... إن المدير المبدع يدرك أهمية إقامة الدورات المتخصصة في
الإبداع لموظفيه ، ويعد الأموال المصروفة في ذلك استثماراً في أصول بشرية .
أصبحت كثير من الشركات الكبرى مقتنعة بإمكانية وأهمية تعلم الإبداع ، فشركة
(جنرال إلكتريك) تفيد : (أن دورات الإبداع التي نظمتها لمديريها ومهندسيها أسفرت
عن إدخال تحسينات جوهرية على بعض منتجاتها مثل جلايات الصحون وأدوات
المطبخ ، وشركة ميد تقول : (إن التدريب على الإبداع ساعدها كثيراً في تطوير
نوع من الورق الناسخ الذي لا يحتاج إلى استخدام الكربون) [12] .
تحامل المبدع على مجتمعه : بين الحقيقة والوهم :
يعتقد البعض أن المبدع لا بد أن تنطوي نظرته إلى المجتمع بمنظوماته
المختلفة (المدرسة ، المصنع ، الشركة ، ... أو حتى المجتمع الكبير) على تحقير
وازدراء ، ينشأ معهما انكفاء على الذات قد يستحيل بعد فترة تطول أو تقصر إلى
انطوائية تحمل بذرات عدائية ، ويقول بعضهم : (يبدو لنا في كثير من الأحوال أن
علاقة المبدع بواقعه لا تخلو من التوتر والصراع ) [13] ، كل هذا يحدث على حد
هذا الاعتقاد بسبب :
* عدم تحقيق المجتمع للذات المبدعة وتهميش الأفكار غير المألوفة التي تنبثق
منها ويتبنى المبدع الدعوة إليها أو طرحها .
* أو لسوء المعاملة من قِبَل أفراد أو مؤسسات المجتمع .
* أو لتخلف مناهج التفكير ، أو للسطحية الثقافية .
ويخسر المجتمع من ثَمّ ذلك المبدع وإنتاجه الخلاق .
وبتأمل ذلك الاعتقاد مع الاعتراف بوجود شيء من تلك الممارسات الجائرة
التي يتعرض لها مبدع أو آخر ، يتبين لنا مدى مجافاته للحقيقة وشططه عن
الصواب وذلك :
* لأنه لم يُبنَ على دراسة علمية أو استقراء شامل للمبدعين الحقيقيين .
* لأنه انبثق من بيئة عقدية وثقافية تصادم بيئتنا العقدية والثقافية ، كعبارة(1/141)
أرسطو : (إن المزاج السوداوي شرط لا بد منه للموهبة الخارقة) [14] .
* إن المبدع الحقيقي هو من ينبثق من مجتمعه المسلم منتمياً له ، معايشاً
لهمومه ، رافضاً لأوجه الانحطاط العقدي والتأزم الثقافي .
* إن المبدع الأصيل هو من يتسم بالموضوعية في التفكير ، والاعتدال في
الحكم ، فهو لا يشتط في حكمه على مجتمعه الصغير أو الكبير ، فإن كان ثمة ظلام
فلا بد أن يختلط بضياء ... وإن كان ثمة تخلف فلا محالة أن يمتزج بتقدم ... وإن
كان ثمة قسوة فلا جدل أن يتخللها عطف ... وإن كان ثمة يأس فلا شك أن يغالبه
تفاؤل ...
* إن المبدع الحقيقي هو من يشعر بمسؤوليته إزاء النهوض بمجتمعه ؛
فالنهوض هو ما يدفعه إلى التألق في سماء الإبداع والإبحار في عالم المبدعين .
مناقشة التطبيقات العملية :
التطبيق الأول : (زيادة استهلاك إطارات الشاحنات) :
أظنك قد توصلت إلى أن المشكلة تتمثل بالخسارة المترتبة على تغيير
الإطارات في فترات قصيرة جداً ، وذلك بسبب بيع السائقين للإطارات (سرقتها) ،
ولذا فيكمن الهدف في توفير تلك المبالغ من خلال إيجاد آلية تمنع السائقين من بيعها ، وبعد قيامك بمثل هذا التفكير قد تتوصل إلى الحلول الجيدة التالية ) .
1- تحديد فترة زمنية معينة (6 أشهر مثلاً) كحد أدنى للاعتراف بتلف
الإطارات .
2- مطالبة سائقي الشاحنات عند تلف الإطارات بتقديم الإطارات التالفة
كشرح للاعتراف بذلك .
3- استبدال السائقين الحاليين بآخرين أكثر أمانة .
وربما تكون قد توصلت إلى أشباهها ، ومع جودة مثل تلك الأفكار واحتمال
مناسبتها للمشكلة ، إلا أنها تظل حلولاً تقليدية ، يستطيع الكثير منا أن يحدد
العشرات منها ، ولكننا نبحث هنا عن حلول إبداعية ، لا أدري إن كنت قد توصلت
إلى واحد أو أكثر منها ! !
ما رأيك بالحل التالي :
يجب أن تقوم الشركة بتوفير إطارات لشاحناتها غير متوفرة في السوق ...
لماذا ؟ ! لإزالة الفرصة التي تمكن السائقين من بيع الإطارات .(1/142)
ألا توافق على أن هذا الحل إبداعي في حالة كونه ممكن التنفيذ ، ومعقول
التكلفة ؟
ألا تلاحظ أنه يتميز على الحلول الأخرى ؟
ألا تلاحظ أن هذا الحل تجاوز بعض الأقفال الذهنية (الحدود المتوهمة) ...
كالقفل (كن عملياً) ... إن الكثير منا قد يعيقه هذا القفل عن الوصول إلى مثال هذا
الحل بحجة أنه يجب توفير الإطارات مما هو متوفر في السوق ، مع أنه قد تتمكن
الشركة من استيراد ما تريد من إطارات من الخارج .. وهذا عين ما حصل واقعاً
في تلك الشركة ... فهنيئاً لها إبداعها ...
إن هذا الحل لا يعدو أن يكون حلاً إبداعياً من سلسلة طويلة من الحلول
الإبداعية .. فأرجو أن تكون قد لامست أحدها .. وإلا فيمكنك أن تعيد المحاولة ،
وأظنك بتوفيق الله تعالى ستنجح ....
التطبيق الثاني : (تطبيق الدوائر التسع) :
إن من لم ينجح في تجاوز القفل الذهني (التزم القواعد) ، ... كأن يكون حبيساً
للمربع الذي وضعت فيه الدوائر التسع ... فإنه لن يعثر على حل لهذا (اللغز
الغامض) ! !
من قال لك لا تخرج من قبضة ذلك المربع ؟ ! .. من قال لك لا تتجاوز
حدوده ؟ ! من أخبرك أن الالتزام بمثل تلك الحدود من (اتباع القواعد) ... لا أحد ! ! غير ذلك القفل !
لقد عرفت سابقاً أن من لوازم الإبداع الانطلاق (التفكير المنطلق) الذي لا
يحده شيء ... (إلا الضوابط الشرعية) ...
هنيئاً لك بالإبداع إن كنت قد تجاوزت ذلك القفل ... ومرحباً بك إن عزمت
على نزعه مستقبلاً ...
أما الحل بل الحلول فكما يلي :
(راجع الملف المسمى شكل 133-1 . BMP على اسطوانة البيان) .
إذاً بالإبداع نظفر بحلول رائعة لمشكلات قد يحكم عليها البعض بأنها
(معضلات تستعصي على الحل) ، ومن ثم المطالبة بضرورة الاستسلام والتكيّف
معها ! !
وأخيراً أرجو أن أكون قد وفقت في عرض هذا الموضوع الخطير ، وأن
يساهم في إكساب المنهجية العلمية في التفكير والإبداع ، ..
وختاماً : لنتذكر جميعاً مرة بعد أخرى :(1/143)
أن التفكير السديد المنتج مهارة يكسبها التعلم ، وعادة يصنعها التدرب .
________________________
(1) د/ إبراهيم أنيس وآخرون ، المعجم الوسيط ، المكتبة الإسلامية ، ط 2 ، ج1 ، مادة بدع ، 34 .
(2) كلمة مفيد في التعريف هامة جداً ، حيث إنها تتنكر لما يمكن تسميته بـ (إبداع العبث) ! ! ، وهذا اللون من العبث يعد إبداعاً من الناحية اللغوية .
(3) د/عبد المجيد نشواتي ، علم النفس التربوي ، ص 134135 .
(4) أرجو إعادة قراءة منهج الإبداع مرة أخرى وما ذهبت إليه إزاء منهج التفكير الإبداعي مشابه لما ذهب إليه هاريس Harris في 1959م ، انظر : د حلمي المليجي ، علم النفس المعاصر ،
ص 191-192 .
(5) Rogervon Oech, A Whack On The side of The Head - how you can be More Creative, P 38 .
(6) أصل العبارة لبيكاسو ، انظر سيكولوجية الإبداع ، د عبد العلي الجسماني ، ص 26 .
(7) ألكسندر روشكا ، الإبداع العام الخاص ، 5058 ، د فاخر عاقل ، الإبداع وتربيته ، ص 2732 ، د/ محمد عبد الغني ، مرجع سبق ذكره ، ص 88 93 .
(8) نبيل عبدالفتاح ، مرجع سبق ذكره ، ص 60 61 ، د/ كمال أبو سماحة وآخرون ، مرجع سبق ذكره ، ص 21- 26 .
(9) نهاد درويش ، الحيل النفسية ، ص 1423 .
(10) ألكسندر روشكا ، ص 181- 187 ، د محمد عبد الغني ، مهارات التفكير الإبداعي ، ص 40- 50.
(11) Horngren, Cost Accounting, Prentice Hall Inc 1994, P 200 .
(12) زهير المزيدي ، مقدمة في منهج الإبداع ، رؤية إسلامية ، الوفاء للنشر ، 1413هـ ، ط 1 ، ص 166 .
(13) د/ عبد الستار إبراهيم ، آفاق جديدة في دراسة الإبداع ، وكالة المطبوعات ، الكويت ،
ص 109
(14) دين سايمنتن ، ت : د شاكر عبد الحميد ، العبقرية والإبداع والقيادة ، ص 94 .
تأملات دعوية
أيها المربّون : لكل مقام مقال
عبد الله المسلم
لقد كان رحيماً رفيقاً . يحدثنا عن رأفته ورحمته أحد الشباب من أصحابه ؛(1/144)
فعن مالك بن الحويرث قال : أتينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن شببة
متقاربون ، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة ، وكان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- رحيماً رفيقاً ، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألَنا عمن تركْنا
بعدنا فأخبرناه ، قال : ( ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر
أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة
فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) [1] .
لكن حين يتطلب الأمر الحزم فإن الحال يختلف ؛ وقد كان -صلى الله عليه
وسلم- كذلك ، ففي موقف آخر يأتيه شاب من أصحابه شاكياً له ما أصابه من
المشركين ، وقد بلغ به الأذى والشدة كل مبلغ وهو خباب بن الأرت فها هو يروي
الموقف فيقول : أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محمر وجهه ، فقال : (لقد
كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ، ما يصرفه
ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ، ما يصرفه ذلك
عن دينه ، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما
يخاف إلا الله) [2] .
وها هو في موقف آخر أيضاً مع أحد الشباب ، فعن أسامة بن زيد بن حارثة
رضي الله عنهما قال : بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من
جهينة ، قال : فصبحنا القوم فهزمناهم ، قال : ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً
منهم ، قال : فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، قال : فكف عنه الأنصاري ، فطعنته
برمحي حتى قتلته ، قال : فلما قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :
فقال لي : (يا أسامة ! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ) قال : قلت : يا رسول الله ! إنما كان متعوّذاً ، قال : (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ) قال : فما زال يكررها
عليّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم [3] .
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يضع لكل موقف ما يناسبه ؛ ففي الموقف(1/145)
الأول : شاب يأتي إليه من أصحابه ، وهو في آخر أيامه -صلى الله عليه وسلم-
فإن غادره لن يلقاه أخرى حتى يموت ، وهي فرصة للتعلم والاستزادة لن تتكرر في
حياته ، لكنه لرحمته ورفقه -صلى الله عليه وسلم- لم يؤكد عليه البقاء والاحتساب
لطلب العلم بل لصحبته ومجالسته .
بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله ليبادر هو ، ويدرك ما في نفوسهم دون أن
يطلبوا هم منه ذلك ، فيبادرهم آمراً إياهم أن ينصرفوا إلى أهلهم .
وفي الموقف الثاني : يأتيه شاب غض الشباب يشتكي إليه شدة الأهوال التي
لقيها من المشركين ، فيحمر وجهه ويغيّر جلسته .
ولربما يتصور بعض الناس أنه كان من الأوْلى في الموقف الأول الحزم ،
وتعويد الشاب على الجدية في طلب العلم ، وتحمل الغربة وشدتها ، والتعاطف في
الموقف الثاني مع هذا الذي تعرض للأذى وجاء يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-
الدعاء .
لكنه -صلى الله عليه وسلم- الحكيم والمربي ، الذي يضع لكل مقام ما يناسبه . فما أجدر من يقتدي به من المربين أن يضع الحزم في موضعه ، وأن يضع
التعاطف والرفق في موضعه .
________________________
(1) رواه البخاري (631) ، .
(2) رواه البخاري (3852) .
(3) رواه البخاري (6872) ، ومسلم (96) .
إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر
عبد الله المسلم
التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية اليوم عديدة ، ومن أبرزها :
* تحديات تتمثل في ضخامة الانحراف في الأمة والبعد عن منهج الله تبارك
وتعالى .
* وتحديات تتمثل في الفساد الهائل في الميادين الإدارية والسلوكية .
* وتحديات تتمثل في الأمراض الاجتماعية المتغلغلة فينا ، وفشو الفقر
والأمية والتخلف .
* وتحديات تتمثل في التخلف الحضاري والتقني الذي تعاني الأمة منه ،
وتأخرها عن ركب الأمم الأخرى .
* وتحديات تتمثل في مشكلات تعاني منها الدعوة الإسلامية ، كالفرقة
والتناحر والضياع بين فصائل العمل الإسلامي ، والخلط في مناهج التغيير وبرامج
الإصلاح .
* وتحديات وتحديات ...(1/146)
إن الحديث عن هذه التحديات والعقبات يطول ، ويصعب على امرئ
استقصاؤه وحصره ، وهو أمر كثيراً ما نطرقه ونثيره ونحن نتجاذب أطراف
الحديث حول قضية الإصلاح والتغيير .
ومع الإيمان بأهمية إدراك حجم التحديات وضخامتها ، وضرورة وضع
الأمور في نصابها الصحيح دون تهوين ؛ إلا أن المبالغة أو التركيز في الحديث
على جانب معين من المشكلة يؤدي إلى نتائج معاكسة .
فالمنتظر من الحديث حول العقبات والتحديات أن يؤدي إلى شحذ الهمم ورفع
العزيمة ، والبذل والتضحية بما يتناسب معها ؛ إلا أن الإفراط في ذلك ربما أدى إلى
اليأس ؛ فهل الطاقات المتاحة اليوم ، وبرامج العمل ، والصحوة بمؤسساتها الضعيفة ، وقدراتها المبددة وغير القادرة على استيعاب خلافاتها وحل مشكلاتها فضلاً عن
التغيير في الواقع ، هل ذلك كله يمكن أن يوصل إلى التغيير الذي نتطلع إليه في
واقع المسلمين اليوم ؟
إنه التفكير السريع الذي لا يأخذ في حسبانه إلا العوامل المادية والبشرية ،
لكنه حين يتجاوز ذلك ، فيضع في الاعتبار القواعد والمنطلقات الشرعية فإن النتائج
تختلف ، أينسى أن قدرة الله تبارك وتعالى مطلقة ، ومشيئته نافذة ، وأن ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن ، وقدرته تبارك وتعالى تتجاوز حسابات الناس القريبة
واعتباراتهم المنحصرة في العالم المادي المحسوس ، قال تبارك وتعالى : ? إنَّا كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ? [القمر : 49 ، 50]
وقال عز وجل : ? إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? [يس : 82] .
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الدين سيعلو وينتصر لا محالة ؛ فعن تميم
الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :
(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله(1/147)
الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به
الكفر) [1] .
وعن أُبيّ بن كعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (بَشّرْ هذه
الأمة بالسناء والنصر والتمكين ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في
الآخرة نصيب) [2] .
وعن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [3] .
إنها أخبار صادقة ، ووعود لا بد من أن تتحقق ؛ فلنتوازن في تفكيرنا ، ولا
تسيطر علينا الحسابات المادية ، ولنعلم أن قدرة الله تبارك وتعالى فوق كل حسابات
البشر ، ? وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ? . [الأنفال : 30]
________________________
(1) رواه أحمد (4/103) ، والحاكم بمعناه (4/430) .
(2) رواه أحمد (5/134) ، والحاكم بمعناه (4/522) ، وابن حبان (2501) .
(3) رواه أبو داود (4291) .
ندوات ومحاضرات
تجديد البعد العقلي
د . عبد الكريم بكار
الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل ، ولها بعدٌ
اجتماعي عظيم الأثر في وجودها . وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها
ينعكس عليها جميعاً ، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها
جميعاً .
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط
لتنمية كل شيء في الحياة : التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات ...
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية ؛ حيث إن الرؤية
الإسلامية تؤسس مقولة : ( الإنسان أولاً ) . أضف إلى هذا أن التقدم المادي
والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً ، على
حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً .(1/148)
إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة ، هي أكثر
مما يظن . ويمكن القول : إنه أشبه بعملاق نائم ! وقد دلّت الدراسات النفسية
والتربوية ، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات
العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية . الحاسب الآلي (كراي) حاسوب
عملاق يزن سبعة أطنان ، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة
عام ، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة
? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? [المؤمنون : 14] .
يمكن القول : إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً ؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات
التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا ، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها ،
ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب ... وهذه متفاوتة بين الأشخاص
متساوية على نطاق الأمم .
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا
تختلف بين شخص وآخر ، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين ، وإدراك أن
الكل أكبر من الجزء ، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان .
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة ، وهذا في الحقيقة
يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها
استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم ... وهذا النوع من
المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها .
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه : (العقلانية) . وبما أن
(الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى ، فإن
المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية ، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها . ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة . ولعلنا نستشف هذا من النسق(1/149)
القرآني ؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة
والكتاب في موطن واحد ، يقدّم الكتاب أولاً ، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير
(الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية ، وحتى تتخلص من
النسبية التي تضفيها عليها الثقافة .
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية ؛ فهي باعتبارٍ مّا
انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة ؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من
البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح ،
ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه .
شروط للتجديد :
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة ، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي
عن بعض المألوفات ، كما يرتب تكاليف جديدة ، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات ،
ولهذا كله كان شاقاً على النفس .
إن أول شرط من شروط التجديد : هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد ،
والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني ، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها ، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد . إن التجديد المستمر كبير التكلفة ، ومفتاح معايشته هو أن
يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير ، ويمثل الفلك الذي تدور فيه
جميع المتغيرات ، وتخدمه .
والشرط الثاني : هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية
التي نرنو إليها .
والشرط الثالث للتجديد : أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية
والنفسية والسلوكية ، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام
والكسل الذهني ، والإخلاد إلى المألوفات .
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة ، وباكتشاف
الإمكانات ، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا ، وتحسّن مستوى محاكمتنا(1/150)
العقلية ؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي :
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم ، وأن
بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً
سيئة عنه . والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا ، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت ، وهناك توافق بينها . والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد ،
وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً . ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على
الإنسان . في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة
الوحيدة الصحيحة ، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها . والحقيقة أن الأمر
ليس كذلك ؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ ، فالمألوف أن
تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة ، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من
بعضها الآخر . كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة
المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة ، وكثير منهم خسروا أنفسهم ، بما أهملوه من
شأن آخرتهم .... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر
والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي ... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد
أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها ؛ فالمهم ليس
الصعود إلى القمة ، وإنما كم يمكن البقاء عليها ، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في
تصورنا للقمة ، وأن تكون الحقيقة غير ذلك ؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم ،
بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة ، وأن نبحث عن مجالات جديدة .
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه : كيف أستطيع أن أفكر في هذا
الأمر بطريقة أخرى ؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه ؟ وما وجهات النظر
الأخرى حياله ؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى
آخر .(1/151)
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله
هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا ، وهذا
الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد ، والحرمان من مشاركة
غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة .
2- النظرة المتعمقة :
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل
في النهاية محدوداً . وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة ، أي
هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب
ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات ... ولذا
فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية ، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج
إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على
وجه الإثراء والتوسيع ، أو على وجه الانتهاك والتأويل . وهذا يعني أن علينا ألا
ننتظر الفوز برؤية نهائية ، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات ؛
فالأعمال العقلية المتزايدة ، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد ؛ فالنكوص
والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان ؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات
جانبية شديدة الخطورة ، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم
الأخلاقية ؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها
مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد
والنمو الصحيح ، وإحقاق الحق ، وتجسيد القيم النبيلة ... فهناك أيضاً المصالح
والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة ... وكل ذلك يجعل من
ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها . وهذا يعني أن علينا حتى
نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا ،(1/152)
وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا ؛ حيث النقص شيء ملازم لنا . وليس
المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة ، وإنما مداومة فضح الممارسات
الفكرية الخاطئة ، وكشف زغل أعمال العقل ؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً
نستحوذ عليه ، وإنما هو شيء نناهزه ، ونحاول الاقتراب منه . وما لم نتعامل مع
منتجاتنا الفكرية والمعرفية ، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو ،
فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر ، أو يصبح
موضع تساؤل .
3- التفكير المتوازن :
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي
المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة ، وأحكام
صائبة . وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي :
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه . ولا بد أن يكون على وعي
بنوعية المعلومات المتاحة ؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات : طبقة المعلومات
الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع ، وطبقة المعلومات
المعتقَدة لبعض الأشخاص ، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم .
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير . أما المعلومات
الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها .
ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث ، ونحن نحاول
عدم الاعتراف بها ، وأحياناً لا نكون على وعي بها ، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير ، وتوجهه على نحو غير سويّ . المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم
سلبية إلى منطقة الوعي ، ونعترف بها ، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير .
ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع
النظر . والتفكير الناقد هو تفكير منطقي ، لكنه سلبي ، وهو كثيراً ما يكون مبنياً(1/153)
على حقائق وصادقاً ، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً . وعلينا أن نتذكر
أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي ؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن
المراجعة وإعادة النظر ، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه . وهذا لا يُنسينا أيضاً أن
النقد شديد الإغراء ؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء ، ولذا فينبغي
الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره . ولعل خير ضمانة لذلك هو
أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها .
د- في مقابل التفكير الناقد ، هناك التفكير الإيجابي ، وهو التفكير الذي يركز
على الإيجابيات ؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير
الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على
كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة . تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع
الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية . والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى
جوانب النفع الخفية ، وبذلك يسبقون غيرهم . إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى
يفتح باب آخر ، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن
الباب الذي فُتح ! ومع هذا فلا بد من القول : إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي
والاندفاع المتفائل المتهور ، هو خط ضيق ، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل
متوفرة دائماً .
هـ لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من
معطيات ناقصة حلولاً جيدة ، أو رؤى ناضجة . ولا بد من القول : إن أكثر التفكير
الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات ، مثل المنطق والإحصاء
والرياضيات ، وتنسيق المعارف ... أما التفكير الإبداعي ، فإنه يحاول إيجاد أشكال
جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط . التفكير المبدع(1/154)
يحتاج إلى الوقت ؛ والعجلة هي عدوه الأول . وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل
الذي يظهر لنا لأول وهلة ؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة
لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف . والمطلوب هو أن نوفر الوقت
لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات ، ثم نعكف على اختيار
الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا .
التفكير المعوجّ :
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع ، نستخدم في الحقيقة عدداً من
العناصر البالغة التعقيد ، مثل مبادئنا العقلية ، وثقافتنا العامة ، وعاداتنا الفكرية
والنفسية ، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير ؛ ثم إننا لا
نستخدم كل ذلك في فراغ ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية ،
تكتنف تفكيرنا في الأمور . وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً ،
فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات
وأحكام راشدة . ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على
نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره .
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة ، ستظل محدودة ما لم نتمكن من
تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن . وهي في
الحقيقة أشكال وألوان ؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة .
1- المسلَّمات الثقافية :
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية ، وتلك المسلّمات ، لا تؤمّن
تسايل عمليات التفكير فحسب ، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً ، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون ، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في
آن واحد . لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة
بالناس والأفكار والأحداث . وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي(1/155)
على ذلك : فالشعب الفلاني محتال ، والشعب الفلاني كسول ، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف
والإرهاب ؛ مهما تكن درجة التزامه . أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة
بالتبذير والجنس ، تتخبط في الجهل ، وتعشق الفوضى ... وتلك الصور الذهنية ،
تشكل مشاعر الناس ، وتوجه سلوكهم ، وتنظم ردود أفعالهم .
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة ،
والقرية الكونية ، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من
المسلّمات الثقافية المتخلّفة ، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية ، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي
تتسع فيه عالمية التجارة ، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !
2- إسقاط المعلومات غير الملائمة :
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي
كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه ، وتجعله غير قابل للنقاش ؛ وحين تأتينا معلومات
تناقض ما انتهينا إليه ، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها
المعلومات الجديدة بأساليب شتى . وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به ،
ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه ، فإننا عوضاً عن أن نحاول
التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها ، فإننا نسلك مسالك عديدة
حيالها ، كلها غير سويّ : فقد نقول : إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه . وقد نقول : إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف . وقد نقول : إن أبويه كانا يعاملانه
بقسوة ؛ فله نوع من العذر فيما فعله . وقد نقول : إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما
لأنهما لم يكونا على معرفة بها ... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان
تُعامَل بإهمال شديد ، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها ، ويصبح الأمر كما لو أن العقل(1/156)
ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة . وهذه الحالة بعيدة الأثر في
تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس . وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم
التاريخ يعود إلى هذه المسألة .
3- الضلال في تفسير الظواهر :
لو تساءلنا : هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم ، أو
الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً ؟
لكان الجواب من غير تردد : أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء
التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح . نجد في
خبراتنا اليومية من يقول : إن فلاناً متفوق ؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء ، فهو متفرغ
للدراسة . وفلان منحرف ؛ لأنه نشأ يتيماً ، فلم يتلق التربية المناسبة . والبلد
الفلاني ثري ؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة . والشعوب الإسلامية متخلفة ؛ لأنها تقع تحت
ضغوط مؤامرة كبرى ... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً
محتملة ، وليست قطعية ، فهناك طلاب أثرياء ، ومفرّغون للدراسة ، ومع ذلك
يرسبون . وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة ،
وهناك وهناك ...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً ،
وهو الذي يقبع خلف عدد ، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة .
4- تأثير الهالة :
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة ، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في
استيعابه . وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً
بالجدارة والثقة لدى الآخرين . وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية
(الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في
معرفتها . وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون(1/157)
أو العطر أو معجون الأسنان ... لأن النجم الفلاني يستخدمه ، أو ظهر في إعلان
عنه . وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ،
وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة ؛ فنحن نحترمها أشد
الاحترام ، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها ، لكن كما أن من السهل على أي واحد
أن يتاجر بعملة زائفة ، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية .
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع
أو غير ذلك ... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها . هذا كله يدعونا
إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا ، وأن نسأل أهل الذكر
في كل علم وفن .
5- المبالغة :
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة ، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي
أيضاً ، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية ، ومن ثَمّ للكثير من
الانحراف . المبالغة مرض واسع الانتشار ؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية ؛
فالإدراك القاصر ، وضعف المحاكمة العقلية ، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي
تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية ، والانطباعات الخاصة والخاطئة .
وللمبالغة تجليات كثيرة ، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها :
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء ، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم
يتوقعون الأسوأ دائماً ، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم ، هو دليل على وجود
مرض خطير ، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه
سيقع دائماً ؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته ، قال له : إنك تنسى دائماً ما
أطلبه منك . وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار ، حكم بأن
تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !(1/158)
- تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين ؛
حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد ،
وما تنطوي عليه سرائرهم ، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته ؛ لأنها لم
تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها . وإذا واجه مشكلة ، ولم
يتدخل فيها أحد من أصدقائه ؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته ،
وإنما بسبب إهمالهم له ، أو شماتتهم به ، وإذا نصحه شخص بنصيحة ، فذاك ليس
بقصد إصلاحه ، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه ، وهكذا ...
- تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان ؛ فترى
بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق ؛ فبسبب كلمة أو
حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب . ويبدو أن هذا النوع من المبالغة ، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1] ، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها ، وطالما
سمعنا من يقول : إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي
شيء . ومن يقول : خطأ واحد يفسد الأمر كله .
- كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم ، وهذه
الظاهرة عالمية ، لكن يمكن أن نقول هذه المرة : إنها ظاهرة عربية في المقام الأول ؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في
المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد ،
والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه !
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما
يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة ، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد
الإنسانية المختلفة .
إن تجديد البعد العقلي ، يحتمل الكثير من الكلام ، لكن الوقت المتاح لا يسمح
بأكثر مما قلناه ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى .
________________________(1/159)
(1) ورد في الحديث الشريف : (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ، ثم رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط) .
دراسات تربوية
الثواب والعقاب في التربية
د . عمر النمري
تلتقي نظريات علم النفس الحديث مع الإسلام في أن العقوبة أمر مشروع لمن
لم تُفد معه الأساليب التربوية الأخرى كالمدح والثناء في وضع حد للسلوك الخاطئ
وإطفائه ؛ ذلك أن بعض الناس لا يرتدعون إلا بالعقوبة ؛ وقد جاء في الأثر : (إن
الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) .
والإسلام يُجيز العقوبة ويشرّع لها ؛ ولذلك وضع عقوبات وحدوداً معينة
لبعض الجرائم الأخلاقية : فجريمة القتل حدها القتل ، وجريمة السرقة حدها قطع
اليد ، وجريمة شرب الخمر حدها الجلد ، وكذلك جريمة الزنا لغير المحصن حدها
الجلد أيضاً .
وهكذا نجد في القرآن الكريم تفاصيل هذه الحدود بما لا يدع مجالاً للشك ؛ قال
تعالى في حد القتل : ? وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?
[البقرة : 179] . فجعل حياة المجتمع وقفاً على موت بعض أفراده السيئين قطعاً
لجذور الفساد وردعاً لمن تسول له نفسه القيام بذلك جزاء وفاقاً .
وقال في حد السرقة : ? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [المائدة : 38] .
وقال في حد الزنا : ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَاًخُذْكُم بِهِمَا رَاًفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ? [النور : 2] .
وقال تعالى في جواز ضرب الرجل زوجته ضرباً غير مبرح : ? وَاللاَّتِي
تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا(1/160)
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياً كَبِيراً ? [النساء : 34] .
وفي تأديب الصبي وجواز ضربه على إهمال الصلاة إذا بلغ عشراً ، قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ،
واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) [1] .
وهكذا يتبين لنا من هذه الأدلة أن الإسلام يجيز مبدأ العقاب ويشرع له ،
ولذلك لا نجد من التربويين المسلمين الأوائل من أنكر مبدأ العقاب في التربية ؛
ولكنهم أحاطوه بسياج من الشروط والقيود ، وجعلوه تالياً للمدح ، وقدموا عليه الرفق ؛ عملاً بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- : ( إن الرفق لا يكون في شيء
إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [2] .
وعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (يا عائشة ! إن الله
رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي
على ما سواه) [3] .
ونجد من بين التربويين الأوائل الذين تكلموا في هذا الموضوع : الإمام الفقيه
محمد بن سحنون (ت 256هـ) ، وأبا الحسن القابسي (ت 324 هـ) ، وابن الجزار القيرواني الطبيب (ت 369هـ) ، والغزالي (ت 505 هـ) ، وبرهان الدين الزرنوجي (ت 640 هـ) ، وابن جماعة الكناني (ت 733هـ) وابن خلدون
(ت 808 هـ) وغيرهم .
قال ابن سحنون : (ولا بأس أن يضربهم يعني المؤدب أو المعلم على منافعهم ، ولا يتجاوز بالأدب ثلاثاً إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحداً ،
ويؤدبهم على اللعب والبطالة ، ولا يجاوز بالأدب عشراً ، وأما على القرآن فلا
يجاوز أدبه ثلاثاً) [4] .
ويعلل ابن سحنون ذلك بقوله : (لأن عشرة غاية الأدب ؛ وكذلك سمعت مالكاً
يقول : وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : (لا يضرب أحدكم أكثر من عشرة أسواط
إلا في حد) .
وقد جاء في وصية ابن سحنون لمعلم ولده : (لا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام ، وليس هو ممن يؤدّب بالضرب والتعنيف) [5] .(1/161)
ويلتقي أبو الحسن القابسي مع ابن سحنون في ضرورة الرفق بالصبيان وعدم
تجاوز الثلاثة في التأديب ، وإنما يلجأ إلى الضرب فقط عندما لا ينفع العذل
والتقريع بالكلام الذي فيه التوعد من غير شتم ولا سب لعِرْض ، يقول أبو الحسن
القابسي : (وإذا استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث ، فليستعمل
اجتهاده لئلا يزيد رتبة فوق استئهالها ، وهذا هو أدبه إذا فرّط فتثاقل عن الإقبال
على المعلم ، فتباطأ في حفظه ، أو أكثر الخطأ في حزبه ، أو في كتابة لوحه .
ولئن سمح القابسي للمعلم بمعاقبة التلاميذ بهذا القدر من الضرب إلا أنه علّق
ذلك على مدى استئهال التلميذ لذلك ، وقيّده بثلاثة ، واشترط في تجاوز الثلاثة إلى
العشرة مشورة أبي الصبي أو ولي أمره ومدى احتمال الصبي للضرب فوق الثلاثة
إذا استأهل ذلك ، وألا يتعدى أثر الضرب الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن المُضِر . وعلى الجملة : فالمعلم عنده عوض عن الأب بالنسبة للصبيان (فهو المأخوذ بأدبهم ، والناظر في زجرهم عما لا يَصْلح لهم ، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم ؛ فهو
يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم ، ولا يخرجهم ذلك من حسن رِفْقه بهم ، ولا من
رحمته إياهم ؛ فإنما هو لهم عوض من آبائهم ) [6] ويعلل القابسي ذلك بقول
الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم
فارفق به) [7] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : (إن الله يحب الرفق في الأمر
كله) [8] .
وقد تحدث ابن الجزار القيرواني الطبيب عن الفرق بين الصبيان في مدى
قبولهم للأدب ؛ إذ منهم من يتقبل الأدب قبولاً سهلاً ، ومنهم من لا يقبل ذلك ،
ومنهم من إذا مُدِحَ تعلم علماً كثيراً ، ومنهم من يتعلم إذا عاقبه المعلم ووبخه ، ومنهم
من لا يتعلم إلا إذا استعملت معه أساليب أشد تعنيفاً كالضرب مثلاً . ولذلك قرر ابن
الجزار مراعاة هذه الفروق الفردية ، واتباع الأسلوب المناسب لتأديب كل صبي بما(1/162)
يناسبه من الأساليب ؛ حيث قال : (فأما إذا كان الصبي طبيعته جيدة ، أعني : أن
يكون مطبوعاً على الحياء وحب الكرامة والألفة محباً للصدق ؛ فإن تأديبه يكون
سهلاً ، وذلك أن المدح والذم يبلغان منه عند الإحسان أو الإساءة ما لا تبلغه العقوبة
من غيره ، فإن كان الصبي قليل الحياء ، مستخفاً للكرامة ، قليل الألفة ، محباً
للكذب ، عسراً تأديباً ، ولا بد لمن كان كذلك من إرهاب وتخويف عند الإساءة ، ثم
يحقق ذلك بالضرب إذا لم ينجح التخويف [9] .
وقد بين الغزالي أن الطريق في رياضة الصبيان وتأديبهم ينبغي أن يؤسس
على الرفق واللين ، والثواب والمدح لا العقاب والشدة والتعنيف ؛ حيث قال : (ثم
مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ، ويجازى
عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس ، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة
واحدة ؛ فينبغي أن يتغافل عنه ، ولا يهتك ستره ، ولا يكاشفه ، ولا يظهر له أنه
يتصور أن يتجاسر أحد على مثله ، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه ؛
فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة ، فعند ذلك إن عاد
ثانية فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه ، ويقال له : إياك أن تعود بعد ذلك
لمثل هذا ، وأن يُطّلع عليك في مثل هذا فتُفضح بين الناس . ولا تكثر القول عليه
بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة ، وركوب القبائح ، ويسقط وقع
الكلام من قلبه) [10] .
أما العلاّمة ابن خلدون فقد عقد في مقدمته فصلاً في أن الشدة على المتعلمين
مُضرّة بهم ، أشار فيه إلى الأضرار الخطيرة التي تعود على الفرد في مرحلة الرشد ، وعلى المجتمع بأسره نتيجة الشدة والتعنيف في تأديب الولدان في الصّغر ، وما
ينجرّ عنها من فساد وسوء خلق وتعوّد على الكذب والخبث والكيد والمكر والخديعة ؛ لأن الراشد قد تعوّد في صغره التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط(1/163)
الأيدي بالقهر عليه ، فصار ذلك له خلقاً وعادة لم يستطع منها فكاكاً في الكبر .
يقول ابن خلدون : (ومن كان مَرْباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك
أو الخدم سطا به القهر ، وضيّق على النّفْسِ في انبساطها ، وذهب بنشاطها ، ودعاه
ذلك إلى الكسل ، وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره
خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه ، وعلمه المكر والخديعة لذلك ، وصارت له
هذه عادة وخلقاً ، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدّن ،
وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله ، وصار عيالاً على غيره في ذلك ، بل
وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل ؛ فانقبضت عن غايتها ومدى
إنسانيتها ، فارتكس وعاد في أسفل السافلين) [11] .
ولم يكتف ابن خلدون بهذه الإشارة الجميلة للآثار المترتبة على العنف في
التربية ؛ بل ضرب لنا مثلاً واقعياً باليهود وما اتصفوا به من خبث ومكر وكيد ؛
ومردّ ذلك حسب تحليله يعود إلى ما لقوه من قهر وعسف نتيجة تيههم وتفرقهم في
الأمصار . يقول ابن خلدون : (وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق
السوء ، حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ؛ ومعناه في الاصطلاح
المشهور : التخابث والكيد ؛ وسببه ما قلناه . ( أي : العسف والقهر في
التأديب)[12] . ولذلك دعا ابن خلدون إلى الرفق بالمتعلم واجتناب الشدة في تأديبه وتهذيبه ، واستحسن وصية الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين ، واعتبرها من أحسن مذاهب التعليم ، ومما جاء فيها : (يا أحمر ! إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه ، وثمرة قلبه ، فصيّر يدك عليه مبسوطة ، وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين : أقرئه القرآن ، وعرّفه الأخبار ، وروّه الأشعار ، وعلّمه السنن ، وبصّره بمواقع الكلام وبدئه ، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ، ورفع مجالس القواد إذا حضروا(1/164)
مجلسه، ولا تمرّنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدها إياه ، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه ، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة ؛ فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة) [13] .
وأجمل منها وصية مسلمة بن عبد الملك إلى مؤدب ولده ؛ حيث قال : (إني قد
وصَلْتُ جناحك بعضدي ، ورضيتُ بك قريناً لولدي ؛ فأحسن سياستهم تدم لك
استقامتهم ، وأسْهِلْ بهم في التأديب عن مذاهب العنف ، وعلّمهم معروف الكلام ،
وجنّبهم مثاقبة اللئام ، وانههم أن يُعرَفوا بما لم يَعْرِفوا ، وكن لهم سائساً شفيقاً ،
ومؤدباً رفيقاً تكسبك الشفقة منهم المحبة ، والرفق حسن القبول ومحمود المغبة ،
ويمنحك ما أرى من أثرك عليهم ، وحسن تأديبك لهم مِني جميل الرأي ، وفاضل
الإحسان ولطيف العناية) [14] .
ومما سبق يتضح أن المربين المسلمين الأوائل وإن أقرّوا بدور العقاب في
التربية إلا أنهم جعلوه من باب : (آخر العلاج الكي) بحيث لا يلجأ إليه المربي إلا
عند الضرورة القصوى ، وضمن حدود معينة ، وشروط محددة ؛ فهم قد فاضلوا بين
الأساليب التربوية على النحو الآتي :
1- المدح والثناء والترغيب :
اعتبر التربويون المسلمون الأوائل الثواب والمدح والثناء الأسلوب الأمثل ،
والحافز الأقوى للتعلم ، ولذلك طالبوا المعلم بالمبادرة به قبل غيره ، وأن لا يلجأ إلى
غيره إلا لحاجة ملحّة قد تفرضها طبيعة الصبي كأن يكون الصبي قليل الحياء
مستخفّاً بالكرامة ، قليل الألفة محباً للكذب . وفي ذلك يقول أبو الحسن القابسي :
(وإذا هو أحسن يغبطه بإحسانه من غير انبساط إليه ولا منافرة له ليعرف وجه
الحسن من القبيح فيتدرج على اختيار الحسن) [15] .
وفي ذلك أيضاً يقول الغزالي : (ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل ، وفعل
محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر
الناس) [16] .(1/165)
وقد مر معنا وصية ابن سحنون لمؤدب ولده : (ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف
الكلام) [17] .
كذلك أوصى ابن جماعة المعلم بشكر التلميذ إذا أصاب الجواب ومدحه والثناء
عليه ، فقال : (فمن رآه مصيباً في الجواب ، ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره
وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد) [18] . وقد
كان المربون الأوائل يتحينون الفرص لتشجيع الأولاد وحثهم على المنافسة النزيهة
في العلم وتحصيله . قال ابن سحنون في حث المعلم على ذلك : (وينبغي أن يجعل
لهم وقتاً يعلمهم فيه الكتاب ويجعلهم يتجاوزون ؛ لأن ذلك مما يصلحهم ويخرجهم ،
ويبيح لهم أدب بعضهم بعضاً) [19] .
وكانوا إذا حذق الصبي القرآن أي أصبح ماهراً فيه جمعوا له الناس وعملوا
له وليمة لتشجيعه ومدحه بين الناس بما يدفعه إلى الاستزادة من العلم وتحصيله ؛
خصوصاً إذا علمنا أن أول ما يتعلمه الصبي في الكتّاب القرآن الكريم ، فهو بختمه
القرآن الكريم وحذقه لا يزال في بداية الطريق . جاء في : (كتاب العيال) للحافظ
ابن أبي الدنيا : (حدثني بشر بن معاذ العبدي ، حدثنا أبو عمارة الرازي ، حدثنا
يونس ، قال : حذق ابنٌ لعبد الله بن الحسن بن أبي الحسن ، فقال الحسن : إن فلاناً
قد حذق .
فقال الحسن : كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً
للناس) [20] .
وبهذا يكون المربون الأوائل قد سبقوا بأشواط كثيرة علماء النفس المحدثين في
تقرير أهمية المدح والثناء في التربية . ويشار إلى أسلوب التشجيع والثواب في علم
النفس بمصطلح (التعزيز) . ومعناه المكافأة ويعتبر التعزيز ، سواء كان معنوياً
كالمدح والثناء ، أو مادياً ، من أهم الأساليب الحديثة في تعديل السلوك وتهذيبه .
وهكذا يتضح أن التربويين المسلمين قد لامسوا الموضوع عن قرب ولكن دون
الدخول في تفصيلات كبيرة كما هو الشأن بالنسبة لعصرنا الحالي الذي تشعبت فيه
التخصصات .
2- الإيحاش والإعراض والتّرْك :(1/166)
ويعتبر الإيحاش والإعراض والترك أقل درجات العقوبة المعنوية ؛ فالمعلم قد
يلحظ على الصبي ملحظاً أو يرى منه تصرفاً غير لائق ؛ ولكنه يُعرض عنه
ويتغافل عنه ولا يعنفه أو يشتد عليه في العقوبة ؛ ربما لأن الصبي قام بهذا السلوك
مرة واحدة فيعفو عنه ، أو لأنه كان يتوقع أن ما قام به يعتبر لائقاً وينتظر عليه
مكافأة من المعلم ولو في صورة مدح أو بشاشة وجه أو اهتمام به ، فيعرض المعلم
عنه ويبدي له نوعاً من الإيحاش وعدم البشاشة . وقد أشار الغزالي إلى هذا
الأسلوب بقوله : (فإن خالف ذلك (أي : أتى فعلاً غير محمود أو تخلق بخلق غير
جميل) في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا
يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله ، ولا سيما إذا ستره
الصبي واجتهد في إخفائه) [21] .
ويشار إلى هذا الأسلوب في نظريات التعلم بمصطلح : (الانطفاء) .
ومعناه أن الصبي إذا قام بسلوك غير لائق وتجاهله المعلم وأعرض عنه ولم
يُبْدِ نوعاً من الإيناس وبشاشة الوجه للصبي ؛ فإن الصبي يبدي رغبة أقل في
تكراره ويتركه ؛ فينطفئ . وقد قدم لنا كل من (مارتن وبير) في كتابهما : (تعديل
السلوك) عدة شروط يجب مراعاتها لكي يكون استخدامنا للانطفاء أكثر فعالية في
تعديل السلوك ، يمكن الرجوع إليها في مظانها لمن رام المزيد .
3- الذم والتوبيخ والترهيب :
إذا لم ينفع مع الصبي أسلوب الإيحاش والإعراض والترك يلجأ المعلم إلى
أسلوب أشد في العقوبة المعنوية وهو أسلوب الذم والتوبيخ والترهيب والوعيد
الشديد دون إيقاع الضرب ودون التبذل في العذل والتقريع في الكلام أو اللجوء إلى
الشتم والسب . وقد جعل أبو الحسن القابسي هذا الأسلوب في العقوبة أعلى درجات
العقوبة المعنوية ، ويليه مباشرة إيقاع العقوبة البدنية بالصبي إذا استأهل ذلك .(1/167)
كذلك أشار الغزالي إلى أن الصبي إذا نُهي عن التخلق بسيئ الأخلاق فلم ينته ، ولم ينفع معه أسلوب الإيحاش والإعراض والترك فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم
الأمر فيه ؛ فيقال له : إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يُطّلع عليك في مثل هذا
فتُفتضح بين الناس [22] . فإن لم ينته الصبي عن ذلك يُلجأ إلى العقاب الجهري
والتغليظ في القول لينزجر السامع ومن معه ويتأدبوا بذلك ؛ فإن لم ينفع معه ذلك
يُلجأ إلى العقوبة البدنية على النحو الذي سيأتي ذكره .
4- العقوبة البدنية :
إذا لم تفلح أساليب العقوبة المعنوية من إيحاشٍ وإعراضٍ وذمٍ وتوبيخٍ
وتخويفٍ يَلجأ المعلم إلى العقوبة البدنية ؛ حيث أجاز الإسلام العقوبة البدنية وشرع
لها كما أسلفت ، كما أجاز المربون المسلمون استعمال الضرب لتأديب الصبيان ؛
ولكنهم جعلوه آخر أسلوب في التربية ، وأحاطوه بسياج من القيود والشروط . وفيما
يلي الشروط التي وضعها أبو الحسن القابسي للعقوبة البدنية [23] :
1- ألاّ يستعمل المعلم الضرب إلا لذنب .
2- أن يوقع المعلم الضرب بقدر الاستئهال الواجب في الجُرْم (وإذا استأهل
الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث ، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في
رتبة فوق استئهالها) [24] .
3- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث ، ويستأذن القائم بأمر الصبي في
الزيادة إلى عشر ضربات . فإن اكتسب الصبي جرماً من أذى ولعب ، وهروب من
الكتّاب ، وإدمان البطالة فينبغي للمعلم أن يستشير أباه ، أو وصيه إن كان يتيماً ،
ويُعْلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث ، فتكون الزيادة على ما يوجبه
التقصير في التعلم عن إذن من القائم بأمر هذا الصبي ، ثم يزاد على الثلاث ما بينه
وبين العشر [25] .
4- أن يزاد على عشر ضربات إذا كان الصبي يطيق ذلك أو كان سيئ
التربية غليظ الخلق . (وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام ويكون سيئ(1/168)
الرعية ، غليظ الخلق ، لا يروعه وقوع عشر ضربات عليه ويرى للزيادة عليه
مكاناً ، وفيه محتمل مأمون ، فلا بأس إن شاء الله من الزيادة على العشر
ضربات) [26] .
5- أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه : (ولْيتولّ أدبهم بنفسه ؛ فقد أحب
سحنون ألا يُولي أحداً من الصبيان الضرب) [27] .
6- أن يوقع المعلم الضرب على الرّجْلين دون الوجه والرأس : (وليتجنب أن
يضرب رأس الصبي أو وجهه ؛ فإن سحنون قال فيه : لا يجوز له أن يضربه ،
وضرر الضرب فيهما بيّن ، قد يوهن الدماغ ، أو تطرف العين أو يؤثر أثراً قبيحاً ، فلْيُجتنبا ؛ فالضرب على الرّجْلين آمن وأحمل للألم في سلامة) [28] .
7- أن يكون الضرب بحيث لا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع أو الوهن
المضر : (وصِفَة الضرب : هو ما يؤلم ولا يتعدى الألم إلى التأثير المشنع ، أو
الوهن المضر) [29] .
8- أن تكون الدّرّة التي يضرب بها المعلم الصبيّ رطبة مأمونة لئلا تؤثر
أثراً سيئاً .
9- ألاّ يكون الضرب انتقاماً من الصبي وإنما يكون لعلاجه وتأديبه : (ينبغي
لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم ، وليس لمعلمهم في ذلك
شفاء من غضبه ، ولا شيء يريح قلبه من غيظه ؛ فإن ذلك إن أصابه فإنما ضَرَبَ
أولاد المسلمين لراحة نفسه ، وهذا ليس من العدل) [30].
ومن استعراض هذه الأساليب ومفاضلة التربويين المسلمين بينها يتبين لنا
مدى حرصهم على الرفق بالصبيان عند تعليمهم وتأديبهم ومدى تضييقهم على مسلك
العقاب في التربية .
ونجد في الدراسات النفسية الحديثة دعوة ملحة لاجتناب استخدام العقاب في
التعليم ، وإشارات عديدة لكون العقاب يعد أقل الأساليب التربوية فعالية في التعليم ،
ومع ذلك فإنِ احتاج المعلم إليه فعليه أن ينبه الصبيّ إلى مواضع الخطأ قبل إيقاع
العقاب عليه ، وأن يبين له السلوك البديل فيما أخطأ فيه ، وإذا أوقع عليه العقاب
فليكن القصد منه مصلحة الصبي دون التهجم على شخصه .(1/169)
________________________
(1) سنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة ، حديث رقم 494 .
(2) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب فضل الرفق ، حديث 6549 .
(3) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب فضل الرفق ، حديث 6548 .
(4) محمد بن سحنون ، آداب المعلمين ، ملحقة في كتاب التربية في الإسلام ، أحمد فؤاد الأهواني ،
دار المعارف دت ، 354 .
(5) المرجع السابق ، ص 148 .
(6) القابسي ، 1986 ، 128 .
(7) ورد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد بالصيغة الآتية : حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ،
حدثنا وكيع قال : حدثنا جعفر بن برقان ، عن عبد الله البهي ، عن عائشة قالت : قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم من رفق بأمتي فارفق به ، ومن شق عليهم
فشق عليه ) مسند أحمد ، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها ، حديث 23876 .
(8) صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، باب الرفق في الأمر كله ، حديث 5802 .
(9) ابن الجزار ، 1404 هـ ، 116 .
(10) الغزالي ، ج3 ، ص 73 .
(11) ابن خلدون ، 1979م ، ج3 ، 1253- 1254 .
(12) المرجع نفسه ، 1979م ، ج3 ، 1252 .
(13) ابن خلدون ، 1979م ، ج3 ، 1254 .
(14) ابن أبي الدنيا ، 1410 هـ ، ج1 ، ص 518 .
(15) القابسي ، 1986م ، ص 133 .
(16) الغزالي ، د ت ، ج3 ، ص 73 .
(17) الأهواني ، 1984م ، ص 148 .
(18) ابن جماعة ، ص 54 .
(19) ابن سحنون ، 1984م ، ص 357 .
(20) ابن أبى الدنيا ، 1410هـ ، ج1 ، ص 489 .
(21) الغزالي ، ج 3 ، ص 73 .
(22) الغزالي ، ج 3 ، ص 73 .
(23) انظر الأهواني ، 1984م ، ص 152 153 .
(24) المرجع نفسه ، ص 309 .
(25) المرجع نفسه ، ص 310 .
(26) المرجع نفسه ، ص 310 .
(27) انظر الأهواني ، 1984م ، ص 310 .
(28 المرجع نفسه ، ص 310 -311 .
(29)المرجع نفسه ، ص 310 .
(30) المرجع نفسه ، ص 310 .
تأملات دعوية
هذه المشكلات ليست من صنعنا
عبد الله المسلم(1/170)
يطرح كثير من المتحدثين حول الصحوة الإسلامية اليوم وجيلها سلبياتٍ
وأمراضاً تنتشر لدى أتباعها ، وهي تُولّد انطباعاً سيئاً وروح إحباط لدى من يستمع
لمثل هذه الآراء ، مثل :
ضعف المبادرة الفردية ، الفوضى وقلة الاكتراث بالوقت ، ضعف المهارات
والقدرات القيادية ، الرتابة في أساليب العمل وطرق الإدارة ، السطحية وضآلة
التفكير ، تركز النجاح في الأعمال والمشروعات الفردية أكثر منه في المشروعات
والأعمال الجماعية ... إلى آخر هذه القائمة من المشكلات .
إنها قائمة طويلة من الأمراض والسلبيات نسمعها عند الحديث حول جيل
الصحوة . وبغض النظر عما في التركيز على لغة النقد واحترافها من آثار سلبية ،
ومن مبالغة في أحيان كثيرة ، إلا أن هناك جانباً له أهميته ينبغي ألا يهمل عند
تناول هذه القضايا ألا وهو : أن معظم هذه المشكلات إنما هي نتاج وإفراز لأوضاع
المجتمع وبيئته الثقافية والفكرية السائدة ؛ فهذه المشكلات التي يعاني منها الغيورون
على الصحوة موجودة ومتمثلة في كافة مؤسسات المجتمعات الإسلامية .
والنتيجة وإن كانت لا تختلف عند تقرير هذه الحقيقة إلا أن هناك سلبيات تنشأ
عن تجاهل هذا الجانب ، ومنها :
- تحميل جيل الصحوة نتائج أعمال ليست من مسؤوليته .
- أن هذا يؤدي إلى شعور بالإحباط ، واحتقار لكثير من جهود العاملين
الخيّرين حين يُحمّلون مسؤوليات أعمال ليست من صنعهم .
- أن هذا الأمر سينعكس أثره على الحلول المقترحة والمطروحة ، فتتمحور
حول العلاج المباشر لهذه القضايا ، والذي يعتمد على الطرح المعرفي المباشر لهذه
المشكلات من خلال قوالب جاهزة يعاد تشكيلها تبعاً لنوع المشكلة (التعريف ،
المظاهر ، الأسباب ، العلاج ... ) وهذا الطرح يفتقد إلى حد كبير للعمق والعلاج
الحقيقي للمشكلة ، ولا يعدو أن يكون كالوصفات التي يصرفها الطبيب لأي مريض
بغض النظر عما يعاني منه .(1/171)
- وبغض النظر عن العلاج الذي يقترح لهذه المشكلات ، إلا أنه لا بد أن
يتضمن التحليلُ الأفقي لهذه المشكلات تصنيفَها في مجموعات متجانسة ؛ إذ إن
طائفة منها تعود إلى الضعف الإداري ، وأخرى تعود إلى غياب الروح الجماعية في
العمل ، ومنها ما يعود إلى النمط التقليدي في التفكير ... فهذا يسهم كثيراً في
اختصار خطوات الحل .
- وعلى اعتبار أن القياديين والمربين هم نتاج المجتمعات المعاصرة ، فهم
يعانون من المشكلات التي يُفترض أن يعالجوها لدى المدعوين والمتربين ، فتدور
القضية في حلقة مفرغة ، فلا بد أن تكسر هذه الحلقة ، ولا بد من تحديد نقطة للبدء
في ذلك .
- ومما يعين على تجاوز هذه المشكلات الشعور بأهمية الارتقاء بمستوى
التفكير ، والبعد عن السطحية في تناول القضايا ، وإيجاد البيئة الفكرية الراقية داخل
قطاعات الصحوة وبرامجها .
- ومهما افترضنا من الحلول والمقترحات فلا بد أن نشعر شعوراً ضرورياً
أن هذه المشكلات ليست من صنعنا ليكون التعامل معها تعاملاً صحيحاً ، والله
الموفق وعليه التكلان .
________________________
دراسات تربوية
المفاهيم التربوية في القيادة
عند ابن حزم الأندلسي
جمال الحوشبي
يُصنّف الإمام أبو محمد : علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (384 456ه)
ضمن رواد المدرسة الظاهرية ، بل هو المتحدث الرسمي بلسانها . وبعيداً عن
الخوض في المذهب الظاهري سلباً وإيجاباً ، فإن أبا محمد رحمه الله يعد من أبرز
أعلام التربية الإسلامية .. وله في هذا الشأن الكثير من روائع الاستدلالات
والاستنباطات التربوية التي تشكل بمجموعها ثروة تربوية هائلة تستحق أن تفرد في
رسائل تربوية مقننة على أيدي الأكفاء من علماء التربية الإسلامية في هذا العصر ،
ولقد استعنت عن عمد بآراء هذا الإمام التربوية وملامحه القيادية ، غير متجاهل
بعض آرائه التي نازع فيها أهل العلم وشذ عن أقوالهم في تقريرها ؛ ذلك أن هذه(1/172)
الملامح التربوية بعيداً عن الخوض في تلك المسائل المتنازع فيها تعد ثروة تربوية
وكنزاً ثميناً تفخر به تربيتنا الإسلامية ضمن ذخائرها الكثيرة .
وما أحسن كلام الذهبي رحمه الله الذي لا يقل ميزانه في نقد الرجال عن
نفيس نقده وسبكه حين عرض لتلك الآراء الاجتهادية التي انفرد فيها ابن حزم رحمه
الله فأنصفه وبالغ في تعظيمه بقوله : (ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في
الحديث الصحيح ، ومعرفته به ، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال
والعلل ، والمسائل البشعة في الأصول والفروع ، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة ،
ولكن لا أكفّره ولا أضلّله ، وأرجو له وللمسلمين العفو والمسامحة ، وأخضع لفرط
ذكائه وسعة علومه) [1] .
وهي عبارة دقيقة ، وإنصاف عادل ، وأصل نفيس نفتقده اليوم في خضم
الأهواء والأفكار البشعة في النقد والحكم على الآخرين ، وبها تستقيم التربية ويعرف
الحق من الباطل .
لقد تميز الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم رحمه الله بالأصالة والابتكار ،
واتسم إلى حد كبير بالاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة ، فجاءت آراؤه التربوية
ذات أسس وقواعد ، لها تجاربها وعبرها الذاتية ، كما أن لها رحلاتها وشواهدها
القاسية التي خاضها بنفسه ، وربما سطّر بعضها في أخريات حياته !
ومما تتميز به لمحات ابن حزم التربوية وتوجيهاته القيادية النظرة الشمولية
لطبيعة الحلول (العملية) المقترحة التي يقدمها للقادة والمربين ، ولا يدرك قيمة هذه
المهارة التربوية التي تُعنى بالجانب التكاملي في العلاج إلا من كان له سابق اطلاع
على (النظريات) التربوية الغربية في علاج المسائل التربوية ذاتها التي تطرق لها
ابن حزم أو غيره من علماء التربية الإسلامية قديماً . وأكتفي بضرب مثال واحد
للتوضيح .
لعل أبرز العقبات التي تواجه المربين والمصلحين ما يلاقونه من كلام الناس
وتجهمهم وانتقاداتهم الجائرة جراء الجهالة المطبقة لدى الكثيرين منهم . والقضية هنا(1/173)
قضية نسبية تختلف باختلاف مفهوم التربية والإصلاح ، بل باختلاف العقائد
والأديان قبل كل شيء ، غير أن الأمر المشترك فيها هو كونها عقبة تتكرر دائماً
ويشتكي منها (المربون) [2] إن جاز أن نطلق هذا اللفظ على كل من سلك الطريق
(الإصلاحي) في المجتمع الذي يعيش فيه .
فإذا تصدّى المربي المسلم لسبر هذه العقبة بعينها ، وتكلّف البحث الجاد في
كتب التربية لإيجاد العلاج لها فإنه يجد الفرق الواضح ماثلاً أمامه بين المفاهيم
التربوية الإسلامية للعلاج وتلك المفاهيم الغربية . فإذا أخذنا على سبيل المثال كلام
ابن حزم رحمه الله في تقرير العلاج فإنك تجده ينطلق في تسليته للمربي والمصلح
والقائد (المسلم) من قواعد وتأصيلات (إسلامية) ثابتة مبنية على نصوص كلية من
الكتاب والسنة تباين كلياً تلك القواعد والتأصيلات الغربية التي حُرّرت لعلاج هذه
القضية ذاتها . ثم إنك تجد (الصدق) و (النصح) يناغمانك في طيات حديث الإمام
ابن حزم رحمه الله ، وتطوّف بك حرارة نصائحه في محيط الحدث ذاته سبراً
وغوراً وحدوداً حتى تخرج منه وقد أرويت الغليل بوصايا هذا الإمام ، بخلاف ما
تجده في كثير من توجيهات ونصائح علماء التربية في الغرب ممن يراوحون حول
كلام جاف (مقنن) محلىً بألفاظ آسرة ، مفرّغ من الروح ، بعيد عن الحدث في كثير
من الأحيان مفتقر لتلك الحرارة الإيمانية الصادقة .
وفيما يلي عرض لجملة من هذه المفاهيم القيادية التي يستخلصها القارئ لواحد
من كتب ابن حزم رحمه الله وهو كتاب (مداواة النفوس) الذي يعد من أواخر كتبه
رحمه الله واستودع فيه خلاصة تجاربه ورحلاته وأظهر فيه لمحات تربوية فذة لا
غنى عنها .
النبوغ والتفوق :
ينطلق ابن حزم رحمه الله في تعريف النبوغ والتفوق من منظورين . أولهما :
تجلية مفردات الإبداع ومهاراته ومتطلباته (المادية) .. والثاني : الأخذ بمعايير
الفضيلة والأخلاق اللازمة لتكوين المبدع وصياغة فكره واتجاهاته ، ويرى أن تمثّل(1/174)
(القدوة) لمبدع في فن بذاته ، أو إطلاق صفة (النبوغ) في القيادة وغيرها لا بد أن
تكون وفق الموازنة بين هذين المنظورين معاً ؛ بل إنه يرى رحمه الله أن كفة
الأخلاق والفضيلة لا بد أن تنال قسطاً أكبر من اهتمام المبدع ومن تفكيره . ولذا ؛
فإن معيار الحكم بالنجاح أو الإخفاق لمبدع أو آخر يعود بدرجة كبيرة إلى نسبة
المحتوى الأخلاقي والتربوي في سيرته الذاتية .. فالنبوغ والإبداع من منظور ابن
حزم التربوي لا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك المهارات المكتسبة التي ربما شاركه
فيها غيره من البشر ، أو في تلك القدرات التي ربما شاركه فيها الحيوانات
والعجماوات . ولذا يقول رحمه الله : (فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو
بهيمة أو جماد ، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع
والبهائم والجمادات .. وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة . فمن سُرّ بشجاعته
التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه ، وأن الأسد
والذئب أشجع منه ، ومن سُرّ بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه
جسماً ، ومن سُرّ بحمله الأثقال فيلعلم أن الحمار أحمل منه ، ومن سُرّ بسرعة عدوه
فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه ، ومن سُرّ بحسن صوته فليعلم أن كثيراً
من الطير أحسن صوتاً منه ، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته [3] ،
فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه البهائم متقدمة عليه ؟ لكن من قوي تمييزه ،
واتسع علمه ، وحسن عمله فليغتبط بذلك ؛ فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة
وخيار الناس) [4] .
صلاح العمل :
يؤكد ابن حزم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه على أن المفهوم الصحيح
للعمل لا يعود إلى العمل ذاته فحسب ؛ بل إن توابعه ولوازمه وشروطه لها درجة
عظمى في الحكم على صلاحه أو فساده ، وهو ينطلق كغيره من علماء التربية(1/175)
الإسلامية في تحديد هذه النظرة الحكيمة للعمل من قاعدة الاهتمام بإصلاح النية بعد
صلاح العقيدة والمنهج قبل الشروع في أداء العمل ، ومهما كان العمل بعيداً فإن
النية الصالحة تقرّبه ، ومهما كان العمل قريباً فإن فساد النية يبعده .
الوصول إلى الإبداع :
كما يرى رحمه الله أن القائد لا يولد قائداً ولا المبدع مبدعاً كاملاً .. وأن المرة
الواحدة في طريق القيادة أو الإبداع لا تكفي ، إنما لا بد من الكرّة تلو الكرة
واكتساب الخبرة بعد الخبرة ، ولذا فإن حدوث الخطأ وتكرره في المراحل الأولى
أمر مألوف جِبِلّةً ولا يُذم صاحبه بحال ، حتى تصبح القيادة فيما بعد ملكة ومهارة
مصقولة بكثرة التجارب والخبرات ، وفي هذا يقول رحمه الله : (إن التجارب لا
تكون إلا بتكرار الحال مراراً كثيرة على صفة واحدة) .
أهمية الاستمرار :
وبالرغم من تأكيده رحمه الله على أهمية المحاولة ، وضرورة اكتساب الخبرة
عبر التكرار في الأداء فإنه يحذر كذلك من إهمال تهذيب النفس أو إهمال المداومة
على تكرار التجارب ، وأن ذلك يعد عائقاً من عوائق التربية ويؤدي إلى توقفها أو
ضياع الفائدة منها ، وبهذا الصدد رفع صوته بالمقولة التي باتت مثلاً سائراً :
(إهمال ساعة يفسد رياضة سنة) ! [5] .
إعداد القيادة ضرورة :
يؤكد ابن حزم على وجوب الاعتناء بالقادة والنوابغ في الأمة ، ويرى أن
الاعتناء بهم كفيل بصلاح أمور المجموعة ، وأن لكل عمل تقوم به المجموعة درجة
من الكمال توازي كمال ساستها وقادتها في الأخذ بمعايير القيادة السليمة ، ويفرّق
رحمه الله بين صلاح الفرد أو فساده في ذاته وبين إصلاحه أو إفساده في إدارة
المجموعة ؛ فتراه يؤكد في مواضع من كتبه أن المجموعة بغير قائد يقودها لا
يصلح لها حال ، ولا يمكنها القيام بالأعمال العظيمة التي تقارب الكمال حتى ينتظم
عقدها تحت قائد يقودها ويدير شؤونها ، وهذا القائد لا بد أن يُعَدّ بعناية لهذه المهمة(1/176)
لتتكامل شخصيته وتحسن طباعه وتصرفاته ؛ وهذا الإعداد المبكر يعد من الأمور
اللازمة للحكم على نجاحه في القيادة أو عدمه ، وكذا في العملية التربوية والتنظيمية
للمجموعة بدون شتات أو تناقض أو اضطراب ، ويوقفك رحمه الله أمام افتراضات
تقريبية لهذا المفهوم ليؤكد لك أهميته فيقول : (خطأ الواحد في تدبير الأمور خير من
صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد ؛ لأن خطأ الواحد في ذلك يُستدرك ، وصواب
الجماعة يُضري أي : يعوّد ويُغري على استدامة الإهمال .. وفي ذلك الهلاك) [6] .
فقه الاحتساب :
يقتحم رحمه الله علم الاجتماع ليستخرج قاعدة في بذل المعروف مفادها : أن
على من تصدّى للناس بدعوتهم أو بخدمتهم ومساعدتهم وبذل المعروف لهم ألاّ
ينتظر عاقبة بذله ومعروفه منهم ؛ لأن ذلك عليه مدار تأليف القلوب والتأثير في
الناس ، وبه اتقاء الشرور من خبث نفوسهم ؛ وهنا يكمن الفرق بين التربية المادية
التي لا تؤمن إلا بالمصالح الوقتية والنتائج النفعية وبين التربية الإسلامية التي ترى
أن إسداء المعروف والإحسان للغير بدعوتهم لا بد أن يتجرّد من كونه عملاً
مشروطاً بنتائجه وعواقبه ، وأن يجرّد ابتداءً وانتهاءً لله وحده ، يقول رحمه الله :
(وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك ، ولكل من احتاج إليك وأمكنك
نفعه وإن لم يعمدك بالرغبة ولا تُشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك
عز وجل ، ولا تبنِ إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضرّ بك ، وساعٍ عليك ؛
فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في
أعلى من أحوالهم) وهكذا الشأن في إعطاء الهبات والإعانات وإسداء النصيحة ..
فكما أن المرء لا يشترط لأداء المعروف والإحسان انتظار الجزاء .. فهو كذلك لا بد
مُلْزَمٌ بأداء الفضل ابتداء ، وآخذٌ بأكمل الأخلاق وأرفعها ، وزاهد فيما عند الناس
راغب فيما عند الله . يقول رحمه الله : (ولا تنصح على شرط القبول ، ولا تشفع(1/177)
على شرط الإجابة ، ولا تهب على شرط الإثابة ، لكن على سبيل استعمال الفضل ،
وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف) .
الكمال البشري :
ينظر رحمه الله إلى الإنسان الكامل في فنه ومنهجه بمنظار آخر وهو دأبه في
الطلب والاستزادة والجد في تحصيل العلوم النافعة ؛ إذ ليس الكمال محدوداً بشهادة
يحصلها الفرد لينقطع بها عن غيرها ، كما أنه ليس مجرد مهارات محدودة يمكنه
تحصيلها ليكتفي بها عن مواصلة الطلب والبحث ، ومتى رأيت القائد أو المربي أو
الداعية قانعاً بما هو عليه من علم أو دعوة أو مهارات قيادية فإنك لن تكون مجازفاً
إذا راهنت بإخفاقه بعد زمن ليس بالطويل ، ولو عاين رحمه الله بعض أرباب
(الدوالّ) في هذا العصر وما آلوا إليه من خمول وكسل ، وما أصبحت تدور عليه
اهتماماتهم وأهدافهم ، ومستوى تفكيرهم لكانت أولى سهامه في هذا الباب موجهة
إليهم بالنقد والتعيير ؛ إذ هم أوْلى بالتبكيت من المقلدة ، أو مجتهدي المذاهب
ومتعصبيها ! !
يقول رحمه الله : (الإنسان الكامل هو الذي لا ينفك طالب علم ما تردد في
رئتيه نفس) وذلك لأن طريق التربية وتهذيب السلوك طويل يبدأ مع الإنسان طفلاً
ثم يتدرّج به حتى الوفاة .
التأثير والتأثر :
الحياة تدور بين الأخذ والعطاء والسلب والإيجاب ، وبين هذا وذاك يتوزع
الناس في أي زمان ومكان . والقائد أو الداعية الناجح مطالب قبل غيره أن يكون
عضواً عاملاً فعّالاً في مجتمعه ، وأن يكون عنده إنتاج يحتاج إليه الناس ويفيدون
منه ، كما أنه ينتفع بما عندهم كذلك من أمور الحياة . إن حب التعاون والتكامل
والسعي في إيصال الخير لهم وهدايتهم إلى الطريق الصحيح والتزام منهج الله تعالى
إن كل ذلك وغيره مجالات خصبة يمكن أن ينفع بها القائد أو المربي غيره ،
وبدونها سيصبح خاملاً عالة على غيره في أموره الحياتية التي يحصل عليها ، ولا
يملك شيئاً من العطاء أو النفع في المقابل .. وهذا الصنف من الخاملين هم الذين(1/178)
يَعجب منهم ابن حزم رحمه الله : تخور قواهم وتضعف عزائمهم وهممهم ؛ في حين
تجد أرباب الصناعات والحرف أعظم منهم خطراً وأكثر نفعاً فيقول : (إن من
العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة . أما يرى الحرّاث
كيف يحرث له ، والطحان يطحن له ، والنساج ينسج له ، والخياط يخيط له ،
والجزار يجزر له ، والبنّاء يبني له ، وسائر الناس كل متولّ شغلاً له فيه مصلحة ،
وبه إليه ضرورة ؟ أفما يستحيي أن يكون عيالاً على كل العالم لا يعين هو أيضاً
بشيء من المصلحة ؟ ! ) .
العلم .. التعليم .. التخصص :
يوجه ابن حزم رحمه الله إلى ضرورة الإلمام بعلم الشريعة وبأصول المعتقد
لكل قائد أو مبدع بالإضافة إلى إلمامه بتخصصه وسعة اطلاعه فيه . وتجده يعيب
بشدة ذلك المربي القدوة أو القائد الموجه أو المبدع الماهر الذي يفتقر للثقافة
الإسلامية العامة إن صح التعبير ولأصول الإسلام التي لا يُعذر أحد في الجهل بها ،
ومن نظرته الخاصة في العلوم والفنون يحذّر رحمه الله من أن يحصر الإنسان نفسه
في معين تخصصه وفنه فحسب ؛ لأنه متى ما جف نبع ذلك المعين أو ترحّل عنه
لأي طارئ أوشك أن يشابه صنوف الجهال على حد تعبيره وأن يقارب العامة
والدهماء . وفي هذه الوصية نصح ظاهر وغيرة واضحة ، وبخاصة إذا علمنا أن
الدعاة والمربين والموجهين هم أول المعنيين بها ؛ ذلك أن القدوة الذي ينظر إليه ،
ويحتذى به لا بد أن يوطن نفسه أن تكون قامته أعلى من قامة من يقوم بتوجيههم
وتربيتهم وقيادتهم ، لا قامة الطول المحسوس أو هيبة (التصنّع الكاذب) وإنما قامة
العلم والأخلاق والأدب ، وحسن السياسة والتدبير ، وسعة الاطلاع وكريم السجايا
والإلمام بواقع الحال !
ولذا تجد ابن حزم رحمه الله يؤكد في سبيل تحقيق ذلك على وجوب التأصيل
العلمي منذ الصغر وعلى التدرج في نيل العلوم واحداً تلو الآخر وهو مراده من(1/179)
(لوازم التعلّم) ، والبدء به مرحلة مرحلة وفناً فناً ، مبتدئاً بطبيعة الحال بإقامة
الحروف ، ثم تعلّم اللغة ، فحفظ القرآن ، ثم مطالعة السنة ، ثم اللغة والأدب والنحو
ليقيم لسانه .
ولتحصيل جواهر الثقافة والمعرفة يوصي بشيء من شعر الحكمة ،
والرياضيات ، وهندسة الفلك والشروع إلى علم التاريخ وتراجم الرجال للاعتبار ،
وما لا يجوز جهله من علم الطب ومما يحفظ الصحة ! بل إنك لا تجده يحصر حد
الطلب ، ومفهومه على العلوم والفنون النظرية ، وإنما يستحث على العمل والكسب
ومزاولة المهن أو الاتجار لتحصيل المال ولطلب الرزق ، فيقول رحمه الله : (فإذا
بلغ المتعلّم هذا المبلغ من الثقافة العامة مما سبق ذكره فلا بد عليه أن ينصرف إلى
ما يحصّل به عيشه من صناعة أو تجارة أو زراعة أو تعليم ، أو إذا شاء إلى
التخصص في علم من العلوم والتعمق فيه) وهذا من باب الزهد فيما عند الناس
ولئلا يكون الفرد عالة على غيره وبخاصة أرباب الدعوة والتربية . ومع تأكيده على
أهمية التخصص فيما بعد فإنه يؤكد كذلك على أهمية الاطلاع على مفاتيح العلوم
وفرائد الفنون .. ويحذّر من الذوبان في خبايا التخصص عبر الولوغ في مداخله
وشوارده التي ربما لم يفد منها ولم ينفع بها غيره في معترك الحياة بقوله : (ومن
اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحكة ، وكان ما خفي عليه
من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه ؛ لتعلّق العلوم بعضها ببعض) .
ولا يفوته رحمه الله أن يوجه أنظار من انقطعوا عن تعليم الناس وتوجيههم
وتربيتهم لعذر التحصيل أو لسبب الاستزادة من العلوم تاركين السواد سادرين في
جهلهم وغفلتهم فيقول : (ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر
ولا يحصل على شيء ، وكان كالمحضر (المسرع) إلى غير غاية ؛ إذ العمر يقصر
عن ذلك . وليأخذ من كل علم بنصيب مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه ، ثم(1/180)
يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحليته فيستكثر منه ما أمكنه) إلى آخر
كلامه رحمه الله في هذا الباب .
الفضائل ثمرة العلم :
وضابط تحصيل العلوم وتكميلها ما أمكن السبيل لذلك ألا يُفوّت علم الكتاب
والسنة ، وأن يضرب فيهما بسهم ؛ إذ فيهما الخير كله والفضائل كلها . والقاعدة في
ذلك يلخصها ابن حزم رحمه الله بقوله : (من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما
أمر الله به ورسوله ؛ فإنه يحتوي على جميع الفضائل) وعلى هذا يمكننا تفسير
موقفه المتشدد من المقلدة ، وتحذيره من الجمود والتحجر وإغلاق بصائر العقل
وأنوار حكمته فيقول رحمه الله : (المقلّد راضٍ أن يغبن عقله ، ولعله مع ذلك
يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً) .
العلم للعمل :
الواقع والمثال وجهان لعملة واحدة في حياة المسلم ، وبخاصة في حياة أرباب
القيادة والدعوة والتربية . ويتمثل ذلك في عدم التناقض بين المعلومات والمفاهيم
النظرية وبين الواقع العملي الذي يعيشه الفرد ويمارسه . وتحذيراً من ذلك التناقض
في حياة المربين والقادة يؤكد رحمه الله على ضرورة العمل بالعلم ، وعلى أهمية
التطبيق العملي للعلوم والتحلي بها ويذم تبعاً لذلك كل متكلّف علماً لا يفيد منه أو فناً
ليس له به حاجة غير الاستكثار والتشبع ، فيقول رحمه الله : (من أخذ من كل علم
ما هو محتاج إليه أي ابتعد عن التكلّف والاستزادة التي لا طائل من ورائها ،
واستعمل ما علم كما يجب ، فلا أحد أفضل منه ؛ لأنه حصل على عز النفس
وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل) .
الإنصاف يحتاج إلى فراسة :
ومن خلال تجاربه في معترك الحياة يرشد رحمه الله كل من أخذ على نفسه
سياسة الناس وتربيتهم إلى ما سيتعرض له من تجارب تستوجب منه أن ينصب
لنفسه ميزاناً يحكم به بالقسط ويزن الأعمال والأقوال بالحق ، فلا ينبهر بظواهر
الناس ، ولا يأخذهم بالظنة أو الوهم .. وهذا مراده من قوله رحمه الله : (ينبغي(1/181)
للعاقل ألا يحكم بما يبدو إليه من استرحام الباكي المتظلّم وتشكّيه ، وشدة تلوّيه
وتقلّبه وبكائه) حتى قوله : (وهذا مكان ينبغي التثبت منه ، ومغالبة ميل النفس جملة ، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها ، ولكن يقصد الإنصاف لما
يوجبها الحق على السواء) .
يضيع من العمر قدر ما يضيع من الفرص :
ورديفُ التجارب في التكرار تتابعُ الفرص التي لا يمكن تعويضها ، ولربما
تفاوت حجم الفرصة وعظيم قدرها من زمن لآخر ومن مكان لآخر ؛ غير أن
الفرص جميعاً تشترك في كونها نادرة الوقوع ، وثمينة الأثر إذا أحسن صاحبها
الإفادة منها ، وكثيراً ما أرشد ابن حزم رحمه الله إلى وجوب استغلال هذه الفرص
والحذر من تضييعها ، ويشير مراراً إلى كثرة الفرص التي تضيع على أولئك
العظماء والقادة والدعاة ، وهو يؤكد لك باليقين أن (لكل شيء فائدة) ينبغي عدم
الذهول عنها ، ويضرب مثلاً عجيباً يتعلق بنظرة المبدع والقائد لكل ما يحيط به ،
وكيف يمكنه تحويل الخسائر الظاهرة إلى فرص سانحة لا تُعوّض ، يقول رحمه الله : (لكل شيء فائدة ؛ ولقد انتفعتُ بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة ، وهي أنه توقّدَ
طبْعي ، واحتدمَ خاطري ، وحمي فكري ، وتهيّج نشاطي ، فكان ذلك سبباً إلى
تواليف عظيمة المنفعة ، ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت تلك
التواليف) .
نفسك غالية ... لا تبذلها إلا لله :
ومن فرائد هذه اللمحات عناية ابن حزم رحمه الله كغيره من علماء السلف
رحمهم الله جميعاً بتكوين الشخصية الإسلامية الفريدة عبر إذكاء روح العزة والثقة
بالله ، وعدم الرضا بإذلال النفس أو بذلها في الحقير من الأعمال والفنون والمقاصد، وبعث الهمة إلى معالي الأمور وعظيمها ؛ تزهيداً بالسفاسف والترهات التي تقتل
المواهب وتئد الطاقات والهمم ، ولذا فأنت تجد أن إذكاء شعور العزة في النفس ،
والثقة بعد الله بالطاقات والمواهب والملكات ، وحسن التدبير وغيرها من الصفات(1/182)
اللازمة لكل مبدع أو قائد أو مربّ تلح على ابن حزم رحمه الله وغيره من عظماء
التربية الإسلامية على تحذير من يتصدى لسياسة الناس وتوجيههم من بذل النفس أو
صرف ماء الوجه في أمر حقير أو متاع زائل يذهب بمكانتهم عند الناس ؛ لأن
مقامهم عزيز ومعدنهم لا بد أن يكون ثميناً ؛ فلا يحل مساومته بعرض رخيص مهما
كان ، أو بمقصد حقير هو من مقاصد أولي الهمة الدنيا من الناس ، فيقول رحمه الله : (لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها ، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل ،
وفي دعاء إلى الحق ، وفي حماية الحريم ، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك
تعالى ، وفي نصر مظلوم) ، ولهذا فإنّ حدّ (العاقل) في هذا المفهوم التربوي عنده
رحمه الله هو من : (لا يرضى لنفسه ثمناً إلا الجنة) [7] .
________________________
(1) سير أعلام النبلاء ، 18/201 .
(2) نحن بحاجة لتحديد مفهوم التربية من جديد وفق مصطلحات الشرع الذي لم ترد فيه هذه اللفظة إلا في معرض التربية البدنية في قوله تعالى على لسان فرعون لموسى : ] أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً [ [الشعراء : 18] ولم يذكر القرآن هذا المفهوم الذي نتداوله اليوم إلا بلفظ التزكية كما في قوله تعالى:
[ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ ] [البقرة : 151] وقوله : [ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا] [الشمس : 9] وغيرها من الآيات * نختلف مع الكاتب في هذا فقد ورد في تفسير قوله تعالى ] وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِِيِّينَ ]
[آل عمران: 79] قول ابن عباس : (الربانيون الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره) · .
(3) على أنها محرمة بطبيعة الحال فالتفضيل هنا في ميزان المقارنة فحسب ! ولا عبرة لنا بالمعنى الآخر .
(4) مداواة النفوس ، ص 57 .
(5) المرجع السابق نفسه ، ص 82 .
(6) المرجع السابق نفسه ، ص 82 .(1/183)
(7) يمكن الرجوع لاستخلاص مثل هذه اللمحات التربوية لهذا الإمام من مؤلفاته العديدة ومن كتب أخرى عنيت بهذا الشأن منها الدراسة التي قدمها الأستاذ/ سعيد الأفغاني إلى مكتب التربية العربي لدول الخليج التي قام المكتب بإخراجها مع دراسات أخرى في هذا الشأن تحت عنوان : من أعلام التربية الإسلامية ، جزى الله القائمين على هذا المشروع خير الجزاء .
دراسات تربوية
محاسبة النفس ضرورة مُلِحّة
عبد الله محمد العسكر
النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن ، تؤثر فيها المؤثّرات ، وتعصف بها
الأهواء والأدواء ، فتجنح لها وتنقاد إليها ، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ
كما قال تعالى : ? إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي ? [يوسف : 53] ، ولذا ؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى
والخوف من الله ، ويأطرها على الحق أطراً . قال لقمان الحكيم لابنه : (يا بنيّ :
إن الإيمان قائد ، والعمل سائق ، والنفسَ حرون ؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن
الطريق ، وإن فتر قائدها حرنت ، فإذا اجتمعا استقامت . إنّ النفس إذا أُطمعت
طمعت ، وإذا فوّضْت إليها أساءت ، وإذا حملتها على أمر الله صلحت ، وإذا تركت
الأمر إليها فسدت ؛ فاحذر نفسك ، واتهمها على دينك ، وأنزلها منزلة من لا حاجة
له فيها ، ولا بُدّ له منها . وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق ، وإنّ
الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق : فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه ،
وأن يجلس معها جلسات طِوالاً ؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت : ماذا أودع
فيها ، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك
وتعالى .
أولاً : معنى المحاسبة :
قال الماوردي في معنى المحاسبة : (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من(1/184)
أفعال نهاره ، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه ، وإن كان مذموماً
استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله :
(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه ؛
لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله : (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل
الفعل والترك من العقد بالضمير ، أو الفعل بالجارحة ؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما
يترك ، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه ، وكفّ جوارحه
عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض ، وسارع إلى
أدائه) [4] .
ثانياً : أهمية محاسبة النفس :
لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي :
1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها ، ومن ثمّ ؛ إعطاؤها
مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس . ولا شك أن معرفة العبد لقدر
نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم ، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر . قال
أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .
2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه ؛ وذلك عندما
يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله ، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل
مشين وقبيح ؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ،
ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر
فلا يُكفر .
3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى . قال تعالى :
? قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ? [الشمس : 9 ، 10] ، وقال مالك
بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألستِ صاحبة كذا ؟ ثم
ذمّها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .(1/185)
4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس ، وتنمّي في الذات الشعور
بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى
الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند
الموت : (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها : (كيف قلتُ ؟ ) فأعادت
عليه ما قال ، فقال : (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي : (فانظر كيف
نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .
ثالثاً : فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك :
قال الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر : 18] ، قال صاحب الظّلال : (وهو
تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه ، ومجرّد خطوره على القلب يفتح
أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته ، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها ،
وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة .
وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير
مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد ؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً
ورصيده من البرّ ضئيلاً ؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً ، ولا يكفّ عن
النظر والتقليب) [9] .
وقال تعالى : ? وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ? [القيامة : 2] يقول الفرّاء : (ليس
من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ
ازددتِ ، وإن عملت شرّاً قالت : (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير
هذه الآية : (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه : ماذا أردتُ بكلمتي ؟ ماذا أردتُ
بأكلتي ؟ ماذا أردت بشربتي ؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه) [11] .(1/186)
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة
والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه : ? إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ ? . [الأعراف : 201] .
قال الفاروق عمر رضي الله عنه : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها
قبل أن توزنوا ، وتزيّنوا للعرض الأكبر ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ?
[ الحاقة : 18]) [12] .
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله : (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله ،
وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنّما شق الحساب يوم
القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [13] . ويقول ميمون بن مهران : (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه) [14] .
ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول : (أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة ، والاسترسال ، وتسهيل الأمور وتمشيتُها ؛ فإن
هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذا حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ،
ويمشّي الحال ، ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا
فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها) [15] .
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف
أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول : (فَعَرف أربابُ البصائر من
جملة العباد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون
بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات ، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا
لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتُها
في الخطرات واللحظات . فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه ، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه ، وحسُن منقلبُه ومآبُه . ومن لم يحاسب نفسَه دامت(1/187)
حسراتُه ، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه ، وقادته إلى الخزي والمقت
سيئاتُه) [16] .
وقال الحسن رحمه الله : (اقرعوا هذه الأنفس ؛ فإنها طُلَعَة [17] ، وإنها
تنازع إلى شرّ غاية ، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً ، فتصبّروا
وتشدّدوا ؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا
يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [18] .
رابعاً : كيفية المحاسبة :
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية
محاسبة النفس ؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا ؛ لكنّ هناك
أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع .
والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة
والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ
العزيمة والجدّ . قال الغزالي : (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل
النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق ، فينبغي أن يكون له في آخر
النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل
التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على
الدنيا ، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف
لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ؟ ! ما هذه
المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) [19] ، ثم بيّن
رحمه الله أن المحاسبة تكون على نوعين :
النوع الأول : محاسبة قبل العمل ، وهي : أن يقف عند أوّل همّه وإرادته ،
ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه . قال الدكتور عمر الأشقر :
(ينظر في همّه وقصده ؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل(1/188)
عليه دفعُها ... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس ،
والوسوسة تصير إرادة ، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً . قال الحسن : كان
أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت ؛ فإن كانت لله أمضاها ، وإن كانت لغيره
توقّف) [20] . وشرح بعضهم قول الحسن فقال : (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من
الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر : هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور
عليه ؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه ، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة
أخرى ونظر : هل فِعلُه خير له من تركه ، أم تركُه خير له من فعلِه ؟ فإن كان
الخير في تَرْكه تَرَكَه ، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر : هل الباعث عليه
إرادة وجه الله عز وجل وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟ فإن كان
الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه ؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ
عليها العمل لغير الله ؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى
يصير أثقل شيء عليها ، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر : هل هو مُعَانٌ
عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم
يكن له أعوان أمسك عنه ، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة
حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ بإذن
الله ) [21] .
النوع الثاني : المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة :
محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم
سؤاله نفسه : هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما
جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك ؟
فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة ، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة .(1/189)
ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها : قال ابن القيم في ذلك : (وبداية
المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك ؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت ،
وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب . وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب
ربّ والعبدَ عبد ، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ
الربّ بالكمال والإفضال ، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل ... فإذا
قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها : [انها] الجاهلةُ
الظالمةُ ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً . ولولا إرشاده
وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة ؛ فهناك تقول حقاً : أبوء بنعمتك عليّ
وأبوء بذنبي) [22] .
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه
ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية ، فيتدارك نفسه
بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات . قال سبحانه :
?إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ? [هود : 114] . فالبدارَ البدارَ
قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها . وتذكّر
الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد
والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه : (لو أنّه فُتح من
جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من
حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها .
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على
ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا ؟ ! نسأل الله
اللطف والتخفيف .
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله ، أو على أمرٍ مباح ، ما(1/190)
سبب فعلِه له ؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة : لِمَ فعلتُ هذا الأمر ؟ أليس الخير في
تركه ؟ وما الفائدة التي جنيتها منه ؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي ؟ ونحو ذلك
من الأسئلة التي على هذه الشاكلة .
وأمّا المباح فينظر : هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي ؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة ؛ فيكون فعلي له
مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك
المباح ، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها ، أو كان
له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة ؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير
العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور .
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله : (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه
فيقول : واللهِ إنّي لأشتهيك ، وإنّك لمن حاجتي ؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك ،
هيهات ! ! حيل بيني وبينك . ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه
فيقول : ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ ما أردتُ إلى هذا ، وما لي ولهذا ؟ واللهِ
ما لي عذرٌ بها ، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله .
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في
الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ
عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك
كلّه) [24] .
وبالجملة ؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس ، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما
وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني .
ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه
الله حيث يقول : (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها : يا نفس ما أعظم جهلك ،
تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً ! ! أما تتدبرين قوله(1/191)
تعالى : ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم
مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... ? [الأنبياء : 1 3] ويحك
يانفس !إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك !
وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك ! ويحك يا نفس ! !
لو كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ؟ ! ! ويحك
يانفس ! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا ، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ
لغيرك ، ولا تضيّعي أوقاتك ؛ فالأنفاس معدودة ، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى
بعضُك . ويحك يا نفس ! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ، ثم
ذهبوا وخلوا ؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال ، وفي دار
حزن ونصب لدار نعيم وخلود) [25] .
خامساً : نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم :
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة
لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً ؛ لأن أولئك
القوم ارتبطت قلوبهم بالله ؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء ، وما إن
يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه ، ومعاقبة نفسه على
ذلك ؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير . ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى
عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب ، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية
جادة قويّة .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله
عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار : عمر ! !
أمير المؤمنين ! ! بخٍ بخٍ ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له : أَتَتْركون الخليفة حين يكون(1/192)
فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه ؟ وضربه بالدرّة ، فانصرف الرجل
حزيناً ، فتذكّر عمر أنه ظلمه ، فدعا به وأعطاه الدرّة ، وقال له : (اضربني كما
ضربتُك) فأبى الرجل وقال : تركت حقي لله ولك . فقال عمر : إما أن تتركه لله
فقط ، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل : تركته لله . فانصرف عمر إلى منزله
فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : (يا ابن الخطاب : كنتَ وضيعاً فرفعك الله ،
وضالاً فهداك الله ، وضعيفاً فأعزّك الله ، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على
دفع الظلم فظلمتَه ؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه ؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق
الناس عليه) [27] .
وقال إبراهيم التيمي : (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من
أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من
صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أيّ شيء تريدين ؟ فقالت : أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً ! قلتُ : فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال : كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل ، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه :
يا حنيف ! ما حملك على ما صنعت يوم كذا ؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ
كذا ؟ ) [29] .
ونُقِل عن توبة بن الصّمة : (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو
ابن ستين سنة ، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ
وقال : يا ويلتى ! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! فكيف وفي كل يوم عشرة
آلاف ذنب ؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت ! ! فسمعوا قائلاً يقول : يا لكِ ركضةٌ إلى
الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة : (فهكذا ينبغي أن
يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس ، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة
. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من(1/193)
عمره ، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي ؛ والملكان يحفظان عليه ذلك ? أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ ... ? [المجادلة : 6] [31] .
ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال : متى بنيت هذه ؟
ثم أقبل على نفسه ، فقال : تسألين عمّا لا يَعْنيكِ ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة ،
فصامها) [32] [33] .
وقال عبد الله بن قيس : كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو ، فَصِيحَ في الناس
فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح ، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه
ويقول : أيْ نفسي ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُك
ورجعت ! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي : أهلَكَ وعيالك ؟ ! ! فأطعتُكِ ورجعت !
واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ . فقلت : لأرمقنّكَ اليوم ، فرمقته
فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم ، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا
(أي هربوا) فكان في موضعه ، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل ؛ فواللهِ ما زال
ذلك به حتى رأيتُه صريعاً ، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) [34] .
وأخيراً :
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في
(مدارج السالكين) ؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة : أن يكون المرء صادقاً في
محاسبته لنفسه . وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس : الاستنارة بنور الحكمة ؛ وسوء الظنّ بالنفس ، وتمييز النعمة من الفتنة .
فأمّا نور الحكمة ؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل ، وكلّما كان
حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ .
وأما سوء الظن بالنفس ؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ
والعيوب .
وأما تمييز النّعمة من الفتنة ؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر ، مفتونٍ
بثناء الجهّال عليه ، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه ! [35] .(1/194)
حكى الذهبي عن المرّوذي قال : قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) : قدم
رجلٌ من طرسوس فقال : كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم
بالدعاء لأبي عبد الله ، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله . وقد رُمي عنه
بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته [36] فذهب برأسه والدّرقة ! ! قال :
فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال : ليته لا يكون استدراجاً) [37].
وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم .
________________________
(1) ذم الهوى لابن الجوزي (40) .
(2) أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم ، 8/ 3317] .
(3) مدارج السالكين ، 1/187 .
(4) التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97) .
(5) الزهد للإمام أحمد (196) .
(6) إغاثة اللهفان لابن القيم (79) .
(7) التربية الذاتية (98) .
(8) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ، 4/587 .
(9) في ظلال القرآن ، لسيد قطب ، 6/3531 .
(10) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(11) تفسير البغوي ، 4/421 ، والزهد للإمام أحمد (396) .
(12) الزهد للإمام أحمد (177) ، ومدارج السالكين 1/187 .
(13) حلية الأولياء لأبي نعيم ، 2/157 .
(14) الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501) .
(15) إغاثة اللهفان ، (82) .
(16) الإحياء ، 4/118 .
(17) قال في القاموس في مادة (طلع) : نفس طُلَعة : تكثر التطلّع إلى الشيء .
(18) حلية الأولياء 2/144 ، ذم الهوى لابن الجوزي (41) .
(19) الإحياء ، 4/588 .
(20) مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين ، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف) .
(21) إغاثة اللهفان (81) .
(22) مدارج السالكين 1/188 .
(23) الزهد للإمام أحمد (179) .
(24) حلية الأولياء 2/157 ، وذم الهوى (40) .
(25) الإحياء ، 4/605 .
(26) الزهد للإمام أحمد (171) .(1/195)
(27) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الجوزي ، 171 .
(28) الزهد للإمام أحمد ، 501 .
(29) الزهد للإمام أحمد ، 336 ، وذم الهوى ، 41 .
(30) الإحياء ، 4/589 .
(31) الإحياء ، 4/589 .
(32) حلية الأولياء ، 3/115 ، وذم الهوى ، 42 .
(33) والأوْلى في هذا المقام اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي دلّنا على أن أفضل الصيام صيام داود -عليه الصلاة والسلام - ، وهو صيام يوم وإفطار يوم - البيان - .
(34) الإحياء ، 4/591 .
(35) مدارج السالكين ، 1/188 (بتصرّف) .
(36) الدّرَقَة : التّرس من جلدٍ ليس فيه خشب (المعجم الوسيط ، 1/281) .
(37) سير أعلام النبلاء للذهبي (11/210) .
نحو تطوير الذات
خطوات في طلب العلم
عبد الله الشرقاوي
ركن جديد يعكس من زاويته ثمرة خبرات وأفكار تفتق عنها العقول وتمنحها
التجارب فتأتي بمثابة مرشد أمين في عملية (تطوير الذات) الملحة في شتى أقطاب
العملية التنموية المتكاملة : الفكرية ، والمعرفية ، والشخصية ، والأخلاقية ،
والاجتماعية ، والاقتصادية ، من خلال نقاط مركزة تصلح لأن تكون محاور لدراسة
مطولة . ونرحب بمشاركات القراء التي تثري هذه الزاوية .
1 - اعلم أن صحة المنطلق هي الأساس للوصول إلى المسار الصحيح في
العلم والتعلم ، والقاعدة تقول : ( من صحت بدايته استقامت طريقه وصحت نهايته ،
ومن فسدت بدايته اعوجَّت طريقه وساءت نهايته ) .
2 - تعلّمْ آداب طالب العلم ، والتزم بها حتى لا تكون عن أخلاق أهل الإسلام
بمعزل .
ومن هذه الأخلاق :
الإخلاص فلا يكن في قلبك محل يراد به غير الله - تعالى - .
الصدق في النيات والاعتقادات والأقوال والأفعال ، فكن صادقاً في انتسابك
للإسلام وطلب العلم .
الجدِّيَّة في الطلب مع حفظ الوقت من الباطل وفضول المباح ، مع التوازن في
العلاقات الاجتماعية ، وتذكر أن : ( من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة ) ،
و ( بقدر ما تتعنّى تنال ما تتمنّى ) .(1/196)
التكامل والتوازن في : ( الأخلاق والصفات ، والعلوم ، والقول والعمل ) .
حسن الخلق في التعامل مع المعلم والزميل ، وعامة الناس ؛ لأنك تدعو
بسلوكك كما تدعو بلسانك .
الربانية ؛ أي : كن دائم الصلة بالله ذا قلب حي ذاق حلاوة الإيمان ؛ فهو
مطمئن به ، ولْتظلَّ قريباً من كل طاعة بعيداً من كل معصية .
اتباع هدي السلف والتمسك بالكتاب والسنة فهماً وتطبيقاً وحكماً عند
الاختلاف .
أن تكون صالحاً في نفسك مصلحاً لغيرك ، واقفاً نفسك على خدمة الدين ،
يجدك الله تعالى حيث أحب ، ويفقدك حيث نهى .
3 - كن متوثّباً للأعالي متشوّقاً للمعالي ، ولتكن نفسك توّاقة كلما أدركت
مرتبة تاقت لما فوقها ، ولا تقل : ( كم ترك الأول للآخر ؟ ) ، ولكن قل كما قال ابن
مالك في التسهيل : ( وإذا كانت العلوم مِنَحاً إلهية ، ومواهب اختصاصية ، فغير
مستبعد أن يُدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين . أعاذنا الله من
حسد يسد باب الإنصاف ، ويصد عن جميل الأوصاف ) .
4 - أدم النظر في كتب آداب الطلب ، فاقرأ - على سبيل المثال - في
الكتب الآتية : ( تذكرة السامع والمتكلم - حلية طالب العلم - ثماني قواعد للمتفقهين
- صفحات من صبر العلماء ) .
أخي طالب العلم ! كيف تحقق أهدافك ؟
إذا أردت تحقيق أهدافك فلا بد من تحديدها أولاً ، والوسيلة إليها ثانياً ،
والسعي إليها ثالثاً .
اجلس لحظة تفكر فيها خالياً مع ربك ذاكراً مستغفراً مستهدياً ، ثم تأمّل
شريط حياتك لتعرف أين أصبت وأين أخطأت ، فإذا عرفت نفسك وماذا تريد من
هذه الحياة فحاول وضع خطة لتحقق أهدافك ، ولا تنس أن تسأل نفسك : ( من أنا ؟
وما هدفي في الحياة ؟ وما الطريق لتحقيق هدفي ؟ وما هويتي ؟ وهل أنا عبد لله
حقاً ؟ وهل حققت مظاهر العبودية لله - تعالى - ؟ وهل أسير في طريق الهداية
والرضوان ؟ وإن متّ الآن فأين سأكون ؟ ما أخطائي ؟ وأين يكمن ضعفي ؟ وما(1/197)
الخلل في شخصيتي ؟ كيف أجد إيماني وحياة قلبي ؟ وهل تتحقق فيّ صفات طالب
العلم ؟ وما الصعوبات التي تواجهني ؟ وكيف أحقق ما سبق ؟ وكيف أتجاوز
العقبات ؟ وما برنامجي المقبل لتحقيق كل ذلك ؟ ) .
كرّر الجلسة حتى يتبين لك الطريق وتعرف هدفك .
إذا صعب عليك الأمر فلا بأس أن تجالس أخاً ناصحاً تستهدي برأيه
ومشورته يساعدك على وضع خطتك الطموحة لتحقيق أهدافك وتحديد أولوياتك .
احرص على حسن التخطيط لتضمن أحسن استفادة من الوقت ، وتذكر أنك
أيام ؛ إذا ذهب يومك ذهب بعضك .
إشارات تربوية :
هذه إشارات وقائية تقيك بإذن الله من الزلل :
استحضر دائماً هدفك الأسمى والوسيلة إليه ؛ فمن عرف شرف مطلوبه هان
عليه ما يجد في سبيله . وتذكر قول شيخ الإسلام : ( العامة تقول : قيمة كل امرئ
ما يحسن . والخاصة تقول : قيمة كل امرئ ما يطلب ) .
تذكر الواجبات لتحاسب نفسك : ما مدى إحسانك وإتقانك لها ؟
تذكر المنهيات لتحاسب نفسك : ما مدى بعدك عنها ؟
حدد حاجاتك العلمية منطلقاً من الكتاب والسنة ، وتذكّر قول المقرّي في
قواعده : ( والواجب الاشتغال بحفظ الكتاب والسنة وفهمهما والتفقه فيهما ، والاعتناء
بكل ما يتوقف عليه المقصود منهما ) . فابدأ بالأهم فالمهم ، وبالأصل قبل الفرع .
استحضر قِصَر العمر وكثرة المشاغل وعِظَم الهدف ، وليكن شعارك :
(الواجبات أكثر من الأوقات) .
وطّن نفسك على الإقلال من المباحات وترك توافه الأمور وسفاسفها ؛ فقد
نُهينا عن كثير من الإرفاه . ومن النعم التي كان ينوِّه بها أبو الوفاء ابن عقيل ما
ذكره في قوله : ( وعصمني من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة ، وقصر محبتي
على العلم وأهله ، فما خالطت لعّاباً قط ، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم ) ،
وليكن شعارك : ( الدنيا ساعة فاجعلها طاعة ) .
نوِّع زادك العلمي حتى لا يتسلل إليك الملل والكلل .
ضع أمامك سورة العصر ولا تنسها ، وحاول تطبيقها باستمرار .(1/198)
أزهار تجمّل بها برنامجك !
1 - إحسان تلاوة القرآن تجويداً وترتيلاً .
2 - وِرْد يومي لقراءة القرآن وختمه كل شهر على الأقل .
3 - وِرْد يومي لحفظ القرآن الكريم ، مع قراءة تفسير ما تحفظ من تفسير
متوسط الطول .
4 - القراءة في كتاب السنة كمختصر صحيح مسلم أو رياض الصالحين مثلاً .
5 - القراءة في كتاب للسيرة النبوية ، أو التربية السلوكية كمختصر منهاج
القاصدين مثلاً .
6 - قسِّم يومك مراعياً تفاضل الساعات في الفضل والبركة على نحوٍ مما يلي :
اجعل لنومك (6) ساعات ، ولا ترهق جسدك بالسهر .
اشتغل بالذكر بعد صلاة الفجر ، ثم اقرأ وردك من القرآن حتى شروق
الشمس ثم صلّ ركعتين .
اغتنم ما تبقى من الوقت حتى موعد الدراسة بالدرس العلمي ، وقدّم ما
يحتاج لفهم وصفاء ذهن .
احرص على القيلولة لتجدد نشاطك باقي اليوم .
وزّع ما بعد صلاة العصر من أيام الأسبوع في قضاء حوائجك وعلاقاتك
الاجتماعية ونشاطاتك غير العلمية ، ولا يذهب الوقت كله في ذلك ؛ بل خصص
جزءاً منه لبرنامجك العلمي .
استكمل بعد صلاة المغرب ما تبقى من برنامجك ، وخصص آخره لتناول
العشاء .
ضع الأعمال القصيرة في الأوقات المحصورة ، وأما الأوقات الطويلة
فخصصها للمطالعة والبحث والتفكير . فقراءة حديث من ( رياض الصالحين ) مع
شرحه من ( نزهة المتقين ) مثلاً لا يستغرق وقتاً طويلاً فضعه بين العشاءين أو قبل
عمل طويل .
لا تنس أن توتر قبل أن تنام إن كنت لا توتر من آخر الليل .
وصايا عامة :
- حافظ على صحتك العامة ، ونوّع طعامك ، وتجنب الفضول منه .
- حافظ على صحتك النفسية واطرد القلق والاكتئاب عن نفسك بكثرة الذكر
والعبادة .
- مرّن ذهنك على التفكير حتى لا يصاب بالخمول .
- إذا كان يشق عليك تطبيق برنامجك اليومي فعليك أن تتواصى مع زميل لك
جاد على تنفيذه .
تذكر قول الشاعر :
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذُك للعلم قل لي متى ؟(1/199)
قضايا دعوية
العمل المؤسسي ...
معناه ، ومقومات نجاحه
عبد الحكيم بن محمد بلال
لعل من أخطر ما تعانيه الأمة الإسلامية : غياب الروح الجماعية .
ولقد انعكس هذا الواقع على الفكر - كما للأخير انعكاس عليه - فصار من
عللنا الفكرية : ممارسة التفكير بطريقة فردية ، ومنها أيضاً : نمو التفكير في شؤون
الفرد على حساب التفكير بشؤون المجتمع . وعليه : فإن الفقه المتعلق بشئون الفرد
وحركته وحقوقه وواجباته ظل أكثر نمواً من الفقه الذي يهم الجماعة ، ففُصِّلت
الفروض العينية ، وبقيت الفروض الكفائية - والتي تصير عينية بالتقصير فيها -
بقيت عند بعضهم عائمة ، كمسألة : كفاية الأمة في كل جوانبها ، وكمسألة : أهل
الحل والعقد ، وبيان تشكيلهم ، ودورهم .. وبقيت الدراسات التي تتناول أبنية
المجتمعات الإسلامية التاريخية ومشكلاتها وأطوارها محدودة ؛ ونتيجة لذلك فقد
رأينا سجل التاريخ حافلاً بالمآثر الفردية ضامراً في الأعمال الجماعية .
والسبب أن الوعي المدني لم يتم تنظيمه بشكل كافٍ ، فهو بحاجة إلى
المؤسسات المختلفة [1] .
ولقد تأصلت فكرة الفردية اليوم ، ثم تأزم الموقف حين ورث كثير من الدعاة
إلى الله-تعالى- ذلك المرض من أمراض التخلف الحضاري ، فلا تزال ترى اليوم
كثيراً من التجمعات الإسلامية محكومة بعقلية الفرد ، تعيش مركزية القرار ، رغم
ازدياد التحديات ، وتوالي المحن ، وتفاعل الأزمات .
ولئن كان بعض الدعاة في العقود الماضية يسعون إلى مجرد الانتشار الأفقي
للدعوة ، فإنه لا يقبل من أحد اليوم التفكير بعقلية تلك المرحلة ؛ فلقد صارت
الصحوة اليوم معادلة صعبة في الموازين العالمية ، والخطر الأوحد أمام الأنظمة
الغربية ، بل نستطيع القول : إن كثرة الأتباع غير الواعين أصبح يمثل هاجساً
للدعاة والمصلحين أنفسهم .
وعليه فلا بد من مراجعة أساليب العمل الدعوي اليوم . كما أنه من الضروري(1/200)
العناية بتنمية الفكر الجماعي ، وأسلوب العمل المؤسسي المحكم الذي صار أسلوب
القوة والتحدي في هذا الزمان ، ويكفي برهاناً من الواقع أن الدول الكبرى في الوقت
الحالي دول مؤسسية ليست مرتبطة ارتباطاً كلياً بالأفراد ؛ فالولايات المتحدة
الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً هائلاً من
المؤسسات مختلفة التخصصات ، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة بتغير أفراد
حكوماتها إلا من منطلق جماعي .
وفي هذه المقالة : محاولة لتأصيل الفكر الجماعي ، وبيان معنى العمل
المؤسسي ، وتحديد المراد به ، ثم عرض شيء من مزاياه وفوائده ، وبعض أسباب
تقصير الدعاة في الأخذ به ، ثم ذكر مقومات نجاحه . وما هذا الطرح إلا إثارة
للموضوع ؛ ليأخذ طريقه إلى حوار جاد [2] .
نحو وعي أعمق للروح الجماعية :
إن تغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس ، ومن عناصر
ذلك التغيير : تعميق الفهم ، وتجديد الفكر ، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها :
مفهوم الفرد ، والجماعة ، وهو - بحمد الله - مفهوم في غاية الوضوح .
إن الفرد هو العنصر الأساس في بناء الأمة ، ولكن شرط قيامه بدوره الأكمل
هو تعاونه مع بقية أفراد الأمة .
والأمة التي يتعاون أفرادها هي أمة الريادة ؛ لأن تعاونهم يضيف كل فرد إلى
الآخر إضافة كيفية لا كمية ، ومن ثم تتوحد الأفكار والممارسات من أجل تحقيق
رسالة الأمة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي صحابته على الروح
الجماعية ، روح الأمة ، كما ضرب مثلاً - للمجتمع - بقوم أقلَّتهم سفينة ، إن أراد
أحدهم خرقها وجب على الجميع الأخذ على يده ، وإلا غرقوا جميعاً [3] ؛
فالمسؤولية في بلوغ الريادة تقع على الأمة جميعاً في مقابل أمة الكفر .
والعودة بالناس إلى روح الأمة يستدعي إجراءات ، أولها : فك الارتباط القائم
بين العمل الإسلامي والأُطُر الحزبية الضيقة [4] ؛ ليتقبل العمل الإسلامي(1/201)
الاستراتيجية الصائبة الموصلة إلى الهدف ، سواء انبعثت من داخله أو خارجه .
وهذا يجرنا إلى الإجراء الثاني المتمثل في تنمية الصفات التي تحقق التفاعل
بين الأفراد وتعميقها ، كالأخوة ، والشورى ، والتواصي بالحق وبالصبر ، والعطاء
المتبادل ، والقدرة على التجميع ، مع موالاة الأمة ، لا الحزب .
ولا بد في ذلك من تحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية ،
وهذه مهمة التربية المتوازنة التي لا تحيل الأفراد أصفاراً ، وأيضاً لا تنمي فيهم
الفردية الجامحة ، بل توفر لهم المناخ المناسب لتنمية شخصياتهم ، مع اختيار
أساليب العمل التي تحول دون التسلط ، وتنمي المبادرات الذاتية ، وترسخ الشورى .
ويكفل كلَّ ذلك إجراءٌ ثالثٌ يحوِّل العمل من أسلوب المركزية في اتخاذ القرار
وتطبيقه ومراقبة تنفيذه إلى أسلوب المشاركة التي تُحسِّن الأداء وتنمي الشخصية ،
فيلتقي نموها مع روح الفرد التي أثمرها التعاون فيزداد التفاعل وتتكامل الجهود .
إن الجماعة والتنظيم في الإسلام يعني كلٌ منهما : ( التعاون ) و ( العلمية )
أي تعاون الجهود في خطة يضعها العلم ؛ فجوهر الجماعة وحقيقة التنظيم إنما هو التعاون بين المسلمين ، والتكامل بين نشاطاتهم في طريق التمكين لشريعة
الله ، وإقامة دولة الإسلام ، وإحياء الأمة الإسلامية [5] .
تعريف العمل المؤسسي :
كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل ، لبلوغ أهداف محددة ، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبرى وفرق عمل وإدارات متخصصة : علمية ،
ودعوية ، واجتماعية ؛ بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرار في دائرة
اختصاصها ... يعتبر عملاً مؤسسياً .
وليس المراد بالعمل المؤسسي العمل الجماعي المقابل للعمل الفردي ؛ إذ
مجرد التجمع على العمل ، وممارسته من خلال مجلس إدارة ، أو جمعية أو مؤسسة
لا يجعله مؤسسياً ، فكثير من المؤسسات والمنظمات والجمعيات التي لها لوائح(1/202)
ومجالس وجمعيات عمومية إنما تمارس العمل الفردي ؛ لأنها مرهونة بشخص منها
فهو صاحب القرار [6] ، وهذا ينقض مبدأ الشورى الذي هو أهم مبدأ في العمل
المؤسسي .
مزاياه وفوائده [7] :
1 - تحقيق مبدأ التعاون والجماعية الذي هو من أسمى مقاصد الشريعة .
2 - تضييق الفجوة بين عمل الدعاة ، وردم الهوة بينهم بتحقيق ذلك المبدأ ،
وتأسيس الأعمال المشتركة بينهم ؛ فإن ذلك يقلل التصادم والنزاع ، وهي الطريقة
المتبعة بين الدول في تأسيس اللجان والمجالس المشتركة ، وهو ما لم يشعر بعض
الدعاة بأهميته وضرورته بعد [8] .
3 - تحقيق التكامل في العمل ، وذلك في عمل الفرد عزيز ، فكثيراً مما
يحصل من القصور في عمل الفرد يتلاشى في عمل المؤسسة ؛ إذ المفترض حدوث
التكامل باجتماع الجهود ، والمواهب ، والخبرات ، والتجارب ، والعلوم ، مع التزام
الشورى ، والتجرد للحق .
وأيضاً : فإن العمل الفردي يصطبغ بصبغة الفرد ، بينما المفترض أن يخلو
العمل المؤسسي من ذلك [9] .
4 - الاستقرار النسبي للعمل ، بينما يخضع العمل الفردي للتغير كثيراً - قوة
وضعفاً أو مضموناً واتجاهاً - بتغير الأفراد ، أو اختلاف قناعاتهم .
5 - القرب من الموضوعية في الآراء أكثر من الذاتية ؛ حيث يسود الحوار
الذي يَفْرض قيامُه وضعَ معايير محددة وموضوعية للقرارات تنمو مع نمو الحوار ،
في حين ينبني العمل الفردي على قناعة صاحبه .
6 - دفع العمل نحو الوسطية والتوازن ؛ إذ اجتماع الأفراد المختلفين في
الأفكار والاتجاهات والقدرات يدفع عجلة العمل نحو الوسط ، أما الفرد فلو توسط
في أمر فلربما تطرف - إفراطاً أو تفريطاً - في آخر .
7 - توظيف كافة الجهود البشرية ، والاستفادة من شتى القدرات الإنتاجية ؛
وذلك لأن العمل المؤسسي يوفر لها جو الابتكار والعمل والإسهام في صنع القرار ،
بينما هي في العمل الفردي أدوات تنفيذية رهن إشارة القائم بالعمل ، ويوم أن(1/203)
أعرض المسلمون عن هذا العمل خسروا كثيراً من الطاقات العلمية والعملية ، فانفرد
أصحابها بالعمل ، أو فتروا عنه [10] .
8- ضمان استمرارية العمل - بإذن الله تعالى - لعدم توقفه على فرد يعتريه
الضعف والنقص والفتور ، ويوحشه طول الطريق وشدة العنت وكثرة الأذى .
وللمثال : فقد كان من أقوى أسباب استمرار التعليم قوياً في الدولة الإسلامية -
حتى في عصور الضعف السياسي - : قيامه على المؤسسات العلمية القوية التي
تمدها الأوقاف ، كما تمد سائر الجهود الدعوية والإغاثية - التي لم يُتجرأ عليها إلا
في العصر الحديث - واليوم نرى استمرار المؤسسات الغربية قوية تساندها
جمعيات كثيرة [11] .
9- عموم نفعه للمسلمين ؛ لعدم ارتباطه بشخصية مؤسسه ، وهذا بدوره ينمي
الروح الجماعية الفاعلة ، ويحيي الانتماء الحقيقي للأمة ، وهذا مكمن قوتها .
10- مواجهة تحديات الواقع بما يناسبها ؛ فإن الأمة اليوم يواجهها تحدٍّ من
داخلها ، في كيفية تطبيق منهج أهل السنة مع الاستفادة من منجزات العصر ، دون
التنازل عن المبادئ [12] ، كما يواجهها تحدٍّ من خارجها مؤسسي منظم ؛ والقيام
لهذا وذاك فرض كفاية لا ينهض به مجرد أفراد لا ينظمهم عمل مؤسسي ، كما لا
ينهض أفراد الناس لتحدي العمل المؤسسي في مجالات الحياة الاقتصادية ، أو
السياسية ، أو الإعلامية ، أو غيرها .
11- الاستفادة من الجهود السابقة والخبرات التراكمية ، بعد دراستها وتقويمها
بدقة وإنصاف وحيادية ، وبذلك يتجنب العمل تكرار البدايات من الصفر الذي يعني
تبديد الجهود والعبث بالثروات .
لماذا الإحجام عن العمل المؤسسي ؟
ولسائل أن يقول : عَمَلٌ بهذه المزايا ما الذي حدا بالأمة اليوم أن تحجم عنه ؟
ويجاب : بأن للأمر خلفيات وأسباباً ، منها :
1 - طبيعة المجتمعات الإسلامية المعاصرة عامة ، وعدم ترسخ العمل
المؤسسي في حياتها ؛ لما اعتراها من بُعد عن الدين أدى إلى تأصل الفردية ،(1/204)
وضعف الروح الجماعية ، والحوار والمناقشة والمشاركة ، ولما حلّ بها من تخلف
حضاري أقعدها عن الأخذ بأسباب الفاعلية والنجاح ، فأصابها التأخر وتبدد الطاقات .
2 - ضعف الملكة الإدارية لدى كثير من العاملين في الحقل الإسلامي ،
بسبب إهمال العلوم الإنسانية التي أفاد منها الغرب ، وهذا مما ورثه العاملون عن
مجتمعاتهم . وقد أدى هذا الضعف إلى الجهل بالعمل المؤسسي ومقوماته وأسباب
نجاحه فتلاشت الخطط ، وأغلقت دراسة الأهداف وإقامة المشاريع ، وصار العمل
مجرد ردود أفعال غير مدروسة أو عواطف غير موجهة [13] .
3 - حاجة الدعوة إلى الانتشار ، مع قلة الطاقات الدعوية المؤهلة ؛ مما حدا
بكثير من الدعاة إلى التركيز على الكم لا الكيف ، والغفلة عن قدرة العمل المؤسسي
على الموازنة بين الكم والكيف ، وتحقيق أكبر قدر منهما .
4 - الخلط بين العمل الجماعي والمؤسسي ، والظن بأن مجرد قيام الجماعة
يعني عملاً مؤسسياً ، في حين أن كثيراً من التجمعات والمؤسسات لا يصدق عليها
حقيقة هذا الوصف ؛ لانعدام الشورى ، والمركزية في اتخاذ القرار .
5 - الشبهات العارضة التي يتذرع بها المانعون من العمل الجماعي ، بحجة
بدعيته ؛ فأحجموا بذلك عن العمل المؤسسي انطلاقاً من هذه الشبهة .
6 - حداثة العمل الإسلامي المعاصر ، فإنه إذا ما قورن عمره بعمر
المؤسسات الغربية بان قصيراً جداً . يقال هذا لئلا تُهضم الحقوق ، ولكي نقترب
بالحديث من الإنصاف لهذه الصحوة المباركة ؛ حيث نرى بوادر الاهتمام بالمجالات
الإدارية أكثر من ذي قبل .
لكي ينجح العمل المؤسسي :
للتربية الإيمانية المتكاملة أكبر الأثر في بناء الطاقات ، وتنميتها ، واستثمارها
استثماراً مناسباً ، وهذا عماد العمل المؤسسي ، ويمكن تفصيل المقومات اللازمة
لنجاحه على النحو الآتي :
1 - توفر القناعة الكافية بهذا الأسلوب من العمل ؛ بإدراك ضرورته ،(1/205)
وخاصة في زمن القوة ، وبمعرفة مزاياه وثمراته ، وفهم مقومات نجاحه للوصول
به إلى المستوى المطلوب .
2 - صدور القرارات عن مجالس الإدارة ، أو اللجان ذات الصلاحية ،
حرصاً على خروجها من أدنى مستوى ممكن ، لتكون أقرب إلى الواقعية وقابلية
التنفيذ ، ولا يجوز أن يكون المصدر هو الفرد أو المدير ؛ فإنه يستمد صلاحياته -
هو أيضاً - من المجالس ، لا العكس ، ويجب أن تملك المجالس واللجان صلاحية
مراجعة قرارات المديرين ونقضها .
3 - أن تكون مجالس الإدارة أو اللجان غير محصورة في بيئة واحدة
محكومة بأطر تنشئة وتربية وتفكير محددة مما يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار ،
فوجود أفراد من بيئات مختلفة ضمن هذه المجالس يثري العمل المؤسسي بتوسيع
أنماط التفكير وتعديد طرق التنفيذ [14] .
4 - أن تسود لغة الحوار ، حتى تتلاقح الآراء للخروج بأفضل قرار ، وأيضاً
حتى يخضع الرأي الشخصي لرأي المجموعة .
ويذكر هنا بالمناسبة : نزول النبي صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه في
أحد ، وخروجه من المدينة تلبية لرغبتهم ، مع ميله للبقاء في المدينة ، وتأييد رؤياه
لرأيه [15] ، وبعدما حصل ما حصل لم يصدر منه لَوْم لأولئك المقترحين للخروج .
5 - تحديد ثوابت ومنطلقات مشتركة للعاملين في المؤسسة تكون إطاراً
مرجعياً لهم ، توجه خطة العمل ، وتناسب المرحلة والظروف التي تعيشها المؤسسة .
6 - التسامي عن الخلافات الشخصية ، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة
الشخصية ، وهذا يتم بتحسين الاتصال والتواصل بين أفراد المؤسسة بعضهم مع
بعض ، وبينهم وبين سائر العاملين في الحقل الإسلامي .
وهذا أساس قوي للنجاح ؛ ففي استفتاء لعدد من القياديين الناجحين اتضح أن
الصفة المشتركة بينهم هي القدرة على التعامل مع الآخرين [16] ، ولن يتم ذلك
لأحد ما لم تتربَّ أنفسنا على العدل والإنصاف ، ومعرفة ما لدى الآخرين من حق ،(1/206)
ومحاولة فهم نفسياتهم من خلال نظرتهم هم لأنفسهم ، لا من خلال نظرتنا نحن .
7 - الاعتدال في النظرة للأشخاص ؛ فإنه في حين يصل الأمر لدى
المنحرفين عن أهل السنة والجماعة في نظرتهم للأشخاص إلى حد الغلو والتقديس ،
فإنَّا نجده عند بعض أهل السنة - الذين سلموا من الغلو - بالغاً إضفاء هالة على
بعض الأشخاص تؤثر في مدى استعدادهم لمناقشة رأيهم ، أو احتمال رفضه مع
بقاء الاحترام الشخصي ، وهؤلاء يشكلون ضغطاً على العمل المؤسسي وتوجيهاً
غير مباشر للآراء [17] .
وكأن هذا ما أراده عمر - رضي الله عنه - حين عزل خالد بن الوليد -
رضي الله عنه - خشية تعلق الناس به ، وربطهم النصر بقيادته [18] .
8 - إتقان التخطيط ، وتحديد الأهداف لتنفيذها ، وتوزيع الأدوار ، وهذا
يتطلب مستوى جيداً في إعداد القادة والمسؤولين ، وتدريب العاملين مع الاستفادة من
كل الإمكانات ، وتوظيف جميع الطاقات ، بعد التعرف عليها جيداً [19] .
والمهم هو التركيز في جداول الأعمال على المنطلقات والأسس والخطوط
العامة ، دون الانهماك في المسائل الإجرائية ، والتي قد لا تحتاج إلا لمجرد قرار
إداري أو إجراء تقليدي ، ودون المسائل التي يكثر الجدل والخلاف حولها .
ولضبط الخطط ، وإتقان تنفيذها ، وبلوغ الأهداف ، يراعى الآتي :
أ - الأناة في التخطيط ، والحماسة في التنفيذ [20] ؛ فالأول : لمراعاة
القدرات والإمكانات ، ومعرفة التحديات وحسن تقدير العواقب ، وتحاشي مخاطر
السرعة ، والثاني : لاستباق الخيرات ، وكسب الزمان ، واغتنام الهمة ، ومبادرة
العزيمة .
ب - أهمية قيام المؤسسات بأداء أعمالها بأساليب علمية حكيمة تكفل
استمرارها وأداءها لعملها على الوجه المطلوب ، وحتى لا تتعرض لكيد الكائدين
وأساليب المغرضين ، ولا ينبغي أن يكون أهل النفاق أكثر حنكة منا ؛ فكم نالوا
أهدافهم من جمعياتهم وأعمالهم حتى بلغوا مناهم [21] . اللهم ألهمنا رشدنا ، وأعذنا
من شر أنفسنا [22] .(1/207)
________________________
(1) انظر : مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ، د عبد الكريم بكار ، ص 39 .
(2) بعد إعداد هذه المقالة اطلعت على رسالة قيمة لما تطبع بعد بعنوان : العمل المؤسسي الإسلامي ودوره في التغيير الشمولي ، د سامي الدلال جزاه الله خيرا .
(3) انظر الحديث في البخاري ، كتاب الشركة ، باب (6) ، 3/11 .
(4) التي تحبس صاحبها في بوتقة ضيقة ، فيحصر ولاءه في الحزب ، ولايعرف الدعوة إلا بمفاهيمه ، بغض النظر عن مدى التوافق مع الشريعة .
(5) انظر : مقالا بعنوان : روح الفريق والمبادرات الذاتية ، لمحمد بدري ، في مجلة البيان ، العدد83 ، ص42 .
(6) انظر : مقالا لعبد الله المسلم ، مجلة البيان ، العدد : 118 ، ص18 .
(7) انظر : مقال : لعبد الله المسلم ، في مجلة البيان ، العدد : 117 ، ص 38 .
(8) انظر : مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ، د عبد الكريم بكار ، ص 238 .
(9) انظر : العمل الجماعي ، د عبد الوهاب الديلمي ، ص 35 .
(10) انظر : خواطر في الدعوة ، محمد العبدة ، ص165 .
(11) انظر : خواطر في الدعوة ، ص147 .
(12) انظر : خواطر في الدعوة ، ص37 .
(13) انظر : البيان ، العدد : 110 ، ص4 .
(14) الفكرة مقتبسة من : المسار ، لمحمد الراشد ، ص6266 ، فليراجع .
(15) كما في مسند أحمد : 3/351 ، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي ، ص269 .
(16) انظر : دليل التدريب القيادي ، ص142 .
(17) انظر : مقالأ لعبد الله المسلم ، في مجلة البيان ، العدد : 118 ، ص 18 .
(18) راجع البداية والنهاية ، 8/115 ، وقد يوجه الأمر توجيها آخر ، انظره في الفتاوي لابن تيمية : 28/256 .
(19) انظر : مشكلات وحلول ، للبلالي ، ص183 ، ودليل التدريب القيادي ، ص137 وما بعدها ، والمسار للراشد ، ص166167 .
(20) انظر : مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ، د بكار ، ص162 .
(21) انظر مقالا لعبد القادر حامد ، البيان ، العدد : 31 ، ص96 .(1/208)
(22) الموضوع بحاجة ماسة إلى إثراء ، ويمكن الاستفادة فيه من كتب الإدارة ، مثل : الخطوات الذكية ، الإدارة ، مثل : الخطوات الذكية ، الإدارة بضمير ، (مترجمة) ، وتنظيم العمل الإداري في النظام الإسلامي ، د محمد الأغبش .
تأملات دعوية
التربية الأسرية مطلب ملحٌّ
محمد بن عبد الله الدويش
لقد أسهم انفتاح العالم الإسلامي اليوم على المجتمعات الأخرى في انتشار
ألوان من المؤثرات والمغريات ، ولم يعد البيت ذاك الحصن الذي يتحكم راعيه فيما
يدخله ويخرج منه ؛ بل أصبح معرضاً متنوعاً لما ينتجه العالم بأسره من نتاج فكري ، أو مادي لا يخلو هو الآخر من أبعادٍ فكرية ، مما يفرض تحديات تربوية أكبر ،
ويزيد من عبء أولئك الذين يعنون بتربية أبنائهم ورعايتهم .
وفي المقابل أفرزت التغيرات الاجتماعية نتائج أسهمت في تقليص دور
الأسرة ؛ فالأسرة التي كانت تسكن في بيت صغير يجتمع أفرادها فيه ويتحلقون
ساعات عدة ويتبادلون ألوان الحديث تفرقوا في منزل شاسع يحتاجون معه لأجهزة
اتصال داخلية .
واستولت أجهزة الإعلام على جزء لا يستهان به من وقت الأسرة ، حتى
الوقت الذي يتناولون فيه الطعام أو الشاي ، صاروا ينصتون فيه لما تبثه تلك
الوسائل .
وأدى الاعتماد على السائقين والخدم إلى تبديد جزء من الوقت الذي يقضيه
الأولاد مع آبائهم وأمهاتهم .
كل تلك المؤثرات أدت إلى تضاؤل وقت الأسرة ودورها ، وصار من
المألوف أن نرى هوة واسعة بين سلوك الآباء والأبناء .
وهذا يدعو إلى إعادة النظر في دور الأسرة ومهمتها ، وهل الأسرة المسلمة
اليوم تترك أثرها في رعاية أبنائها ؟
إننا نحتاج إلى أن يعتني الدعاة بأُسرهم ، ويوفروا لهم جزءاً من أوقاتهم ، ولا
يسوغ أن تكون أسرهم ضحية لبرامجهم وانشغالاتهم الدعوية ، ولا بد أن يفكروا
بجد في تخصيص أوقات يشاركون فيها أبناءهم ويعايشونهم .
ونحتاج إلى أن نعيد النظر في كثير مما أفرزته التغيرات الاجتماعية ، وألا(1/209)
نستسلم ونستجيب لها بغض النظر عن آثارها ؛ بل نقبل منها ونرفض وَفْقَ ما
يحقق مصالحنا الشرعية ، ويدرأ عنا المفاسد .
ونحتاج إلى أن يتعاون الدعاة فيما بينهم ، من خلال تنظيم برامج وزيارات
أسرية مشتركة ؛ فهم يعيشون واقعاً متقارباً ، وتطلعات واحدة ، وأن يتعاونوا من
خلال مقترحات وبرامج متبادلة .
ونحتاج إلى ترتيب برامج وأنشطة على مستوى الأسر والعائلات ، وأن تدعم
هذه اللقاءات ويُسعى لإحيائها .
ونحتاج إلى بذل جهود واقتراح أفكار وبرامج تسهم في تطوير دور الأسرة
التربوي ، ولعل مثل هذه الدراسات العلمية أوْلى بالاعتناء من كثير مما يطرح في
الساحة من نتاج مكرر أو لا يرقى إلى مستوى النشر .
ونحتاج قبل ذلك كله إلى تصحيح الفهم حول الدور التربوي للأسرة الذي
صار يقتصر - لدى فئة كبيرة من الناس - على الحماية والرقابة والأمر والنهي
فقط ، كما ينبغي أن يكون للأسرة دور في تربية النفوس على الإيمان والتقوى ،
وأن تعمر بذكر الله وما يرقق القلوب ، وها هي قصة لقمان وحواره مع ابنه تبقى
قدوة للناس أجمع ، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يولي هذا الجانب أهميته ،
فيُعنى بتربية مَنْ تحتَ يديه وتوجيههم ؛ فعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما -
قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : ( اللهم
اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ) [1] .
ومن بعده سار السلف على هذا المنوال ؛ فعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه -ضي الله عنهما- قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء
الكلمات كما تُعلَّمُ الكتابة : ( اللهم إني أعوذ بك من البخل ، وأعوذ بك من الجبن ،
وأعوذ بك من أن نُرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب
القبر ) [2] .
________________________
(1) رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) ، والنسائي (1745) ، وأحمد (1720) .
(2) رواه البخاري (6390) .
دراسات تربوية
وادع إلى ربك(1/210)
عبد العزيز بن ناصر الجليل
تحدثت في مقال سابق عن المقصود بالدعوة مذكِّراً بأن دعوة النفس أوْلى
بالبدء ، ثم الأقرب فالأقرب . وهنا مسألة مهمة تتعلق بالإخلاص في الدعوة إلى الله- عز وجل - عامة وهي مسألة قلما نتنبه إليها أو ننبه عليها .
وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوة إلى الله - عز وجل - هو أن الداعية إنما
يدعو إلى ربه وإلى سبيله وتوحيده وطاعته ، وإلى إقامة دينه .
ولا شك أن هذه معانٍ صحيحة وأهداف سامية للدعوة إلى الله - سبحانه -
لكنَّ هناك معنيً لطيفاً ومسألة عظيمة يتضمنها مفهوم الدعوة إلى الله - تعالى -
يتعلق بإخلاص الدعوة له - سبحانه - وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد
الوهاب - رحمه الله تعالى - في (مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)
وهو من أبواب كتاب التوحيد ؛ حيث يقول : ( المسألة الثانية : التنبيه على
الإخلاص ؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ) .
يا لها من مسألة عظيمة يغفل عنها الكثير منّا ، وإنها لمن الدقة واللطف بحيث
توجد عند البعض منا دون أن يشعر بوجودها ، وإن لم يفتش الداعية عنها في نفسه
ويبادر إلى التخلص منها فإنها قد تكون سبباً في حبوط العمل وضياع الجهد - عياذاً
بالله - تعالى - وهناك علامات ومظاهر يدل وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة
الخطيرة منها :
1- الحزبيّة المقيتة التي تدفع بصاحبها إلى عقد المحبة والعداوة على الأسماء
والأشخاص والطوائف .
2- حب الشهرة والصدارة والتفاف الناس ، وكراهية الدعاة الآخرين
والانقباض والضيق من تجمع الناس حولهم ؛ لا لشيء إلا لأن في ذلك منافسة
وحسداً في القلب .
3 - التزهيد في أعمال بعض الدعاة وتحقيرها وتشويهها حتى ولو كان هذا
العمل قد ظهر خيره وصلاحه ، فلا ترى صاحب القلب المريض الذي يدعو إلى
نفسه - وليس إلى الله تعالى إلا مستاءاً من ذلك ، ولو كان الأمر إليه لأوقف كل(1/211)
عملٍ خيِّرٍ يقوم به غيره . وهذا من علامات الخذلان - عياذاً بالله - تعالى - لأن
العبد المخلص في دعوته إلى الله تعالى يحب كل داعية إلى الخير - ولو لم يعرفه
أو يره - ويدعو له بظهر الغيب ، ويفرح بأي باب من الخير يفتحه الله تعالى على
يد من كان من عباده ، ويفرح بأي باب من الشر يُغلق على يد من كان ؛ لأن في
ذلك صلاحاً للعباد وإسهاماً في هدايتهم وتعبيدهم لرب العالمين ، وكفى بذلك هدفاً
وثمرة تثلج صدر الداعية المخلص سواء تحقق ذلك على يديه أو على يد غيره من
الداعين إلى الله تعالى .
4 - الوقوع في غيبة الدعاة أو السعي بالنميمة والوشاية لإلحاق الأذى بهم أو
إشاعة ما هم منه برآء في الناس حتى ينفضُّوا من حولهم ويلتفوا حوله .
والأمثلة كثيرة ، وكل إنسان أدرى بنفسه ، وهو على نفسه بصيرة ،
والمقصود التنبيه على هذه الآفة الخطيرة التي تمحق بركة الأعمال في الدنيا ،
وتذهب بأجرها في الآخرة .
________________________
تأملات دعوية
من صور التهرب من المسؤولية
محمد بن عبد الله الدويش
مما لا شك فيه أن التطلع للصدارة والبحث عن المسؤولية أمر ذمه الشرع
ونهى عنه ، وهو دليل على نوع من الهوى في نفس صاحبه ، أو إفراط في ثقته
بنفسه واعتماده عليها ؛ لذا فهو حين يفعل ذلك يُوكَل إلى نفسه ، كما قال صلى الله
عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ! لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها ، وإن أُعطيتها عن غير
مسألة أُعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك
وائت الذي هو خير ) [1] .
وكان صلى الله عليه وسلم في سيرته العملية يتجنب تولية الذين يبدو منهم
حرص على الولاية أو يسألونها ؛ فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : دخلت
على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي ، فقال أحد الرجلين : أمِّرنا يا(1/212)
رسول الله ! وقال الآخر مثله ، فقال : ( إنا لا نولِّي هذا من سأله ولا من حرص
عليه ) [2] .
وأخبر أن الأمة ستحرص عليها وأنها ستكون خزياً وندامة ، فقال : ( إنكم
ستحرصون على الإمارة ؛ وستكون ندامة يوم القيامة ؛ فنعم المرضعة ، وبئست
الفاطمة ) [3] .
لذا دأب الصالحون والمخلصون على البعد عن تولي المسؤوليات والولايات
لما يعلمون من أنها مغرم لا مغنم ، وهذا أمارة خير بإذن الله - عز وجل - لكن
بعض الناس قد يمتد الأمر لديه فيؤدي إلى وقوعه في محظور آخر .
وكثيراً ما يحجم بعض الصالحين عن تولي المسؤوليات والأعباء الدعوية ،
ودافعهم إلى ذلك الورع والبعد عن الشهرة - نحسبهم كذلك والله حسيبهم - وهو
مسلك حسن .
لكنه يتحول عند بعضهم إلى سلوك يسيطر عليه ، فيعتذر عن تولي أي
مسؤولية أو القيام بها ، ويظن أن هذا أسلم له وأنه يعفيه من التبعة ، وليس الأمر
كذلك ؛ فلو أنه جلس قعيد بيته ، واشتغل بشأنه الخاص أتراه يسلم من التبعة
والأمانة ؟
إن مسؤولية حمل الدين وتبليغه أمانة شرعية حمَّلها الله - تبارك وتعالى -
عباده ؛ فقد أوجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل جعله مع الإيمان
مناط خيرية هذه الأمة . ويرد في مواطن كثيرة ضمن صفات المؤمنين أنهم يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الإيمان
أن ينكر المرء المنكر بقلبه ، وأنه ليس وراء ذلك حبة خردل .
ومن يتأمل واقع الأمة اليوم وغلبة الجهل ، وفشوَّ المنكرات ، وبُعْدَ الناس عن
الدين فإنه لا يشك أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد غدا
فرض عين على كل مسلم قادر ، فضلاً عمن آتاه الله شيئاً من العلم والوعي
والبصيرة .
وثمة أمر آخر هو أن كثيراً من هذه المسؤوليات والأعمال التي يحجم عنها
هؤلاء ليس فيها مغنم في الدنيا ولا أمر يُسعى إليه ، بل هي تعاون على البر(1/213)
والتقوى ، وأمر تطوعي خيري ، بخلاف من يتولى ولايات المسلمين ، ويتحمل
تبعاتهم .
والأمر مناطه على القلب ، فرُبَّ معتذر عن تحمل المسؤولية لينعم بفراغ
الوقت فيزجيه كيف شاء وأين شاء ، ويسلم من المشقة والتعب ؛ فهذا فرار من
العمل لا من الولاية والإمارة .
ورب معتذر من عمل وهو يخشى أن يبدو في توليه له ما يجهله الناس عنه
من ضعف قدرةٍ وعطاء ؛ فيقل شأنه وقدره .
ورب معتذر ورعاً فهو : مجتهد مخطئ له أجر واحد ، أو مصيب له أجران .
لكن ما لا ينبغي الإخلال به : هو إصلاح القلب وتفقده ؛ لأنه المناط والأساس ، والاجتهاد في العمل للدين والدعوة إليه ، وأن يشعر المرء أنه إن أعفاه البشر من
المسؤولية فسيلقى الله - عز وجل - ويسائله ؛ فماذا هو قائل ؟
جعلنا الله هداة مهتدين ، وحمانا من الهوى وحظوظ النفس ؛ إنه سميع مجيب .
________________________
(1) رواه البخاري (7176) ومسلم (1652) .
(2) رواه البخاري (7149) .
(3) رواه البخاري (7148) .
المنتدى
التفكير العلمي
عبد العزيز اليحيى
التفكير : إعمال العقل لحل قضية أو لاقتراحات أخرى يتلمس منها ما بمكامنها
من خفايا أو خبايا سلباً أو إيجاباً ، وما تخلف هذه القضية بعد ذلك ليخرج بعدها
بحلول أو اقتراحات لتلك القضية تنتج له عصارة فكر متميز ليحولها إلى واقع
وتطبيق عملي تسعد به الأمة ليَحْيَا لها مجدها التليد الذي ضاع على أيدي أناس
يفكرون بطريقتهم ؛ فلنفكر نحن لنعيد الذي أخذ منا بتفكير .
قال ابن القيم - رحمه الله - : إن مبدأ كل علم نظري أو عمل اختياري هي
الخواطر والأفكار ؛ فإنها توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرادات ،
والإرادات تقتضي وقوع الفعل ، وكثرة تكراره تعطي العادة . ا . هـ .
والله - عز وجل - وهب الإنسان فكراً ونظراً وعقلاً ميزه عن كثير من
مخلوقاته ، يستطيع من خلاله إنشاء أعمال عظيمة كانت بدايتها فكرة أو لربما
خاطرة .(1/214)
قال البخاري - رحمه الله - : كنت عند إسحاق بن راهويه ، فقال رجل من
أصحابنا : ألا تعملون كتاباً يجمع الأحاديث الصحاح ؟ - ولم يكن قبل ذلك كتاب
يجمع الصحاح فقط - فكانت فكرة لي حتى كتبت الصحيح . أ . هـ .
تأمل أخي الكريم ! كيف أن البخاري ألف كتاباً سارت به الركبان وشرقت
وغربت ، كانت بدايته بداية بسيطة كبداية أي عمل ، إنها فكرة ، وكم قدم البخاري
بعد هذا باستغلال الفكرة ! ولذا فلا بد من استغلال الأفكار الإبداعية كما استغلها
البخاري - رحمه الله - . إن أكثر الناجحين من العلماء أو المفكرين أو الأثرياء
والمبدعين إنما تميزوا باستغلال الأفكار الإبداعية .
وقرر علماء النفس والإدارة أنه لا بد من أن يجعل الإنسان لنفسه وقتاً خاصاً
للتفكير ولو كانت دقائق معدودة أو ثواني محدودة .
ومن الملاحظ أن الإنسان كثيراً ما يستخدم حواسه ويستخدم جوارحه ؛ ولكن
غالباً ما يكون معطلاً للعقل إلا في التفكير الساذج . إما في عيش البهمية ?أولئك
كالأنعام بل هم أضل? {الأعراف : 179} أو حياة الذل والهمجية ، ولو رجعتُ بك
قليلاً لتقليب صفحات الذكريات وشريط الحياة لأقول لك : يا تُرى ! كم قدمت لأمتك
ولدينك من خلال تفكيرك ؟ لذهلت ولرأيت أمراً عجباً ؛ فتأمل هنا لترى حقاً ذلك
الوضع البئيس الذي نعيشه ويعيشه معظم المسلمين اليوم ، ومع كل هذا التعطيل
لملكة التفكير ففي المقابل يستطيع البشر أن يقيدوا الأيدي والأرجل بالسلاسل
والأغلال وأن يكمموا الأفواه ولكن لا يستطيعون أبداً أن يعطلوا عقلك عن التفكير
إلا بإذهاب عقلك .
أخي الحبيب ! أضرب لك مثالاً مشاهداً ملموساً يعقله كل ذي عقل وبصيرة أو
من ألقى السمع وهو شهيد : شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك الرجل الذي استحق لقب
شيخ الإسلام ، سجنه أعداؤه في سجن القلعة في دمشق لما رأوه ينكر المنكر ويعرِّف
بالمعروف ، وعُذِّب وأوذي في الله وابتلي ليخرج مؤمناً حقاً شيخاً جليلاً .(1/215)
أخي الحبيب ! قد تتساءل : لماذا كل هذا التعذيب والاضطهاد لشيخ الإسلام ؟
فأقول لك : إنه إن كان معطلاً عن العمل في كل شيء فهو لم يعطل عن التفكير ،
إنه يفكر . إن كل هذا التعذيب والاضطهاد والخوف من ذلك الشيخ - مع كل ما به
- كان لأنه يفكر .
يقول - رحمه الله - : (أنا جنتي وبستاني في صدري) ، نعم إن الجنة
والبستان للمؤمن ليس في اليد ولا في الرجل ، وإنما في القلب .
إن شيخ الإسلام مع أنه سجين إلا أنه يفكر ، أما أنت - يا طيب الجسم - مع
أن الله أعطاك قدرات ومواهب وطاقات إلا أنك مع ذلك لست تفكر إلا في سفاسف
الأمور وسفسافها !
إن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تفكير وإلى أناس يفكرون ، وإن ما وصل إليه
الأعداء من أعمال وابتكارات ما هي إلا المرحلة الثانية بعد التفكير ؛ فتجدهم
يفكرون طويلاً ليخرجوا لنا بابتكارات وأعمال تخدم دنياهم .
وهم على ضلال يفكرون . أما نحن مع أننا على الحق إلا أن كثيراً منا لا
يفكر .
أضرب لك مثالاً : في المؤتمر الذي عقد عام 1897م وضع اليهود مخططات
لقيام دولة (إسرائيل) بعد 50 سنة ، وفعلاً تحققت لهم بعد ذلك .
أتعلم من الذي يفكر ؟ إنهم اليهود الجبناء الذين? لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى
محصنة أو من وراء جدر? {الحشر : 14} ومع كل هذا الجبن والخور المتأصل فيهم
إلا أنهم يفكرون ... ؟ ! ولو أن شباب الإسلام في مدينة واحدة بدؤوا يفكرون بعد
تأمل وتألم في واقعنا وفي مستقبلنا فكم سيكون لدينا من المشاريع الخيرة الناجحة ؟
مع أنهم في مدينة واحدة فكيف لو أن كل مسلم فكر ؟ حينئذ : نعيد ماضينا ومجدنا
السليب بالتفكير ثم بعد ذلك بالعمل .
وبعد ؛ فإن التفكير لا بد أن يخلف آثاراً نفسية على الإنسان ترغمه أن يحول
تلك الأفكار إلى واقع وحال ، إلا من سلب روح العمل . والفكرة بلا تطبيق كالزهرة
بلا رحيق .
فبعد أن تتوصل إلى منتهى مراميك وغاية مقاصدك في التفكير .. فهناك :(1/216)
تحول تلك الأفكار إلى واقع مشاهد ليخرُج لنا جيل يفكر ويعرف كيف يفكر ،
ولنقول للغرب بلسان حالنا : نحن - المسلمين - الذين حرروا العقول بالأمس من
تخبط الجاهلية العمياء ، ونحن - المسلمين - الذين يحررون العقول اليوم - إن
شاء الله - من تخبط الجاهلية المعاصرة .
نسأل ذلك من العلي القدير ، وليس ذلك على الله بعزيز .
________________________
قضايا دعوية
سبق درهم مائة ألف درهم !
عبد الخالق القحطاني
من نافلة القول أن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أجلِّ الأعمال وأشرفها ؛
فهي مهمّة الرسل - عليهم الصلاة السلام - وقد خُصَّت بها هذه الأمة من بين سائر
الأمم من لدن آدم - عليه السلام - حتى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
غير أن الناظر إلى الساحة اليوم يجد انصرافاً - إن لم يكن إعراضاً - عن
هذه المهمّة العظيمة من قِبَلِ أناسٍ كان يُفترض فيهم أن يكونوا هم أهل الميدان
المنتظرين ، وقادته المبرّزين .
هؤلاء الأفراد على مستويً عالٍ من التربية الإسلامية والفهم الصحيح ،
ويجمعون إلى ذلك ذكاءاً وَقَّاداً ومعرفة بالعلوم الشرعية لا يستهان بها .
ولكنّ المعادلة غير المفهومة تنشأ عندما نرى هذه الفئة من المؤهلين تدير
ظهرها لهذه المهمّة -أعني الدعوة إلى الله- وتنشغل بما ينشغل به عامَّة الناس من
الانخراط في الوظيفة والعمل الدنيوي ، وقد يجمعون إلى جانب انشغالهم ذاك توزيع
كتاب أو شريط إسلامي أو القيام بعمل دعوي محدد أيّاً كان - كأثرٍ من آثار الضغط
الذي تفرضه عليهم التربية التي تلقوها في سنين ماضية - ظانين بذلك أنهم قد أدّوا
ما عليهم تجاه الفكرة التي يحملونها .
هذا الفراغ الهائل الذي خلّفه هؤلاء النفر ، دفع أناساً ممّن ليست لديهم الخبرة
الكافية ولم يبلغ علم أحدهم النصاب الشرعي [1] -وربما لم ينخرط الواحد منهم في
أي برنامج تربوي طيلة حياته - إلى أن ينزلوا إلى ميدان الدعوة وليس لديهم عُدَّة(1/217)
سوى العاطفة الصادقة ، والإحساس بالمسؤولية تجاه الدين الذي هم به يؤمنون .
إن هذه الصورة غير المتوازنة تثير في النفس الشعور بالأسى والإعجاب في
آن واحد :
- الأسى لواقع أولئك المتخلفين عن قافلة الدعوة مع قدرتهم وتمكنهم .
- والإعجاب بأولئك المتقدمين - على قلة بضاعتهم - وأذكر عن أحد هؤلاء
المتقدمين قوله لأحد الزملاء : ( أنا قليل الفهم في العلم الشرعي ؛ ولكنني أستطيع
أن أقف على باب المسجد وأوزّع على الناس أشرطة أو كتيبات ، أليس الدال على
الخير كفاعله ؟ ) لقد قلت في نفسي : هو - والله - أفقه من كثيرٍ ممن لديهم الكثير
من العلم الشرعي !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبق درهم مائة ألف درهم : رجلٌ له
درهمان أخذ أحدهما فتصدّق به ، ورجلٌ له مالٌ كثير فأخذ من عرض ماله مائة
ألفٍ فتصدَّق بها ) [2] .
وهكذا سبق درهم الفقير مائة ألف الدرهم التي للغني ؛ لأنَّ الدرهم كان نصف
مال الفقير ، ومائة ألف درهم كانت شيئاً من مال ذلك الغني .
وبالمثل حال أولئك النفر من الناس الذين يملكون قدرات ومواهب ولا
يستثمرون منها إلا النزْر اليسير يجعلونه لدعوتهم ، وحال أولئك الذين ليس لديهم إلا
القليل من المعرفة والفهم ولكنهم قد بذلوه كله في سبيل دعوتهم ؛ فإن درهم هؤلاء لا
شك يسبق دنانير أولئك المكدّسة !
فإلى إخواننا الذين هجروا الميدان قبل أن يلجوه ، وظنّوا أنهم قد أدَّوْا ما عليهم
وزيادة ، إليكم ما قاله أبو مالك - رحمه الله - : ( كم من رجلٍ يرى أنه قد أصلح
شأنه ، قد أصلح قربانه ، قد أصلح همّته ، قد أصلح عمله ، يُجْمَع ذلك يوم القيامة
ثم يُضرَب به وجهه ! ) [3] .
قال - تعالى - : ? وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ?
[محمد : 38] .
________________________
(1) أقصد بالنصاب الشرعي كل ما يلزم معرفته من الدين بالضرورة من أمور العقيدة والفقه ونحوها.(1/218)
(2) ترتيب أحاديث الجامع الصغير ، عوني الشريف ، المجلد الأول ، كتاب الزكاة ، باب الترغيب في الصدقة والنفقة ، ح/28 .
(3) أين نحن من أخلاق السلف ؟ جمع الجليل وعقيل ، ص10 .
قضايا دعوية
الدعاة
تأملات في أسباب غياب البعد الزمني وآثاره
منصور طه الحاج آدم
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل مجتمعاً كاملاً من جاهلية وشر
وفرقة وشتات ودماء وتارات إلى مجتمع رشيد بقيم الحق معافيً يمثل قدوة في
العالمين في فترة لا تتعدى ثلاثاً وعشرين سنة ، وقد بدأ العد التصاعدي للدعوة
النبوية ببزوغها والإيذان بها ، وبدأ العد التنازلي لدعوة الكفر التي غدت تفقد كل
يوم أرضاً وضَيْعةً من ضيعاتها ، بينما كانت الجاهلية تسعى جاهدة لتطويق الدعوة
وإماتتها في مهدها بشتى السبل والطرق ؛ لمعرفتها ما يترتب من تحولات قادمة
تحسب لها الحسابات عبر رصدها لتحركات النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته ،
ولكنها أخفقت وخاب مسعاها ؛ لأن الدعوة منصورة بالله ، ثم لأن النبي صلى الله
عليه وسلم عمل بالأسباب الواجبة المقتضية لتحقيق تمكينها في الأرض .
ولأهل الباطل عداوات شديدة ورصد كبير لأهل الحق ودعاته ، ولا يفتؤون
يبذلون ما في وسعهم لضرب الدعوة وأهلها ؛ مما يوجب عليهم ذلك نظراً بصيراً
وتحركاً محكماً ينطلق من تقييم صحيح وسليم ، وتعرُّف على مآلات الخير والشر
ودرجات كل منهما ، وكما يقال : ( ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ، ولكن
العاقل من يعرف خير الخيْرين وشر الشرَّيْن ) كما يوجب عليهم الإفادة من الزمن
لتحقيق المفاجأة وتغيير موازين القوى ؛ فإن عامل المفاجأة وتغيير الموازين في
الصراع يستند إلى قدرة الجماعة على بذل طاقاتها مع اختزال للجهد والزمن بأقصى
ما يمكن لتحقيق التفوق على الخصم ؛ فإن صراع الجماعات والأمم صراع على
أرضية الزمن ، وكيفية كسبه وتحقيق أعظم إنجاز بأقل جهد وزمن ، وهذا ما(1/219)
نلاحظه في دعوة النبوة : عظمة الإنجاز مع قلة الزمن .
وأمام أهل الحق جبهات ثلاث مفتوحة علمياً وعسكرياً وسياسياً من قِبَل
التيارات الآتية :
1 - التيارات الكفرية والشركية .
2 - تيارات النفاق من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم الذين يتلوَّنون بكل
لون ، ويدفعون كل راية حسب مقتضى الحال ، ويكشفون عورات المسلمين .
3 - الفِرَق والجماعات الضالة الحديثة والقديمة في أصولها .
وتستخدم هذه التيارات هيئات متخصصة لدراسة ورصد القوى الإسلامية ،
وتعد خططاً ومناهج فكرية وسياسية وعسكرية لضربها وقطع الطريق أمام العودة
الإسلامية الرشيدة للأمة ؛ ومما تستخدمه من وسائل محاربة :
1- إفراغ محتوى دعوات الإصلاح بتحوير مناهجها ومقاصدها عبر
الإسقاطات الفكرية المختصة .
2- التشويش الفكري والعقدي ، والتشكيك في عقائد الإسلام ومنهجه .
3- إدخال الجماعات الإسلامية في معارك استنزافية فكرية وسياسية
وعسكرية .
4- بث وتوسيع الخلافات الداخلية والاستفادة من وضعية التشرذم الداخلي .
5- إيجاد الشرعية لضربها وإنهائها ، والتحرش بها عبر وصمها بالألقاب الآتية : الأصولية ، الإرهاب ، المتاجرين بالدين ، أصحاب العاهات العقلية والنفسية .
6 - إضعاف السند والالتفاف الشعبي حول الدعوة - أو استخدام سياسة
الاستفراد بالجماعات باستثمار أخطائها .
وفي مقابل هذه العداوات المرصودة ، وبكل شراسة ضد جماعات الدعوة
الإسلامية نجد تشرذم البيت الإسلامي وانشغاله بقضايا بيئية ، بينما الواقع المعاش
لأمة الإسلام يلقي بأحمال وتبعات ثقيلة على دعاة الحق ، وإنه لينوء بها من ينوء
إلا ذوي العزائم وكبار النفوس المتوكلين على ربهم .
المطلوب :
1 - مرجعية علمية وعملية واحدة ، أو معالجة أحوال النخبة :
من الاهتمامات الكبرى الضرورية في الدعوة المعاصرة تشكيل المرجعية
العلمية والعملية الواحدة بمعالجة أحوال النخبة من علماء وطلبة علم ليمثلوا حالة(1/220)
الوحدة في المرجعية العلمية وضبط منهجية العمل الدعوي ومقاربتها في إصلاح
الواقع في تصوره ومطالبه ، وفقه التعامل والإنزال فيه ، ومعالجته معالجة منهجية
بعيداً عن الفوضى والارتجال العلمي والعملي التي يعاني منها الواقع الإسلامي
المعاصر الذي أدى إلى ظهور تيارات مغالية أو مجافية ، وبدون أفكار نشاز زادت
من أزمة البيت الإسلامي ؛ حيث انطلقت من رد فعل أزمة الواقع واتساع مطالبه
وفقدان المرجعية الموجهة والضابطة علماً وعملاً . إن توحيد أو مقاربة المرجعية
العلمية القائدة هي نقطة أولى لرأب الصدع وتوحيد الجهود .
2 - مراجعات منهجية في العلم والعمل :
مما يؤدي إلى سلامة مسلك الدعوة في أقوالها وأفعالها تحريرُ منهاجها على
قواعد وضوابط وأصول أهل السنة والجماعة : العلمية والعملية ، ثم يتبع ذلك
مراجعات منهجية في جانب العلم والتصور والفهم ؛ لئلا يحيد عن الوسط ويصاب
بعاديات البدع والانحراف ؛ فإن الأصول ربما تكون سليمة ولكن تعتري العلة بعض
الجوانب أو بعض المسائل التي توجب فتنة للاختلاف والشقاق فيها ، وقد تكون تلك
من الآثار التي عبر عنها ابن تيمية - رحمه الله تعالى - نتيجة المعصية ، وهي :
خفاء الحق عند أقوام أو أحوال ومواطن فيضيِّقوا ما وسَّع الشارع ، أو يتوسطوا
فيما ضيَّق فيه من الحرام ، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن [1] .
فلا بد إذاً من تنقية المنهج العلمي وتصحيح المسلك العملي ومراجعته ليكون
على مشروعية صحيحة ، كما أنه يجب أن نستوعب قواعد السياسة الشرعية
وأصولها في النظر إلى الوضع القائم وتقييمه ، وفي ضبط مسلك الدعوة في الواقع
المحيط بمختلف مكوناته العضوية والعلمية والفكرية دوراً وموقفاً نتوخى في ذلك كله
جلب كل صلاح مستطاع ودرء كل فساد مقدور عليه ، ولنؤمِّن طريق الدعوة من
المعارك الاستنزافية التي يكيد بها الخصماء ، والتي تفقد فيها كثيراً من القدرات
والطاقات ، وتهدم فيها المكتسبات .(1/221)
3 - تجديد خطاب الدعوة المعاصرة وإصلاحه :
الذي يتابع خطاب النبوة في عصر الدعوة الأول يرى تنوعه وتطوره بحسب
المراحل التي تمر بها الجماعة والمطالب التي تقتضيها المرحلة ؛ فالخطاب في مكة
غير الخطاب الموجه في المدينة ، والخطاب في المدينة ممتد عن الخطاب الموجه
في مكة تفصيلاً وتوضيحاً وإضافة [2] .
والواقع المعاصر أشد حاجة إلى هذا التنوع والمرحلية في الخطاب لتلبية
حاجات المرحلة ومطالب الواقع في الأعيان والأحداث والأحوال تنوعاً ينتظم تحت
دائرة كلية واحدة يقتضي بعضها بعضاً وتتضافر فيها المفاهيم في مسلك واحد
ولتحقيق غاية واحدة وهي تحقيق العبودية لله . إن تجديد أساليب الخطاب المعاصرة
وإصلاحها لتعالج قضايا الأمة وفق منظور شرعي واستراتيجية عملية ناضجة
ضرورة لتحقيق التغيير الإسلامي المنشود ، وإن أشد ما يعاني منه الواقع الدعوي
المعاصر ذلك الخطاب الذي يعرض صورة منحرفة أو جزئية ناقصة أو سطحية
تنطلق من رأي هذا أو ذاك ، أو فهم هذا أو ذاك مقدماً على الحق كما أن الخطاب
الذي اقتصر على مرحلة أو جزئية معينة وثباته حولها عامل من عوامل الشلل
الدعوي ، وهو ما يفسر موت كثير من الأنشطة الدعوية المعاصرة وتجاوز الزمن
لها .
4 - بناء الكفاءات والقدرات :
إن مراعاة البعد الزمني للدعوة تتطلب الإعداد الضروري الذي يؤهل
للوصول إلى المستقبل المُستَشْرَف ، وكل مرحلة وطور لها متطلباتها ووسائلها التي
ينبغي الإعداد لها ، وكل مرحلة تؤدي إلى الأخرى في تتابع وانتظام ثابت ؛ فالذي
يجب أن يرافق الاستشراف المستقبلي إعداد وتطوير الوسائل والإمكانات والقدرات
التي تشكل ذلك المستقبل المتطور وتصوغه .
إن كثيراً من الفروض العامة غائبة لغياب المؤهلين الذين يقومون بها مما أقعد
الأمة عن ممارسة دورها الحضاري ، وهذا لا يُعفي العاجزين عن أدائها ، بل
يُلزمهم أمراً آخر وهو تهيئة القادرين عليها ودفعهم لإتقانها [3] ؛ فإن الأفراد قد(1/222)
جُبِلتْ فيهم خَلْقاً مختلفُ القدرات والإمكانات الذاتية التي يُسِّروا لها (فكل ميسر لما
خلق له) فإما أن تموت فيهم ، وإما أن تحيا فيهم فيكون لها دورها في حياتهم وفي
حياة أمتهم ؛ فلذلك لا بد من العناية بالتنشئة السليمة لناشئة الإسلام التي تُخرج فيهم
كوامن القدرات والطاقات ، وتسعى إلى بنائها وتطويرها ، وتدفع بكل واحد إلى ما
هيئ له بوفور القدرة عليه ليحوز العلوم والآداب التي تناسب ما هو ناهض به ،
وإن تأهل لغيره أُعِينَ عليه .
إن الدعوة الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى كثير من القدرات والمؤهلات والبناء
الداخلي المؤسس ، مما يؤدي إلى ثغرات وعوامل ضعف فيها في المرحلة الراهنة ،
وتلك القدرات هي أهم ما تفتقر إليه القيادات الدعوية الرشيدة التي تملك قدرة التأثير
وزمام المبادرة في القيادة والإصلاح والتربية . ومما يؤخذ على الجماعات الإسلامية
المعاصرة عندما تخوض المعترك السياسي أو المعترك العسكري أنها تضعف أو
تشل قدرتها في التربية والإصلاح ، وتتناقص عضويتها الصفوية ، وتتحول إلى
تيارات شعبية عامة ، مما ينحرف بمسارها ، وتتحول أهدافها وتفقد هويتها .
وأخيراً :
هل يعي دعاة الحق ويتفهمون تحديات الواقع وينهضون قياماً بالواجب
وإصلاحاً في الأرض ؟ إن القيادات والدعاة الربانيين هم أدلاَّء الخير وقادة الإصلاح ، تعلو بهم راية الحق وتبطل بهم رايات الباطل ، والأرض الإسلامية عموماً خصبة
تنبت ما يزرع فيها نبتاً صالحاً ، وقد توارت كثير من رايات الباطل إما زوالاً وإما
كيداً خفياً من وراء الشعارات الإسلامية . وإن كانت الأرض مهيأة لقبول ما يزرع
فيها فثمة تحدٍّ يتمثل في فقدان دعاة الحق ؛ وهي حال قد تدفع بالتيار العام
للانحراف وراء دعوات خبيثة أو إمامات ضعيفة ناقصة تؤدي إلى فتنة داخلية ؛
فإن ما يلحظ أن كثيراً من التيارات المتغربة التي تلبس لبوس الإسلام وأخرى(1/223)
باطنية خبيثة لها مبادراتها وطروحاتها وأفكارها تعالج بها كثيراً من قضايا الواقع
وتنتج كمًّا هائلاً من الفكر مما يلقي بثقله على أصحاب الحق من الواجبات العظيمة
التي تنوء دونها الجبال .
إن تعقُّد الواقع وامتداداته الداخلية والخارجية تستوجب من أهل الدعوة أن
يكونوا في مستوى المطالب والمقاصد فهماً وهمة وإصلاحاً وعملاً وتضحية
وتخطيطاً وتنظيماً للجهود والطاقات ؛ فإن إصلاح الأمة إنما يتم بجهاد وحركة
علمية ناضجة ونشطة تجدد ما اندرس من معالم النبوة وآثارها ، وتبعث مناهج
السلف وأصولهم وهديهم علماً وعملاً وممارسة وسلوكاً . ومن الله وحده العون وعليه
التكلان .
________________________
(1) يراجع الفتاوي ، 14/ 147 .
(2) يراجع الفتاوي ، 15/159 ، والموافقات 2/62 .
(3) الموافقات ، 1/121 .
قضايا دعوية
نحو استثمار أفضل لفائض الوقت
د . مصطفى السيد
يسعى المسلم يومياً مع الملايين من إخوانه في مناكب الأرض إعماراً لها ،
وإعمالاً لمواهبه ، إنتاجاً وإبداعاً ، وبعضهم يضرب في طلب الرزق أجواء الفضاء ، وآخرون يركبون متون البحار والأنهار يعملون وكلهم يشتهون غداً أفضل ،
ومستقبلاً أجمل لأمتهم وأوطانهم .
والأمة التي تجعل العمل من مقومات وجودها ، وهدفاً أساساً لها في الحياة لن
تحصد بفضل الله ثم بعملها إلا مجداً باهراً ، وازدهاراً ساطعاً ، وحُق لأمة تكون
كذلك أن تكون لها سويعات ترفيه ، وأوقات راحة تخلد فيها إلى الهدوء ، أو تركن
إلى صحبة تتعاطى معها نشاطاً ذهنياً أو رياضياً يتجدد من خلالها نشاطها ، وتتنمى
عبرها مواهب قد لا يتمكن العاملون من إشباعها أوقات الدوام .
هكذا تكون الحياة السوية سمواً عبر العطاء ، ومثاقفة بناءة في ساعات
الترويح والاسترخاء .
تعالوا أيها الأحبة نسائل أنفسنا : أين نحن من ذلك في حياتنا بشطريها :
العامل ، والمستريح ؟
لا أنكر ابتداءاً أنه يوجد بيننا من حولوا ساعات العمل بفضل الله ثم بفضل ما(1/224)
طبعوا عليه من تربية ؛ حولوها إلى زيادة في رصيد حسناتهم ، وإلى نتاجات فكرية
أو مادية استفاد منها البلاد والعباد .
كما يوجد من بيننا من حوّل ساعات الترفيه والاسترخاء إلى وجه آخر من
وجوه الحضور للمسلم المنتمي إلى عصره ومجتمعه انتماء مشاركة ، وتعاون على
البر والتقوى ، وتفكر وتدبر في كل دقيقة ، وكيف تملأ بما يكفل عائداً مجزياً
ومردوداً مريحاً ؛ وذلك عندما يوفق في قضاء ساعات راحته مع فئة من الناس
تتبسط بغير استهتار ، وتتحادث بغير إسفاف ، لا تخلع العذار في مزاحها ، ولا
تسقط الحياء في لهوها ، تتهادى الكلمة الطيبة ، وتتبادل الأفكار التي تفتح للأمل
أبواباً ، وتوصد من اليأس مثلها ، يحضرهم سمر النبي صلى الله عليه وسلم عند
أبي بكر رضي الله عنه الذي كان سمراً في مصالح المسلمين ، وقول عمر رضي
الله عنه : ( إنه لم يعد له من أرب في العيش لولا محادثة أهل الفضل والمروءة ) .
إن مثل هذه النماذج المباركة جعلت من لقاءات الترفيه والسمر مدارس تبث
الكلمة النافعة ، وتضخ الخبرة الناضجة لجُلاّسها ؛ لأنها :
- لم تفهم الترفيه تحرراً من المسؤولية ، وتحللاً من الفضيلة مرددة مقولة
جاهلية ومأثورة شيطانية : ( ساعة لك وساعة لربك ) ، أو : ( دع ما لقيصر
لقيصر ، وما لله لله ) .
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى رفقة سوءٍ رأت في الحياة عبءاً ، والعمر هماً
جاثماً على الصدر ، فتفننت في التخلص منهما ، والتحلل من مستلزماتهما .
- لم تفهم الترفيه هروباً إلى العكوف بين يدي متحدث عليم اللسان ، فارغ
الجنان ، اختزل الحياة بساقط النكات والقهقهة العابثة التي رأت في سخف القول
والعمل سقفاً للعيش ، ومضماراً للهو والطيش .
- لم تفهم الترفيه هروباً من الأسرة وحقها في أوقات تأخذ من الأب تجربته ،
كما يلقي الأب السمع إلى أفكار ورؤى أبنائه وبناته ، لا يتركهم تحتبس الكلمات في(1/225)
صدورهم ، والأسئلة في عقولهم ، يغيب عنهم وعن زوجته ليحل محله يأس طاغ ،
أو رفيق سوء باغ ، أو جلوس إلى قنوات فضائية تتسمر أعينهم في صورها ،
يلتهمون سمها الزعاف وفكرها القاتل .
- لم تفهم الترفيه استقالة من معالي الأمور ، وانتحاراً بطيئاً غير مباشر من
تبعات الحياة ، حتى صار هؤلاء القوم يقدمون الاستراحة على البيت ، وروادها
على الأسرة ، والحياة الهاربة من كل التزام جاد على الحضور الذي تتحقق به ومعه
أهداف الحياة ، حتى إن بعضهم ليحسب أنما خلق عبثاً للعيش بلا دور سوى
حضور باهت على هامش الحياة معطلاً فيه عقله ، معلقاً رجولته بخيوط العجز
واللامبالاة ، مؤكداً حضوره بتثاؤب مكدود ، عيناه باتتا موانئ للذباب ، وروحه
ملاعب لجيوش اليأس والإحباط .
- لم تفهم الترفيه سخرية لاذعة من الإصلاح والمصلحين ، والجد والجادين ،
بل رأت في الترفيه والسمر فرصاً لرفعه إلى مستويات الجد من خلال دعاء لحاكم
ومحكوم بالتوفيق والنجاح ، أو من خلال جمع بعض المال تفك به أزمة مأزوم ، أو
بالتداول في طرائق النصح لمنحرف ضل الطريق ، وهكذا كانت أوقات الترفيه
استمراراً لأوقات الجد واستكمالاً لساعات العمل .
إذا كان الناس يتداعون لشهود صلاة الجنازة على ميت مات فما العمل إزاء
شريحة كبيرة من أفراد الأمة باتوا أحياءاً أمواتاً ، وأصبحوا حاضرين غائبين ،
همشوا أنفسهم ، أو همشتهم ثقافة الإقصاء التي تجرعوها ، توارثوها من أسر لا
تمسك علماً ، ولا تنبت قيماً .
شريحة تعيش في الحضيض ، وإخوانهم من شياطين الجن والإنس يمدونهم
بالغي ثم لا يقصرون ، يوهمونهم أنهم يحسنون صنعاً ، وأنهم في قلب الحياة ،
والحق أنهم لم يدخلوها إلا بشهواتهم ، ولم يحضروا إلا في أطرافها النائية .
هل هؤلاء الذين ارتضوا من الغنيمة بالإياب ، ومن الحياة بالفتات ؟
هل هؤلاء ضحايا أم خاطئون ؟ برءاء أم مسؤولون ؟
هل هم نتاج الثقافة الزائفة ؟(1/226)
هل هم دلائل ساطعة على إخفاقنا ، وإخفاق المؤسسات العامة والخاصة في
استيعابهم ؟
وهل حسبُنا أن نطرح السؤال فقط ؟ أو أن نشخص الأوجاع فحسب ؟
إن ذلك فهم ، ولكن الأهم أن ننتفض انتفاضة نفسية وعقلية لمواجهة النزف
والهدر في هذه الشرائح ، وأطْرها على الحق من خلال كل الوسائل المتاحة
والمباحة ؛ لأن الأمة لن تقدر على نهضة جادة وفي خواصرها جروح نازفة يأساً ،
راعفة إحباطاً ، هاذرة في الملمات ، هائمة في وقت الحاجة الماسة إلى التركيز .
________________________
قضايا دعوية
الداعية المطلوب
محمد بن عبد الله التميمي
إن مضمار الدعوة إلى الله - تعالى - هو المضمار الذي تتسابق إليه النفوس
الطموحة والعقول الواعية المفكرة لخوضه وكسب قصب السبق فيه - إي وربِّي !
نعم إنها لكذلك ، وإنها لأجلُّ من ذلك ... فلكم قُدِّمت لأجلها رؤوس ...
وأُزهقت أنفس ... وأُدميت أعقاب ... وذرفت دموع ! ...
إنها (صناعة الحياة) والآسي [1] المضمِّد لجراحات الأمة ( وما أكثرها ! )
وهي المهندس الذي يبني (قلعة) الإسلام ويُرمِّمُ بِنْيَة جدارها الذي يُريد أن ينقضَّ ،
وهي الضوء والخرِّيت [2] - الذي يشق العُبابات ويجلي الغبش عن نواظر الأمة
ليَمدَّ لها طريقاً في الأفق يبدأ من منطلق : ? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ?
[النساء : 36] عبر محور : ? فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين ? [التوبة : 122] مروراً بمبدأ : ? وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما
صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? [السجدة : 24] كل هذا يصاغ ببوتقة : ? ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ? [آل عمران : 159] ، ? ولا تصعر
خدك للناس ? [لقمان : 18] .
أَجْمِلْ بالداعية وهو يصعد عالي البحار وسافل الوهاد يَجُوبُ الأرض قائلاً :
? يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ... ? [النساء : 1] مذكراً كلَّ مدَّكرٍ ،(1/227)
ومعلماً كل جاهل ، ويداً حنونة تعطف على من تنكَّب الجادَّة ، ومَنْهلاً روِيًّا يطفئ
غليل كل طاغية .. وابتسامة متفائلةً في وجه كل الصعوبات ، وأمام كلِّ العقبات ...
وثباتاً على المبدأ عند المنعطفات وتحت وطأة كل التيارات ؛ أجل ... فالدعوة هي
سُلَّمُ النهوض بالأمة الإسلامية من سباتها العميق ومشهدها الدامي الحزين ! !
والداعية هو البطل الذي سَيَنْتَشِلُ قرة عينه (الأمة الإسلامية) من كَنَفِ الرذيلة ، وحمأة الضلالة ، ومنعطفات الغواية ، ومن شؤم المعصية إلى حلاوة الإيمان
وزورق الحياة السعيدة وجمال الحسنة وبَرِّ الأمان ؛ حداؤه في برنامجه الدعوي : ?ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ?
[فصلت : 33] ليحوز الخيرية ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر
النعم ) [3] .
لكن (العمل الدعوي) ليس باباً مفتوحاً على مصراعيه ، أو ماءاً الناسُ فيه
شركاء ، لا ، ثم لا .. فإن صُنَّاع الحياة لا بد لهم من معايير ومقاييس يسيرون على
ضوئها ؛ ومن أبرزها :
- الإخلاص والمتابعة (شرطان لذاتهما ولغيرهما) .
- المصداقية في القول والعمل .
- ترجمة (الأوامر والنواهي) إلى واقع محسوس في حياة الداعية ، ثم إلى
مسرح الحياة .
- الصبر . وفي الحديث : ( والصبر ضياء ) [4] قال الشاعر :
أحرى بذي الصبر أن يحظى بحاجته وُمْدمِنِ القرع للأبواب أن يلِجا
بل إنَّ مدارالإمامة في الدين على الصبر واليقين كما قال الحسن البصري -
رحمه الله تعالى - مصداقاً لقول الله - سبحانه - : ? وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? [السجدة : 24] .
- (التأصيل العلمي) وجمع المسائل العلمية [5] - وإن كان هذا المعيار تدور
حوله القضية الساخنة (العلم ، والدعوة ، والصراع) [6] إلا أننا ندرك أن الدعوة
إلى الله - تعالى - دائرة حول (الأحكام التكليفية والوضعية) وهي مفتقرة إلى الدليل(1/228)
الذي يدعم حكمها - قلَّ أو كثُر - قال صلى الله عليه وسلم : ( بلِّغوا عني ولو
آية ) [7] وقال : ( رُبَّ حاملِ فقه لا فقه له ) [8] .
- صب الاهتمام بكليات المسائل من غير إذابة لجزئياتها عملاً بقاعدة : (إذا
تزاحمت المصالح قُدِّمَ الأعلى منها) .
وهذه (المقاييس والمعايير) هي السلاح الذي يغدو به (الداعية إلى الله) صانعاً
للحياة مؤدياً رسالته على الوجه المطلوب .
وجماع هذه المقاييس والمعايير محوران : (التحصيل العلمي الصحيح) و(المخزون الإيماني) بجانب - الخلق الدمث النبيل - وإن لم تكن هذه (المقاييس
والمعايير) في جعبة الداعية فما عليه إلا أن يتنحى عن الطريق لغيره ؛ لأن فاقد
الشيء لا يعطيه .
________________________
(1) الآسي : الطبيب .
(2) الخريت : الماهر .
(3) البخاري ، ح/2724 ، ومسلم ، ح/4433 .
(4) مسلم ، ح/328 .
(5) ليس المراد أن لا يدعوإلى الله حتى يرسخ باعه ويعلو كعبه في العلم ، وإنما أن يكون معه من العلم مايجعله لايتكلم من (فراغ) وذلك لأن الداعية هو من أكثر الناس تعرضا للتيارات المنحرفة والأفكار الهدامة .
(6) هناك مقال (لايمل) في هذه القضية للشيخ (عبد الله المسلم) ، أنظر البيان (114) .
(7) البخاري ، ح/3302 .
(8) رواه احمد ، ح/16138 .
تأملات دعوية
وما عليك ألا يزكى
محمد بن عبد الله الدويش
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل عاطفة صادقة ، كان يحب الخير
للناس كلهم ، ومن ثم كان يحزنه ويؤلمه ما هم عليه من الكفر والضلال ، ويكاد أن
يهلك نفسه حزناً على ما هم عليه ، وحرصاً منه صلى الله عليه وسلم على إسلامهم
وإيمانهم .
وفي القرآن آيات عدة تحكي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من ذلك ؛ ففي
سورة الأنعام يقول تبارك وتعالى : ? وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت
أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على(1/229)
الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
إليه يرجعون ? [الأنعام : 35 ، 36] .
وفي سورة الكهف قال تبارك وتعالى : ? فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم
يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ? [الكهف : 6] وفي سورة الشعراء : ? لعلك باخع
نفسك ألا يكونوا مؤمنين ? [الشعراء : 3] .
إن حرص الداعية على اهتداء الناس ، وحزنه على ضلالهم وإعراضهم دليل
على محبته الخير لهم ، وعلى صدقه في دعوته ، وها هو صاحب أهل القرية حين
مات ورأى ما أعده الله له في الجنة تمنى أن يعلم قومه بما جُوزي به ، حتى يهديهم
الله ، ويقبلوا عليه ? قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي
وجعلني من المكرمين ? [يس : 26 ، 27] .
لكن هذا الحرص ينبغي ألا يتجاوز حد الاعتدال ، وإلا كان أمراً منهياً عنه .
إنه حين يتجاوز هذا القدر يولِّد آثاراً سلبية ، منها :
1- شعور الداعية بأنه مسؤول عن هداية الناس ، وإصلاحهم بينما واجبه
البلاغ ، والهداية إنما هي بيد مَنْ قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف
شاء ، ولئن كانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم تقف عند واجب البلاغ ؛ فغيره
من باب أوْلى .
2- انشغال الداعية أحياناً بشخص يطمع في هدايته ، أو شخص انحرف بعد
صلاحه واستقامته ، وهذا الانشغال يصبح في أحيان كثيرة على حساب الآخرين ،
فيأخذ وقت الداعية ويشغله عمن هو أحوج منه إلى بذل الجهد والوقت ؛ فالمقبلون
على الله عز وجل الصادقون في الاستجابة أوْلى من هؤلاء المعرِضين ، ولقد عاتب
الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال : ? أما من استغنى . فأنت
له تصدى . وما عليك ألا يزكى . وأما من جاءك يسعى ? [ عبس : 5 - 8 ] .
3- انشغال فكر الداعية وقلقه ، مما يشغله عن التفكير بما هو أهم من ذلك
وأوْلى .
إن الشعور بأن لكل مشكلة حلاً إن صح في ميادين فإنه لا يصح في الميادين(1/230)
الإنسانية ؛ فالمربي والداعية قد يستطيع أن يخطو خطوةً مَّا ، ويتخذ حلاً لمشكلة
تؤرقه ، لكنه لا يستطيع بحال أن يضمن استجابة الطرف الآخر وتقبله ؛ فالدعوة
والتربية ليسا عملاً من طرف واحد .
وفي سِيَر الأنبياء وهم الذين بلغوا الغاية والقمة في دعوة الناس والتأثير عليهم
نماذج تدل على صدق هذه القضية .
فها هو نوح عليه السلام يجتهد في دعوة ابنه دون يأس من استجابته حتى
آخر لحظة ، فيناديه وهو في الفلك : ? يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ?
[هود : 42] .
وها هو إبراهيم عليه السلام يبذل جهده في دعوة والده ونصيحته دون يأس .
وها هو خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه وهو في مرض
الموت قائلاً له : ( كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله ) [1] .
ومع ذلك الجهد من هؤلاء الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه عليهم فلم
يستطيعوا هداية هؤلاء الذين هم من أقرب الناس إليهم ، وماتوا على الكفر كما
ماتت زوج نوح وزوج لوط عليهما السلام على الكفر وقيل لهما : ? ادخلا النار مع
الداخلين ? [التحريم : 10] .
فلنبذل جهدنا في دعوة الناس وتربيتهم وإصلاحهم ، لكن لنعلم أن الثمرة
والهداية بيد الله عز وجل ؛ فحين لا تتحقق النتيجة التي نريد فلا ينبغي أن نضجر
ونبالغ في التألم والتحسر .
________________________
(1) رواه البخاري ، (3884) ، ومسلم (24) .
دراسات تربوية
من أسباب تساقط الشباب
أحمد العميرة
تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية الدعوة وفضلها ؛ فلن أستطرد
في ذلك ، وما دامت هذه الطاعة قد انتسبت إلى الإيمان فإنها معرضة لما يتعرض له
الإيمان من الزيادة والنقص ؛ فالإيمان يزيد وينقص كما هو معلوم ، وأصبحت
الدعوة باعتبارها من الإيمان ككل عمل إيماني يعلو فيصل الأوج والذروة أحياناً ،
اعتقاداً وحماساً ، وينحدر متضائلاً تارة أخرى ، والفائز الذي لا يغالي عند(1/231)
التعالي ، ولا يسرف عند الهبوط ، وذلك بأن يلزم هدي السنة النبوية الشريفة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكل عمل شِرَّة ولكل شرة فترة ؛ فمن كانت فترته إلى سُنَّتي فقد اهتدى ) [1] ، وفي لفظ آخر : ( ومن كانت شرته إلى سنتي فقد اهتدى ) [2] .
ولعلنا نختصر أكثر فنقول : إن ما نريد طرحه نستطيع أن نسميه بـ
(التساقط ) ، ويجب أن نفرق بين عدة مصطلحات قد يحصل الخلط بينها (الردة ثم
الانحراف والانتكاسة ثم الفتور ثم ضعف الإيمان ثم القعود عن الدعوة) والأخير هو
الذي نسميه : (التساقط في طريق الشاب) .
الأسباب :
1- عدم إخلاص النية لله ، قال تعالى : ? ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ ? . [البينة : 5] .
2- تخويف أعداء الله للعبد بقطع المعاش أو الفصل من الوظيفة ونحوها .
قال تعالى : ? إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وخَافُونِ إن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ ? [آل عمران : 175] .
3- خذلان أهل الحق والخير ممن كان يُؤمَّل فيهم نصرة الدعوة . قال الشاعر
وما أحسن ما قال :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
4- قراءة الواقع قراءة سلبية تؤدي بالداعية للإحباط واليأس ، فيترك طريق
الدعوة .
5- عدم القناعة الكافية بطريق الدعوة .
6- تعلق قلب الداعية بالدنيا وكراهية الموت .
7- الانفتاح على الأعمال التجارية والدنيوية دون الالتزام بوسائلها الشرعية .
8- الأمراض النفسية كالعجب والغرور والحسد وغيرها .
9- الحيل النفسية وهي كثيرة ، منها : احتقار الداعية لنفسه ، أو الخوف
الموهوم ، أو الخجل المذموم أو غيرها .
10- فقدان التربية الذاتية الجادة ؛ فمجرد الابتعاد عن وسط من الأوساط قد
يكون كفيلاً بأن يرجع الداعية الضعيف عما كان عليه من العمل الدعوي .
11- غياب الأهداف الرئيسة للدعوة الإسلامية في هذا الوقت عن ذهن الشاب(1/232)
المسلم كالرجوع بالأمة الإسلامية إلى عزها ومكانتها ، وإعادة حكم الله في الأرض ،
ونشر العقيدة الصحيحة ، إضافة إلى الحرص على هداية الناس .
12 - تسرب فكرة (طلب العلم أولاً ولفترة معينة ، ثم الانتقال إلى الدعوة إلى
الله) ولم يبيِّن لنا أصحاب هذه الفكرة : إلى متى يطلبون العلم ؟ وما هو الحد الذي
إذا وصلوه سينتقلون منه إلى الدعوة إلى الله ؟ وأصحاب هذه الفكرة بلا شك لم
يستوعبوا طبيعة هذا الدين منذ أن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس . يقول صلى الله عليه وآله وسلم : ( بلِّغوا عني ولو آية ) [3] .
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من علم لا ينفع ؛ فقد ورد ذلك في
حديث زيد بن أرقم وأنس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله
عنهم : ( اللهم أعوذ بك من علم لا ينفع ) [4]
وعن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( سلوا علماً نافعاً ،
وتعوَّذوا بالله من علم لا ينفع ) [5] ، وعن سلمان رضي الله عنه قال : ( علم لا
يُقَالُ به ككنز لا ينفق منه ) [6] ، وحين سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ما بال الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر ؟ نزل قول الله تعالى : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ
البِرَّ مَنِ اتَّقَى وأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ? [البقرة : 189] ، وحين سأل رجل النبي
صلى الله عليه وسلم : متى الساعة ؟ قال له : (ماذا أعددتَ لها ؟) [7] .
فماذا تعني بالله عليكم الاستعاذة من علم لا ينفع ، والتوجيه إلى السؤال العملي
الجاد ؟ أليس يعني أن العلم ما لم يَقُدْ صاحبه إلى نتيجة عملية يعتبر من العبث ، بل
مما يُستعاذ منه ؟ فحري بطلبة العلم أن يتربوا ويُرَبُّوا على أن لا يكون شحذ الذهن(1/233)
بالمعلومات هو الهدف النهائي والغاية القصوى ، بل يكون التعلم للعمل والدعوة إليه ، وأن يدركوا أن مجرد التعلم والانشغال به لا يغني عن تصحيح النية وإخلاصها لله
وحده ، إذاً فلا علم بلا دعوة ، ولا دعوة بلا علم ، وهذا هو دين الله ، وعلى من
يعترض علينا أن يأتي ببينة سليمة من سيرة السلف تشهد لكلامه .
13 - جهل الواقع والبعد عن فقهه ومعرفته فلا يستطيع التعرف على
مشكلات مجتمعه وواقعه ويؤدي ذلك به إلى ترك الدعوة أو الضعف عنها .
14 - تأثير التفرق والاختلاف بين الدعاة والجماعات الإسلامية على الداعية ، فيؤدي به ذلك إلى اجتناب طريق الدعوة قال تعالى : ? « ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ? [الأنفال : 46] .
15- قلة العلم وقلة التأصيل الشرعي للقضايا والمسائل الحادثة والنوازل ؛
فهذا بدوره يُضعف الداعية عن المضي قدماً في دعوته .
16 - الإغراق في الجدل مع أصحاب الأهواء وإضاعة الوقت في ذلك ، فهذا
مما يضعف الهمة ويغفل عن جوانب أخرى كثيرة ، وقد يتأثر بهم ويسقط معهم .
17 - عدم فقه المصالح والمفاسد وإدراك ظروف المرحلة التي تعيشها الدعوة ، فيقدم المفضول على الفاضل ، وهكذا .
18 - عدم الصبر عند وقوع الابتلاء والأذى في سبيل الله .
19 - عدم التعود على إنكار المنكر والنفرة منه ومجابهته ، فيألف المنكر مما
يسبب له التساقط والنكوص .
20- التنازل عن أمور لا يجوز شرعاً التنازل عنها من الدعوة ، فتقوده
السلسلة من التنازلات إلى النكوص والتراجع .
21 -عدم التدرج في الدعوة ؛ فيبدأ بأعمال غير مؤهَّل لها ، فيصاب بشيء
من الضعف نتيجةً لذلك .
22 - عدم الانضباط مع الصحبة الصالحة التي هي الزاد للداعية في طريقه ، وانعدام الاستشارة في الأعمال الدعوية أو قلتها .
23 - الارتباط بصحبة بطَّالة أو مثبِّطة ذات اهتمامات دنيئة مما يضعف عزم
الداعية .
24 - استعجال الثمرة واعتقاد قربها .(1/234)
25 - ضعف اليقين بنصر الله لعباده المؤمنين قال تعالى : ? إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ? [ غافر : 51] .
26 - عدم الاعتراف بالأخطاء ، وعدم تقبل النصيحة .
27 - ارتكاب المعاصي والاستهانة بالصغائر من الذنوب .
28 - قلة الاهتمام بالجانب العبادي لدى الداعية كقيام الليل والأذكار اليومية .
29 - ترك الدعاء الذي هو سلاح المؤمن .
30 - ضعف شخصية الداعية فيسهل التأثير عليها بأي شيء .
31 - عدم التنظيم للعمل الدعوي ، وقلة التخطيط السليم .
32 - التحريش بين الدعاة ، وتحريض بعضهم على بعض .
33 - تغير المجتمع أو الوسط الذي يعيش فيه وقد كان زاداً على الاستمرار
في الدعوة .
34 - العاطفة الزائدة والحماس المفرط الذي قد يؤدي للغلو في أمور كثيرة ،
وبعد فترة يجد نفسه متراجعاً عن كل عمل دعوي .
كانت تلك أبرز أسباب التساقط اجتهدت فيها بالاختصار والدمج بين سببين في
سبب واحد ، وعدم التكرار في الصيغة النهائية لها .
نسأل الله لنا ولكم التوفيق في الدارين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
________________________
(1) مسند الإمام أحمد ، ح/ 6473 .
(2) المصدر السابق .
(3) رواه البخاري ، ح/ 3202 .
(4) رواه مسلم ، ح/ 4899 .
(5) رواه ابن ماجة ، ح/ 3833 .
(6) رواه الدارمي ، ح/ 554 .
(7) رواه البخاري ، ح/ 3412 .
قضايا دعوية
فتنة مسايرة الواقع
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين ، وبعد :
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته
الدنيا ؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه ، أو تزل قدمه بعد
ثبوتها ، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن ، ويجأر إلى ربه عز وجل
في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير .(1/235)
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق
بعضها بعضاً ، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت
فيها الفتن ، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن ، ولم ينج منها إلا من ثبته الله
عز وجل وعصمه . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس
فيضعفون أمامها ، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات ،
ومراعاة رضا الناس وسخطهم ، وهي فتنة لا يستهان بها ؛ فلقد سقط فيها كثير من
الناس وضعفوا عن مقاومتها ، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى :
?يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ? [إبراهيم : 27] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية : ( تحت هذه الآية كنز
عظيم ، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه
فقد حرم ) [1] .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى :
ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ? [الإسراء : 74] فسواه من الناس
أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده
التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى .
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى :
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في
الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذاً بالله تعالى ؛ وذلك كما هو الحال
في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من
مشركي العرب ، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم
السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا(1/236)
بهذا في آبائهم الأولين ، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض
بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم . وسجل الله عز وجل عن
قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم : ? مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ?
[المؤمنون : 24] .
وقال تعالى عن قوم هود : ? قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا ... ? [الأعراف : 70] ، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح : ? قَالُوا يَا
صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... ?
[ هود : 62] .
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون : ? قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا ? [يونس : 78] ، وقال عن مشركي قريش :
? وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... ?
[البقرة : 170] والآيات في ذلك كثيرة ، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء
ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك ، وقد بين الحق للناس ؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس ، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين ، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان .
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين
زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم
للناس ، وميلهم مع الدنيا ومناصبها ، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم(1/237)
وجاههم بين الناس ، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة ، وسايروا الناس مع اعتقادهم
ببطلان ما هم عليه ، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس ، فيسير معهم ، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله تعالى شيئاً ، ولا يتركون الحق لأجل الناس ، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد ؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من التمس رضا الله في خط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [2] .
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب
على النفوس بحيث يطمس البصيرة ، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في
سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة ، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ
ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : ( فكذلك صاحب الهوى إذا
ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن
خالفه ) [3] .
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم
بين المسلمين ، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر ، أو الترخص
في الدين ، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة(1/238)
الركب وصعوبة الخروج عن المألوف ، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا . ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه ؛ حيث قال : ( لا تكونوا إمَّعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنَّا ، وإن ظلموا ظلمنا ؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا فلا تظلموا ) [4] . قال الشارح في تحفة الأحوذي : ( الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك ؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه ، تابعاً لدين غيره بلا رؤية ، ولا تحصيل برهان ) .
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا
من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة ؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين
وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي
على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر ، ولعل
هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) [5] .
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر
الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما
ألفه الناس ، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن من ورائكم أيام
الصبر . الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً
يعملون مثل عمله وزادني غيره قال :
يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ) [6] .
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم ، وأخص
بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة :
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة ؛
وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء(1/239)
والوسوسة وتأويل الأمور .. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات
والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك
بتأويل أو بغير تأويل ، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط
غيره ؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره ، وذلك بخلاف العالم
أو الداعية ؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره ؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية .
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن
الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة
ينقذها ويرفع الذل عنها ؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم ، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته
بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم ، أما إذا أهمل الداعية نفسه ، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله .
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات
وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها ، فهذه والله هي مهمة الأنبياء
والمصلحين من بعدهم ، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية ، وإلا فلا معنى
لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء
الناس . إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن ، ولا شك
أن في ذلك مشقة عظيمة ؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر
وصابر واستعان بالله عز وجل . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل
العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته
في مرضاة النفس والناس فيقول : ( وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة ،(1/240)
ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه : تقيمه وتقعده ، ويحلم بها في منامه ، وينطلق
في سبيلها في يقظته ، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري ؛ ولكن
لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد ، ولا بد للنجاح من
أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها ، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي
ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب ، وينتهي باستجابة
لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده ، والتأسي بسيرة الرسول
الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل
العقيدة .
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك
الغريزي ، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها .
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع
أن ذلك مما يثاب المرء عليه ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من
الترف ؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط ؛
بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير
محرم في عرف الشرع ، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال
والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله
عليه وأسخط عليه الناس ) [7] .
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن .
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم ، لا
يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها ، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى
الغريزي الأول ؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على
رضاهم .
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى ، يتخطونه إلى
مستوى أعلى هو مستوى العقيدة ، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي
به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا ، وليس فوق هذا المستوى حين(1/241)
يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط ، ليس
فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه [8] .
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش
لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا
رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة ، يغير واقع الناس ولا يسايره ، يؤثر فيه
ولا يتأثر ، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم ، ولكن الناظر
اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات
المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من
الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم ، أما
السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع ، ما بين مقل ومكثر وما
أبرئ نفسي .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون
وأهل العلم خاصة ما يلي :
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد
ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية
المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام
الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة ، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع ، ومن أبرز هذه العادات والممارسات :
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار
أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم ، مع أن بعض هؤلاء
الخدم كفرة أو فَسَقَة ، وأكثر الخادمات هن بلا محارم ، وخضع الناس للأمر الواقع ، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر(1/242)
ولا أجنبيات ، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن ، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين ؛
حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم ، وكأنهم
مما ملكت اليمين ، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ ،
وإذا نُصح الولي في ذلك قال : نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا ، ومن
الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم
وجيرانهم ! !
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد
كالتلفاز وغيره ، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير
ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه ، ومن ينكره
من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من
حوله ، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا
عنه من الله شيئاً ، وكفى بذلك فتنة .
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح
والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح
والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة ، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة
في الملابس والمآكل ... إلخ . ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من
يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه ، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم .
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء
وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل
القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة
تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق ، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه
الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد ، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة(1/243)
موليته ، واستسلم هو الآخر ، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر
نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها
المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت
الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب
الظلال رحمه الله تعالى : ( هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في
حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها
على الناس فرضاً ، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم
واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها :
أزياء الصباح ، وأزياء بعد
الظهر ، وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء
المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ : من
الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه
شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون
أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون
لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! ) [9] .
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل
بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن
مقاومة هذا الواقع ؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله ، ويحمِّل نفسه الديون
الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان ، والمشكل هنا ليس التوسع
في المباحات وترفيه النفس ؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام ، لكن
ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين
إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن ،(1/244)
ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس
على كاهله لم يستطع لها دفعاً .
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات
الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع ،
ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة ، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع
الحرج أو الأخذ بالرخص ... إلخ ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس
والرضا بالأمر الواقع ، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً ، والمطلوب من
أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم
بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه .
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [10] ويقول أيضاً : ( إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق ، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة ، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها ) [11] .
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم ؛ لكنه
يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم ، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها
صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى ، وعن هذا يقول الإمام ابن
القيم رحمه الله تعالى : ( يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل(1/245)
على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع ، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم ! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه ، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق ! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ) [12] .
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها :
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح ، وبخاصة حينما
يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون
على عباد الله المصلحين ، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح ، ويظهر
لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد
يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين ، وكل ما في الأمر بعض
التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة ! ! وليس المقام هنا مقام
الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات ، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها
ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع ؛ فلا مصلحة ظاهرة
حققوها بتنازلاتهم ، ولا مفسدة قائمة أزالوها ؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبيه صلى الله
عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير ؛ وذلك في قوله تعالى :(1/246)
?وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
(73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ
وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ? [الإسراء : 73 - 75] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها :
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في
مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم ، ومنها :
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله ،
ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها ، ليذكِّر بفضل الله على الرسول
صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة . ولو تخلى عنه
تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً ، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة
المشركين هذه ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً
منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع
أصحاب الدعوات دائماً ، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة
وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة ، ومن
حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته ؛ لأنه يرى الأمر هيناً ؛ فأصحاب السلطان
لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي
الطرفان في منتصف الطريق .(1/247)
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها ! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً ، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ! [13] .
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء
المسلمين :
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول [14] ولكن يكفي أن
نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب
العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى
صورها ، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة ؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب
العصر ، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من
شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد
أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه ؛ والغريب في أمر هؤلاء
أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم ، وعلى من يبقى
على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره ، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد
الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك ؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية
ورفض التقليد ! ! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله : ( هي التأقلم مع
المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر ، وربط الإنسان في فرديته
وجماعيته بها في دائرة التصور البشري ) [15] .
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في
ميادين الفقه فيقول : ( لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ
الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام ؛ ذلك أن موقفهم من(1/248)
النصوص الشرعية عجيب ؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية
المتواترة قالوا : إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر ، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة ، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية ، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق ! !
إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه .
ومن شذوذاتهم :
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد
الإصرار والمعاودة والتكرار ، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك .
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا
المحرم عندهم هو الربح المركب .
3 - موقفهم من المرأة ، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم ، ودعوتهم لها إلى
محاكاة المرأة الغربية في عاداتها ، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد
الزوجات ، يقول محمد عمارة : ( إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري
والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية ) والترابي يقصر الحجاب
على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال
والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها .
5 - أحكام أهل الذمة :
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي
الآن لا تناسب عصرنا ! ! ) [16] .
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً : ( إن مزاعم
التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني
تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى ) .
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني : هدم العلوم المعيارية : أي علوم التفسير
المأثور وأصوله ، وعلم أصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث .
ويعني : رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها
لعقولهم ولمصلحة الأمة ، وظروف العصر الحاضر .(1/249)
ويعني : رفض السنة غير التشريعية أي : فيما يخص شؤون الحكم والسياسة
وأمور الحياة والمجتمع عموماً .
التجديد عندهم يعني : الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين
الوضعية ، التي تحقق الحرية والتقدم ، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة .
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني : تحقيق المصلحة وروح العصر [17] .
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية
أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً ، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة .
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها :
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة
على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى
فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره ، ومن أخطر هذه
الآثار ما يلي :
1 - الآثار الدنيوية : وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان
الشخصية الإسلامية ، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده ، وهذه
كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما
سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر : ماذا يرضي ربه
فيفعله ، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم .
2 - الآثار الدينية : وهذه أخطر من سابقتها ؛ وذلك أن المساير لواقع الناس
المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها
ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها ، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .
كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين
من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع ، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة ؛
وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى ؛ وهكذا حتى يظلم القلب(1/250)
ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها ،
ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى [18] : ( وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد
تكون من ثواب الأولى ، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى ، قال
تعالى : ? ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66)
وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ?
[النساء : 66 - 68] وقال تعالى : ? والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ? [العنكبوت : 69] وقال تعالى : ? والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ? [محمد : 4 - 6] ، وقال
تعالى : ? ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى ? [الروم : 10] ، وقال تعالى :
? كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ? [المائدة : 15 ، 16]، وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ ? [الحديد : 28] ، وقال تعالى :
? وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ? [الأعراف : 154] .
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال :
( ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية
الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً لا يملك أن
يقف عند ما سلَّم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى
الوراء ) .
الآثار الدعوية :(1/251)
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه
وعند الناس ، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها ؛ إذ كيف
يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره ؟ ! وكلما كثر المسايرون كثر
اليائسون والمتساقطون ؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة :
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز
وجل وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ? « ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ
تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ? [الإسراء : 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله
عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها :
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل :
?ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً ? [النساء : 66] فذكر
سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل
الأوامر وترك النواهي ، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في
الثبات فيقول : ( فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت .
ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد ، فبهما يثبِّت
الله عبده ؛ فكل ما كان أثبت قولاً ، وأحسن
فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال تعالى : ? ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً ? فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً ، والقول الثابت هو القول الحق
والصدق ) [19] .
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في
الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم ،
واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق ، وترك(1/252)
مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه ؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة
والمجانسة .
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند
بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها ، مع أن أكثر المسايرين
المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف .
والمقصود : أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي
دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى . وينبغي على طالب العلم الشرعي
والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم
والورع ومعرفة الواقع ، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس
وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم .
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير ؛ لأن
السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس
بالمنكرات ومسايرة الناس فيها .
________________________
(1) بدائع التفسير ، 3/17 .
(2) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(3) الموافقات للشاطبي ، 2/ 268 .
(4) تحفة الأحوذي ، 6/145 ، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب .
(5) رواه الترمذي ، ح/ 2186 .
(6) أخرجه أبي داود ، ح/ 3778 ، والترمذي في تفسير القرآن 2984 ، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004 .
(7) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية ، للعلامة محمد أمين المصري ، ص 39 43 (باختصار) .
(9) في ظلال القرآن ، 2/ 1219 .
(10) الموافقات ، 2/ 128 .
(11) المصدر السابق ، ص / 247 .
(12) إعلام الموقعين ، 4/ 229 .
(13) في ظلال القرآن ، 3/ 245 .
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب : (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، للأستاذ محمد حامد الناصر .
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية ، ص 22 .
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار) .(1/253)
(17) المصدر السابق ، ص 353 ، 354 .
(18) الفتاوى ، 14/245 .
(19) بدائع التفسير ، 1/17 .
تأملات دعوية
حدثوا الناس بما يعرفون
محمد بن عبد الله الدويش
إن ثمرة دعوتنا للناس وخطابنا لهم تتحقق حين يفهمون الخطاب ويعقلونه ، ثم
يتحول الأمر إلى سلوك عملي واستجابة .
وما لم يكن الخطاب مناسباً للناس تبلُغُه عقولهم وتدركه أفهامهم فلن يتحقق
المقصود منه .
لذا صح عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( حدِّثوا الناس بما يعرفون ؛
أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) [1] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا
تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) [2] .
وتحديث الناس بما يعرفون له جانبان :
الأول : يتعلق بأسلوب الخطاب ؛ وذلك بأن يُخاطب الناس بلغة سهلة واضحة ، وأن يبتعد المتحدث عن التقعُّر والتكلُّف والبحث عن الألفاظ الغريبة ، وقد ذم
النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك فقال : ( إن الله عز وجل يبغض البليغ من
الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها ) [3] .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق )[4]
قال الترمذي : والعي قلة الكلام ، والبذاء : هو الفحش في الكلام ، والبيان : هو
كثرة الكلام ، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسعون في الكلام ويتفصحون
فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله .
وأحياناً يدفع التكلف صاحبه إلى هجر المصطلحات الشرعية ، والبحث عن
مصطلحات حادثة .
الثاني : يتعلق بمضمون الخطاب ، فليس كل ما يُعلم يقال ، والعامة إنما
يُدعون للأمور الواضحة من الكتاب والسنة ، بخلاف دقائق المسائل سواء أكانت من
المسائل الخبرية ، أم من المسائل العملية .
وما يسع الناس جهله ولا يكلفون بعلمه أمر نسبي يختلف باختلاف الناس ،
وهو في دائرة العامة أوسع منه في دائرة طلبة العلم .(1/254)
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم إمام الدعاة وقائدهم حين يأتيه رجل يسأله
عما يدعو إليه ، أو يسأله عما يجب عليه أن يفعله ، يجيبه النبي صلى الله عليه
وسلم بالجمل الثابتة الظاهرة من دعوته صلى الله عليه وسلم : توحيد الله تبارك
وتعالى ، إقام الصلاة ، إيتاء الزكاة ، الصوم ، الحج ، صلة الأرحام ، كسر الأوثان
... إلخ ، ولم يَدْعُ النبي صلى الله عليه وسلم أمثال هؤلاء إلى مسائل فرعية أو
خفية .
ومن ذلك ترك تحديث الناس بما يُشكِلُ عليهم فهمُه ، أو يُخشى أن ينزلوه على
غير تنزيله ويتأولوه على غير تأويله . قال الحافظ ابن حجر في شرحه لخبر علي
رضي الله عنه : ( وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي
ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في
الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين ، وأن المراد ما يقع من
الفتن ، ونحوه عن حذيفة . وعن الحسن
أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين ؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان
يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ) [5] .
فحري بالدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يتدارسوا هذه الآداب ، ويعتنوا
برعايتها وتطبيقها .
________________________
(1) رواه البخاري (127) .
(2) رواه مسلم في مقدمة الصحيح .
(3) رواه أحمد (6507) ، وأبو داود (5005) ، والترمذي (2853) .
(4) رواه أحمد (21809) ، والترمذي (2027) .
(5) فتح الباري ، ج 1 ، ص 272 .
البيان الأدبي
العناية بالموهوبين
هدى سلطان
سهلٌ جداً أن نرى جيلاً جديداً من محبي الأدب والكتابة يتنافسون من أجل
الظهور بشكل مميز ومختلف ، ولكن القلة هم الذين يستمرون ويبدعون ، وهؤلاء
هم الذين نسميهم بالصفوة أو المبدعين . الحقيقة أن المبدع يستطيع أن يكتب ، لكن
ليس كأي أحد ، وهذا ما يجعله مختلفاً عن غيره . والإبداع هو أن يصل المبدع إلى(1/255)
شيءٍ لم يصل إليه غيره ، ويحقق شيئاً لم يحققه الآخرون ، ويبدع أسلوباً آخر يحبه
الناس المتابعون . هبة من الله هذا المبدع وإبداعه ؛ لكن هل كل مبدع يستطيع
إبراز فنونه وإبداعاته ؟
قلة قليلة هم الذين كتب الله لهم الحياة والظهور على السطح ليراهم الناس ،
والكثير من المبدعين من الجنسين دفنت الظروف إبداعهم ، وحجبت المصالح
فنونهم ، والإبداع يُحارَب على مر السنين ، وهو يُحارب إما من طبقة المتخلفين
الجاهلين الذين لا يعرفون قيمة العلم والإبداع ، ولا يؤمنون بأهمية التطور والتقدم ،
ما يهمهم هو الحفاظ على العادات والتقاليد القبلية البالية التي بسببها تم اغتيال العديد
من المواهب المبدعة في مهدها ، مما كان من الممكن أن تضيف شيئاً للبشرية .
وسلطة العادات لدى بعض البشر أقوى وأعظم من سلطة الدين .
إن الإسلام حارب الجهل والعصبية والتخلف ، ومع ذلك نرى الكثير يعيش
في عالم آخر ، عالم حجري كأنه لا يحس ولا يشعر ! كما هو في حسد الحاسدين
الذين يغيظهم نبوغ أحد ، أو ما يفعله آخرون من استغلال الفقر وضيق الحال أن
يلجئوا مبدعاً أو عالماً أن يبيع كتاباته وفنون أدبه وأشعاره الحزينة لِغنيٍّ خال من
الموهبة ، لينال شهرة عظيمة في المجتمع ؛ إذ جَمَعَ النار والماء ، جمع المال
والإبداع حين استولى على إبداع وموهبةٍ كان نصيبها من الحياة أن صاحبها فقير ،
وذلك يكفي لأن يكون الموت نصيبها أو نصيب هذا الجسد الذي تحيا فيه .. فهل
ثمة عقاب لمثل هؤلاء المعتدين ؟ ! للأسف هذا حال كثير من المبدعين في هذا
الوطن العربي الكبير ، بينما لا نرى اضطهاداً كهذا للمبدعين في بلاد الغرب وهم
الكافرون الضالون الذين يعملون المستحيل من أجل اكتشاف المبدعين الصغار من
المراهقين والشباب ، وتتنافس المؤسسات من أجل كسبهم والنهوض بهم ، بينما
المبدعون العرب لم نسمع بهم إلا بعد هجرتهم إلى بلاد الغرب ؛ حيث وجدوا هناك(1/256)
ما ساعدهم على العيش والحياة والاستمرار في الإبداع بشكل متميز . وأكبر دليل
على ذلك عالم الفضاء الدكتور فاروق الباز ، وغيره من الأطباء والأدباء والمفكرين
الذين دفعتهم ظروفهم الاجتماعية وعسرها في بلادهم للهجرة ؛ لأن السواد الأعظم
من مبدعي العرب في الغرب دافعهم الأول للهجرة التقليل من شأن إبداعهم في
وطنهم ، والتضييق عليهم في رزقهم ، وعدم توفير الفرص والتشجيع للاستمرار
الإبداعي لديهم ، وهذا هو الظلم للنفس المبدعة التي أكرمها الله من دون النفوس
البشرية الأخرى بالنبوغ والتحليق فوق البشر بشيء فريد لا يصل إليه غيرها ؛ لأنه
في داخل هذه النفس البشرية المبدعة الخيرة التي تسخِّر إبداعها من أجل خير
البشرية والإنسانية .
ومن هنا أطالب بتقديم العون لكل مبدع في الوطن العربي الكبير بتهيئة
الإمكانات وتقديم المنح والجوائز والفرص لمزيد من الإبداع ليس في مجال دون
مجال ، ويجب فتح مؤسسات متخصصة لرعاية الموهوبين والمبدعين ، ويجب
معاقبة كل من يحاول قتل موهبة أي مبدع ، أو التقليل من شأنه ، أو استغلال فقره
وشراء إبداعه ، أو محاولة كتم صوته سواء في الإعلام أو غيره ، وهذه المؤسسات
مطلب مهم للعناية بهذه البذرة الإبداعية ؛ لأن الموهبة لا تستطيع أن تعيش بدون
اهتمام وبدون صقل لها ، سواء بالدراسة العالية أو تحقيق الأمن المعيشي لها وتوفير
الجو الاجتماعي المثالي الذي يعين هذا الموهوب على الحياة الجديدة ، فيحيا بحياته
في مجتمع يسعد بمثل هؤلاء المبدعين الذين يثرونه ويزيدون في موارده ويرفعون
اسمه ويساهمون في نهضته ورفعته .
وقد نرى خلال السنين القادمة مبدعين يتكررون من جديد ، وربما يبدعون
أفضل من سابقيهم ؛ فمن الممكن أن يظهر لدينا علماء يضاهون ابن تيمية وابن
خلدون ، وقادة وساسة ربما يضاهون عمر بن عبد العزيز ، وصلاح الدين الأيوبي ، والسلطان قطز وغيرهم كثير ؛ وهذا ليس بمستحيل ، والأمل بالله تعالى كبير وما(1/257)
ذلك على الله بعزيز .
قضايا دعوية
حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا تُنال المعالي بالأماني ، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية
بشتى صنوفها . وإذا عُرف أن ابتلاء الدعاة سنة ماضية تبين أن الدعوة الحقة لا
تقوم بلا تضحية .
والمراد بالتضحية : التبرع بالشيء دون مقابل [1] ، كالتضحية بالنفس أو
المال أو العمل أو الوقت أو الجاه أو العلم أو المنصب ... أو غير ذلك ، حتى يظن
الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الضرورية ، فيبذل جهده في تقويم ذلك
دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه ، وإنما يرجو بذلك كله وجه الله تعالى ،
ونصرة دينه [2] .
وهذا المعنى نفسه هو المقصود من الجود والبذل ، وإن كان غلب إطلاق
الجود على إنفاق المال الكثير ، بسهولة من النفس ، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة
النفع كما ينبغي ، وهو لا شك من أعظم أبوابه ، والمال عماد لكثير من أعمال
الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به .
إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلك ؛ فإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع
الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً :
1 - الجود بالنفس ، وهو أعلى مراتب الجود .
2 - الجود بالرياسة ، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم .
3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة ، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه .
4 - الجود بالعلم وبذله ، وهو أفضل من الجود بالمال ، ومنه تعليم الناس ،
وإجابة السائلين بما يشفيهم ، وهي زكاة العلم .
5 - الجود بالنفع بالجاه ، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان
ونحوه ، وهذا زكاة الجاه .
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه ، كخدمة بدنية ، وكلمة طيبة ،
وفكرة نافعة .
7 - الجود بالعِرض ، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب .
8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ . وهذا أنفع من الجود بالمال .
9 - الجود بالخلق الحسن ، والبشاشة والبسطة . وهو أعظم مما قبله .(1/258)
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس ، وترك الالتفات إليه والتعرض له
بالحال أو اللسان [3] .
وهكذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض
الأحايين - أشد احتياجاً إليها من المال ، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من
المال الذي تشغله تنمية ماله ؛ فإذا تصدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره . ثم
للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته ، وصدقه فيها مع الله تعالى كما أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله
فقال : ( فهما في الأجر سواء ) [4] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
والنية أمر يعلمه الله من القلوب ، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق
القليل حال الضراء .
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات
والجماعات .
منزلة الجود والتضحية :
الجود والتضحية شعبة من شعب الإيمان ، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا
تحصى ؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله عز وجل ، كما أن استعمالها في غير
الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها .
والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة ، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود
تلك الآيات التي تصف المؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم ، واستقرار
هذه الصفة في نفوسهم . وإنفاق المال صورة من أبرز صور الجود ، لكنها جزء
قليل منه . ومن تلك الأدلة : قوله - تعالى- : ? يٍطًعٌمٍونّ بطَّعّامّ عّلّى حٍبٌَهٌ ?
[الإنسان : 8] أي : وهم في حال يحبون فيها المال والطعام ؛ ولكنهم قدموا محبة الله
على محبة نفوسهم ، ومثله قوله : ? وآتى المال على حبه ? [البقرة : 177] .
- قوله عز وجل في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات : ? الذين
ينفقون في السراء « والضراء ? [آل عمران : 134] أي : في عسرهم ويسرهم ،
إن أيسروا أكثروا من النفقة ، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً .(1/259)
ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة . فالإنفاق حال
العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين ، وتحرير لها من سلطان الشح .
والمشاهد أن من يشح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه [5] .
- قوله تبارك وتعالى : ? ويؤثرون على أنفسهم « لو كان بهم خصاصة ?
[الحشر : 9] وهذا المقام أعلى من الذي قبله ? « ويطعمون الطعام على ?
[الإنسان : 8] ، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف
هؤلاء ، كفعل الصدّيق رضي الله عنه لما تصدق بكل ماله .
والإيثار : أكمل أنواع الجود ، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله تعالى
مقدمة على شهوات النفس ولذاتها .
وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله عز وجل قبح الشح وشناعته في
قوله : ? ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ? [الحشر : 9] ، وهذا يشمل
وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد ، فيفعله منشرح الصدر ، ويترك النهي
ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر ،
ووصول المعرفة إليه ، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله تعالى ، فيحصل الفوز
والفلاح [6] .
وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان وكان في وسعه وطاقته مذموم
جداً وسبيل الفلاح ترك الشح ، وهو أمر يعني : سماحة النفس وطيبها في فعل
أوامر الله تعالى ، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة .
تضحيات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه :
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس جوداً كما وصفه بذلك صحابته .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود
الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) [7] .
فهو صلى الله عليه وسلم في الإسراع بالجود أسرع من الريح ، وجوده دائم(1/260)
كالريح المطلقة التي لا تهب إلا بالخير والرحمة دائماً ، ونفع جوده يعم الغني
والفقير كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه من الأرض الطيبة أو غير
الطيبة .
فقد كان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان ، وهو أسوة الدعاة
والمصلحين .
وقد كان جوده متنوعاً شاملاً لكل أنواع الجود . ويعجز المرء على وصف
بذله وتضحياته لأجل الله عز وجل وهو أمر لا يخفى يدركه جيداً من تأمل سيرته ،
وسير سنته ، وأكثر النظر فيها ، ولأجل التمثيل فقط أسوق هذه النصوص :
عن أنس رضي الله عنه قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال : ( فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى
قومه فقال : يا قوم أسلموا ؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ) [8]
وصُوَرُ جوده بالمال يضيق عنها المقام ، ويكفي أنه أعطى أناساً ألحوا عليه مع
أحقية غيرهم خشية أن يسألوه بالفحش ، أو يصفوه بالبخل [9] ، فما أحرى هذا
بالتأمل الطويل !
وعنه قال : ( إن كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله
عليه وسلم ، فتنطلق به حيث شاءت ) [10] فكان صلى الله عليه وسلم باذلاً لجاهه
ووقته وراحته وماله ... في مرضاة الله تعالى ونفع الخلق .
كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يحصل غاية ما يريده من الجاه ، ونيل
الرئاسة والشرف ، والتمتع بزهرة الدنيا من النساء وسائر الملذات ، وتحصيل
الراحة والرفاهية ورغد العيش ، ولكنه ترك كل ذلك لله عز وجل وضحى بكل ما
آتاه الله عز وجل فبذل نفسه وماله ، ووقته وجهده ، وجاهه وراحته ، وأرخص كل
ذلك في سبيل الله .
وقد بدأت معه رحلة المعاناة منذ صعد الصفاة ، وأنذر عشيرته الأقربين ،
فوصفوه بالسحر والجنون بعد أن كان الصادق الأمين ، وأوذي وأصحابه أشد(1/261)
الأذى ، وابتلوا أعظم البلاء ، فصار يعرض نفسه على القبائل في الحج يطلب حمايته ليبلِّغ دين الله ، وقصد الطائف لعله يجد بغيته ، فرجع مُدمى القدمين طريداً ، وحوصر وأصحابه وأنصاره في الشعب ثلاث سنين حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع . ويعاني الصحابة من صنوف البلاء وألوان الشدائد
ما لا يخفى ، ويواجه بعضهم الموت كآل ياسر وخباب وبلال .
ويخرج بعض أصحابه إلى الحبشة طلباً للنصرة ، ويصبرون على مفارقة
الأهل والأولاد والأوطان ، ويتسامعون بإسلام بعض الصناديد المشركين ، فيعود
بعضهم إلى مكة ليجدوا أشد مما كانوا يعانون ، ثم يعودون ثانية إلى الحبشة ، ومعهم
آخرون في رحلة عناء أخرى . ثم يأذن الله بالهجرة إلى المدينة ، ويهاجر صلى الله
عليه وسلم وسائر أصحابه ، ثم يكابدون الغربة ، وكثرة الأعداء ، وأذى المنافقين
واليهود ، وقتال الأهل والعشيرة .
وقد كان لكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صفحات
طويلة من البذل والتضحيات ، فيهجر مصعب رضي الله عنه النعيم والدعة ويهاجر
داعية إلى الإسلام في المدينة ، ويعرِّض علي رضي الله عنه نفسه للهلاك بنومه في
فراش النبي صلى الله عليه وسلم عشية الهجرة ، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء
في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه ، ويُعرِض أبو الدرداء عن التجارة
تفرغاً لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتقبل خالد بن الوليد التنازل عن
منصبه طاعة لأمير المؤمنين ، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن
العاص جمعاً لكلمة المسلمين ، ويرفض الحسن بن علي الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً
للكلمة ، ويقبِّل عامر بن عبد الله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى
المسلمين ... [11] .
ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية ؛ فقد ضحت أم
سلمة بشمل الأسرة ، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة ، ولا يخفى جهد(1/262)
أسماء وعناؤها أثناء الهجرة ، ولا تضحيتها بابنها عبدالله بن الزبير في سبيل نصرة
الحق .
لا تقوم الدعوات إلا بالتضحيات :
باستقراء الحقائق ، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي :
1- كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها ، ودين الإسلام لم ينتشر براحة
الأبدان وسلامة النفوس .
2- تتسع الثغرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم ، وتكثر المجالات
الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها
3 - يتزامن مع هذا قلة الموارد ، وجفاف المنابع ، وضيق ذات الدعاة مما
يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج .
4 - هذا الواقع الصعب يواجه أفراداً ممن عرفوا واجبهم ورأوا خطورة الأمر
في حين أنه يحتاج إلى اجتماع الجهود واستعداد كل داعية غيور بالجود
والتضحية .
5 - وفي المقابل تزداد جهود أهل الباطل قوة ، وتزداد مخططاتهم دقة ،
وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب .
ونجد هنا شكوى عمر رضي الله عنه المُرَّةَ ماثلةً : ( اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ
الفاجر وعجز الثقة ) ، ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله ، ودليل الصدق
الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعوة في وقت كهذا ، وهو
الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل ، وشتان بين من يضحي وهو يرى
ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر ، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه
أمارات النصر ودلائل التمكين ، قال الله عز وجل : ? لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن
قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ
الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ? . [الحديد : 10] .
موانع الجود والتضحية :
إن للتخاذل أسباباً أساسها ضعف الإيمان ، وبرود اليقين ، ومردها إهمال
التربية أو ضعفها ، وإن كان كثير منها يعود إلى الشح بالمال ، لكنها تحتمل وجوهاً
أخرى إضافة إلى أسباب أخرى عامة ، منها :(1/263)
1 - طول الأمل .
2 - التفات القلب إلى الولد . وهو يقوم مقام طول الأمل عند كثير من
الناس ؛ لأنه يحمل على الجبن والبخل والحزن ، لأن ( الولد مجبنة ،
مبخلة ) [12] .
3 - فتنة الأزواج .
4 - الركون إلى الدنيا ، وكونها الهمَّ والشغل الشاغل ، وإيثار الدعة
والراحة .
5 - حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال .
6 - حب عين المال ، والسعي للغنى والهروب من الفقر بلا نية صالحة .
7 - تزعزع القناعة ، والثقة ، وسلامة الطريق الذي يسير عليه .
8 - انعدام الجدية ، ودنو الهمة ، والعجز والكسل .
9 - الانشغال بالتضحية من أجل أهداف ومصالح شخصية .
10 - الوصول إلى بعض الأهداف الدنيوية لنيل شهرة ، أو تحصيل جاه أو
شرف ، أو منصب ، يكون نهاية الجهد والعمل [13] .
11 - ضعف معرفة الواقع ، وضخامة حاجة الدعوة ، وجهود الأعداء ، أو
الجهل بذلك .
12 - الشعور بالأثرة ، وحب النفس .
وبعض هذه الأسباب كافٍ في تحطيم الداعية ، وتسبيط همته على البذل
والتضحية .
بواعث الجود والتضحية :
يحصل بعث النفس على التضحية بأمور هي في حقيقتها علاج للعلل المانعة
منها ؛ وذلك بالأمور الآتية :
1- دفع كل علة من العلل السابقة بما يضاد سببها ؛ فعلاج حب الشهوات :
القناعة والصبر ، وعلاج طول الأمل : كثرة ذكر الموت ، وعلاج التفات القلب إلى
الولد : اليقين بتكفل الله عز وجل برزقه ورعايته ، وعلاج حب المال : تعميق
محبة الله في القلب ، ومحاولة بذل القليل إضعافاً لمحبة المال .
2 - معرفة حقيقة الابتلاء بالنعم ، وأن لله تعالى في كل نعمة شكراً يليق بها ؛
فالصحة لها شكر يناسبها ، وكذا الوقت والجاه والقوة والذكاء والمال ، وأن كلاً منها
منحة وعطية ورعاية من الله عز وجل لينظر الله أعمالنا ، ويظهر الشاكر من
الكفور .
قال الله عز وجل : ? وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ(1/264)
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ ? [الأنعام : 561] .
3 - تذكُّر بعض الحقائق المتصلة بالإنفاق ، ومنها :
أ - أن ما قدمه الإنسان فلنفسه ، فهو المستفيد منه حقاً .
ب - أن مال الإنسان حقيقة هو ما أنفقه في حياته ، أما ما تركه فهو مال
الورثة ، كما في الحديث [14] .
ج - أن إخراج ما زاد على حاجة الإنسان هو الخير له ، ( يا ابن آدم إنك أن
تبذل الفضل خير لك ، وأن تمسكه شر لك ... ) [15] .
د - أنه يمكن للإنسان أن يكفيه القليل من المال ، فما حاجته إلى الباقي ؟
هـ - أنه لا حق للعبد في مال زاد عن حاجته في وقت اشتداد الحاجة ، كما
في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان له فضل ظهر فليعد به
على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له ) . قال
أبو سعيد الخدري : ( فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا
في فضل ) [16] .
4 - معرفة منزلة الإنفاق وفضله وفوائده ، ومنها :
أ - أن الله يُخْلِفُ له ما أنفق ، قال تعالى : ? وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ
وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? [سبأ : 39] مع أنه في الحقيقة هو الباقي عند الله تعالى في
الآخرة .
ب - أنه عز وجل يبارك فيما بقي ، ومن أصدق الأدلة المحسوسة : أن الله
بارك في أوقات العلماء الصادقين فعملوا ما يصعب تصوره في الحسابات المادية ،
وبارك في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم ؛ فبلغت مبلغاً من النفع والأثر ما لم يخطر لهم
على بال مما يكاد ألاَّ يتصوره غيرهم ، وقد كانوا عظيمي التضحية بأوقاتهم
وعلومهم . قال عز وجل : ? الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم
مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة : 268] .(1/265)
5- معرفة واقع المسلمين وحاجاتهم ، وخطط الأعداء وجهودهم ، والتقصير
الحاصل في فروض الكفايات ، مما يزيد الواجب وجوباً على أهل الكفاية والغنى
والمواهب والقدرات .
6 - التعود على تقديم القليل حال الفقر والحاجة ، وبشكل أخص في أوقات
الشدائد والأزمات ، التي تكثر فيها حاجات الدعوة ، وتستدعي مزيداً من
التضحيات .
دلائل الجود والتضحية وثمراتهما :
1 - كمال الإيمان : وذلك لأن التضحية شعبة من شعبه ، يزيد بها الإيمان ،
وينقص بتركها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه ) [17] .
2 - حصول شرف التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أمارة أيضاً
على قوة الإيمان لقوله عز وجل : ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ َثِيراً ? . [ الأحزاب : 21] .
3 - عدم الركون إلى الدنيا ، والتعلق بالآخرة ، وهو طريق سعادة العبد .
4 - تحصيل قناعة القلب وغنى النفس ، وهو الغنى الحقيقي ؛ لارتباط
صاحبه بربه عز وجل .
5 - ضمان الخلف لما أنفق ، وحصول البركة لما بقي . وقد جاء في
الحديث : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، يقول أحدهما : اللهم
أعطِ منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ) [18] .
وهو مفهوم القاعدة المشهورة : من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ،
وأمثلتها في القرآن كثيرة : هجر إبراهيم عليه السلام قومه واعتزالهم فعوضه الله
الذرية الصالحة ، وضحَّى يوسف عليه السلام بالشهوة فعوضه الله بالملك يتمتع
بالمباحات ، وضحَّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا بالراحة الأعظم ، وكانوا سبباً
لهداية الضالين ، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوضهم الله بالرزق والعز
والتمكين ، وجمع شملهم بعد فرقة ... وهكذا فكل من ترك ما تهواه نفسه وضحى به(1/266)
لله تعالى ، وجاد به في سبيله لرفعه كلمته عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة
إليه ما يفوق لذَّات الدنيا كلها [19] .
6 - ما يترتب على التضحية والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا
تخطر ببال صاحبها ، ولا يعلم مداها إلا الله تعالى ، مصداق حديث النبي صلى الله
عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك
من أجورهم شيئاً ) [20] .
وختاماً :
فما دامت الدعوات لا تقوم إلا على التضحيات فقد أدرك كل واحد
من الدعاة ما يجب عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
________________________
(1) انظر : المعجم الوسيط ، مادة (ضحي) .
(2) والتضحية كما تكون بالبذل تكون أيضاً بالكف والتراجع عن بعض المواقف والمكاسب لتحقيق مكاسب أخرى أكبر وأهم كما سيأتي .
(3) انظر المدارج ، 2/279 ، 282 .
(4) رواه ابن ماجه ، ح/ 4228 ، وانظر صحيح سنن ابن ماجه ، ح / 3406 .
(5) خواطر في الدعوة ، للصبّاغ ، ص 145 .
(6) تفسير السعدي ، ص 805 .
(7) رواه البخاري ح/ 6 .
(8) رواه مسلم ، ح/ 1056 .
(9) رواه مسلم ، ح/1056 .
(10) رواه البخاري ، ح/ 6072 .
(11) وهذه الصور الأخيرة من التضحية تدل على أن التضحية قد تكون بالكف والترك والتراجع عن بعض المواقف ، وترك بعض المصالح لكسب مصالح أكبر منها واعظم ، وهذا من مواقف الحكمة (راجع الرسالة السابقة في الحكمة) .
(12) أخرجه أحمد 4/172 ، وانظر : صحيح الجامع ، ح/7160 ، 2/ 1202 .
(13) راجع الرسالة التاسعة (الرغبة في الصدارة والتطلع للأمارة) من هذه الرسائل .
(14) الحديث رواه البخاري ، ح/ 2446 ، وفي آخره : (فإن ماله ما قدم ، ومال وُرَّاثه ما أخر) .
(15) رواه مسلم ، ح/ 1036 .
(16) رواه مسلم ، ح/ 1354 .
(17) رواه البخاري ، ح/ 8316 .
(18) متفق عليه (خ/ 142 ، م/1010) .
(19) انظر : مجتنى الفوائد الدعوية والتربوية من مؤلفات السعدي ، ص 90 .(1/267)
(20) رواه مسلم ، ح/ 2674 .
دراسات تربوية
أيش ضرَّ أبا الحسنِ انصرافي ؟
أكرم عصبان الحضرمي
إنَّ هذه النصيحة الغالية ، والحكمة البالغة التي أطلقها الإمام الصَيْمَري [1]
عليه رحمة الله تأسفاً على فوات كثير من العلم والاستفادة من عَلَمٍ من أعلام
الحديث ، لتمثل لنا سِراجاً نستنير به في ظلمات الهجر غير المنضبط الذي خيَّم في سماء صحوتنا ، والذي يمثل عقبة في طريق العلم والاستفادة .
إنَّ مَنْ تفقه في هذه العبارة ، وتأملها كل التأمل ، انتفع بها غاية الانتفاع ؛
لأنها تعالج لنا واقعاً من الانحراف في حياتنا التعليمية ومنهجاً معوجاً في التعامل مع
اجتهاد العلماء ، وأخطائهم ، وتتضح لنا خطورة هذا المسلك حين تأتي الثمار السيئة
من تفويت الخير الكثير في ترك جهود العلماء المشهود لهم بالعلم الراسخ والقدَمَ
الثابت .
من أجل هذا وغيره أضحت هذه المشكلة جديرة بالوقوف أمامها وصرف
النظر إليها ، إنها مشكلة الازورار عن العلم (دروساً وكتباً وأشرطة ... ) بسبب
بعض الاجتهادات والأخطاء ، فما هو خبر الصَيْمَري ؟
لنستمع إليه يحدثنا عن خبره .
قال الخطيب : قال لي الصَيْمَري : ( سمعتُ من الدارقطني [2] أجزاءاً من
سننه ، وانقطعتُ لكونه ليَّن أبا يوسف ، وليتني لم أفعل ، إيش ضرَّ أبا الحسن
انصرافي ؟ ) [3] .
تشخيص الظاهرة :
إنه يشخِّص الظاهرةَ (الانقطاع عن دروس الدارقطني) ولقد انتشرت هذه
الظاهرة في عصرنا وفشت ، فكم من مجالسَ للعلماء تُهجَرُ ، وكم من كتب تحرق ،
وكم من أشرطة ترمى ! بل وصل الأمر ذروته وبلغ السيل الزبى حين يُهْجَرُ مَنْ لَمْ
يَهْجُرْ تلك الأمور ، وهذه لعمري قاصمةُ الظهر ، فلم يقطعوا دروسَ الدارقطني
فحسبْ ، بل قطعوا من لم ينقطع من دروسه ، وهذه من فرائِد عصرِنا وهذا مخالف
لميزان الإنصاف : ? قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا
لظالمون ? } . [يوسف : 79] .
أسباب الظاهرة :(1/268)
إن سبب الانقطاع (لكونه ليَّن أبا يوسف) [4] صاحب أبي حنيفة وأحد أئمة
الأحناف وأركان المذهب ، فالصَيْمَري لم يتحملْ كلام الدارقطني فيه فترك مجلسه ؛
وهذا نَعدُّه تعصباً منه رحمه الله وانتصاراً لإمامه .
داء التعصب :
فالتعصب إذن مَزَلةُ أقدام ، ومَظنّة أفهام ، وآفة من آفات العلم ، ( وهو انتحالُ
مجموعةٍ من الناسِ مذهباً أو انتخابُ آراء بحيثُ لا يبغون عنها حولاً ولا يريدون
بها بدلاً ) .
إن الدارقطني أدَّاه اجتهادُه وهو إمامُ الحديث ورجاله إلى تليين أبي يوسف ؛
فعلامَ يُترك الأخذ عن مجتهدٍ قد يكون رأيه هو الحق ، ومذهبُه هو الصواب ؟ ولكنه
التعصب الذي يَحْرِم صاحبَه التعلم ! قال حُسَيْنَكُ بنُ علي : أول ما سألني ابنُ
خزيمة فقال : كتبت عن محمد بن جعفر الطبري ؟ قلت : لا . قال : ولِمَ ؟ قلت :
لأنه كان لا يَظْهرُ وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه [5] . قال : ( بئسَ ما
فعلت . ليتَكَ لم تكتبْ عن كلِّ ما كتبتَ عنهم ، وسمعتَ من أبي جعفر ) [6] .
فالواجب على طالب العلم ألا يتحيَّزَ لمذهبٍ معينٍ ، ولا لآراء خاصة ، وإنَّما
ينتخب من الأقوال ما وافق الحق ، ويجتنبُ ما خالفه .
التسرع في الحكم وعدم التثبت :
وتزداد الزاوية انفراجاً عند ترك التثبت ، والتسرع في الحكم ؛ فإن اجتهاد
الدارقطني يُنظرُ إليه ، فقد سبقه إلى ذلك نفرٌ من علماءِ الجرح والتعديل منهم شيخ
المحدثين البخاري فقبلَ هجره يُتبَيَّنُ قوله ، كما قال الحسنُ البصري رحمه الله :
( المؤمنُ وقَّاف حتى يتبين ) [7] .
فإن أصاب فنعمَّا هو ، وإن أخطأ فالكمال عزيز ، وإنما يمدحُ العالمُ بكثرة ما
له من الفضائل ؛ فلا تدفنُ المحاسنُ لورطة ربما رجع عنها وقد يَغْفِرُ الله له
باستفراغه الوُسعَ في طلب الحق فيه ، ولمن ثبت عنده ذلك الخطأ أن يجادل بالتي
هي أحسن ، ويرشده إلى الحق مع حفظ الأخوة ، وبقاء الاستفادة ؛ فكم من علمٍ فاتَ
بسبب التسرع وعدم التثبت .(1/269)
قال قيسُ بن الربيع : ( قدم علينا قتادة الكوفة فأردنا أن نأتيه فقيل : إنه
يُبغِض علياً ، ثم قيل : إنه أبعدُ الناس من هذا ؛ فأخذْنا عن رجل عنه ) [8] .
كم فاتهم من الخير ، وأي خسارة خسروا حين نزل سندهم فأخذوا العلم نازلاً
بعد إمكان أخذه عالياً ، وانظر إلى السند والإحالة تجدها عن مجهول ( قيل : إنه
يبغض علياً ) . وقيل : ( إنه أبعد من هذا ) ، فأين تعاليم القرآن ؟ ? {يا أيُّها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين ? [ الحجرات : 6] .
التعصب وسوء الظن :
وتزداد زاوية الانفراج للتعصب أكثر حين يُولِّدُ ظنوناً سيئةً ألا ( وإن الظن
أكذب الحديث ) [9] ويؤدي إلى تتبع العثرات ، وترصُّد الزلات ، ويبدأ الخلاف في
فرعية صغيرة فيرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة . قال
الذهبي : ( قرأت بخط الموفَّقِ قال : سمعنا درسه أي ابن عُصْرُون مع أخي أبي عمر وانقطعنا . فسمعت أخي يقول : دخلت عليه بعدُ ، فقال : لِمَ انقطعتم عني ؟ قلت : إن ناساً يقولون : إنك أشعري . فقال : ( والله ما أنا بأشعري ) [10] هذا معنى الحكاية .
وهذه الصورة من التعصب تظهر في عصرنا في أكمل مبانيها ، وفي أوضح
معانيها ؛ فمن تكلم بنصوصٍ في الحاكمية من وجوب الحكم بما أنزل الله ، والتحذير
من القوانين الوضعية ، والأحكام الدولية ، يُهْجَرُ أولاً ويعدُّ خارجياً ثانياً ، كما أن
مَن لم يرَ إقحامَ الأمةِ في ظلماتِ الخروج غير المنضبط بالضوابط الشرعية يعد
مُرْجئاً جَهْمياً .
إن الظنَّ السيئَ ، والاتهام بالبدعة ، والتسرع في ذلك ، رُوِّع بها شيوخ [11]
وظلم بها علماء وهُجِرَ بها دعاةٌ لا يرون مسوِّغات ذلك ، كما قال الأول : (وأرى
العداوة لا أرى أسبابها) وكل ذلك بسبب أسانيد منقطعة (يقولون) ويرد ابن عصرون
هذه الفرية مؤكداً كلامه بالقسم : (والله ما أنا بأشعري) ، وكان حاله كحال
القائل [12] :(1/270)
ولكني ظلمت فكدت أبكي من الظلم المبيَّن أو بكيت
الكذب وكيد الشيطان :
انظر كيف يُكذَبُ على العلماءِ بسندٍ مبهمٍ لا يُعرفُ قائله أجنيٌ أم إنسي ؟ ومن
يدري ؟ لعل الشيطان هو الذي نقله ! وما ذلك ببعيد ، فقد قال أبو عمر ابن عبد
البر : (روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب فقالت : إن صفية تحبُّ السبت وتصل اليهود ، فبعث عمر يسألها فقالت : أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة ، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً ، فأنا أصلها ، ثم قالت : يا جارية ما
حملك على ما صنعتِ ؟ قالت : الشيطان . قالت : فاذهبي فأنت حرة ) [13] .
ولكن إنْ مَرَّ كيدُ الشيطان على بعض العلماء فإنه لا يمرُّ على عمر رضي الله
عنه الذي كان الشيطان يَفْرَقُ منه . وهكذا نجدُ أن الشيطان قد نَصَب أحابيله وأقامَ
شِراكه ودبَّر مكائده حتى يصطاد العلماء وطلبة العلم فيها . فلا يُغْفَلُ عملهُ ؛ إنه
دورُ : ( ولكن بالتحريش بينهم ) [14] .
مراعاة التخصصص :
والحاصل أن الدارقطني رحمه الله حين تكلم فيما تكلم لم يجاوز فنه ، ولم يتعد
تخصصه ، فقد كان إمام الجرحِ والتعديل ، والحديث عن الرجال ، فلا يعنَّفُ ولا
يُهْجَر . فإذا كان المخطئ في غير فنِّه يُرْفَقُ به ، ويردُّ إلى الصواب فمن باب أوْلى
المتخصص . ومن هنا ردَّ العلماءُ على ابنِ طاهر حين قال : ( وأقبحُ ما رأيتُ في
قولِ إمام الحرمين [15] في كتاب أصول الفقه : والعمدة في هذا الباب على حديث
معاذ) قال : (وهذه زلةٌ منه ولو كان عالماً بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة ) .
قال الحافظ : ( قلت : أساء الأدب على إمام الحرمين ، وكان يمكنه أن يعبِّر
بألين من هذه العبارة ، مع أن كلام إمام الحرمين أشدُّ مما نقله عنه ، فإنه قال :
(والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه التأويل) [16] .
فهذا في مَنْ لم يبلغ المرتبة العالية في هذا الفن ( أما من بلغَ مرتبة الرسوخِ(1/271)
والإفادةِ ، وكان على جانب عظيم من العلم كالدارقطني ، وانتحل مما انتحل عن
اجتهادٍ ونظرٍ فلا يُرتابُ في العناية بالأخذ عنه والتلقي منه ) .
ثمرة فعل الصيمري :
لقد نعتَ ابنُ كثير الإمامَ الصَيْمَري بأنَّه كان عارفاً بحقوقِ العلماءِ ، ومن حقِ
الدارقطني عليه أن لا يقطعه بل ينْصَحه ولذلك قال : ليتني لم أفعلْ ! [17] . إنه لم
يَزدْ على تركِ مجلسه ، فلم يتكلم فيه بل حفظ لسانه . وتُعَدُّ هذه في عصرنا منقبة
للهَاجِرِ ليقابل من يعنِّف على مخالفه ويفسِّقه ويبدِّعه ، وأين هذا المسلك الذي سلكه
الصَيْمَري من مسلك زاهد الكوثري الحنفي الذي آذى العلماء الذين تكلموا في أبي
يوسف أمثال البخاري ، والخطيب والعقيلي ونبز الأخير بأنه حشوي [18] . فهذا
يعتبر عقوقاً من الخَلَفِ بتركِ مسلك السلف !
ثم قال : ( إيشٍ ضرَّ أبا الحسن انصرافي ؟ ) لم يضرَّه شيئاً بل بقي إمامَ
عصره . إن انجفال طلبة العلم عن علماء السُّنَّة والدعاة إليها بسبب اجتهاد أو خطأ
يفوِّتُ عليهم وا أسفا علماً جماً ، وخيراً كثيراً ?ومّا يٍضٌلٍَونّ إلاَّ أّنفٍسّهٍم مّا
يّشًعٍرٍونّ? [آل عمران : 69] . ولا يَبْعُدُ أن يكونَ ذلك عقوبةَ الظلم ، وترك
الإنصاف ؛ وما ضرَّهم لو صححوا الخطأ واعتذروا له ؟ ورحم الله ابن
الوردي [19] حين قال :
والناسُ لم يصنِّفوا في العلمِ ما صنَّفوا إلا رجاءَ الأجرِ
لكنْ قديتُ جَسداً بلا حسدْ واللهُ عندَ قولِ كلِّ قائلِ
لكيْ يَصْيروا هَدَفاً للذمِّ والدَعَواتِ وجَميلِ الذكرِ
ولا يُضيعُ الله حقاً لأحدْ وذو الحجَا في نفسِه في شاغلِ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
________________________
(1) أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري ، أحد أئمة الحنفية كان صدوقاً وافر العقل عارفاً بحقوق العلماء البداية والنهاية ، 12/57 ، السير ، 17/615 .(1/272)
(2) أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني صاحب السنن الحافظ المجوِّد ، كان من بحور العلم وأحد أئمة الدنيا ، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله ، البداية والنهاية ، 11/307 ، السير 16/449 .
(3) سير أعلام النبلاء ، 17/616 .
(4) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة الإمام المجتهد ، لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل .
(5) وقع بين محمد بن جرير وأبي بكر أمور وكانت الحنابلة حزب ابن أبي بكر فكثروا وشغبوا عليه السير ، 14/277 ، وقد صدق ابن عقيل حيث يقول : ( رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز ولا أقول العوام بل العلماء ، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة ، في أيام ابن يونس فكانوا يستطيلون على أصحاب الشافعي فلما جاءت أيام النظَّام استطال عليهم أصحاب الشافعي فتدبرت أمر الفريقين فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم ) ، شرح الإقناع ، 1309 .
(6) سير أعلام النبلاء ، 14/262 ، طبقات السبكي ، 2/137 .
(7) الفتاوى لشيخ الإسلام ، 10/382 .
(8) سير أعلام النبلاء ، 5/272 .
(9) جزء من حديث صحيح عند البخاري من حديث أبي هريرة .
(10) وقد تعقب السبكي الأشعري تلميذ الذهبي على شيخه هذه القصة بما لا طائل تحته ؛ وهذا يعد تعصباً أيضاً وجرأة على شيخه انظر طبقات السبكي ، ترجمة ابن عصرون ، وحاشية السير ، 21/129 ، سير أعلام النبلاء ، 21/129 .
(11) ومن الصور المبكية أن الكيا الهراسي أشيع أنه باطني إسماعيلي فنمت له فتنة هائلة هو بريء منها ، ولكن وقع الاشتباه على الناقل ، فإن ابن الصباح باطني إسماعيلي كان يلقب الكيا ثم ظهر الأمر وفرجت الكربة ، الطبقات الكبرى .
(12) سنان بن الفحل الطائي .
(13) السير ، 2/231 .
(14) رواه مسلم ، ح/5030 .(1/273)
(15) قال الذهبي : كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال : هو مدون في الصحاح متفق على صحته ، السير 18/471 .
(16) السلسلة الضعيفة ، 2/28 .
(17) يقول تعالى : ] ولا تنسوا الفضل بينكم} [ [البقرة : 237] .
(18) حاشية مناقب أبي حنيفة وصاحبيه ، ص 72 .
(19) ويقول الحريري : وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جلَّ الذي لا عيبَ فيه ، وعلا .
تأملات دعوية
الناس كالإبل المائة
محمد بن عبد الله الدويش
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : « إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة » [1] .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث : « قال الخطابي : تأولوا هذا
الحديث على وجهين : أحدهما : أن الناس في أحكام الدين سواءٌ لا فضل فيها
لشريف على مشروف ، ولا لرفيع على وضيع ، كالإبل المائة التي لا يكون فيها
راحلة وهي التي ترحل لتركب ، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة ، أي كلها حمولة
تصلح للحمل ، ولا تصلح للرحل والركوب عليها . والثاني : أن أكثر الناس أهل
نقص ، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً ؛ فهم بمنزلة الراحلة في الإبل المحمولة ،
ومنه قوله تعالى : ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? ( الأعراف : 187 ) » .
ورجح الثاني الأزهري ، و النووي ، و القرطبي ، وغيرهم .
ولا شك أن المعنيين ثابتان بأدلة أخرى ، ومرادنا هنا المعنى الثاني ، وسواء
أكان هو المراد بهذا الحديث ، أم المراد غيره فهكذا شأن الناس ؛ فالقليل منهم هو
الذي يُعتمَدُ عليه ، وأكثرهم دون ذلك .
وفي هذا المعنى وقفات عدة :
الوقفة الأولى : أن على الدعاة والمربين الاعتناء بالعناصر الفاعلة المتميزة ؛
إذ هم قليل في الناس ، عزيزٌ وجودهم ، وأثر استجابتهم للدعوة لا يقاس بأثر
غيرهم .(1/274)
ولهم في ذلك أسوة حسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول : « اللهم
أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل ، أو بعمر بن الخطاب » [2] .
وقد كان السلف يُعنَوْن بأمثال هؤلاء ؛ ومن صور هذه العناية ما رواه
الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال : كان ابن أبي حسين المكي
يدنيني ، فقال له أصحاب الحديث : نراك تقدم هذا الغلام الشامي وتُؤْثِرُه علينا ؟
فقال : إني أؤمِّله . فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر : إذا جمع الطعام
أربعاً فقد كمل ، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة ، فسألني عن ذلك ، فقال لي : كيف
حدثتكم ؟ فقلت : حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل : إذا كان أوله
حلالاً ، وسُمِّيَ عليه الله حين يوضع ، وكثُرت عليه الأيدي ، وحُمِدَ الله حين يُرفَع .
فأقبل على القوم ، فقال : كيف ترون ؟ [3] .
الوقفة الثانية : حين يدرك الداعية والمربي هذا المعنى يدعوه ذلك لأن يكون
واقعياً فيما يطلبه من الناس وينتظره منهم ؛ فالناس لن يكونوا كلهم رواحل ، ولا
يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس جميعاً أن يصلوا إليها .
الوقفة الثالثة : حين نرى صورة واقعية من أحد من الناس ، فلا يسوغ أن
نتخذها نموذجاً نقارن الآخرين به ، وننتظر منهم أن يصلوا إلى ما يصل إليه . ومن
الصور الشائعة في ذلك ما يصنعه بعض الآباء مع أبنائه ، أو بعض المعلمين مع
طلابه حين يعجب بأحدهم فينتظر من الآخرين أن يكونوا مثله ، وأن يصلوا إلى ما
وصل إليه .
الوقفة الرابعة : ليس معيار الاختلاف بين الناس قاصراً على القدرات العقلية
والذهنية وحدها ؛ فهم يتفاوتون في تحملهم للأعباء ، وفي جديتهم ، وفي تضخيمهم
للمخاطر ، وفي قدراتهم النفسية .. .. إلخ هذه العوامل ، وهي كلها مما لا بد من
أخذه في الاعتبار .
الوقفة الخامسة : إدراك هذا المعنى يجعل المسلم عالي الهمة ، متطلعاً للمزيد ،(1/275)
ينظر في العلم والصلاح إلى من هو فوقه ، ولا ينظر إلى من هو دونه .
________________________
(1) رواه البخاري (6498) ، و مسلم (2547) .
(2) رواه أحمد (5363) ، 2/95 ، والترمذي (5681) .
(3) الجامع ، 1/312 .
دراسات تربوية
التربية بترسيخ الأهداف
محمد عبد الله محمد آل عباس
إن القارئ المتابع لأحوال المجتمعات الإنسانية اليوم ليعجب أشد العجب لشتى
صور الانحراف التي سادت العالم اليوم التي تمثل أصدق تعبير لما يسود العالم من
جاهلية معاصرة ؛ فالجاهلية ليست محددة بفترة معينة من التاريخ مضت إلى غير
رجوع ؛ وإنما هي صور وأوضاع ومظاهر يمكن أن تظهر في أي جيل وأي عصر . إن الجاهلية المقصودة ليست مقابل العلم أو الحضارة أو التقدم المادي ؛ فالقرآن
الكريم لم يقل إن العرب كانوا في جاهلية ؛ لأنهم لا يعرفون الفَلَك وعلم الطبيعة وإلا
لكان البديل لمثل هذا الجهل معلومات في تلك العلوم التي أصابها التخلف
والجهل[1] ، وإنما كان البديل للجاهلية التي كانت عليها البشرية قبل الرسالة هو الإسلام .
وَلِتَفَهُّمِ الجاهلية التي جاء الإسلام بديلاً عنها لا بد من فهم معنى الإسلام . إن
الإيمان بالإسلام إيماناً حقاً يبلغ أغوار النفس ، ويحيط بكل جوانبها من إدراك
وإرادة ووجدان ، وهو كذلك عمل جسدي تؤديه الجوارح كما شرع الله ؛ فالإسلام
عقيدة وسلوك جاء ليصحح العقائد التي كانت منحرفة والتصورات عن الإله والكون
والحياة . وجاء أيضاً ليصحح السلوكيات المنحرفة التي انبعثت من عقائد منحرفة ؛
ولذلك كان هدف الدعوة الإسلامية الأول هو تصحيح العقيدة باعتبارها المنطلق لبناء
الشخصية المسلمة .
العقيدة والهدف والسلوك :
إن الارتباط بين عقيدة الإنسان وأهدافه وسلوكياته ليبدو وثيقاً ؛ فما أهداف
الإنسان إلا تعبير ذهني عن عقيدته ، وما سلوكه إلا تعبير عملي عن أهدافه .
فالأهداف على هذا تمثل الرابط الفكري بين سلوكيات المرء وعقيدته .(1/276)
فالعرب قبل الإسلام لم يكونوا يؤمنون باليوم الآخر .
? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ? ( سبأ : 7-8 ) .
فكان من أثر انحراف هذه العقيدة انحراف في أهداف الإنسان تمثَّلَ في اعتبار
هذه الحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة إذا لم يكسبها الإنسان ذهبت إلى غير رجعة ،
فانكب على الحصول على الملذات تعبيراً في سلوكه عن أهدافه والحصول على
المحرمات والألقاب الزائفة حتى لو كان عن طريق النهب والسلب والقتل ؛ فهذا
( طرفة بن العبد ) يقول في معلقته :
ألا أيهذا اللائمي أن أحضر الوغى وأن أشهد اللذَّات هل أنت مُخْلدي ؟
لذلك جاء الإسلام ليصحح العقائد والسلوكيات عن طريق ربط كل منهما
بالأهداف ؛ فقد رفع الإسلام أهداف الإنسان وتسامى بها من أهداف دنيوية زائلة إلى
أهداف أبدية وخلود دائم ؛ فقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس :
« يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » [2] .
ففيها إصلاح للعقيدة وإصلاح للهدف . وهكذا ركزت السور المكية القرآنية في
أول الدعوة على تصحيح العقيدة ، وأن الله وحده الإله المتصرف في هذا الكون .
قال الله تعالى : ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن
لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ? ( الإِخلاص : 1-4 ) .
وفي العقيدة أيضاً تصحيح هدف الإنسان الأسمى وذلك بجعله هو الفوز بالجنة
والنجاة من النار : ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ ? ( آل
عمران : 185 ) .
فتحديد الهدف من الأعمال المهمة لتصحيح السلوكيات ولذلك وجدنا الرسول(1/277)
الكريم صلى الله عليه وسلم يقول : « ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من
قاتل على عصبية ، وليس منا مات على عصبية » [3] . وفي هذا إلغاء لهدف كان
يعتبر من أسمى أهداف الجاهلية ألا وهو التعصب للقبيلة والنسب .
ولقد اتبع القرآن في توجيهاته أسلوب ربْط السلوك السوي الذي لا بد أن يكون
عليه المرء المسلم بالهدف الذي لا بد أن يسعى إليه ، فكان ذلك تصحيحاً للهدف
والسلوك معاً قال تعالى : ? إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ
فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ....... أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ?
( المعارج : 22-35 ) .
وقال تعالى : ? إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً
دِهَاقاً * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً * جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً .
( النبأ : 31-36 )
لذلك ظهر ذلك الجيل الذي تسامى فوق الأهداف الصغيرة والتطلعات
الدنيوية الحقيرة ليسعى نحو الهدف السامي عن طريق سلوك سوي لعمارة الأرض
كما شرع الله بعد أن امتلك عقيدة سوية .
قال شداد بن الهاد : « جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فآمن به واتبعه ، فقال : أهاجر معك . فأوصى به بعض أصحابه ؛ فلما كانت
غزوة خيبر غنم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسمه وقسم للأعرابي ، فأعطى
أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه ، فقال : ما هذا ؟
قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ، فجاء به النبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : قسم قسمته لك . قال : ما على
هذا تبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أُرمى ها هنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت ،
فأدخل الجنة . فقال : إن تَصْدُقِ اللهَ يصدقْكَ ، ثم نهضوا إلى قتال العدو ، فأُتي به(1/278)
للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول ، فقال : أهو هو ؟ قالوا : نعم ! صدق الله
فصدقه » [4] .
وحينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر : « قوموا إلى جنة عرضها
السماوات والأرض فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله ! جنة عرضها
السماوات والأرض ؟ قال : نعم ! قال : بخ بخ . قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال : لا والله ! يا رسول الله إلا رجاء أن
أكون من أهلها . قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييتُ حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة ، ثم قاتلهم حتى
قُتِلَ » [5] .
وضوح تام في الهدف ، وصدق في العقيدة أدى إلى وضوح وسلامة في
السلوك .
الجاهلية المعاصرة :
إن الجاهلية التي أصابت العالم اليوم بشقَّيْه : الإسلامي ، وغير الإسلامي ،
يمكن تقسيمها إلى نوعين :
- جاهلية عقائد .
- جاهلية أهداف .
جاهلية العقائد :
وهي التي تضرب آفاق العالم اليوم بما فيه الإسلامي وغير الإسلامي . فالعالم
غير الإسلامي بكفره البواح يؤكد على انحراف في العقيدة لا شك فيه ، وهو الذي
أدى إلى انحراف في الأهداف ثم في السلوك .
إن التخبط الذي يعيشه الفرد غير المسلم إنما مردُّه إلى ضياع وتخبُّط في
أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها ؛ فمن هدف قصير الأجل دنيوي لا يلبث بعد أن
يحققه أن يكتشف مدى استشراء الهشاشة فيه حتى يبحث عن هدف آخر إلى أن
تقوده تلك الأهداف الزائفة إلى الانتحار أو سوء الخاتمة .
وكذلك الدول والتي ليست في حال أحسن من أحوال أفرادها تعطي شعوبها
أهدافاً ، وتسعى بكل جهدها لتحقيقها ، ثم حينما تتحقق هذه الأهداف تنكشف
للشعوب مدى هشاشتها مما يجعل تلك الدول والحكومات تبحث عن أهداف وغايات
أخرى قبل أن تقوم هذه الشعوب الضالة بتغيير تلك الحكومات ؛ فمن القضاء على
النازية إلى القضاء على الشيوعية ، ثم النظام العالمي الجديد . فهذا ( بيتر رايت )(1/279)
وهو أحد كبار ضباط المخابرات البريطانية يصف فترة ما بعد الحرب العالمية
الثانية بقوله : « كان الشتاء قارساً ، وأخذ الناس بالتذمر من حصص الغذاء ،
وكانت نشوة الانتصار عام 1945م قد بدأت تتلاشى » [6] ، وما أبعد هذه الصور
عن قول ربعي بن عامر حين قال له رستم : ماذا جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا
لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة
الآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
جاهلية الأهداف :
قبل التحدث عن جاهلية الأهداف يلزم توضيح ماهية الأهداف ؛ فمعلوم أن
الهدف هو : القصد والغاية ، والأهداف تنقسم إلى نوعين :
أولاً : أهداف ثابتة ، وهي ما تسمى في علم الإدارة بالأهداف الاستراتيجية .
ثانياً : أهداف مرحلية أو قصيرة الأجل ، وهي ما تسمى بالأهداف
التكتيكية [7] .
ولا بد أن تسير الأهداف المرحلية وتصاغ في ضوء الأهداف الثابتة ؛ بحيث
لا تعارضها ، وإن حدث أن عارض هدف مرحلي الهدف الثابت يجب فوراً إلغاء
الهدف المرحلي أو تصحيح مساره ليتناسب مع الهدف الثابت . فلو نظرنا إلى
مؤسسة تجارية فإن الهدف الثابت لها هو الربح وتوزيع أكبر عائد ممكن على
مُلاّكها ، وقد يكون أحد الأهداف المرحلية لهذه المؤسسة هو فتح فرع في إحدى
المدن ، فإذا كان تحقيق مثل هذا الهدف سوف يتسبب في إحداث خسائر لهذه
المؤسسة فإنه يجب استبعاده فوراً ؛ لأنه يتعارض مع الهدف الثابت لهذه المؤسسة .
وفي حياة الإنسان المسلم هناك أهداف ثابتة وأخرى مرحلية ؛ فالهدف الثابت له هو
الفوز برضوان الله تعالى ودخول الجنة والنجاة من النار وذلك بعد أن يمن الله عليه
برحمته جل وعلا .
وقد يخطئ من يعتقد أن هدف الإنسان هو عبادة الله . والحق أن عبادة الله
ليست سوى الوسيلة لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه الإنسان وهو المذكور سابقاً ،
وسبب هذا الاعتقاد الخاطئ هو تفسير قوله تعالى : ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ(1/280)
لِيَعْبُدُونِ ? ( الذاريات : 56 ) وذلك أن هذا هو غاية الله جل وعلا من خلق الإنس
والجن وليس في الآية ما يدل على أن ذلك هو هدف الإنسان ، ومصداق ذلك في
قوله تعالى : ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ? ( الدخان : 38 ) .
وقوله جل وعلا : ? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ? ( المؤمنون : 115 ) .
بل إن هدف الإنسان لَيُوضحه جل وعلا بقوله : ? لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ
فَوْزاً عَظِيماً ? ( الفتح : 5 ) .
فتعبير فاز يدل على أن هذا هو ما يجب أن يسعى إليه الإنسان ويكون هدفه
في هذه الدنيا .
وأما الأهداف المرحلية فإنها تلك الأهداف التي يسعى الإنسان لتحقيقها في هذه
الحياة الدنيا مما ييسر عليه أمورها ويعينه على تحقيق هدفه الثابت . ومن هذه
الأهداف : السعي في طلب الرزق الحلال ، وتحقيق الكسب الحلال ، والزواج ،
والسكن المريح . كل هذه الأهداف يجب ألا تتعارض مع الهدف الثابت للإنسان .
فجاهلية الأهداف : وهي التي تصيب بعض المجتمعات الإسلامية التي تسود
فيها عقائد سليمة على الأغلب ، ولكن أهدافها تكون منحرفة وهي حالة شاذة جداً
عما ينبغي أن تكون عليه مجمل المجتمعات الإسلامية ؛ فليست أهداف الإنسان إلا
محصلة عقائده . ولا شك أن التخبط والانحراف في تحديد الأهداف أو في ترتيب
أولويات الأهداف بحيث تصبح الأهداف الثابتة أهدافاً غير ذات بال والأهداف
المرحلية أو التافهة منها هي الأهداف الثابتة التي يسعى لها الإنسان ، بمعنى أن
تكون الآخرة والحصول على رضوان الله جل وعلا أهدافاً غير ذات بال ، وتكون(1/281)
أهداف الدنيا الزائلة أهدافاً ثابتة يسعى لها الإنسان ويبذل في تحقيقها الغالي والنفيس ؛ فما الذي يجعل أفراداً بل شعوباً من هذه الأمة تؤمن بالمفاهيم والأفكار الإسلامية ،
ثم تسلك سلوكاً منحرفاً يقودها إلى غير ما ترشدها تعاليم دينها الحنيف إلا انحراف
في أهداف هذه الشعوب وهؤلاء الأفراد .
إن ظهور جيل من المسلمين له عقيدة سليمة يؤمن بالله واحداً أحداً ، ويقوم
بكل واجبات دينه من صلاة وزكاة وصوم وحج ، ثم يدعو إلى أكل الربا أو سفور
للمرأة ، أو يجري وراء ملذات الدنيا وشهواتها حتى لو كانت سوف تلقي به في
جهنم ليؤكد على أن الانحراف الذي أصاب سلوك مثل هؤلاء مع صفاء عقائدهم إنما
مردُّه إلى انحراف في فهم أهداف هؤلاء ؛ بحيث أصبحت الدنيا هي الهدف الأسمى ، والآخرة هدفاً يليه إن تذكّرَه الإنسان .
التربية بترسيخ الأهداف :
وإذا آمنا بكل ما سبق فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام : ما الذي
يجعل أهداف هذا الجيل ( مع صفاء العقيدة ) تنحرف عن الهدف السامي وتؤدي
بدورها : إلى انحراف في السلوك ؟
وللإجابة على هذا التساؤل نعيد النظر في الحلقات الثلاث وهي :
العقيدة - الهدف - السلوك .
فالعقيدة التي هي الأصل ؛ ويجب الاهتمام بها جيداً والتأكد من صفائها .
نراها في مثل هذا الجيل عقيدة سليمة ؛ فهم يؤمنون بالله واحداً ، واليوم الآخر ،
والرسالات ، والكتب ، والملائكة ، وبالقدر خيره وشره ، وكل المغيبات من جنة أو
نار .
ثم نجد بعد هذا أهدافاً منحرفة بل أهدافاً تعارض الهدف السامي الذي يسعى له
الإنسان في هذه الدنيا وهو دخول الجنة والنجاة من النار ؛ مما يؤكد على أن مثل
هذا الهدف لم يرسخ في قلوب أفراد هذه الفئة ترسيخاً يتلاءم مع ما تمليه به عقائدهم ؛ وما ذلك إلا لوجود حلقة ضائعة بين العقيدة والهدف ألا وهي التربية ؛ فلا يمكن
زرع عقيدة سليمة ثم لم ترسخ ، ثم نطالب صاحبها بسلوك سوي إلا إذا ربطت(1/282)
العقيدة والسلوك بهذا الهدف ، وهكذا كان أثر القرآن والسنة النبوية في تربية الجيل
الأول .
وعليه فلا بد من إعادة تربية هذا الجيل وربطه بالهدف الحقيقي له ، وإلغاء
كل هدف يتعارض معه . فعلى الآباء في المنازل تربية الأطفال على ذلك النهج ،
وعلى الأساتذة في المدارس تربية الطلاب على هذا المنوال ، وعلى الخطباء في
المساجد التركيز على إعادة صياغة الهدف في حياة الناس ليكون ذلك هو الهدف
الأسمى الذي إذا تعارض معه أي هدف من أهداف الدنيا غلب الهدف الأساس عليه ؛ لأنه الأسمى ألا وهو دخول الجنة والنجاة من النار .
ولا يفوتني في ختام هذا المقال من التنبيه على مسائل مهمة في هذا البحث
وهي :
أولاً : دأبت كثير من الأفلام والقصص الموجهة للأطفال على أن يقوم بطل
الرواية أو القصة بالبحث عن أرض السعادة أو أرض الجمال ؛ وهذا الأسلوب يمكن
اتباعه في تربية الأبناء والأطفال على أساس البحث عن الجنة وتجنب النار ، وأن
الجنة هي أرض السعادة المنشودة الأبدية ، ثم بعد ذلك يتم ربط سلوكيات الطفل بهذا
الهدف ، ورسم صورة مشرقة في ذهنه عن الجنة وما فيها من ملذات ، وعن النار
وما فيها من عذاب .
ثانياً : يجب تربية هذا الجيل وتصحيح أهدافه بداية من المدرسة ؛ وذلك بربط
العقائد التي يدرسها والسلوكيات التي يتعلمها بالهدف الذي يجب أن يسعى إليه
وتصحيح تصوراته عن الجنة والنار بحيث تصبح أهدافاً يسعى إليها لا مجرد عقائد
نظرية فحسب .
ثالثاً : يتهاون كثير من الخطباء بمسألة التذكير الدائم بالجنة والنار وكذلك
أهوال يوم القيامة ؛ وأرى أنه لا بد من التذكير بذلك ؛ بحيث يتم توجيه الناس إلى
أن الهدف الحقيقي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق التذكُّر الدائم للجنة والنار ،
فيجب عرض أهداف الدنيا عليه ؛ فما عارضه فينبغي أن يستبعد فوراً .
قال تعالى : ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ * ثُمَّ نُنَجِّي(1/283)
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ ? ( مريم : 71-72 ) .
________________________
(1) محمد قطب ، جاهلية القرن العشرين ، ص 9 .
(2) رواه أحمد ، ح/15448 .
(3) رواه أبو داود ، ح/ 4456 .
(4) زاد المعاد ، ج 3 ، ص 190 .
(5) رواه مسلم ، ح/ 3520 .
(6) بيتر رايت ، صائد الجواسيس ، ترجمة عمادة القسوس ، ص 14 .
(7) انظر : حتى لا تكون كلاًّ ، عوض القرني ، ص 14 .
قضايا دعوية
تخريج العمالقة
د . عبد الرحمن آل عثمان
لقد اقتضت حكمة الباري جل وعلا أن خلق البشر وجعلهم متفاوتين في
الصور والهيئات والألوان ، بَلْهَ القوةَ والضعف ، والصحة والمرض ، والغنى
والفقر ، فضلاً عن التفاوت العظيم بينهم في الهمم والإرادات ، والميول والرغبات ،
والفهوم والمَلَكَات ، كل ذلك لحِكَم عظيمة بها تقوم حياة الناس وتتحقق مصالحهم ،
ويُسخَّر بعضهم لبعض ، ومن ثَمَّ أيضاً يتفاوت حسابُهم بحسب ما أعطاهم الله تعالى
من الأَعْراض والمَلَكَات ، كما قال تعالى : ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا
بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم
بَعْضاً سُخْرِياً ? ( الزخرف : 32 ) ، وقال سبحانه أيضاً في آخر الأنعام : ? وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ?
( الأنعام : 165 ) .
وهذا التفاضل ينتج عنه تَمَايُزٌ في السعي والتحصيل في العلوم والصنائع ،
ومن ثَمَّ يحصل التكامل الذي به تكون عمارة الأرض وبناء الحضارة ؛ فهذا يكون
رأساً في العلوم الشرعية ، وذاك نابغة في العلوم التجريبية ، وثالث هَامَة في الفنون
القتالية ، ورابع باقِعَة [1] في التدبير والسياسة .. . وهكذا .
وإنما هذه المهارات بمنزلة الزرع ؛ فهو يقوى ويشتد ، ويُؤتي ثماره المرجوة
بأمرين :(1/284)
الأول : قابلية المحلّ .
الثاني : القيام عليه وتعاهده بالسقي والرعاية .
فهو عند اجتماع الأمرين يكون بمنزلة جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها
ضعفين ، وإن لم يصبها وابل فيكفيها طَلٌّ حتى تُخرِج من كل زوج بهيج .
وبانعدام أحدهما لا يحصل المطلوب ؛ ذلك أن من يحاول علماً لا يتناسب مع
ميوله وقدراته كمن يزرع جوز الهند في الأندلس كما قال ابن حزم أو النخيل في
أحد القطبين !!
وهكذا نَفَاسَة المعدن ، وتوقُّد الذكاء ، وقابلية المحل ، لا تكفي من غير صقل
وتربية وعناية .
وعليه يقال : مقومات النبوغ والتفوق والإبداع بعد توفيق الله تعالى أربعة :
الأول : الإخلاص لله تعالى وتقواه ، خاصة إذا كان العلم المطلوب شرعياً .
وقد جاء في بعض رسائل الشيخ حمد بن عتيق ( ت 1301هـ ) رحمه الله ما
نصه : « .. . ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد به ، فيجد من يَشِبّ ويشيب
وهو يقرأ ولم يُحصِّل شيئاً لمانع قام به وحال من نفسه » [2] .
ولما وقعت عين الإمام مالك رحمه الله لأول مرة على الإمام الشافعي رحمه
الله وهو في أوائل الطلب قال له مالك رحمه الله : « إن الله عز وجل قد ألقى على
قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية » [3] . وفي رواية عند ابن عساكر : « فلما أن سمع
كلامي نظر إليَّ ساعة [4] وكان لمالك فراسة فقال لي : ما اسمك ؟ فقلت : محمد ،
فقال لي : يا محمد ! اتق الله واجتنب المعاصي ؛ فإنه سيكون لك شأن من
الشأن » [5] .
الثاني : توفر المَلَكَة والأهلية في ذلك الفن .
الثالث : أن يوفَّق إلى المربي الفطن الذي يتمكن من اكتشاف مواهبه والتفرس
في مَلَكَاته منذ مراحله الأولى ، فيوجهه إلى تنمية تلك القُدرات ، ويَكِلُه إلى من لديه
القدرة على صقلها وتقويتها .
الرابع : وجود البيئة الملائمة من التلاميذ الذين يتفقون معه في النبوغ والتفوق
من جهة ، والأساتذة البارعين في هذا الجانب من جهة أخرى .(1/285)
وإذا وقع الإخلال بشيء من ذلك فالنتيجة المنتظرة هي الفشل والضمور
والتضاؤل ، ومن ثَمَّ تكون الثمرة : تخريج الأقزام بدلاً من العمالقة . والله المستعان .
ولعل من المناسب في هذا العصر الذي برز فيه الحديث عن الموهوبين أن
أنقل لك كلاماً لعَلَم من أعلام المسلمين في هذه القضية الحيوية ، وهو الإمام
الشاطبي رحمه الله ( ت 790هـ ) حيث يقول في معرض كلامه على فروض
الكفاية : « وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم ، لا في
الدنيا ولا في الآخرة ، ألا ترى إلى قول الله تعالى : ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?
( النحل : 78 ) ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية ؛ تارة بالإلهام كما
يُلهَم الطفلُ الْتِقام الثَّدْي ومصَّه ، وتارة بالتعليم ؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع
ما يُستجلَب به المصالح وكافة ما تُدْرأ به المفاسد ، إنهاضاً لما جُبِلَ فيهم من تلك
الغرائز الفِطْريَّة ، والمطالب الإلهامية ؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح
سواء كان ذلك من قبيل الأفعال ، أو الأقوال ، أو العلوم والاعتقادات ، أو الآداب
الشرعية أو العادية وفي أثناء العناية بذلك يَقْوى في كل واحد من الخلق ما فُطر
عليه ، وما أُلْهِم له من تفاصيل الأحوال والأعمال ؛ فيظهر فيه وعليه ، ويُبرِّز فيه
على أقرانه ممن لم يُهيأ تلك التهيئة ؛ فلا يأتي زمانُ التعقُّل إلا وقد نجم [6] على
ظاهره ما فُطر عليه في أوَّليَّته ؛ فترى واحداً قد تهيَّأ لطلب العلم ، وآخر لطلب
الرياسة ، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها ، وآخر للصِّراع والنطاح ، إلى
سائر الأمور .
هذا وإن كان كلُّ واحدٍ قد غُرز فيه التصرف الكلي ؛ فلا بدَّ في غالبِ العادة(1/286)
من غَلَبة البعض عليه ؛ فيردُ التكليفُ عليه معلَّماً مؤدَّباً في حالته التي هو عليها ؛
فعند ذلك ينتهضُ الطلبُ على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهضٌ
فيه ، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات ؛ فيراعونهم بحسبها
ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ، ويعينونهم على القيام
بها ، ويحرضونهم على الدوام فيها ؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه
من تلك الخُطط [7] ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها ، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من
أهلها ، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية ، والمدْركات الضرورية ؛ فعند ذلك
يحصل الانتفاع ، وتظهر نتيجة تلك التربية .
فإذا فُرِضَ مثلاً واحدٌ من الصبيان ظهر عليه حسنُ إدراك ، وجودة فهم ،
ووفور حفظٍ لما يسمع وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف مِيل به نحو ذلك
القصد ، وهذا واجبٌ على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يُرجى فيه من
القيام بمصلحة التعليم ، فطلب بالتعلم وأُدِّب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ، ولا بد
أن يُمال منها إلى بعض فيؤخذ به ، ويُعان عليه ، ولكن على الترتيب الذي نصَّ
عليه رَبَّانِيُّو العلماء ، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص ،
وأحبَّه أكثر من غيره ؛ تُرك وما أحب ، وخص بأهله ؛ فوجب عليه إنهاضه فيه
حتى يأخذ منه ما قدر له ، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته ، ثم إن وقف هنالك
فحسن ، وإن طلب الأخذ في غيره أو طُلب به ؛ فُعل معه فيه ما فعل فيما قبله ،
وهكذا إلى أن ينتهي .
كما لو بدأ بعلم العربية مثلاً فإنه الأحقُّ بالتقديم ؛ فإنه يُصرَف إلى معلميها ؛
فصار من رعيتهم ، وصاروا هم رُعاةً له ؛ فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما
يليق به وبهم ، فإن انتهض عزمه بعدُ إلى أن صار يحْذِقُ القرآن صار من رعيتهم ، وصاروا هم رُعاةً له كذلك ، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر(1/287)
ما يتعلق بالشريعة من العلوم ، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وَصْفُ الإقدام
والشجاعة وتدبير الأمور ، فيُمال به نحو ذلك ، ويُعلَّم آدابه المشتركة ، ثم يصار به
إلى ما هو الأوْلى فالأوْلى من صنائع التدبير ؛ كالعرافة ، أو النقابة ، أو الجندية ،
أو الهداية ، أو الإمامة ، أو غير ذلك مما يليق به ، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض ، وبذلك يتربى لكل فعلٍ هو فرضُ كفايةٍ قومٌ ؛ لأنه سير أولاً في طريق مشترك ؛
فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة ،
وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات
الكفائية ، وفي التي يَنْدُر من يصل إليها ؛ كالاجتهاد في الشريعة ، والإمارة ؛ فبذلك
تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخر » [8] .
________________________
(1) الباقعة : الرجل الداهية ، والذكي العارف الذي لا يفوته شيء ولا يُدهى (القاموس ، مادة : بقع).
(2) مجموعة رسائل الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله ، ص 112 (طبع دار الهداية الرياض) .
(3) مناقب الشافعي للبيهقي ، ص 103 ، 104 .
(4) ساعة : كناية عن إطالة النظر .
(5) مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور ، 21/363 .
(6) أي : ظهر انظر : «لسان العرب» (ن ج م) .
(7) أي : الأمور والأحوال انظر : «لسان العرب» (خ ط ط) .
(8) الموافقات ، 1/284 286 .
قضايا ثقافية
تشكيل القيم في أزمنة الوهن !!
سليمان بن عبد العزيز الربعي
الحديث عن تشكيل قيم الوعي المادية والروحية ؛ حديث هويةٍ جمعيَّة لا ينفك
عن ظروف الأمم ومناهج تفكيرها ، وهو بكل حال حديث ذو شجون قلَّ أن يتاح
لمرء مناقشته في فرصة ، أو تشخيصه في مقالة ؛ ولذا فكتابة اليوم أمشاج فِكَر
تنتمي إلى مرحلة بعدية منه ، أرجو ألا أجانب المنهج العلمي إن قلت : إن البحث
فيها مدخل ضروري لفهم أوَّلياتها ؛ وهي أوليات مهمة بلا ريب آمل أن يتسع الوقت
لمناقشتها لاحقاً .(1/288)
وبدءاً ، لا مناص من الإشارة إلى أنّ رُتْبَتَيِ القِيَم : المادة والروح مرتبطتان
تماماً بالفعل الجمعي ، مما يجعله بحثاً شاملاً لمناهج السيكيولوجيين والديموغرافيين
المتميزة بالتباين المنهجي والتكامل البحثي ، وهو أمر يشير كذلك إلى أهمية
اصطحاب المناهج التطبيقية في البحوث المشاكلة ، وصلة القيم بهذا تتأتى من القول
بأن ملامح القسمين الآنفين تفريعٌ غنيُّ الدلالة لتلك المناهج ؛ فالمعطى المادي قيمياً
في التفكير والممارسة قريب الصلة بالعلاقات الإنسانية المتصفة بالجماهيرية
والوقتية وعدم الفرز ، مما يمنحها نعوت البراءة في التطبيق لمصطلح ( العولمة )
في مجالات بعينها . أما القيمة الروحية النوعية فعلى العكس ؛ إذ ترتبط غالباً
بالتشكيل الذاتي ، وقد تخرج إلى فضاءات أرحب نسبياً ، وتتميز بالتحليل والتروي
والتفكير الطويل .
ما أرمي إليه من هذه المقدمة ، أولاً ، التأكيد على أن قيم الروح تشكل في
مناخات بالغة الحساسية ، متميزة بالجدية والعملية والمعيارية ، وهذا ما يجعلها
صعبة على الطبيعة الإنسانية المجبولة على ضد هذه الصفات من تعلُّق باللهو
والكسل وعدم الانضباط ، وكل هذه الصفات وما ناظرها تؤول بسببٍ إلى الهوى
الغلاب أو الجهل بحقائق الاستخلاف ومقاصده . والناظر في النصوص الشرعية
يجد هذه المعالم بارزة أشد ما يكون في قصص المرسلين وحواراتهم عليهم صلوات
الله وسلامه مع مخالفيهم ، بل وفي مجمل النص خبراً وإنشاءاً ، بحسب الأصوليين .
والقصد الأبعد التالي هو التركيز على أن صراع القيم في المجتمعات صراع
طبعي قد قدره الله تعالى ، بل إنه سبحانه خلق الخلق على شاكلة مختلفة في الطاعة
والمعصية . وأهل المعصية مختلفون متفرقون فيها ، دون ( أهل التوحيد ) إذ هم
الأمة الواحدة يدل عليه قوله تعالى : ? وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ(1/289)
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ .... ? ( هود : 118-119 ) .
فالناس لا يزالون « مختلفين في أديانهم على أديان وملل وأهواء شتى ، ( إلا من
رحم ربك ) فآمن بالله وصدق رسله ؛ فإنهم لا يختلفون في توحيد الله ، وتصديق
رسله ، وما جاءهم من عند الله » [1] ، ويؤكد هذا المعنى أن الآية الكريمة وضَّحت
أن الخلق قد جاؤوا على هذا التقدير الحكيم : ? وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ? ( هود : 119 ) ،
أي : « وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم » [2] ، دون أن يُفهم منه أن المختلفين
غير ملومين على اختلافهم كما فهمت المعتزلة ؛ بل اللام هنا بمعنى ( على ) [3] ،
أي : وعلى هذا التقدير خلقهم . بل أبعد من هذا الأسلوب الخبري : أن تتضمن
آيات الذكر الحكيم والحديث الشريف أساليب إنشائية كثيرة تحث على الموازنة بين
قيم المادة والروح ، وأبعد : أن تنهى عن القعود والتبتل والانقطاع التام عن الدنيا ؛
إذ فيه أي الانقطاع مفاسد تتنافى مع حِكَمِ المولى تبارك وتعالى في الاستخلاف .
المهم : إدراك أن الاختلاف القيمي سُنَّة ربانية لا سبيل لدفعها ؛ ولذا فالحديث
يرمي إلى محاور ذاتية داخل حيز الحقيقة الكونية الكبرى ، وهي ما تمثل مجالات
البحث والمراجعة والتقويم . ولئن كانت الآية الكريمة تقرر هذه الحقائق بسبيل عام
ومقاصد كبرى فإن في الواقع الواحد الذي يتميز أهله بأنهم ( لا يختلفون في توحيد
الله .. . إلخ ) كثيراً من سلبيات التطبيق للقيم وممارساتها الفردية والجمعية ،
وكثيراً من الآثار المترتبة على الخلل المنهجي والمضموني في تعامل مؤثرات
التوعية وآلياتها مع الجماهير ، ولعلي أكتفي هنا بالإشارة إلى مفارقات الوعي بين
نوعي القيم ؛ حيث طغت على الأجيال الجديدة القيم المادية المرتبطة كما سلف
بالهوى والكسل على حساب قيم فضلى تمثل على سبيل الحقيقة صِمَام أمان للمجتمع(1/290)
من الفراغ النفسي والروحي ، وهذا الاهتمام السالب يتوجه بأوَّلية إلى النشاط الذهني
والفكري لأثرهما الكبير على المناشط الأخرى .
والحقيقة الكبرى التي لا ينبغي أن تغيب عنا ؛ أن هذه الأجيال لا تتحمل تبعة
المفارقات القيمية وحدها ؛ بل ثمة روافد كثيرة ومؤثرات عدة ، تعمل عملها في
تشكيل مخيلات التوعية لهم وللأمة بعموم ؛ فالبيت مثلاً وهو النواة الأولى للأجيال ،
كثيراً ما تنعكس سلبياته على التشكيل القيمي للشاب . وفي ظروف كثيرة يعمل
التخلخل العلائقي بين قطبي البيت على تمزيق القيم الإيجابية لدى المُشاهد الراصد
( المؤثَّر فيه ) = الابن ، ومن ثم تجد القيم السلبية طريقها الرحب في وعيه
المنعكس على سلوكه . إن كثيراً من مشكلات الشباب القيمية أياً كان نوعها هي في
الغالب حصيلة طبيعية لمآسٍ ذاقوا ويلاتها وتجرعوا غصصها ، فلم يجدوا سوى
السلوك المشين للتعبير عن رفضها والسخط عليها هذا من جهة . وهم لم يجدوا
سوى الحرية غير المؤطرة لإشباع رغباتهم النفسية الظامئة من جهة أخرى ؛ فهم
ناقمون ظامئون .
مشكلة المؤثرات التي تنصهر في مثال البيت أنها بعيدة عن إدراك حاجة
الجيل للقيم الروحية . ومشكلة آليات تشكيل الوعي أنها لا تنظر إلى النفس قدر
نظرتها إلى أهداف أخرى ؛ فالقنوات الفضائية ( الفضائحية ) تتعامل مع القيم
والمجتمع تعاملاً تجارياً صرفاً ، همها الأول والأخير : الاستقطاب . ولا بأس
عندهم أن يكون هذا الاستقطاب على حساب القيم الشعورية والروحية للمشاهد ؛ إذ
هي أبعد ما تكون عن الإسهام في تشكيل القيم الإيجابية في النشء ، ناهيك عن
القنوات التي ترمي ، أصلاً ، إلى خلخلة القيم بشكل صريح ، وكثير من الكتّاب
الصحفيين مشغول بغير شغل ، وجُلُّ دور النشر تقذف التشكيك العقدي ، ( وتسهم )
بدفع الروايات الخواء للجيل !
في هذا الجو الملوث تتشكل القيم ! غير أنها القيم المادية التي تعمل في(1/291)
النفوس عملها السالب ، فتضخم الشك ، وتفرغ الفكر ، وتسلم متلقيها إلى مهاوي
الردى ! في مثل هذه الظروف الصعبة ، وإن تنوعت درجاتها ، تتصف القيم
المشكَّلة بالسلبية الحادة التي لا يمكن دفعها بآمال عابرة ، ويُصاب الجيل بأزمة قيمية
عنيفة ينعكس صداها على سلوكهم اليومي في مناشط الحياة كافة . والذي يحز في
النفس أن تتعامل بعض الدوائر التربوية والأكاديمية إزاء ظاهرة الهبوط القيمي لدى
الشباب بـ ( سوريالية ) غير مفسَّرة ، وذلك عندما تحلل أسبابها أي الظاهرة بضيق
أفق ظاهر ، بعيداً عن تلمس المؤثرات الفاعلة . إن الجيل الذي يُمارس فاعليته
السلبية في القيم والوعي هو على العموم ضحية العوامل المؤثرة ، وهو في الوقت
ذاته يعيش فراغاً نفسياً هائلاً يندر فيه الموجه الحكيم !
إن كثيراً من الذين نرى فيهم الشر والنزعة الجامحة لقيم المادة الطاغية ، إنما
هم في الأعم الأغلب ذوو نفوس حيرى ، قد أرهقهم الضيم الذي عايشوه ، وأودى
بهم القَيِّم غير الكفء ، ونفوسهم في الوقت ذاته نفوس عطشى لمتجرد نبيل ينتشلها
من سَوْرَاتِ الخوف والضنك في مثالها الذي تعيشه من قيم دنيا ، إلى رحاب
الطمأنينة والحب والخير متجسدة في قيم الروح الفاضلة . وهكذا كلُّ نفس تجد في
مربيها الصد والخوف ، تسعى لأمانها الضائع ، وتهش لبارقة أمل من حكيم يُخرجها
من تيه المادة إلى يقين الروح .
إن السحرة الذين حشرهم فرعون لمواجهة موسى عليه السلام مع الإشارة إلى
الفرق في المثال قد جاؤوا بنفوس ظاهرها الحرص على الشر والرغبة في المغالبة
يُقصيهم عن الود كفرهم بالله ، وذاك الخطاب الشهير يوم الزينة ؛ إذ جاء مكثفاً(1/292)
بالتذلل والخنوع لفرعون الذي يقول لبني إسرائيل : ? مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ? ( القصص : 38 ) ، ? أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ? ( النازعات : 24 ) ، ويقول لموسى : ? قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ ? ( الشعراء : 29 ) . إنهم
يقولون ، في مواجهة الداعية عليه السلام مستظهرين العزة ، محاولين الترهيب
بالقسم : ? بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ ? ( الشعراء : 44 ) . هؤلاء
المتظاهرون بالطغيان والجبروت ، ما هم في الحقيقة سوى أصحاب نفوس ضائعة ،
نفوس فارغة من الهم ، مكتظة بالفراغ ، سابحة في الضيق الذي لا ترى منه
مخلصاً إلا بالعبّ من الشهوات . وهم لذلك لم يشترطوا على حاشرهم ( فرعون )
إلا المال فقضيتهم التمتع فحسب ، ولو كانوا أولي هدف لعملوا لنصرة سيدهم ورب
نعمتهم ؛ أما وقلوبهم هواء من برد اليقين ، غريبة غرابة مواجدهم ، فليسألوا المال
طرداً للهمِّ بالهمِّ . إنهم بعيدون في شعورهم من مشاركة فرعون مشاركة وجدانية ،
بل هم أُجراء : ? أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ ? ( الشعراء : 41 ) . وحين
يرى هؤلاء آيات اليقين وأمارات الطمأنينة بالإيمان ينجلي الغبش وتهفو النفس .
وحين يعاتبهم الطاغية على اليقين ويستكثر عليهم الطمأنينة تصدع النفوس قبل
الألسن بأنه كان سبب السلب الحقيقي وأداة القيمة المادية الفاعلة : ? إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? ( طه : 73 ) ،
إنه كان يُكرههم على القيمة السالبة بسخرتهم في تعلم السحر وصرفهم إليه صغاراً ،
فهو متجبر في القوامة ، قد سلبهم أمانَ النشء ويقين الفطرة ، وغشهم في الرعاية .
إن علماء النفس والاجتماع الغربيين يتحدثون عن إشكاليات خطيرة في واقع(1/293)
الأجيال ، وهي مشكلات تزداد صعوبة في كل يوم في أزمنة القيم المادية المشرعة ؛ فمثلاً نجد أن المنتسبين إلى حركة ( حافظي الوعد ) ( Promise keeprs )
الغربية وهم في ازدياد قد سئموا سُعار المادة الطاغي ، فأجمعوا على بنود سبعة
تمثل بالنسبة لهم أسس الممارسة ، وعليها بناء الوعي القيمي لشبابهم ، وهي بنود
تطغى عليها الديانة النصرانية وتتوجه إلى ربط الجيل بمستوى أخلاقي نوعي ؛ إذ
يشير البند الثالث إلى أن على المنتسب للحركة الالتزام بممارسة ( الطهارة الروحية
والمعنوية والأخلاقية والجنسية ) وفي فقرة أخرى نلحظ الاهتمام بالتكافل الاجتماعي
ولو على نطاق ضيق [4] . ونحن مع التسليم بضلالهم المبني على سوء الاعتقاد
بالله ورسله واليوم الآخر ، لا نرمي إلى مناقشة تلك الأسس من منظور إسلامي ،
بل القصد : الإشارة إلى الرغبة الطاغية لأمم الأرض اليوم في استعادة شيء من
الهوية ، وحرصها على تشكيل الجيل تشكيلاً جديداً ينأى به عن طغيان المادة وفراغ
الحضارة الموحش . ونرمي من وراء ذلك كله للتساؤل الملحّ : أفليس المسلمون
وهم أهل الحق والدين القويم أجدر الأمم بالعمل على استعادة تاريخهم المجيد بتربية
أجيالهم على قيم الدين المستقيم ؟ أفليس المسلمون أوْلى الناس بالعمل على مغالبة
أزمنة الوهن بتحصين أجيالهم وتشكيل وعيهم تشكيلاً قيمياً نافعاً ؟ ولا ريب أنها
مهمة كبيرة على المربين ، غير أن ثمة بواعث واقعية ينبغي أن تجعلهم يستسهلون
الصعب ، كان من آخرها المسابقة التي أجرتها إحدى الإذاعات العربية ؛ حيث لم
يستطع مستمع واحد أن يذكر اثنين من المبشَّرين بالجنة ، في حين لم يتخلف أحد
عن الإجابة الصحيحة في ذكر « اللقب » الشهير للمطرب الذي رحل يوم كان
المستمعون الآن ما يزالون في أصلاب آبائهم !!
________________________
(1) تفسير الطبري : م 7 ج 12 / 139 .
(2) تفسير الطبري : م 7 ج 12 / 139 .
(3) تفسير الطبري : م 7 ج 12 / 139 .(1/294)
(4) انظر جريدة الحياة 18 جمادى الآخرة ، 1418هـ .
وقفات
سلامة الصدر
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من أعظم نِعَمِ الله تعالى على العبد المسلم أن يجعل صدره سليماً من الشحناء
والبغضاء ، نقياً من الغلِّ والحسد ، صافياً من الغدر والخيانة ، معافىً من الضغينة
والحقد ، لا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على المسلمين .
قد يجد المرء من بعض إخوانه أذىً أو يصيبه منهم مكروه ، وربما يسرف
بعض إخوانه في جرحه أو الحط من قدره ، بل قد يصل الأمر والعياذ بالله إلى أن
يفتري أحد إخوانه عليه الكذب ويتهمه بالسوء .. ومع ذلك كله تراه يدعو الله عز
وجل بقلب صادق أن يتوب على إخوانه ، ويتجاوز عنهم ، ويهديهم سبيل الرشاد ،
ولا يجد في نفسه سبيلاً إلى الانتقام أو الانتصار للنفس . وبقدر إدبارهم عنه وأذاهم
له ، يكون إقباله عليهم وإحسانه إليهم ، يهتدي دائماً بقول الله تعالى : ? وَلاَ تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ? ( فصلت : 34-35 )
كما يهتدي بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله ! إن لي
قرابة أصِلُهم ويقطعونني ، وأُحسِنُ إليهم ويسيئون إليّ ، وأحلُمُ عنهم ، ويجهلون
عليّ !! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لئن كنت كما قُلتَ فكأنما تُسِفُّهم
المَلَّ [1] ، ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك » [2] .
وما أجمل قول الشاعر :
إذا أدْمَتْ قوارِصُكم فُؤادي صبرتُ على أذاكُم وانطويتُ
وجئت إليكمُ طَلْقَ المُحَيَّا كأنِّي ما سمعتُ ولا رأيتُ
كم يعلو قدر الإنسان ، وتشرُف منزلته حينما يصل إلى هذه المنقبة العظيمة(1/295)
والخَلَّة الكريمة التي لا يقوى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص .. ولا يستطيع أن
يصل إلى أعتابها إلا من جاهد نفسه حق المجاهدة ، وفطمها عن شهواتها .. ؟!
أرأيت إلى ذلك الصحابي الجليل رضي الله عنه الذي أشار النبي صلى الله عليه
وسلم ثلاثاً إلى أنه من أهل الجنة ، فلما ذهب إليه عبد الله بن عمرو بن العاص
وبات عنده ثلاث ليال فلم يره فعل كبير عمل ، فعجب عبد الله من حاله وسأله : ما
الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الرجل : « ما هو إلا ما
رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على
خير أعطاه الله إياه » . فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا نطيق ! [3] .
إن هذه الصفة الجليلة من الصفات التي رفعت أقدار الصحابة رضي الله عنهم
فها هو ذا سفيان بن دينار يقول : قلت لأبي بشير وكان من أصحاب علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أخبرني عن أعمال من كان قبلنا ؟ قال : « كانوا يعملون
يسيراً ويؤجَرون كثيرا ً» . فقال سفيان : ولِمَ ذلك ؟ قال : « لسلامة صدورهم »[4] .
ولهذا بيَّن ابن القيم أن سلامة القلب : « مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق
حلاوته ، وهو أن لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك
ثأره ، وشفاء نفسه ؛ بل يفرغ قلبه من ذلك ، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه
أنفع له ، وألذ وأطيب ، وأعون على مصالحه ؛ فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما
هو أهم عنده ، وخير له منه ، فيكون بذلك مغبوناً ، والرشيد لا يرضى بذلك ،
ويرى أنه من تصرفات السفيه ؛ فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس ،
وإعمال الفكر في إدراك الانتقام ؟ » [5] .
إن ثمة حقيقة في غاية الأهمية والخطورة : وهي أن بعض صفوف الدعاة قد
يكدرها بعض الأذى والسوء ، فقد أصبح الشغل الشاغل لبعض الجهلة والقاعدين(1/296)
البطالين هو الوقوع في أعراض إخوانهم ، ثم اشتغل آخرون بإشاعة السوء والنميمة، يفرون في أعراض الناس فرياً ، ولا يقيمون وزناً لكبير ولا صغير ، ولا يخافون
الله تعالى في لحوم إخوانهم !! ، واشتغل بعض من جرحهم هؤلاء بالرد عليهم
وتبرئة ساحتهم ، وإذا كان بعض ذلك مشروعاً ، إلا أن الخوف كل الخوف أن
يتحول إلى مجرد انتصار للنفس وتنفيس للهم ، ينشغل بذلك عن الأوْلى والأهم .
أما النفوس العليَّة الكبيرة العامرة بنور القرآن ، وذكر الرحمن فإنها لا تلتفت
إلى هذه الصغائر ، ولا تشغلها تلك التوافه عن السير قُدُماً في هذا الطريق ؛ فالناس
في شغل ، وأولئك الأبرار في شغل آخر .. الناس في قيل وقال ، وأولئك الأطهار
لهم شأن آخر وهم أعظم ، ومن نذر نفسه وجنّد وقته لخدمة دين الله تعالى فأسهر
ليله وأشغل نهاره في تتبع أحوال المسلمين وعلاج مشكلاتهم أيجد في نفسه اطمئناناً
لسماع الوشاة ، أو رغبة في الانتصار للذات ؟!
قد رشَّحوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له فاربأْ بنفسك أن تَرعَى مع الهَمَلِ
إن الأمة الإسلامية تمر بمرحلة خطيرة تكالبََ فيها الأعداء عليها
من كل مكان ، وأمامها مفرق طريق ، ولا وقت هنا للهو والعبث والاشتغال بهذه الهموم الوضيعة التي أدنى ما فيها أنها تشتت الفكر ، وتقبض الصدر ، وتلهي الإنسان عن معالي الأمور .. !
________________________
(1) الملّ : هو الرماد الحار ، أي : كأنما تطعمهم إياه .
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2558) .
(3) أخرجه : أحمد في المسند (3/166) بإسناد صحيح .
(4) أخرجه هناد في الزهد (2/600) .
(5) مدارج السالكين ، (2/320) .
تأملات دعوية
لا تنسوا كتب السلف
محمد بن عبد الله الدويش
إن الاعتناء بالقراءة وإدراك أهميتها أمر لم يعد قاصراً على طلبة العلم وحدهم ؛ فالعقلاء من الناس أجمع يتفقون اليوم على ذلك ، وها هي حركة النشر الواسعة تعطي دليلاً على الطلب المتزايد على الكتاب .(1/297)
والنفس مفطورة على حب الجديد والميل إليه ، حتى ما يقتنيه الناس من
سيارات وملابس وأدوات يبحثون فيه عن آخر ما أُنتج ، ولو كان ذلك على حساب
الجودة . وسرت العدوى في ذلك إلى الكتاب ، فأصبح الكتاب الجديد يلقى رواجاً
وانتشاراً أكثر من غيره ، ولهذا يحرص باعة الكتاب والناشرون على إبراز الجديد
من الإصدارات والدعاية لها .
والكتاب الجديد المعاصر كُتِب بلغة العصر ونَفَس العصر ، ويعالج قضايا
العصر ، مما يدفع القارئ إلى الميل إليه وقراءته .
وهو يتناول في الأغلب القضايا الساخنة والمطروحة على الساحة الفكرية أو
العلمية أو الأدبية ، ومن ثم فهو يتسق مع اهتمامات القارئ ويجيب عن تساؤلاته .
هذه جوانب لها صلة بمضمون الكتاب ولغته ، وثمة جوانب لا تقل عنها
أهمية لها صلة بالكاتب والمؤلف ؛ فلئن كان القراء ينظرون إلى عنوان الكتاب
وموضوعه فهم في المقابل ينظرون نظرة لا تقل عن ذلك إلى مؤلفه ، والناشرون
يحرصون على الظفر بالمؤلف صاحب الصيت والانتشار الواسع ، ويمنحونه من
الإغراءات ما لا يمنحون غيره .
إن المؤلف المعاصر يعيش بين الناس ، ويتفاعل القراء معه ، ويعرفه طائفة
من القراء باسمه أو بشخصه ، ومن ثم فهم يُقبلون على اقتناء كتبه وقراءتها ، وربما
كان اسم المؤلف أعظم دافع لدى كثير من القراء إلى قراءة الكتاب من موضوعه
ومضمونه .
هذه العوامل وغيرها تدفع الناس إلى الاعتناء بقراءة الجديد من الكتب
والإقبال عليها ، ولا اعتراض على ذلك ، بل هو ضرورة لا بد منها ، فلا يمكن
لطالب العلم الذي يتحمل مسؤولية الإصلاح والتغيير أن يعيش خارج عصره ، وثمة
قضايا كثيرة هي من النوازل العلمية أو الفكرية لا بد له أن يحيط بها ويعيها .
لكن الاعتراض هو على إهمال كتب السلف ونسيان كتب السابقين ؛ فنحن أمة لها
امتداد وتاريخ ولسنا نبتة مجتثة في العراء .
إن كتب السلف أغزر علماً وأصدق لهجةً ، ولئن أدى تطور صناعة النشر(1/298)
اليوم إلى أن يصبح التأليف والنشر ميداناً رحباً يتسع لطائفة كثيرة من الناس ، وأن
يتصدر له طائفة ممن لا يحسن ، أو من الباحثين عن الصيت والشهرة فالأمر كان
يختلف لدى سلف الأمة ؛ فالأغلب على ما كتبه أولئك الإخلاص والصدق ، وسعة
العلم والاطلاع .
والسلف الصالح رضوان الله عليهم أسَدُّ منهجاً وأقوم طريقة ؛ بل إن طالب
العلم اليوم يفتخر بأنه ينتسب إلى منهجهم ، ويحتج بأقوالهم وهديهم ، في حين
كثرت الأهواء ما بين ترخُّص وتساهل ، أو جرأة على الشرع وأحكامه ، أو مجاراة
للواقع ولهاث وراء مسايرته .
لكننا نلحظ اليوم إفراطاً في الإقبال على الكتاب المعاصر ، وإهمالاً لكتب
السلف وقلة اعتناء بها ، بل قد نجد تسابقاً في قراءة الكتب والروايات المنحرفة
وإضاعة الأوقات فيها على حساب ما يزيد الإيمان ويحيي القلوب الميتة .
وحتى في ميدان العلم الشرعي يحظى المعاصرون باعتناء واهتمام أكثر من
غيرهم ، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الاعتناء بجمع فتاوى المعاصرين ونشرها
وقراءتها ، وهذا أمر حسن ، لكن ينبغي ألا ينسينا الاعتناء بفتاوى فقهاء السلف ،
وغيرهم ممن يدعِّم المعاصرون فتاويهم بآرائهم واختياراتهم ، فنحن بحاجة لجمع
طائفة من فتاوى علماء السلف واختياراتهم ونشرها للناس ، وإبراز أولئك العلماء
الأفذاذ أمام الناس الذين كادوا أن ينسوهم .
إنه من إضاعة الوقت أن نستطرد في المقارنة بين كتب السلف وكتب
المعاصرين ؛ فالأمر أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى براهين .
لكنها ذكرى ووصية أوصي بها نفسي وإخواني لإعادة الاعتبار لكتب السلف ،
والاعتناء بها ، والإقبال عليها ، وإعطائها النصيب الأوفر ، دون إهمال للقراءة
المعاصرة .
دراسات تربوية
هذا كله موجب الطباع ومقتضاه
بدر السحيل
إنك لتعجب أن ترى رجلاً عليه سَمْتُ الصالحين ووقار الأخيار ، يعجبك في
هديه ودلّهِ ، تراه يجالس امرأة أجنبية عنه ، ربما سمعتَ منها ضحكاتٍ صاخبة أو(1/299)
قولاً خاضعاً ، هيئتها لا تسر الناظرين . سترت القبيح من نفسها وأظهرت الجميل .
ثم أنتقل بك إلى صورة أخرى لا تقلُّ عجباً عن تلك تجعلك أمام كمٍّ من
الأسئلة : رجل قد أعفى لحيته ، واتبع السنة في ظاهره ، إذا بك تراه مرّة جالساً مع
بعض قرابته أو زملائه يشاهدون فيلماً أجنبياً على شاشة التلفاز ولا يخفى عنك ما
فيه ولا ينتهي بك العجب ههنا ؛ فالرجل ينظر بتفاعل ، ويتابع بتلذذ ، ويشارك في
الحديث عمن يسمونهم أبطالاً لتلك الأفلام ، وكأن الرجل صاحِب دراية قد اعتاد
ذلك وألفه .
وما هاتان الصورتان غير مثال وإشارة إلى كثير من المشاهد التي على
شاكلتهما تثير الدهشة والعَجَب . قوم يتدثَّرون بلباس غيرهم في مفارقة بين القول
والعمل ? وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ? ( الأعراف : 26 ) .
ولْنَعُد إلى المثالين السابقين .
الأول : رجل صالح نحسبه والله حسيبه اضطرته ظروف عمله أن يخالط تلك
المرأة الساعات الطوال ؛ فهي زميلة عمل ، وكثيراً ما ترى هذا في المستشفيات
ونحوها ؛ ولكن هل المشهد الذي رأيته في هذه الصورة حدث عند أول لقاء عمل ؟
الجواب : لا ؛ فقد بلغ به الضيق مبلغه في أول الأمر ، لكنها طبيعة العمل ؛ فكان
حريصاً على غض بصره ، وألاّ يتكلم إلا بقدر الحاجة . وكذلك كانت زميلته على
جانب من الحياء والستر ؛ فالرجل ذو هيبة ووقار .
المثال الثاني : هو من الدعاة إلى الله عز وجل يتجول في حقول الدعوة يجاهد
بقاله وحاله ؛ سلاحه قلمه ولسانه ، وينتهي به التجوال إلى منزل أهله أو مجلس
قرابته أو منتجع زملائه ، وهنا ينسى وظيفته ويلقي سلاحه ، إنهم يرغبون أن
ينظروا إلى التلفاز في مجلسهم والداعية إلى الله أجلُّ من أن تكون له فيه رغبة ،
ولكن لا بد من اللقاء والأنس . فكان كلما حضر مجلسهم ؛ أغلقوا التلفاز أدباً . ثم
تتتابع المجالس وتأخذ دورتها مع الأيام ، فيرغب بعضٌ في فتح الجهاز ؛ فمن أراد(1/300)
المشاهدة ينظر ، ومن لم يرد فلا . ثم بعد ذلك بمدّة تكون خطوة أخرى برفع مستوى
الصوت في بعض البرامج كالفقرات الإخبارية فقط ، ثم تتلوها المباريات الرياضية. ومع اعتياد ذلك يتتابع التردي في خطوات الشيطان ليُسمح أو يُتَسامَح في رفع
مستوى الصوت وخفضه عند مشاهد مثيرة في أفلام ومسلسلات ! فكان ينظر لا
إرادياً استجابة لشدة تفاعل جلسائه مع لقطة مباراة ، ثم يغض بصره سريعاً وينظر
ثانية استجابةً لتفاعل آخر لإثارة الفيلم . وهكذا حتى أصبح يسارق النظرات تلو
النظرات ، ثم يستجيب لتلك المثيرات ، ومع توالي الأيام وصل الأمر إلى ما رأيت .
أيها القارئ الكريم ! لا تظن أن هذا المقال كتابة ناقد أو نقدُ كاتب ؛ بل هو
بث محزون وخلجات محب ، عجب مما عجبتَ منه ، وآلمه ما رأيتَ فكان هذا
المقال انبعاثاً من قوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون كرجل واحد إن اشتكى
عينه اشتكى كُلُّه ، وإن اشتكى رأسه اشتكى كُلُّه » [1] وقوله : « مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى » [2] .
فليس ثمة إلا تداعي الجسد لعضو من أعضائه .
ولعلاج ذلك العضو الشاكي لا بد من تشخيصٍ دقيق للداء الذي أصابه ؛ فإذا
كان كافة المؤمنين هم الجسد فإن أعيانهم هي الأعضاء ، وبمجموعهم يتكوَّن جسد
الأمة ؛ لذا أحببت أن يكون ما تقدم من أمثلة نموذجاً لعضو أو بعض من هذا الجسد
أصابه الداء نسترشد في تشخيصه بأنوار الوحي « فكل الصيد في جوف الفَرَا » [3].
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : « إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن
كثيرٌ من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا(1/301)
وإن لكل ملكٍ حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه » [4] . قال ابن رجب رحمه الله :
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مَثَلَ المحرمات كالحِمى الذي تحميه الملوك
ويمنعون غيرهم من قربانه ، والله عز وجل حمى هذه المحرمات ومنع عباده من
قربانها وسماها حدوده فقال سبحانه : ? تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ?
( البقرة : 187 ) وهذا فيه بيان أنه حدَّ لهم ما أحل لهم ، وحدَّ لهم ما حرم عليهم ،
فلا يقربوا الحرام ولا يتعدوا الحلال ؛ ولذلك قال في آية أخرى : ? تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ
تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ? ( البقرة : 229 ) . وجعل من
يرعى حول الحمى وقريباً منه جديراً بأن يدْخُل الحمى ويرتع فيه ، وفي هذا إشارة
إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات وأن يجعل المسلم بينه وبينها حاجزاً » [5] فنبه
رحمه الله تعالى على هذه الإشارة النبوية إلى الدواء المتضمن لبيان الداء ؛ فإن كان
الدواء التباعد عن المحرمات فإن الداء في التقارب منها « يرعى حول الحمى » ألا
ترى أن المحرَّم هو ما بداخل الحمى ، وما حوله حلال ، ولكن « يوشك أن يرتع
فيه » فالرَّعْيُ حول الحمى ذريعة موصلة إلى رعي الحمى نفسه .
إن في دلالة الحديث على الداء « التقارب من المحرمات » معانيَ لطيفة ؛
ذلك أن الشارع إذا نهى عن معصية وزجر عنها أوجب ذلك على المسلم نفرة
ووحشة من هذه المعصية « الحمى » فكلما كان بعيداً عن الحمى كانت النفرة
والوحشة أبلغ ، والزجر قد أخذ مأخذه ؛ وذلك أن طبائع النفوس البشرية تألف ما
تقاربت منه وتعتاده ، وتزول بينها وبينه كل الحواجز وتتكسر العوائق ، فتضعف
في النفس زواجر الوعيد وقوارع التهديد بسبب الإلف والاعتياد الذي هو أثر
المقاربة للمحرمات .
ولتستبين أن الداء هو التقارب من المحرمات ( الحمى ) وأثره المترتب عليه(1/302)
فانظر إلى أثر التقارب في النفوس البشرية وما تقاربت منه وإن كانت لا تحبه ، بل
قد يكون خطيراً عليها .
ألا ترى إلى ساكن البادية قد أَلِفَ المبيت بها بين دوابها وهوامّها . بينما لو
أتينا بساكن المدينة ليبيت ليلة في البادية لكثرت عليه الخواطر : يفزعه كل صوت
يسمعه ، يتخيل دواب الأرض وعقاربها وأفاعيها تحيط به من كل جانب ،
يستحضر قوة سمومها وسرعة نفوذها ، فلا يكتحل طرفه بمنام . فانظر إلى أثر
القرب والبعد عند كلٍ منهما . ساكن البادية لا يجهل أنها إن لدغته تقتله ، وقد لا
يتيسر له الدواء في زمن كافٍ ، ويعلم أنها خطيرة عليه وعلى صغاره الذين
يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم حتى ولو بالهرب عنها . بل كم شيَّع من جنازة
قريب أو صديق كانت هذه الهوامّ سببها ! ولا تعجب فكم من مرة يرى هذه الدواب
ويذهب في شؤونه دون أن يتعرض لها بسوء ! إنه التقارب منها وما يترتب عليه
من طبيعة الإحساس بكل هذه المخاطر ؛ فعينه قد اعتادت رؤيتها ، وأذنه قد ألفت
سماع أصواتها ؛ إنه الإلف والاعتياد بسبب المقاربة . وذاك صاحب المدينة ينام
قرير العين هادئ البال بعد أيام أو أسابيع من سكناه البادية .
وليتجلى لنا أثر التقارب والتباعد في غياب حرمة الحِمى وخطره وشناعة
المحرمات واستشعار ذلك فإننا نتدارس هذا النص النبوي :
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : « مُرُوا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين ،
وفرِّقوا بينهم في المضاجع » [6] .
إن شطر الحديث الأول يرشد إلى أن التقارب من الصالحات سبيل إلى إلفها
واعتيادها وترويض النفس على قبولها والمداومة عليها ، فإذا بلغ الصبي سبع سنين
فإنه يؤمر بها فتألف أذنه الأمر بها ؛ إذ يتكرر عليه ذلك خمس مرات في اليوم
والليلة ، وتعتاد قدماه المشي إلى المساجد ، وترى عينه المصلين يترددون إلى(1/303)
المسجد . يرى المصلين صفوفاً يتقدمهم الإمام . يتكرر هذا لمدة ثلاث سنوات ،
وهذه السنوات الثلاث تعد مرحلة أولية تهيئةً لما بعدها . ثم المرحلة الثانية
« واضربوهم عليها لعشر سنين » وفي هذه المرحلة يكون الصبي قد اعتاد
الصلاة وأصبح لديه تصور مجمل لهيئتها وعدد مراتها والتمييز بين الفروض ،
وتكون هذه المرحلة أكثر حزماً ؛ فإن فيها أمراً زائداً عن مجرد الأمر بالصلاة :
« واضربوهم » . وتستمر هذه المرحلة إلى سن البلوغ . فهذه قرابة ثماني سنوات
تشكِّل دورة تدريبية في التقارب مع هذه الطاعة ، فيألفها ويعتادها ويحبها بسبب
تقريبه منها ومن أهلها كما مر بك . فإذا أُعلِم بها وبمكانتها في الإسلام عند جريان
قلم التكليف عليه سهل عليه القيام بها بخلاف من لم يُراعَ في حقِّهِ هذا الإرشاد
النبوي .
وفي شطر الحديث الثاني قوله صلى الله عليه وسلم : « وفرِّقوا بينهم في
المضاجع » انظر إلى لطيف الإشارة النبوية في تحديد وقت التفريق في المضاجع
عند سن العاشرة بين الأبناء والبنات ؛ ففي هذه السن تكون بعض البنات قد بلغن
سن الرشد أو قاربن البلوغ [7] ؛ وإن لم يكن فلا أقل من تغيُّر جسمها وهيئتها عن
جسم الصبية .
وقد جرت عادة الناس أن يتخذوا لنومهم ملابس لها خصوصيتها من خفة
وشفافية وقد تكون مجسِّمة ( كالبجامة ) ، وما كان هذا وصفه من اللباس من حيث
الشفافية أو التجسيم أو كشف أجزاء من البدن لا يكون ساتراً للعورة . وقد ينكشف
الغطاء أثناء النوم فتبدو العورات ، فإن لم يكن التفريق في المضاجع انكسر حاجز
الحياء ، وضعفت الاستجابة للأمر والنهي في حفظ العورة وسترها . وذلك كله
بسبب الاعتياد والإلف لتكرار هذا المشهد نتيجة المقاربة والمجاورة ، بل قد يتعدى
الأمر إلى أبعد من ذلك وأخطر . فهذا صاحب كتاب « مسؤولية الأب المسلم »
يضمِّن كتابه مبحثاً عن الانحرافات الجنسية عند الأطفال ؛ فإذا به يتعرض للحديث(1/304)
الذي نحن بصدد دراسته فيقول : « ولا بد من التفريق بين الأولاد عند النوم خاصة
بينهم وبين البنات ؛ فإن كثيراً من الانحرافات الجنسية المبكرة يعود سببها إلى
إهمال التفريق بين الأولاد في المضجع ، ونومهم مع الأبوين في غرفة واحدة .
ويكون ذلك بتخصيص غرفة للأولاد ، وأخرى للبنات ، وثالثة للأبوين ، مع
استقلال كل طفل بغطاء يخصه فينبغي عدم المشاركة في الغطاء » [8] فانظر إلى
لطيف الإشارة : « وفرقوا بينهم في المضاجع » .
وإلى دليل آخر من الوحي :
إن الإسلام يُرغِّب في النكاح ويحث عليه ؛ ولأن الأسرة لَبِنَةٌ في بناء صرح
الأمة فإن الإسلام يحافظ عليها من أن تُهدم ، ويجعل سياجاً منيعاً من الترغيب
والترهيب يطوقه علاقة الزوجين ببعضهما ؛ لتشتد هذه اللبنة ؛ فيبدو صرح الأمة
شامخاً . فعندما يحدث خلاف بين الزوجين فإن الشرع قد وضع مراتب لتأديب
الزوجة . ومحل الشاهد من ذلك مرتبة الهجر ؛ حيث شرع الله تعالى أن يكون
الهجر في المضجع فحسب ؛ لأن البعد شأنه أن يزيد من اتساع الفجوة بينهما ،
فشرع الهجر في المضجع ؛ لأن القرب له أسرار منها : عدم النفرة ، وسكون
النفس ، والصحة ، والأنس .
واسمع إلى قول صاحب تفسير المنار : « لأن الاجتماع في المضجع هو الذي
يهيج شعور الزوجية فتسكن نفس كل واحد منهما إلى الآخر ويزول اضطرابهما
الذي أثارته الحوادث قبل ذلك . فإذا هجر الزوج زوجته وأعرض عنها في هذه
الحالة احتمل أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ،
ويهبط من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة » [9] .
سبحان الله ! إن المقام مقام تأديب وبنوع من التأديب فيه حزم وشدة ، ومع
ذلك يرشد الشارع بأن يكون الهجر مقيداً بالمضجع ، وذلك لما فيه من المقاربة من
المعاني التي سقناها ، فتتبدل المخالفة إلى الموافقة في أكثر الأحيان .
ثم إن لم تحصل الموافقة وحصل الطلاق ، فإن كان رجعياً فإنه يجب عليها أن(1/305)
تمكث مدة عدتها في بيتها لا تخرج منه ، كما لا يحق للزوج أن يخرجها قال تعالى :
? لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ ? ( الطلاق : 1 ) فتأمل كيف أن الشارع
أمر الزوج بعدم إخراجها وأمرها بعدم الخروج ؛ وذلك مدة العدة وقدرها ثلاثة قروء،
ثم تأمل قوله سبحانه بعد ذلك : ? لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ?
( الطلاق : 1 ) ففي ذلك حكمة لطيفة ؛ حيث إن الشارع أشار إلى أن بقاء الزوجة
في بيتها قريبة من زوجها من أقوى عوامل المراجعة . وذلك أن في القرب
أسراراً فيراها وتراه ، ويحن لها وتحن له ، فتتحرك في النفس كوامن الرحمة
والمودة والعطف ، ولهذه المقاربة دور في إبعاد النفرة وتسكين الألفة بدلاً منها ،
وإلى هذا المعنى الموجود في التقارب بين الزوجين وعدم المفارقة زمن العدة إن كان
الطلاق رجعياً نجد الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى : ? لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ? ( الطلاق : 1 ) . وكما أن
الرجعة تكون بالقول فهي أيضاً تكون بالفعل [10] . هذه الحكمة بما فيها من معان
تكون متعذرة إذا كانت الزوجة خارج بيتها بعيدة عن زوجها .
وإلى شاهد آخر من السنة النبوية يقرر أثر التقارب والتباعد في النفوس
البشرية :
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : « أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ؛ لا تراءى
نارهما » [11] .
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبايعك على أن
تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتناصح المسلمين ، وتفارق
المشرك » [12] .(1/306)
فانظر رعاك الله إلى أي مدى من الخطورة يُشعِر بها هذا الحديث في الإقامة
بين المشركين والقرب منهم ؛ بل انظر إلى الدقة في الحرص على قطع جميع
العلائق حتى ما كان منها بالاتصال البصري « تراءى نارهما » ذلك أن هذا الأمر
يفضي إلى ما قدمناه من الألفة والأنس به والتطبع على مقاربته ، ويزيل من النفس
الوحشة والنفرة من المشرك ومعاداته على سبيل المسارقة والتدرج ، بل قد يفضي
به إلى مودته لما قد يتصف به من حسن خُلُقٍ وطيب معشر وكرم جوار ، وينبهر
بما لديه من تقنية أو حرفة أو علم فيحبه لذلك ، ولأجل هذا القرب وما تبعه من آثار
غاب عنه منافرة المشرك وبغضه واستشعار حقيقة ? إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ?
( التوبة : 28 ) .
إذا ما علمت هذا تجلت لك الحكمة من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا
تراءى نارهما » وما في ذلك من المبالغة في مباعدة المشرك وبغضه ، ولهذا كان
صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك في نفوس أصحابه فيقول لجرير بن عبد الله رضي
الله عنه في بيعته ، ويبايعه على « وتفارق المشرك » .
ثم إلى إشراقة أخرى من أنوار الوحي فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل ،
والسكينة والوقار في أهل الغنم » [13] .
فانظر إلى أثر التقارب على كلا الفريقين . قال صلى الله عليه وسلم من
حديث أبي مسعود رضي الله عنه : « والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين عند
أصول أذناب الإبل » [14] .
قال الإمام النووي رحمه الله : وقوله : « عند أصول أذناب الإبل » معناه :
الذين لهم جَلَبَةٌ وصياح عند سَوْقهم لها » [15] فما كان هذا حاله من الدواب كان حرياً
بمن يتولى رعيها أن يتصف بالغلظة والجفاء المكتسب من طبع هذه الدواب بخلاف
حال الغنم ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ : « اتخذي غنماً ؛
فإنها تروح بخير وتغدو بخير » [16] و قال : « اتخذوا الغنم ؛ فإنها بركة » [17] .(1/307)
فلما كان هذا حالها تروح بخير وتغدو بخير كان وصف أهلها « السكينة في
أهل الشاء » [18] ومن أصيب بالغلظة والجفاء جديرٌ بأن يكون من أهل الفخر
والخيلاء . فتدبر .
ومع كلمات نيرات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في التشبه بالكفار
نجد فيها شاهداً لما نحن بصدده فيقول رحمه الله : « إن الله جَبَلَ ابن آدم بل سائر
المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان
التفاعل في الأخلاق والصفات أتم ؛ ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني
آدم ، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة . وكذلك الآدمي إذا عاشر
نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه ؛ ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل
الإبل ، وصارت السكينة في أهل الغنم ، وصار الجمَّالون والبغَّالون فيهم أخلاق
مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلاَّبون ، وصار الحيوان الإنسي فيه من
أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة .
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم ،
كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من
غيرهم ممن جَرَّدَ الإسلام . والمشابهة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور
الباطنية على وجه المسارقة والتدريج الخفي » [19] ، فانظر إلى تقريره رحمه الله
كيف تورث المشابهة والمشاكلة والمعاشرة المحبة والألفة وقلة النفرة ، وهل
المشابهة والمشاكلة والمعاشرة إلا وسيلة تقارب بين المتشابهين والمتشاكلين
والمتعاشرين فكان الأثر مترتباً عليها ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله : « إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة
ومحبة وموالاة في الباطن حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار
غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم ، وإن كانا في مِصْرهما لم يكونا(1/308)
متعارفين أو كانا متهاجرين ، وذاك أن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن
بلد الغربة . بل لو اجتمع رجلان في سفر أو في بلد غريب وكانت بينهما مشابهة
في العمامة أو الثياب ، أو الشعر ، أو المركوب ، ونحو ذلك ، لكان بينهما من
الائتلاف أكثر مما بين غيرهما . هذا كله موجب الطباع ومقتضاه إلا أن يمنع من
ذلك دين أو غرض خاص » .
وتأمَّلْ صنيع البخاري رحمه الله في صحيحه ؛ حيث جعل في كتاب الإيمان
باباً أسماه « باب من الدين الفرار من الفتن » ضمنه حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن يكون خيرَ
مال المسلم غنم يتبع بها شَعفَ الجبال ومواقع القَطْر ، يفر بدينه من الفتن » [20] .
وبعد هذه الإضاءات من النصوص الشرعية أرجو أن يزول عنك العَجَبُ
وتقف على مكمن الداء ، وفي ضده يكون الدواء ، ولله در شيخ الإسلام ! فذلك كله
موجب الطباع ومقتضاه .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى
يوم الدين .
________________________
(1) رواه مسلم ، ح/4686 .
(2) رواه مسلم مع شرح النووي ، (16/356) .
(3) الفَرَا : حمار الوحش وهو مثل يضرب لِمَا يُغْني عن غيره .
(4) رواه مسلم ، ح/2996 .
(5) جامع العلوم والحكم (208) بتصرف .
(6) المسند (6756) ، قال أحمد شاكر : صحيح .
(7) ولا يخفى عنك دخول النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين .
(8) مسؤولية الأب المسلم ، اعدلوا عدنان حسن باحارث (643) .
(9) نقلاً عن مفصل أحكام المرأة ، للدكتور عبد الكريم زيدان (7/ 315) .
(10) المراد بالفعل هنا الجماع .
(11) إرواء الغليل (5/30) وقال : صحيح .
(12) صحيح الجامع (1 687) .
(13) مسلم (2 ، 223 ، ج 190) .
(14) البخاري مع الفتح (7/701 ح/4387) ، مسلم (2/219 / 179) .
(15) مسلم بشرح النووي (2/221) .
(16) صحيح الجامع (1/78) .
(17) صحيح الجامع (1/78) .(1/309)
(18) صحيح الجامع (1/687) .
(19) اقتضاء الصراط المستقيم (1/487) .
(20) صحيح البخاري في الفتح (1/87 / ح 19) .
قضايا دعوية
أيها الدعاة ..
الخطوة الأولى لم تتخذ بعد !
محمد بن عبد الرحمن الزامل
النجاح في أي عمل ، صغر أم كبر ، مرتبط بشكل كبير بتوافر المعلومات
عن مجال العمل ومكانه وزمانه ، وليس من المبالغة حينما أشير إلى أن بعض
الأعمال كان رأس مالها الحقيقي هو المعلومة .
إذا كان هذا من المسلَّمات عند أصحاب الأعمال التجارية فإن مما يعتقده الدعاة
أن عملهم ورسالتهم أنبل من الماديات وأرقى ، وهي أهم وأبعد أثراً ، وحاجة
الناس إليها أشد ، ومع ذلك فهم لا يحتفون بالمعلومة ولا يقيمون لها وزناً ؟ !
وقد يكون هناك عدة أمور نستطيع بها تفسير ظاهرة العزوف عن دراسات
المعلومات عند بعض الدعاة ، ولكني أراها تُهَماً لهم قبل أن تكون تفسيرات ؛ ولذلك
فإني أدرك قسوة بعضها ، لكن هذا لا يغني أبداً عن تسليط الأضواء عليها ، حتى لو
جهرت أعيننا الأضواء لبعض الوقت .
أول هذه التفسيرات ( الاتهامات ) : أن بعض الدعاة - على الرغم من جهدهم
العملي - لا يقلقهم حقاً عملية النجاح ولا تؤرقهم ، كما لو كان الأمر متعلقاً بشأن من
شؤون الدنيا . وانعدام هذا الشعور بالقلق « القلق الفاعل » يورث بلادة في الحركة
ورتابة فيها ، ويحولها إلى نوع من أداء مهمة صرفة ينجزها عامل لا يشعر بأي
روح انتماء إلى مؤسسته التي يعمل بها .
ثاني هذه التفسيرات ( الاتهامات ) : الفهم القاصر لمفهوم التوكل ، ومفهوم
الإيمان بالغيب ، ومفهوم القدر ، ولو قلنا بسلامة المفهوم فستبقى الإيحاءات الخاطئة
التي تتركها بعض هذه المفاهيم في نفوس الدعاة ، الإيحاءات الخاطئة التي سببُها
الرئيس عدم تحويل هذه المفاهيم إلى واقع عملي يهدي طاقتها الإيحائية إلى الاتجاه
الصحيح . فالإيمان بالقدر عند بعض الناس معناه عدم أهمية التخطيط والرصد ،(1/310)
والتوكل على الله يوحي أحياناً بعدم قبول المقارنة بين الأعمال الدعوية ، والأعمال
ذات الطابع الدنيوي البحت .. والإيمان بالغيب يوحي أحياناً بتفاهة الدراسات
المستقبلية ، وهكذا ، فإن المفهوم الصحيح نظرياً يتحول بانحراف إيحاءاته إلى قوى
مثبطة غير فاعلة .
ومن هذه التفسيرات ما يمكن وصفه بأن الدعاة يبقون بشراً ، والإنسان لا
يصنع نفسيته وطريقة تفكيره وشخصيته وحده ، بل لمجتمعه المحيط أثر بالغ في
ذلك ، ومجتمعاتنا لم تعلمنا أهمية المعلومة ، ولم تعلمنا كيف نتمكن من نقلها إلى
الواقع ، ولو فعلنا ذلك فإنا لم نتعلم كيف نحسن استغلال المعلومة والإفادة منها ،
والتأثير في عملية سيرها الفعلي .
وحتى لا تنحدر الكلمات إلى مجرد تهويمات فإن أحد التحديات التي تواجهنا
اليوم تحدي الانفتاح الإعلامي الذي أثار بيننا موجة عاصفة من الاستياء ، فقد تحول
هذا الاستياء من العمل إلى النهش من أطرافنا نحن بدل أن يكون له دور في
المقاومة ؛ فطاقتنا تحولت إلى مجرد ضجيج وتنديد مستمر ، والنياحة المفرطة
صارت تمارس عملية تهويل الانفتاح إلى وحش لا يقهر ، ولو كنا أدركنا واقع قوله
تعالى : ? كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ? ( القصص : 88 ) باعتباره مفهوماً شرعياً
كما أدركناه نظرياً لعلمنا أنَّ ما من شيء إلا ويحمل في ذاته بذور هلاكه ، فقط يبقى
فصل البحث المعلوماتي عن هذه البذور ، واستنبات بذور غيرها لعمل إعلامي
هادف .
________________________
المنتدى
تطاوعا ولا تختلفا
أكرم عصبان الحضرمي
إن المتأمل لشجرة الدعوة المباركة ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة
يرى امتداد ظلالها الوارفة يوماً بعد يوم ، وإتيان ثمارها اليانعة كل حين ، إلا أن
العواصف تتتابع لاجتثاثها ، والأمراض تهدد نموها وانتشارها ، ويأبى الله إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون ، ومن هذه الأمراض والعواصف عاصفة الاختلاف
العاتية بين أبنائها .(1/311)
ذلك الاختلاف الهائل الذي أدى إلى أمرين خطيرين :
1 - الشماتة بالدعاة ودعوتهم ، فيكون التنافر والتنابز مجلبة لازدرائهم ؛
حيث يجد المتربصون بالدعوة فرصة عظيمة للنيل من أصحابها والشماتة بهم ، كما
قال هارون لموسى عليه السلام حين أخذ برأسه : ? فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ?
( الأعراف : 150 ) .
2 - انجفال المدعوين عن الدعوة ، والنفرة من أصحابها لعدم اتفاقهم في
الدعوة أو عدم مراعاة آداب الخلاف ؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي
موسى الأشعري و معاذ رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن داعيين : « تطاوعا
ولا تختلفا » [1] ، وقد قيل لابن مسعود : عبتَ على عثمان ثم صليتَ أربعاً ! قال :
الخلاف شر [2] .
وللاختلاف والفرقة بين الدعاة أسباب عديدة ، من أهمها :
أ - الدعوة إلى النفس أو الجماعة : إن الدعوة يجب أن تتمخض خالصة
للكتاب والسنة ، فيكون استتباع الناس بعلم : ? يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ ? ( مريم : 43 ) ، وهدفه الهداية إلى الحق : ? فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياًّ ?
( مريم : 43 ) ، ? اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ? ( غافر : 38 ) ، وليحذر
الداعي أن يقع في المحذور فيدعو إلى شخصه أو نهجه أو جماعته ، وإلى هذا الأمر
أشار القاسمي رحمه الله بقوله : « ولم تجد سبيلاً الطوائف المختلفة لاستتباع الناس
لها إلا بالغلو بنفسها ، وذلك بالحط من غيرها والإيقاع بسواها حسب ما تسنح لها
الفرص وتساعدها الأقدار وإن كان بالسنان واللسان » [3] .
ب - الغبن والبغي : الغبن في حق الدعوات المخالفة من أعظم أسباب
الاختلاف والفرقة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك : « لأنَّ إحدى الطائفتين لا
تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من
الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك ، ولذلك جعل الله مصدر الاختلاف
البغي » [4] .(1/312)
فعلى الداعية أن ينظر إلى سبق إخوانه في الخير والفضل ، ويجعل من ذلك
شفيعاً لهم في التأدب معهم في زلاتهم وَهَنَاتهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في
موسى عليه السلام حين ألقى الألواح ، وجر بلحية أخيه ، وفقأ عين ملك الموت :
« لم يعتب عليه ربه ؛ إنه وقف تلك المقامات العظيمة ، وقاوم أكبر أعداء الله ،
وعالج بني إسرائيل . و ذو النون لما لم يكن في هذا المقام سجنه في بطن الحوت
من غضبة ، وقد جعل الله لكل شيء قدراً » [5] .
ج - الانتساب المفرق : لا يكمن خطر الخلاف في تنوع العمل وتعدد
الجماعات غالباً ولكنه في التعصب لهذا العمل أو ذاك ، بحيث يصير معقد ولاء
وبراء ، ومحبة وبغض . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « وإذا تفقه الرجل بطريقة
قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم
العِيار ، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم » [6] ، وقال أيضاً : « ولا يحتاج
الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين ، كل من أفاده إفادة دينية هو شيخه فيها ،
وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك ؛ بل عليه أن
يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ
وغيرهم » [7] .
د - الحسد : إن داء الحسد جر كثيراً من هذه المشاحنات بين الجماعات أو
الدعاة ، وهذه قصة تبين ذلك . قال الإمام الذهبي : كثر أصحاب الإمام البربهاري
فاجتاز الجانب الغربي ، فعطس فشمّته أصحابه ، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها
الخليفة فأُخْبِر بالحال ، فاستهولها ، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلبه حتى نودي في
بغداد : لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري ، فاختفى [8] .
________________________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، للشيخ الألباني ، 3/142 .
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، للشيخ الألباني ، 1/394 .
(3) كتاب الجرح والتعديل ، لجمال الدين القاسمي .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم ، 40 .(1/313)
(5) انظر مدارج السالكين ، لابن القيم ، 2/456 .
(6) الفتاوى ، 20/8 ، وانظر : 20/164 ، 3/347 .
(7) الفتاوى ، 12/512 ، وانظر : 12/514 .
(8) انظر : السير : 15/92 .
الورقة الأخيرة
واقعنا بين الـ ( كم ) والـ ( كيف )
د . شاكر السروي
نخطئ كثيراً عندما ننساق في زحمة الهموم وفي خضم السعي لتكثير سواد
المسلمين وراء الكم والحرص على تحصيله دون التأكد من الكيف والعمل على
تحقيقه .
كما أن الصواب لا يحالفنا عندما نعتمد وسيلة تأليف القلوب بالماديات فقط مع
المدعوين مهما امتد مكثهم بيننا .
بل إن الخطأ يكون أشنع عندما نعتمد هذه الطريقة أداة رئيسة في استبقائهم
معنا ، وربما وفي أحيان كثيرة تكون هي الأداة الوحيدة .
إن الأمر قد لا يكون بهذا الوضوح في واقع الدعوة ، كما هو من الناحية
النظرية ؛ فقد يكون من المدعوين من يستمر في الطريق ؛ لأنه يحصل على ميزات
هي في مضمونها للدعوة ، ولكنها تكون وسيلة لاجتذابه ، لكونه المباشر لها ،
والقائم عليها ، وتكون في ذلك قد وافقت منه حباً للظهور أو التصدر والرياسة ،
ويصحب ذلك من المربي بقصد أو بدون قصد عدم الحرص على تزكيته وربطه
بالدار الآخرة ؛ فيكون والحالة هذه في نظر من ضعفت فراسته شعلة من النشاط ،
وطاقة لا تنضب ، وفارس ميدانه ووحيد عصره ، إلى غير ذلك من الألقاب
والنعوت ، ثم يُمكَّن له أكثر فأكثر ، ويتصدر ثم يتصدر ، حتى إذا صلب عوده ،
واشتد ساعده لم يمكن بعد ذلك كبح جماحه فضلاً عن تزكيته .
ومثل هؤلاء قد لا يظهر عُوارهم في المألوف من الأحوال والأزمان ، وإنما
عندما تأتي سنن الابتلاء بالخير أو الشر ، وعندها تكون ضرباتهم في مقاتل .
إن غرس مبدأ التطلُّع للآخرة والسعي لطلب مرضاة رب العالمين هو الأساس
الذي قامت عليه الجماعة الأولى ، والركيزة التي انطلق منها الرسول الكريم عليه
أفضل الصلاة وأزكى التسليم لبناء القاعدة الصلبة التي ثبتت وضحَّت وآثرت(1/314)
الآخرة على الأولى ، فكانت ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
جاء الأنصار في بيعة العقبة يُشارطون الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما
عرفوا شرطَهُ ، تساءلوا : ما لنا ؟ فكان الجواب : « لكم الجنة » .
فتربى على هذا الأمر الجميع والتزموه منهجاً ، فلم تُغْرِهِمُ المغريات ، ولم
تفتنهم المفاتن ، بل ضحُّوا في سبيل ذلك بكل غالٍ ونفيس ، وضربوا في سبيل
الثبات على المبدأ أروع الأمثلة في البذل والعطاء والتضحية .
فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه أنعم فتى في مكة يهجر كل لذة دنيوية ،
ويبذل كل البذل حتى يتوِّج ذلك بالشهادة في سبيل الله ، ثم لا يُوجد له ما يُكفَّنُ به ،
فيُغَطَّى أسفله بورق الإذخر .
وهذا صهيب رضي الله عنه يترك كل تجارته في سبيل اللحاق بركب
المصطفى صلى الله عليه وسلم مهاجراً ، وهؤلاء الصحابة يحفرون الخندق وقد
ربطوا على بطونهم الحجارة ، وإذا ما شبع أحدهم يوماً وقف مع نفسه وقفة
المحاسبة والعتب والخوف أن تكون حسناته قد عُجِّلتْ له ! !
بل العجب لا ينقضي وأنت تقرأ حديث جابر رضي الله عنه الذي عند مسلم
قال : « سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت كل رجل منا في كل
يوم تمرة ، فكان يمصها ثم يصرُّها في ثوبه ، وكنا نختبط بقِسِيِّنا ونأكل ، حتى
قرحت أشداقُنا ، فأُقسم أُخْطِئَها رجلٌ منا يوماً فانطلقنا به ننعشه ، فشهدنا أنه لم
يُعطَها فأُعطيها فقام فأخذها » [1] .
فعجباً لأولئك القوم يجاهد أحدهم بنفسه ، ويسعى ليبذل روحه رخيصة في
سبيل الله ، حتى إذا أخطأته تمرة هي كل قوته في يوم كامل لم يكن له أن يأخذ
عوضاً عنها وقد حُمِلَ حملاً من شدة الجوع حتى يقيم البينة على ذلك ! !
فما أحوجنا في زمن المغرِيات ، والملهِيات ، ومع تكاثر من يبيع دينه بعَرَضٍ
من الدنيا قليل ، أن نكون أكثر حرصاً وأدق تمحيصاً للصف ، وأن نعين إخواننا
على تصحيح النوايا وتصويب المقاصد ، ولا ننسى مع ذلك أن الأمر يقضى في(1/315)
السماء ؛ فلنجتهد في الدعاء ، ولنتزود بالتقوى . قال تعالى : ? وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ? ( آل عمران : 120 ) .
________________________
(1) رواه مسلم ، ح/ 3011 .
وقفات
بداية النهاية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
الإحباط داء من الأدواء المهلكة التي قد تعرض لبعض السالكين في طريقهم ؛
فهو يرى انتفاش الباطل ، وعلوَّ سلطانه ، وامتداد تأثيره . يلتفت يمنة ويسرة فيجد
أعداء الله تعالى يمكرون الليل والنهار بإمكانات مادية وتقنية بشرية هائلة ، ثم يشعر
جازماً بأنَّ الأحداث والوقائع إنما تجري بتخطيط محكم ، ودراسة متقنة ، وأنَّ الناس
ما هم إلا دمى يعبث بها صنَّاع القرار من أهل الباطل ، أو مجرد أحجار على رقعة
الشطرنج يتداول تحريكها وإسقاطها المتنافسون على القصعة المستضعفة
المهينة .. ! !
يرى ذلك كله ، ثم يرى في الجهة الأخرى أنَّ الحق مهيض الجناح ، ضعيف
السلطان ، لا شوكة له ولا ظهور ، كما يرى أن السنوات الطويلة التي قضاها في
الدعوة أو التعليم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الجهاد في سبيل الله لم
تُؤتِ ثمارها كما يجب ، بل قد تتوالى عليه الفتن ، وتضيق عليه الدائرة ، وربما
رأى من أمراض الصحوة الإسلامية ما يزيد من الفتِّ في عضده ، والتقليل من
همته وعزيمته .. !
والنتيجة الحتمية لهذه الحالة المتقدمة من الإحباط هي اليأس والاستسلام ، ثم
القعود والركون إلى الدنيا ، أو في أحسن الأحوال الانكفاء على الذات والاعتزال .
والإحباط هو بداية السقوط والنهاية ، وهو آية من آيات ضعف الإيمان ،
وضعف الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه . وأمَّا أهل الإيمان الراسخ فإن ثقتهم بالله
تعالى عظيمة ، وتوكلهم عليه كبير ، لا يزالون معتصمين بحبل الله المتين ، لا
يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله .
إنَّ الإيمان بمعية الله تعالى للمؤمنين من أعظم عناصر القوة ، والمؤمن الحق(1/316)
لا يعرف اليأس ، ولا يستسلم لأحابيل الشيطان وتخذيله . وقوة الباطل وانتفاشه قوة
دافعة لأهل الإيمان تدفعهم لمواجهته ، والصبر في مدافعته . قال الله تعالى :
? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ? ( آل عمران : 173 ) . وقال الله تعالى : ? وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ
قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ? ( آل عمران : 146 ) .
وانظر إلى سِيَر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تراهم أعظم الناس ثقة بالله
تعالى على الرغم من الإعراض الذي يواجَهون به ، بل والأذى والاستهزاء
والحرب ؛ فها هو ذا نوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين بكل
ثبات وصبر ، ولم يفُتَّ في عضده أنَّ من آمن به قلة قليلة جداً من الناس ، ولم
يحبطه أن يكون أعز الناس إليه ممَّن كفروا بالله تعالى . قال الله تعالى : ? قَالَ رَبِّ
إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً *
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ? ( نوح : 5-10 ) .
ومن عجائب الثقة بالله تعالى ما نراه في سيرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه
وسلم ؛ ففي المدينة لمَّا تألب عليه الأحزاب في غزوة الخندق ، ورمته العرب عن
قوس واحدة ، وأصاب الناس بأس وشدة ، وزلزلوا زلزالاً شديداً كان النبي صلى(1/317)
الله عليه وسلم يربي أصحابه على الثقة بالله ، والاطمئنان بالنصر العاجل والآجل ،
والتصديق بموعود الله الذي وعدهم ؛ فعندما عرضت صخرة للصحابة وهم يحفرون
الخندق أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول وقال : « باسم الله » ، فضرب
ضربة فكسر ثلث الحجر ، وقال : « الله أكبر ، أُعطيتُ مفاتيح الشام ، والله إني
لأُبصر قصورها الحمر من مكاني هذا » . ثم قال : « باسم الله » ، وضرب أخرى ،
فكسر ثلث الحجر ، فقال : « الله أكبر ، أُعطيتُ مفاتيح فارس ، والله إني لأُبصر
المدائن ، وأُبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا » . ثم قال : « باسم الله » ،
وضرب ضربة أخرى ، فقلع بقية الحجر ، فقال : « الله أكبر ، أُعطيتُ مفاتيح
اليمن ، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا » [1] .
والعجيب أنَّ الناس انقسموا إزاء هذا الوعد فريقين : فقد حكى الله عن
المنافقين قولهم : ? وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ? ( الأحزاب : 12 ) . وأما المؤمنون فقد جاء وصف حالهم
بقوله تعالى : ? وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ? ( الأحزاب : 22 ) . موقفان
متقابلان : موقف المريض الهزيل ، وموقف المطمئن الراسخ في تصديقه ، الثابت
على دينه ، الذي لا تهزُّه الأعاصير ، ولا تضعفه المحن .. وشتان ما بين الموقفين .
نعم .. تربى الصحابة رضي الله عنهم على الشموخ والأنفة ! ففي غزوة أُحُد
لمَّا انكسر المسلمون ، وقُتِلَ من أَجِلَّة الصحابة من قُتل تنزَّل القرآن الكريم ليؤكد
حقيقة في غاية الأهمية وهي أن الإنسان المؤمن يشعر بالعزة والرفعة والعلو دائماً ،
ولا يتطرق الوهن أو اليأس إلى قلبه ، حتى في حال الانكسار . قال الله تعالى :(1/318)
? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? ( آل عمران : 139 ) .
إنَّ الإحباط لا يعرف طريقه إلى القلوب المطمئنة بذكر الله تعالى بل هي
شامخة بإيمانها ، معتزة بدينها ، قادرة على مواجهة الأمم كلها مهما بلغ سلطانها
وبلغت قوتها . أمَّا أصحاب النفوس الضعيفة التي عبث بها اليأس ، وعمرها القنوط
فإنها تخاف من ظلها ، ويحوطها الفشل والإحباط من كل جانب .. نسأل الله السلامة .
? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ? ( الأعراف : 126 ) .
________________________
(1) أخرجه أحمد في المسند (30/626) رقم (18694) ، وضعف إسناده المحقق ، ولكن حسنه ابن حجر في الفتح (7/397) .
قضايا دعوية
ما كل ما يعلم يقال .. وفي الدعوة أيضاً
سليمان الخضير
يصادف القارئ أثناء اطلاعه على بعض الكتابات التي تصف واقع المسلمين
أو تقومه مقاطع وفقرات قد صيغت بأسلوب يجمع بينها أنها تحمل في صريح
عباراتها آهات وزفرات أفرزتها غَيْرةٌ وحرقة فيما نظن لكنها تحكي من وراء
مجموعها نفسية قاتمة وتصوراً كالحاً للحال الذي يعيشه المسلمون ، وربما تزيد
الظلامية النفسية في بعضها فيعطي المتحدث أو الواعظ أو الكاتب وصفاً باستحالة
التغيير ، وأنه ضرب من إضاعة الوقت ، وخير له أن يُقْبِلَ على خاصة نفسه .
والحديث لا يدور في صحة فحوى تلك العبارات ، ولا على الباعث عليها ،
ولا هل كان أصحابها ذوي نفسيات تشاؤمية ؟ وإنما الكلام من خلال قاعدة مشهورة
هي أن ( ما كل ما يعلم يقال ) ؛ فلقد جربنا تحذير الناس عن طريق التألم على
الواقع ، وتعداد حالات الانحراف المرير ، وسردنا لهم أمثلة على تفاهة اهتمامات
الشباب ، وإسفنجية المرأة .. وأخطاء الصحوة .
ولكن هل الناس مع اختلاف نفسياتهم وتباين طباعهم يؤثر فيهم هذا الأسلوب
المفرد ؟ وهل مجموع الناس على الصفة المذكورة ؟(1/319)
فهل يسعنا أن نجرب بالإضافة إلى طريقة التحذير أسلوب إبراز الجانب
المشرق في واقع الناس من خلال إعلان النماذج الرائعة في التسابق للخيرات من
غير المتدينين والتصريح بإكبار الشباب لعلماء الشريعة وإجلالهم في نفوسهم ، وذكر
الأفكار التربوية التي تفتقت عنها تجارب ربات البيوت ، ومدى إقبال الفتيات
والأمهات على مدارس تحفيظ القرآن الكريم النسائية ، ونتائج الدراسات الميدانية
الإيجابية لواقع الناشئة والفتيان ؟
قد يكون الوصف المشين لواقعٍ مَّا صحيحاً ، ولكن التصريح به دائماً وربما
تعميمه يلقي في النفوس شعوراً بالإحباط ، ولعل هذا مما يشمله مفهوم حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند مسلم : « إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم »
على رواية فتح الكاف ، أي تسبب في هلاكهم بإشعارهم بالهلاك من خلال وصفهم
به [1] ، على نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه : « إنك إن
اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم » [2] . قال في فتح الودود : أي إذا
بحثت عن معايبهم وجاهرتهم بذلك فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم منك ، فيجترئون على
ارتكاب أمثالها مجاهرة [3] ، ربما كان سبباً في إعطاء بعض من لديه ميل للشر
جرأة على المنكر ؛ ولذا حرم الله سبحانه الحديث في من وقع في الزنا ، إلا من
قامت عنده البينة ( أربعة شهود بشروط ) ؛ لما في الخوض في ذلك من إشاعة
الفاحشة [4] قال الله تعالى : ? إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ
عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن
نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم(1/320)
مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ?
( النور : 15-19 ) ، وهذا عند ذكر الحالات الفردية ؛ فكيف إذا كان وصفاً
عاماً ؟ إنه حينئذ يتيح فرصة لمن كان يقلقه فعله المعصية أن يهدِّئ روعه ؛ فهو كما
يتصور من التعميم يرى المجتمع على مثل حاله ! ! وقد قال عثمان رضي الله عنه :
ودَّت الفاجرة ( أي الزانية ) لو أن أهل المدينة كلهم زنوا .
وفي المقابل فإن بعض النفوس لا تتحمل الوقوف أمام الخطر وحدها ؛ وتشعر
في الوقت نفسه أنها المكلفة بإزالته أو تغييره ولا يمكنها ذلك ، فتصادق اليأس وتلوذ
بالسلبية .
لقد كان أحد أسباب وقوع الناس في المعصية وغلبة الغفلة عليهم عدم
الإحساس بالمسؤولية ، وضعف الشعور بالانتماء للإسلام من خلال الفهم المخطئ
للانتماء للإسلام : أنه لا يكون إلا بالاتباع المحض ، والتدين الصادق ، فصاروا
ينظرون لأنفسهم نظرة تقويم سلبية تدفعهم لـ ( اللامبالاة ) بالأحكام الشرعية ؛
باعتبار وقوعهم في المعصية وخروجهم عن الإسلام الصحيح مع احتفاظهم بالاسم
وحين تذكر لبعضهم الجوانب المشرقة في نفسه ، والمواقف الإسلامية التي تُحفَظ له ،
ومشاعره الصادقة تجاه الدين وأهله : حينذاك تشرق نفسه وينفتح لها أفق جديد قد
لا يتغير في ظاهره شيء ولكن حسبنا أن وثَّقنا الإسلام في قلبه ؛ فهو خير لنا من
أن ننخذع بظاهرٍ باطنه خواء ، أو نخسر مسلماً فهم الانتماء للإسلام خطأ !
إنه مع وجود مظاهر الخلل والانحراف الواقعة في مجتمعات المسلمين اليوم فإن
جوهر الإسلام ولله الحمد باق ما يزال نابضاً في الحياة الاجتماعية الإسلامية إلى حد
كبير ؛ فجذوة العقيدة حية في النفوس علاها الرماد بتأثير المعاصي والمنكرات(1/321)
والبدع والخلط في بعض المفاهيم ك ( العبادة ، والإسلام ) ، والانصراف عن القوة
في أخذ الدين والجدية في التربية ، ولكنها حية تنتظر من ينفخ عنها الرماد لتشتعل
من جديد ، وبخاصة عندما تهدد الإسلام قوى خارجية أو داخلية ، وبتعبير أدق :
عندما ينجح الدعاة في إشعار جماهير المسلمين بوجود الخطر على الإسلام [5] ،
وأن كل فرد منهم عليه أن يساهم في رد هذا الخطر ؛ فجوهر الإسلام باق ما يزال
نابضاً في نفوسهم وكثير من أنماط حياتهم .
ولعلي لا أعد عدم التفات من لم يلتفت من الدعاة إلى هذا الملحظ
( إبراز الجانب المشرق ) أو عدم توفيته ما يناسبه من اهتمام لا أعده مشكلة حينما
تكون القناعة به راسخة في الأذهان ؛ فهو على غرار جملة من المبادئ
والمسائل والاهتمامات في طريقها للتنفيذ ، تختفي لبعض الوقت لتخلف القدرة
عليها تارة ، وتقدير عدم ملاءمة الزمان والمكان تارة أخرى !
إنما غاية الإشكال والحرج في عدم قناعة بعض الدعاة بوجود جانب مشرق
فضلاً عن جوانب في المجتمع ، وإنما الواقع في نظره أكوام من المنكرات تتكدس
شيئاً فشيئاً ؛ فتستحيل براكين يترقب ثوراتها في أي لحظة ، ومثل صاحب هذا
الرأي بحاجة إلى أن يقف على نتائج دراسات صادقة ، وبشائر لا تخلو منها
المجتمعات الإسلامية بحمد الله وتقديم الدلائل على أن بعض الأمور قد تكون في
ظاهرها شراً أو يغلب عليها الشر لكن فيها مصلحة خفية لا تلبث أن تربو وتنمو ،
فتزهر خيراً كثيراً ، وتثمر فجراً جديداً .
وحينما يؤكد على ضرورة إظهار الجانب المشرق للمجتمع ينبغي لنا مراعاة
أمور منها :
1 - أن ما تقدم لا يفهم منه المناداة بترك جانب التحذير بالكلية ، وإغفال
إيضاح أبعاد الشر ، وتقدير تبعاته لو استمر الحال ؛ فهذا الفهم انتقال من طرف إلى
طرف ، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه .
2 - إن إظهار الجانب الإيجابي ينبغي ألاَّ يكون مديحاً صرفاً يكال بالمكيال ،(1/322)
وإنما يوظف لنفض ما قد علق ببعض النفوس من اليأس والانهزامية ، وأن يكون
منضبطاً متزن الطرح ؛ فإنه قد يترتب على التوسع فيه ركون الناس إلى هذا
المديح والإخلاد إليه ، فيعمل فيهم عمل المسكر : نشوة ولا عمل !
3 - أن حاجة الناس إلى البرامج العملية التي تصحح واقعهم في أنفسهم
ومجتمعهم لا تقل عن حاجتهم لتقويم الواقع وتصحيحه ، وإبراز مواطن الشر فيه ،
وتحديد نقاط الضعف التي تتخلله ، ومداخل العدو إليه ، كما لا تقل عن حاجتهم إلى
زرع الثقة فيهم ، وإقناعهم بطاقاتهم ومواهبهم وتوظيفها توظيفاً شرعياً .
وهم بحاجة كذلك إلى قيادات تقدم لهم تلك البرامج العملية ، وتتقدمهم فيها ،
وتشاركهم تنفيذها .
4 - تتعرض المفاهيم لأكثر من سبب إلى عوامل تعرية ( أو تغطية ) مما
يستوجب مداومة مراجعتها مع الناس ، وعقد المقارنات مع معان أخر مظنة وقوع
الخلط بينها ، وتأصيلها تأصيلاً شرعياً ، وتنبيه الناس إلى دقائق من شأنها لفت
انتباههم إلى ما هو أبعد منها وأعمق ؛ فإن من الخطر لبس الحق بالباطل ، وتصور
الأشياء على غير وجهها . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « المرء ما لم
يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة » [6] .
5 - وحين لا نرغب في ذكر جوانب كلية مشرقة في حياة عامة الناس أو
نجهلها فهل نملك أن نقدم لهم نماذج مفردة من واقعهم في التغيير ؟ ! نحو :
- أخبار التائبين من المسلمين والكفار ، على أن تكون تلك الأخبار والقصص
جامعة بين تنوعها في طبقات الناس وتخصصاتهم ومستوياتهم الاجتماعية ، وبين
بعدها عن المثالية في السرد والصياغة !
- أخبار من تفوَّق بعد إخفاق ، أو شارك في الإصلاح بعد انطواء وعزلة ، أو
كان ثمرة تربية عالم أو مربٍّ ، أو نشأ في بيئة غير ملائمة واستدرك زمانه واغتنم
ما بقي من عمره ؛ فقد أعاقتنا جُمَل مثل : « كان نابغاً في صغره » « ظهرت(1/323)
علامات النجابة فيه منذ نعومة أظفاره » « حفظ القرآن ولم يناهز الحلم » « مات
ولم يخلف بعده مثله » « نشأ في بيت علم وصلاح » .
- أخبار المشاركين في مسيرة الإصلاح ولو بالقليل فكان له أثر ملموس .
والله ولي التوفيق .
________________________
(1) انظر تفصيل معنى (قول الرجل : هلك الناس) في شرح النووي على مسلم : (16/175) فهو مهم ، على أن النووي رحمه الله نقل عن الحميدي أن رواية الرفع أشهر والله أعلم .
(2) رواه أبو داود ، ح/4244 .
(3) عون المعبود : (13/233) ، (أو كدت إلخ) شك من الراوي .
(4) انظر مجموع الفتاوى : (15/333 335) ، (14/209 ، 210) .
(5) انظر : الغارة على التراث الإسلامي : (10 ، 108) وواقعنا المعاصر (138) .
(6) مجموع الفتاوى : (10/368) .
تأملات دعوية
الاعتدال في الحماس للفكرة
محمد بن عبد الله الدويش
من جوانب القصور لدى البشر الغلوُّ والإفراط ، وفقدان التوازن في التعامل
مع الأفكار . ومن مظاهر فقدان التوازن : الغلو في الحماس للفكرة .
فقد يتكوَّن لدى المرء اقتناع بفكرةٍ مَّا ، أو حماسة لمشروع دعوي أو علمي ،
أو رؤية في تفسير ظاهرة من الظواهر ؛ فيغلو في الحماس لهذه الفكرة . ومن
مظاهر هذا الغلو :
- تضخيم الفكرة وإعطاؤها أهمية أكبر من حجمها ، سواء في الحكم على
مدى انتشار ظاهرة من الظواهر في المجتمع ، أو في التفاؤل بنجاح مشروع من
المشروعات ، أو في أهمية الإقدام عليه وخطورة إهماله ، أو في صلة هذه الفكرة
بتفسير ظاهرة من الظواهر .
- توسيع دائرة الفكرة ، والتكلف في ربط أمور كثيرة ربطاً متكلَّفاً بها ، مع
أنه لا علاقة لذلك كله بهذه الفكرة من قريب ولا من بعيد .
- الاستهانة بغيرها ، ويصل الأمر في أحيان كثيرة إلى احتقار ما يقوم به
الآخرون وينشغلون به عن هذه الفكرة الرائدة ! ولو كانوا قد قاموا بوظائف شرعية ،
أو سدوا ثغوراً مهمة مما تحتاجه الأمة ؛ فهناك من يحتقر جهد من يدعون غير(1/324)
المسلمين رغم دخول كثير من الناس في الدين على أيديهم بحجة سوء واقع
المسلمين وأنه أوْلى بالدعوة والاهتمام ، وهناك من يحتقر من يعتني بالعلم الشرعي
ونشره وتعليمه بحجة أن غيره من الميادين الدعوية أوْلى منه ، وهناك من يعكس
الصورة ، وهناك من يحقر جهود البناء بحجة أن الأولوية في الاحتساب على
المنكرات ... وهكذا .
- الغفلة عن سلبيات هذه الفكرة ومشكلاتها ؛ فكثير من الأفكار والمشروعات
قد لا تخلو من جوانب سلبية ومن مشكلات وعقبات ، إلا أن الغلو في الحماس لها
يؤدي بصاحبها إلى أن يغفل عن سلبياتها ومشكلاتها ، وكما قيل : حبُّك الشيءَ يعمي
ويصم .
- إشغال طائفة ممن لا يعنيهم الأمر بهذه الفكرة ؛ فالناس طاقات ومواهب ،
وقدرات وإمكانات ، وما يعني الخاصة قد لا يعني العامة ، وما يفقهه الدعاة وطلبة
العلم قد لا يفقهه غيرهم ، فليس من المقبول أن نسعى إلى حشد طاقات الناس على
اختلاف مشاربهم وقدراتهم للحماس لفكرة معينة والتفاعل معها .
إن الغلوَّ صفة مرذولة مذمومة ، تأباها الطباع المستقيمة ، وتمجها العقول
السليمة ؛ فكيف والشرع قد ذمَّ الغلو وعاب أهله بغضِّ النظر عن موضوع الغلو
ومجاله ؛ فالغلو في تعظيم من يستحق التعظيم والتوقير قد يوصل إلى الشرك ، بل
كثير من صور الشرك هي نتيجة للغلو في هذا الباب .
والغلو في التعبد ولو كان فيما هو مشروع بأصله يقود إلى رهبانية تخالف
منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ، فكيف بالأفكار والآراء التي تحتمل الخطأ
والصواب ؟
وكما أن غلو الشخص في العبادة يشغله عن الواجبات الشرعية الأخرى كما
قال صلى الله عليه وسلم : « يا عثمان ! أرغبت عن سنتي ؟ ! فإني أنام وأصلي
وأصوم وأفطر وأنكح النساء ؛ فاتق الله يا عثمان ! فإن لأهلك عليك حقاً ، وإن
لضيفك عليك حقاً ، وإن لنفسك عليك حقاً ؛ فصم وأفطر ، وصلِّ ونم » [1] .
فكما أن هذا الغلو يشغل صاحبه عن حقوق أخرى ، فغلو المرء في الحماس(1/325)
لفكرة يشغله عن غيرها .
وفي المقابل فحين لا تروق لنا فكرة فينبغي أن نعتدل في ردها ورفضها ؛
فالغلو يولد الغلو .
________________________
(1) رواه أبو داود ، ح/ 1162 .
قضية للمناقشة
العمل الإسلامي
بين ضرورة المراجعة وخطورة التراجع
عبد العزيز كامل
بينما تستقبل الدعوة الإسلامية عقدها الثالث من القرن الخامس عشر للهجرة
النبوية الشريفة ؛ تتزامن بشكل لافت في بلدان مختلفة موجة مشتركة من الدعوات
إلى إجراء مراجعات شاملة لمناهج العمل الإسلامي وإداراته وممارسته بأطيافه
المتنوعة .
والدعوة الإسلامية إذ تعبُر إلى هذا العقد مثخنة بجراح كثيرة ؛ لا يخلو
صدرها - مع ذلك - من العديد من أوسمة النور التي حازتها عبر بضعة عقود
ماضية ، منذ بدأ الانبعاث المبارك لصحوتها التي انتعشت في بدايات القرن الهجري
الحالي ، تصديقاً للسنة الإلهية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوله :« إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر
دينها » [1] ويجيء هذا الإقبال على ( المراجعات ) في ظروف تكاد تتشابه
فيما يتعلق بالعمل الإسلامي في العالميْن العربي والإسلامي ؛ إذ إن العقديْن
الماضيين - على وجه التحديد - شهدا ممارسات وتجارب كاملةً أو شبه كاملة
لتيارات إسلامية انتقلت خلالها من التنظير الفكري إلى الممارسة الواقعية . فمنها
من صدمتها التجارب ، ومنها من عركتها مرارة المحن ، ومنها من أنضجتها
حرارة الاحتكاك بالواقع ، ومنها كذلك مَنْ أقعدتها الإحباطات والإخفاقات ، وذلك
على المستويين : الفردي ، والجماعي ، وكانت الثمرات المقتطفة من ذلك كله تجمعها
سلةً واحدةً أمام الناظرين ، لا يكاد بادي الرأي يفرق بين اليانعة منها والمعطوبة ،
ولا نشك في أن مجموع تلك الثمرات إنما جاء نتاجاً لتفاعلات التجديد المختلفة
في اتجاهاتها ومجالاتها ، والمتنوعة في سلبياتها وإيجابياتها ، فمن شأن التجديد دائماً(1/326)
أن يستخرج الزُّبْد ويلقي بالزَبَد .
وبرغم أن المرحلة الحالية تكاد ( المراجعات ) تكون عنوانها الرئيس ، إلا أن
لتلك المرحلة سمات أخرى تفصيلية من أهمها : أنها مرحلة توقف متردد عند مفترق
طرق محيِّر ، يعود بالدعوة لدى بعض الفصائل إلى الوراء نحو خمسة عقود عندما
كان شعار المرحلة وقتها : ( من أين نبدأ ؟ ) والمرحلة أيضاً يميزها حماس فاتر
بعد نشاط متوقد استمر طوال العقد الثاني من القرن الرابع عشر ، ويتخلل تلك
المرحلة هبوط ملحوظ في أسهم كثير من الرموز الدعوية التي كان لها رنين وطنين،
بعد سلسلة متصلة من معارك هدم الرموز ، ومباريات تصفية الآخرين معنوياً ،
كما أن كثيراً من الشعارات البراقة والمفرطة في الطموح ، قد خبا ضوؤها إلى حدٍ
ملموس .
ولكن هذا كله لا ينفي أن هناك قفزات نوعية للدعوة الإسلامية قد أُنجزت
بالفعل ، وهناك منها ما ينتظر الإنجاز . ومع ذلك ، فالشعور الثابت لدى غالبية
المهتمين ؛ أن إمكانات المسلمين في نصرة الدين لم يُستغل منها إلا القليل ، ولهذا
يصح القول بأن إنجازات الصحوة تبدو كبيرة عملاقة باعتبار ، وتبدو صغيرة
متواضعة باعتبار آخر ، فهي عملاقة باعتبار التحديات التي تواجهها والعقبات التي
توضع في سبيلها والظروف الاستثنائية التي تعمل فيها ، وهي متواضعة باعتبار
إمكانات المسلمين الجبارة التي حباهم الله إياها مادياً ومعنوياً ، فلم يوظفوا منها
لخدمة الدين إلا القليل .
إن هناك اضطراباً تتسم به المرحلة ، وإذا رحنا نبحث عن الأسباب التي أدت
إلى وصول الدعوة لتلك المرحلة المتشابهة المعالم في أكثر بقاع العالم الإسلامي ،
فإننا نعثر على أبرزها بين ثنايا خارطة دعوية شديدة التداخل والتعقيد ، فمن تلك
الأسباب :
1 - استطالة بعض فصائل العمل الإسلامي لمرحلة الاستعداد لإقامة الكيان
الإسلامي الممكَّن له في الأرض ؛ حيث تواصلت عقود قامت خلالها دول وكتل(1/327)
عالمية وسقط بعضها ، دون أن يقوم للإسلام في المقابل كيان أو كتلة قوية تمهد
لإعادة الخلافة الضائعة .
2 - تكرار الإحباطات في أمكنة كثيرة على صعيد محاولات الوصول إلى
إقامة كيانات إسلامية خالصة عبر وسائل متنوعة سلمية - كما في التجارب
البرلمانية - أو غير سلمية - كما في التجارب الجهادية - مع تطوير الأنظمة
العلمانية الدائم لطرق مواجهتها لأي نهضة إسلامية متوقعة .
3 - تضاعف حدة الصراع بين الحركات والدعوات الإسلامية ومناوئيها بعد
أن انضمت إلى هذا الصراع بشكل سافرٍ قوىً دوليةً كانت تتخفى بالأمس وراء
الأنظمة العلمانية ، ثم هي اليوم تنبذ إلى المسلمين على سواء ، وتسعى إلى
( عولمة الصراع ) مع الإسلام في كل البقاع .
4 - انضمام شريحة من الإسلاميين إلى خندق المواجهة المعادي ، بقصد أو
بغير قصد ، وتحت تأويلات أو تَعِلاَّت تصب في النهاية في قناة تمد المعسكر
المناوئ بأسباب القوة والبقاء ، وتخلط الأوراق الدعوية والتربوية في قضايا الولاء
والبراء ، والحكم والتحاكم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها .
5 - اتساع الخرق على الراقع بشأن الخلافات العلنية والسرية بين زعامات
فكرية وأخرى حركية ، مما أوقع كثيراً من الأتباع في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً
إلا بالخروج من دائرة الهم الإسلامي العام .
6 - استمرار غياب الدور القيادي للعلماء العاملين في أكثر بقاع العالم
الإسلامي ، وانسحابهم من الميدان لصالح زعامات من علماء غير عاملين أو عاملين
غير علماء ، مما أوقع العمل الإسلامي في دوامات ( التجربة والخطأ ) المتكررة
التي تستهدف اكتشاف الأخطاء بشكل عملي بدلاً من تجنبها ابتداءً بتأصيل علمي .
7 - استشعار بعض القيادات أنها بذلت ما في وسعها ، بل أكثر مما في
وسعها دون الوصول إلى نتائج مرضية ، ولسان حال أحدهم يقول : ( آن للمقاتل
أن يستريح ) وهو شعور مخدِّر ، أوصل إلى حالة من الاسترخاء ظهرت آثاره في(1/328)
انصراف قطاع عريض من شباب الأمس المتحمس إلى التشاغل بالأمور المعيشية
التي قد لا تمتُّ لأعمال الدعوة بصلة ، وهذه الظاهرة تؤدي بصورة متكررة إلى
تصدع في بنيان العلاقات والصلات التي لا بد منها لاستمرار أي عمل ناجح
متواصل .
8 - التهام نار المواجهة في بعض البلدان للعناصر المتميزة أولاً بأول ،
بالقتل أو السجن أو التوقيف أو التجميد أو الاحتواء ، مع قلة توافر الظروف التي
يمكن في ظلها تعويض العنصر الفاقد أو ملء المكان الشاغر .
9 - اكتشاف كثير من العاملين للإسلام أنهم كانوا يقعون بشكل منتظم ضحية
العمل الارتجالي الذي لا يدري إلى أين وصل ، كما لم يكن يعلم من قبل من أين بدأ،
وافتقاد بعض آخر لتوازنهم الفكري نتيجة صدمات واقعية أفاقوا منها بعدما
اكتشفوا أنهم كانوا يكمّلون النقص الخطير في معالم لوحة الصراع من مخيلاتهم
ويملؤون فراغاتها بظنونهم .
10 - وصول الكثيرين إلى قناعة ببُعد البَوْن بين الآمال والأعمال ، أو بين
الواقع والخيال ، أو بين الإمكانات والطموحات ، أو بين الحقائق والمثاليات ، وبدلاً
من إعادة النظر في محاولة تقريب هذا البون ، كان اللجوء إلى الهروب هو الحل
الأسهل والأمثل لدى بعض من تعتمد الجماهير على توجيهاتهم وتنتظر تنظيراتهم .
ومع أهمية الاعتراف بوجود تلك الأسباب التي مرَّ ذكرها وغيرها ؛ فإن
المراجعات ووقفات التأمل من الأمور البالغة في أهميتها حد الضرورة ؛ فهي واجبة
على فصائل العمل الإسلامي قبل أن تكون حقاً لها في ظل المتغيرات المتلاحقة التي
تتتابع على ساحة الدعوة الإسلامية ، ولا أظن أن أحداً من المهتمين بأمر المسلمين
يشك في أهمية المراجعة في هذه المرحلة ، ولو من باب تقويم ما مضى من مراحل
النشاط الإسلامي في أشكاله كافةً ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإن التشارك في التشاور
من أجل هذا تحتمه الفريضة الإسلامية المحكمة في النصح لله ورسوله وللمؤمنين(1/329)
خاصتهم وعامتهم ؛ فالمراجعة أو المحاسبة أصل إسلامي أصيل ؛ وخاصةً إذا
سارت الرياح بما لا تشتهي السفن .
وهذا الأصل مستمد من قوله - تعالى - لأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد أن دهمتهم نازلة أُحد : ? أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ( آل عمران : 165 ) ،
وقوله تعالى : ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ?
( الشورى : 30 ) .
وفي سياق التنقل بين محطات المحاسبات والمراجعات ، هذه وقفات تأملية
نأمل منها أن تفتح آفاقاً لحوار أوسع وأعمق :
أولاً : بين المراجعة والتراجع خيط رفيع ، ومع ذلك فهو لا يُرى إلا عن بُعد،
وهو أشبه بالمعْلَم المطموس عند مفترق الطرق ، من لم ينتبه إليه التبست عليه
السُبل ، وربما رجع القهقرى ، وهو ينشد الشد في المسير .
ثانياً : مثلما تتحول المراجعات - في بعض الأحيان - إلى تراجعات ، فإن
التراجعات قد تتطور إلى انتكاسات ، والانتكاسات المنهجية منها أخطر من
الانتكاسات الحركية ؛ فالحركات تضعف وتقوى ، وتقع وتقوم ، أما المناهج فقلما
تنهض بعد سقوطها على مستوى الفرد والمجموع .
ثالثاً : محطات الإقبال على المراجعة قد تكون في لحظات ضعف منسحب -
وهذا على الغالب - أو لحظات اندفاع غير محسوب ، وفي كلا الحالتين فإن
المراجعة وقتذاك قد تقع تحت وطأة ظروف نفسية غير مستقرة ، أو نظرات
شخصية عجْلى ، تختصر التأمل وتبتسر النتائج . واستصحاب هذا الملحظ مفيد عند
أي مراجعة حتى لا تخضع لمؤثرات خارجية ضاغطة .
رابعاً : لا يحدث الإقبال على التراجع - في الغالب - إلا تحت مسمى
المراجعة ، ثم تنتحل تلك التراجعات أسماء براقة ، وشعارات خدّاعة ، تتسريل(1/330)
بالحكمة طوراً وتتلفع بالواقعية تارةً ، وترتدي أثواب زور من العلم والتعقل والأناة
مرات أخرى .
خامساً : كثيراً ما يحدث التورط في مستنقعات التراجع ، بدفع من أوهام
تضخم ( التجربة ) ومبالغات تفرد ( الرمزية ) التي تخلع ألقاباً وأوصافاً على
أشخاص قد يكونون بالفعل رموزاً أو أصحاب تجارب ، ولكن التفويض المطلق
لبعض ( الرموز ) وأصحاب التجارب في المراجعات هو الذي يفتح الأبواب وسيعةً
أمام التراجعات التي تتسلل سَلِسةً على ألْسنةِ مَنْ لا يفكر أحد في مناقشتهم أو
مراجعتهم .
سادساً : التواصل بين الأجيال عامل مهم في إكساب عمليات المراجعة شيئاً
من العصمة النسبية ، وكما أن رصيد سابقة الابتلاء أو التجربة لا يكفي لإفراز
مراجعات ناجحة في كل الأحوال ، كذلك فإن الأجيال الجديدة بدمائها الجديدة لا
يصلح لها أن تستغني بجدتها وفتوتها عن خلاصات ( تجربة العمر ) لمن سبقوهم
على الطريق فعرفوا منحنياته الخطرة ، وخبروا معالمه ومراحله .
سابعاً : من أخطر مزالق المراجعة ، الانشغال باجترار مرارات الماضي ، أو
التلمظ بحلاواته ، وأخطر من ذلك الاحتراب في ميدانٍ مَّا قد كان ، حيث ينشغل
بعضٌ بتقاذف التهم في تلاوم ضار غير نافع . وعندها يكون حرص قوم على نفي
الآخرين وتصفيتهم معنوياً هو بوابة الولوج والخروج في أي حوار يستهدف
المراجعة ، ولهذا لا يرجعون من ذلك بشيء .
ثامناً : عندما تحل المناطحة محل المناصحة ، والجدال بالتي هي أخشن بدلاً
من التي هي أحسن ، فإن نزغات الشيطان وتحريشاته تتسوَّد الموقف ، وتتصيد
الفرص للإيقاع في انتكاسات التراجع التي لا يفرح الشيطان بشيء فرحه بها في
صفوف المؤمنين ، وإذا كانت الحزبية صفةً قبيحةً مقيتةً ، فالعنصرية أقبح وأشد
مقتاً ، ولهذا لا ينبغي أن يكون لهما موضع شبر على بساط النقاش والتقويم .
تاسعاً : جل المراجعات تنصب على أمور عملية تطبيقية مع أن الأصل هو(1/331)
الأمور المنهجية التي لو سلمت لسلمت الأعمال والتطبيقات ، والتركيز على اتهام
التطبيق العملي لا ينبغي أن يدفع التهمة عن التنظير المنهجي ، بل الأصل أن يُبدأ
بمقدمات الشيء لا بنتائجه .
عاشراً : هناك من المناهج ما تم وضعه في عجلة قبل استكمال شروطه من
النضج العلمي والفهم الواقعي ، ومن الجناية على الدين أن تعاد مراجعته بالنَفَس
المتعجل نفسه .
حادي عشر : هناك أشكال من التأصيل المنهجي أشبه بالتفكير بصوتٍ عالٍ ،
ومع هذا تلتقط هذه السوانح الفكرية العابرة ، وتقتطف فجة غير ناضجة ، ويحاول
بعض الناس أن يصنع منها ( بخةً ) سائغةً ، لمجرد أنها فكرة فلان أو سانحة علان،
وبعضها يطلق كأنه شعارات ، مع أن التأصيلات لم تكن يوماً بالشعارات .
ثاني عشر : قد تكون المراجعات ( محطةً ) يتوقف عندها القطار توقفاً نهائياً
على مستوى أفراد أو مجموعات ، قد يكون بعضهم مهيأً نفسياً ليحط رحاله في
أقرب المنازل تعللاً بالنوازل ، وفي هذه الحالة لا تكون تلك المحطة إلا خطة ، أعد
لها الشيطان بمكر وحيلة تورَّطوا فيها في لحظات ضعف وغفلة .
ثالث عشر : ومن المناهج ما أملتها ظروف نشأتها الزمانية أو المكانية ؛ فلا
ينبغي تجاهل ذلك عند التقويم ، بحيث تقوَّم سلع الماضي في سوق الحاضر أو
المستقبل ، وكذلك لا يصلح تقويم كل تجارب العالم بالمقاييس المحلية لبلدٍ مَّا ،
فالمعايير المحلية لا تصلح للتعميم في التطبيق فضلاً عن التقويم .
رابع عشر : هذه الظروف الزمانية والمكانية المختلفة لا يصح معها استعارة
المناهج ( في غير الثوابت ) لتطبيقها في غير زمانها أو في غير مكانها ، فتلك
مزلة أقدام قد لا ينتبه إليها كثير من الناس ، وقد لا يكون العيب في جزئية معينة
في المنهج ، بقدر ما يكون في ملاءمة الزمان أو المكان له .
خامس عشر : من المعلوم أن الأمور القدرية لا تحكم على الأمور الشرعية ؛(1/332)
فعدم التحقق قدراً لا يستلزم عدم الصحة شرعاً ؛ فلا يصلح أن يقال : كل التجارب
البرلمانية لم تنجح فهي غير شرعية ، أو كل الحركات العسكرية قد أخفقت فهي
لذلك غير شرعية . ومن الأخطاء المنهجية في تقويم المناهج ومراجعتها : التعميم
والإطلاق ، كأن يتخِذ من رأوا الإخفاق في أعمال جهادية معينة - مثلاً - موقفاً
رافضاً لأي عمل جهادي ، حتى يتحول ذلك إلى شعار ، خاصةً عندما يطلق على
الجهاد لفظ ( العنف ) لتسهيل نبذه على النفس الضعيفة أو المترددة ، وبشكل يُراد
له أن يُعمم على كل الساحات التي قد تكون ظروف بعضها مختلفة ومستوجبة لمثل
هذا الجهاد . والعكس أيضاً قد يحدث ، عندما تنجح تجربة جهادية ما ، فيطلب من
المسلمين في كل ساحات العمل الإسلامي أن ينقلوها بحذافيرها إلى مواقعهم ، وقس
على ذلك في قضايا سرية العمل أو علانيته ، وسلمية المواجهة أو عسكرتها ،
والموقف من الحكومات والأنظمة ، وطريقة التعامل مع الشعوب ، وأساليب
التعاطي مع القوى الكبرى ونحو ذلك .
سادس عشر : للتأصيل العلمي أهميته وخطورته في وضع المناهج الدعوية
أو تقويمها أو مراجعتها ، وكذلك الفهم الواقعي للقضايا الكبرى . وهناك جفاء قد
طال من بعض فصائل العمل الإسلامي لأحد الأمرين أو كلاهما ، وذلك ناتج عن
موقف غير متوازن من العلماء ، فبينما تُقطع الأواصر والوشائج مع العلماء في
بعض الأماكن بما يحرم الدعوة من خير ما عندهم ، فإن هناك أماكن أخرى تبالغ
في ربط الدعوة الإسلامية كلها بفرد أو ببضعة أفراد من العلماء ، بحيث تُرهن
قضايا الأمة كلها بكلمات منهم ، قد لا تأخذ حقها من النظر والتدقيق ، أو قد تكون
خارج نطاق تخصصهم أصلاً .
سابع عشر : عندما تقتصر عمليات المراجعة على رموز التجربة نفسها ، فإن
ذلك يعرض المناهج والتطبيقات لتكرار الأخطاء ؛ لأن عين الإلف والعادة ربما
تعشي عن المعايب والخروق ، وهذا يمكن تلافيه بإخضاع المراجعات لمتفحصين(1/333)
جدد ، وذلك أحرى بتخليص الدعوات من حظوظ النفس ونزوعها الدائم نحو الدفاع
وتحسين الصورة تشبثاً بنظرية : « ليس في الإمكان أحسن مما كان » .
ثامن عشر : الظروف النفسية المتقلبة عامل خطير في اتخاذ المواقف العملية،
وربما العلمية ؛ فكم من طروحات ومواقف اكتست أرديةً دعويةً ، وهي في
حقيقتها ردود فعل نفسية ربما نشأت عن مواقف شخصية ، لمحبة مفرطة أو بغض
غير متوازن ، وهذا أمر ليس من السهولة منعه ، ولكن ليس من الصعوبة رصده
والحذر منه .
تاسع عشر : التراجع ليس قريناً للمراجعة في كل الحالات ، فقد تكون
المراجعة - أو هكذا يجب أن تكون - نقطة انطلاق نحو تجديد جديد ، ينفي الخَبَث
وينقِّي المعادن ، وللنية الصالحة في ذلك دور كبير ? إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً
يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ? ( الأنفال : 70 ) .
وأخيراً نقول : المناهج أبنية ، تتفاوت في سلامة قواعدها ، وصلابة أعمدتها
ورحابة مرافقها ، وهي تحتاج بشكل دائم إلى صيانة وتجديد ، وإلى إشراف وتقويم .
وتقويم الأبنية الدعوية ، وترميمها ، وإصلاحها أوْلى من التوالي في هدمها بعد
بنائها ، فتلك طريقة مَرَضيَّة غير مَرْضية ، يولع بها بعض المعجبين بعادة ( خرقاء
مكة ) [2] التي أنزل الله - تعالى - في أمثالها قوله - تعالى - : ? وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ? ( النحل : 92 ) . فهذا الإنكاث هو
أخطر مظاهر الانتكاس والارتكاس .
وحتى لا يكون الكلام ملقىً على عواهنه ، أذكر بعضاً من مظاهر الانتكاس
الدعوي الذي تتعرض له بعض القضايا والمفاهيم والثوابت بشكل متدرج ، تحت
مسمى : المراجعات ، وسأكتفي الآن بالإشارة إليها اختصاراً ، حتى تتيسر
الفرصة - بإذن الله - للتعرض لها أو لبعضها تفصيلاً ، فمن ذلك :
- الاضطراب الجديد في المواقف من النظم العلمانية ورموزها وأحزابها(1/334)
وطروحاتها الفكرية وأساليبها العملية .
- التغير المتردد في المواقف من الفرق المبتدعة ومفاصلتها ورفضها وطرق
التعامل معها .
- التحول المتسلل إلى مفهوم الجهاد ، ومحاولات تفريغه من مضمونه
الشرعي إلى مضامين أخرى قد تصلح لغيره ولا تصلح له .
- التخلي المتزايد عن التعاطف العملي مع قضايا المستضعفين والأقليات
بدعوى السآمة من إضاعة الجهود فيها .
- التميع الطارئ في التعامل مع كثير من المسائل الكبرى التي كانت تمثل
أهدافاً استراتيجيةً لدى الكثيرين حتى وقت قريب ، مثل : السعي إلى الوحدة
الإسلامية ، أو توحيد فصائل أهل السنة ، أو السعي لإقامة كيان حقيقي لهم تمهيداً
لإقامة أو إعادة دولة الخلافة .
- التراجع المستمر أمام هجمة الإعلام الشرسة ضد الإسلاميين ، إلى حد
تحرج بعضٍ من الانتساب لمنظومة العمل الإسلامي ، أو الخجل من استعمال
المصطلحات الشرعية التي تزعج أعداء الدين مثل : الموالاة والمعاداة ، والإيمان
والكفر ، والمعروف والمنكر ، والتحاكم لله ، والجهاد في سبيل الله ، ونحو ذلك .
- وأخيراً : تعريض قضايا حساسة جداً في العمل الإسلامي لفوضى
التصريحات والشعارات والطروحات غير الناضجة ، وإعادتها إلى نقطة البدء ، بعد
أن كانت قد استقرت إلى وضع مقبول بين غالبية الفصائل العاملة للإسلام ، مثل
قضايا الحكم والتحاكم ، والموقف من العلمانية ، ومسألة العمل الجماعي ومشروعيته،
ووسائل الدعوة وأساليبها ، ومسائل الهدي الظاهر وضوابطها ، والموقف من
وسائل الإعلام المعادية للدين ، والموقف من علماء السلطة ورموز ما يسمى بـ
( التنوير ) ونحو ذلك من المسائل والقضايا .
ولعل الله - تعالى - ييسر على صفحات ( البيان ) الغراء ، تجاذب الحديث
حول هذه القضايا ، قضايا المراجعات ، في مطارحة لا تخلو من المصارحة ....
والله من وراء القصد .
________________________(1/335)
(1) رواه أبو داود في الملاحم ، ح/ 4291 ، و البيهقي في معرفة الآثار والسنن ، 1/137 ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ، 4/522 ، و ابن عدي في الكامل (المقدمة/181) ، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ، 2/150) ، ح/599 .
(2) هي امرأة كانت معروفة بمكة تقوم بغزل الخيوط في نسيج محكم ثم تنقضه ، ثم تنسجه ثم تنقضه، انظر تفسير الطبري ، ج 14 ، ص 110 .
وقفات
خذ الكتاب بقوة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
هجرة المسلمين واستقرارهم في البلاد الغربية حقيقة واقعة منذ سنين طويلة ،
إلا أنها ازدادت زيادةً مطردةً في العقد الأخير خاصة ، وإن كان لهذه الهجرة ما
يسوِّغها شرعاً عند بعض الناس ، إلا أن الغالبية من هؤلاء المهاجرين لم يستوطنوا
في بلاد الغرب لحجج شرعية ، وإنما لأهواء وظروف شخصية واجتماعية .
ودراسة الأحوال الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية لهؤلاء المهاجرين
ينبغي أن تكون من أولى أولويات عمل المراكز الإسلامية في بلاد الغرب ، لتكون
هذه الدراسات - بإذن الله - الأساس الذي تنطلق منه البرامج الدعوية والتربوية .
ولعل من أبرز الظواهر الاجتماعية السائدة في كثير من أبناء الجالية
الإسلامية ضعف التميُّز الإسلامي أو انعدامه فكراً وسلوكاً ؛ فأثر البيئة الغربية
يظهر بجلاء عليهم ، وخاصةً الأجيال الجديدة التي وُلدت ونشأت وتعلمت في الوسط
الغربي . وهذه الظاهرة نتيجة حتمية لا تحتاج إلى استقصاء ، أو بحث وإثبات[1] .
ولكن الأمر الذي يستحق التأمل والنظر هو حال الإسلاميين خصوصاً ؛ فكثير منهم
لم يَسْلم من أثر البيئة السلبي ، ولعلِّي أكتفي هنا بمثل واحد ، وهو ضعف التمسك
بكثير من الأحكام الشرعية ، والتفريط بأحكام الهدي الإسلامي الظاهر ، وخاصة في
شؤون المرأة . ولست أعني هنا الإشارة إلى الخلاف المشهور بين الفقهاء في كون
الوجه والكفين عورة أو ليسا بعورة ، بل الأمر أبعد غوراً من هذا ؛ حيث أصبح(1/336)
الحجاب عند بعضهم - مع الأسف الشديد - معنى لا حقيقة وراءه ؛ فهو لون من
ألوان التجديد والتمدن ، ولم يبق منه إلا منديل رقيق يغطي بعض شعر الرأس ، مع
لبس البنطال الضيق ، والظهور بألوان الزينة والعطور . أما قضايا الاختلاط
ومصافحة الأجانب ، بل والمشاركة الرياضية ، فحدث عنها ولا حرج .
وإن تحدث في ذلك متحدث اتُّهم سريعاً بالتنطع والتكلف والتشديد ، ورُمي
بالجهل بالواقع الغربي والظروف الاجتماعية التي يعيشها الناس ، وأنه ينظر إلى
أمريكا و أوروبا بمنظار الأعرابي الساذَِج الذي لا يعقل ولا يبصر .. ! ! وقد
سمعت أحد المفكرين المستنيرين يهزُّ يديه أمام جمع من الإسلاميين ، ويأمرهم
بالرقي الفكري والتجاوب الفاعل مع المعطيات الحضارية المعاصرة ، ويحذرهم من
الجمود والوقوع في رواسب التخلف والظلامية .. قال كل ذلك لمَّا سمع أحدهم يتلو
حديث النبي صلى الله عليه وسلم : « إني لا أصافح النساء »[2] !
والعجيب أنك تجد من بعض المنتسبين إلى الفتوى من المفكرين والدعاة من
يسوّغ هذا التمييع ببعض الأدلة المتكلَّفة . وأذكر أن أحد الأشياخ المحاضرين في
أحد المؤتمرات الإسلامية في أمريكا بدأ محاضرته بهجوم صارخ على إدارة
المؤتمر التي فصلت الرجال عن النساء ، وينعي هذا التخلف الفكري والعقلية
البدائية التي لا زالت تسيطر علينا حتى ونحن في أمريكا ( ! ! ) ، وفي نهاية
المحاضرة قام مدير المؤتمر معلقاً ، وكنا نظنه سوف يدافع عن موقفه ، وإذا به
يعترف بالخطأ ويعتذر للإخوة والأخوات ، ويذكر أن سبب الفصل سبب فني وليس
سبباً فكرياً ، ووعد بإصلاح الوضع في اليوم التالي ، ثم وفَّى بما وعد .. ! !
إن اندماج المسلمين في البيئة الغربية أدى إلى ذوبان مذهل في الشخصية
الإسلامية ، وميوعة شديدة في تلقي الأحكام الشرعية ، وميل ظاهر إلى البحث عن
الرخص بدون فقه ولا بصيرة ، ويصدق في وصف كثير منهم قول الله - تعالى -:(1/337)
? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ? ( الحج : 11 ) . والطريف في الأمر أن
المسلمين حديثاً من الغربيين الأصليين ربما يكون بعضهم أكثر جرأةً وصدقاً في
الالتزام بالأحكام الشرعية والاعتزاز بها وعدم التحرج من إظهارها أمام الملأ .. !
وأذكر أنني زرت في الولايات المتحدة الأمريكية منطقةً تنتشر فيها طائفة من
طوائف النصارى البروتستانت تسمى بـ ( الآمش ) يرون أن من أسباب البلاء
الذي تعيشه الإنسانية تلك الحضارة المادية التي سيطرت على الإنسان الغربي ،
وجرته إلى مستنقع الرذيلة والانحطاط ، ولهذا انعزلوا عن المجتمع وتركوا كل
ألوان الحضارة ، وامتنعوا عن استخدام كافة المخترعات التقنية الحديثة ، وأسسوا
مجتمعهم الخاص بهم بما في ذلك مدارسهم التي ترعاها الكنيسة ، وراحوا يشتغلون
بالزراعة وتربية المواشي بوسائلهم البدائية المتاحة وامتنعوا عن شرب الخمور
والزنا .. ! والعجيب أن نساءهم لا زلن يلبسن اللباس الطويل الساتر ، ويضعن
منديلاً على الرأس ، ولا يختلطن بالرجال ، وعلى الرغم من ازدراء بعض إخوانهم
الأمريكان لهم إلا أنهم فخورون بمبادئهم ، ومعتزون بمسلكهم .. ! !
ولست ها هنا في صدد تحليل ظاهرة ( الآمش ) هذه ، ولكنني أشير هنا إلى
أن هؤلاء القوم على الرغم من أنهم رأوا أن بلادهم وصلت إلى قمة التقدم المادي
المعاصر إلا أنهم انعزلوا عنهم ، وراحوا يمارسون معتقداتهم الفكرية والسلوكية بكل
اعتزاز . أفلا نقوى - نحن المسلمين الذين نعتقد يقيناً بحمد الله تعالى أننا نملك
الدين الحق - أن نعتز بديننا ، ونتمسك بشرائعنا ، ونعض عليها بالنواجذ ، ونشمخ
برؤوسنا أَنَفَةً وافتخاراً بعقيدتنا وآدابنا السامية .. ؟ !
إن التكليف بالأحكام الشرعية باب من أبواب الابتلاء الذي يمتحن فيه دين
الإنسان ، قال الله - تعالى - : ? الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ(1/338)
عَمَلاً ? ( الملك : 2 ) . وهذا الدين جدّ ليس بالهزل ، وإن من أسوأ ما نجنيه على
أنفسنا أن نتخذ شرائع الإسلام ألعوبةً نلهو بها ، ونأخذ منها بمقتضى أهوائنا ، أو أن
نجعل الواقع الفكري أو الاجتماعي المنحرف يضغط علينا ، ويملي علينا ما
يشاء ، وها هي ذي دلالات القرآن العظيم واضحة بيِّنة لا تردد فيها ولا خفاء ،
قال الله - تعالى - : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? ( الأحزاب : 36 ) . والهزيمة في الهدي الظاهر آية
عظيمة على الهزيمة القلبية ؛ ولهذا شدّد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من
ذلك ، وقال : « من تشبه بقوم فهو منهم » [3] .
________________________
(1) أجرت الكاتبة الأمريكية (إيفون حداد) دراسةً إحصائيةً عن الأجيال المسلمة المقيمة في أمريكا ومدى قبولها أو رفضها لفكرة العلاقة بين الرجل والمرأة قبل الزواج ، فوجدت أن الجيل الأول من المهاجرين يرفض بشدة هذه العلاقة ، أما الجيل الثاني من المسلمين الذين ولدوا في أمريكا فقد ظهر أنه أقل رفضاً للفكرة بدرجة كبيرة ، أما الجيل الثالث من المسلمين فقد رأى 13% منهم فقط أن هذه الفكرة غير شرعية ! ثم استنتجت الباحثة : أن ثلاثة أجيال تكفي لذوبان المسلم في البيئة الغربية (انظر: مجلة الصراط المستقيم ، عدد (68) 1418هـ) .
(2) رواه النسائي ، ح/ 4110 .
(3) رواه أبو داود في اللباس ، ح/ 3512 .
قضية للمناقشة
قراءة في الذهنية السلفية
نواف الجديمي
ثمة شيء ينبغي أن يقال وهو : إن عمليات المراجعة والنقد لكل الأفكار
والمواقف والتحركات السابقة ، وتكرر عملية التصحيح وتقييم الماضي : هي
الضمان الوحيد للبقاء والحيوية والتجدد لكل الحركات والجماعات والتيارات
والأحزاب ، بل إن النظريات المجردة لا بد أن تخضع لنفس المقياس إن أرادت
الدوام والاستمرار .(1/339)
الإشكالية المتجددة دائماً ، والتي ترافق عمليات النقد والمراجعة : هي الشعور
الذي قد يعم الشريحة السائدة ، وربما النخبة أحياناً ، بأن هذا النقد لا ينبع من صدق
وإخلاص للحركة أو المبدأ ، وإنما يهدف إلى التقليل من قيمتها والحط من قدرها ،
فضلاً عن أن تسيطر نظرة تآمرية ضد القائمين بالنقد واتهامهم بمحاولة التخريب
والهدم من الداخل ، مما قد يستتبع تصدي البعض للدفاع والذود عن تلك القضايا ،
والثبات على كل مواقفها وتحركاتها ربما دون قناعة حقيقية بها ، وإن كانت تحمل
العديد من الأخطاء والإشكاليات ، معتقدين أنهم بذلك أكثر إخلاصاً وانتماءً .
إن استقراءاً مبسطاً لوقائع التاريخ ونشوء الأفكار والحركات يعطينا دلالة
كبيرة على أن عملية التصحيح المتجددة هي التي تبعث القدرة على الاستمرار ، ولا
أدل على ذلك من الديمقراطية بوصفها نظاماً للحكم التي بدأت واقعاً ملموساً بعد
الثورة الفرنسية عام 1789م ، وكانت آنذاك مقصورة على النبلاء والخاصة ، ثم ما
لبثت تتطور حتى وصلت إلى صيغتها الحالية ، وهي ما زالت تمارس نوعاً من
النقد الذاتي واستعداداً للتطور نحو الأفضل . أما الشيوعية فكانت على النقيض ؛ إذ
إن الجمود والتصلب كانا السمة الغالبة للدولة الشيوعية رغم ملامح التطور الطفيفة
التي أجراها خروتشوف ومن بعده بريجينيف بعد زوال الحقبة الستالينية وذلك مما
عجل في زوالها .
حتى مبدأ الحرية المطلقة والذي كان نتاجاً للثورة الفرنسية بدأ يراجَع في
الغرب ؛ إذ بدأ وهجه يتضاءل ، وطفت هشاشته على السطح ؛ ولذلك تسود الغرب
اليوم ومنذ الخمسينيات من هذا القرن نظرية المسؤولية الاجتماعية بوصفها نظرية
بديلة عن نظرية الحرية المطلقة . وكذا الرأسمالية كنظام اقتصادي حر والذي ساد
الغرب سنين طويلة ، بدأت الاشتراكية تزاحمها على السلطة ، وبدأت الولايات
المتحدة تتجه إلى تطوير جديد للنظرية أسمته الطريق الثالث .(1/340)
إذاً فالغرب ما فتئ يتطور ويراجع نظرياته ومواقفه ؛ لذلك هو قادر على
التفوق المادي والتقني ، بل وفي العلوم الإنسانية كالإدارة والفلسفة والاجتماع ، رغم
الخواء الروحي الذي تعيشه فئات المجتمع والضياع والانحلال والتمزق الأسري ،
والذي كان مفترضاً أن يلقي بظلاله على الجوانب المادية الأخرى .
ونحن المسلمين إذ نملك منهجاً ربانياً صالحاً لكل زمان ومكان فإن مجال النقد
والتقييم لا يأخذ حيزاً واسعاً من قناعاتنا وإن كنا في الوقت ذاته لا نستطيع نفيه
وإقصاءه إذ إن كثيراً من مواقفنا وقناعاتنا خاصة فيما يتعلق بأساليب التربية
والتنشئة ، والتعامل مع الآخر ، والقدرة على التحليل والاستنتاج لمجريات الحياة
اليومية ومستحدثاتها على الجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، ومن ثم اتخاذ
المواقف الصحيحة ليست خاضعة لثوابت الشريعة بقدر ما هي اجتهادات بشرية
محضة تخضع للحوار والمراجعة .
والسلفية إذ تملك منهجاً ربانياً واضحاً ، وعقيدة صحيحة وتأسياً بسلف هذه
الأمة ، لهي الأوْلى بمراجعة الماضي وتقييمه ، وهي الأوْلى بالرجوع إلى الحق إن
تبين لها ذلك .
ولكن الحقيقة التي لا يمكن أن نغفل عنها أننا أصحاب حساسية مفرطة لأي
محاولة للنقد والتقييم ، وننظر إليها بتشكك وريبة ، فضلاً عن سوء الظن الذي
يصبغ نظرتنا لدوافع هذا الكاتب أو ذاك من عملية النقد .
قد أكون مخطئاً عندما أرى أن جميع محاولات النقد والتقييم سواء كانت من
داخل البناء أو من خارجه ، تصب في النهاية لصالح تلك الجهة التي تعرضت للنقد ؛
وذلك إن استطاعت الاستفادة منه في تصحيح مسيرتها .
ونحن إذ ندعو لقراءة الذهنية السلفية لَنطالب بممارسة هذا النقد لمواقفنا
وعلاقاتنا بكل تجرد وموضوعية ، حتى نستطيع مراجعة الماضي ومن ثم التخطيط
السليم للمستقبل ، وتبني أساليب ومواقف صحيحة ومتعلقة بعملية البناء الذاتي(1/341)
للأفراد ، أو الجماعي للمجتمع والأمة ، أو في علاقتنا مع الآخر . ونقول ذلك مع
إدراكنا أن السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان طيف متعددة ، وفيها أصوات
هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها ، وندعو إلى التعامل معها وتصحيح
مواقفها ، ومع ذلك فهي تحوي جمهوراً غالباً له مشتركات كثيرة ، ويسوده تقارب
كبير في الأفكار وطريقة التنشئة ، وهذه الشريحة هي التي نقصدها ونتوجه إليها .
لذلك فأنا أدعو إلى إعادة التقييم والمراجعة والنقد . وأبدأ ذلك حفزاً للهمم ، مع
إدراكي بقصوري لاستقرائي وبحثي المحدود ، تضاف إليه تجربة محدودة . وأزعم
أن هذه الإشكاليات التي سأذكرها تكاد تسود غالب الاتجاهات السلفية المعاصرة ،
وأدعو الإخوة إلى تسديد الأخطاء ، وأن يتسع صدرهم لهذا النقد والتقييم ؛ فلأن
نقوم بذلك ونخطئ خير من أن نكتفي بتلميع الذات وذكر الأمجاد .
صراع الأفكار والمعلومات :
إن أردنا الدخول في صراع الأفكار والمعلومات فلا بد أن نكون حذرين ؛ لأننا
ندخل حقلاً من الألغام ؛ ذلك أن الموضوع في طبيعته يتعرض لمفهوم كان وما زال
سائداً في أذهان الكثيرين ، ولذلك فإن مجرد طرحه قد يثير السواكن ، ويلقي حجراً
في الماء الراكد .
ما أريد قوله ببساطة هو : إن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة
المعلومات ويهمل دائرة الأفكار .
السؤال الذي يتبادر الآن هو : كيف ؟ !
والجواب : أن غالبية التيار السلفي المعاصر مع بعض امتداداته في التاريخ ،
لا يسلط الضوء بل لا يعطي قيمة إلا للمعلومة المجردة بوصفها وحدة معرفية مستقلة
عن دائرة الأفكار . فالمعلومة هي مجال التفوق والتميز ، وبقدر ما يحفظ الشخص
من الأرقام والأحداث والآثار والأحاديث والكتب والأسماء والتواريخ ينال هذا
الشخص مكانة مرموقة ، ويوضع في خانة التفوق والإبداع ، أما دائرة الأفكار وما
تحويه من القدرة على التحليل والاستنتاج والسبر ، وربط الأحداث ، وتفكيك(1/342)
الظواهر المعقدة ، وتوليد الأفكار ، والقدرة على الفرز والنقد ، فهذه الدائرة لا قيمة
لها ؛ لأنها لا تحوي كمّاً ملموساً نستطيع حسابه ومعرفة قدره .
إن تسليط الأضواء على المعلومات دون الأفكار بات أمراً سائداً في أوساط
الشباب المتدين اليوم ، فأصبح الحفظ وتدوين المسائل ومعرفتها هو أقصر الطرق
للبروز بين الأقران ، بل إن الأمر يتجاوز أوساط الشباب إلى شرائح أكبر سناً
وأكثر نضجاً وتجربة ، ولذلك نجد هذا التلميع للدائرة الأولى على حساب الدائرة
الثانية امتد حتى داخل تخصصات العلوم الشرعية ، فنجد مثلاً أن من يحفظ كتب
السنة الستة قد لا تقارن شهرته وتعلق الشباب به بالمتضلع في أصول الفقه . مع أن
هذا الأخير أكثر قدرة على العطاء للأمة اليوم مع هذه الثورة التقنية والفكرية الهائلة
التي يشهدها العالم ، والتي غيرت كثيراً من طبيعة الحياة وتفاصيلها . وهذا واقع
يدركه كل من عاش بين أوساط الشباب .
ذلك فضلاً عن الإهمال الكبير وربما الازدراء لكتب الفكر حتى الإسلامي منها ،
مما انعكس بدوره على تسطيح كبير للعقول ، حتى صار مصطلح الفكر قرين
السفسطة الفارغة التي لا تكاد تعني شيئاً غير القدرة على الكلام المنمق والمتكلف .
إن الأفكار هي التي تصنع الحضارات ، وتدعمها بوقود لا ينفد للاستمرار والبقاء .
والتاريخ كله يشهد على أن تغيرات العالم هي تغيرات أفكار ومعتقدات ؛ فالثورة
الفرنسية لم تقم رفضاً للتسلط الكنسي فقط ، بل هي في أساسها كانت إرهاصاً لعديد
من الأفكار التي سبقت الثورة بما يزيد عن القرنين ، ولذلك كان شعارها عند قيامها
« الحرية ، والإخاء ، والمساواة » . والشيوعية قامت على فكرة صراع الطبقات
وعلى أساس المادية الجدلية والمادية التاريخية ، والنازية قامت على فكرة تفوق
العرق الألماني على بقية الأعراق والإثنيات .
وتاريخنا الإسلامي مليء بالحركات والتغيرات التي قامت على الأفكار(1/343)
الصحيحة والمنحرفة ، ولا أدل على ذلك من أن مبعث رسالة محمد عليه الصلاة
والسلام كانت لتغيير معتقدات الناس وأفكارهم ، وإعادتهم إلى الحنيفية المسلمة ،
وثورة الخوارج قامت على فكرة عدم جواز تحكيم الرجال في كتاب الله . و الشيعة
أول ما قامت كانت لفكرة أحقية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لأنه من آل البيت ،
وفي تاريخنا القريب لم تقم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا على تصحيح
معتقدات الناس مما علق بها من شرك وتصوفات ، ولم تقم جماعة الإخوان المسلمين
إلا على فكرة دعوة الناس إلى التمسك بالإسلام وتوحيد الصفوف .
واليوم نعيش زمن فورة الأفكار والتصورات والمعتقدات التي تملأ عالمنا
بشكل مذهل ، وإذا اجتزأنا القرن العشرين وسلطنا الضوء على منطقتنا العربية نجد
أن هناك عدداً من الأفكار والأيديولوجيات سيطرت في مراحل متعددة على قطاع
كبير من الناس في العالم العربي ؛ وأبرزها القومية العربية ، والماركسية الشيوعية ،
والبعث العربي ، والنظرية الليبرالية الغربية .
والسؤال الحيوي هنا : ما مدى معرفة السلفيين بتلك الأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا ؟ وهل تمت دراستها دراسة مفصلة متعمقة للرد عليها
وتبيين عوارها من داخلها ، كما كان منهج ابن تيمية في الرد على خصومه ؟
الحقيقة أن ذلك لم يحصل إطلاقاً .. وإن وجد من الإسلاميين من تصدى لهذه الأفكار
دراسة ومعرفة ومن ثم رداً وتفنيداً ؛ فهم دون شك من خارج التيار السلفي ، وهم
في الغالب غير مرضي عنهم ، ويحملون العديد من المخالفات في الفكر والاعتقاد
كما يصفهم أفراد التيار السلفي ، بل إن المتخصصين في العقيدة من السلفيين وهم
أقرب الناس إلى دراسة هذه المعتقدات الجديدة ما زالت قائمة المذاهب والمعتقدات
المنحرفة التي تدرس عندهم تدور حول القدرية والكلاَّبية و إخوان الصفا و الجهمية ؛
مع أن انتشارها تناقص كثيراً إلى درجة الانتهاء أحياناً ؛ في الوقت الذي يهملون(1/344)
فيه المعتقدات المتوجهة في العالم اليوم والتي قد تلاقي قبولاً في المجتمعات المسلمة ؛
فمثلاً هل دُرست الديمقراطية كآلية للاختيار ونظام للحكم من أصحاب التيار
السلفي بدلاً من فتاوى التحريم الجاهزة ربما دون استيعاب جيد للفكرة ؟ وهل لاقت
الأنظمة البنكية الدراسة التفكيكية الشرعية الجيدة من أجل إيجاد بدائل إسلامية
للمعاملات البنكية الربوية ؟ وهل وجد علم النفس الدراسة التحليلية العميقة لآخر
نظرياته وأطروحاته ومن ثم الدراسة الشرعية لها ؛ ومعرفة مدى موافقتها للتصور
الإسلامي ثم محاولة استخراج ملامح للنظرية الإسلامية في علم النفس ؟ هل قام
رموز التيار السلفي بدراسة هذه القضايا الملحة في الساحة اليوم ، أم أنها إلى الآن
ليست من باب المفكَّر فيه ؟
أما إن أردنا الحديث عن آخر النظريات الفلسفية والفكرية في العقود القليلة
الماضية ، وآخر الدراسات والتحليلات للمجتمعات المعاصرة ، والتطورات
الحضارية ، والاستقراءات المستقبلية ، كصراع الحضارات ، ونهاية التاريخ ،
وحوار الإسلام والغرب ، وصراع الأيديولوجيا ، والاختراق الثقافي ومسائل الهوية ،
وكلها قضايا معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى فهم متأنٍ واستيعاب عميق فإننا سنجد
دون شك أن غالب النُخب السلفية من علماء وطلبة علم وتربويين ومحاضرين
وغيرهم لم يسمعوا بتلك المصطلحات من قبل ؛ فضلاً عن أن يكونوا درسوها
واستوعبوها . وإن كان قد سمعوا بها فقد لا يزيد الأمر في كثير من الأحيان عن
نظرة الازدراء والدونية لتلك السفسطات الفارغة التي لا تنفع المسلم في دنيا ولا
دين . كما قد يقال .
وفي الوقت الذي يتعاظم فيه دور المفكر على مستوى العالم يتضاءل دور
الحافظ والمتقن للمعلومات والكتب والأرقام ، بسبب تطور تكنولوجيا الصناعة
وإنتاج أجهزة حفظ المعلومات ووسائل استرجاعها وطباعتها ، والذي جعل أجهزة
حاسب صغيرة وبواسطة أقراص ممغنطة تستطيع حفظ عدد هائل من المعلومات قد(1/345)
تفوق في كميتها المكتبات الضخمة ، وقد خدمت هذه الأجهزة الجانب الشرعي كثيراً ؛
إذ توجد اليوم أقراص ممغنطة تحوي أكثر من مائة وعشرين كتاباً في الحديث ،
وأقراص أخرى جمعت الكثير من المسائل الشرعية وأقوال الفقهاء ؛ مما جعل
الحصول على الحديث أو رأي الفقهاء في إحدى المسائل أمراً متيسراً بالقدر الذي لا
يتجاوز مجرد الضغط على عدد من الأزرار . والسنون حُبلى بتطورات كثيرة في
هذا المجال ، وإن كنا نؤكد أن هذا لا يقلل بالضرورة من قيمة العالم ولا ينقص من
قدره . ولكن إذا أردنا أن نكون منصفين فإنه من دون شك يقلل كثيراً من قيمة
التوجه الحفظي للعلماء وطلبة العلم ، ويزيد من قيمة القدرة على الاستنباط
واستخراج الأحكام وغيرها من العمليات التي تعتمد على العقل لا الذاكرة .
ولا أنسى الإشارة إلى أن هناك دون شك تداخلاً بين دائرة الأفكار ودائرة المعلومات ،
وأن هناك مشتركات كثيرة في الوسط بين المسارين ، ولكن تجدر الإشارة أيضاً
إلى أن هناك تبايناً كبيراً بين أطراف الدائرتين ، لذلك نجد أصحاب التيار السلفي قد
يحيطون بهذه المشتركات ، وقد يدخلون قليلاً إلى دائرة الأفكار ، ولكنهم بالطبع لا
يوغلون في الدخول ، ولا يصلون الأعماق .
النشء الذي لا يكبر :
ربما تكون من إشكاليات الذهنية السلفية والتي تتقاطع مع النقطة السابقة في
بعض الجوانب وتتفاوت في جوانب أخرى : النظر بتخوف وتوجس للتدفق الهائل
في المعلومات والأفكار في عالم اليوم ، والخشية من تأثر النشء بها ، هذا النشء
الذي قد يمتد عمره إلى قرابة الثلاثين وربما أكثر وهو غير قادر على الفرز
والقراءة النقدية ، ويخشى عليه دائماً من التأثر حتى بأبسط الأفكار وأكثرها سطحية
وضحالة . أما الرموز وطلبة العلم والمربون فهم وحدهم القادرون على الفهم الواعي
للأفكار التي تطرح ، والكشف عن مدى مخالفتها للشرع ، وربما أحياناً الكشف عن(1/346)
خبثها ومكرها والسموم التي تدسها من أجل التأثير على جيل النشء ؛ ثم قد يُطرح
عدد من التساؤلات مثل : ما قيمة هذه الأفكار ؟ وما وزنها ؟ وما مقدار فائدتها
للشباب الناشئ ؟ ! وإذا أشكل على الشباب شيء في معرفة سيرة مؤلف أو كنه
كتاب ؛ فما عليه إلا أن يسأل أحد المهتمين من نفس التيار ليعطيه فتوى جاهزة
مقبولة في شأن ذلك الكتاب أو ذاك المؤلف ؛ مما ينتج عنه أحياناً اختزال كبير
للأفكار في حدود مقولات مبتسرة لا تكشف فكراً ولا تروي ظمأً ، فنجد أن عقولاً
ضخمة في الساحة الفكرية والثقافية أنتجت مشاريع ودراسات فكرية تحليلية رائدة ،
يُختزل فكرها في أن فلاناً يرى في الجنة والنار كذا ، وأن فلاناً يؤوِّل الصفات ولا
يثبتها ، وغير ذلك من اختزال للأفكار الهادرة في قطرات قليلة وجمل مجتزأة ،
وأبسط ما تحلل به كتابات هؤلاء أن يقال : إن فلاناً تأثر بالفكر القومي ، وفلاناً
ماركسي سابق ، وفلاناً يعاني من الاستلاب للغرب ، وتكفي هذه المقولات لإسقاط
هذا المؤلف أو ذاك من قائمة الذين يستفاد منهم ، فينشأ الشاب على أن فلاناً هو من
يرى كذا ، وفلاناً هو من يرى كذا ، ربما دون أن يرى غلاف كتاب لأحد هؤلاء
الذين تكلم عنهم فضلاً عن أن يكون قد قرأه .
وربما نكون في حاجة إلى التأكيد على أن التذكير بمخالفات أي كاتب ومفكر
خاصة في مجال الاعتقاد أمر مطلوب ؛ ولكن ينبغي قبل ذلك إعطاء صورة واضحة
ومنصفة عن تلك الأطروحات أو الدراسات الرئيسة التي أنتجها هذا المؤلف . كما
أنه من المعلوم أن الشاب والقارئ السلفي في الجملة لا يأخذ عقيدته من ذلك النوع
من الكتب ، مما يقلل من مقدار تخوفنا من الاستلاب والتأثر .
هذا السلوك في التعامل مع الأطروحات الفكرية والثقافية ربما ينتج في
المستقبل ردود أفعال تتفاوت في شدتها ، مثل أن تقرأ بعض هذه الكتب في الخفاء
ودون علم المحيطين ، مما قد يصيب بعضاً بردة فعل عنيفة ، خاصة عندما(1/347)
يستوعب تلك الأفكار والكتب ، ويكتشف أنه كان يعيش فترة تغييب لعقله وازدراءً
لقدراته . وربما اتهم من كان معهم بالسطحية والضحالة وهشاشة الفكر ، وممارسة
الوصاية على من دونهم ، ومصادرتهم للرأي الآخر وتهميشه أياً كانت قوته وعمقه .
أذكر أن أحد الإخوة وهو يعمل مديراً لإحدى المدارس الثانوية الأهلية التقى
عدداً من أساتذة العلوم الشرعية المتقدمين للتوظيف ، ودار بينهم حوار حول عدد
من القضايا الثقافية ، فكان يقول : إنه فوجئ بالمستوى الثقافي المتدني جداً ،
وبالبساطة والسطحية عند هؤلاء الأساتذة ، مما جعلني أقول له : إن هؤلاء من
النشء الذي لا يكبر .
نعم النشء الذي يظل نشئاً لا يملك القدرة على الفرز والتقييم والفهم لأي طرح
ثقافي وفكري إذا لم يضع قدميه على طريق التطور نحو الأفضل والفهم والإدراك
للأطروحات الحديثة بشكل متزن ومتدرج ، وإلا فسيكون أحد ضحايا النظرة السائدة
التي ترى أن أصحاب المرحلة الثانوية هم صغار من الصعب أن يستوعبوا تلك
القضايا « المعقدة » ! ! .. ومن هم في المرحلة الجامعية لا يملكون القدرة على
التمييز والفرز ، وربما تشوش أفكارهم ويدخلون في إشكالات ومعتركات قبل
الأوان ، والموظف وهو متزوج في الغالب لديه من هموم الحياة وطلب الرزق
والعمل الدعوي ما يصرفه عن الاهتمام والمتابعة ، حتى إذا امتد العمر بذلك النشء ،
كان في حقيقته لا يزال نشئاً لا يستطيع الدخول في عالم الفكر والثقافة دون تأثر ؛
لأنه لا يملك آليات النقد والتقييم . وإن أراد الدخول فإن استعداده للتطور والاستفادة
يكون قد تقلص كثيراً ؛ لأنه صار يملك عقلاً قد شكلته البيئة والتوجهات السائدة فيها
حتى صار أشبه بقطار يسير على سكة حديد لا يحيد عنها لا يميناً ولا شمالاً ، ثم
في النهاية لا يزيد على أن يكون رقماً مفرداً قد ينفع فقط في تكثير السواد .
قد يقال : يكفي أن تنفر طائفة من المؤمنين بهذا الأمر دون الآخرين . وهذه(1/348)
حقيقة دون شك ؛ إذ من البداهة أن ذلك ليس مطلوباً من الجميع ولا حتى الغالب إذا
كنا نتحدث عن التخصص في هذا المجال والتعمق فيه ، ولكن إذا كان الحديث عن
قضية الوعي والنضج في التعامل مع الآخر أياً كان ، فلا أقل من أن تكون سمة
غالبة ، ولا أعتقد أننا بذلك نطلب مستحيلاً . ثم في موضوع التخصص : أين هي
تلك الطائفة التي تكفي الآخرين هذا الأمر ؟ ! هل هي موجودة فعلاً ؟ أم لا نزال
في طور الإعداد والتنشئة ؟ لأنه عند استقراء سريع للساحة الثقافية اليوم قد لا
تخرج بأكثر من أسماء تعد على أصابع اليدين إن تواضعنا كثيراً في شروط التقييم .
إن كنا نريد أن نقوم بواجبنا على هذا الصعيد ، وأن نعد إجابات للأسئلة
النهضوية الملحة من واقع شريعتنا وبصفاء منهج السلف ، فلا بد من إعادة النظر
بأساليبنا في التنشئة والتكوين ، قبل أن تفد علينا إجابات من الخارج ، ينشغل
مثقفونا في تفنيدها والرد عليها ، دون أن نصنع من ثقافتنا شيئاً يلائم هذا الواقع
بمستحدثاته التي لا تتوقف .
المؤامرة .. المؤامرة :
قد لا تكون النظرة التآمرية صفة إسلامية بقدر ما هي عقدة عربية تجمع
غالب التوجهات والتيارات والأحزاب في عالمنا العربي ، وتشكل نقطة محورية في
علاقاتها مع الغرب وطريقة التعامل معه ، وهي نزعة تشكلت في صورتها الحدية
المعاصرة بعد سيطرة الاستعمار على العالم العربي ، وما صاحبه من ظلم وطغيان
وتكميم للأفواه .
وبدءاً يجب أن نؤكد على قضية هي من المسلَّمات والثوابت في عقيدة المسلم ،
ولكن التأكيد عليها قد يحد من الفهم الخاطئ لمضمون هذا الكلام ومقاصده وهي :
أن عداء الغرب للإسلام والتآمر عليه ومحاولة إضعافه هي مسألة عقيدة قبل أن
تكون مسألة فكر وتحدٍّ حضاري : ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ? ( البقرة : 120 ) . ولكن من هو الذي يكره الإسلام في الغرب ؟ هل(1/349)
هم كل أفراد المجتمع ؟ ! أم المؤسسات الحاكمة ؟ وهل ما يحرك الغرب في علاقاته
مع العالم الإسلامي والعربي هو نزعته العدائية فقط ؟ أم أن هناك مجموعة معقدة
وخطوطاً متداخلة في خريطة العلاقات السياسية . وهناك مصالح وموازين قوى ،
ربما تجعل الغرب في ظروف معينة يدعم الحركات الإسلامية ولو معنوياً كما حصل
في أفغانستان ، وهذا ما لا يتصوره بعضهم ، والتي تجعل المسلمين الذين يعيشون
في الغرب أكثر حرية في إقامة شعائرهم وعباداتهم وبناء مساجدهم ومراكزهم ، بل
وفي دعوتهم للإسلام لأفراد تلك المجتمعات ، واستخدام بعض الوسائل الإعلامية
الرسمية ، فضلاً عن الحرية في تنفيذ وإصدار أي وسيلة إعلامية خاصة ، وهذا ما
لا يحصل قطعاً في معظم الدول الإسلامية إن لم يكن في جميعها .
لذلك فمع إيماننا بهذا العداء ، إلا أن المسألة لا تحسم بوصفات وفتاوى جاهزة
ومبسطة ، بل تحتاج إلى تصور واقعي وسياسي ومصلحي ، يضاف إلى تصورنا
العقدي المستقر في النفوس ، حتى نصل إلى صورة أقرب للحقيقة لهذه اللحظة
التاريخية المعقدة من عمر العالم .
إننا نجد أن الأجيال الإسلامية الشابة في معظمها تربى اليوم على نزعة
تآمرية حادة تفسر بها كل الظواهر المعادية للإسلاميين والمتدينين ، وتضع كل
المعادين في سلة واحدة ، وتحشدهم في جبهة موحدة هدفها ضربهم والقضاء عليهم ،
حتى إننا نساهم في رسم صورة ذهنية سطحية لدى الناشئة مفادها : أن كل هؤلاء
العلمانيين بكل ما يحمله هذا المصطلح من تعميم يشمل : الليبراليين والشيوعيين
والبعثيين والقوميين والمنحلين خلقياً أن كل هؤلاء هم ببساطة عملاء للغرب سواء
بشكل مباشر أو غير مباشر ، ويُدعمون منه مادياً ومعنوياً ، وأن هدفهم الوحيد هو
القضاء على المتدينين ، ومن ثم القضاء على الإسلام ؛ مما قد يرسم صورة
كاريكاتيرية في أذهان بعض الناشئة تجعلهم يتخيلون أشكال هؤلاء المتآمرين وهم(1/350)
يجتمعون في سراديب مظلمة ، حيث تنبت لهم قرون التآمر ، وتتسع العيون وتزداد
حدتها ، وهذه الصورة وإن بدت مضحكة إلا أنها نتاج طبيعي للخطاب التعبوي
واللغة العاطفية التحريضية ، وتوجيه الرأي العام الإسلامي الذي تمارسه بعض
رموز الصحوة في كل طرح جماهيري ، ضد كل من يحمل توجهات مخالفة للتيار
الإسلامي ، وربما يتكرر الاستشهاد ببروتوكولات حكماء صهيون ، حتى ترسم في
ذهنياتنا الصياغة المثلى لتوصيات المتآمرين في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم .
إن طرحاً بهذا التوجيه له دون شك انعكاسات خطيرة على ذهنية الشباب
المتدين ؛ حيث يساهم في تشكيل عقليات مسطحة وحدية ، تتعامل مع ظواهر الحياة
وتفاصيلها ببساطة مفرطة ، وتبني خوفاً من هذا الجيش العارم والمنظم تنظيماً دقيقاً
من العملاء والمنافقين والحاقدين في الداخل ، وأسيادهم الذين يدعمونهم في الخارج ،
وتبني عداءاً ليس فقط لكل من له انتماءات أيديولوجية أخرى ، بل ربما لكل من
يشك في ولائه للتيار المتدين بكل مواقفه وأطروحاته ، حتى يغدو من الصعب
تصور أن العدو رقم واحد للماركسيين في العقود الماضية كانت الليبرالية
الأرستقراطية ، لا التيار الإسلامي وإن وقف في الخانة الثانية ، وأن ألد أعداء
القوميين والبعثيين هو الغرب المستعمر وعملاؤه في الداخل ، لا التيار الإسلامي
وإن وقف أيضاً في خانة العداء .
هذا التفسير التآمري للظواهر والأحداث الحياتية ربما أخذ منحىً آخر ، هو
محاولة التصدي والاستعداء لكل المستحدثات العلمية الحديثة ذات الطابع الإعلامي
والجماهيري ، والتي هي نتاج تطور تقني محض ، وجعلها وكأنها لم تصنع ولم
توجد إلا لمحاربة الإسلام ولصرف الشباب المسلم عن دينه ؛ حيث ما زلنا نسمع
من يطالب بتقليص انتشار الإنترنت وإغلاق المقاهي المخصصة له ؛ لأنها قد
تستخدم في العبث المحرم ، دون مجرد التفكير في إيجاد بدائل وحلول ، ولأن(1/351)
التاريخ يعيد نفسه ، فقد كان الطرح الإسلامي قبل عدد من العقود هو محاربة
المجلات والإذاعات والتلفاز بعموم ، أما اليوم وبعد أن صارت تلك المستحدثات
واقعاً مفروضاً ، ووجدت بدائل إسلامية ، صار الطرح مختلفاً ؛ فليس كل المجلات
تحارَب لأن هناك مجلات إسلامية نافعة ، وليس كل الإذاعات سيئة ؛ لأن هناك
إذاعات مفيدة وتخدم الدين ، وليس التلفاز بعمومه حراماً ؛ لأنه قد يحوي برامج
إسلامية جيدة ومفيدة ، ومع أن هذا يمثل اليوم وعياً ، إلا أنه وعي متأخر ينطبق
عليه المثل الذي يقول : « حكيم بعد الحادث » .
لعل من أسباب هذا التفسير التآمري غياب التصور الصحيح للخريطة
الأيديولوجية في العالم العربي أثناء القرن الأخير وفي العقود القليلة الماضية ،
وطبيعة المتغيرات التي حصلت ، وطريقة نشوء الأفكار وانتشارها ، وتأثر
الضعيف بالقوي ، واستلاب المغلوب للغالب كما وصفه ابن خلدون في المقدمة الذي
ساهم في تشكيل جيل يحمل مبادئ الغالب شرقياً كان أم غربياً ، لا بطريقة تآمرية
نفاقية بل بقناعة حقيقية تنتج أحياناً عن إخلاص وصدق وحب للمجتمع والأمة ،
وإن كان ظل بهذا السبيل ، بل ربما كانت هذه المبادئ والأيديولوجيات نتاج البيئة
العربية المحضة في إحدى مراحل الضعف ، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية
والبعث العربي ، اللذين يقومان في أساسهما على بث الروح العربية الوحدوية في
أرجاء العالم العربي .
إننا نضيع وقتاً في الانشغال المستمر في محاولة تقصي المؤامرات والتصدي
لها وفضحها ، مما قد يسبب ضياع كثير من الجهود على حساب بنائنا الداخلي
وتكوينه الثقافي الذي يجب أن يعد لمواجهة متغير لا يكاد يتوقف ، وزرع الوعي
المبكر في عقول الأجيال ، ومد الجسور بوعي وبصيرة لأقرب التوجهات
والأيديولوجيات المعاصرة ، وبناء تحالفات تكتيكية لخدمة الأهداف المشتركة .
وفي آخر هذه السطور التي لا تعدو أن تكون إشارات مقتضبة لقضايا تحتاج الكثير(1/352)
من الحوار والنقاش ، أرجو أن تكون معالم هذه الأفكار قد اتضحت وتجلت وإن كان
بشكل مختصر ومتعجل ؛ لأنني أعوِّل كثيراً على قدرتنا في مراجعة مواقفنا
وتصوراتنا ، وعلى النقد الذاتي المتبصر لمسيرتنا وواقعنا ، وإن كان هذا النقد لا
يصفو في بداياته من أخطاء .
بقي أن أشير إلى أن هناك تطوراً واضحاً في صفوف التيار السلفي إذا ما
قورن بالعقود الماضية ، ووعياً متزايداً يبشر بارتفاع مستمر لمؤشر القياس ، مما
يدعونا إلى مزيد من الوقفات والمراجعات تجنبنا الوقوع في نفس الأخطاء التي
وقعنا فيها سابقاً ، ومن أجل ألا يكون تاريخنا الذي يعيد نفسه إلا ذلك الذي يحمل
النجاح والتقدم والإبداع .
________________________
قضايا دعوية
بعض ما ينسب إلى السلف يؤدي للإحباط ! !
سليمان بن سعد بن خضير
يزخر ملف السلف [1] بأخبار قولية وعملية في غاية الجمال ، وبالغ التأثير ،
ولقد ملأ طيب ذكرهم المشارق والمغارب ؛ إذ أوتوا مواهب فذة ، وفتوحات ربانية
مدهشة ، وقد نمت فيهم فضائل وربت ، وعاشوا متقلبين في العلم والعبادة والجهاد
وطلب العيش بإقبال على الله بين زهد ومراقبة وجد . كان يجري عليهم ما يجري
على غيرهم : من مرض وضعف وفقر ، فلا ينزعون مما هم فيه .. تسابقوا
( في الله ) مخلصين دائبين ، فرادى وزرافات ؛ للمحافظة على صرح الإسلام
سامقَ البناء ، وطيدَ الدعامة ، مكينَ الأساس ، مشرقَ المعالم . كانوا أبرَّ الأمة
قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً [2] .
وقد نُقل لنا شيء من أخبارهم في كتب التراجم والسير العامة وفي أثناء كتب
الرقائق ، والشيء الذي لا ينكر أن لمنقول أقوالهم وأفعالهم أثراً عجيباً في تصحيح
الفهم ، وتهذيب السلوك ، ورِقَّة القلب ، وإشعال العزائم ، وإذكاء الهمم ، وقدح
المواهب كل ذلك بلا أمر أو نهي .
وقد دأب الدعاة على أن يجعلوا لذكر أخبار السلف من أقوالهم وأفعالهم نصيباً(1/353)
من دعوتهم وتأصيلهم : في الكتابة والخطابة والحوار وبخاصة في مواسم الطاعات
التي تتطلب عادة قدراً من الإعداد للتذكير والموعظة ! ! وربما أفضى بهم ذلك إلى
ذكر نماذج مثالية تبهر المستهدَفين من القراء والمستمعين ، وتوقفهم على البون
الشاسع بينهم وبين السلف ، وتقنعهم بضرورة الجد في أخذ الدين ! وربما دفعتنا
وإياهم الحماسة لذكر أخبار ليست على المنهج الشرعي الصحيح مما مسته يد
التصوف أو غلب عليها عدم الاتزان في أعمال القلوب كالخوف والمحبة والرجاء .
غير أن لهذه الأخبار المثالية والغريبة ولو كان لها حظ من الشرعية آثاراً
سلبية في المدعوين من حيث نظن أنها ستعمل فيهم أبلغ مما هو دونها من الأخبار ؛
فعندما نورد قصة من يقوم الليل كله كالحسن بن صالح [3] ، أو من يختم القرآن في
ليلة كعثمان بن عفان رضي الله عنه [4] ، أو من تتعرض له امرأة لإغرائه فيقف
ويعظها ، وما هي إلا أن سمعت كلامه حتى تحولت إلى عابدة متنسكة ، كما يروى
عن الربيع بن خثيم [5]رحمه الله ، أو من يواصل الصيام من الجمعة إلى الجمعة
كعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما [6] ، أو لا يشعر بمن حوله إذا دخل في الصلاة
كمسلم بن يسار رحمهما الله [7] ، أو من يُغشى عليه لسماع آيٍ من القرآن كحال
علي بن الفضيل رحمهما الله [8] ، أو يضحك لموت ابنه رضىً بقضاء الله كما فعل
الفضيل بن عياض رحمه الله [9] ، أو يحضر مجالس وعظه وتذكيره الألوف من
الناس كما يذكر في ترجمة ابن الجوزي [10] ، ونحوها من الأخبار .
عندما نورد هذه الأخبار وهي بهذه الدرجة من المثالية على قوم يعدُّون
المحافظة على الصلاة ضرباً من الإنجاز ؛ فمن السذاجة أن نتصور أنها ستنقلهم
180 درجة إيجابية أو قريباً منها ، بل إن هذه الأخبار وأمثالها مع ما لبعضها من
صحة في الرواية وموافقة للشرع قد تورث الإحباط واليأس في نفوس بعض
المدعوين ؛ لأن فيهم من يشعر أننا قدمناها على أنها هي الأنموذج الذي نتطلع إليه ،(1/354)
والغايات التي نصبو إليها ؛ والغايات إذا لم تكن قريبة المنال فستكون مستصعبة
التنفيذ ؛ و ( إذا أردت أن تطاع فائمر بما يستطاع ) ، كما أنها بحكم الإيغال في
الغرابة تشغل المخاطبين بالتفكير في صحتها وإمكان وقوعها بدلاً من أن يشتغلوا
بالتفكر فيها هي والتطلع لحال أهلها ، وربما جرّهم ذلك إلى الدخول في نقاشات مع
الدعاة في مدى صحة تلك الأخبار تنقلهم عن الموضوع الأساس ! ويزداد الأمر
سوءاً إذا كان ناقل تلك الأخبار من مبتدئي الدعاة .
لذا فإنه ينبغي ألاَّ تشاع في العامة ومن قاربهم على أنها أخبار طبيعية متكررة
أو غايات نهدف إليها ، وذلك لأمور منها :
1 - ما تقدم من الإشارة إلى الآثار النفسية التي تعود بالسلب على المخاطبين ،
والشرع الحنيف يراعي هذه المفسدة : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
« ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة » [11] ،
وبوَّب البخاري في كتاب العلم : باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ
يفهموا [12] .
قال ابن القيم في نحو ما نحن بصدده : « فلا بد من مخاطبة أهل الزمان
باصطلاحهم ؛ إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم
وهديهم ، ولو برز لهم هديهم وحالهم أنكروه ، فهؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير
السلف ، وعن عمق علومهم ، وقلة تكلفهم .. » [13] .
وكان الحسن البصري يخص بعض طلبته بالحديث في معاني الزهد والنسك
وعلوم الباطن التي قد تلتبس على غيرهم ولا تدركها فهومهم ، فكان لا يتكلم فيها إلا
في منزله معهم [14] .
2 - أن هناك فرقاً بين أسلوب ما روي من أحاديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم في الاجتهاد في الطاعة ، وبين ما روي عن غيره ، فغيره جاءت عنده محددة
متكلفة : ( يصلي 1000 ركعة ) ، ( يصلي الفجر بوضوء العشاء ) ، أما هو عليه
الصلاة والسلام فهناك أحاديث تتناسب مع فهوم الناس ومنها أنه « كان يصلي من(1/355)
الليل حتى تتفطر قدماه » [15] ؛ فهذا وصف قد ينطبق على كثيرين ولو لم يبلغوا
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالمبتدئ تتفطر قدماه في عُشر صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم ، والجَلْدُ يحتمل ما لا يحتمل مَنْ دونه وهكذا . كما أنه صلى الله عليه
وسلم كان يقوم ويرقد [16] ، وربما يعجز عن القيام ليلة لعارض من سفر أو مرض
فيستعيض من الضحى [17] ، وما أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر
بوضوء العشاء ! !
هذا ونعتقد أن ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم قد جاءنا متكاملاً لم يطغَ منه
جانب على جانب ، ولم يعارض حال حالاً ؛ بل جاء في تناسق جميل ، وتوازن تام ؛
فأين ما روي عن غيره مما روي عنه صلى الله عليه وسلم ؟ ! وما روي عنه
صلى الله عليه وسلم محدداً بمقدار كثير نحو : « أنه صلى مرة فقرأ في ركعة
بالبقرة والنساء وآل عمران » [18]وأمثالها فإنما هي في مواسم عبادية خاصة
كرمضان ، وقد قالت أمّنا عائشة رضي الله عنها : « ولا أعلم نبي الله صلى الله
عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح » [19] .
3 - أن بعض الأخبار التي تروى عن بعضهم إنما صدرت في حال[20]
عارضة ، ولا يمكن والأمر كذلك أن توصف حياتهم كلها بأنها كانت على هذه الحال ،
ولا يمكن أن يطالب الناس بأن يكونوا على حال لم يكن المذكور بها على الدوام !
كمن يغلب عليه الخوف فيبدر منه قول أو فعل ، كما كان ابن عمر رضي الله عنه
إذا شرب ماءً بارداً بكى وذكر أمنية أهل النار[21] ؛ فلم يكن ذلك مطرداً في كل مرة
يشرب الماء ؛ إذ لو كان كذلك لتلفت نفسه ولتنغص عيشه ، ونحوه قول حنظلة
لأبي بكر : نافق حنظلة ! .. الحديث وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو
تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي
طرقكم ... » [22] قال الحافظ ابن رجب في أحوال الناس بعد سماع الذكر ما(1/356)
ملخصه : قسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها ، فتذهل بذلك
قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر : من استحضار عظمة الله وجلاله
وكبريائه ، ووعده ووعيده ، وثوابه وعقابه ، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم ، وشدة خوفهم أن يكون نفاقاً ؛
فإن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جداً ، ولا يقدر كثير من
الناس أو أكثرهم عليه ، فيكتفى منهم بذكر ذلك أحياناً ، وإن وقعت الغفلة عنه في
حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة ، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك ، بل
يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه[23] .
4 - أن من هذه الأخبار المثالية ما دُوِّن لغرابته ؛ فإن النفوس تحفل بالغريب
من الأحداث والأحاديث ، وبحكم الغرابة برزت في حياة المترجَم له ، وإذا كانت
غريبة على أهل ذلك الوقت الذي ذكرت فيه ودونت وهم من هم فكيف بمن بعدهم
بزمن ومراحل ؟ !
5 - كما أن هناك أخباراً لا يُسَلَّم بمشروعيتها ، وهي مما حدث بعد الصدر
الأول أفضل القرون ، نحو التأثر بالقرآن لدرجة الإغماء والصعق وهي مما قد يعذر
صاحبها فيها ؛ لما تقدم من غلبة بعض الأحوال لكن لا يمكن ( بحال ) أن تقدم على
أنها النموذج الشرعي المرغوب أو الممدوح . قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن
يحصل لهم آثار من سماع القرآن كالاضطراب والإغماء : « أما جمهور الأئمة
والسلف فلا ينكرون ذلك ؛ فإن السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد
عنه معذوراً ، لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم ، وضعف قلوبهم عن حمله ،
فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين ... ولو أثر فيهم آثاراً محمودة لم يجذبهم
عن حد العقل لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة محمودين أيضاً ومعذورين » [24] .
وقال في موضع آخر : « وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته
وجماله أموراً عظيمة تصادف قلوباً رقيقة فتحدث غشياً وإغماءً ، ومنها ما يوجب(1/357)
الموت ، ومنها ما يخل العقل ، وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري
الناقصين عنهم ، لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم ، وضعف المحل المورود
عليه ؛ فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالاً مضلاً » [25] .
كما أن بعضاً من تلك الأخبار فيه تبتل ورهبانية ظاهرين . قال الذهبي :
« كل من لم يزمَّ نفسه[*]في تعبده وأوراده بالسنة النبوية يندم ويترهب ويسوء مزاجه،
ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين ، الحريص على
نفعهم ، وما زال صلى الله عليه وسلم معلماً للأمة أفضل الأعمال ، وآمراً بهجر
التبتل والرهبانية التي لم يبعث بها ، فنهى عن سرد الصوم ، ونهى عن الوصال ،
وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير ، ونهى عن العزبة للمستطيع ، ونهى عن
ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي . فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك
معذور مأجور ، والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور » [26] .
وقال : « الطريقة المثلى هي المحمدية ، وهو الأخذ من الطيبات وتناول
الشهوات المباحة من غير إسراف ... فلم يشرع لنا الرهبانية ، ولا التمزق
والوصال ، بل ولا صوم الدهر ، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة » [27] .
6 - أن بعضاً من تلك الأخبار مبالغات صريحة حمل عليها عواطف بشرية
كالحب وربما الغلو ، فلا ينبغي والحالة هذه أن نسير في ركاب محب أصاب أو
أخطأ ، ونقدمه للناس على أنه أنموذج واقعي . وكان للذهبي رحمه الله تعليقات
لطيفة على بعض ما ينقل من تلك الأخبار القولية أو الفعلية أذكر نماذج منها :
ذكر الذهبي قول من قال : « عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر ،
يظنون أنه من الملائكة ! » ، وقول : « نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة ! » .
فقال أي الذهبي : « هذا غلو لا ينبغي ، لكن الباعث له حب ولي الله في
الله » [28] .(1/358)
وحين ساق قول محمد بن مصعب العابد : « لَسَوْطٌ ضربه أحمد بن حنبل في
الله ؛ أكبر من أيام بشر بن الحارث » ، علق الذهبي عليه بقوله : « بِشر عظيم
القدر كأحمد ، ولا ندري وزن الأعمال ، إنما الله يعلم ذلك » [29] ، وعد من المبالغة
في الرأي قول يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله : « لو جمعت أمة
لوسعهم عقله » [30] ! ! ، وأنكر ما روي من أن عدد من يحضر مجالس الوعظ التي
يعقدها ابن الجوزي مئة ألف ، فقال : « لا ريب أن هذا ما وقع ، ولو وقع لما قدر
أن يُسمعهم ولا المكان يسعهم » [31] .
7 - أن بعضاً منها يحتمل أن يكون خطأ في الرواية ، وسَبْقَ قلم ، نحو ما
ذكره ابن النجار في تاريخه أن عدد من أقرأهم أبو منصور الخياط من العميان بلغ
سبعين ألفاً ! قال الذهبي : « هذا مستحيل ؛ والظاهر أنه أراد أن يكتب : نفساً .
فسبقه القلم فخط ألفاً ، ومن لقن القرآن لسبعين ضريراً فقد عمل خيراً كثيراً » [32] .
وربما كان الخبر غير صحيح روايةً مع ما له من الشهرة نحو ما جاء في
ترجمة ( ربيعة الرأي ) شيخ الإمام مالك ، وهو أن أمه كانت تقوم على تربيته
وتعليمه وتنفق عليه مما خلفه عندها زوجها فرّوخ ، وكان ثلاثين ألفاً ... إلخ
الخبر [33] ، قال الحافظ الذهبي : « حكاية معجبة ، ولكنها مكذوبة ! ! » ثم ساق
أوجه ردها بالنظر في المتن [34] ، وطعن في إسنادها العلامة عبد الرحمن
المعلمي ، وانتهى إلى الحكم باختلاقها [35] ، قلت : وهي قصة مشهورة ، تحمل
معاني تربوية رائدة ، ولكن .... ! !
فهذه ملاحظات مما يرد على بعض تلك الأخبار ( المثالية ) ، كما يرد على
غيرها ، لكن المصلحة من إشاعتها مضافاً إليها تلك الملاحظات أو بعضها مرجوحة ،
وما أردت استقصاء الاحتمالات ولا تتبع القصص ، ولكن حسبي أن أنبه إلى
مثال جديد من أمثلة مراعاة المصلحة والمفسدة ، وأن درء المفاسد مقدم على جلب(1/359)
المصالح ، وأن العبرة بالسنة المحمدية والحنفية السمحة ، وغيرها يقاس بها ،
والحمد لله رب العالمين .
________________________
(1) الأصل في إطلاق السلف أنه خاص بالقرون الثلاثة المفضلة ، ولكني توسعت في هذه المقالة في مفهوم هذا المصطلح ليشمل قروناً بعدهم ممن اتبعهم بإحسان .
(2) « كانوا أبر الأمة قلوباً » ، من قول ابن مسعود رضي الله عنه في وصف الصحابة ، رواه عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله : (2/947) برقم : 1810 ، وأوله : « من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كانوا أبر » ، وانظر رسالة الحافظ ابن رجب: فضل علم السلف على علم الخلف .
(3) حلية الأولياء : (7/328) .
(4) انظر نحوه مع تقسيم وتفصيل في لطائف المعارف : (318 ، 319) .
(5) حلية الأولياء : (2/116) .
(6) سير أعلام النبلاء : (3/370) .
(7) طبقات ابن سعد : (7/186) ، حلية الأولياء : (2/290) .
(8) حلية الأولياء : (8/297) ، سير أعلام النبلاء : (8/442) .
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (10/47) .
(10) سير أعلام النبلاء : (21/370) .
(11) رواه مسلم في صحيحه ، انظر شرح النووي عليه : (1/76) ، ونحوه عن عروة بن الزبير في سير أعلام النبلاء : (4/437) .
(12) فتح الباري : (1/272) ، وساق البخاري أحاديث تناسب هذا المقام تركتها اختصاراً , وانظر : سير أعلام النبلاء : (2/597) ، (10/603 ، 604) وهو مهم .
(13) مدارج السالكين : (1/159) ، ومفهوم عبارته : فلا بد من مخاطبة أهل الزمان بمستوى فهمهم وإدراكهم .
(14) ذكره ابن الأعرابي في طبقات النساك وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء : (4/579) .
(15) الحديث رواه البخاري في التفسير ، سورة الفتح : ح (4557) ، وانظر البخاري في التهجد : ح (1078) ، ومسلم في صفات المنافقين : باب إكثار الأعمال ، ح (2819) .(1/360)
(16) الحديث رواه البخاري في أول النكاح : (5/1949) ، ح (4776) ، ومسلم في النكاح : باب استحباب النكاح ، ح (1401) .
(17) الحديث رواه مسلم في المسافرين : باب صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (6/27 نووي) .
(18) أصل الحديث رواه مسلم في المسافرين : باب استحباب تطويل القراءة (6/61 نووي) وورد بتقييده برمضان في المسند : (5/400) وسنن النسائي : (2/224) .
(19) جزء من حديث رواه مسلم في المسافرين : باب صلاة الليل ومن نام عنها أو مرض (6/27 نووي) تقدم طرف منه قريباً .
(20) انظر مجموع الفتاوى : (10/5 فما بعدها) ، ومدارج السالكين : (1/154 160) فهو مهم ، والتعريفات للجرجاني : (110 ، 289) ، كشف المحجوب للهجويري : (615 ، 409) الرسالة للقشيري: (32) .
(21) لطائف المعارف : (557) .
(22) رواه مسلم في التوبة : باب فضل دوام الذكر (2750) ، و الترمذي في القيامة : باب (59) ، ح (2514) .
(23) انظر لطائف المعارف : (48- 51) .
(24) مجموع الفتاوى : (11/590) وأول كلامه كان عن السماع المشروع ، حيث يقول رحمه الله : « وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية والأحوال الزكية وله آثار في الجسد محمودة : من خشوع القلب ودموع العين واقشعرار الجلد ، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن ، وكانت موجودة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثني عليهم في القرآن ، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة : الاضطراب والاختلاج والإغماء (أو الموت والهيام) فأنكر بعض السلف ذلك ؛ إما لبدعتهم وإما لحبهم وأما جمهور الأئمة والسلف » وانظر مجموع الفتاوى : .
(10/348 353 ، 378 386) ففي الموضعين توسع مفيد للغاية .(1/361)
(25) مجموع الفتاوى : (11/75) وكان أشار في معرض حديثه رحمه الله إلى ما قد يقع في كلام بعض الشيوخ من معانٍ لا تجوز قد تصل للكفر صدرت عن بعضهم (في حال استيلاء حال عليه ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول ، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول ، ويكفِّر من يقوله) وقال : « وما يخرج من القول في حال غيبة عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له » انظر : مجموع الفتاوى : (11/74 ، 75) ، ومدارج السالكين :
(1/177 ، 178) .
(*) يزم نفسه : يربطها ويعلقها .
(26) سير أعلام النبلاء : (3/85 ، 86) .
(27) سير أعلام النبلاء : (12/89 ، 90) وتتمة كلامه نافع رحمه الله .
(28) سير أعلام النبلاء : (11/211) .
(29) سير أعلام النبلاء : (11/201) .
(30) سير أعلام النبلاء : (10/15) .
(31) سير أعلام النبلاء : (21/370) .
(32) سير أعلام النبلاء : (19/223) ، قال المعلق على هذا المجلد : رد ابنُ الجزري في الطبقات
(2/74) : نَقْدَ الذهبي لهذا الخبر بما لا ينهض حجة .
(33) تاريخ بغداد : (8/421) ، وفيات الأعيان : (1/183) .
(34) تاريخ الإسلام : (5/246) ، ومجمل أوجه الرد : [1] أن ربيعة لم يكن له حلقة وهو ابن سبع وعشرين سنة ، بل كانت الحلق ذلك الوقت لشيوخ المدينة مثل القاسم ، و سالم [2] الخبر تضمن ذكر إعانة الإمام مالك لربيعة على أبيه (الذي لا يعرفه) ؛ ولما كان ربيعة ابن سبع وعشرين سنة كان الإمام مالك فطيماً ، أو لم يولد بعد [3] والخبر تضمن ذكر (القلنسوة) وهي لم تكن خرجت للناس ، وإنما أخرجها المنصور ، وإن كان ربيعة لبسها فهو ابن سبعين سنة ! [4] كان يكفي ربيعة في السبع والعشرين سنة ألف دينار أو أكثر .
(35) انظر التعليق على الأنساب للسمعاني : (6/61 ، 62) ، و السمعاني نفسه أشار إلى ضعفها بقوله: حكي .
دراسات تربوية
التعلق بالأشخاص لا بالمنهج !
سالم أحمد البطاطي(1/362)
الأصل في العملية التربوية أنَّ الفرد الذي يدعى يجب أن تتركز الجهود
التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين ، وأن تكون صلته القوية بالله تعالى
وبمنهجه القويم ، وألا يتعلق بالبشر ؛ لأنَّ البشر من الممكن أن يتغيروا ، ولكن الله
الحي الذي لا يموت يُغيِّر ولا يتغيَّر كما قال سبحانه : ? كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ?
( الرحمن : 29 ) .
وإنَّ مشكلة التعلق بالأشخاص لها سلبيات منها : أن الفرد يتغير بتغير المتعلق
به ، ولذلك جاء القرآن ليقرر هذه الحقيقة الأولية حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق
بالأشخاص ولو كانوا رسلاً . ففي سورة آل عمران وهو يتحدث عن غزوة أحد
يقول سبحانه : ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ
انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ ? ( آل عمران : 144 ) يقول أحد الباحثين : « وكأنما أراد الله سبحانه
بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى
الله عليه وسلم وهو حيٌّ بينهم ، وأن يصلهم مباشرة بالنبع النبع الذي لم يفجِّره محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولكن جاء فقط ليومئ إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ،
كما أومأ إليه من قبله الرسل ، ودعوا القافلة للارتواء منه ؛ وكأنما أراد الله
سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ،
وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط ، حتى يستشعروا تبعتهم
المباشرة التي لا يخليهم عنها أن يموت الرسول أو يقتل فهم ؛ إنما بايعوا الله ، وهم
أمام الله مسؤولون ، وكأنما كان سبحانه يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة
الكبرى حين تقع ، وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم ، فشاء أن(1/363)
يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم
الدهش والذهول » .
ويضيف قائلاً : « والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد
كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً ،
الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة ، وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه
بظهره ، والنبل يقع عليه ولا يتحرك ، ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه
ويستشهدون واحداً إثر واحد ، وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان
يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من
مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم ، هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب
منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها
للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت ؛ إنَّ الدعوة أقدم من
الداعية » .
وكما كان القرآن يربي الصحابة والأمة من بعدهم على التعلق بالمنهج وذم
التعلق بالأشخاص ، كذلك كان صلى الله عليه وسلم هذا منهجه ، ومنهج كل من دعا
إلى الله على بصيرة ، وإليك بعض النماذج :
1 - عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعَظنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم موعظة وَجِلَتْ منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول
الله ! كأنها موعظة مودع ، فأوصنا ! قال : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ،
وإن تأمَّر عليكم عبدٌ ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ؛ فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ ، وإيَّاكم ومحدثات
الأمور ؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة » [1] .
الشاهد قوله : « كأنها موعظة مودع » ، « فعليكم بسنتي » فربما كان قد وقع
منه صلى الله عليه وسلم تعريض في تلك الخطبة بالتوديع ، وأنه مغادر الحياة ،
فأوصاهم بالتعلق بسنته بعده ، وقول الصحابة : « فأوصنا » فيه أنهم لما فهموا أنه(1/364)
مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده .
2 - في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« لتأخذوا عني مناسككم ؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا .. » [2]
فأوصاهم بأخذ سنته واتباع هديه الذي هو الدين الذي بلغه عن ربه ؛ ففيه تعليق
الصحابة بمنهج الله ، وتربيتهم على ذلك وهو حيٌّ بين أيديهم .
3 - جمعه الناسَ بماء بين مكة و المدينة يسمَّى خُمّاً ، وخطبهم فقال :
« ياأيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب »[3] ثم حض
على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته . الشاهد تعريضه بأنه مغادر الحياة ،
وحضه بالتمسك بكتاب الله وبمنهج الله .
4 - خرج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال : خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال : « أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث
مرات ولا نبي بعدي ؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، وعلمت كم خزنة
النار وحملة العرش ، وتُجُوِّز بي ، وعوفيت وعوفيت أمتي ؛ فاسمعوا وأطيعوا ما
دمت فيكم ؛ فإذا ذُهِبَ بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه » [4] .
الشاهد قوله : « فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله » . فلم يعلقهم بنفسه الشريفة
ولا بذاته إنما علقهم بكتاب الله وبمنهج الله ؛ وفي هذا تربيتهم على التعلق بالمنهج .
يتضح مما سبق من هذه الأحاديث كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يوجه الصحابة ويحضهم ويعلقهم بمنهج الله الذي هو الكتاب والسنة ولم يكن يعلقهم
بشخصه وذاته .
وكان يربيهم على هذه الحقيقة الأولية وهو بين ظهرانيهم ، ويركز عليها
ويذكرهم بها في أكثر من موقف كما سبق ؛ وما ذاك إلا لأهمية هذه الحقيقة التي
ربما يغفل عنها الناس ؛ فكان الواجب تذكيرهم والتركيز عليها .
وأيضاً لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يربي بعضهم بعضاً ، ولا غرابة
في ذلك ؛ فقد رباهم صلى الله عليه وسلم على ذلك من قبل ، ويذكِّر بعضهم بعضاً(1/365)
بهذه الحقيقة المهمة حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص ؛ فمتى جنحت
العاطفة نحو الأشخاص ضعفت النفوس وتقهقرت ، ويظهر ذلك فيما يلي :
1 - قال الزهري : حدثني أبو سلمة عن ابن عباس : « أن أبا بكر خرج
وعمرُ يكلم الناس ، وقال : اجلس يا عمر . قال أبو بكر : أما بعد : فمن كان يعبد
محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال الله تعالى :
? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ?
( آل عمران : 144 ) . قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية
حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلهم ؛ فما أسمع بشراً من الناس إلا
يتلوها» ، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : « والله ! ما هو إلا أن
سمعت أبا بكر تلاها فعرقتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى
الأرض ».
2 - قال ابن أبي نجيح عن أبيه : « إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل
من الأنصار يتشحط في دمه فقال له : يا فلان ، هل شعرت أن محمداً صلى الله
عليه وسلم قد قتل ؟ وكان ذلك في أحد فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد
بلَّغ . فقاتلوا عن دينكم » [5] .
3 - في غزوة أحد لما انهزم الناس لم ينهزم أنس ابن النضر رضي الله عنه
وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين
والأنصار قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله
عليه وسلم . فقال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال :
يا سعد ، واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، ووُجِد به بضع(1/366)
وسبعون ضربة ، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه .
إنه من واجب المربين ومن هم في موضع القدوة أن يربوا أتباعهم على
التعلق بالله وعدم التعلق بالأفراد .
مظاهر التعلق بالأشخاص :
1 - ترك الالتزام بعد موت المربي أو سفره أو سجنه .
2 - ترك العمل لهذا الدين بابتعاد المربي عنه .
3 - عدم الصبر على مفارقته .
4 - مقابلة أقوال المربي غير الصائبة بأقوال من تأخذ الأمة الفتوى عنهم .
5 - التساهل في الكثير من الأخطاء بحجة أن المربي يعملها .
6 - تعظيم المربي ومدحه وإطراؤه والثناء عليه إلى درجة الغلو .
7 - التسويغ الكثير لأخطاء المربي ، وعدم قبول أن المربي قد يخطئ بل
يُجعل دائماً هو المصيب بلسان الحال أو المقال .
8 - عدم مناقشة المربي في بعض القضايا التربوية التي لم يفهمها المتربي
بحجة أن مربيه قد يغضب عليه عندما يناقشه .
9 - عدم الوضوح في كثير من قضاياه وأموره بحجة أن المربي ربما يتغير
تجاهه .
10 - التخفي في عمل بعض الأمور التي لا تنبغي فضلاً عن المعاصي
بحجة أن المربي يغضب عليه وتتغير نظرته له .
11 - التحرج من أن يعرف المربي أموره الخاصة حتى لا تتغير نظرته له .
12 - الطاعة العمياء للمربي في خطئه .
13 - نصرة مربيه عند الآخرين حتى في خطئه .
14 - تقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح والديه وأهل بيته .
15 - تقليد المربي في بعض الصفات المذمومة ( عشوائية تهور عجلة
فوضوية ) .
16 - الانصدام بواقع المربي إذا حصل منه خطأ مما يسبب له النكوص ،
فيجعل زلة المربي سبباً في الابتعاد عن الحق ، وكان الإمام سفيان بن عيينة يطلق
على مثل هؤلاء الذين يجعلون زلات القدوات والمربين سبباً للابتعاد عن الحق
صفة : ( الحماقة ) فقد لاحظ أحدهم منه خشونة وشدة على طلبته فتجرأ وسأله :
« إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض ، تغضب عليهم ، يوشك أن يذهبوا ويتركوك »
فرد عليه : « هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي » . فأراد سفيان(1/367)
أن يفهم السائل القاعدة التي هي : ( التعلق بالحق وترك التعلق بالأفراد ) ،
فالمربي والقدوة لا يعني أنه هو الحق وهو الدعوة ، وفرق أن يوجد عيب أو زلل في
المربي أو أن يوجد الزلل والخطأ في الحق .
أسباب داء التعلق بالأشخاص :
لبعض الأشخاص صفات شخصية من أهمها :
1 - بروز الصفات الجاذبة عند المربي ( الخطابة العلم الذكاء ... ) .
2 - كثرة الجلسات غير الهادفة والمبنية على تجانس الطبع .
3 - فقدان القدوة منذ النشأة الأولى .
4 - عدم ربط المتربي بالقدوة المعصوم صلى الله عليه وسلم .
5 - عدم ربط المتربي بالاتصال بالله والتعلق بدين الله .
6 - تغليب جانب العاطفة في التعامل مع المتربي وتحكيمها .
7 - عدم التركيز على بعض المفاهيم الدعوية التربوية مثل : ( الفرق بين
حب الله وحب الأفراد ، وبين الحب في الله والحب مع الله ) .
8 - عدم تحذير المتربين من خطورة التعلق بالأشخاص .
9 - التسويف في التحذير من خطورة التعلق بالأشخاص بحجة اجتذابه وعدم
تنفيره ، والزعم أنه في أول الطريق .
10 - عدم انتباه المربي لهذه المشكلة مما يجعل الأمر مستفحلاً .
11 - عدم مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة .
12 - تزيين الشيطان للمربي بأنه مهم وجذاب مما يغبِّش عليه خطورة هذه
المشكلة .
13 - الخلل في عملية تقييم الأفراد .
14 - إهمال جانب التربية الذاتية وتغليب جانب التربية الجماعية على
الفردية .
آثار داء التعلق بالأشخاص :
1 - ترك الالتزام بالكلية بعد موت المربي أو سجنه أو سفره .
2 - ترك العمل لهذا الدين ببعد المربي عنه .
3 - الوقوع في معصية الغلو والتعظيم .
4 - الوقوع في كثير من الأخطاء .
5 - الوقوع في معصية الوالدين بتقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح
والديه .
6 - فقدان شخصيته المتميز بها .
7 - إخراج جيل هش تستملكه العواطف .
8 - جعل العاطفة هي الحكم في كثير من القضايا .(1/368)
9 - عدم قبول العمل لهذا الدين في بيئة بعيدة عن بيئة مربيه .
10 - الرياء وعدم العمل إلا بمرأى من مربيه .
11 - عدم نصح المربي إذا أخطأ .
12 - الوقوع في التهور والعجلة والفوضوية المرتسمة في مربيه .
علاج داء التعلق بالأشخاص :
1 - التركيز في السنوات الأولى للعملية التربوية على معاني التعلق بالله
وحده ، والمعنى الحقيقي للحب في الله .
2 - التركيز على الأصول الإيمانية ومعاني الشرك وخاصة في المحبة .
3 - الحث على صبغ الجلسات الخاصة بين الأفراد بالأهداف القيمة .
4 - مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة وعدم الانتظار حتى يتفاقم
الأمر .
5 - انتباه المربي لهذه المشكلة وتحذيره الدائم للفرد من خطورة التعلق
بالأشخاص .
6 - تكرار التقويم للأفراد حتى تتسنَّى معالجتهم قبل استفحال الأمر .
7 - مناقشة مثل هذه القضية في جلسة نقاش مفتوحة يشترك فيه جميع الأفراد .
8 - تعليق الأفراد بالله وبمنهجه .
9 - ربط المتربين بقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم .
10 - التركيز على جانب التربية الذاتية .
11 - التركيز على جانب الإخلاص وأن العمل لا يكون إلا لله ، وما كان لله
فهو الذي يبقى ، وما كان لغيره فإنه يفنى .
12 - بث روح العمل لهذا الدين في أي مكان وزمان كان .
وأخيراً .. اعلم :
1 - اعلم أن من الأخطاء في العملية التربوية التعلق بالأشخاص وضعف
التعلق بالمنهج .
2 - اعلم أن القرآن الكريم قد قرر هذه الحقيقة ، وهي حقيقة التعلق بالمنهج
ونبذ التعلق بالأشخاص ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا هو منهجه
ومنهج كل من دعا إلى الله على بصيرة من الصحابة ومن تبعهم .
3 - اعلم أن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء .
4 - اعلم أن الدعوة أقدم وأبقى من الداعية .
5 - اعلم أن منهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى
الناس .
6 - اعلم أن الجهود يجب أن تتركز في توثيق صلة الناس بربهم .(1/369)
7 - اعلم أن البشر من الممكن أن يتغيروا ولكن الله الحي الذي لا يموت يغير
ولا يتغير .
بارك الله في الجهود ، وسدد الله الخطا ، ورزقنا الله الإخلاص في القول
والعمل .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
________________________
(1) رواه أبو داود ، كتاب السنة ، ح (3991) ، و الترمذي ، كتاب العلم ، ح (2600) ، وقال : حديث حسن صحيح .
(2) رواه مسلم ، كتاب الحج ، ح (2286) ، و النسائي كتاب مناسك الحج ، ح (3012) واللفظ له .
(3) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة ، ح (4425) .
(4) أخرجه أحمد ، ح (6318) .
(5) رواه البيهقي في دلائل النبوة .
قضايا ثقافية
مقاربة الحقيقة
د . عبد الكريم بكار
ركز الله جل وعلا في فطرة الإنسان حب التساؤل والتطلع إلى معرفة
المجهول . وتاريخ الإنسانية حافل بالجهود التي يحاول الناس من خلالها الخروج
من العماء و ( اللاتكوّن ) . والإنسان إذ يحاول التعرف على الوسط الذي يعيش فيه
يسعى إلى فهم ذاته وتيسير حركته واستثمار طاقاته ، وهو في سبيل ذلك مطالب
بأن يعرف الكثير الكثير من الحقائق ، وذلك لا يتم إلا بامتلاك المنهج والأدوات
الملائمة . إن مما هو مألوف أن نجد بعض الحقائق يبدي طواعية من غير حدود ،
حتى إذا حاولت القبض عليه واستيعابه تأبّى على التشكل على نحو ما نجده في
المادة الهلامية . وهذا ما يخدع كثيراً من الناس ؛ حيث يكون قبضهم إذا يظنون أنهم
قبضوا على ما يشبه السراب .
ولعلِّي أسلط الضوء على هذه المسألة المهمة من خلال النقاط الآتية :
1 - إدراك الإنسان للمحسوسات والمجسَّمات أسهل بكثير من إدراكه
للمعنويات والعقليات ؛ فنحن نكاد لا نبذل جهداً يذكر في التعرف على لون ثوب أو
مساحة غرفة أو وزن هاتف ، أما إذا تحدثنا عن شجاعة شخص أو أثر الرخاء في
حياة شعب ، أو أثر اليتم في حياة طفل ومستقبله ، فإننا سنختلف اختلافاً بيناً في(1/370)
ذلك ؛ حيث يكون التعامل مع عناصر غير ملموسة ، وبعضها غامض جداً يصعب
الحدس به .
دعونا نقول : إن ( الحقيقة ) ليست ذات جوهر واحد ، أو ذات طبقة واحدة ،
وإنما هي ذات طبقات عدة ، بعضها فوق بعض ، وكلما صرنا للبحث في طبقة
أعمق احتجنا في إدراكها والتعامل معها إلى أسلوب جديد أو وسيلة جديدة ، ووجدنا
أنفسنا على أرض هشة ؛ حيث يشتد النقص في وسائل المعرفة ، كما يزداد الاعتماد
على عناصر ذات طابع يكاد يكون شخصياً .
حين نرى ( قلماً ) فإننا نعرف سماته الظاهرة لأول وهلة ؛ فإذا أردنا أن
نعرف ( ثمنه ) وجدنا أنفسنا بحاجة إلى درجة من الخبرة التجارية وأسعار الأقلام
في السوق ؛ فإذا تجاوزنا ذلك إلى معرفة المواد التي صُنع منها القلم ومقدار كل منها
والتقنية المستخدمة فيها وجدنا أنفسنا أمام معضلة كبرى ، ووجدنا أن الاقتراب من
ذلك يتطلب وجود مختبرات متطورة وتجارب كثيرة وخبرات متخصصة وراقية ؛
ومع كل ذلك ففي الغالب تكون النتائج متواضعة ، وإلا لأمكن اقتباس أسرار التقنية
المتقدمة بسهولة . ونحن في كل هذا نتعامل مع شيء محسوس ، لكننا تجاوزنا ما
يوقفنا عليه النظر العابر إلى طبقات أعمق من الحقيقة .
2 - في المسائل الصغيرة والمحدودة نستخدم الحواس والأخبار المتواترة
والمستفيضة ، ونصل إلى أحكام قطعية أو شبه قطعية ، وذلك كحكمنا بأن زيداً من
الناس موجود معنا في هذه الحجرة ، وكإيماننا بوجود بلد اسمه ( الصين ) وشخص
مضى اسمه : حاتم الطائي أو الذهبي . ونحن لا نستخدم في إدراك هذا النوع من
الحقائق والمعارف مقدمات أو عناصر ذهنية ؛ ومن هنا حصلنا على معرفة يقينية
أو شبه يقينية .
أما إذا أردنا الاقتراب من قضية أو حقيقة ذات بنية مركبة فإن الأمر سيكون
مختلفاً جداً . وتكون البنية مركبة إذا ساهم في تشكلها عدد من الروافد المتباينة
أوالمتقاربة ؛ وذلك كما إذا أردنا الوقوف على ما جرى في معركة من المعارك ،(1/371)
والآثار الرمزية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عنها . في مثل هذه الحالة
يكون من غير الممكن فهم هذه الحقيقة أو الحقائق المركبة على نحو مباشر ؛ ولا بد
من استخدام وسيط معرفي ، يسميه بعض الباحثين اليوم بـ ( الإشكالية ) . هذه
الإشكالية مكونة من عدد من العناصر ، أهمها معتقداتنا ، بالإضافة إلى الخلفية
الثقافية العامة أو ما كان يسمى بـ ( الأهلية ) ثم المعلومات المتوفرة حول القضية
موضع البحث . فالطبيب الذي لا يؤمن بوجود ( الجن ) أو الذي لا يرى ( الإصابة
بالعين ) سوف يُبعد كل ما يتعلق بهذين الأمرين عند التشخيص والعلاج لكل
المرضى الذين يراجعونه ، والذي خبرته في الاقتصاد معدومة يمكن أن يصدِّق من
يقول له : إن ثروته يمكن أن تتضاعف كل سنة مائة مرة إذا هو دفع ماله إليه .
والذي لا يعرف الاحتياطات التي تقوم بها الدول النووية نحو السلاح النووي فإنه
يمكن إذا رأى قنبلة في صحراء أن يصدِّق من يقنعه بأنها قنبلة نووية ، وهكذا .
الإنسان وهو يستخدم هذا الوسيط المعرفي في استيعاب الواقع الموضوعي لا ينتهي
في أكثر الأحيان إلا إلى نتائج ظنية ؛ وذلك لأن صلابة الرأي نابعة من صلابة
المقدمات التي ولَّدته . وعند النظر في خلفياتنا الثقافية ومعلوماتنا حول القضايا التي
نحاول فهمها نجد أنها كثيراً ما تكون قاصرة وقابلة للجدل والنقد ؛ وهذا ما يجعل
تعاملنا مع القضايا المركبة والمعقدة منطوياً على نوع من ( الاجتهاد ) الذي يحتمل
الخطأ والصواب .
3 - كثيراً ما نشكو من نقص المعلومات التي تساعدنا على فهم بعض الأمور ،
وكثيراً ما نجد أنفسنا بلا حول ولا طول تجاه الوقوف على بعض الدوافع لبعض
التصرفات ، أو تجاه تقدير الآثار المترتبة عليه ، أو تكوين صورة جيدة عن واقعة
تاريخية معينة ، وفي هذه الحالة نلجأ إلى ( التفلسف ) ، وليس من المبالغة القول :
إنه ما يمر على الواحد منا يوم دون أن يستخدم في كلامه وتأملاته نوعاً من التفلسف(1/372)
من أجل التغلب على ما نواجهه من نقص في عتادنا المعرفي .
نحن نستخدم ( التعليل ) في كثير من الأحيان من أجل جعل تصرفاتنا وأقوالنا
تبدو منطقية ومنسجمة ، ونستخدم ( القياس ) لسد الفراغات التي تركها الاستقراء
الناقص ، أو حيث يكون الاستقراء التام مستحيلاً ، ونستخدم ( التقنين ) من أجل
تسهيل التعامل مع الأفكار والأشياء والمواد . والسنن الواردة في القرآن الكريم
والسنن النبوية تهدف إلى مساعدتنا على أخذ العبر والوصول إلى مستخلصات
مركزة حول الماضي والمستقبل . حين نمارس ( التحليل ) فإننا نرمي إلى تفكيك
المعطيات المعقدة بغية النفاذ إلى جوهرها ، وإتاحة الفرصة لأدمغتنا كي تتعامل معها
بكفاءة . وحين نتوقع حدوث بعض الأمور ، ونهجس بالمستقبل فإننا نقوم بعملية
استكشاف للعلاقات بين الأسباب والمسببات ، ونفعل ذلك بغية إيجاد نوع من
الاستمرارية الشعورية والظرفية ، وتوفير منطقة عيش آمنة وملائمة لحركتنا .
إن كل هذه الممارسات الذهنية والمعرفية ما هي سوى طرق لترويض
الحقائق ، ومناهزة استيعابها . وهي لا تعدو أن تكون ضروباً من ( المقاربة ) لما
نبتغيه . وهي جميعاً تعمل خارج منطقة اليقين والصواب القطعي . وفي هذه
العمليات التي أشرنا إليها يقع الكثير من المجازفة والتعسف والتجاوز . وتقدُّم الوعي
الإسلامي ولا سيما على الصعيد الشعبي ضعيف جداً في هذا الحقل ؛ بل إن كثيراً من
الصفوة من ذوي الثقافة العليا يسلكون مسلك العامة في بعض الأحيان حيال التعامل
مع معطيات التفلسف والنظر العقلي . مع أن من الواضح أن ( الفلسفة ) لا تمنحنا
الدقة ، ولا تساعدنا على التحديد ، وإنما تزيد في درجة شفافيتنا ، وتساعدنا
على رسم الاتجاهات والتعامل مع المسائل الكلية .
4 - في البنية العميقة للمعرفة الإسلامية مرونة فكرية كبيرة ، نحن اليوم في
أَمسّ الحاجة إلى التشبع بها وتمثلِها في عمليات الاستنباط والاختلاف والتقويم(1/373)
المختلفة . ومن الملاحظ أن الفكر الحداثي الغربي يقوم اليوم على ركائز غاية في
التطرف ؛ فهو شديد التأرجح بين الشك المطلق واليقين المطلق ؛ بين العقلانية
المطلقة وبين جحود أي ثابت من الثوابت ، وقد تأثر بهذا كثير من الرؤى
الحضارية المعاصرة في بلاد المسلمين .
أما الرؤية الإسلامية في هذا المجال ، فإنها تقوم على ( الوسطية ) المبصرة ؛
فهناك اليقين ، والظن القوي والظن الضعيف ، والشك القوي والشك الضعيف .
والاقتراب من الحقيقة متفاوت ، كما أن التورط في الخطأ متنوع ، وحين وضع
الأصوليون قواعد تفسير النصوص لاحظوا هذا المعنى بدقة متناهية ؛ ولذا ذهبوا
إلى أن النص قد يكون ظني الدلالة ، فيقبل آنذاك التأويل والفهم المتعدد .
ولاحظوا على سبيل المثال أن الأمر قد لا يفيد الوجوب ، بل قد ينصرف عند
وجود قرينة إلى الإرشاد أو الندب أو الإباحة ، كما أن النهي قد يفيد مجرد الكراهة ،
وليس الحرمة . العلاقة بين المقدمات والنتائج والأسباب والمسببات في كثير من
الآداب الغربية تميل اليوم إلى ( التصلب ) حيث يحاول كثيرون هناك إضفاء معنى
التلازم والاطراد على الارتباط القائم بين حدث وآخر .
وقد بات كثيرون لدينا يستخدمون عبارات الجزم والتأكيد فيما تأبى طبيعته
ذلك . وقد كان من أدب علماء المسلمين أن يقولوا عقب بسط آرائهم واستنتاجاتهم :
« والله أعلم » ليشعروا القارئ باحتمالية ما ذهبوا إليه وعدم استحواذه على اليقين .
وكان من لطيف ما قرروه قولهم : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيرنا
خطأ يحتمل الصواب » ولو أنهم قالوا : « مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب
غيرنا صواب يحتمل الخطأ » لما أبعدوا النجعة ؛ حيث يرى بعض الأصوليين أن
كل مجتهد مصيب . ومن أدب المسلم وصفاء اعتقاده أن يقول إذا تحدث عن شيء
مستقبلي : « إن شاء الله » و « بإذن الله » ليذكّر السامعين أن الأمر كله لله ،(1/374)
وليشعرهم بوجود علاقة لينة بين ما نراه أسباباً ، وما نراه مسببات . إن كل ما
نصل إليه من مقولات وطروحات يظل أغلبياً يحتمل الكثير من الشذوذ ، كما يحتمل
الوهم والغلط ؛ وما ذلك إلا لأن إمكانات التجريب في عالم الفكر والشأن الإنساني
عامة محدودة ومعقدة ؛ مما يجعل كل براهيننا على ما نقوله ذات وزن نسبي
ومدلولات ترجيحية ، ليس أكثر . وإن من أهم سمات الرجل العقلاني أنه لا
يستمسك بآراء وأفكار ليس لديه ما يكفي من البراهين عليها .
________________________
تأملات دعوية
يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا
محمد بن عبد الله الدويش
لقد ذم الله - تبارك وتعالى - طائفة من الناس بأن علمهم بعيد عن علم الآخرة
النافع لهم ، بل نفى عنهم العلم فقال - تعالى - : ? وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ ? ( الروم : 6-7 ) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال فئة ممن يبغضهم الله تبارك وتعالى
بقوله : « إن الله يبغض كل جعظري جوَّاظ ، سخَّاب في الأسواق ، جيفة بالليل
حمار بالنهار ، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة » [1] .
حين تستمع إلى ما يدور في كثير من مجالس المسلمين اليوم تجد طائفة ممن
ينطبق عليهم هذا الوصف ؛ فحين يأخذون بالحديث عن أمر من أمور الدنيا فهم
يملكون رصيداً من المعلومات ، وربما يتحدثون بالأرقام الدقيقة عن كثير من
الظواهر ، وحين تنقص أحدهم معلومة ، أو يخطئ فيها يصحح له ذلك طائفة من
أصحابه .
لكنك تجد الشخص نفسه يجهل حكماً بدهياً من أحكام الطهارة أو الصلاة أو
الزكاة أو الصيام ، وكثيراً ما يترتب على هذا الحكم الذي يجهله صحة العبادة
وبطلانها .
إنه يحفظ من أسماء الساسة ويعي من أخبارهم - وكثير منهم ممن لا يدين
بالإسلام - أضعاف ما يعيه من أخبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسلف(1/375)
الأمة الصالح وسيرهم !
والأدهى من ذلك أن هؤلاء يحظون بالاحترام والتقدير من عامة المسلمين ،
ويعدونهم من أهل الوعي والفكر والرأي .
أفلا يصدق على أمثال هؤلاء أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ويغفلون عن
الآخرة ؟
إن انتشار الوعي بين المسلمين أمر مطلوب ، والجهل مذموم في الفطر
السليمة والعقول المستقيمة قبل أن يرد ذمه في الشرع ، ومعرفة المسلمين لما يدور
في واقعهم وما يجري حولهم مطلب له أهميته ، لكن الاعتراض ينصبُّ على سيطرة
هذه الأمور على الناس وجهلهم بأمر الآخرة ، بل استهانتهم بما يؤدي إليها ويدل
عليها ، واعتبارهم أن العلم بها من شؤون الوعاظ الذين يحتاج الناس إليهم أحياناً
بشرط ألا يطول حديثهم ، ولا يتجاوز نطاق الوعظ والإرشاد . أما أهل الفكر
والرأي فلهم شأن آخر ، ولغة أخرى في الحديث والتفكير .
إننا بحاجة إلى أن نحيي علوم الآخرة وما يدل على الله - تبارك وتعالى -
من العلم النافع ، ومن وسائل ذلك :
* الاهتمام بهذه العلوم النافعة ، وإعطاؤها منزلتها اللائقة .
* أن نسعى لاستثمار المجالس العامة بالحديث عما يفيد الناس من هذه العلوم ،
بدلاً من استطراد الناس في الحديث فيما لا يغني ولا يفيد .
* الاعتناء بربط الظواهر الاجتماعية والإنسانية بالسنن الربانية والقواعد
الشرعية ، واستثمار حديث الناس في ذلك بالتأكيد على هذه المعاني ؛ فحين
يتحدثون عن صور من الترف والثراء ، نعقِّب على ذلك ببيان منزلة الدنيا من
الآخرة وضآلة متاعها ، ونبين عاقبة الترف وأثره على الناس ، وحين يجري
الحديث حول مشكلة اجتماعية أو كارثة ومصيبة فيجدر أن نعلق على ذلك ببيان
أسباب هذه الظواهر وتفسيرها من خلال السنن الربانية .... وهكذا .
* لا بد من التفكير بتسهيل العلوم الشرعية وتقديمها للناس ، وبخاصة العلوم
الضرورية التي تتوقف عليها صحة عباداتهم ومعاملاتهم ، ولا بد من استثمار(1/376)
منتجات التقنية المعاصرة ، وتقدم وسائل الاتصالات ونقل المعلومات .
________________________
(1) رواه البيهقي عن أبي هريرة ، السلسلة الصحيحة ، للألباني ، (1/331) .
وقفات
مع الناس في حاجاتهم
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
لبث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً يحذر الناس من
الشرك ، ويدعوهم إلى التوحيد ، ويربي المؤمنين عليه . ولكنَّ العجيب اللافت
للنظر أنَّ ذلك الأمر العظيم لم يصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن العناية بحقوق
الناس الدنيوية ، وحاجات المستضعفين ؛ ففي العهد المكي تنزل عليه قول الله -
تعالى - : ? وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ
أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ? ( المطففين : 1-6 ) . وقوله - تعالى - : ? إِنَّهُ كَانَ لاَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ? ( الحاقة : 33-34 ) .
وقوله - تعالى - : ? أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ
يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ? ( الماعون : 1-3 ) ، ونحوها من الآيات كثيرة جداً ،
ومثلها كذلك الأحاديث النبوية التي تواترت في الحث على السعي في قضاء حاجات
الناس وتفريج كرباتهم ؛ فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن
فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره
الله يوم القيامة » [1] . وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : « الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله » . وأحسبه(1/377)
قال : « كالقائم لا يفتر ، وكالصائم لا يفطر » [2] .
إنَّ أولويات الدعوة والتغيير في هذه الأمة كثيرة جداً ، والحكمة الشرعية
تقتضي البدء بالأوُلى فالأوْلى ، ولكن هذا لا يعني إلغاء العناية بالحاجات الدعوية
والاجتماعية المفضولة ؛ فالأمور تقدر بقدرها ، والفقه الناضج هو الفقه الذي يوائم
بين تلك الحاجات بتوازن تام .
ومن ذلك السعي الحثيث لكفالة ضروريات الناس وتوفير حاجياتهم التعليمية
والاجتماعية والصحية .. ونحوها ؛ فهي من الطرق الرئيسة للتأثير على نفوسهم
وتأليف قلوبهم . قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسان
وقد التفت إلى هذا الأمر في عصرنا فرق كثيرة من أهل الضلال ، منهم :
1 - الشيوعيون الذين طالبوا بحقوق العمال والطبقات الكادحة - زعموا ! - ،
وأصبحت شعاراتهم البراقة - في يوم من الأيام - تكتسح صفوف المستضعفين
والبسطاء .. !
2 - المنصّرون الذين استغلوا ثالوث الفقر والمرض والجهل الذي يضرب
بجِرانه في أنحاء المعمورة لترويج باطلهم .
ونحن الدعاة أوْلى الناس بهذا الأمر ، فمن الخطأ الجسيم الذي قد يرتكبه بعض
الدعاة أن يتغافلوا عن مشكلات جمهور الأمة ، وأن يهمشوا قضايا رجل الشارع
العادي واحتياجاته اليومية ؛ فليس من فضول البرامج الدعوية أن تُؤسس الجمعيات
الخيرية التي ترعى العجزة والأرامل والأيتام ، وليس من العبث أن نسعى في
حاجات الفقراء والمستضعفين والمرضى ، وليس من الفقه والسياسة الشرعية أن
نتعامى عن التصدع النفسي والاجتماعي الذي ينخر في ديار المسلمين ، وليس من
المروءة أن نقصر الجهد في مواساة المنكوبين ، وإغاثة الملهوفين . قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد ؛
إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » [3] .
وإنك لتعجب أشد العجب من أن بعض الدعاة يدع كثيراً من الهموم العامة(1/378)
للأمة ، ولا يلقي لها بالاً ، ويترك العلمانيين وأدعياء الوطنية يَلْغون فيها ،
ويتشدقون بأطروحاتهم . ألا تتيح لنا ثقافتنا الإسلامية وأوْلوياتنا الدعوية أن نطرح
قضايا التنمية والنهضة ، ونعالج مشكلات البطالة ، وتعلو لنا يد جادة تدعو إلى
العدل الاجتماعي ، ويكون لنا صوت مؤثر ورائد في انتشال الأمة من حمأة التخلف
والانحطاط الحضاري .. ؟ ! !
لقد رأيت لبعض فضلاء المفكرين الإسلاميين أطروحات فكرية تزري ببعض
الأعمال الاجتماعية والإصلاحية ، وتهوِّن من شأن المؤسسات الخيرية ، ويزعم أن
ذلك يستهلك طاقات الدعاة ويشتت جهودهم ، ويبعدهم عن الهدف الحقيقي ، والتغيير
الشامل لمسار الأمة .. !
وهذا صحيح بلا شك إذا كانت تلك الأعمال الاجتماعية هي البرامج
الإصلاحية الوحيدة التي نقدمها للناس ، ولكنها حلقة مهمة من حلقات النهضة الشاملة
للأمة إذا كانت تقدم في رؤية علمية واضحة المعالم ضمن سلسلة من الإنجازات
التي تأتلف مع بعضها ، وتتكامل في رسالتها ، وتخرج من مشكاة واحدة يتمم
بعضها بعضاً ؛ فمنا من يعتني بالإصلاح الاجتماعي ، وآخر يتخصص بالإصلاح
التربوي ، وثالث يتصدر للإصلاح الفكري ، ورابع للإصلاح السياسي .. وهكذا .
وأحسب أن من أبرز جوانب التحدي الذي تواجهه الصحوة الإسلامية هو
الدخول المتوازن لكافة شرائح المجتمع وطبقاته ؛ فالطرح الإصلاحي النخبوي وحده
يبقى محدود التأثير منغلقاً في قاعات الدرس وبطون الكتب ، والطرح الجماهيري
وحده يبقى ضعيف التأثير لا يستوعب إمكانات الأمة وقدراتها ، ولا يحسن توظيفها
واستثمارها . وأما المواءمة بين الأمرين فهو التجديد الذي يحيي الأمة ويسلك بها
في سبيل النهضة والتغيير المنشود .
________________________
(1) أخرجه : البخاري ، في كتاب المظالم (5/97) رقم (2442) ، و مسلم ، في كتاب البر ،
(4/1996) رقم : (2580) .(1/379)
(2) أخرجه : البخاري ، في كتاب الأدب (10/437) رقم (6007) ، ومسلم ، في كتاب الزهد .
(4/2286) رقم (2982) .
(3) أخرجه : البخاري ، في كتاب الأدب (10/438) رقم (6011) واللفظ له ، ومسلم ، في كتاب البر (4/1999) رقم (2586) بلفظ : « مثل المؤمنين إذا اشتكى منه عضو » .
نص شعري
اجتماع سري لمجلس الخوف بين الحيوانات عام 2000م
رياض عقيل بونمي
قال الأسد الأعور الأمريكي :
ها هو العام على الغاب أتى ما أُريكم فيه إلا ما أرى
إن عيني قد أبتْ إلا ترى كل أرض فيها أمري قد سرى
واعلموا بغضي لإسلام بدا وعلى هذا اجتمعنا ها هنا
قال الخنزير النصراني : سيدي !
قد سرى التنصير خفَّاق الخطا باسْمِ إطعام المساكين فشا
سترى ( إفريقيا ) يوماً بها مرتعاً أحوى لتبشير الورى
مثلما ذقنا دماء ( البوسَنا ) فَلِ ( كُوسُوفا ) عذابٌ لو عتا
قال الكلب اليهودي :
أيها الليث المُفدّى عندنا أنت مولاي وبأسي والندى
مُنْيتي : النيل أراه جارياً تحت عيني وفراتٌ في الحمى
وانعزالي مفرداً حتى متى ؟ فُكَّ أسري حتى أسقيهم لظى
قال الدبُّ الروسي :
أنا صارعتُ الرزايا والشتا ءَ على الشيشان لاقيتُ الأذى
فأعينوني بقرضٍ هبةً إن بالقوقاز داءً كالدُّجى
قال النمر البريطاني والفهد الفرنسي والقرد الصيني :
بارك الربُّ عليكم فأبيدوا كل ( ضادٍ ) لا نجونا إن نجا
الشاة العربية تسمع الحوار فقالت لأولادها الثلاثة :
قد سمعتم كيدهم كيف انجلى ما عليكم لو نؤاخيهم غدا
علَّ قلب الوحش يحنو ربَّما يحفظ الأولاد من ذئب ( القطا )
قال الولد الأكبر ( وهو تيس أجلح ) :
أنا أرضيه وآتي وَكره أطلب السلم وإمحاءِ العِدا
لستُ أبغي غير عيش ناعمٍ وأماناً وسلاماً وكفى
قال الولد الأوسط ( وهو عنزة سمينة )
أُمّيَ النجلاء رأيي من أخي نحن لا نخشى احتلالاً أو ردى
إن في التطبيع ربحاً ومُنى وانطلاقاً نحو آفاقِ العُلا
قال الولد الأصغر ( وهو جَدْي أملح أقرن )(1/380)
ما أرى من إخوتي غير الخنا والرزايا مُحدقاتٍ والهوى
ما أرى ( أماه ) إلا قتلنا من وحوشٍ ضاريات بالضحى
فاتبعوني واذْكروا من قال قبـ ـل : نصحتُ القوم منعرج اللِّوا
________________________
قضايا دعوية
نحو أخلاقيات أمثل للاختلاف
عبد العزيز بن محمد الوهيبي
الاختلاف حقيقة لا مناص منها للنوع البشري ما دام البشر غير مكتملين ، أي
ما داموا قد خُلقوا من طبيعة غير طبيعة الملائكة ، وهم كذلك ، وسيظلون كذلك ما
بقوا على ظهر هذه البسيطة ؛ ولذلك فليس المطلوب إزالة الخلاف أو إلغاءه ؛ فذلك
غير ممكن ، وإنما المطلوب فقط التقليل من دائرته والتعايش السويّ السليم معه .
في المجتمعات المطمئنة الواثقة من نفسها يكون الاختلاف أقل خطراً ،
والتعاطي معه أقل توتراً ؛ وقد قمت من ناحيتي بإعداد بحث حول اختلاف الصحابة ،
وأصدُقُكم القول : لقد دُهشت من هذا الاتساع الكبير من الاختلاف الذي كان بينهم ،
والذي حفظته لنا كتب السنة والتاريخ والتفسير ؛ لكن دهشتي كانت أعظم من
الأخلاقيات العالية التي كانت سائدة بينهم رغم هذا الاختلاف ؛ فإنّ أحدهم مثلاً لا
يبذل أي جهد كي يَقْسر الآخرين على قناعاته أو يُلزمهم بما يراه صواباً .
كما أنّ أحدهم لا يمكن أن يشكك في مقاصد الآخر أو يطعن في مقاصده
ونواياه ، كما أن الجدال بينهم لا يستمر ويتشعب حتى يتحول إلى خصومة ولدد ؛
بل يكتفي كل من الأطراف ببيان وجهة نظره حتى يظن أنها قد ظهرت للآخر
ظهوراً كافياً ؛ ثم لا عليه بعد ذلك قَبِلها الآخر أو ردها ، والأمر في ذلك سيَّان ، لا
يشعر كما يفعل كثيرون الآن بأن من لم يقبل قوله رقيق الدين أو ضعيف العقل ،
فضلاً عن أن يعتبره معادياً له ، أو ناظراً إليه نظرة ازدراء واحتقار ، وكأنه يقول
له : ومن أنت حتى أدع رأيي لرأيك .. ؟ !
وهو فوق ذلك لا يتخذ أي موقف عدائي ، أو خصومة أو مقاطعة لأخيه لمجرد(1/381)
اختلافه معه ؛ إنه يعطيه كامل الحق في الموافقة أو المخالفة ، كما يعطيه كل الوقت
الذي يحتاجه لكي يقلِّب النظر ويعيد التأمل في الحجج والآراء التي سمعها ، ثم لا
يبالي بعد ذلك : هل اقتنع بقول صاحبه أو بقي على رأيه ؟ لأن قول صاحبه
وحججه لا تكفي لتغيير ما كان عليه من قول ورأي . تلك كانت حالهم ؛ حيث لا
يحتاج المرء إلى كثير جهد كي يعرف ذلك من تاريخهم . وفي كتاب « الإجابة عما
استدركته عائشة على الصحابة » للزركشي مصداق ما أقول ، وهو كتاب حاشد مهم
جمع فيه صاحبه رحمه الله تعالى نماذج كثيرة من الاختلافات بين أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وظهر فيه سمو أدب اختلافهم العلمي ، ومنه يظهر سرّ
نجاحهم وسيادتهم وقدرتهم على تغيير الشعوب وتربيتها وتقديمهم النموذج الراقي
للإنسان المسلم ، وللأمة المسلمة المتماسكة المتحابة المتآلفة ، وبذلك دخلت الأمم
بفضل الله تعالى ثم بفضل النموذج الراقي للجماعة المتحابة المتماسكة دخلوا في دين
الله أفواجاً ؛ كيف لا ؟ وهم نتاج للتربية النبوية الكريمة التي علمهم فيها النبي صلى
الله عليه وسلم القيم العليا ؛ حيث كان يقول لهم صلى الله عليه وسلم : « إن الله كره
لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال » [1] وكان صلى الله عليه
وسلم يقول : « لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً ؛ فإني أحب أن أخرج
إليكم وأنا سليم الصدر » [2] .
وعلى النقيض من ذلك أعرف بعض الدعاة الذين لا همَّ لهم إلا تسقُّط أخبار
إخوانهم .
حتى إن أحدهم ليفرح بالخطيئة يجدها على أخيه ، ويسارع في نشرها كأن
ليس لهم من عمل إلا ذاك ناسياً قول الله تبارك وتعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً(1/382)
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ?
( الحجرات : 12 ) .
وإن تعجب فعجب أن أقواماً من هؤلاء يزعمون أن دافعهم الغيرة على الدين
والذب عن حياض الشريعة والعقيدة ؛ فإذا تكشفت لك حاله ظهر لك أن هذا الدافع
من أضعف دوافعه وأبعدها عن الحقيقة ، بل الكثير من هؤلاء دفعه حسده وغيرته
وعجزه وضعفه عن أن ينفع الناس ؛ فما كان منه إلا أن شُغِلَ بالعاملين المنجزين
يضع العقبات في طريقهم ، ويثير حولهم الزوابع والشبهات كي يصد الناس عنهم
? وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ? ( النور : 40 ) ، وإني لأعرف
باحثاً من الفضلاء درس مسألة من تلك المسائل الاجتهادية التي يعاملها بعض الناس
بشيء من التقديس كأنما هي واحدة من قواطع الدين وثوابته التي لا يجوز الخروج
فيها عن الشائع والمألوف من القول في هذا الوقت ، فلقيه بعض أنصاف المتعلمين
أو أرباعهم وانتحى به جانباً وعاتبه قائلاً : كيف تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها
فلان من أهل العلم ؟ فأجابه صاحبنا : ولكن هذا العالم قد بحثها . فأجابه المتعالم :
مسألة بحثها فلان لماذا تبحثها ؟ ! !
أيُّ غيرة على الدين ، أو ذبٍّ عن الشريعة ذاك الذي لا يتورع صاحبه عن
الاختلاق والكذب والتلفيق وسوء التأويل كي يصل لمراده ... ؟ ! !
أيُّ صدق في التوجه ذاك الذي يدفع صاحبه إلى أن يُلزم الناس باجتهاده هو ،
ووجهة نظره في القضايا المثارة ، ويطلب منهم أن يَلجُوا من ثقب الإبرة الذي وََلجَه ،
وإلا فما هم على شيء ؟ !
هل راجع هؤلاء وأمثالهم مقاصدهم وأهدافهم ، وأعادوا النظر في مراداتهم
وشهوات أنفسهم فتساءلوا صادقين : ألِلهِ ولدينه غضبنا ، أم لقولنا وآرائنا ؟ ! هل
أعطينا للقضايا المشابهة نفس الاهتمام والغيرة ، أو نحن نغار في مسائل دون(1/383)
غيرها لمجرد روابط عاطفية أو نفسية تربطنا بها ، وثمة ما هو أخطر منها وأكثر
حيوية وضرورة ووضوحاً ، ومع ذلك لا نحرك لها ساكناً .. ؟ ! !
إنني أعتقد جازماً بأن بعض المراجعة والنقد الذاتي سوف تعيد الكثير من
القضايا إلى حجمها الحقيقي بعيداً عن المبالغة أو التهميش .
حدثني بعض الباحثين من طلبة العلم أنه كان ينوي كتابة مقدمة بحثية لكتابه
يشير فيها إلى أن الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتمونه ؛
يلزمه أن يقول كلمة الحق لا يجامل فيها طائفة ولا أهل مذهب أو محلة ، لا
يحركه في ذلك إلا الإخلاص في الاستجابة لله وللرسول ، وأن يقول ما أدى إليه
بحثه العلمي ولا يخاف في الله لومة لائم ، لكن بعض أصحابه نهاه أن يفعل كي لا
يغضب منه أقوام أو يسيئوا فهمه ، فقلت له : أيها الأخ الفاضل ! تخيل لو أن ابن
تيمية أو ابن عبد الوهاب أو غيرهم من المجددين والمصلحين فعلوا ما تفعلون من
تحفظات وتخوفات أترى بقي لهم ذكر ، أم عُرف لهم مزيد فضل على أقوامهم ؟ !
وعندما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : « لم يأت رجل قط بمثل ما
جئت به إلا عودي » [3] فإنما قال ذلك وهو يستقرئ التاريخ مصداقاً لقول الله
تبارك وتعالى : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ مِّنَ المُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً
وَنَصِيراً ? ( الفرقان : 31 ) .
وذاك الذي لقيه الأنبياء يلقاه ورثتهم من بعدهم ، كما قال لقمان لابنه وهو
يعظه : ? يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ? ( لقمان : 17 ) . كأنه رأى أنه لا يقوم قائم بمهمة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويصيبه بعض ما أصابهم ، وفي التاريخ قديمه
وجديده خير شاهد . إننا أيها الأخ الحبيب ! ونحن نعلِّم الناس العلم ؛ فإنما نعلمهم(1/384)
مفردات العلم التي قد يختلف فيها الناس ويتفاوتون ، ولكننا كذلك نعلمهم المنهج
الصحيح في الطاعة لله ورسوله ، والطريقة السديدة للوصول إلى الحق الصراح من
الكتاب والسنّة كي يسعدوا بثمارهما ، وينعموا بعطائهما ، وهذا المنهج وسداده
واستقامته أهم من نتائج العلم التفصيلية ؛ فتلك قد تُنسى ، وقد يُختلف حولها ، ولكن
الذي يبقى ولا ينسى إنما هو المنهج السديد ، والطريق القاصد ، ولذلك فلا تتلجلج
في بيان الحق والذب عنه مهما كانت التكاليف . نعم ! تلطف إلى الناس كي يقبلوه ،
ولكن حذار ، ثم حذار من أن تبدل فيه أو تعدل كي لا يرفضوه ؛ فإنما أنت وأدوية
الكتاب والسنة كالطبيب يصف الدواء ولا يغيره من أجل أنهم لا يستسيغونه
? وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ?
( آل عمران : 187 ) .
هذا واجبكم فلا تترددوا فيه ، وهذا وإنني على يقين أن كثيراً مما يصيب
الدعوة والدعاة من كلالة وعجز ، أو مما يصيبهم من بلاء ومحنة وتسلط للأعداء ؛
فإنما هو من مثل هذه الذنوب : ? أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ? ( آل عمران : 165 ) .
وربما ظهر لك أن هذه المسألة من مسائل العلم العملية التي تتفاوت فيها
الاجتهادات ، أو هي من مسائل الوسائل التي أذن لنا الشرع فيها بالتعدد والاختلاف ،
وليست هي كذلك إنما هي من مسائل أصول الدين ومبانيه الكبار ؛ إذ هي من
إجابة السؤالين الكبيرين اللذين تُسأل عنهما الأمم يوم القيامة .
? وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ? ( القصص : 62 ) .
? وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ ? ( القصص : 65 ) .(1/385)
? وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ ? ( فصلت : 47 ) .
عسى الله أن يرزقنا الثبات عند مزلة الأقدام ، ويغفر لنا ؛ وهو الغفور الرحيم .
________________________
(1) أخرجه البخاري ، ح/ 6473 ، و مسلم ، ح/ 1714 ، واللفظ له .
(2) أخرجه أحمد في المسند ، (1/396) ، أبو داود ، كتاب الأدب/ 28 ، الترمذي ، كتاب المناقب/ 63 .
(3) أخرجه البخاري ، ح/ 3 ، مسلم ، ح/ 160 .
تأملات دعوية
الدعوة بين الاحتساب والاكتساب
( 1 - 2 )
محمد بن عبد الله الدويش
www . dweesh . com
لقد أمر الشرع بطلب الرزق المباح وعدَّه عبادة ، ونهى عن سؤال الناس
وتكففهم ؛ فعن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبيَّ الله داود عليه
السلام كان يأكل من عمل يده » [1] .
والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تحتاج إلى المال لنصرتها وهي اليوم أحوج ما
تكون إلى ما يغنيها عن سؤال التبرعات من الناس وكثرة التطواف عليهم ، ولذا
يأتي الحديث كثيراً عن الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله عز وجل ، وعن بذل
المال ابتغاء وجه الله .
فهذه نصوص تحثُّ على طلب قدر من الدنيا ، وثمة نصوص تنهى عن
التعلق بالدنيا وتذمها .
والمسلم يأخذ بالنصوص جميعاً ، وينظر إليها بمنظار واحد ؛ إذ النظر إلى
جانب واحد من النصوص يؤدي بصاحبه إلى سوء فهم للشريعة .
وثمة أخطاء في تعامل بعض الدعاة مع الدنيا نتيجة تغليب جانب على آخر ،
وفي هذه المقالة بعض الإشارات حول جانب إهمال القدر المشروع من طلب الدنيا :
* إهمال الاكتساب المشروع ، واعتباره انشغالاً عن العلم والدعوة ، وعيش
الشاب في معاناة وضيق ، أو استمراره في الاعتماد على والديه ، ولهم أسوة حسنة
في النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعمل ويكتسب ليأكل من عمل يده ؛ فعن(1/386)
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بعث الله نبياً
إلا رعى الغنم » فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال : « نعم ! كنت أرعاها على قراريط
لأهل مكة » [2] .
* يهمل بعض الشباب اختيار العمل الذي يوفر له دخلاً يتناسب مع احتياجاته ،
ويختار عملاً دون المتاح له من الأعمال التي تسد حاجته الحقيقية ، ثم يصبح بعد
ذلك عالة يتكفف الناس ، وقد يلجأ إلى سؤالهم الصدقات لإتمام الزواج أو سداد
الديون إلى غير ذلك .
* إهمال المربين هذا الجانب في إعداد الشباب ؛ فمع تضاؤل كثير من فرص
العمل اليوم لا بد من الاعتناء بتربية الشباب على المسؤولية ، وتعويدهم على
الاستغناء عن الناس ، وهو أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه ،
ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : « لأن يأخذ أحدكم حبله ، ثم يغدو أحسبه قال إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل
ويتصدق خير له من أن يسأل الناس » [3] ولئن كان الاحتطاب وسيلة طلب الرزق
في عصر مضى ففي هذا العصر ثمة وسائل وأساليب أخرى [4] .
* العمل في المؤسسات الدعوية أصبح اليوم مصدر دخل لطائفة من الشباب ،
وهذا من خير ما ينشغل به المرء حين تصلح نيته ، لكن لا يسوغ أن تضاع حقوق
هؤلاء باسم دعوتهم إلى الاحتساب ، ومن حقهم أن يعيشوا عيشة كريمة كما يعيش
غيرهم .
* هناك فئة من الشباب الصالحين ممن لهم مشاركة في الأعمال الدعوية
يعانون من ضيق ذات اليد ، ويتحمل بعضهم قدراً من الديون ، فجدير بأصحاب
القلوب الرحيمة من الدعاة إلى الله عز وجل ، وجدير بالمؤسسات والجمعيات
الإسلامية أن تعنى بأمثال هؤلاء ؛ بل لو تعاون إخوانهم وأقرانهم وشعروا
بمسؤوليتهم تجاههم لحلُّوا كثيراً من مشكلاتهم ، ولهم أسوة حسنة في الأنصار الذين
آوَوْا إخوانهم المهاجرين ، وقاسموهم ثمارهم وأموالهم ، بل طلق بعضهم بعض(1/387)
نسائه لصاحبه ، ويكفي ثناء القرآن عليهم في قوله تعالى : ? وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ ? ( الحشر : 9 ) .
* ضعف اعتناء كثير من المؤسسات الدعوية بتنمية الموارد المالية ، وضعف
إدارتها لما هو متاح لها من ذلك ، ولقد كان للمال أثر في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم في دخول طائفة من الناس في الإسلام ؛ فكيف بهذا العصر الذي هو عصر
الاقتصاد والمال .
________________________
(1) رواه البخاري (2072) .
(2) رواه البخاري (2262) .
(3) رواه البخاري (1480) و مسلم (1042) .
(4) مع ضرورة مراعاة الاعتدال في ذلك .
متابعات
وقفات مع مقال .. قراءة في الذهنية السلفية
خالد بن عبد الله الخليوي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فإن ثمة شيئاً ينبغي أن يقال ونحن أمام هذا المقال ؛ لأن بداية أي فكرة بدايةً
سليمة لا يعني بحال صحة استمرار هذه الفكرة ، ولكون أي كاتب أراد من مقاله
خيراً لا يعني صحة ما قاله .
وإني لإخال الكاتب أراد بذر الخير ، لكني أكاد أجزم أنه لم يحسن سقيه ،
وها هي وقفات مع مقال : « قراءة في الذهنية السلفية » للأخ نواف
الجديمي مستحضراً قول الله تعالى : ? إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? ( العصر : 2-3 ) .
السلفية :
هي ذاك المنهج الرباني الذي كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من
الاعتماد على الوحيين في كل شؤون الحياة والذي فيه من الشمول ما في مصادر(1/388)
تلقيه ، وقد قال الله تعالى عن مصدره الأول : ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ
القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى ? ( البقرة : 185 ) ؛ فهو الهدى في كل
زمان ومكان ، بل لا هداية إلا به ؛ فهو الهدى في الأخلاق والمعاملات ، كما أنه
الهدى في العقائد والعبادات ، بل ليس هو الهادي إلى الصواب فحسب وإنما إلى
قمته وذروته ? إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ? ( الإسراء : 9 ) ، وهذا المنهج مسلّم به عند كل
المسلمين وإن تفاوتوا في تحقيق هذا التسليم ، ومصداقيتهم فيه .
ولا شك أن أعظم طريق وأخصره وأسلمه لتبيّن معالم هذا المنهج هو قراءة
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتمعّن فيها ، والتأمّل في كيفية تعامل الصحابة
والتابعين وأهل القرون المفضلة الأولى مع هذين المَعِينين قراءة وحفظاً ، وصيانة
واحتراماً ، وتدبّراً وتطبيقاً .
إنها تعني وبكل وضوح أن نسير على نفس الخُطى التي سار عليها الأوّلون..
ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
المنهج السلفي معيار وحاكم على منتسبيه وغيرهم لا العكس :
فحين يخطئ أحد أفراده أو مجموعة منهم فإن هذا لا يؤثر على المنهج لا من
قريب ولا من بعيد ، وسيبقى المخطئ وحده هو الذي يتحمّل تبعات خطئه . وهنا
تأتي الخطوة السليمة من إخوانه المسلمين بنصيحته بالتوبة والعودة إلى ما يقتضيه
منهجه ، لا بتضخيم خطئه وتعميم زلله ، مما يؤدي إلى إسقاط نهجه من قلوب
البعض ، وأعظِمْ بهذا الفعل من جرم مقيت .
وليس كل من خالف المنهج الرباني في مرتبة واحدة في بعدهم عنه أو قربهم
منه ؛ ومع ذلك كلّه فليس المتوخّون لمنهج السلف حقاً مع قبولهم الحق من أي كائن
كان إلى تلك الدرجة من الحاجة إلى من يأتي من خارج دائرتهم ليقيّمهم فيقومهم ،(1/389)
ففيهم من العلم والصدق ، والنصح والرحمة ما يفوق قطعاً كل التحزّبات ؛ فما هم
إلا جيل يُبقي الله صفات منهجه فيهم على مر العصور حتى تقوم الساعة . قال الله
تعالى : ? مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ? ( الفتح : 29 )
وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي
أمر الله وهم ظاهرون » [1] .
وسيبقى أن ما عند غيرهم من الصواب فعندهم منه أوفر الحظ والنصيب ،
وما عندهم من الخطأ والتقصير فعند غيرهم منه ما هو أكثر وأكبر .
يتضح من خلال قراءة لذهنية هذا المقال أنها ليست ذهنية سلفية ، وليس فيها
إدراك لواقع أصحاب المنهج السلفي قديماً وحديثاً ؛ وهنا يكمن داء خطير كثيراً ما
يصيب الكتابات النقدية التي تفتقر إلى الإحاطة بحقيقة الأمر الذي يراد نقده ، وقد
ذم الله تعالى الحاكمين على ما لم يحيطوا به ؛ إذ قال : ? بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ? ( يونس : 39 ) .
وبناءاً على ذلك ، فليس كل من صلحت مشاركته في جانب ستصلح مشاركته
حتماً في كل جانب ، وفي المقابل فليس كل من أخفق في تجربة سيخفق حتماً في
كل تجربة .
من الموازين الخاطئة :
ما زال هناك من أمتنا من يشعر متحسراً بما تعانيه أمته من هزيمة وتأخر ،
فيريد لها أن تعود لمكانتها المرموقة وعزتها السامقة ، فيخطئ طريقَ الإصلاح فيقع
في مزلق آخر ، وكل هذا بسبب عدم الوقوف والتأمل لمعرفة أسباب تلك الهزيمة
وذلك التأخر ، ومعرفة الطريق الأمثل في علاجها .
فها أنت ترى وقد استقر في نفوس كثيرين موازين منحرفة أو مضطربة في
تقدير الأشياء والحكم عليها ، ومن ذلك الإعجاب بمن ازدحمت مقالاتهم وأقوالهم
بالاستشهادات بأقوال الغربيين لغرض ولغير غرض ، وكثرة ذكر المصطلحات(1/390)
الأجنبية ، والحفظ الدقيق لتاريخهم ، وإن كان في المقابل ذا أرض مجدبة من
نصوص الكتاب والسنة اللذين هما المصدر الأساس في تقييم كلِّ حدث وتصور .
من عيوب النقد :
إن من سمات النقد غير الموضوعي الإكثار من عبارات الإطلاق إثباتاً أو نفياً
في المواطن التي يحصل فيها النقاش ويحتدم من أجل الحكم على غالبية شيء
وكثرته أو قلَّته وندرته ، فضلاً عن أن يكون الحكم فيها مطلقاً مبالغاً فيه نفياً في
إلغاء تلك الصفة أو إثباتاً لأخرى ؛ فهنا تعلم أن النقد لن يكون موضوعياً بالقدر
الذي تنضج من خلاله كثير من ثمراته .
وها هو الكاتب بعد أن ذكر بعض الأفكار التي سيطرت على كثير من الناس
في عالمنا العربي ، وأبرزها القومية العربية ، والماركسية الشيوعية ، والبعث
العربي ، والنظرية الليبرالية الغربية يقول : « والسؤال الحيوي هنا : ما مدى
معرفة السلفيين بتلك الأيديولوجيات التي سيطرت زمناً على منطقتنا ؟ وهل تمت
دراستها دراسة مفصلة متعمقة للرد عليها وتبيين عوارها من داخلها كما كان منهج
ابن تيمية في الرد على خصومه ؟ الحقيقة أن ذلك لم يحصل إطلاقاً » ا . هـ .
فأقول : إن أقرب خصم لهذه المقالة هو هذه المجلة السلفية [مجلة البيان] التي
نُشر فيها المقال ، وإني لأدعو إلى المرور على الفهرس الموضوعي للمجلة التي
تصدر منذ ما يزيد على أربع عشرة سنة للاطلاع على كثير من البحوث
والموضوعات التي فضحت وبشكل علمي تلك الأفكار وغيرها .
ثم ليعلم أنه متى عرف الناس دينهم وأسس عقيدتهم فسيتبين لهم وبكل يسر
عوار هذه الأطروحات . وهذا هو المنهج العام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه
وسلم والسلف من بعده ؛ إذ كانوا يحرصون على بيان المنهج الحق بتفاصيله ،
والتحذير من الباطل ، مجملاً من غير تفصيل إلا عند الحاجة إلى ذلك .
وليس كل أحد يصلح للدخول في غياهب الأفكار الباطلة وشبهاتها ؛ فمن(1/391)
القصور أن يكون هناك من يعرف تفاصيل النظرية الليبرالية في حين أنه لا يعرف
أساسيات عقيدته والحدود التي يجب ألا يتجاوزها ، ولأن يعرف المسلم معالم طريقه
فيسلكها خير من أن يكون مضطلعاً مرجعاً في الأفكار الهدامة ، ومضطرباً في
معرفته بالمنهج الحق ، فلا إفراط ولا تفريط .
غريب أمره :
يقول الكاتب تحت عنوان : ( النشء الذي لا يكبر ) : « ربما تكون من
إشكاليات الذهنية السلفية والتي تتقاطع مع النقطة السابقة في بعض الجوانب
وتتفاوت في جوانب أخرى : النظر بتخوف وتوجس للتدفق الهائل في المعلومات
والأفكار في عالم اليوم ، والخشية من تأثر النشء بها .. » ا . هـ . إن لي
ولغيري أن نسأل : أيراد منا أن ننظر إذن إلى هذا التدفق الهائل في المعلومات
والأفكار بكل أمان ، وأن نستغرب معك ؟ ممن ينظر بخشية من تأثر هذا النشء ؟ !
أخي الكريم ! أين نحن ؟ ! إن كثيراً من أفراد هذا النشء قد تأثر حقاً ، ولعل
كثيراً ممن تأثر كان بسبب هذه النظرة الخاطئة ، فزج بنفسه أو بغيره دون أي
حصانة ولغرض ودون غرض ظانين أنه هو النشء الذي سيكبر ، وأنه سيستطيع
التمييز بين الحق والباطل والصحيح والسقيم ؛ فخرجت لنا ثمرات بغيضة ،
ووُجِّهت كثيرٌ من الطاقات على الأمة الإسلامية لا لها ... خرج لنا جيل ليس
يخطئ فحسب ، وإنما يريد أن ينطلق من حيث لا ننطلق منه ، وفي هذا ما فيه من
اختلال في الموازين ، وهدم للأخلاق ، وإنكار للأصول والنظر إلى أنها هي القيود
التي يجب التحرر منها وهلم جرّاً .. !
ثم يتابع الكاتب تحت العنوان نفسه فيقول : « وإذا أشكل على الشباب شيء في
معرفة سيرة مؤلف أو كنه كتاب فما عليه إلا أن يسأل أحد المهتمين من نفس التيار
ليعطيه فتوى جاهزة مقبولة في شأن ذلك الكتاب أو ذاك المؤلف .... إلخ » ا . هـ .
وهنا أقول لأخي : إذن فما الذي تراه حلاً عادلاً حينما يشكل على الشباب
شيء قرؤوه ، أو طرح سمعوه ؟ أهو أن يستمروا في القراءة والبحث مستغنين(1/392)
عمن سبقوهم ممن يوثق بعلمهم وعقيدتهم حتى يصل هو بنفسه إلى الحقيقة إن كان
في مقدرته ذلك ، وما أعظم الخطر على المستبد وما أحراه بالخطأ ؟ !
أخي الكريم ! سيبقى الشباب بل الإنسان مهما كبر بحاجة إلى الاستشارة
والسؤال ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? ( النحل : 43 ) . وإنما شفاء
العيّ السؤال .
ثم ينتقل الكاتب من نقد طريقة هذا الشاب المستشير إلى نقد المستشار السلفي
نقداً ساخراً متهماً له بالمجازفة في الحكم وإلقاء الكلام على عواهنه دون تحليل ولا
تفصيل ، والمتَّهَم عند هذا الكاتب هداه الله هو المستشار الذي قدّر أمانة الإجابة عن
سؤال عن كتاب أو إنسان تحتّم أمانة دينه الحديث عنه فأجاب ببيان ما يؤخذ على
المؤلِّف والمؤلَّف مما يحتاج الناشئة إلى اتقائه ليكونوا على بينة من الأمر ، ولئلا
تهولهم الدعاية والسمعة فتحول دون معرفة الواقع على حقيقته ؛ فهل يا ترى يصح
عندك أنّ العلماء حينما يُسألون عن كاتب علماني ربما كان له بعض الأفكار المفيدة ،
أو كاتب رافضي ربما كان له بعض الأطروحات الصحيحة أن يذكروا رأيهم دون
تنبيه إلى فكره العلماني أو فكره الرافضي لأخذ الحذر من شباكه وكشف تلبيسه
وتدليسه ؟
فأصحاب المبادئ الهدّامة والبدع المضلّة والديانات الباطلة وإن كان لهم
خبرات ومهارات وأفكار مؤثرة في شؤون الحياة فإن أول أولوياتهم الدعوة إلى ما
يعتنقونه من المعتقدات الباطلة ، بل يسخرون ما لديهم من قدرات ومهارات مادية
لنشر أفكارهم ، ومن يغمض عينيه عن جهود المنصّرين في نشر النصرانية في
العالم الإسلامي ، وعن جهود الرافضة في نشر ضلالهم ، والعلمانيين في نشر
إلحادهم فقد أخطأ الخطأ البيِّن .
خلط واستغراب :
في الوقت الذي يعتبر فيه الكاتب القومية العربية ، والماركسية الشيوعية ،
والبعث العربي والنظرية الليبرالية الغربية أفكاراً منحرفة حسب ما يلوّح به في(1/393)
سياق الكلام ، ويعيب على السلفيين زاعماً أن ليس فيهم من درس هذه الأفكار
دراسة مفصلة متعمقة ، نجده يكرر وفي معرض الثناء ذكر الديمقراطية بوصفها
نظاماً للحكم ، والتنويه بقيام الثورة الفرنسية بصفتها أفكاراً طلبت عند قيامها التجديد ،
والتصحيح ومقاومة سلطان الكنيسة ، وهذا التنظير يحمل معادلة جائرة فلا يملك
أخي الكاتب وقد ذكر هذين المثالين في مثل هذا الطرح أن يمنع أحداً من أن
يتصور تطبيق هذين المثالين على أصل موضوعه ليخرج بنتيجة خطيرة وهي أن
الكاتب ربما رأى أن السلفية تحكي دور الجمود والتسلط أمام من يحاول جاهداً بفكره
أن يطور ويجدد .
وإني أرى الكاتب قد نصَّ على مسألة في بداية مقاله حيث يقول : « الإشكالية
المتجددة دائماً والتي ترافق عمليات النقد والمراجعة هو الشعور الذي قد يعم
الشريحة السائدة وربما النخبة أحياناً بأن هذا النقد لا ينبع من صدق وإخلاص » اهـ
إلى آخر ما ذكر .
ثم يقول في صراع الأفكار والمعلومات : « إن أردنا الدخول في صراع
الأفكار والمعلومات ، فلا بد أن نكون حذرين ؛ لأننا ندخل حقلاً من الألغام » اهـ .
فهذا الوعي لهذه الإشكالية المتجددة كان يتطلب من الكاتب دقة في الأحكام
ووضوحاً في الطرح ، ولا أحسب أن المقال قد تمتع بالقدر الكافي من ذلك .
فالكاتب في هذا المقام يخاف من الاتهام بسوء النية وحُقّ له ؛ فقد خلط في
معادلاته وأغرق في عيب السلفية بالجمود وقلة الفقه بالواقع ، بل وفي مقاصد
الشريعة ؛ حيث جعلهم أصحاب معلومات لا أصحاب فكر ؛ حتى زعم أنه يغني عن
تميزهم بحفظ المعلومات أجهزة حفظ المعلومات ، وقاصد الإصلاح لا يصل في نقده
إلى حد الغلو . ومن التخليط أن يضرب الكاتب المثل المختلف الأفكار بدعوة
الرسول صلى الله عليه وسلم ، وثورة الخوارج ، وحركة الرافضة ، ودعوة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وحركة الإخوان المسلمين ؛ حيث يقول دون(1/394)
إشارة إلى موقف واضح من طائفتي الرافضة والخوارج : « وتاريخنا الإسلامي
مليء بالحركات والتغيرات التي قامت على الأفكار الصحيحة والمنحرفة ، ولا أدل
على ذلك من أن مبعث رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت لتغيير معتقدات
الناس وأفكارهم وإعادتهم إلى الحنيفية المسلمة ، وثورة الخوارج قامت على فكرة
عدم جواز تحكيم الرجال في كتاب الله . و الشيعة أول ما قامت كانت لفكرة أحقية
علي رضي الله عنه بالخلافة ؛ لأنه من آل البيت ، وفي تاريخنا القريب لم تقم
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا على تصحيح معتقدات النّاس مما علق بها من
شرك وتصوفات ، ولم تقم جماعة الإخوان المسلمين إلا على فكرة دعوة الناس إلى
التمسك بالإسلام وتوحيد الصفوف » ا . هـ .
فلا أدري هل هذه الأمثلة الخمسة حينما ساقها الكاتب يرى أنها مثال على
الأفكار الصحيحة ، أم هي خليط غير مرتب ؟ مع أنه قد جاء في المقال ما يوهم أنه
ممن يحمل تلك الذهنية التي تقرأ فيها التعاون مع كل من تتقاطع أدنى مصلحة معه ،
وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ولتمرض عقيدة الولاء والبراء ، ولْتُمْحَ
الخطوط والحدود بين المناهج ، ولنصبح جماعة واحدة اسمها : ( جماعة البشر
المسلمين ) .
وأما فيما يتعلق بطرحه لهذه الأمثلة الخمسة تأييداً لأهمية الفكر على حساب
معلومات ومحفوظات من النصوص يرى أنه لا ينبغي أن تصل إلى ما وصلت إليه ،
أقول لأخي الكاتب : أترى أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فكرة محضة
أم أنها قامت على وحي من الله وبرهان ، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه
وسلم : ? قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
سَمِيعٌ قَرِيبٌ ? ( سبأ : 50 ) .
وقال : ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ? ( النجم : 3-4 ) .(1/395)
وقال لأتباعه : ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ? ( الأحزاب :
21 ) ؟ !
وأمّا عن نِحْلَتَيِ الخوارج والرافضة فأقول للكاتب : أترى أنهما وقد قامتا على
فكرتين حتى في أول عهدهما قامتا على فكرتين صحيحتين إطلاقاً ؛ فضلاً عن أن
نحكم على بقية بنائهما بالصحة والصلاح ؟ ! فمن النقص أن أدعو إلى الفكر
والانفتاح والتجديد قبل أن أرسخ وأؤكد على الأرضية التي يجب أن ينطلق منها ،
وكيفية التعامل الصحيح معها . ولا تظنن أنّ هذه مسألة مسلَّمة واضحة في أذهان
الجميع فضلاً عن أن تكون في التطبيق كذلك ؛ وإن مواضع من مقالك تدل على
خلاف ذلك مع الأسف .
وأمّا ما ذكرته من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فهلاّ
استحضرت معها ما للشيخ من الحفظ لنصوص الكتاب والسنة واعتماده عليهما في
آرائه وأحكامه !
إن هذه هي الأرض الصلبة التي كان لها الدور الأكبر بتوفيق الله تعالى في
صلابة اعتقادهم وسداد آرائهم .
لم يزل الإسلام ولا يزال هو العدو الأول لأمم الكفر وهم أعداؤه :
ومن أخطاء الكاتب محاولته من خلال ما سمّاه بالتفسير التآمري أن يثبت أن
رؤية أعداء الإسلام للإسلام لا تعدو أن تكون مجرد عداوة ليس الإسلام وأهله في
مقدمة لائحتها . ولا أدري ما الذي سيدعم هذا الرأي وقد صرح الأعداء أنفسهم في
أكثر من محفل بأن أخوف ما يخافون هو الإسلام ؟ ! وها هم اليهود رغم ما عندهم
من الشتات والاختلاف إلا أنهم صف يحاولون جاهدين التوحد أمام المسلمين ودينهم ،
وها هي الدول النصرانية رغم النفور الواضح والمصالح المتعارضة فيما بينها إلا
أنها سرعان ما تتناسى ذلك أو ترجئه إذا كان العدو هو الإسلام ، فتتكتل سريعاً
ضده لإجهاض كل ما يمكن أن يثمر عنه الطرح للمشروع الإسلامي ، وكل هذا
الإيهام للوصول إلى التنبيه على ملحوظة لاحظها الكاتب أثناء قراءته للذهنية(1/396)
السلفية ، وهي أن هناك « محاولة للتصدي والاستعداء لكل المستحدثات العلمية
الحديثة ذات الطابع الإعلامي والجماهيري .. » وهذا محض خطأ واستعجال .
ثم يذمّ الكاتب « من يطالب بتقليص انتشار الإنترنت وإغلاق المقاهي
المخصصة له ؛ لأنها قد تستخدم في العبث المحرم دون التفكير في إيجاد بدائل أو
حلول » ، أيظنّ الكاتب وهو يدعو إلى الانفتاح أن العالم الإسلامي وشبابه بشكل
خاص وهم يُقبلون على الإنترنت أنهم ما فتئوا يبحثون عن صفحات العلم وخانات
أسرار التقدم التكنولوجي ؟ ! إنه بسبب هذه النظرة غير الواقعية لواقع شبابنا من
جهة ، وماهية المادة الغالبة المقدمة في الإنترنت حتى الآن من جهة أخرى طالب
بالانفتاح على هذا التقدم المعلوماتي وبدون أي ضوابط ، ثم لماذا نحمّل كلمة
التحذير ما لا تحتمل ؛ فالتحذير من خطورة هذا الانفجار المعلوماتي ، وهذا
التواصل التكنولوجي لا يعني ألبتة رفضه كله وإنما هو التأني ، والتأمل ، والانتقاء .
وأخيراً نقول لأخينا كاتب ( قراءة في الذهنية السلفية ) : فلنتق الله سبحانه
ولنتذكر أننا مسؤولون عما نكتب ونقول : ? مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ?
( ق : 18 ) . وقال سبحانه : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ?
(الأحزاب : 70 ) .
عفا الله عنّا وعنك وهدانا إلى سواء السبيل .
________________________
(1) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة ، رواه البخاري (الاعتصام ، ح/ 7311) واللفظ له ،
و مسلم (الإمارة ، ح/ 1921) .
متابعات
تعقيب على مقال .. قراءة في الذهنية السلفية
عبد الرزاق بن سعد آل يحيى
كانت عملية المراجعة والنقد التي استفتح بها كاتب مقالة ( قراءة في الذهنية
السلفية ) فكرة جديرة بالطرح الدوري ، وهي في الوقت نفسه مغامرة جريئة إن
صح التعبير ؛ لأن عمليات النقد من أشق المراجعات ؛ إذ تمر بمرحلة صراع مع(1/397)
النفس لا تخلو عادة من حظوظ ذاتية ، يصاحب ذلك قدر من غبش الرؤية الذي
سببه خطأ التصور الأول .
والقدرة على الاستفادة من النقد ذاتياً كان أو خارجياً مهارة ينبغي أن يتحلى بها
ذوو طموح النجاح والمتطلعون إلى الأفضل ، متناسين في سبيل ذلك ما قد يشوب
الانتقاد الموجه إليهم من عوامل إضعاف القبول أو يعترضه من ظنون أو جراح .
وأظن الكاتب حين أراد التمثيل بنماذج مما يستحق النقد ، وقدم لها شواهد حية
من تجارب النقد لم يسعفه تحرير النص تماماً ، فحصل له خلط في مقدمات الحقائق ،
وغموض الرؤية في نماذج مما ذكر ، ومبالغات نقلته من طرف إلى طرف ،
أظنها ستكون عقبة في قبول بعض القراء للفكرة العامة أو تشوش عليها ، وأقيد
السطور التالية إيضاحاً للمقالة السابقة داعياً الله أن يهدينا جميعاً لما اختلف فيه من
الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
تنحصر الملاحظات في الآتي :
1 - مقدمات تفتقر إلى فهم أعمق :
مقارنة أعمالنا بأعمال الغرب أصبحت مما يسود كتاباتنا النقدية ، وأصبح من
الطبيعي أن نجد جملة ( هُم .. وأما نحن ) في نصوص تصحيح المسار وغيرها !!؛
وربما كان أحد أسباب ذلك ضخامة الإنتاج الغربي على كافة الأصعدة ، وتفوقه
( النسبي ) فيها حتى نصّب نفسه معياراً أو رضيه الناس مقياساً ، فأصبح سائغاً
عند بعض النقاد عقد مقارنة بالنموذج الغربي في ممارسات أو سلوكيات تقبل عادة
الاختلاف والتنوع .
وأتجاوز هذا الملحظ إلى القدر الذي استدل به الكاتب حين ذكر أن
الديمقراطية وعدداً من المبادئ كالحرية المطلقة ، والرأسمالية ، والعلوم الإنسانية ،
والمواقف والنظريات تطورت ( بالنقد ) ؛ فحين لا أخالف الكاتب في ضرورة النقد
وأثره فإن مما ينبغي أن نفرق فيه أن الغرب حين نجح في عمليات المراجعة والنقد
في الأمور المادية المحسوسة والنظريات العملية وتقنين نواميس الحياة : كان غاية(1/398)
ما وصل إليه في النظريات الفكرية و ( الأيديولوجيات ) وكمٍّ ليس بالقليل من
التصورات هو نوع من الاضطراب والفوضى الفكرية ، وانتقال الغربيين أو
طوائف منهم من نظرية إلى أخرى هو ثمرة الحيرة وأمارة الخواء ، وبخاصة في
الأمور الغيبية أو التشريعات العامة التي لا تخلو من أنانية وحب الذات ، وليس
تطوراً ، بل هو هروب من عنت إلى شقاء .
فالديمقراطية المزعومة في الغرب أحد نماذج الخداع والفشل التشريعي ؛
والذي منحها البقاء حتى يومنا هذا مع عوامل أخر أنها أكذوبة خدرت الناس
بإشعارهم بنفوذ رأيهم ، وحققت للمتنفذين فعلاً ما يطمعون فيه تحت هذا الشعار
البراق ؛ فقد جعلوا عقول الناس وعواطفهم خاضعة لتأثير إعلام يملكونه أو يديرونه ،
فصار الإعلام يتقوَّل على الناس ويفتعل الأحداث أو يوظفها ، فيردد الناس ما
يقوله الإعلام ؛ فهي نوع من ( الديكتاتورية ) المقنعة التي استبدلت بالإكراه التخيير
فيما تريد .
وأما الحرية المطلقة التي تطورت كما يرى الأخ الكاتب بالنقد لتصبح
مسؤولية جماعية ، فهما في الواقع شيء واحد ؛ فإن الحرية المطلقة هي نتاج الثورة
الفرنسية التي صاحب اندلاعها وأجج اضطرامها نشوء المذهب الرومانسي ، وهو
تيار فكري شمل الأدب والفكر والفن ، نشأ رد فعل لغلو الكلاسيكيين في تبنيهم
مبادئ الكلاسيكية ، ويقوم على مبادئ منها : الإيمان بمعتقد ( تأليهي ) غامض
يجعل محور التدين الضمير ، ويقلل من شأن الإثم الفردي ، ويُحمِّل المجتمع تبعاً
مسؤوليات آثام الأفراد ، وعليه يتبين أن المسؤولية الجماعية هي الحرية نفسها ،
وليس تطوراً عنها .
والرأسمالية هي الأخرى إفراز للحرية المطلقة التي تعد الاشتراكية نداً لها
ومناقضاً لمقتضياتها ، ولم تزاحمها على السلطة قط ، إلا إن أراد الكاتب السلطة
على مستوى العالم ، وأما الطريق الثالث الذي توهمه الكاتب تطوراً جديداً فهو في
الواقع مشاهد احتضار هذه النظرية التي جسدت الطبقية وألغت التكافل .(1/399)
2 - السلفية مصطلح غير مؤطر :
من النقاط التي تستحق تقديمها على غيرها ؛ إذ عليها قوام المقالة ، تحرير
مصطلح السلفية ، وأي معنى يقصده الكاتب بمقالته ابتداءاً بالعنوان وحتى آخر
سطر منها ؟ فهل كان حديثه عن ( السلفية ) المنهج نفسه ؛ فإن ما يتحدث عنه كان
سلوك أفراد ، وعنوان المقالة إن كان من صنعه وسياقها لا يحققان فهم الحديث عن
الأفراد ! !
فهل كان حديثه عن ( السلفية ) طوائف المنتمين إليها ؛ فأي طائفة يريد :
طائفة المنتمين إلى المنهج بتبني مبادئه ، أم المنتمين إليه بالادعاء ؟ لم أجد تحديداً
لشيء من ذلك قدر ما في النص الآتي : « السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان
متعددة ، وفيها أصوات هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها ، وندعو إلى
التعامل معها وتصحيح مواقفها ، وهي مع ذلك تحوي جمهوراً غالباً له مشاركات
كثيرة ، ويسوده تقارب كبير في الأفكار وطريقة التنشئة ، وهذه الشريحة هي التي
نقصدها » .
لم أفلح في التعرف على تلك الشريحة من خلال النص السابق ، ولم أنجح في
التوفيق بين هذا الوصف والتسمية الكبيرة ( الذهنية السلفية ) ، غير أنه غلب على
ظني أنه يريد عصبة ما تنتسب إلى السلفية ؛ فهي طائفة وأعمالها بالنسبة للسلفيين
فردية ، فتعميمها على السلفية أو ( الذهنية السلفية ) تجاوز في غير محله ، لكني لا
ألبث طويلاً حتى أجد نصاً يفسد عليَّ هذا النزر اليسير من الفهم حين يقول : « إن
غالبية التيار السلفي المعاصر » و « خارج التيار السلفي » و « في صفوف التيار
السلفي » إذن هو تيار وليس طائفة .
لذا ألتمس من الكاتب أن يضع لاحقاً إطاراً يختاره للسلفية ، وإطاراً آخر
للسلفية ذات الأصول المتشنجة ، والجمهور الغالب متقارب الأفكار ، وطريقة
التنشئة غير الأوصاف الفضفاضة المتقدمة ؛ لنتمكن بعد من فهم نقاط الانتقاد فنوافق
أو نخالف ، ونفيد ونستفيد !
أرجو ألا يكون مردُّ هذا الإبهام شعور الأخ الكاتب بعدم وجود جو ملائم للنقد(1/400)
الفكري أو التربوي ؛ لأن ذلك جعل صانعي المعرفة كما يقول صاحب « تجديد
الوعي » : ص 228 يعمدون إلى التلميح ، مما أوجد الكثير من حالات سوء الفهم .
3 - عيوب السلفية .. عيوب المجتمع :
بعيداً عن مصطلح ( السلفية ) أرى أن الفكرة العامة للأمثلة الانتقادية لا
تصلح أن تنسب للتيار الإسلامي باعتباره تياراً سلفياً أو غير سلفي ، يتبين ذلك من
تلخيص الانتقادات حسب رؤية الكاتب ، وسأجتهد في تقديم الفكرة بشمولها في لفظ
موجز :
الانتقاد الأول : القيمة لا تعطى إلا للمعلومة المجردة المستقلة عن دائرة
الأفكار ، وهي مجال التفوق والتميز ، ولا قيمة لدائرة الأفكار وما تحويه من
الاستنتاج وربط الأحداث وتوليد الأفكار والقدرة على النقد .
الانتقاد الثاني : يلخصه سؤاله : ما مدى معرفة الناس بالأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا العربية كالقومية والماركسية والبعث العربي والنظرية
الليبرالية ؟
الانتقاد الثالث : عدم مبادرة المتخصصين إلى التعرف على النظريات
المطروحة السابقة والحديثة وفهمها بعمق ، وأسلمة ما يمكن منها ، أو إيجاد البديل
المناسب لما لا تمكن أسلمته .
الانتقاد الرابع : التخوف على النشء من تأثره بالمعلومات والأفكار المتدفقة
في عالم اليوم ، وحصر القدرة على فهمها في الرموز والمربين ، وممارسة الوصاية
على من دونهم .
الانتقاد الخامس : تصور التآمر الغربي في كل علاقة للغرب بالمسلمين ،
وتفسير الظواهر العدائية أنها موجهة إلى المتدينين ( المسلمين ) ، والحساسية من
المستجدات التقنية ذات الطابع الجمهوري العام .
لعلِّي وفقت في حصر الانتقادات لأصِلَ إلى تأييد الكاتب فيها كما هي عليه
الآن باعتبارها انتقادات عامة واقعية نلامسها ونراها ونشمها ، إلا أن الشيء الذي
عكّر عليها أنها نسبت لتيار إسلامي أيّاً كان توجهه ؛ فإن هذه الانتقادات هي في
حقيقتها أزمة عربية [1] في الإقليم العربي ، وأزمة غثائية في وطن رعاع المسلمين(1/401)
الذين يتقلبون بين حالين : كدّ مضنٍ للوصول إلى سد الرمق ، أو سعي دؤوب
لتحقيق الترف واللهو !
أنا لا أنفي وجودها في الوسط الإسلامي ؛ فإن المسلم مهما حاول العزلة القلبية
يبقى ابن مجتمعه ، والسلبيات الاجتماعية تتقلص في النخبة ولا تختفي ، بل إن
كثيراً من أزمات الوسط الإسلامي يعز أن يتوصل إلى علاجاتها ضمن وضعية
الوسط الإسلامي نفسه ، وإنما في تحسين الواقع الاجتماعي المحيط ، فأزمة عدم
احترام الوقت الذي ينعى فيها على الفئة المتدينة ويبدى فيها ويعاد هي أزمة مجتمع ،
وأحد أسباب التوتر من هذه الأزمة وغيرها أن الشعور بالتأزم خاص بنخبة ذات
ثقافة ووعي عاليين بينما من دونهم ثقافة ووعياً يكتفون بمسايرة ما هو سائد ، مما
ولَّد طموحاً وهمياً ومحاولة لتخطي السلبيات في وقت سريع بطريق يسير ( وهو ما
يقل حصوله ) ، لكن ما من شك أن الفئة المتدينة في باب الوقت وغيره من
الفضائل حققت مستويات جيدة يجب أن نعترف بها ؛ لنحقق الاتزان في النظر ،
والتوسط في التقويم : فيشكرون على ما فيهم من حميد الخصال ، وينبهون إلى
درجات الكمال التي تنتظر الإكمال .
ولعل الأخ القارئ يشاركني أن السلبيات في الفئة المتدينة فضلاً عن
الراسخين منهم التي انتقلت عدواها إليهم من المجتمع هي أقل فيهم ممن سواهم ،
وأن فضائلهم بالنسبة إلى غيرهم كبيرة ، مع ضرورة التنبه إلى أن هذا القدر من
القلة والكثرة لا يعني الاكتفاء به ، بل الازدياد من الخير سمة الصالحين وشعار
المتطلعين إلى رضوان الله والجنة ، ورغبتنا في كمالهم واقترابهم من الكمال لا
يعنيان الكمال .
وحين أوافق الأخ الكاتب على عموم الأفكار الانتقادية أقيد ملحظين خاتمين :
1 - أن في سطور شرح الفكرة الانتقادية فقرات لا يُسلَّم بها تماماً ؛ من
الأمثلة أو التعليلات أو الاستطرادات فأتجاوزها ولا أعرج على شيء منها ؛ فالعبرة
في مثل هذه الحوارات بصحة الفكرة العامة ؛ إذ يكاد لا يوجد حديث من أحاديث(1/402)
البشر خلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسلم من مثل هذا ؛ ولو فعلته مع نصِّ
أخ ناصح لعددت ذلك تمحلاً وانشغالاً بالجزئيات وقتلاً للموضوع الأساس .
2 - تضمن تحرير بعض الأفكار الانتقادية التي ساقها الكاتب قدراً من
المبالغة التي ربما دفعته إلى التزيد في وصف الظاهرة المنتقدة ، أو الاقتراب من
الطرف الآخر عند تقديمه البديل المقترح ، وهذا الإجراء كما أظن مما يسود الكتابة
الانتقادية ، وربما أصبحت ركناً في بعض أنواع النقد ، حتى عُرِفَتْ بها ، وإن كان
الحياد والموضوعية هي الطريقة الوسط ؛ لكن لا يسوغ أن يفسد استفادتنا مما جاء
من ملحوظات أنها تضمنت ذلك القدر .
________________________
(1) أشار الأخ الكاتب إلى هذا الملحظ في مقدمة أحد الانتقادات (وهو الخامس هنا) ، وسماه (عقدة عربية) .
في رياض المصلحين
فقد الرموز
محمد بن عبد الله الدويش
www . dweesh . com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فالحديث عن القيادات والرموز العلمية والدعوية حديث له أهميته ، ويتأكد
كلما فقد الناس واحداً من هؤلاء ، وفي العامين الأخيرين فقدت الأمة طائفة من خيار
علمائها وقادتها .
وقد أحببت المشاركة في هذا الملف الذي عقدته المجلة حول هذا الموضوع
بهذه المشاركة المتواضعة .
أدوار القيادات :
إن للقيادات العلمية والدعوية أدواراً مهمة في الأمة ، ومن هذه الأدوار :
1 - التعليم والدعوة :
للرموز والقيادات العلمية والدعوية أثر بالغ في تعليم الناس ودعوتهم ، وفي
نشر العلم ، وليس أدل على ذلك من أن كثيراً من الدعوات الإصلاحية كان من
ورائها قيادات ورموز سار الناس وراءهم واستجابوا لهم .(1/403)
إنهم الذين يعقدون حِلَقَ العلم ومجالسه ، ويقصدهم طلاب العلم ويلازمونهم ،
ويوجهون معاهد العلم ومؤسساته ، وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى الله تبارك
وتعالى ويسير الدعاة وراءهم .
2 - بيان الحق للناس :
تمر بالناس مواطن كثيرة يلتبس فيها الحق بالباطل ، وتسُود فيها الأهواء
والفتن ؛ وحينئذ يبدو دور القيادات العلمية والدعوية لتبيِّن الحق للناس وتجلِّيه لهم .
وفتاوى العلماء المعاصرين في كثير من النوازل كالتجنس بجنسية الدول الكافرة ،
والحكم بغير ما أنزل الله ، وقضايا المرأة ، والتأمين وغيرها دليل على عظم
منزلتهم وحاجة الناس إليهم .
3 - إنكار المنكرات وإزالتها :
حين تقع المنكرات العامة يكون للقيادات دور مهم في إنكار هذه المنكرات
والاحتساب عليها ، وقد عاب الله عز وجل على طائفة من أحبار أهل الكتاب
ورهبانهم كان ينتظر منهم أن يبينوا الحق للناس وينهوهم عما يأتون من منكر ، قال
عز وجل : ? لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ ? ( المائدة : 63 ) قال الحسن : ? لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ?
( المائدة : 63 ) قال : الحكماء العلماء [1] .
وإنكار هؤلاء ليس كإنكار غيرهم ؛ فأصحاب المنكر إما أن يستجيبوا لهم ثقة
في علمهم ورأيهم ، أو مجاملة وخشية ، وحين يتجرؤون على مخالفتهم فهم أجرأ
على مخالفة غيرهم .
4 - منع الفساد والمنكر قبل وقوعه :
كما أن للقيادات العلمية الدعوية أثراً في إنكار المنكر والنهي عنه قبل وقوعه
فوجودهم يحول دون كثير من المنكرات ويردع كثيراً من أهل الفساد أن يمتدوا في
غيهم وفسادهم . قال ابن أكثم : قال لنا المأمون : لولا مكان يزيد بن هارون
لأظهرت أن القرآن مخلوق . وقال ابن الجوزي عن المأمون : وكان يتردد ويراقب
الشيوخ ، ثم قوي عزمه وامتحن الناس [2] .(1/404)
وهذا إنما يتحقق حين تعرف هذه القيادات منزلتها ومكانتها ، وحين تأخذ على
عاتقها أن تقول بالحق وتصدع به .
5 - قيادة الأمة في الأزمات :
حين تحل الفتن والأزمات بالأمة يختلط الحق بالباطل ويلتبس على الناس ،
فيأتي دور أهل العلم ؛ ويتمثل في أمرين مهمين :
الأول : تمييز الحق من الباطل ، وبيان الموقف الشرعي للناس في مثل هذه
النوازل .
الثاني : اتخاذ المواقف العملية وقيادة الناس .
وقد أمر الله تبارك وتعالى الناس بالرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه المواقف
فقال : ? وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ? ( النساء : 83 )
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجمع بين الأمرين في موقفه من
التتار ؛ فقد تردد الناس في حالهم ، فأفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وقال : « وقتال
هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين ، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام
وعرف حقيقة أمرهم » [3] . وقام في قتالهم وقال للناس : « إذا رأيتموني في ذلك
الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني » [4] .
6 - لجوء الناس إليهم في الفتن والشدائد :
ولما يعلمه الناس من أن أهل العلم أعلم الناس بالفتن وأكثرهم إدراكاً لها ؛
فإنهم يلجؤون إليهم حين يحل بهم خطب أو أمر جلل ، وها هم أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم يتجهون لأبي بكر رضي الله عنه وينصتون له حين خاض الناس في
أمر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وما أن سمعوا كلامه حتى انصرفوا موقنين .
ومن بعد هذا الجيل كان لأهل العلم هذه المواقف . يقول ابن القيم رحمه الله
عن شيخ الإسلام ابن تيمية : « وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت منا الظنون ،
وضاقت بنا الأرض أتيناه ؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله ،
وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة » [5] .(1/405)
7 - حل مشكلات الناس والإصلاح بينهم :
أهل العلم والقيادات لهم منزلة بين الناس ، ويصدر الناس عن رأيهم ؛ ولذا
كان من آثارهم الإصلاح بين المتخاصمين من المسلمين ، كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم يفعل ذلك ؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى
تراموا بالحجارة ، فأُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : « اذهبوا بنا
نصلح بينهم » [6] .
وقد كان للشيخ ابن باز رحمه الله جهود لا تنكر في الإصلاح بين طوائف
كثيرة من العاملين للإسلام ، وأبرز ما في ذلك إصلاحه بين قادة المجاهدين الأفغان .
آثار فقدهم :
1 - غياب أدوارهم :
للقيادات العلمية والدعوية أدوار مهمة وآثار حميدة سبق الحديث عنها ، ومن
أعظم آثار غيابهم فقدان هذه الأدوار وضمورها .
2 - فقد العلماء من علامات رفع العلم :
فَقْدُ العلماء رفعٌ للعلم ؛ وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم
بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا » [7] .
وقبض العلم درجات ثلاث :
الأولى : أن يقبض روح العمل وهو الخشوع ، وقد دل على ذلك حديث أبي
الدرداء رضي الله عنه إذ قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص
ببصره إلى السماء ، ثم قال : « هذا أوان يُختلَس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه
على شيء » فقال زياد بن لبيد الأنصاري : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟
فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ، فقال : « ثكلتك أمك يا زياد ! إن كنت
لأعدُّك من فقهاء أهل المدينة ؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا
تغني عنهم ؟ ! » قال جبير : فلقيت عبادة بن الصامت قلت : ألا تسمع إلى ما يقول(1/406)
أخوك أبو الدرداء ؟ ! فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء ، قال : صدق أبو الدرداء ؛
إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس : الخشوع ، يوشك أن تدخل مسجد
جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً » [8] .
وقد غاب أثر هذا العلم منذ وقت ، بل صار الناس لا يعدونه علماً ؛ فالوعظ
والرقائق باب آخر غير باب العلم الذي هو سرد المسائل وأقوال الرجال ، أما العلم
في كتاب الله تبارك وتعالى فله أثره على القلوب والنفوس ، قال تبارك وتعالى :
?قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ? ( الإسراء : 107-109 ) وقال عبد الأعلى التيمي : « من
أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه ؛ لأن الله تعالى نعت
العلماء ، ثم قرأ القرآن : ? إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ ? ( الإسراء : 107 ) [9] .
وقال مالك رحمه الله : « العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء ، وليس
بكثرة المسائل » [10] .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعنى بذلك في تعليمه لأصحابه ؛ فعن جندب بن
عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان
حزاورة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به
إيماناً » [11] .
والدرجة الثانية : قبض العلماء ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك في
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في قبض العلم ، وقد سبق .
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك من أشراط الساعة ؛ فعن أنس بن مالك قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ،
ويثبت الجهل ، ويُشرب الخمر ، ويظهر الزنا » [12] .(1/407)
عن هلال بن خباب قال : قلت لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال :
إذا مات علماؤهم [13] .
عن الحسن قال : كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء
ما اختلف الليل والنهار [14] .
عن أبي مسعود قال : « لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه . قالوا : إنَّا فيه
يأتي علينا العام يخصب والعام لا يخصب فيه . قال : إني والله لا أعني خصبكم
ولا جدبكم ، ولكن ذهاب العلم والعلماء ؛ قد كان قبلكم عمر فأروني العام
مثله ! » [15] .
وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : ? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ? ( الأنبياء : 44 ) قال موت علمائها وفقهائها ،
وروي عن مجاهد قال : إنه فسرها بموت العلماء [16] .
والدرجة الثالثة : قبض القرآن في آخر الزمان : وقد أخبر عنه صلى الله
عليه وسلم في قوله : « يَدرُسُ الإسلام كما يَدرُسُ وشي الثوب حتى لا يُدرى ما
صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ، ويُسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في
الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا
آباءنا على هذه الكلمة يقولون : لا إله إلا الله فنحن نقولها » [17] .
3 - فقدهم مدعاة لتصدر الجهلة :
حين تُفقد القيادات الدعوية والعلمية يتسع المجال لتصدُّر طائفة من الجهال ،
فيخوضون فيما لا يحسنون ، فيَضلون ويُضلون وهذا ما أخبر عنه صلى الله عليه
وسلم في قوله : « فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسُئلوا فأفتوا بغير
علم فضلُّوا وأضلُّوا » .
وفي هذا العصر اتسعت فرص الشهرة لمن ليس أهلاً لها ؛ فوسائل الإعلام
تتيح تصدُّر أي مغمور ، وغلبة الجهل بالشرع وأحكامه تجعل الناس يصدقون من
يسمعون ، بل إن معايير الناس في الحكم على من يحمل العلم فيقبل قوله أو من هو
دون ذلك ، هذه المعايير ليست معايير موضوعية ، بل هي معايير تتفق مع ثقافة(1/408)
عامة الناس وطريقة تفكيرهم . إن من يجيد الحديث عن بعض مشكلات الناس
المعاصرة ، ويتحدث لهم باللغة التي يفهمونها ، وتتسم آراؤه بالتساهل أو ( الانفتاح
والمرونة ) كما يسمى اليوم إن هذا الصنف هو الذي يجد له رواجاً وقبولاً بين
الناس ، حتى وإن كان لا يحمل من العلم الشرعي الموروث أي رصيد .
وهكذا من يتناول بعض الموضوعات الحيوية لدى الناس ، ويجيد الإلقاء
والخطابة ، فيرتب بعض الأفكار والعناصر التي يعرفها معظم المستمعين له ،
ويدعم حديثه ببعض الشواهد والقصص ، وربما بعض الأرقام والمعلومات ، مثل
هذا الصنف من المتحدثين يجد رواجاً وقبولاً واسعاً لدى الناس .
ولا اعتراض على ما يقدمه هؤلاء ؛ فطائفة كثيرة منهم هم من الغيورين
الصادقين نحسبهم كذلك والله حسيبهم لكن المشكلة تتمثل في تسيُّد أمثال هؤلاء ،
وتحدثهم فيما لا يحسنون ، واستشارة شباب الصحوة لهم وصدورهم عن رأيهم ،
والجانب الآخر من المشكلة يتمثل في تسطيح تفكير المستمعين لهم ، والقعود بهم
عن الارتقاء في الفهم وتناول المشكلات .
واجبنا تجاه القيادات العلمية والدعوية :
إذا كان تأثير القيادات العلمية والدعوية في ساحة العلم والدعوة بهذا القدر ،
وكان غيابهم يترك هذا الفراغ الهائل ؛ فإن الدعاة إلى الله وطلبة العلم هم من أكثر
الناس التصاقاً بهذه القضية ، وأوْلى الناس أن يُعنَوْا بها ويتدارسوها ، وتتمثل
واجباتنا تجاه هذه القيادات فيما يأتي :
1 - إيجاد القيادات العلمية والدعوية :
إن من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لإيجاد القيادات العلمية
والدعوية التي تقود الناس وتوجههم وتأخذ بأيديهم ، ومن وسائل تحقيق ذلك :
أ - الاعتناء بهذا الجانب :
ويتمثل ذلك بإعطاء الاعتبار اللائق للبناء العلمي ضمن المناهج الدعوية ،
وبخاصة أننا نعيش في عصر قلَّ الاهتمام فيه بالعلم الشرعي ، حتى إن طائفة من(1/409)
ناشئة الصحوة بدؤوا يزهدون في هذا العلم ، محتجين بأنه شأن المختصين ، وأن
الناس لا يمكن أن يكونوا كلهم علماء ، وتضيع اليوم أوقات طائفة من هؤلاء أمام
شاشات الإنترنت في جدل تافه ، وتعالم ممقوت ، أو في قراءة طائفة من الكتب
المترجمة التي قد تفيد في جوانب من الحياة ، لكنها ليست بأوْلى من الفقه في دين
الله .
وينبغي أن يُعنى بهذا الجانب في التخطيط للأعمال الدعوية ورسم الأهداف
لها ، فيأخذ حيزه اللائق به .
ب - إعادة النظر في المناهج التربوية :
إن تربيتنا اليوم بحاجة إلى مزيد مراجعة ؛ فهي تربِّي على التقليد والتبعية ،
وتخرِّج جيلاً من الأتباع أكثر من أن تخرِّج قادة يقودون الناس ، ومن مجالات
المراجعة ما يلي :
1 - التخلص من الاستبداد الدعوي والتربوي ؛ فثمة طائفة من المربين تنقل
الشاب من التقليد لأهل العلم إلى التقليد لهم ؛ فخطأ مربيه خير من صوابه هو ،
وليس من حقه أن يقول : لِمَ ، فضلاً عن أن يقول : لا .
2 - التخلص من التسلط الذي لا يسمح للشاب أن يستفيد من غير أستاذه
ومربيه ، بحجة المحافظة عليه وحمايته .
3 - إعادة النظر في كثير من الأساليب التي توارثها المربون والدعاة ،
والبحث عن مدى جدواها ، ومدى مناسبتها مع هذه المرحلة التي نعيشها بمتغيراتها
وظروفها .
4 - الارتقاء بالمربين وحسن اختيارهم ؛ ففاقد الشيء لا يعطيه ، ولا
يتصور من البسطاء محدودي العلم والتفكير أن يرتقوا بغيرهم أو يهيئوهم للقيادة
والريادة .
5 - تطوير أساليب التعليم والارتقاء بمدارسنا ؛ فأسلوب التلقين والإملاء لا
يمكن أن يُخرِجَ طلبة علم متميزين ، فضلاً عن أن يخرج قيادات .
6 - مراجعة المناهج العلمية والبرامج التي تقدم للناشئة وإعادة النظر فيها .
ج - تهيئة الفرص ومراجعة الأساليب الإدارية :
إن البيئة التربوية السائدة اليوم في مدارسنا ، وفي مؤسسات الصحوة التربوية(1/410)
لا تتيح الفرص لنمو القيادات ؛ فالفرص المتاحة للمبادرة والتفكير المستقل فرص
محدودة ، وأجواء الحوار واختلاف الرأي ليست كما ينبغي ، وهذه الفرص وتلك إن
وجدت على المستوي النظري فهي نادرة على المستوى العملي وكثيراً ما تُوأد أمام
الصرامة الإدارية التي تليق بالتربية العسكرية أكثر مما تليق بالتربية التي تسعى
لإعداد الرجال والقيادات .
وحين نفكر في تطوير أدائنا التربوي مع الإصرار على النمط الإداري السائد
فهذا التفكير لن يكون تفكيراً رحباً ، وسيعوقنا ذلك عن الوصول إلى حلول عملية ،
وما ورثناه واعتدنا عليه من الأساليب إن ساغ أنه ناجح في ظرف وبيئة ، فلا يعني
أنه سينجح في كل زمان ومكان .
د - تطوير طرق التعليم الشرعي :
إن الظروف والمستجدات المعاصرة اليوم تتطلب منا مراجعة لأساليب وطرق
التعليم الشرعي السائدة ، ومن مجالات التطوير المقترحة :
أ - الاعتناء بالمستويات العليا في التعليم ، والبعد عن الاقتصار على التذكر
والاستدعاء ، فلا بد من الاعتناء بالفهم والاستيعاب والتطبيق لما تعلَّمه الطالب في
مواقف جديدة ، والاعتناء بالتقويم وإصدار الأحكام ، وكذا التحليل والتركيب .
ب - زيادة دور الطالب في التعلم .
ج - الاعتناء بتعليم أسس التفكير العلمي ، والبحث العلمي ، ومهارات الحوار
والإقناع .
د - الاعتناء بدراسة النوازل والقضايا المعاصرة .
هـ - الاعتناء بتعليم قدر مناسب من الثقافة المعاصرة يتيح لطلاب العلم
استيعاب المشكلات المعاصرة ، ويرقى بلغة خطابهم بما يتناسب مع الفئات المتعلمة
والمثقفة في المجتمع .
و - الاعتناء بتعليم المهارات الاجتماعية ، وأساليب التعامل مع الناس
والتأثير عليهم .
2 - إبراز سير علماء السلف :
يفتقر الناس اليوم إلى القدوات ، وإلى المعايير التي يعرفون فيها العالم الذي
يستحق أن يُتلقى منه ، والعالم الذي لا يستحق ذلك .
ومن ثم فإبراز سِيَر علماء السلف ومنهجهم في التعامل مع النصوص ، وفي(1/411)
الفقه والفهم ، وفي السلوك والهدي ، وفي القيام بواجب الدعوة وقيادة الناس ، كل
ذلك من شأنه أن يعطي الناس صفات العالم الذي ينبغي الاقتداء به والأخذ منه .
3 - السعي لإبراز القيادات أمام الناس :
من واجب الدعاة إلى الله تبارك وتعالى السعي لتعريف الناس بالقيادات
الناضجة الواعية ، وإبرازهم أمام الناس ، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال جوانب
عدة منها :
1 - تذكيرهم بالمسؤولية ودفعهم للمشاركة والدعوة .
2 - التعريف بهم وبيان منزلتهم لدى الناس .
3 - استضافتهم في البرامج العامة ، وإفساح المجال لهم للحديث في مجامع
الناس .
4 - دفعهم للمشاركة في وسائل الإعلام ؛ فلها الأثر البارز في تعريف الناس
بهم وانتشار كلمتهم .
4 - الحذر من تصدير الجهلة :
حين تخلو الساحة من القيادات العلمية المؤهلة يتسع المجال أمام الرؤوس
الجهال ، وتسهم المنطلقات الحزبية الضيقة في تسويد فئات ممن لا يحملون التأهل
الشرعي الكافي ، وإتاحة الفرص والمنابر الإعلامية أمامهم .
إن شعور فئة أو حركة أنهم هم وحدهم المؤهلون للتغيير ، وأنهم هم الذين
يملكون الحق وغيرهم على الباطل هو الذي يدفعهم إلى تصدير فئة من أتباعهم لا
يملكون من التأهيل إلا مجرد الانتماء .
وأظن أن الوقت قد حان ليدرك العاملون للإسلام أنه ليس بوسع فرد أو فئة
تحمل عبء الإصلاح والتغيير وحدهم ؛ فالواقع أكبر من جهد فرد أو جماعة ، وأنه
قد حان الوقت لسعة الأفق في التعامل مع اجتهادات الآخرين وتوسيع مجال التعاون .
5 - الحكمة في التعامل مع اجتهادهم المخالف :
البشر من طبيعتهم النقص والقصور ، وما فتئ أهل العلم منذ عصر صدر
الإسلام وإلى يومنا يخالف بعضهم بعضاً ويرد بعضهم على بعض ، وقد أدت
أوضاع الأمة اليوم إلى فقدان الاتزان في التعامل مع كثير من مسائل الاختلاف ،
ومن أكبر مظاهر ذلك الصراع بين طائفة من حملة العلم الشرعي وطائفة من شباب(1/412)
الصحوة لاختلاف الآراء حول بعض القضايا والمواقف ، مما أدى إلى نشوء فئة
تدعو إلى إسقاط هؤلاء وانتقاصهم ، أو فئة أخرى تغلو في اجتهاداتهم وتحولها إلى
نصوص قاطعة .
لا بد أن يتربى الناس وطلاب العلم بوجه أخص على أن الحق لا يعرف
بالرجال ، وعلى أن العبرة بما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة ، وأن قول البشر
كائناً من كان إنما يعرض على الأدلة الشرعية فيقبل ما وافقها ويترك ما خالفها ،
وهي قضية بدهية على المستوى النظري ، أما على المستوى العملي فكثيراً ما يقع
فيها الخلل .
ومع ذلك لا بد أن يتعلم الجيل اليوم أن المخالفة في الاجتهاد لا تعني
الانتقاص والذم ؛ فنحن نرى فئة من صغار طلاب العلم ، بل بعض من ليس لهم
رصيد في العلم الشرعي ، وغاية ما يملكونه بعض المشاركات الدعوية ، والثقافة
المعاصرة ، نرى هؤلاء يتحدثون دوماً وبجرأة بل باستخفاف أحياناً عن كثير من
أهل العلم ومواقفهم ، وما أن تصدر فتوى أو موقف لأحدهم إلا وينبري هؤلاء
لتقويم الموقف والفتوى ، وغالباً ما يكون ذلك انتقاداً ، وقد يكون لاذعاً ساخراً ،
مصحوباً بوصف هؤلاء بالسذاجة والبساطة وغيرها من الألقاب ، ومن المآسي أن
يشترك في الحملة على هؤلاء طائفة من أبناء الصحوة ، مع فساق الصحفيين
وسقطتهم ، بغض النظر عن اختلاف الموقف والدافع .
قال أبو سنان الأسدي : « إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين
يتعلم الوقيعة في الناس ، فمتى يفلح ؟ ! » [18].
قال ابن عساكر رحمه الله : « اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته ، وجعلني
وإياك ممن يتقيه حق تقاته : أن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هتك من
ناوأهم معلومة ، وقلَّ من اشتغل في العلماء بالثلب إلا عوقب قبل موته بموت القلب :
? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?
(النور : 63 ) .(1/413)
وذكر الثعالبي في آداب الملوك عن علي رضي الله عنه أنه قال : من استخف
بالعلماء ذهبت آخرته .
ولا يسوغ كذلك أن يصرح طلاب العلم بانتقاد هؤلاء في مجالس الناس العامة ،
وبمخالفتهم في الاجتهاد .
فترك إبداء الرأي في مسألة من المسائل ، أو ترك التصريح بخطأ فلان بعينه
أقل مفسدة من إسقاط هؤلاء الرموز والقيادات ، وحين يفقد عامة الناس ثقتهم في
هؤلاء ؛ فمن البديل ؟
هل قدمت الصحوة اليوم علماء فقهاء يتصدون لقضايا الناس ومشكلاتهم ؟ أم
أن الموجود من هؤلاء يعاني الناس أي معاناة في الاتصال به والوصول إليه ؟
إن البديل سيكون عند عامة الناس أحد أمرين : أولهما : أن يفتوا أنفسهم ويخوضوا
في دين الله بغير علم ، والثاني : أن يلجؤوا إلى طائفة من أهل الترخيص
والانفلات في الفتوى .
6 - الحذر من الغلو فيهم :
في مقابل من يستهينون بأهل العلم ثمة طائفة من الناس تغلو فيهم ، ومن
مظاهر الغلو :
أ - التسليم بصحة كل ما يقوله العالم فيعتقد فيهم العصمة بلسان الحال لا
بلسان المقال فحين يخالفهم أحد في اجتهاد أو رأي ، أو حين يناقش قولاً لهم يشنون
عليه حرباً شعواء ، ويتهمونه بانتقاص أهل العلم وازدرائهم .
ب - الزعم بأنهم يحيطون بكل دقيقة وجليلة ، وحين تناقش أحدهم في قول
يردُّ عليك بأن الشيخ لا يخفى عليه ذلك لكنه يراعي ويقدر أموراً لا تقدرها ، بينما
هو يقرر في حديثه انتقاد أتباع المذاهب الذين يقولون بأن كل حديث بخلاف
المذهب فهو مؤول أو منسوخ .
ج - القطع بما لا يجوز القطع به ، كقول بعضهم : انتقل إلى الرفيق الأعلى ،
أو إن فلاناً من أولياء الله وإن لم يكن ولياً فلا أعلم لله ولياً ، أو إن الله أحب فلاناً
فأحبه الناس ، ومنهج أهل السنة الاعتدال في الثناء على الرجال ؛ فليقل من يثني
عليهم : إن فلاناً نحسبه والله حسيبه من أولياء الله ، ونرجو أن يكون ممن أحبه الله
فأحبه الناس .(1/414)
د - الاعتقاد بأن الدين سيأفل نجمه بموت هؤلاء وانصرافهم ؛ فمع أن فقد
أهل العلم ثلمة لا تسد ، وأن ذلك من علامات رفع العلم إلا أن الخير باق في الأمة ،
وقد فقدت الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وبقي الدين محفوظاً
قائماً .
7 - الاعتناء بالأعمال المؤسسية :
إن ضخامة الجهد الإصلاحي اليوم ، والمتغيرات الجديدة ، والضعف الذي
تعاني منه الأمة يقلل من فرص نجاح القيادات الفردية ، وهذا يتطلب الاعتناء
بإيجاد المؤسسات العلمية والمؤسسات الدعوية ؛ فهي تقلل من سلبيات الفرد ،
وتعطي إمكانات وقدرات أعلى .
إننا بحاجة إلى مؤسسات وجمعيات مستقلة من العلماء والفقهاء المعتبرين تفتي
الأمة في النوازل ، وبحاجة إلى مؤسسات دعوية تعنى بتنظيم جهود دعوية عامة
يمكن أن تسد ثغرات لا يسدها الأفراد .
وهذا النمط الذي نتطلع إليه من المؤسسات ليس النمط التقليدي الذي يقوده
فرد ووراءه مجموعة من الموظفين التابعين .
________________________
(1) رواه الدارمي (329) .
(2) سير أعلام النبلاء .
(3) الفتاوى ، (28/506) .
(4) البداية والنهاية ، (14/21) .
(5) الوابل الصيب ، (70) .
(6) رواه البخاري ، ح/2693 ، و مسلم ، ح/ 421 .
(7) رواه البخاري ، ح/ 100 ، ومسلم ، ح/ 2673 .
(8) رواه الدارمي ، ح/ 293 .
(9) أخرجه الدارمي ، ح/ 296 .
(10) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ، 1/156 .
(11) رواه ابن ماجه ، ح/ 61 .
(12) رواه البخاري ، ح/ 80 ، ومسلم ، ح/ 2671 .
(13) سير أعلام النبلاء .
(14) رواه الدارمي (324) .
(15) شعب الإيمان ، 2/268 .
(16) تفسير ابن جرير ، 13/174 .
(17) رواه ابن ماجه ، (4049) .
(18) ترتيب المدارك ، (2 14/15) .
مرتكزات للفهم والعمل
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
لا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات ؛ فذلك أمر تعوّده(1/415)
الناس منهم ، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة ، وأدى
كثير منها إلى سقوط بعض الدول ، كسقوط الأندلس وغيرها .
لكن الغريب أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية ، ويسيطر على
بعض النفوس المريضة ، شعرت أم لم تشعر ، حتى يصير همّ الواحد منهم أن يسود
على بضعة أفراد ، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته ، وأنها أمانة ، ويوم القيامة
خزي وندامة [1] .
التطلع للإمارة في ضوء النصوص الشرعية :
إن الحرص على الإمارة يفسد دين المرء الحريص عليها ، ويضيع نصيبه في
الآخرة ، ويجعله شخصاً غير صالح لهذا المنصب ، وتوضيح ذلك كما يلي :
أولاً : تحذير النبي-صلى الله عليه وسلم- من عواقب التطلع إلى الإمارة :
قال : (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف
والمال لدينه) [2] .
فبين أن الفساد الحاصل للعبد من جراء حرصه على المال والشرف : أشد من
الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها ليلاً ، وأُرسل فيها ذئبان جائعان
يفترسان ويأكلان ، وإذا كان لا ينجو من الغنم إلا القليل منها ؛ فإن الحريص على
المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه .
ثانياً : بيان طرق الناس في طلب الجاه : للناس في طلب الجاه طريقان ، هما:
الطريق الأول : طلبه بالولاية والسلطان وبذل المال ، وهو خطير جداً ، وفي
الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها ؛ فإن الله جعل الآخرة لعباده المتواضعين ، فقال :
? تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ ? [القصص : 83] فنفى عنهم مجرد الإرادة ، فضلاً عن العمل والسعي
والحرص لأجلها ، فإن إرادتهم مصروفة إلى الله عز وجل ، وقصدهم الدار الآخرة ، وحالهم التواضع مع الله تعالى والانقياد للحق والعمل الصالح ، وهم الذين لهم
الفلاح والفوز . ودلت الآية على أن الذين يريدون العلو في الأرض والفساد ليس(1/416)
لهم في الآخرة حظ ولا نصيب [3] .
الطريق الثاني : طلب الجاه بالأمور الدينية ، وهذا أفحش وأخطر ؛ لأنه طلب
للدنيا بالدين ، وتوصل إلى أغراض دنيوية بوسائل جعلها الله تعالى طرقاً للقرب
منه ورفعة الدرجات ، وهذا هو المقصود بحديثنا هنا .
ثالثاً : النهي عن سؤال الإمارة : وقد وردت نصوص تنهى عن سؤال الإمارة
وتمنيها ، وتحذِّر من ذلك ، وتبين عاقبته ، وتنهى عن تولية من سألها أو حرص
عليها . وهي وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها واردة في الإمارة الدنيوية إمارة
السلطان والوالي إلا أن دلالتها أشمل من ذلك وأوسع ، فهي تتناول ما نحن بصدد
الحديث عنه . ومن تلك الأحاديث :
أ - قول النبي : (يا عبد الرحمن بن سمرة : لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن
أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها) [4]
وفي رواية : (لا يتمنّينّ) ، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب [5] .
ب - وقوله : (إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ،
فنعم المرضعة ، وبئست الفاطمة) [6] فهي محبوبة للنفس في الدنيا ، ولكنها (بئست
الفاطمة) بعد الموت ؛ حين يصير صاحبها للحساب والعقاب . وفي رواية أخرى :
(أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة ، إلا من عدل) [7] .
ج - وقال-صلى الله عليه وسلم- للرجلين اللذين سألاه الإمارة : (إنا لا نولّي
هذا مَنْ سأله ، ولا من حرص عليه) [8] .
والسبب في عدم توليته الإمارة لمن سألها أنه غير صالح ولا مؤهل لهذا الأمر ؛ لأن سؤاله له وحرصه عليه ينبئ عن محذورين عظيمين :
الأول : الحرص على الدنيا وإرادة العلو ، وقد تبيّن ما فيه .
الثاني : أن في سؤاله نوع اتكال على نفسه ، وعُجباً بقدراتها وغروراً
بإمكاناتها ، وانقطاعاً عن الاستعانة بالله عز وجل التي لا غنى لعبد عنها طرفة عين ، ولا توفيق له إلا بمعونته سبحانه وتعالى [9] .(1/417)
فما أشبه حرص الداعية على رئاسة مركز إسلامي ، أو إدارة مكتب دعوي ،
أو ترؤس لجنة ، أو هيئة ، أو مجموعة ... ما أشبه كل ذلك بما نهى عنه-صلى الله
عليه وسلم- ، نسأل الله السلامة من الفتنة .
وما أحسن وصف شدّاد بن أوس رضي الله عنه لها بالشهوة الخفية حين قال
محذراً : (يا بقايا العرب ... يا بقايا العرب ... إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ،
والشهوة الخفية) ، قيل لأبي داود السجستاني : ما الشهوة الخفية ؟ قال (حب
الرئاسة) [10] . وصدق والله ؛ فإنها مهلكة كالرياء . وعلى كثرة ما ورد من
التحذير من حب المال ؛ فإنها أشد إهلاكاً منه ، والزهد فيها أصعب ؛ لأن المال
يبذل في حب الرئاسة والشرف .
مظاهر الحرص على الإمارة والظهور [11] :
1- العجب بالنفس ، وكثرة مدحها ، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة
كالشيخ ، والأستاذ ، والداعية ، وطالب العلم ، ونحوها ، وإظهار محاسنها من علم
وخُلُق وغيره .
2- بيان عيوب الآخرين وخاصة الأقران والغيرة منهم عند مدحهم ومحاولة
التقليل من شأنهم .
3- الشكوى من عدم نيله لمنصب ما ، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير
لتقلّد بعض المناصب .
4- الحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز ؛ كالإمامة والخطابة
والتدريس والتأليف والقضاء . وهي من فروض الكفاية ، لا بد لها ممن يقوم بها ،
مع مراعاة أحوال القلب ، والتجرد من حظوظ النفس ؛ كما هو حال السلف .
5- عدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوساً ، والتهرب من التكاليف التي لا
بروز له فيها .
6- كثرة النقد بسبب وبغير سبب ، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات
والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها .
7- الإصرار على رأيه ، وعدم التنازل عنه ، وإن ظهرت له أدلة بطلانه .
8- القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب ، وكثرة
الدخول عليهم .
وهذا باب واسع يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه ، وهو مظنة قوية(1/418)
للفتنة في الدين ، كما في الحديث : (من أتى أبواب السلطان افتتن) [12] .
9- الجرأة على الفتوى ، والحرص عليها ، والمسارعة إليها ، والإكثار منها .
وقد كان السلف يتدافعونها كثيراً ؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى : (أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، فما كان
منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث ، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا) [13] .
آثار ومفاسد التطلع للإمارة :
أولاً : مفاسد التطلع إليها والرغبة فيها :
1- فساد النية ، وضياع الإخلاص ، أو ضعفه ، ودنو الهمة ، والغفلة عن الله
تعالى ، وعن الاستعانة به . [14] .
2- انصراف الهمّ عن المهمة الأساس ، والغاية الكبرى من حياة العبد ، وهو
تحقيق العبودية لله عز وجل . والاشتغال عن النافع الذي أمر النبي-صلى الله عليه
وسلم- بالحرص عليه فقال : (احرص على ما ينفعك) [15] وصرف الوقت والجهد
والفكر فيما هو غني عن الاشتغال به ، من مراعاة الخلق ، ومراءاتهم ، والحرص
على مدحهم ، والفرار من مذمتهم ، وهذه بذور النفاق ، وأصل الفساد .
3- المداهنة في دين الله تبارك وتعالى ، بالسكوت عما يجب قوله والقيام به
من الحق ، وربما بقول الباطل من تحليل حرام ، أو تحريم حلال ، أو قول على الله
بلا علم .
4- اتباع الهوى ، وارتكاب المحارم من الحسد والظلم والبغي والعدوان ونحوه
مما يوقع فيه هذا الحرص ويستلزمه أحياناً قال الفضيل بن عياض : (ما من أحد
أحب الرئاسة إلا حسد وبغى ، وتتبع عيوب الناس ، وكره أن يُذكر أحد
بخير) [16] .
ثانياً : مفاسد الحصول عليها للراغب فيها المتشوِّف لها [17] :
1- الحرمان من توفيق الله وعونه وتسديده ؛ (فإنك إن أُعطيتها عن مسألة
وكلت إليها) .
2- تعريض النفس للفتنة في الدين ، والتي يترتب عليها غضب الله تعالى إذ
ربما يَنْسى مراقبة الله ، وتبعات الأمر ، ويغفل عن الحساب ، فقد يظلم ويبغي ؛(1/419)
ويُشعِرُ بذلك كله وصف النبي : بأنها أمانة وملامة وندامة .
3- تضاعف الأوزار وكثرة الأثقال ؛ حيث قد يفتن ؛ فيكون سبباً للصد عن
سبيل الله تعالى وأشد ما يكون ذلك حين يكون منتسباً لأهل العلم والصلاح ، قال عز
وجل : ? لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ
أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ? [النحل : 25] .
4- توقع سوء العاقبة في الدنيا ، وحصول بلاء لا يؤجر عليه ، قال الذهبي :
(فكم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف ، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده ، وحبه للرئاسة الدينية) [18] .
5- التبعة والمسؤولية الشديدة يوم القيامة ، قال : (ما من أمير إلا يؤتى به
يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل ، أو يوبقه الجور) [19] .
ثالثاً : آثاره على صعيد الجماعة والمجتمع :
الفرد والجماعة كلٌ منهما مؤثر في الآخر متأثر به ، فإذا ما وقع الأفراد في
مزلق كهذا ، فإن الداء عن الجماعة ليس ببعيد ؛ إذ سرعان ما تفسد الأخوة ، وتَحل
الخلافات ، ويسهل اختراق الصف الإسلامي ، وتحصل الشماتة به وبأهله .
وما أبعد هؤلاء عن تنزّل النصر ، وحصول التمكين ، مع هذا الاعوجاج
والانحراف . بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً ، ينتفع فيها المرء ويتبختر ،
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخارف الدنيا ومتاعها الفاني ؛ فإن حب
الظهور والبروز بداية الانحراف والسقوط والإخفاق .
وإذا كان الله عز وجل يعطي الكافر والمؤمن من الدنيا لهوانها عنده ، ولكنه
سبحانه أغير من أن يتم أمره بالتمكين لهذا الدين في الأرض على يد أناس عندهم
شوب في الإخلاص ، ويحبون الرئاسة والاستعلاء في الأرض ؛ فكيف إذا كانوا
يتخذون الدين مطية للدنيا ، يبيعون دينهم بعرض قليل ؟ ! [20] .
________________________
(1) انظر : مجلة البيان ، ع 90 ، ص 111 .(1/420)
(2) رواه أحمد ، ج3 ، ص 456 ، 460 ، وانظر : صحيح الجامع ، ح/ 5620 ، وانظر : رسالة بعنوان : (شرح حديث : (ما ذئبان جائعان [ لابن رجب رحمه الله تعالى ، فقد أخذت منه كثيراً في هذا الموضوع ، وقد لا أشير إليه في بعض المواضع تحاشياً لإثقال الهوامش .
(3) انظر : تفسير السعدي ، ص 575 .
(4) رواه البخاري ، ح/7146 .
(5) انظر : الفتح ، ج13 ، ص 133 .
(6) رواه البخاري ، ح/7148 .
(7) وسندها صحيح انظر : الفتح ، ج13 ، ص 134 .
(8) رواه البخاري ، ح/7149 .
(9) انظر : شرح جوامع الأخبار ، للسعدي ، ص 105 ضمن المجموعة الكاملة .
(10) شرح حديث أبي ذر ، ص 25 ، وجامع الرسائل ، ج1 ، ص 233 ، كلاهما لابن تيمية .
(11) انظر : شرح حديث (ما ذئبان جائعان) لابن رجب ، وانظر مشكلات وحلول في حقل الدعوة الإسلامية للبلالي ، ص 85 ، 143 .
(12) رواه أحمد ، ج2 ، ص 371 ، 440 ، وانظر : صحيح الجامع ، ح/ 6124 .
(13) جامع بيان العلم وفضله ، لابن عبد البر ، ج2 ، ص 1120 .
(14) خواطر في الدعوة ، محمد العبدة ، ج2 ، ص 23 .
(15) رواه مسلم ، ح/2664 .
(16) جامع بيان العلم وفضله ، ج1 ، ص 571 .
(17) انظر : آفات على الطريق ، السيد محمد نوح ، ج2 ، ص 67 ، وأخذت منه في مواضع أخرى من هذا الموضوع .
(18) السير ، ج 18 ، ص 191 ، 192 .
(19) رواه أحمد ، ج2 ، ص 231 ، وانظر : صحيح الجامع ، ح/5695 .
(20) انظر : خواطر في الدعوة ، محمد العبدة ، ج2 ، ص 23 .
مرتكزات للفهم والعمل
الرغبة في الصدارة
رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها
(2من2)
بقلم : عبد الحكيم بن محمد بلال
تناول الكاتب في الحلقة الماضية خطر الرغبة في الصدارة لدى العاملين في
الحقل الدعوي ، موضحاً ما جاءت به النصوص الشرعية بالتحذير من التطلع
للإمارة ، ثم أوضح مظاهر الحرص على الإمارة والظهور ، وآثار ذلك الحرص
ومفاسده .. ويتابع في هذه الحلقة إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع .
- البيان -(1/421)
أسباب الرغبة في الزعامة والتطلع للصدارة :
يُبتلى بهذه الشهوة العلماء والعباد والدعاة والمجاهدون ونحوهم ؛ وذلك أنهم
منعوا أنفسهم من المعاصي والشهوات ، حتى لم يعد لهم فيها مطمع ، ولكن نفوس
بعضهم تبحث عن بديل ومكافأة لشدة المجاهدة ، فتجده في التظاهر بالصلاح والعلم
والدعوة ... ولذة القبول عند الخلق ، وتوقيرهم له واحترامهم وطاعتهم ، فيهون
عليها ترك المعاصي ؛ لأنها وجدت لذة أعظم منها ، وهذه مكيدة عظيمة ؛ فقد يظن
العبد نفسه مخلصاً ، وهو في عداد المنافقين [1] والعياذ بالله ولكن يا ترى ما أسباب
هذا الأمر في الحقيقة ؟ [2] .
1- ضعف الإيمان والرغبة فيما عند الله ، الذي بسببه يركن هؤلاء إلى الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة ، وأشد من هذا : فساد النيّة ، واتخاذ سبيل العلم والدعوة
سُلماً لنيل الأغراض الشخصية ، وما لهذا في الآخرة من نصيب ، فلْيَنَلْ حظه من
الدنيا ! !
2- وهناك أخطاء تربوية تسهم في إشعال فتيل حب الزعامة ، منها : الإكثار
من مدحه والثناء عليه ، أو عدم الكشف عن الطاقات الكامنة في المتربي لتوظيفها
فيما يناسبها ، مما يجعله يسعى لتوظيفها في هلاكه ، ومنها : الغفلة عن بذور هذا
المرض الأولية التي قد تبدو في سن مبكرة من المراحل التربوية ، فتحتاج إلى
تهذيب وترشيد ومتابعة ؛ لئلا تجمح بصاحبها .
3- التوهم بخدمة الدعوة من خلال المنصب ، والظن أحياناً بأن الإصلاح لا
يكون إلا من مصدر القوة ، وسبب هذا : عدم وضوح المنهج النبوي في الدعوة .
4- طبيعة الشخص نفسه ، فقد يكون فيها من الثغرات ما يسبب مثل هذا ،
كالغيرة من أقرانه الذين نالوا ما يتمناه هو ، أو غروره بسبب تفوقه على غيره ، أو
بروزه في الدعوة أو النسب ، أو توليه بعض المسؤوليات والمهام .
5- الظن بأن المنصب تشريف ، والغفلة عن كونه تكليفاً ثقيلاً ، ومسؤوليةً
ضخمة ، وعبئاً ثقيلاً ، وهذا يتطلب من صاحبه التضحية بوقته وماله ونفسه(1/422)
وراحته لمصلحة الآخرين ، وأن التقصير فيه خيانة للأمانة وتضييع للواجب .
علاج الآفة وحلول المشكلة :
بعد تدبر الأسباب يظهر أن العلاج يتطلب خطوات أهمها [3] :
1- تكثيف التربية الإيمانية ؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله تبارك وتعالى ، والعمل للآخرة ، والزهد في الدنيا .
2- التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر ، والرضا بالموقع الذي
يعمل فيه ، وأداء واجبه أياً كان نوعه ، كما صوّر النبي -صلى الله عليه وسلم-
تلك الحال في قوله : (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعثٍ رأسه ،
مغبرةٍ قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في
الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يُشَفّع) [4] .
3- التزام الضوابط الشرعية في المدح ، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه
مطلقاً .
4 - توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير ، وأنه لا يجوز طلب الإمارة ،
ولا الحرص عليها ، وأن من طلبها لا يُوَلاّها ، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها .
5- المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص ، مع إحسان الظن
به ، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية ، ومن ثَمّ النصيحة الفردية ، فقد نصح
النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر رضي الله عنه في هذا الأمر خاصة [5] .
6- تبيان الآثار المفسدة لنفس العالم والداعية من جرّاء حرصه عليها [6] .
7- توضيح تبعاتها في الدنيا والآخرة . ومما ورد في ذلك : قوله : (ما من
عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) [7] . وقوله : (ما
من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً ، لا يفكه إلا العدل ، أو يوبقه
الجور) [8] .
8- الاعتبار بحال السلف الصالح في تواضعهم لله تعالى ، وكراهيتهم الشهرة
والتصدّر ، وكل ما يؤدي إليها ، ومحاولة عزل أنفسهم من بعض المواقع كما حصل
من أبي بكر ، وعبد الرحمن بن عوف ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز رضي الله(1/423)
عنهم ، والأمثلة كثيرة ... تركوها لله ، لانشغالهم بمرضاته ، وتوحّد همّهم وقصدهم ، فتكفّل الله لهم بخير الدارين ، فعوّضهم الله بشرف التقوى ، وهيبة الخلق ، قال
عز وجل : ? إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً ?
[مريم : 96] ، وقال : (وما تواضع أحد لله إلارفعه) [9] . وقال : (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) [10] .
ولا يمكن بحال تحصيل هذه المنزلة لمن كان في قلبه حب المكانة في قلوب
الخلق في الدنيا ؛ لأن هذا من أعظم الصوارف عن الله تعالى . كتب وهب بن منبه
إلى مكحول : (أما بعد : فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة ،
فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى ، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من
الأخرى) . والمراد بالعلم الباطن : المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته
ومراقبته ، والتوكل عليه والرضى بقضائه والإقبال عليه دون سواه ... فمن أغل
نفسه بالمحافظة على ما حصل له من منزلة عند الخلق كان ذلك حظه من الدنيا ،
وانقطع به عن الله [11] .
التوازن بين كراهية الصدارة والشهرة ، وبين وجوب قيادة الناس :
لا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح ، وتفضيل دنو الهمة
والقعود والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية ، وترك العمل ، والتخاذل
عن الواجبات ، وفروض الكفايات خاصة إذا تعينت على الأكفاء ، وترك اغتنام
الفرص النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل .
وقد جعل ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر
الله وتعظيم النفس . فالناصح لله المعظم لله يحب نصرة دينه ، فلا يضره تمنيه أن
يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير . أما طالب الرياسة فهو ساعٍ في حظوظ
دنياه ، ولذا ترتب على قصده مفاسد لا حصر لها [12] .
والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه ؛(1/424)
لإخلاصه وبعده عن الرياء ، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة ،
وهو فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر ؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم :
? وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً ? [الفرقان : 74] أي : أئمة هدى يقتدى بأفعالهم ، وهذا
لشدة محبتهم لله ، وتعظيمهم لأمره ، ونصحهم له ، ليكون الدين كله لله ، وليكون
العباد ممتثلين لأمره .
وقال سبحانه وتعالى قاصاً كلام يوسف عليه السلام : ? قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ? [يوسف : 55] ، وليس ذلك حرصاً منه على
الولاية ، وإنما هو رغبة في النفع العام ، وقد عرف من نفسه الكفاية والأمانة
والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه ، فقصده إصلاح أموال الناس ، وهو جزء من رسالة
الداعية إلى الله ، الذي يكون همه الأول فعل الخير طلباً لمرضاة الله تعالى ، وليس
قصده إرواء غليله ، وإرضاء شهوته في الزعامة ؛ فالضابط فيها هي النية
والموازنة بين المصالح والمفاسد العامة .
فبالجملة : هاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل ، بل قد ينبغي
له طلب هذه الوظيفة الشريفة ، بل قد تتعين عليه للمصلحة . والأدلة والأقوال
المحذرة لا تنطبق على داعية تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق ، حتى لو اشتهر
وعرف فلا بأس [13] . ويجب التنبيه إلى أن هذا الأمر مزلق ؛ لالتباس النية فيه
كثيراً ، وصعوبة تمحيص القصد ، وذلك علمه إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما
تخفي الصدور : ? وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [ آل عمران : 30]
الكشف عن القدرات :
كون بعض الدعاة لا يصلح للإمارة لا يعني إخفاقه وضعفه في كل شيء ، بل
إن غاية الأمر أنه لم يؤت قدرة في هذا الجانب ، وقد يكون لديه من القدرات
والإمكانات في العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره ممن أُهل للإمارة مثلاً ، وهذه(1/425)
سنة الله تعالى في توزيع القدرات ، ليحصل التكامل والتوازن ، قال تعالى : ? وَهُوَ
الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [الأنعام : 165] فعلى العبد أن يفتش في
نفسه عما هو أهل له ، ليقوم بحق الله تعالى فيه .
وهكذا كانت نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له : (يا
أبا ذر ، إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرنّ على اثنين ،
ولا تَولّيَنّ مال يتيم) [14] . ولا يقدح هذا في شيء من منزلة أبي ذر رضي الله
عنه وجلالته وقدره .
________________________
(1) انظر مختصر منهاج القاصدين ، ص 267 وانظر سير أعلام النبلاء ، ج18 ، ص 191 ، 192.
(2) انظر : مشكلات وحلول ، للبلالي ، ص 85 ، 143 .
(3) انظر آفات على الطريق ، ج1 ، ص 72 ، ومشكلات وحلول ، ص 86 ، 144 .
(4) رواه البخاري ، ح/2887 .
(5) رواه مسلم ، ح/1826 .
(6) انظر كلاماً نفيساً حول هذا للآجري في : أخلاق العلماء ، ص 100 ، 121 ، 122 .
(7) رواه البخاري ، ح/7150 .
(8) رواه أحمد ، ج2 ، ص 231 ، وانظر : صحيح الجامع ، ح/5695 .
(9) رواه مسلم ، ح/2588 .
(10) رواه مسلم ، ح/2965 .
(11) انظر : شرح حديث (ما ذئبان جائعان) ، ص 65 .
(12) انظر : الروح ، ص 560 562 .
(13) انظر : التنازع والتوازن في حياة المسلم ، محمد بن حسن بن عقيل بن موسى ، ص55 ، 61.
(14) رواه مسلم ، ح/1826 .
تأصيلات دعوية
سلوك الحكمة .. طريق الانتصار
(1من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
لو أردنا أسلوباً دعوياً يشمل الأساليب الدعوية كلها ، لم نجد إلا الحكمة .
وتبدو أهمية هذا الموضوع في الأمور التالية :
1- أن الله تعالى حكيم ، متصف بالحكمة ، وهي منه بمعنى : علمه بالأشياء
وإيجادها على غاية الإحكام .(1/426)
2- أن الله نسبها إلى نفسه ، وجعل إيتاءها من عنده فقال : ? يُؤْتِي الحِكْمَةَ
مَن يَشَاءُ ? [البقرة : 269] .
3- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُلئ قلبه بالحكمة كما في حادثة شق
الصدر [1] ، وكانت مهمته تعليم الحكمة ، فجاءت أعماله ملازمة للحكمة في أكمل
صورها .
4- أن الحكمة هي الفقه في الدين - كما فسرها كثير من السلف - والرسول- صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدِّين ) [2] .
5- أنها كلمة جامعة بين العلم والعمل .
6- أن الله مدحها لاشتمالها على الخير الكثير ، فقال : ? يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن
يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ? [البقرة : 269] .
وقد أمر بها مطلقاً من غير تقييدها بالحسن ؛ لأنها حسنة بذاتها ، فقال :
?ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ?
[النحل : 125] .
7- أنها طريق من طرق الدعوة ، وأسلوب يندرج تحته بقية الأساليب .
8- أنها ضالة المؤمن ، متى وجدها فهو أحق بها .
9- أنها موضع تحاسد وغبطة ، لاستحقاقها ذلك لشرفها ومكانتها ، قال : ( لا
حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله
حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) [3] .
10- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة ؛ حيث يفهمه البعض على أنه اللين والرفق
دوماً ، ويرى آخرون أن المداهنة والسكوت عن الحق حكمة ، ويحسب آخرون
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قادحاً في الحكمة .
11- كونها مدار نجاح الدعوات . والصحوة اليوم بأمس الحاجة إلى سلوك
سبيل الحكمة ، خاصة أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات
الإسلامية ، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة ، كالدخول في معارك
عسكرية مع الأنظمة ، حتى وإن كانت كافرة ، ومثل أسلوب الاغتيالات ، أو إحراق(1/427)
أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة ... وكل ذلك ناشئ عن الجهل في
فهم النصوص ودلالاتها ، والخلط فيما تقتضي النصوص التفريق بينه .
12- وتظهر أهمية الحكمة أيضاً بمعرفة آثارها ، التي منها : الوصول إلى
الأهداف من أقرب طريق ، وبأكثر النتائج ، وأقل الخسائر . ومنها : تقريب القلوب
من الدعوة والدعاة ، وإزالة الشحناء والبغضاء .
مفهوم الحكمة :
تدور معاني الحكمة في اللغة حول المنع ؛ (لأنها تمنع صاحبها من الوقوع
فيما يذم فيه ، أو ما قد يندم عليه ، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل ، أو
المهم قبل الأهم) [4] .
وقد وردت في القرآن مقترنة بالكتاب ففسرت بالسنة ، كما وردت مفردة
ففسرها المفسرون بتفسيرين :
الأول : النبوة ، والثاني : العلم والإتقان ، والتوفيق ، والبصيرة ، والعمل
الصائب ، ومنع الظلم ، ووضع الشيء في موضعه ، وكلها معان متقاربة . وقد
وردت في السنة النبوية بنحو هذا المعنى [5] .
ويمكن تعريفها بتعريف جامع مانع ، فيقال هي : (الإصابة في القول والعمل
والاعتقاد ، ووضع كل شيء في موضعه ، بإحكام وإتقان) [6] ، أو بتعبير آخر :
(فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي) [7] ، فهذا يشمل القول أيضاً ؛ لأنه يعدّ
فعلاً . والوجه الذي ينبغي : الطريقة التي يؤدى بها القول أو الفعل أياً كان ، مع
مراعاة اختلاف الزمان والمكان .
فتبين أن الحكمة في الدعوة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب أو الحلم
أو الرفق أو العفو ... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها ، فتشمل جميع الأساليب الدعوية فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في موضعه ، وتوضع الموعظة في موضعها ، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها ،
ومجادلة الظالم المعاند في موضعها ، والزجر والقوة والغلظة والشدة والسيف في
مواضعها ، وهذا هو عين الحكمة ، لموافقته لقوله - تعالى : ? ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ(1/428)
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل : 125] ، وقوله :
?وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ?
[العنكبوت : 46] ، وقوله : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ?? [التوبة : 73] .
كل ذلك مع الاستقامة على دين الله وحسن النية وسلامة القصد وصدق الرغبة
فيما عند الله - تعالى - ، وإلا كان كل ذلك نوعاً من النفاق .
وهناك علاقة بين الحكمة والذكاء من حيث إنه مادة ووسيلة للتعرف على
الحكمة ، ولكن لا يلزم منه وجودها . وإذا عُرّف الذكاء بحسن التكيف والتلاؤم مع
البيئة والأحوال والأحداث الطارئة ، فإن هذا لا يصلح تفسيراً للحكمة كما ترى -
وإن حاوله البعض ؛ إذ يدخل فيه المنافق والمجرم [8] .
وما ظُلِمَتْ كلمة مثل الحكمة باسم الحكمة ؛ فكم أساء فهمها الكثير ، حتى من
المنتسبين للعلم والدعوة ، حتى صارت مركباً سهلاً لكل من صعب عليه التزام
المنهج ، أو لاحت أمامه المكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية فصار شعاره الحكمة ، ولكن بمفهوم آخر تماماً يدل عليه منهجه الذي جعله متمثلاً في اتباع اللين في كل
أمر ، ومجاراة الأمر الواقع ، وربما التنازل عن المبادئ ، والخجل من التزام
الشرائع ، والتشنيع على كل من يلتزمها ... والخطورة تكمن في محاولة هؤلاء
المتخاذلين المنهزمين طمس معالم المنهج الصحيح ، وإحلال منهجهم ذي الحكمة
المترهلة العجينة المزيفة .
خوارم الحكمة وموانعها :
قد يصرف الداعية - أو تنحرف الدعوة - عن الحكمة بسبب أمور يغفل عنها
الكثير ، ومنها [9] :
1- الهوى وعدم التجرد لله - عز وجل - بالإخلاص ، ولنبيه -صلى الله
عليه وسلم- بالمتابعة : وهو سبب للضلال عن الحق والحكمة ، قال - تعالى :(1/429)
?وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ? [ص : 26] ؛ لأنه يعمي عن الحق ،
ويصم .
2- الجهل : لأن الحكمة تحتاج إلى العلم . وقد بين - تعالى - أن سبب عدم
توفيق الكفار للحق والحكمة هو الجهل فقال : ? قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَاًمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا
الجَاهِلُونَ ? [الزمر : 64] .
3- الأخذ بظواهر النصوص : كمنهج الظاهرية ، فلم يوفقوا للحق في كثير
من المسائل ، وعدم الجمع بين الأدلة ؛ فإن من لا يجمع بين الأدلة يقع في
التناقضات التي تنافي الحكمة ، فلا يوفق للحق في كثير من المسائل .
4- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها : كمن يستدل بقوله - تعالى :
?عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ ? [المائدة : 105] على ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع أنها تدل على عكس هذا كما يفهم من قوله :
?إذَا اهْتَدَيْتُمْ ? فإن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وكمن
يستدل بقوله - عز وجل : ? وَلا تُلْقُوا بِأََيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ? [البقرة : 195] على
ترك الجهاد ، مع أن تركه هو التهلكة ، كما هو واضح من سبب نزول الآية .
5- عدم فهم الدليل : فيخالف الحكمة في تطبيقه له وتصرفه على أساس الفهم
الخاطئ .
6- قلة التجربة : وهو سبب مخالفة كثير من الشباب للحكمة .
7- الفردية : ولذا قال : ( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) [10] ، والحكمة
تقتضي الجماعة والتعاون .
8- عدم تحديد الأهداف : المؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال ، وهو ناشئ عادة من النظرة السطحية للأمور ، والوقوف عند ظواهر الأحداث ،
دون النظر في أسبابها ، وآثارها ، ونتائجها .
9- تقديم الجزئيات على الكليات : وهو ناشئ من قصور العلم ، وقصر
النظر . وحاله كحال من رأى شوكة في يد جريح ينزف جرحه ، فانشغل بإخراج(1/430)
الشوكة عن عَصْبِ الجرح ومعالجته . وقد استغل الأعداء هذه الثغرة ، فأقاموا
بعض شعائر الإسلام الجزئية وأشغلوا الناس بها ، وهدموا أصوله وأركانه الكلية في
غفلة من الناس .
10- العجلة ، وعدم ضبط النفس .
11- الخلط في المفاهيم : فإن الحكيم ينطلق من مفاهيم صحيحة ، وقواعد
ثابتة ، مستمدة من الوحي ، ومن صور الخلط في المفاهيم :
أ - الخلط في مفهوم خوف الفتنة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
خشية الفتنة ! !
ب - الخلط بين الحزبية والانتماء : فحوربت الجماعة والوحدة والائتلاف
باسم النهي عن الحزبية المقيتة والانتماء ، مع أن من الانتماء ما هو محمود ومنه ما
هو مذموم ؛ فالانتماء لأهل السنة والجماعة مطلوب محمود ، بخلاف تحزّب
المسلمين بعضهم ضد بعض ، فإنه مذموم .
ج - الخلط بين الوسائل والغايات .
د - الخلط بين الثوابت والمتغيرات .
هـ - الظن بأن حب السلف والدفاع عن منهجهم يكفي عن فهمه وتطبيقه
والتزامه .
ومن الأمثلة أيضاً : الخلط بين الكرم وبين الإسراف ، والخلط بين الرفق
واللين وبين الضعف ، والخلط بين المداراة وبين المداهنة ، والخلط بين المصلحة
وبين المفسدة ، والخلط بين النصيحة وبين التشهير ، والخلط بين الإسرار وبين
السكوت عن الحق ، والخلط بين الغيرة وبين الاندفاع غير المنضبط ، والخلط بين
العزة وبين التكبر ، والخلط بين التواضع وبين الذل والخلط بين التأني وبين البرود
والخمول والكسل ، والخلط بين الشجاعة وبين التهور ، والخلط بين خوف الفتنة
وبين الجبن والخوف .
وأول هذه الأمور كلها محمود ممدوح ، وثانيها مذموم .
14- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد : وهذا يؤدي إلى تقديم جلب
المصالح على دفع المفاسد ، وإلى ارتكاب المفسدة الكبرى لدفع الصغرى ، وجلب
المصلحة الصغرى وترك الكبرى ... مع أن الواجب هو العكس تماماً . والحكيم من
يعرف خير الخيرين ، وشر الشرين .(1/431)
15- الغفلة عن مكائد الأعداء : بسبب الجهل بفقه الواقع ؛ إذ كيف يمكن
للمرء أن يفعل ما ينبغي كما ينبغي ، إذا كان لا يدرك ماذا ينبغي ؟ لأن الحكم على
الشيء فرع عن تصوره .
16- الغلظة والعنف والطيش : لأن سرعة الغضب والانفعال من خوارم
الحكمة ، وإنما يترك الناس من جَانَبَ الحكمة . قال - تعالى : ? وَلَوْ كُنتَ فَظاً
غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? [آل عمران : 159] .
أركان الحكمة وأسباب اكتَسابها :
الحكمة رتبة رفيعة ، وليست متاحة لكل أحد ، بل هي مع بذل الأسباب ،
وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة ، ولذا قال - تعالى : ? يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ
وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ? [البقرة : 269] ، مما يوجب على طالبها
أن يسألها من مالكها - سبحانه وتعالى ، وعلى من حصلت له أن يستشعر محض
فضل الله ومنته ، مع سعيه في توفير أركانها ، وبذل أسبابها التي تحصل بها ،
والتي منها :
1- التجرد والإخلاص والتقوى : قال - تعالى : ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ?
[البقرة : 282] . وإذا كان الهوى من موانع الحكمة ، فإن التقوى والإخلاص
أساسها ، وما أوضح هذا المعنى في قوله - تعالى : ? وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً ?
[الفرقان : 74] ، فإنه لن يكون إماماً ذا اعتبار إلا إذا كان إماماً للمتقين ، فهو متقٍ ؛
لأن التقوى صفة للإمام قبل المأمومين . وتحصل التقوى بالعمل الصالح الناتج عن
العلم النافع ، وتثمر بالاستقامة والثبات عليها .
2- العلم الشرعي : وقد قرن الله بين الحكم - وهي الحكمة - والعلم في عدة
آيات ، منها قوله : ? وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ? [الأنبياء : 74] . والمراد بالعلم :
العلم بالله وأسمائه وصفاته ، والعلم بأخباره ، وأوامره المتعلقة بالقلوب والجوارح .
3- الحِلم : وهو رجاحة العقل . والعقل : مكان الحكمة وبيتها . وبينهما(1/432)
اشتراك لفظي ومعنوي ، ومما يدل على علاقته بها أن الله - تعالى - ذكر الحكمة ،
فقال : ?? يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ?
[البقرة : 269] ، ثم ختم الآية بقوله : ? وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? ليبين أنه- تعالى وتقدس - لا يؤتي الحكمة إلا أهل العقول الوافية ؛ فهم الذين يعرفون النافع فيعلمونه ، والضار فيتركونه .
ويراد بالحلم أيضاً : ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، وهو حالة
متوسطة بين الغضب والبلادة ، وهذه الحالة يقتضيها العقل السليم .
4- الأناة : وهي لغةً : التثبت وعدم العجلة . وتعرف بأنها : التصرف الحكيم
بين العجلة والتباطؤ . وهي : مظهر من مظاهر الصبر ، وهي معينة على إحكام
الأمور ووضعها في مواضعها . وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة ، ولكنها تختلف
باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج
المطلوبة .
وقد أمر الله بالتثبت فقال : ? يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا ?
[الحجرات : 6] وفي قراءة ? فتثبتوا ? ، وذم العجلة والاستخفاف فقال : ? وَإذَا
جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ? [النساء : 83] ويستثنى ما كان الخير فيه
واضحاً ، قال - تعالى - ممتدحاً : ?? إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ ?
[الأنبياء : 90] .
5- التجربة والخبرة : والتجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات ، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادات ؛ لأن التجربة في الشهادة قاصرة . قال معاوية - رضي الله عنه - (لا حكيم إلا ذو تجربة) [11] .
والتجارب تنمي المواهب والقدرات ، وتزيد البصير بصراً ، والحليم حلماً ،(1/433)
وتجعل العاقل حكيماً ، وقد تشجع الجبان ، وتليِّن القاسي ، وتسخِّي البخيل ، وتقوِّي
الضعيف ... والداعية إذا خالط الناس عرف حاجتهم ، وركّز على ما ينفعهم ،
ووضع كل شيء في موضعه ، وإذا أخطأ استفاد من خطئه ، قال : (لا يُلْدَغُ المؤمن
من جحر واحد مرتين) [12] .
ولذا كان أكمل الناس تجربة وحكمة الأنبياء : رعوا الغنم ، ثم جربوا الناس
فازدادوا بهم خبرة ، وعرفوا سنن قيادتهم ، قال موسى - عليه الصلاة والسلام -
لنبينا محمد لله لله : (إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة في كل يوم ، وإني والله قد
جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف لأمتك) [13] .
6- الاستشارة : وهي من عوامل تجنب الفردية القادحة في الحكمة ، وقد
وصف الله بها المؤمنين ، فقال مثنياً عليهم : ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ?
[الشورى : 38] ، ولو استغنى عنها صاحب عقل لكان أغنى الناس عنها من كان يأتيه الوحي من السماء - ، ومع ذلك يأمره ربه - عز وجل - بمشاورة أصحابه ؛ فيقول مبيناً أن الشورى هي مقتضى الحكمة : ? وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ? [آل عمران : 159] .
وقد أوجب الله المشورة بين الوالدين ، في قضية فطام الولد ، وهي قضية
تتطلب الحكمة لئلا يتضرر الولد بالفطام : ? فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ? . [البقرة : 233] .
7- بُعْدُ النظر وعلو الهمة وسمو الأهداف ، وهو سبب عظيم للسداد في الرأي ، والتوفيق للصواب ؛ حيث إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان
يعيش على هامش الحياة ؛ فإن الأول يربط كل حدث بالأهداف التي يسعى إليها ،
ويعالجه من خلال منظور معين ، بخلاف الثاني .
8- فقه السنن : وقد حث الله على النظر في السنن الكونية الشرعية ، والتفكر(1/434)
في أحوال الماضين فقال : ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ?
[الحج : 46] ، فقرن السير في الأرض - وهو إما حسي أو معنوي - بالعقل ،
وهو موطن الحكمة ، ويحصل مثل هذا السير بالاطلاع على أحوال الماضين ،
وقراءة التاريخ لمعرفة تجارب الآخرين وإضافتها إلى التجربة الشخصية .
9- المجاهدة : وهي الجهاد بعد الجهاد ، وحمل النفس على تحقيق مراد الله -
تعالى - مرة بعد أخرى ، قال - تعالى : ? وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ
اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ? [العنكبوت : 69] ، أي : لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة ،
وهي عين الحكمة ، وهذا وعد الله .
10- الدعاء والاستخارة : قال - تعالى : ? وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي
قََرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذََا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ ??
[البقرة : 186] . والرشد : إصابة الحق وفعله ، وهذا من معاني الحكمة .
والاستخارة نوع من الدعاء ، عندما يتحير المرء في أي الطرق يسلك ، فإنه
بالاستخارة يوفق للحكمة والصواب .
11- السلوك الحكيم : وهو المظهر الدال على الخلق الباطن ، ويمكن للداعية
أن يحقق ذلك السلوك من خلال :
أ - الاقتداء بالصادق الأمين ، ذي الخلق العظيم ، والذي بعث متمماً لمكارم
الأخلاق .
ب - اتباع أصول السلوك الحكيم ، ومن أهم هذه الأصول تأثيراً في اكتساب
الحكمة ما ورد مثلاً في قوله - تعالى : ? إنَّ اللَّهَ يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتاءِ ذِي
القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ? [النحل : 90] ? وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ? [النساء : 58] ، وما في معناها من النصوص .
ومن الأصول المؤثرة جداً :
الصبر : وهو ركن ركين للإمامة التي لا ينالها إلا ذو حكمة ، قال - تعالى :(1/435)
? وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ? [السجدة : 24] . ومما يبين أثر الصبر في التوفيق للحكمة قوله - تعالى : ? وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ
وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ? [فصلت : 34 ، 35] فإن
الإنسان إذا سلك منهجاً يجعل من عدوه حميماً وصديقاً ، فإن ذلك دليل على الحكمة
وحسن التصرف .
الرفق ولين الجانب : قال : (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع
من شيء إلا شانه ) [14] ، وكان -صلى الله عليه وسلم- يوصي صحابته بذلك وقد
مدحه الله - تعالى - فقال : ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ? [آل عمران : 159] ،
والله - عز وجل - رفيق يحب الرفق .
والرفق واللين لا يضاد القوة ، ولا يستلزم الضعف ، وإنما يضاد العنف
والفظاظة والغلظة ، والجهاد مظهر من مظاهر القوة ، ولا يضاد اللين والرفق ، فلا
منافاة بين اللين والرفق ، وبين القوة .
12 - العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص : وليس من الإخلاص أن
يكون قصده بالعمل التحلي بالحكمة فحسب .
13 - الاستقامة : وهي كلمة جامعة تجمع الدين كله ، قال الله - تعالى :
?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ? ( هود : 112) ، وهي السداد ، فإن لم يستطع فعليه بالمقاربة لها ، وفي كلتا الحالتين عليه أن يستحضر فضل الله ورحمته .
فالعمل وحده لا ينجي ، قال : (قاربوا وسددوا ، واعلموا أنه لن ينجو أحد
منكم بعمله) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (ولا أنا ؛ إلا أن يتغمدني الله
برحمة منه وفضل) [15] .
ومَنْ أخلص دعوته لله ، وأحسن العمل ، واعتز بدينه فهو مستقيم ولا أحد(1/436)
أحسن منه ، قال - تعالى : ? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ
إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ? [فصلت : 33] ، وإذا عرض له في دعوته شياطين الإنس
دفعهم بالتي هي أحسن ، واستعاذ بالله من شياطين الجن ، قال - تعالى : ? خُذِ
العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (199) وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [الأعراف : 199 ، 200] .
فمن سلك هذه المسالك المستقيمة نال الحكمة والسداد - بإذن الله تعالى .
14- السياسة الدعوية الحكيمة : وطرقها كثيرة ، ومنها :
(أ) تحري أوقات الفراغ ، والنشاط والحاجة عند المدعوين ؛ حتى لا يملوا ،
ولئلا يفوتهم شيء من الخير .
(ب) ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم ؛ اتقاء الفتنة .
(ج) تأليف القلوب بالمال والجاه أحياناً ، حسب الحاجة ، فإن الداعية
كالطبيب .
(د) التأليف بالعفو في موضع الانتقام ، والإحسان مكان الإساءة ... وكل خطأ
بالخُلق المضاد له .
(هـ) عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره ، ما دام يجد في الموعظة العامة كفاية .
(و) إعطاء الوسائل صورة الغايات ، بتبيين ثمرات أفعال الخير العظيمة ،
مثل : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) [16] وبتوضيح آثار أعمال الشر ،
وذلك بسد الذرائع الموصلة إليها ، كتحريم مسبة آلهة المشركين إذا خشي سبهم لله -
تعالى .
(ز) أن يجيب على السؤال الخاص بجواب عام ؛ بحيث يتناول السائل
وغيره ، ليكون الجواب قاعدة عامة بنفع كل من سمعه . كنحو ما فعله النبي -صلى
الله عليه وسلم- مع عمرو بن العاص ، لما أراد أن يشترط أن يُغْفَرَ له قبل أن يُسلِمَ ، فقال له : (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... )[17].(1/437)
15- فقه أركان الدعوة إلى الله : وهي من البصيرة اللازمة ، وأركانها هي :
أ - موضوع الدعوة : (ما يدعو إليه الداعية) ، وهو دين الإسلام بخصائصه
العظيمة المميزة له عن سائر الأديان ، من شموله وعمومه ، ووسطيته ، وجلبه
للمصالح .
ب - الداعي من حيث :
* وظيفته ، وهي الدعوة ، والبلاغ ، بصورة فردية وجماعية .
* عدته وسلاحه من الفهم الدقيق ، والإيمان العميق ، والتعلق بالله في كل
حال .
* أخلاقه وصفاته التي لا تخفى .
ج - المدعو ، فالإسلام عام لكل البشرية ، وبين الناس تفاوت عظيم في
الأديان والأفكار والعقول والطباع والأحوال ... ، فلا بد من مراعاة كل ذلك ، ويبدأ
الطريق بإصلاح النفس ، ثم الأهل ، ثم المجتمع المسلم ، ثم غير المسلمين .
د- أساليب الدعوة ووسائل تبليغها :
وأساليبها هي :
1- تشخيص الداء في المدعوين ، وتحديد الدواء .
2- إزالة الشبهات التي تمنع من الإحساس بالخطأ ، ومعرفة الصواب .
3- الترغيب ، ثم الترهيب .
4- تعهد المستجيبين بالتربية والتعليم .
5- تقويم جميع هذه الأساليب على أسلوب الحكمة ، والموعظة الحسنة ،
والمجادلة بالتي هي أحسن ، واستخدام القوة مع المعاندين .
وأما وسائل الدعوة فعلى نوعين :
1- خارجية : كالحذر مع التوكل ، والاستعانة بالله على كل خير ، والالتزام
بكل نظام مشروع فيه ترتيب لحياة الداعية .
2- مباشرة : وهي بالقول بشتى صوره ، والعمل ، والسيرة الحسنة .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/349 ، ومسلم ، ح/136 وفيه أن الملك ملأ صدره بالحكمة بعد أن فرّغه
من غيرها .
(2) رواه البخاري ، ح/71 ، ومسلم ، ح/1037 .
(3) رواه مسلم ، ح/816 ، ومعنى (فسلطه على هلكته) أي : على إنفاقه في الطاعات .
(4) الحكمة ، العمر ، ص 13 .
(5) انظر : المصدر السابق ، ص 19 وما بعدها .
(6) الحكمة ، سعيد القحطاني ، ص 30 .
(7) انظر : الحكمة ، العمر ، ص 25 .(1/438)
(8) انظر : الأخلاق الإسلامية وأسسها ، عبد الرحمن الميداني ، 1/17 - 19 .
(9) انظر : الحكمة ، العمر ، ص 47 - 64 .
(10) رواه أبو داود ، ح/547 ، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي ، ح/511 .
(11) رواه البخاري موقوفاً مجزوماً به ، الفتح ، 10/546 .
(12) رواه البخاري ، ح/6133 .
(13) رواه البخاري ، ح/3887 .
(14) مسلم : كتاب البر والصلة والآداب ، حديث رقم (2594) .
(15) روا ه مسلم ، ح/2816 .
(16) رواه مسلم ، ح/1893 .
(17) رواه مسلم ، ح/121 .
تأصيلات دعوية
سلوك الحكمة طريق الانتصار
(2من2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
بعد ذكر أهمية الحكمة وضح الكاتب في الحلقة الماضية مفهومها ، ثم أبان
موانعها وأركانها وأسباب اكتسابها .. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان جوانب
أخرى للموضوع .
- البيان-
مواقف الحكمة :
أ - الحكمة في القرآن :
قصّ الله عز وجل علينا في كتابه قصصاً تمثلت فيها جوانب عظيمة من
الحكمة ، يظهر بعضها لكل قارئ ، ويظهر البعض الآخر بالتأمل العميق ، ومن تلك
القصص :
-قصة أصحاب الكهف : وقد تمثلت الحكمة في اهتدائهم إلى دين الله ، وترك
تقليد قومهم في الكفر ، وفي اعتزالهم لقومهم حين أيقنوا بعدم انتفاعهم بالنصح ،
وفي صمودهم على الحق في مواجهة الباطل ، وفي عزلتهم الثانية في الكهف وهي
عزلة سرية للتعبد ، وفي حنكتهم في قضاء حوائجهم من المدينة .
-قصة سليمان وملكة سبأ : وتظهر الحكمة في عناية سليمان عليه السلام
برعيته ، وتفقده لأحوالهم ، وعدم تعجّله بالحكم بغياب الهدهد ، ولما تيقن غيابه
تهدده بالعقوبة الشديدة إلا إذا أتاه بحجةٍ تبرئه ، وتبين سبب غيابه ؛ كما تظهر
الحكمة في تثبته من كلام الهدهد ، والتأكد من صدقه ، ثم في أسلوب رسالته ? إنَّهُ
مِن سُلَيْمَانَ وَإنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَاًتُونِي مُسْلِمِينَ ?(1/439)
[النمل : 30 ، 31] ، ثم تبدو حكمة المرأة في تعاملها مع الرسالة ، فتستشير قومها ، ولا تغتر بكلامهم وقوّتها ، بل ترسل بهدية تكشف لها حقيقة عدوها ، ولكن حكمة
سليمان أيضاً تمنعه من الاستدراج ، فيستخف بتلك الهدية ، وتبدو حكمته في إظهار
القوة في وقتها للحاجة إليها ، فيرسل إليها الرسالة الثانية المختلفة تماماً عن الأولى :
? أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ
إلَيْهِمْ فَلَنَاًتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ?
[النمل : 36 ، 37] وتظهر حكمتها ثانية في استجابتها المباشرة لدعوة سليمان ، وهو قرار يعجز عنه الرجال بسبب الهوى والتعصب والتقليد .
أما غاية الحكمة : فاعتراف سليمان بفضل ربه عليه ، ومجانبته للعُجب
والغرور ، فإنه لما تحقق له نعمة إسلامها قال : ? هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ
أَمْ أَكْفُرُ ... ? [النمل : 40] ، فما أحوج الدعاة إلى تأمل هذه القصة طويلاً .
- قصة لقمان وابنه : ومن مظاهر حكمته مما حكاه الله في سورة لقمان :
حسن أسلوبه في مخاطبته لابنه : ? يا بني ? ليبين أن مبعث الموعظة الشفقة ، كما
تظهر في جمعه في وعظه بين الأصول والفروع ، والأقوال والأفعال والاعتقاد ،
والأمر والنهي ، كل ذلك في عبارة قصيرة جميلة ، بعيدة عن التكلف ؛ فيخرج
الداعية من قصته العظيمة بدروس أهمها : حسن الأسلوب واختيار أحسن الكلمات
للوصول إلى قلب المدعوين ، والإيجاز والشمول ، والتركيز على الأصول من
التوحيد وغيره ، مع عدم الإخلال بالفروع ، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مهمة عظيمة ، يُخشى على صاحبها من المزالق ، ولا خلاص منها إلا
بالصبر ، والتواضع ، والتزام الوسطية في الأمور كلها .
ب - الحكمة النبوية :(1/440)
أما رسول الله ؛ فقد كانت الحكمة تجري على لسانه كالماء الزلال ، وأفعاله -
صلى الله عليه وسلم- كلها هي عين الحكمة ، ويكفي ذكر إشارات لبعضها ، لتنبئ
عن البعض الآخر ، ومن ذلك :
1- حكمته في تعامله مع أصحابه ، ومراعاته لأحوالهم ، وهذا أشهر من أن
يذكر له أمثلة .
2- إجابته للسائلين بإجابات يظهر أنها مختلفة متعارضة أحياناً بينما هي من
اختلاف التنوع ، لمراعاة حال السائلين ؛ لاختلاف قدراتهم وإمكاناتهم ، ولو أن
الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه من فروض الكفايات ، ويبتعد عما
لا يستطيع لحققت الأمة اكتفاء ذاتياً في أغلب مجالاتها .
3- موقفه من الشاب الذي جاء يستأذنه بالزنا ، فلم يعنفه ، بل ناقشه ، ثم دعا
له ، فانصرف بحال غير التي أتى بها .
4- موقفه يوم الحديبية حين رفض سهيل بن عمرو أن يكتب : (بسم الله
الرحمن الرحيم ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) ، وقال للكاتب : اكتب :
(باسمك اللهم ، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله) ، فلم يقف النبي -صلى الله
عليه وسلم- عند هذه المسألة ما دام في الصلح خير لمصلحة المسلمين ، رغم رفض
المسلمين لذلك .
ولا يعني هذا أن يكون التنازل في كل موقف ، كما يتوهمه بعض من غلب
على مواقفهم الانهزاميةُ ، ويحتجون بصلح الحديبية ، بل هناك أمور وقضايا لا
يُقبل التنازل فيها أبداً ؛ فقد رفض -صلى الله عليه وسلم- طلب وفد ثقيف أن يترك
لهم اللات شهراً واحداً ، وأبو بكر رفض إقرار المرتدين على ترك الزكاة ، وقاتلهم
عليها .
5- علاج مشكلة المنافقين : وقد اتسم علاجها بعدة سمات من أبرزها :
- طول صبره عليهم ، من الهجرة حتى قبيل وفاته .
- التفصيل في التحذير منهم وتكثيف الحديث في تلك القضية وفق نهج
القرآن ، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين وأهل الكتاب .
- الحرص على وحدة الصف ، مع عدم السكوت على الباطل ، وقد تحقق
الأمران .(1/441)
- سيره على هدي القرآن في التركيز على الصفات ، وعدم ذكر الأفراد ،
مما أدى إلى قتل المنافقين معنوياً ، دون قتل أحد منهم حسياً .
والدعوة اليوم بأمسّ الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر
الأول ، حيث يمكن من خلال ذلك معرفة وسائل كشفهم ، ورسم منهج شرعي في
مواجهتهم ، وشل فاعليتهم ، ثم القضاء عليهم دون إحداث فتنة داخل الصف المسلم ، ولا يتحقق ذلك إلا بالحكمة .
6- كما تتجلى حكمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواقف لا حصر لها ، من بداية دعوته في المرحلة السرية والجهرية ، وفي تعامله ومواقفه مع صناديد
قريش ، وفي خروجه للطائف ، وعودته منها ، وفي مواقفه بعد هجرته مما اتسم
بالإصلاح والتأسيس : من بناء المسجد ، والمؤاخاة ، والمعاهدة مع اليهود ، وفي
مواقفه في غزواته كلها ، وفي المواقف الفردية مع سائر الناس ... ويظهر كل ذلك
لمن تأمل سيرته .
ج - الحكمة في حياة سلف الأمة وخير القرون :
للصحابة رضي الله عنهم حكمة عظيمة ، ظهرت في اتباعهم للرسول صلى
الله عليه وسلم ، وخلافتهم له ، وكذا لتابعيهم وتابعي تابعيهم ومن ذلك :
- موقف أبي بكر رضي الله عنه عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، لما
أنكر عمر هذه الوفاة وكذلك بعض الصحابة ، واشتد الأمر عليهم ، فكان لحكمة أبي
بكر رضي الله عنه أعظم الأثر في تثبيت الناس على الإسلام ، وتوضيح الحق لهم
في ذلك .
كما ظهرت حكمته في إنفاذ جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي صلى الله عليه
وسلم قبل موته ، ورغم مخالفة الصحابة للصديق ، لشدة الأحوال ، امتثالاً لأمر
النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وبالرغم من صغر سن أسامة فقد رفض استبداله
بقائد آخر ، وسيّر الجيش كاملاً ، فلم يترك منه أحداً ، إلا أنه استأذن أسامة في إبقاء
عمر ؛ فأذن له .
- حكمة عمر في إظهار إسلامه ، مما كف شيئاً من الأذى عن المسلمين ،
ومكنهم من الصلاة في المسجد الحرام . كما كان من أعظم مواقفه الحكيمة : تثبيت(1/442)
الناس على بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، حتى اجتمعت كلمة المسلمين عليه .
- ولعثمان رضي الله عنه مواقف حكيمة في إنفاق الأموال الكثيرة ، ولا يُنسى
موقفه الحكيم في جمع الأمة على مصحف واحد ، حسماً للخلاف .
- ولا تخفى مواقف علي رضي الله عنه في الشجاعة الحكيمة في بدر
والخندق وخيبر وغيرها .
- ولمصعب بن عمير رضي الله عنه حكمة عظيمة في دعوته في المدينة ،
كما ظهرت في دعوته لسيدَي الأوس : أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ رضي الله
عنهما .
- وما أعظم وأحكم موقف الحسن رضي الله عنه لما تنازل عن الخلافة
لمعاوية رضي الله عنه حقناً لدماء المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، وما به علة ولا ذلة
ولا قلة ، فتحقق فيه قوله : (إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين
من المسلمين) [1] .
ولعامة الصحابة مواقف حكيمة أكثر من أن تذكر في مثل هذا المقام .
- وقد نصح سعيدُ بن المسيب الحجاجَ أن يحسن صلاته ، وأغلظ له بالقول ،
وشدد عليه ، فما زال يحسن صلاته ، فكانت الحكمة في هذا الموقف استخدام الشدة
مع هذا الشديد .
- وقد تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة فأصلح نفسه أولاً ، ثم أهله ثانياً ، ثم
أصلح أوضاع بني أمية ورد المظالم ثالثاً ، ثم أصلح أوضاع الولاة ، ووضع الجزية
عمن أسلم ، وأحيا في نفوس الناس خوف الله ومراقبته ، وفقّه الناس في دين الله ،
وأرسل الدعاة إلى الله لنشر الإسلام ... وكلها مواقف تنطق بالحكمة .
- ومن الحكمة أسلوب رد الإمام مالك على الرجل الذي سأله عن كيفية
الاستواء ، فأجابه بجواب كان قاعدة من قواعد أهل السنة ، ثم أخرجه من مجلسه
حسماً للبدعة .
- وموقف الإمام أحمد في محنة خلق القرآن ، وثباته على كلمة الحق ،
وتحمله الأذى في سبيلها خشية انطماس معالم الحق ، مما يُسجّل في المواقف
الحكيمة .
مظاهر أسلوب الحكمة :
تتعدد مظاهر الحكمة ؛ نظراً لكونها السداد في القول والفعل ، ويمكن ذكر(1/443)
شيء من مظاهرها فيما يتصل بالدعوة في الجوانب التالية [2] ؛ لتكون مرجعاً
للداعية يقيس بها حكمته في دعوته ، ويسدد طريقته :
أولاً : في جانب المناهج الدعوية : ومن ذلك :
أ - ترتيب الأولويات ، وتقديم الأهم على المهم ، كتقديم العقائد على غيرها
من العبادات والأخلاق ، وتقديم الفروض على النوافل ، والمصالح العامة على
الخاصة عند التعارض ، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، والتضحية
بالمصلحة الصغرى لكسب مصلحةٍ أكبر منها ... ويدل على هذا : الواقع العملي
للدعوة الإسلامية في عهدها الأول ، وأيضاً حديث معاذ عندما أرسله الرسول -
صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن ، وكيف علمه أن يبدأ بالإيمان ، ثم الصلاة ، ثم
الزكاة [3] .
ب - التدرج في تطبيق الأولويات ، ولا سيما في معالجة الأشخاص
والأوضاع العامة ، كما كان شأن تنزل القرآن ، وكما فعل عمر بن عبد العزيز في
خلافته .
ج - مناسبة المنهج الدعوي للأحوال والأعمار والمستويات ، فليس من
الحكمة المساواة بين حالة القوة والضعف ، وبين حالة السلام والحرب ، ولا بين
حالة عموم البلوى بالشيء وغيرها ، ولا بين الرجل والمرأة ، والصغير والكبير ...
ولنتأمل كيف ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هدم الكعبة ، وجعل لها بابين
خشية الفتنة ؛ لقرب عهد الناس بالإسلام [4] .
ثانياً : في جانب الأساليب : ومن الحكمة فيه :
أ - اختيار المنهج المناسب لتطبيقه في الموقف المناسب والحالة المناسبة ،
فما يصلح لمعالجة موقف لا يصلح لكل موقف ؛ فالأسلوب العاطفي للموقف العاطفي ، والحسي للتجريبي ، والعقلي للموقف الجدلي ... وهكذا تعامل النبي -صلى الله
عليه وسلم- مع الشاب الذي جاء يستأذن في الزنى ، حيث لمس منه ضعفاً ، وخيراً ، ولولا ذلك لزنى دون استئذان .
ب - اختيار الشكل المناسب من أشكال وأساليب المنهج المختار ، فما يقال
في الفرح غير ما يقال في الترح ، ومن غلب عليه الخوف استُخدم معه الترغيب ،(1/444)
ومن غلب عليه طول الأمل والاتكال على الرجاء استُخدم معه الترهيب ... ولذا
اختلف أسلوبه - مع الأعرابي الذي جاء سائلاً عن الفرائض فأجابه بها ، فلما قال :
هل عليّ غيرها ؟ قال : (لا ، إلا أن تَطّوّع) [5] ، اختلف أسلوبه في ذلك عن
أسلوبه مع الصحابة الفقراء الذين أحزنهم سبْق الأغنياء لهم بفعل الخير ، فزادهم
من سبل الخير ، حيث جاؤوا مستزيدين [6] .
ج - اعتماد التدرج في الاحتساب ، وهو : التعريف بالخير والشر ، ثم
الوعظ ، ثم التعنيف ، ثم استخدام اليد ، ثم التهديد ثم الضرب .
د - البحث عن الدوافع والأسباب لملاحظتها في أسلوب المعالجة ، فمعالجة
الجاهل تختلف عن معالجة العدو ، وأسلوب معالجة الضعيف المقصّر غير أسلوب
معالجة المعاند المتعصب . وهذا يقتضي مراعاة أمور منها :
1- حسن الظن بالمسلم ، والحذر من العدو .
2- إخفاء التشخيص في نفس الداعية ، والتخطيط للمعالجة ، دون المواجهة
به .
3- اختيار الأسلوب المناسب للمعالجة .
هـ - مراعاة اختلاف الظروف والأحوال الدعوية الفردية والجماعية .
ثالثاً : في جانب الوسائل الدعوية :
أ - في الوسائل المعنوية ، وهي الأخلاق الكريمة . وذلك من خلال :
1- اهتمام الداعية بها ، ومجاهدة النفس عليها .
2- اختيار الخُلُق المناسب للموقف المناسب ، قال تعالى : ? أَشِدَّاءُ عَلَى
الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ? [الفتح : 29] .
ب - في الوسائل المادية . وذلك من خلال :
1- استعمال الداعية كل وسيلة مباحة متيسرة متوفرة في عصره ، أياً كان
مصدرها وصانعها .
2- اجتناب كل وسيلة محرمة أو مكروهة ؛ لأن الغاية الحميدة لا تسوّغ كل
وسيلة ، فيقتصر على المباح .
3- تصفية الوسائل التي اختلط فيها الحلال بالحرام ؛ بتجريدها من الحرام ،
كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وسيلة (النذير العريان) حيث قال : (أنا
النذير العريان) [7] معبراً عن خطر الأمر الذي جاء به ، ولكنه لم يتجرد من ثيابه(1/445)
كما يفعل النذير من المشركين .
4- الترخص باستعمال الوسيلة المختلف في حكمها في حالة الضرورة أو
الحاجة الملحة ، والتورّع عن استخدامها حال الرخاء .
5- الترقي بالوسيلة الدعوية ، لتكون مكافئة للدعوة ، ومتفوقة على وسائل
العدو .
أمور يتعاظم فيها مراعاة الحكمة :
هي أمور يتساهل فيها الكثير مع أنها أوْلى من غيرها في التزام الحكمة ؛
لأهميتها ، ولما يترتب على ترك الحكمة فيها من آثار سلبية ، ومن تلك الأمور :
1- معاملة الوالدين والأولاد والزوجة والأهل والأرحام .
2- التعامل مع المجتمع ، المشتمل على التناقضات .
3- الموقف من أهل البدع ؛ فالناس فيهم بين غالٍ فيهم ، يبالغ في إحسان
الظن بهم ، وبين جافٍ ينكر حسناتهم .
4- إنكار المنكرات .
5- إشاعة بعض الأخبار والمفاهيم . ولقلة الموفقين للحكمة أمر الله برد هذه
الأخبار المشكلة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حياته ثم العاملين بسنته ،
ليعرفوا حقيقتها ، وأهدافها ، وكيفية التعامل معها .
6- النقد وبيان الأخطاء : فطائفة همهم تصيّد الأخطاء ، وآخرون اعتبروا
النصيحة فضيحة .
وختاماً :
فلا شك في أن حاجة الأمة للحكمة والرأي السديد أشد من حاجتها إلى القوة
الاقتصادية أو العسكرية ؛ لأن فَقْدَ الحكمة يضيّع القوة الموجودة ، فكيف يجلب قوةً
مفقودة ؟ !
وإذا صعب وجود الحكمة في شخص فإن وجودها في أفراد يكمل بعضهم
بعضاً أسهل وأيسر ، وهو أمر يحتم التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله ، والاحتكام إلى كتابه وسنة رسوله .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/2704 .
(2) انظر : المدخل إلى علم الدعوة ، محمد أبو الفتح البيانوني ، ص 247- 256 .
(3) متفق عليه ، البخاري ، ح/1458 .
(4) متفق عليه ، البخاري ، ح/126 .
(5) البخاري ، ح/2678 .
(6) الحديث الدال على ذلك في مسلم ، ح/1006 .
(7) رواه البخاري ، ح/6482 ، 7283 .
دراسات تربوية
صفات المربي دراسة تحليلية
(1-2)(1/446)
أحمد فهمي
إن تأمُّل تاريخ الدعوة يخبرنا أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب
طريقاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم .
وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين - من الناحية العملية - : منهج
واضح شامل (يمثل الشق النظري) ، ومربٍ كفء (يمثل الشق العملي) ، وأن
جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين
الركنين ، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصف
قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها ، بل لا نبالغ إذا قلنا : إنه النصف
الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق .
فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي . وبادئ ذي
بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه
الصفات ، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل .
1 - العوامل المؤثرة على المتربي :
وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في
مختلف جوانبه .
أهم هذه العوامل : المجتمع الذي يعيش فيه ، ويخضع لقواعده ونظمه ،
وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده ، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام ، وكل ذلك
يحتوي - غالباً - على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل
نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه .
وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل : الحالة الأسرية ، والاقتصادية ،
والثقافية ، والعلاقات الاجتماعية والشخصية .
وأيضاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة
والدعوة ؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه .
وهذه العوامل - مع اختلافها - يجمعها : أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم
بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد ؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب ، لوجدنا
أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة .(1/447)
وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد ،
ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح ، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن
الاختلال والعشوائية .
ولهذا نقول : إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربياً ؛ فللمربي صفات تتناسب
مع الدور الذي يقوم به .
2 - المربي والداعية والقائد :
يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة ، ومن ثَمَّ يخلطون بين
الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها . ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن
مبدأ ( كُلُّه خيرٌ ) ، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير
في الأوساط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار .
فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة ، ينبغي أن تلزمه صفات
ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل : الإخلاص ، والعلم ، والحكمة ،
ونحوها ، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر
مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل ، وهذه المستويات والصفات
الإضافية هي موضوعنا لا غير .
ونستطيع أن نقول : إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وعملهم نحو تحقيق
الأهداف الموضوعة ، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على
تحقيق تلك الأهداف ، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار
واحد .
ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج
انتقائه من بين الصحابة لأدوار تربوية أو قيادية ، فهو صلى الله عليه وسلم قد
رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية ، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى
الإسلام ما استطاع ، ثم كان ينتقي أشخاصاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول
- مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة ، واختياره معاذ بن جبل
وإرساله إلى اليمن ، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه ، ونعرف
أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما .(1/448)
فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً ،
مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - لقيادة
بعض السرايا ، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما .
3 - المربي بين التساهل والمبالغة :
هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية :
الأول : يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي ، ولزوم تحققها
فيه بمستويات عالية ، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي ؛ بحيث ينتهي
الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى أنه يكاد ألاَّ يكون هناك تربية ولا
مربون ، وإنما هو العبث وسد الخانات ، ثم تبقى هذه المواصفات المثالية طي
الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة .
الثاني : يقوم على التساهل في صفات المربي ؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل
أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة ، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات
الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى .
وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي .
فالاتجاه الأول يتجاهل أن ( المثاليات تتفرق في نفوس شتى ، ولا تجتمع في
نفس واحدة كل المثاليات ) [1] ، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و ( إنما
الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ) [2] كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له ، وإعاقة لجهود الارتقاء به ، ومدعاة لكل
من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل ، وهذا ما حذرنا منه
عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله - إذ لما استَعْمَل على الجزيرة
وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران - رحمه الله - صعب على ميمون أن
يحاكي الوضع المثالي هناك ، فكتب إلى عمر يستعفيه : كلفتني ما لا أطيق . فكتب
إليه عمر : اجْبِ من الخراج الطيب ، واقضِ بما استبان لك ، فإذا التبس عليك أمر(1/449)
فادفعه إليَّ ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا [3] .
ولذلك ؛ فمهمة الصورة المثالية إذن : العلاج من الانحرافات على ضوئها ،
وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولاً ، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل
انتكاس ، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال [4] .
أما الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار : ( الجُود بالموجود ) فيفوته أن اعتبار
احتياجات العمل الدعوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في
التصور يتبعه خلل في العمل ؛ إذ إن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية
مهلكة لهم ، فوق أنها مضيعة للعمل .
وهنا يأتي السؤال : إذا كان النموذج المثالي استرشادياً ، والنموذج الواقعي
المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به ، فماذا نفعل ؟
والجواب : أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران :
الأول : صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً .
الثاني : أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف
الظروف والبيئة الدعوية - يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي ، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي ، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج
الانفتاحي وبين النموذج المعتدل .
وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر ، كما قرر
الإمام مالك - رحمه الله - : ( لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من
كان أعلم منه ) [5] ، ثم يأتي بعده التفاعل والارتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب
الخبرة والتمرس في العمل التربوي .
والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي : وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد
على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على
ذكر فضل الصفات وأهميتها ، نتجاوز ذلك إلى تحديدٍ أدق لمعنى تلك الصفات(1/450)
تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي .
الصفات الأساسية للمربي : وهذه الصفات المختارة - والتي هي من
مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي - يمكن تقسيمها وترتيبها - وفق ابتداء
تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات :
الأولى : مقومات البدء والانطلاق ، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى
القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني) .
الثانية : مقومات الإتقان ، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع
مستوى الأداء التربوي) .
الثالثة : مقومات الاستمرار ، (الصبر على .... و ....... و ...... ) .
أولاً : مقومات البدء والانطلاق :
الصفة الأولى : العلم : ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ
واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما
نقصده من وصف المربي بالعلم ، وهي :
1 - المنهجية في تحصيل العلم : وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له
بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه ، إلا أنه ينبغي أن يحرص على
تعويض ذلك بأمرين :
الأول : الشمول والتوازن في طلب العلم : وذلك بأن يحرص أن يكون له في
كل مجال طلب ، وفي كل علم قدم ، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله
التربوي ، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة ، أو أن يتعمق في
مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى ، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما
يُحصِّل بما يعمل .
الثاني : الضبط العلمي : ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال
لقائليها أو مواضعها أو مظانها ، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف ،
وإتقان لفظ النص ، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك ، وقبيح بالمربي أن تكثر
على لسانه عبارات مثل : أظن أن قائله فلان ، أو أظنه صحيحاً ، أو ما معناه ،
ونحوه .. فإنه إن كان ( نصف العلم : لا أدري ) ، ف ( نصف الجهل : يُقال ،
وأظن ) [6] .(1/451)
واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم
نسبياً ، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير
القراءات متشعب الاهتمامات العلمية .
وقد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً ،
فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة : الإملاء ،
العرض ، المقابلة ، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون .
كما أن عدم الضبط يعني كثرة الخطأ ، أي : تلقين المتربين معلومات أو
أفكاراً خاطئة يحملونها ، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة ؛ بل قد
ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عليه مما يعني توارث الأخطاء . أسند الخطيب عن
الرحبي قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إذا كتب لحَّان ، فكتب عن اللحَّان لحَّان
آخر ، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر ، صار الحديث بالفارسية [7] .
2 - التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان ، وبين تحصيله لتبليغه
وتربية الناس عليه : فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط
الاختلافات ، ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها
الألفاظ وتدعو إليها ؛ بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات
والإشراقات ، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانية من اتباع طريقة السلف في حفظ
العلم عن طريق العمل به ؛ فذلك مما يفتح على طالبه باباً عظيماً من فوائد العلم
وإشراقاته إن عَلم فعمل ؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون : ( كنا نستعين
على حفظ الحديث بالعمل به ) [8] .
3 - التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي .
فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم ، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في
المراجعة والطلب ، فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب . قال سعيد بن جبير : ( لا(1/452)
يزال الرجل عالماً ما تعلَّم ، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو
أجهل ما يكون ) [9] .
والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمرار التعلم يغفل عن أن عمله
ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه ؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي
يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه ؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن
مهدي : ( إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار : إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق ) [10] .
فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم ، ثم يصل بعدها إلى مرحلة
التحضير بالقطعة أو بالطلب ، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار ، وقد يشعر المتربي
بأن مربيه قد فرغ جرابه ، مع ما في ذلك من أثر سيئ .
وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم
ومذاكرتهم العلم ، وبين تعليمهم إياه ، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه
الله - : ( كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته ،
سأله وتعلم منه ، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له ، وإذا لقي من
هو مثله في العلم ، ذاكره ودارسه ) [11] .
4 - وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه :
قال عمر - رضي الله عنه - : تعلموا العلم ، وتعلموا له السكينة
والوقار [12] .
فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به ، مما يوفر
على المربي جهداً كبيراً ، ويُقرِّب له التوفيق من عمله . قال أحمد بن سنان : ( كان
عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه ، ولا يُبْرى قلم ، ولا يقوم أحد كأنما
على رؤوسهم الطير ، أو كأنهم في صلاة ، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس
نعليه ودخل ) [13] فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه
الحال ؟ !
وفي المقابل : حين دخل - رحمه الله - على الوليد بن يزيد - وهو خليفة -(1/453)
فقال له الوليد : يا ربيعة ! حدثنا ! قال : ما أحدِّثُ شيئاً . فلما خرج من عنده قال :
ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية : حدثنا يا
ربيعة ! [14] .
الصفة الثانية : حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة :
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الهَدْي الصالح ،
والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة ) [15] .
فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به
ويحاكي بعض صفات النبوة ، وكفى بذلك شرفاً .
والسمت والهَدْي متقاربا المعنى ؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل
الخير [16] ، والهدي هو الطريقة أو السيرة [17] ، وهدي الرجل سيرته العامة والخاصة وحاله وأخلاقه [18] .
فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة
وحركات وسكنات ونحوه ، ولا يتسع المجال - بالطبع - لاستعراض تفاصيل ذلك ، ولكن لكل علم مظانه [19] .
والمراد : أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب ؛
إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم ، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به [20] ، وإذا كان
مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالاً كبيراً لتبادل الطباع والأخلاق ؛ إذ الطبع لص
- كما يقولون - يسرق من غيره ؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر
الاحترام والاعتراف بالفضل .
ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن
مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن
يُمسك في إحدى يديه قلماً ، وفي الأخرى ممحاة ، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته
يسراه ، ( ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على
أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد ) [21] .
ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير التربوي نقول : إن الخطاب التربوي
يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور :(1/454)
الأول : الكلام النظري ونعني به : بيان الأمر مع الثواب أو العقاب .
الثاني : حكاية الفعل ونعني به : ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً
أو تاريخياً .
الثالث : رؤية الفعل (عمل المربي) ونعني به : التنفيذ العملي الذاتي لما سبق
فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً .
ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل ،
لوجدنا أن ثالثتها ( رؤية الفعل ) أشد أثراً وأبقى .
فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام ؛ ولكنه استعداد مؤقت في
الغالب ، ولذلك يلزمه التكرار . وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن
أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي .
وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر ، ولا تتركها تهبط إلى
القاع وتسكن بلا حراك ، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل .
وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك :
في صلح الحديبية : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب
(يعني الصلح) قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، فلم يقم منهم رجل ، حتى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات ، فلم يقم أحد ، فدخل على أم
سلمة - رضي الله عنها - فأخبرها الخبر ، فقالت له : اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم
كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ ، وتدعو حالقك فيحلقك . فخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك ، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا
فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً [22] .
نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم
يترجم إلى عمل ، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ ؛
فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها
وأثره ، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية ، وبدونها(1/455)
يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان .
ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة :
1 - توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير
مباشر - بالمحاكاة والتقليد .
عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال : قال لي أبي : الزم عبد الملك بن أبجر
فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام ؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه [23] .
2 - تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول
إليها ، وبذل الجهد في ذلك ؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صارت
لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها ؛ فهذا عبد الله ابن عون - رحمه الله -
من أعلام السلف ، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته . عن معاذ قال :
حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال : إني لأعرف رجلاً منذ
عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون ، فما يقدر عليه [24] ، وورد
مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون .
3 - يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً ،
فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله ، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية
راشدة .
قال يونس بن عبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله
ولم يسمع كلامه [25] .
4 - اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله ، كان أبو
العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها ، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة ، وكان
الناس يسمعون كلامه . قال الحاكم : سمعت أبي يقول : لما ورد الزعفراني وأظهر
خلق القرآن سمعت السرّاج يقول : العنوا الزعفراني ، فيضجُّ الناس بلعنه ، فنزح
إلى بُخارى [26] .
ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا
ذهب إلى شيخه تصدق بشيء ، وقال : اللهم استر عيب شيخي عني ، ولا تُذهب(1/456)
بركة علمه مني [27] .
كيف يُكتسب السمت الحسن ؟
هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها :
1- إصلاح الباطن : فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن ، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت
فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) [28] .
2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات : وقد كان السلف - رحمهم الله
- منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره ، ويعتبر أنه رابح لا خاسر . قال
الحسن رحمه الله : إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين [29] ،
ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ
من علمه [30] .
3 - الاطلاع على حكايات العلماء : قال أبو حنيفة : الحكايات عن العلماء
أحب إليَّ من كثير من الفقه ؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم [31] .
4 - لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه : فإن معاشرة هؤلاء
ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم .
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه
مع أهل العلم [32] .
وقال عبدوس : رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك ، فأنا أستحييه إلى
اليوم [33] .
5 - التنفيذ الفوري لما يتعلمه : عن الحسن أنه قال : قد كان الرجل يطلب
العلم ، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه ، وهديه ، ولسانه وبصره ، وبره [34] .
6 - مجاهدة النفس وتعويدها على الخير : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر
يوقه ) [35] .
وكان عبد الله بن مسعود يقول : تعوَّدوا الخير ، فإنما الخير عادة .
7 - معاقبة النفس والشدة عليها : قال الجيلاني : لا تهربوا من خشونة كلامي ، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا
يفلح [36] .
وقال ابن وهب : نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً ، فأجهدني ،(1/457)
فكنت أغتاب وأصوم ، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم ؛ فمِنْ حُبِّ
الدراهم تركت الغيبة [37] .
الصفة الثالثة : الثقافة والتجربة :
وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربوي ، أو ما له تعلق غير مباشر به ،
ونبدأ بالثاني ، ونقصد به أمرين :
الأول : الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم
وصفاتهم .
ومصادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة ، يمكن استقاؤها من الأفراد
مباشرة ، كلٌّ بحسب حاله من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر ، أو توجيه
السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جمع المعلومات الشفوية ، وأيضاً يمكن استقاؤها
من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضوعات ، وفي الجلوس مع الكبراء
في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك ؛ قال المناوي : المجربون للأمور المحافظون
على تكثير الأجور ، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم [38] .
وعن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال : كان يقال : جالس الكبراءَ ،
وخالِلِ العلماءَ ، وخالِطِ الحكماء [39] .
وأيضاً يمكن استمداد هذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ
القريب أو البعيد ؛ فإنه كما قال السخاوي : ( من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب
الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه ، فيغزر عقله ، ويصير مجرباً غير غر
ولا غمر ) [40] .
الثاني : الثقافة العامة ، بمعنى : الاطلاع السريع على العلوم الأساسية
الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها .
ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية :
1- معرفة سبل الخير وسبل الشر ، وكيف يُسلك كلٌ منها ؟ يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول : (وهذه حال المؤمن : يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه ، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس ، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس ) [41] .(1/458)
2 - توسيع المدارك وتعميق الأفهام وتنشيط العقول : فهذه الثقافات من شأنها
أن تنمي قدرة المربي على التفكير ، وعلى القياس المستقيم ، وربط الأسباب
بمسبباتها ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على
مختلف العلوم كلاماً نفيساً : ( ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم
الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم ؛ فيكون في ذلك تصحيح
الذهن والإدراك ) [42] .
3 - زيادة قدرة المربي على التحدث والحوار الثنائي أو الجماعي ؛ فالمربي
يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يحتاج إلى التواصل معها بكفاءة ،
والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم ليس فيه إلا محطة
واحدة : إما أن تسمعها أو تغلقه ، بينما المربي متنوع الثقافات : متعدد الموجات ؛
فاحتمال غلقه غير وارد .
4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ؛ انطلاقاً من
فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم
وتصرفاتهم .
أما النوع الثاني : - وهي الثقافة والتجربة التربوية - فلا غنى عنها للمربي ؛
فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف منهج التربية وما يتضمنه
من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه ، وهو يتعرف
على ذلك بوصفه إما كلاماً نظرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ ، وإما وصفاً أو
نقداً للمحاولات التطبيقية : ظروفها ونتائجها .
ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين :
الأول : الكتب (المصادر المقروءة) : وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ
والمفاهيم التربوية ، وكذا التجارب والخبرات التربوية . وهنا وقفة وهي : أنه قد
يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب
العديد من الدعوات والدعاة ، وهذا أمر غير مستقيم ؛ فالحكمة ضالة المؤمن ، ومن(1/459)
العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تلك التجارب ؛
خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة ، بل كلا الأمرين وارد ، ومفيد
أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - : سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا
استفاد منه شيئاً [43] .
الثاني : السماع والممارسة : والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من
تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه ، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى
المربين .
والممارسة تعني : أن ينتفع المربي من تجربته الذاتية في العمل التربوي ،
فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُستجد من أعماله اللاحقة ، وكما قيل :
من التوفيق حفظ التجربة .
الصفة الرابعة : العمق الإيماني :
ونعني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه
وقربه من الله - عز وجل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله ،
والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة
مستقرة ، بينما الماء الضحل لا يسلك فيه مركب صغير فضلاً عن كبارها ، وقد
كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب
إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب السامعين . قال الحسن وقد سمع
متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ لها - : يا هذا ! إن بقلبك لشراً أو
بقلبي [44] .
فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام ، أو بالتكلف والتحلي الزائف ، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه -
سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد ، وإن ابتعد عن ربه
بعدت عنه القلوب .
ومن أروع المشاهد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على
التربية ، ذلك المشهد الذي رسمه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -(1/460)
يقول : وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه ؛ فما
هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً
وطمأنينة [45] .
________________________
(1) دراسات في النفس الإنسانية ، محمد قطب ، ص379 .
(2) البخاري ، ح/6498 ، ومسلم ، ح/2547 .
(3) البداية والنهاية لابن كثير ، ج/9/317 .
(4) دراسات في النفس الإنسانية ، ص382 .
(5) حلية الأولياء ، ج/6/316 .
(6) حلية طالب العلم ، بكر أبو زيد ، ص45 .
(7) المصدر السابق ، ص59 .
(8) اقتضاء العلم العمل ، ص90 .
(9) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ، ص28 .
(10) النظم التعليمية عند المحدثين ، المكي أقلانية ، ص93 .
(11) المصدر السابق ، ص82 .
(12) التذكرة ، ص16 .
(13) سير أعلام النبلاء ، ج9 ، ص201 .
(14) الجامع لآداب الراوي والسامع ، الخطيب البغدادي ، ج/1/336 .
(15) صحيح الأدب المفرد ، ص294 .
(16) القاموس المحيط ، ص197 .
(17) المصدر السابق ، ص1734 .
(18) الإعلام ، ص139 .
(19) يمكن أن يراجع في ذلك كتب كثيرة مثل : (مختصر منهاج القاصدين ربع العبادات ، تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ، ورسالة تقرير ميداني ، لمحمد الراشد) .
(20) القاموس المحيط ، ص1706 .
(21) فضائح الفتن ، ص5 .
(22) تفسير ابن كثير ، ج4 ، ص198 .
(23) العقلاء لابن أبي الدنيا رقم 742 .
(24) سير أعلام النبلاء ، ج6 ، ص366 .
(25) رسالة للمحاسبي ، ص : 60 .
(26) سير أعلام النبلاء ، ج14 ، ص394 .
(27) لباب الآداب ، ص : 227 .
(28) البخاري ، ح/520 ، ومسلم ، ح/1599 .
(29) الأعلام ، ص143 .
(30) سير أعلام النبلاء ، ج 14 ، ص35 .
(31) التذكرة ، ص50 .
(32) حلية الأولياء ، ج14 ، ص35 .
(33) الإعلام ، ص206 .
(34) شعب الإيمان للبيهقي ، ج2/291 .
(35) حسن صحيح الجامع للألباني ، ص461 ، ج1 .
(36) الفتح الرباني ، ص22 .
(37) سير أعلام النبلاء ، ج/9/228 .(1/461)
(38) فيض القدير للمناوي ، ج/3/220 .
(39) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، ج/1/126 .
(40) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ السخاوي .
(41) مفتاح دار السعادة ، ج/1/295 .
(42) الفتاوي ، ج9/128 .
(43) صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل ، عبد الفتاح أبو غدة ، ص1 .
(44) البيان والتبيين للجاحظ ، ص59 .
(45) الوابل الصيب ، ص 45 .
دراسات تربوية
صفات المربي .. دراسة تحليلية
أحمد فهمي
في الحلقة الأولى تعرض الكاتب للعوامل المؤثرة على المتربي من أسرة
ومجتمع ومتعلقاتهما الاقتصادية والثقافية ، ويرى أن تأثير ذلك كله على المتربي
تأثيرٌ عشوائي ، ومن ثم يبقى دور المربي فعالاً وسط هذه العوامل إذا ما اتصف
بمقومات أساسية قسمها الكاتب إلى : مقومات البدء والانطلاق ، مقومات الإتقان ،
مقومات الاستمرار ، وقد أفاض في الحلقة الأولى في معالجة المقوم الأول (البدء
والانطلاق) ، ويبسط القول من خلال هذه الحلقة في المقومين الآخرين : (الإتقان
والاستمرار) .
البيان
ثانياً : مقومات الإتقان :
وهي مجموعة القدرات النفسية والعملية الأساسية التي تساعد المربي - عند
اكتسابها - على رفع مستوى الأداء التربوي .
وهذه القدرات المختارة هي قدرات جامعة للعديد من المهارات والأنماط
السلوكية التربوية التي تندرج تحتها وتشكل في مجموعها - وبتفاصيلها - الجهد
التربوي للمربي في حالة الرشد .
القدرة الأولى : فهم الشخصية وتحليلها :
وما نحتاجه هنا مما يتعلق بهذه القدرة الإجابة عن سؤالين هامين :
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي ؟ (الدواعي) .
ب - كيف نفهم شخصية المتربي ؟ (وسائل جمع المعلومات) .
أ - لماذا (ومتى) نحتاج إلى فهم شخصية المتربي ؟ (الدواعي) . وللإجابة
نقول :
1 - للانتقاء : وهذا أمر لا عوج فيه ؛ فإن الطاقات محدودة ، فمن ثَمَّ ينبغي
اختيار من يصلح لإعطائه مزيداً من الجهد والتركيز ، وقد كان هذا ديدن سلفنا في(1/462)
اختيار تلاميذهم ومن يحيطون برعايتهم وعنايتهم . يقول الحافظ ابن جماعة : " كان
علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به
في حياتهم ومن بعدهم " [1] .
2 - لتحديد الميول والإمكانات ، ومن ثم ما يصلح له من العمل ، والناس
متفاوتون في ذلك تفاوتاً قدرياً من عند الله ، وهناك عناصر ثلاثة يتحدد على ضوئها
ما يصلح له المتربي من العمل ، فبالإضافة إلى الميول والإمكانات هناك احتياجات
العمل الدعوي ؛ والذي يحدث في كثير من الأحيان أن مسار المتربي - في ميدان
العمل الإسلامي - يتحدد وفق العنصر الأخير ، والصحيح اعتبار الجميع .
3 - لتحديد مستوى أمثل للتعامل يراعي النفسيات والمشاعر والفروق الفردية
(القدرات العقلية) :
إن توحيد أسلوب التعامل مع كل الشخصيات أمر غير صواب ؛ إذ إنه
يفترِض التماثل في النفسيات والعقول وهذا غير متحقق ، بل النفس الواحدة متغيرة ، كما أن العقول أيضاً متفاوتة ، والمربي الذي يتعامل مع مجموعة من المتربين
ينبغي عليه أن يراعي ذلك في تعامله معهم ، وأول خطوة في هذا الاتجاه : فهم هذه
النفوس والعقول وتحليلها ، ثم بعدها يحدد أسلوب التعامل مع كلٍّ .
4 - لمعرفة التغير في مستوى المتربي التربوي وتقويمه من فترة لأخرى ؛
وذلك للتأكد من أن العمل التربوي يحقق أهدافه ؛ على أن يتم ذلك وفق معايير
موضوعية تقاس عليها المعلومات المتحصلة من تحليل شخصية المتربي ورصدها
ومتابعة تطورها ، مع ملاحظة عدم الاقتصار على جوانب محدودة مثل : الجانب
العلمي ، الجانب الفكري ، والغفلة عن بقية الجوانب مثل : المستوى الإيماني ،
والأخلاقي ، والحركي .
ب - كيف نفهم شخصية المتربي ؟ (وسائل جمع المعلومات) :
هناك وسائل كثيرة لذلك نذكر أهمها :
1 - السؤال والتحري : لمن يعرفه أو يعلم حاله ؛ فذلك يوفر وقتاً وجهداً
كبيرين على المربي ؛ خاصة لو كان خلفاً لسلف له من المربين عملوا مع(1/463)
الأشخاص أنفسهم ؛ فهنا يتحتم عليه سؤالهم وإلا فهي الفوضى .
وكان من علماء السلف من يتحرى عن تلامذته ليتحقق من حالهم ؛ فعن
معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي أنه قال : كان زائدة لا يُحدِّث أحداً حتى يمتحنه ؛ فإن كان غريباً قال له : من أين أنت ؟ فإن كان من أهل البلد قال : لا تعودن إلى
هذا المجلس ، فإن بلغه عنه خيراً أدناه وحدثه .
2 - الكلام والحوار : فاللسان يعبر عن صاحبه ويبين حاله ، ومهما تحفظ
الرجل أظهر لسانه حاله ولو بعد حين ؛ إذ اللسان يغرف من القلب ، وما أسرَّ أحد
سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه وفلتات لسانه ؛ فهو بحق ترجمان العقل
والنفس .
وكان بعض الفلاسفة يسأل تلامذته ويستنطقهم ويشجعهم على السؤال ، فرأى
يوماً أحد تلامذته صامتاً ، فقال له : تكلم حتى أراك .
3 - الاختبارات : وغالب استخدام هذا الأسلوب للتحقق من مستوى الجوانب
المعلوماتية ، ولكن يمكن تفعيله في جوانب أخرى عملية أو نفسية باستخدام صور
متطورة منه مثل الاختبارات النفسية - وذلك حسب الظروف - التي من الممكن
إجراؤها في قوالب غير مباشرة : كالمسابقات ، والمباريات الثقافية .
ويرسِّخ ابن جماعة أهمية الاختبار فيقول : " إن الشيخ ينبغي له إن جَهِل حال
تلميذه أن يختبره بكتاب سهل من الفن المطلوب ، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيداً
نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه " [2] .
4 - المواقف المفتعلة ومعرفة رد الفعل : وقد يكون ذلك بتتبع ردود أفعاله في
مواقف سابقة من النوعية التي تظهر مكنونات النفس وجوانب القوة والضعف في
الشخصية ، وقد يكون أيضاً بمحاولة الافتعال لبعض المواقف التي تظهر هذه الخبايا .
قال ابن الجوزي : " حدثنا محمد بن إسحاق قال : قال لقمان لابنه : يا بني !
إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك ، فإن أنصفك عند غضبه وإلا
فاحذره " [3] .
5 - الاحتكاك والمعاشرة : وبهما تتضح جوانب من الشخصية يصعب أن(1/464)
تتضح بغيرهما ، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً : في كل خلاف بين زوجين لو سألت
أحدهما لقال لك - غالباً - : إنه قد اكتشف في شريكه عيوباً لم يكن يعلمها من قبل ، ولو علمها ما اقترن به ، فلو قارنت بين ذلك وبين حالهما في بداية الزواج لوجدت
أنهما لم يتزوجا بداية إلا وقد اقتنع كل منهما بالآخر ورضي به بعد سؤال وتمحيص ، فما الذي طرأ ؟ إنها معرفة الاحتكاك والمعاشرة .
6 - الفراسة : ونعني بها أن يدرب المربي نفسه على معرفة خبايا النفوس
ومشاعرها من خلال قسمات الوجه والسمت العام .
قال عثمان بن إبراهيم الجمحي وهو من فضلاء التابعين - : " إني أعرف في
العين إذا أنكرت ، وإذا عرفت ، وإذا هي لم تعرف ولم تنكر : إذا عرفت تَحُوص
- أي تضيق - وتعود لطبيعتها لارتياحها بالفهم بعد تحملقها للإنكار والاستفهام -
وإذا أنكرت تجحظ - أي تبرز وتقسو ، وإذا لم تعرف ولم تنكر تسجو - أي
تسكن - " [4] .
وجلس بعض العلماء يحرر يوماً في مشكلة ، والطلبة به محدقون ، فقال لهم :
فهمتم ؟ قالوا : نعم ، قال : لا ، لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم [5] .
القدرة الثانية : الإقناع :
والإقناع لغة : الإرضاء [6] ، وفي العرف يراد به : نقل حالة القبول أو
الرفض لأمر ما من شخص لآخر ، ويكون بالكلام أو الفعل ، والأول أغلب .
والمربي يحتاج هذه القدرة إلى درجة كبيرة ؛ فهو يحتاج دوماً إلى تعديل
وتغيير قناعات المتربين .
وهذه بعض وسائل الإقناع :
1 - استحضار الأفكار وترتيبها : فالقول دون تفكير سمة الجهال والفوضويين
. قال المنصور لبعض ولده : " خذ عني اثنتين : لا تقل من غير تفكير ، ولا تعمل
من غير تدبير . وينبغي في هذه الخطوة تجنب التفكير الأحادي الذي يجعل
المتحاور سجين فكرة واحدة دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى " [7] .
2 - حسن العرض للحجة : فالعبرة ليست بحشد الكلمات والألفاظ وسكب
الأفكار في ذهن المتربي .(1/465)
3 - نقض الدوافع أو إثارتها : وهناك فرق بين محاولة إقناع المتربي باعتبار
ظاهر فعله وكلامه وبين إقناعه بالنظر إلى دوافعه ؛ فالتعامل معه في الثانية أشد
أثراً وعمقاً ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ؛ ففي محاورته
مع الشاب الذي جاء يطلب الإذن بالزنا مثال عملي على ذلك .
4 - الجواب الحاضر المفحم : فهو يغني عن كثير الكلام في أحيان عديدة .
5 - التدرج : وهو قاعدة هامة تندرج في معظم وسائل التربية ، بل هو أصل
من الأصول الهامة ، وبعض المربين تأخذه الحماسة فيريد أن ينقل للمتربي كل
قناعاته العلمية أو النظرية التي تكونت لديه على مَر الزمن دفعة واحدة ، فلا يجادل
ولا يناقش ، وهذا بالطبع أمر مُتعسر ، ولو كان ذلك كذلك لكان أوْلى به الصحابة -
رضوان الله عليهم - أفضل هذه الأمة ؛ فعلى الرغم من فضلهم وإيمانهم فقد نزلت
عليهم الأحكام مُنجَّمة ؛ بل أحياناً كان الأمر الواحد يُحرَّم عليهم بالتدريج - كما في
الخمر - فما الظن بغيرهم ممن لا يبلغ عشر معشارهم في فضل ولا علم ؟
6 - نقض الأفكار المضادة : افتخر أحد خلفاء بني أمية يوماً بقريش فقال : "
إن الله حبا قريشاً بثلاث : فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ? وأنذر عشيرتك
الأقربين ? [الشعراء : 214] ونحن عشيرته الأقربون ، وقال - تعالى - : ? وإنه
لذكر لك ولقومك ? [الزخرف : 44] ونحن قومه ، وقال : ? لإيلاف قريش .
إيلافهم ? [ قريش : 1 ، 2] ونحن قريش . فأجابه رجل من الأنصار ، فقال : على
رِسْلِكَ ؛ فإن الله تعالى يقول : ? وكذب به قومك وهو الحق ? [الأنعام : 66] وأنتم
قومه ، وقال : ? ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ? [الزخرف :
57] وأنتم قومه ، وقال - تعالى - : ? وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا ? الفرقان : 30] وأنتم قومه ، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك " [8] .
7 - إتقان الصمت والاستماع : فذلك يعطي المربي فرصة لكشف أفكار(1/466)
المتربي ومنطلقاته ، وكذا فرصة للتفكير والتركيز . ومن المقولات التي يرددها
خبراء اللغويات النفسية أننا نفكر بأضعاف السرعة التي نتكلم بها ، ولذلك فإننا حين
ننصت تكون عقولنا في سباق [9] ؛ فحسن الاستماع يتخطى مجرد الصمت وهز
الرأس ، بل يستلزم قدرات خاصة باستيعاب ما يُقال وتخزينه في الذاكرة بصورة
منتظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار [10] .
8 - يمكن اعتبار الأساليب الواردة في القدرة التالية من وسائل الإقناع :
القدرة الثالثة : استخدام أساليب غير مباشرة لتبليغ المفاهيم الشرعية الدعوية
حتى ترسخ في النفس والواقع :
يشكو بعض المربين من عدم استجابة كثير ممن يربونهم لتوجيهاتهم بدرجة
تتناسب مع كثرة تكرار هذه التوجيهات ، وبنظرة فاحصة لأسلوبهم في التربية
تجعلنا نكتشف قصور مفهوم التربية لديهم وانحصاره في التلقين والتكرار الحرفي
للمفاهيم ؛ واختزالُ التربية في هذه الصورة أشبه بالتعبير عنها بحرف واحد من
حروفها ، كما أن التكرار بهذه الصورة قد يُحدث أثراً عكسياً يُفقد الكلام جدته وهيبته .
أما توسيع الدائرة واعتماد أساليب غير مباشرة في التربية فله أثر قوي
وفاعلية بإذن الله ، كما أنه يجعلنا نجتني فائدة التكرار مع تجنب عيبه ، وأيضاً فهو
يتناسب مع كون التربية تحتفي بالبناء الرأسي في العمق قبل البناء الأفقي .
وفيما يلي طائفة من هذه الأساليب - وإن كان المطلوب من المربي أن يبدع
ويأتي بالنادر الطريف ولا يكتفي بالنسج على منوال الآخرين :
1 - استخدام الحكايات : وقد سبق الكلام عنها في صفة حسن السمت ؛ فلها
أثر عجيب في النفس ، ويكفي أن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية ممتلئان بها ، وقد
تعدل حكاية صغيرة في سطرين كلاماً طويلاً في صفحات ، فضلاً عن أنها تفوقه
أثراً وثباتاً في النفس والعقل ، قال البرقي : " الحكايات حبوب تُصطاد بها
القلوب " [11] .(1/467)
2 - ضرب المثال : ويقصد به : ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين
أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني .
فهو يُستخدم إذن في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل
ونحو ذلك ، وله في ذلك تأثير عظيم ، وهو أسلوب شائع الاستخدام في الكتاب
والسنة . قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث " النخلة " : " وفيه ضرب الأمثال
والأشباه لزيادة الإفهام ، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن ، ولتحديد الفكر في
النظر في حكم الحادثة " [12] .
وله صور عديدة : فقد يكون تشبيهاً رمزياً للبشر وأحوالهم بالنبات أو الحيوان
أو الجماد .
وقد يكون هذا المثال الرمزي مُعَايَناً ، كما في حديث أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم غصناً ، فنفضه فلم ينتفض ، ثم
نفضه فلم ينتفض ، ثم نفضه فانتفض (لاحظ الانتفاض في الثالثة) قال : " إن
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة
ورقها " [13] .
وقد يكون المثال الرمزي " تخيُّلياً " كقوله تعالى : ? مثل الذين حملوا التوراة
ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ? [{الجمعة : 5}] .
ومثله : كان الإمام أحمد يقول لبعض أصحابه : " كم يعيش أحدنا : خمسين
سنة ؟ ستين سنة ؟ كأنك بنا قد متنا ، ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي
فسقط " [14] .
وقد يكون المثال تشبيهاً بأحوال البشر وأفعالهم : فيكون افتراضياً ؛ فعن يعلى
بن عبيد قال : سمعت سفيان الثوري يقول : " لو كان معكم من يرفع الحديث إلى
السلطان أكنتم تتكلمون بشيء ؟ قلنا : لا ، قال : فإن معكم من يرفع الحديث ...
يعني إلى الله " [15] .
وقد يكون حقيقياً ؛ فقد قال عبد الواحد بن زيد للحسن البصري وكلاهما من
التابعين - : " يا أبا سعيد ! أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب بن أبي
صفرة ، إلا أنه عاون بلسانه ورضي بقلبه ، فقال الحسن : يا ابن أخي ! كم يد(1/468)
عقرت الناقة ؟ قلت : واحدة ، قال : أليس قد هلك القوم جميعاً برضاهم
وتمالئهم ؟ " [16] .
3 - افتعال المواقف : ومَثَلُه حديث جبريل - عليه السلام - لما حاكى فعل
الغريب السائل الطالب للعلم ، فقدم وجلس وسأل ومضى ؛ فالنظر إلى أثر افتعال
هذا الموقف وما ذكر فيه العلماء من الفوائد يُبين أهمية هذه الوسيلة ، وأنه لو كان
المطلوب مجرد تلقين المعلومات لأجلسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرَّف لهم
الإسلام والإيمان والإحسان وذكر علامات الساعة وانتهى الأمر .
4 - الحث على السؤال وفتح المجال له : ففيه تنشيط للذهن ودفع لتمام
الاستيعاب وسد ثغرات الفهم بالسؤال ، قال عكرمة يوماً لتلاميذه يحثهم على السؤال : ما لكم لا تسألوني ؟ أأفلستم ؟
5 - التلغيز : وهو السؤال المحير للفهم المشكل على سامعه ومنه حديث
النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر قال : " إن من الشجر شجرة لا
يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم ، فحدثوني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البوادي ،
قال عبد الله : ووقع في نفسي أنها النخلة ، فاستحييت - لصغر سني - ثم قالوا :
حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : هي النخلة " [17] .
قال ابن حجر في فوائده : " وفيه امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفي مع
بيانه لهم إن لم يفهموه " [18] .
وقال أيضاً : " وفيه أن المُلغِّز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل
للمُلَغَّز له باباً يدخل منه ، بل كلما قَرَّبه كان أوقع في نفس سامعه " [19] .
6 - الكناية عن الأمر بعاقبته : ومعلوم ما في ذلك من دوام الترهيب أو
الترغيب واستحضاره في النفس وتذكره على الدوام ، كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة بدر لأصحابه يحثهم على القتال : " قوموا إلى جنة عرضها
السموات والأرض " [20] .
7 - إذكاء روح التنافس في الخير : من الثابت في علم النفس أن المنافسة
وسيلة فعالة لرفع المستوى وتنمية الموهبة ، وأن انعدامها بين الأفراد من شأنه أن(1/469)
يُبطئ ذلك .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - المربي الأول - يستخدم هذا الأسلوب
في تربية الصحابة ، وهناك السباق المشهور في الخير والطاعات بين أبي بكر
وعمر - رضي الله عنهما - الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفزه ويشجعه ،
وقد فاز أبو بكر بهذا السباق حتى قال عمر : والله ! لا أسابقك بعدها إلى شيء أبداً .
8 - استخدام الحِيَل : فقد تستعصي بعض المفاهيم على القبول لدى بعض
الأشخاص فلا بأس من استخدام الحيل المشروعة لتحقيق ذلك .
ومن ذلك احتيال عبد الله بن المبارك لكي يغير فكرة الأوزاعي عن أبي حنيفة
؛ فقدم له بعض مؤلفاته من غير أن يكون عليها اسمه الحقيقي ، فلما أعجب بها
أخبره بأنها من تأليف أبي حنيفة ، فتغيرت فكرته عنه وصار يُجِلُّه [21] .
القدرة الرابعة : الاحتواء النفسي :
وهو أن تنشأ بين المربي والمتربي علاقة نفسية قلبية قوية من الحب في الله ،
يكون المربي هو المُوَجِّه فيها بحيث يرتبط المتربي به ارتباطاً نفسياً يرفع من
مستوى قبوله وامتثاله لتوجيهات مُربيه ويُيسر عملية التربية .
ويمكن تلخيص كيفية اتصاف المربي بهذه القدرة في : أن يهتم بالتفعيل القوي
لحقوق الأخوة بمعناها الشامل ، مع التركيز على الجوانب ذات التأثير النفسي القوي ، حتى يكون له تواجد مؤثر على خريطة المتربي النفسية - بدون اقتحام فيما لا
يعنيه - .
والمربي يلزمه قبل ذلك أن يتحلى بأمور لها تأثير فعال على تحقق هذا
الاحتواء النفسي - وإن كانت غير مباشرة - وهذه الأمور مثل : حرصه على أن
يتصف بسلامة النية وتجنب المسالك الملتوية في التعامل مع الناس . يقول ابن
حزم : " احرص على أن توصف بسلامة الجانب ، وتحفَّظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظون منك " [22] .
وأيضاً يتصف بحسن معاملة الناس ، فيعاملهم بمكارم الأخلاق ، والإيثار
وترك الاستئثار ، والتحلي بالإنصاف وترك الاستنصاف ، وشكر التفضل [23] ،(1/470)
مع التنزه عن الاستعانة بأحد من تلاميذه في مصلحة خاصة به ، " وقد كان منصور
بن المعتمر لا يستعين بأحد يختلف إليه - يعني لطلب العلم - في حاجة " [24]
وغيرها من الصفات المشابهة .
وبتأملنا مسلك السلف في التعامل مع تلاميذهم يتبين لنا أنه كان لهم منهج
واضح في مشاركة تلاميذهم مشاكلهم وسعيهم في مساعدتهم ؛ بحيث إن الشيخ كان
له تأثير عظيم في نفسية تلميذه وهذه بعض ملامح هذا المنهج :
كانوا يُظهرون الاهتمام والإقبال على جلسائهم وتلاميذهم : يقول ابن
عباس - رضي الله عنهما - : " أكرم الناس جليسي الذي يتخطى رقاب الناس إ ليَّ ، لو استطعت أن لا يقع الذباب عليه لفعلت " [25] .
الاهتمام بالتعرف عليهم وعلى ظروفهم . يقول ابن جماعة : " وينبغي أن
يتعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح " [26] .
الحنو عليه والرفق به ، يقول ابن جماعة : " ويعامله بما يعامل به أعز
أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه " [27] .
مساعدته في تذليل الصعاب والتغلب على الظروف المعوقة لطلب العلم ،
ومن ذلك أن أسد بن الفرات كان يريد السماع على محمد بن الحسن الشيباني ،
فحضر إليه وقال : " إني غريب - من القيروان - قليل النفقة والسماع منك نَزْر ،
والطلبة عندك كثير ، فما حيلتي ؟ فقال له : اسمع مع العراقيين بالنهار ، وقد جعلت
لك الليل وحدك ، فتبيت عندي وأسمعك ، قال أسد : وكنت أبيت عنده وينزل إليَّ ،
ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء ، ثم يأخذ في القراءة ، فإذا طال الليل ونعست ، ملأ
يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه ، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه . كما كان
يتعهده بالنفقة إذا نَفدت نفقته " [28] .
ثالثاً : مقومات الاستمرار :
وهذه المقومات يجمعها لفظ الصبر ، ويُفَرِّقُها وينوعها مجالاته .
ولأن العمل التربوي هو في مجمله محاولة للتأثير في نفس وسلوك الإنسان(1/471)
فإن ذلك يقترن - ولا بد - بكمٍّ من الصعوبات والمعوقات - تنبعث من تعقد النفس
البشرية وتردِّي الظروف المحيطة - تحتاج من المربي أن يعالج نفسه بالصبر ليقدر
على مواصلة الجهد - وبالمستوى نفسه إن لم يكن أرقى - وإن من أهم الوسائل
التي تُعين المربي على التصبر أن يتذكر دائماً اقتران الأجر الأوفى بالصبر ، وكذا
اقتران النتائج الكبيرة به أيضاً ، كما يتذكر أن الله - سبحانه وتعالى - قد ذكر على
لسان نبيه أن أحب العمل إليه ما استمر عليه صاحبه ولم يقطعه وصبر عليه وإن
قلَّ ؛ لأنه بذلك تزداد احتمالات الوصول للأهداف الموضوعة لهذا العمل : ?
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك
عنهم ... ? [الكهف : 28] .
وليتأمل المربي في واقعنا العام والعمل الإسلامي على وجه الخصوص ، ليجد
هناك ظاهرة فوضوية تشوب الكثير من أعمالنا ، وهي ظاهرة أحجار الأساس ؛
حيث نكتفي في أعمالنا بوضع حجر الأساس ولا بأس بحجر آخر أو حجرين معه -
ونعتبر ذلك إنجازاً - .
إنها ظاهرة الأعمال المبتورة التي لا تكتمل ؛ ولو أجرينا إحصاءاً لمرات البدء
في الأعمال المختلفة في ميدان العمل الإسلامي ثم أحصينا كم من الأعمال بلغت
منتصف الطريق ، ثم تفقدنا الأعمال التي بلغت نهايتها المرجوة أو كادت ، فكم يا
تُرى يكون حجم التفاوت العددي في الحالات الثلاث ؟ !
فالمربي يحتاج إذن إلى الصبر وإلى مجاهدة النفس عليه في مجالات كثيرة ،
أهمها : الصبر على البذل والتضحية .
والمربي يحتاج إلى مداومة البذل والصبر عليه ، البذل من وقته وراحته وبيته
وماله ، وقد سبق كيف كان السلف ينفقون من أموالهم على تلاميذهم - خاصة
النجباء منهم - وعدم تضجرهم من ذلك إن استطاعوا .
وقال محمد بن سلام - شيخ البخاري - " أنفقت في طلب العلم أربعين ألفاً ،
وأنفقت في نشره أربعين ألفاً " ، ومثل هذا - ولا شك - يحدث كثيراً في عصرنا
ولكن بقلب " أنفقت " إلى " جمعت " .(1/472)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بالصحابة في دار الأرقم لتعليمهم
وتربيتهم ، وأحياناً بمنزله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان الصحابة يفتحون بيوتهم
لتلامذتهم مثل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ومن بعده مالك بن أنس ،
وقبيصة بن ذؤيب ، وأبي غطفان بن طريف المري ... وغيرهم كثير [29] ، وقد
مر كيف فتح محمد بن الحسن بيته لابن الفرات فكان يؤويه ويعلمه وينفق عليه .
والمربي أيضاً يحتاج إلى الصبر على تأخر ثمرة العمل التربوي - نسبياً -
فضلاً عن احتمالات ضياع بعضها أو تلفها .
ويحتاج أيضاً إلى الصبر على جفاء بعض الطباع وخشونة التعامل ؛ فهذا
نبينا - عليه الصلاة والسلام - وقد أقيمت الصلاة حين يأتي أعرابي فيأخذ بثوبه
ويقول : إنما بقي من حاجتي يسيرة وأخاف أنساها ، فيقوم صلى الله عليه وسلم معه
حتى يفرغ من حاجته - والصلاة مقامة - ثم أقبل فصلى [30] .
وقد ذكر ابن جماعة أن من أدب المعلم مع تلميذه : " الصبر على جفاءٍ ربما
وقع منه أذى لا يكاد يخلو الإنسان عنه ، وسوء أدب في بعض الأحيان ، ويبسط
عذره بقدر الإمكان ، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف
وتعسف ، قاصداً بذلك حسن تربيته " [31] .
وأخيراً :
نختم بذكر الأمر الثاني الذي ينبغي توافره في النموذج المعتدل
للمربي ، وهو : أن يكون تحقق الصفات والمؤهلات السابقة فيه حدٌّ أدنى لا يتأهل
الداعية بالنزول عنه للعمل التربوي .
وهنا ملاحظات غير عابرة :
أولاً : هذا الحد الأدنى يختلف باختلاف الظروف والأحوال ؛ فهو يتغير من
بيئة دعوية إلى أخرى ، وحسب تعقُّد العمل وتوفر الكفاءات ، كما أنه يتغير بتغير
حجم المسؤولية التربوية ؛ فالذي يتولى تربية عدد كبير ليس كمن يعمل مع أشخاص
محدودين ، كما أن الذي يربي أشخاصاً حديثي عهد بالدعوة ، ليس كمن يعمل مع
دعاة متمرسين .
ثانياً : لتحقيق قدر من المرونة والواقعية - ونظراً لضعف عملية التنمية(1/473)
البشرية - قُسمت المقومات وفق ابتداء تأثيرها ، وهذا يعني أن أهمية تحقق كل قسم
منها في بداية العمل في شخص المربي متفاوتة ؛ فمقومات البدء لا مفر من تحققها
تماماً - وفق البند السابق - ومقومات الإتقان يمكن التجاوز فيها قليلاً ، على أن يبدأ
سد الخلل فيها بعد البدء مباشرة وإلا ظهر أثر ذلك على العمل التربوي .
وأما مقومات الاستمرار فيمكن العمل على تنميتها وترسيخها أثناء ممارسة
العمل التربوي .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
________________________
(1) التذكرة ، ص 63 .
(2) التذكرة ، ص 56 .
(3) الأذكياء ، ابن الجوزي ، ص 24 .
(4) صفحات من صبر العلماء ، ص 200 الهامش .
(5) التذكرة ، ص 105 الهامش .
(6) القاموس المحيط ، ص 977 .
(7) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والساسي ، د حسن وجيه ص 28 .
(8) المستطرف ، ص 91 .
(9) علم التفاوض ، ص 203 .
(10) المصدر السابق ، ص 27 .
(11) النظم التعليمية ، ص 69 .
(12) فتح الباري ، ص 177 .
(13) صحيح الأدب المفرد ، البخاري ، بتحقيق الألباني ، ص 237 .
(14) صفحات من صبر العلماء ، ص 151 .
(15) حلية الأولياء ، ج7/70 .
(16) الزهد للإمام أحمد ، ص 289 .
(17) البخاري ، ح/59 .
(18) فتح الباري ، ص175-176 .
(19) المصدر السابق ، ص176 .
(20) مسلم ، ح/3520 .
(21) الخطيب البغدادي في تاريخه ، ج13/338 .
(22) مداواة النفوس ، لابن حزم ، ص71 .
(23) التذكرة ، ص23 .
(24) التذكرة ، ص19 ؟ .
(25) التذكرة ، ص49 .
(26) المصدر السابق ، ص60 .
(27) المصدر السابق ، 49 .
(28) صفحات من صبر العلماء ، ص119 .
(29) النظم التعليمية ، ص40 .
(30) صحيح الأدب المفرد ، ص120 .
(31) التذكرة ، ص49-50 .
وقفات
كيف نخاطب الجماهير .. ؟
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
درج عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال(1/474)
المنابر المختلفة ، ووجد كثير منهم - ولله الحمد - إقبالاً واسعاً ، والتفَّت الجموع
بين أيديهم ، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز الفكر والأدب والثقافة
الآخرين . ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين إعادة النظر في طروحاتهم
وطريقتهم في الخطاب وتقويمها ، لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر
الإمكان ، والاستفادة من التجربة الماضية . وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها
في هذا الأسلوب أضعها بين أيديكم للحوار وتبادل الرأي حولها :
أولاً : الإيمان بالهدف :
مرَّ على الناس في العصور التاريخية المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين
ودعاة التغيير ، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم . وبتتبع سيرهم وأخبارهم
نجد أن صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم
وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها ، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك
المبادئ ، والتضحية من أجلها . وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت من
تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان ، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها ،
وقديماً قال الرافعي : ( رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً ،
ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة ) [1] .
ثانياً : الحذر من الخيلاء وحب الرياسة :
محبة الناس للمصلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض
النفوس الضعيفة ، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة ، وتصرفها عن
كثير من معالي الأمور . وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير ، أو
تناستها ، حينما غلبت عليها تلك الشهوة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال
والشرف لدينه ) [2] .
ولهذا قال ابن تيمية : ( كان شداد بن أوس يقول : يا بقايا العرب ، يا بقايا
العرب ، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية . قال أبو داود صاحب السنن :(1/475)
الشهوة الخفية : حب الرياسة . وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم ) [3] . وقال أيضاً : ( وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق
محبتها لله وعبوديتها له ) [4] .
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن
يأخذ بها ، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل ، ومن تعلَّق قلبه بحبِّ الظهور
صغرت نفسه ، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحرافات
التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية ، وما أحسن قول الرافعي : ( إذا أسندت الأمة
مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم ) [5] .
ثالثاً : الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة :
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر ! - في
دائرتهم ، فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم ، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة
الهتاف والتصفيق ، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود ؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك
العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم ، ولا يحيطون بكثير من التداخلات
الفكرية والسياسية ، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية .
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان :
الأول : التأثر الإيجابي :
وهو في غاية الأهمية ؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام ، ويحسون بأهمية
آرائهم ، وقيمتهم المعنوية ، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير ، ممَّا يزيدهم
ارتباطاً بدعاة الإصلاح ، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون .
الثاني : التأثر السلبي :
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم ، ويقع في شراكهم ، ويصبح برنامجه
الإصلاحي مرتبطاً برغباتهم ، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم ، وتكون النتيجة أن
الجماهير هي التي تقوده ، وهو يحسب أنه يقودهم .. ! !
رابعاً : الدقة في الخطاب :
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل ، حاله(1/476)
كحال غيره من المتحدثين ، ( وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب ) [6] .
ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم ،
وقد يطير خطؤه في الآفاق . وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن
يتصيد العثرات ، ويتسقَّط الزلات ، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح ، ولهذا قال
عمر بن الخطاب : ( ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد ، ولو كان الرجل
أقوم من القدح لوجد له غامزاً ) [7] . ولمَّا قال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد ! إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك ! فقال الحسن : ( يا هذا !
إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت ، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت ، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع ، إني لمَّا رأيت الناس لا يرضون
عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم ) [8] .
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً ،
وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً ، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة
وإتقان ، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس ،
ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه ، ويعجبني المتحدث الذي
يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله ، ويوضح ما استشكله الناس عليه ،
ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ .
________________________
(1) مجلة الرسالة العدد (94) محرم 1354هـ .
(2) أخرجه : الترمذي في الزهد (4/508) رقم (2376) ، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5496) .
(3) شرح حديث أبي ذر (ص25) ، وانظر : رسالة في التوبة ضمن جامع الرسائل (1/ 233) .
(4) الفتاوي (10/215) .
(5) مجلة الرسالة العدد (84) ذو القعدة 1353هـ .
(6) تأويل مختلف الحديث (ص54) .
(7) بهجة المجالس وأنس المجالس ، لابن عبد البر القرطبي (1/406) .
(8) تبيين كذب المفتري ، لابن عساكر (ص422) .
وقفات
كيف نخاطب الجماهير .. ؟
(2-2)(1/477)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
ذكرتُ في الحلقة الماضية ضرورة إعادة النظر في خطابنا الجماهيري ،
وأثرت أربعة أمور ، هي : (الإيمان بالهدف) ، و (الحذر من الخيلاء وحب
الرياسة) ، و (الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة) ، و (الدقة في الخطاب) ،
وفي هذه الحلقة أنبه إلى أمور أخرى إتماماً للموضوع :
خامساً : الحذر من التعلق بالأشخاص :
من الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير ؛ سواء أكان ذلك على
المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي ... ونحوها : التعلق بالرموز
والانكفاء عليها ، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض
بها من كبوتها ، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط ، وثارت
في كوامنهم دواعي العجز والحيرة ، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحياناً إلى ازدراء
مصلحين آخرين ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهماً وقدرة ، وقد يؤدي هذا
التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد ، أو عدم استغلال الفرص
السانحة لهم .
وقد يُرسِّخ هذا المفهوم بعض هؤلاء الرموز ، ويدفع الناس إلى تقليده
وتعظيمه ، بلسان المقال حيناً ، وبلسان الحال أحياناً أخرى . والتقليد قاصمة من
القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير ، وتحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان
هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال ، وهي تستجيب له بكل دعة
وخنوع . والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس
إليهم فحسب ، بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم ؛ فمن تبعهم
تبعهم بحجة وبرهان ، ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة
ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم .
سادساً : وضوح الرؤية :
تتم مخاطبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية رتيبة ؛ حيث لا
توجد لديهم رؤية واضحة ، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي(1/478)
يريدون الوصول إليها ؛ وقد ترى أن كثيراً من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية
على خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك ، بل تلمس أحياناً أن
بعضهم لا يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي ، ولهذا تراه يجتر كثيراً
من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة !
إن وضوح الأهداف يعين كثيراً في الاعتبار بالماضي واستبصار الحاضر
واستشراف المستقبل ، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة : ما
الموضوعات التي سوف يتحدث عنها ؟ ! وما القواعد التي يريد بناءها ؟ ! وما
الأمراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها ؟ ! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك ؟ ويعرف في ذلك الأولويات التي ينبغي البدء بها ، ويحدد طريقة المعالجة ، ونحو
ذلك مما يعدّ من البدهيات المنهجية التي لا غنى عنها .
سابعاً : تلمس احتياجات المخاطبين :
احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية كثيرة جداً ، ويتميز المصلح الجاد
بقدرته على تلمس احتياجات الناس ، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة
الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون ، ويتحدثون عن أشياء كثيرة ، لكنهم بعيدون عن
نبض الشارع واهتمامات الناس .
ومعلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيراً ، ويألفه في بداية أمره ،
لكنه يبتعد عنه شيئاً فشيئاً إذا فقد المادة الأصيلة المتجددة التي تشبع حاجاته
وطموحاته ، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجمهور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم
بالحيوية والتجدد ، وهذا فيما أحسب أحد المعايير الرئيسة للاستمرارية والبقاء .
ثامناً : الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي :
يغلب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي
يُبنى على استثارة المشاعر ، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه ، ولكنه
وحده لا يكفي على الإطلاق ، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء .(1/479)
نعم قد تجمِّع العاطفة أناساً كثيرين ، ولكنها وحدها لا تحيي أمة ، ولا تبني رجالاً ،
ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن .
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة
عواطفهم ، ولكنَّ القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم
وصناعتهم من جديد . وإنَّ من أكبر التحديات التي تواجه دعاة الإصلاح : هي
القدرة على توظيف الطاقات ، واستثمارها في البناء والعطاء ، وكم هي الطاقات
المهدرة التي طالما استهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة !
ولذا كان ممَّا ينبغي على دعاة الإصلاح إدراكه أنَّ من واجبهم التأثير الفكري
والمنهجي على الجماهير ، ورفع مستواهم الثقافي ، وإحياء الوعي في صفوفهم ،
وتربيتهم تربية راسخة عميقة ، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة
العطاء والوعي الإنتاجي .
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنَّه لو
دعاهم لتحرير القدس لما تخلف منهم رجل واحد ، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق
هذه الغاية العظمى ، ولكنه يفاجأ بأنَّ كثيراً منهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر
بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته ! ولست هنا أدعو إلى ترك
الجماهير أو عدم الثقة بهم ، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب
المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة .
لقد ظلت الجماهير عقوداً متتابعة مغيَّبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر
والوطنية ، وها هنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعادة تشكيل عقولهم وصناعة
أفكارهم ، ولا شك بأن هذا يتطلب جهداً كبيراً ونَفَساً طويلاً .
تاسعاً : الارتقاء بمستوى الخطاب :
كثير من الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة
ومشكلاتهم ، وتتوافق مع طموحاتهم وتطلعاتهم ، ولا شك بأن هذه الطموحات
محدودة ، وتدور في أطر ضيقة ، وقد يغفل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة(1/480)
طبقات أخرى في المجتمع ، ولا بأس أن يوجد من يتخصص في مخاطبة العامة
ويقصر اهتمامه في دائرتهم ، ولكن ليس من المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر
خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر الأخرى !
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الذي أدى إلى انفتاح اجتماعي وفكري
عريضين ، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية من أهم
أدوات التأثير الفكري ، وأعتقد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية
الأهمية ، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجامعة ، وما يصلح في المسجد
قد لا يصلح في وسائل الإعلام ، وما يصلح في هذا البلد قد لا يصلح في البلد الآخر .. وهكذا . وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحد المفكرين الإسلاميين مع مفكر ليبرالي ، فآلمني جداً أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية خطابية هزيلة ، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء والمراوغة ، شعرت من خلالها أنَّه يعرف ماذا يريد . ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور عريض من العامة !
________________________
قضايا ثقافية
الإبداعية الجماعية [*]
( 1 -2 )
بقلم : جان كلود أبريك
ترجمة : محمد بلحسن
راجع ترجمته وقدّم له وعلّق عليه : د . محمد أمحزون
تمهيد :
لقد قطع الغربيون في دراسة ما يسمى بـ « علم النفس الاجتماعي » شوطاً
بعيداً . ويعدّ هذا العلم من المجالات الحيوية - الاستراتيجية التي ينبغي للدعوة
الإسلامية الاهتمام بها فيما يتصل بحقل الوسائل والأدوات .
فهو يُعنى بدراسة الظواهر الفكرية : نظام الإدراكات والتصورات الاجتماعية ،
وظواهر التواصل الاجتماعي على مستويات مختلفة من العلاقات المجتمعية ،
ودراسة العلاقات بين الأفراد ، ودراسة العلاقات بين الأفراد والجماعات :
( مؤسسات ، جمعيات ، أحزاب ، نوادٍ ) ، ودراسة الجماعات من حيث تركيبها(1/481)
ووظائفها ، وعلاقات التأثير فيما بينها ، وبسط آليات تفجير الطاقات لدى الجماعات
والأفراد ، وأساليب العمل بروح الفريق ، واتخاذ القرارات داخل الجماعة ، وإلقاء
الضوء على الوسائل التي تتبناها النخب في توجيه المجتمع ؛ إلى غير ذلك من
المناهج والأدوات والوسائل التي ينبغي للدعاة استيعابها للدخول في معترك مواجهة
النخب العلمانية المفسدة ، والتأثير على القطاعات الواسعة من الجماهير .
ولكل ظاهرة من هذه الظواهر يتوفر : « علم النفس الاجتماعي » على نظام
معرفي متطور : نظريات وأبحاث ودراسات واختبارات تؤهله لفهم النشاطات
الذهنية العليا ، وبعض الأبعاد النفسية للحياة الاجتماعية للجماعات . ومن أجل
توسيع مجال الرؤيا فإن « علم النفس الاجتماعي » يقوم بدراسة :
1- الأسباب التي تدفع الناس للتماثل ( أي التشبّه بغيرهم ) أو الخضوع ،
وذلك بالبحث عن خصائص الفرد الذي يَمْتَثِل ويخضع ، والفرد الآخر الذي يقاوم
التأثيرات الاجتماعية ( العادات ، التقاليد .. ) .
2- ما هي خصائص المؤسسات والجماعات التي تحاول أن تنمّط سلوك
الأفراد ؟ ما هي منطلقاتها العقائدية الأيديولوجية وآلياتها في التأثير ؟ ( المؤسسات
التربوية ، النوادي ، الجمعيات ، وسائل الإعلام ، الجامعات ، المعاهد .. ) .
3- كيف يفكر الأفراد في واقعهم اليومي ؟ كيف يقبلون السلوك المنحرف
على أنه سلوك عادي غير شاذ ؟ كيف يفسرون ما يحدث لهم ؟ ويشمل ذلك البحث
عن القوانين التي تحكم وتتحكم في التفكير الاجتماعي .
4- البحث عن الخصائص الأساسية التي يجب أن تتوفر في الجماعات التي
تؤيد التغيير ، حتى تكسب خاصيات الفاعلية والتأثير ؛ كيف تستطيع هذه الجماعات
أن تؤثر على الأغلبية ؟ كيف تعمل لتحويل وتصحيح بنيتها التصورية العامة تجاه
القضايا الرئيسة على الرغم من نقص هذه الجماعات العددي ، ونوعية مفاهيمها
التي تخالف سلوك الأغلبية ، ومع وجود احتمالات التهميش المتوقعة نظرياً تجاه(1/482)
هذه الجماعات ؟ ما هي طبيعة التفاعلات التي يحدثها أفراد الأقلية الفاعلة والعملية
داخل واقع الأغلبية التي تخالفهم في الاعتقاد والرأي والقيم والمقاييس الحياتية ؟
كيف تؤطِّر هذه الأقليات ( الجماعات ) علاقاتها الداخلية من أجل التفعيل المستمر
نحو الإبداع والإنتاج ؟ ما هي مستويات اتخاذ القرارات داخلها .
5- إلقاء الضوء على مجمل التأثيرات التي تمارسها وسائل الإعلام على
الفرد من خلال دراسة مختلف المواضيع الإعلامية المساقة للفرد : المقاييس التي
تنتج الخطاب الإعلامي ، كيفية تغيير هذا الخطاب ليستطيع أن يصبح قاعدةً سلوكيةً
وفكريةً عامةً ومعتادةً لدى أفراد مجتمع ما[1] .
ومن الموضوعات التي يوليها « علم النفس الاجتماعي » اهتماماً متزايداً ،
ويخضعها للبحث والرصد والاختبار الميداني : موضوع التفكير الإبداعي .
على أن هذا التفكير يؤدي عبر مجموعة من الأساليب والأدوات والإجراءات
إلى مساعدة الإمكانات الذهنية على الارتقاء ، وتحسين كفاءة الأداء ، والقدرة على
حلّ المشكلات ، وطرح البدائل واكتشاف الخيارات[2] .
ولما كان الإبداع يعني التأليف بين الأفكار والصور وتركيبها تركيباً فذاً ينتج
عنه الإتيان بقاعدة جديدة ، أو اكتشاف لقانون جديد ، أو استخراج لشكل غير
مألوف[3] ؛ فإن تنمية هذا النوع من التفكير يستحق اهتماماً خاصاً منّا نحن المسلمين؛
حيث يشتدّ الطلب اليوم على الإنسان الفذ المبدع بشكل دقيق وجيّد لخدمة دينه
وأمته في سبيل الدفع نحو الارتقاء الحضاري .
ولمعرفة المناهج وآليات الرصد والتجارب والحلول المبتكرة التي يستخدمها
« علم النفس الاجتماعي » لتطوير هذا الفنّ وتعميمه في حقول المعرفة وفي
مجالات الحياة المختلفة ، فإنّ هذا البحث الذي ترجم من اللغة الفرنسية لأحد أقطاب
علم النفس الاجتماعي الفرنسيين ، سيبيّن وسائل التحليل المنهجي للإبداعية ،(1/483)
وكيفية توظيف تقنيات الإبداع لتحفيز الذهن على الابتكار والتجديد ، وإجراء
التجارب لتنمية ملكة الإبداع لدى الأفراد ، وتقييم إبداعية الجماعات وتنافسها ،
والعوامل التي تخضع لها عملية الإبداع ... إلى غير ذلك من العوامل التي يبرز من
خلالها أهمية التفكير الإبداعي في تغيير الواقع وتجديده وإغنائه .
مقدمة المؤلف :
اهتمام علم النفس بالإبداع هو جد حديث ؛ فإلى غاية سنة 1950م ، كان حجم
عناوين المنشورات في علم النفس المخصّصة للإبداعية بنسبة واحد في الألف .
وإلى غاية هذا التاريخ أيضاً توجه الاهتمام بالخصوص إلى تحليل سيرورة
الإبداعية المعتبرة ظاهرةً قليلة وحاضرة - حصراً - داخل نخبة الباحثين
والمبدعين الكبار ، ومنذ هذه الفترة كانت المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع ناتجة
بالأساس عن تحليل تراجم العظماء ، أو شهادات تركها بعضهم مثل بوانكاري
poincare ، والمتعلقة بمناهج تفكيرهم .
ولم تظهر الإبداعية باعتبارها ضرورة اجتماعية واقتصادية إلا مع نهاية
الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها ؛ حيث أصبحت موضوعاً للدراسة . وإزاء
التطور السريع للمجتمعات الصناعية فإن ازدياد المنافسة وسرعة التحولات في
المناهج والتقنيات والأسواق فرض البعد النوعي أساساً للتكيف والنمو الاقتصادي ،
وتحوّل الاهتمام أيضاً من المبدعين إلى الأفراد الإبداعيين من دراسة الإبداع إلى
دراسة الإبداعية ؛ أو بمعنى آخر : من دراسة خصائص نخبة ضيقة إلى شريحة
أكثر اتساعاً .
وهكذا احتل مفهوم الإبداعية وضعاً مستقلاً بالنسبة للإبداع . ويمكن تسمية
الإبداعية : ( التطور التدريجي المتتابع والملكة التي بواسطتها يقوم فرد أو جماعة
تحتل وضعاً معيناً بإعداد نتاج جديد أو أصيل موافق لمتطلبات الظرفية ومقاصدها
أو الحالة الراهنة ) . إذن : نعتبر فرداً أو جماعة مبدعة حسب قدراتها لتحريك هذه
العملية .
ويعود الفضل لجيلغورد ( 1973,1950 : Guilgord ) من خلال رسالته(1/484)
المشهورة المقدمة لجمعية علم النفس الأمريكية ، والتي صاغ فيها الأفكار الجديدة
الغنية بالنتائج النظرية والتطبيقية المتعلقة بالإبداعية :
* القابلية للإبداعية توجد بمستويات مختلفة ولكن عند جميع الأفراد العاديين[4] .
* السياق الإبداعي يمكن أن ينتج طواعية ، ويمكن أيضاً تدريسه وتطويره
لدى عدد كبير من الأفراد .
وبالإضافة إلى هاتين الفكرتين المركزيتين تضاف بعض أعمال أوسبورن
( 1963, 1953 : Osborn ) الفكرة التي تنص على أن وضعية الجماعة تساعد
على الإبداعية [5] .
ولهذا بدأنا نرى في الولايات المتحدة ثم في أوروبا و فرنسا ، وخاصةً ابتداءً
من سنة 1960م تطور مجموعة من الأبحاث في علم النفس ، مستعملة بالخصوص
المناهج التفاضلية والساعية مثلاً إلى اكتشاف أو إبراز العلاقات بين الإبداعية
والذكاء ، وتعريف خصائص « الشخصيات الإبداعية » وتقييمها إلخ .. ويمكن
للقارئ المهتم أن يعود في هذا الصدد إلى مجلة لوبوتي ( Leboutet ) حول هذه
المسألة 1970م .
آثار الجماعات النوعية :
عوضاً عن الدخول في هذا مقارنة بين تقدير خصائص الجماعات والأفراد ،
والتي كشف عنها موسكوفيسي و بيشلي ( 1972 : Paicheler/moscqvici )
على أنها غير ذات جدوى ، سنحاول إبراز بعض الأبحاث التجريبية ونتائجها
القادرة على توضيح نوعية وضع الجماعة وبالخصوص فهم : لماذا يمكن للجماعة
أن تشكّل حافزاً للإبداعية ؟
أ- الجماعة تفضل التغيير :
في تجربة شهيرة قارن لوين ( 1965,1947 : K . Lauin ) الآثار
الخاصة لمحاضرة مقابل نقاش جماعة حول تحوُّل العادات الغذائية المنزلية
الأمريكية تحولاً يتمثل في استهلاك السُلابة[6] عوضاً عن اللحم .
وفي مقام أول استمعت جماعة من النساء إلى محاضرة هامة ألقيت من طرف
مختص يؤكد فيها الامتيازات الغذائية والاقتصادية للسُلابة ، عن طريق عرض
وجبات مناسبة ... إلخ .
وفي الحالة الثانية ، وبعد عرض تمهيدي وجيز ، دفعنا بربات البيوت إلى(1/485)
مناقشة المشكلة فيما بينهن . وفي كلتا الحالتين دامت التجربة 45 دقيقة . وأُجري
تحقيق في المنزل بعد أسبوع من التجربة أظهر أن 3% فقط من ربات البيوت
اللائي استمعن إلى المحاضرة استعملن السلابة مقابل 32% من اللائي ناقشن هذه
المسألة داخل الجماعة .
على أن جميع التجارب المنجزة من طرف لوين ، والتي تستعمل الوسائل
نفسها اتخذت هذه النتيجة ، سواء تعلق الأمر باستهلاك الحليب السائل أو الحليب
المسحوق أو إعطاء زيت كبد سمك المورة للطفل . ولو أننا عوضنا العرض
بنصيحة شخصية استغرقت نفس الوقت ؛ فإن أثر الجماعة يظل مهيمناً بالنسبة
للتغيير ؛ فالوجود داخل الجماعة والتفاعل الاجتماعي والإدراكي يمكن أن يؤدي إلى
انخفاض مقاومة التغيير عند الأفراد ، ويساعد على ظهور سلوكيات جديدة يؤطرها
الحس الجماعي[7] .
ب- الجماعة تفضل المخاطرة :
أظهرت مجموعة من الأبحاث ، بعد أعمال ولاش و كوجان
( 1966 : Wallach/Kogan ) بأن الجماعة المكونة من أفراد ذوي آراء مختلفة
والمناقشين لحالة معينة يختارون حلولاً أكثر مخاطرة من الأفراد المنسجمين في
الجماعة نفسها. وازدياد المجازفة داخل الجماعة في بعض الحالات يشكل عاملاً
ملائماً للإبداعية ؛ فهي تسمح للجماعة باختيار حلول مثمرة على الأقل أو أصيلة ؛
لأن فيها مجازفة[8] .
ج- عدم تجانس الجماعة وأثره في الإبداعية :
إن التباين في الجماعة على صعيد المواقف والكفاءات يعد رصيداً جوهرياً ؛
لأنه يسمح باحتكاك الآراء المختلفة[9] والاستفادة من كفاءات الآخرين ، ويعني
عوامل تشجع الإبداعية . ولكن يمكن أن يكون أيضاً مصدراً للتوقف والصعوبات :
كبح أو إعاقة أمام أفراد جماعة أكثر كفاءة ، وتجميد التواصل بسبب صراعات
المواقف ... إلخ . فالاختلاف[10] يشكل مصدراً كامناً للصراعات الاجتماعية
الإدراكية .
وأظهرت أبحاث هال و واتسون ( 1970 : Watson/ Holl ) بأن التنافر(1/486)
داخل الجماعة يساعد على الإبداعية إذا أُخذت هذه الصراعات الاجتماعية -
الإدراكية بعين الاعتبار وضُبطت حالتها . وقد جعل هذان الباحثان جماعة في
وضع لحلّ المشكلة الآتية : أنتم ضمن طاقم من الفلكيين تعرّض لحادثة في القمر ،
ويجب عليكم الالتحاق بسفينة فضائية توجد على بعد 300 كيلو متراً على القمر ؛
فالسفر طويل وصعب ، ويجب عليكم اختيار المواد التي ستحملونها معكم ، والتي
سوف تسهل عليكم بلوغ الهدف . وكل فرد رتّب 15 مادة لحملها . وهذا العمل
أُنجز داخل الجماعة ، وينبغي أن ينتهي إلى نظام واحد .
ومن ها هنا تم تحديد شرطين تجريبيين : فالتعليمات تدعو الأفراد إلى
توضيح آرائهم المختلفة ومناقشتها ، أو عدم تحديد أي شيء ؛ وتُظهر النتائج
بوضوح بأن أخذ الجماعة للاختلاف بعين الاعتبار يؤدي من جهة إلى نتائج مرضية
عامة ، ومن جهة أخرى يؤدي إلى اكتشاف أفكار جديدة وأصيلة تتعلق باستعمال
المواد[11] .
وهذه النتائج تؤكد النتائج القديمة ( لتريانيز ) المتعلقة بالإبداعية الثنائية
التكاملية : تباين المواقف والكفاءات لعنصرين في تفاعل لا تساعد على الوصول
إلى نتائج مرضية[12] .
وعلى العكس من ذلك ، ففي حالات تجريبية تلقى فيها عناصر ثنائية متكاملة
مسبقاً : « تدريباً للاتصال مع الآخرين » ؛ فالأزواج المتباينين[13] هم الأكثر
إبداعية .
ويمكن القول ( عند تريانديز : Triandis ) ، إنه حينما يتقلص الضغط
المرتبط بتباين الجماعة - مثلاً - بفضل التعلّم أو الاتصال والاحتكاك ؛ فالآثار
الإيجابية لهذا التباين يمكن أن تتطور وتؤدّي إلى إبداعية عالية . وهذا التحليل
يكشف أهمية بعض أنواع الزعامة ( Leodership ) وضرورتها ، أو الحيوية
في الجماعات الإبداعية المركزة على ضبط وتدشين مناخ ترابطي إيجابي .
( وسنعود إلى هذه النقطة ) .
وأكمل كولاروس و أندرسون ( 1969 : Andernon, Collaros ) هذه(1/487)
النتائج بإظهار أن التباين الحقيقي والتباين الشكلي ليس هما الأساس . وبدراستهما
لجماعات « تحفيز الإبداع »[14] : وضعا ثلاث حالات تجريبية :
- في الأولى يجب على الفرد أن يفكر في أن الأعضاء الثلاثة الآخرين في
الجماعة خبراء في « تحفيز الإبداع » .
- في الثانية : واحد فقط من الأعضاء خبير .
- في الثالثة : لا يوجد أي خبير[15] .
لكن في الحقيقة فإن الجماعة متطابقة في الحالات الثلاث ؛ بمعنى أنها مكوّنة
من أفراد سُذَّج بدون تجربة . وحينئذ ، فإن تبيان عدم تجانس الجماعة هو الذي تم
التلاعب فيه . على أن إبراز الجماعة بهذا الشكل يؤدي إلى اختلافات جوهرية :
فالجماعات المتجانسة[16] تطوّر إبداعية عالية أكثر من غيرها ، وتكوِّن عن نفسها-
من خلال مناخ اجتماعي مؤثر - صورة إيجابية ، بينما يؤدي الخوف الوهمي
في الحالات السابقة من حكم واحد أو مجموعة من الخبراء على أفراد الجماعة إلى
تراجع أو كبح في إنتاج الأفكار وخاصة الأفكار الجديدة والأصيلة .
وهذا النوع من الأبحاث يؤكد على أن الصورة التي تكوّنها الجماعة عن نفسها
هي بُعْدٌ رئيسٌ في حركيتها وحيويتها . ولهذا فالأبعاد الرمزية لوضع الجماعة تشكل-
في رأينا - أحد الموضوعات الجديدة والمركزية للأبحاث حول إبداعية الجماعات.
أسلوب الزعامة والإبداعية :
أشرنا في الفقرة السابقة إلى أخذ الصعوبات الاجتماعية الشعورية المرتبطة
بعدم تجانس الجماعة بعين الاعتبار ؛ فدور الزعيم يجب أن يكون حاسماً في نشاطها
وإبداعيتها . وفي هذا الصدد خصص لوين ومساعدوه أبحاثاً عديدة لهذا الموضوع
الذي سوف نحاول بطريقة موجزة تلخيصه .
فهؤلاء الباحثون أنجزوا دراستهم خلال الفترة ( 1939 - 1940م ) حول
جماعات من الأطفال الأمريكيين تصل أعمارهم إلى 12 سنة يرتادون نوادي
للترفيه . والملاحظات تعم فترات طويلة ( عدداً من الأسابيع ) وهدفها دراسة(1/488)
العلاقات بين أنواع القيادات وظاهرة الجماعة . وتمّ تعريف ثلاثة أنواع من
الزعامات ستناسب تصرفات الشخص المسؤول عن الجماعة :
أ- الزعيم المستبدّ : فالقرارات المتعلقة بالعمل وتنظيم الجماعة تصدر عن
المسؤول وحده ، بطريقة موازية لتطور الأنشطة .. والقرارات ليست مسوَّغة ، ولا
واضحة بالنسبة للإصلاح . ومعايير تقييم الزعيم ليست معروفة ، وأخيراً يبقى
بعيداً عن الاندماج في محيط الجماعة ، ولا يتدخل إلا لإصدار الأوامر أو للتنظير
في حالة الصعوبة[17] .
ب- الزعيم الشوري : فالقرارات ناتجة عن المناقشات التي يطرحها الزعيم ،
وهي تأخذ بعين الاعتبار رأي الجماعة . كما أنها مترابطة بالنسبة للإصلاح .
وكل مرحلة تُحدَّد بوضوح ودقة ، والزعيم يوضح الأحكام الخاصة به ويسوِّغها .
وعندما يطرح مشكلة ، يقترح مجموعة من الحلول تختارالجماعة أحدها . ودون
المساهمة الكبيرة في توجيه الأنشطة ، فإنه يضطر للاندماج في حياة
الجماعة[18] .
ج- الزعيم الاسمي : بعد تحديد الوسائل والأدوات التي تتوفر عليها
الجماعة ؛ فالزعيم يتصرف تصرفاً سلبياً ، والجماعة تتمتع بحرية تامة مع العلم
أنها يمكنها اللجوء إلى المسؤول . وهذا الأخير لا يحكم ولا يقيّم ؛ فوجوده يعتبر
ودّياً ولا يتدخل إلا بعد الطلب ، ويتخذ قليلاً من المبادرات .
وتُظهر النتائج المتوصّل إليها : أن نوع زعيم الجماعة يحدّد مجموع سلوكها
الانفصالي والاجتماعي والإدراكي .
وهكذا ففي الجماعات ذات القيادة السلطوية ( المستبدة ) يهيمن الخمول أو
العنف ؛ فالمناخ الاجتماعي الشعوري هو مناخ سيئ ، والالتحام ضعيف بين أفراد
الجماعة ، والتوترات الداخلية تساعد على ظهور مجموعات صغرى . وبما أن
العنف لا يمكن أن يوجه ضد المسؤول فيوجّه ضد بعض أعضاء الجماعة أو نحو
الخارج ، مع ظهور ضحايا . وفيما يتعلّق بالعمل يلاحظ أنه بوجود الزعيم تكون
نتيجته جيدة ، وهي عالية بالمقارنة مع الجماعات الشورية ، ولكنها مطبوعة(1/489)
بالتماثل أو التشابه القوي والاختلافات بين الأفراد جد ضعيفة . ولكن بغياب الزعيم
ينهار الإنتاج ، وتتخلى الجماعة عن أي مسؤولية أو مبادرة .
وفي الجماعات ذات القيادة الشورية فالنتيجة مرتفعة ومستقرة ، وحتى بعد
مغادرة الزعيم للجماعة . وهذا الوضع يساعد على التعبير عن الاختلافات الفردية .
وهكذا فالمنتوج من نوعية ممتازة ، ولكنه أقلّ انتظاماً من الوضعية المستبدة .
ورضا عناصر الجماعة يكون مرتفعاً ، والمناخ الاجتماعي - الشعوري إيجابي ،
كما أن الالتحام قوي . فهذه الجماعات تستطيع أن تصمد أكثر من غيرها لمحاولات
التقسيم الخارجية ، كما أن العنف تجاه المسؤول يمكن التعبير عنه بطريقة مباشرة ،
ولا يؤدي إلى توترات داخلية بين أفراد الجماعة ، كما هو الحال في المثال السابق.
وفي الجماعات ذات القيادة « ذره يفعل »[19] ، فالنتيجة جدّ سيئة ، دون أن
يكون لحضور الزعيم أو غيابه دور خاص[20] ؛ فهذه الجماعات يمكن وصفها بأنها
نشيطة وغير منتجة ؛ فالمناخ الاجتماعي الانفعالي للجماعة جدّ سيئ ، وكذلك
الالتحام ومستوى الرضا . وكما هو الحال في الجماعات السلطوية يظهر العنف
تجاه الآخرين ، وفي اتجاه الخارج ، ويوجد ضحايا .
وعرفت أبحاث ( لوين : Lewin ) وفريقه نجاحاً كبيراً في علم النفس
الاجتماعي ، وفي علم النفس الصناعي للأهمية الفعلية للإشكالية المدروسة ؛ فلم
توضح بأن نوع كذا من القيادة هو أفضل من نوع كذا ، ولكن بيّنت بأن كل نوع من
القيادة ينتج مناخاً اجتماعياً خاصاً ونتيجة معيّنة .
ويظهر بوضوح أنه إذا كان هدف الجماعة هو الإبداعية فالقيادة الشورية هي
الأكثر إنتاجاً وعطاءً ؛ فهي بدون عرقلة الإنتاجية تسمح باستعمال وجهات النظر
المختلفة عن طريق التعبير أولاً ، ثم اتخاذ خطوة موحدة تفترض مناخاً إيجابياً .
والأشكال الواقعية لهذا النوع من القيادات تمليها ضغوط المحيط الاجتماعي . على(1/490)
أن تطوير الإبداعية لدى جماعة تفترض على أية حال تعويض مفهوم السلطة
والزعيم بالمنشط والمنظم .
أقلية نشيطة وإبداعية الجماعات :
رأينا بواسطة لوين خاصة : أن الجماعة يمكن أن تكون الركيزة أو المعبر
للتحول ، ولكنها أيضاً - كما أظهرتها الأبحاث فيما يتصل بالتأثير الاجتماعي -
وسيلة خطيرة للامتثالية[21] والخضوع وإفقار الأفكار ، والحدّ من الإبداعية لصالح
قوانين وسلوكيات غالبة[22] والأفراد غير الممتثلين ليس لهم إلا الاختيار بين
الخضوع أو الخروج عن المألوف[23] .
وبفضل أعمال موسكوفيسي ( Moscovici ) يتبيّن أن الأقلية لها أهمية
كبيرة ؛ وأظهرت الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي أن وجود أقلية داخل
جماعة يعتبر عنصراً مساعداً على التجديد والابتكار ؛ لأنه يساعد على تجاوز
قوانين الجماعة وعاداته[24] .
وإذا أحدثت الأغلبية تغييراً بتبني وجهة نظرها الخاصة[25] ، فالأقلية بدورها
تطلق سيرورة للتأثير أقل وضوحاً ، ولكن تؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومتنوعة
تساعد على الإبداعية .
ويحمل بحث حديث لنميت و واشتلر جواباً لهذه الإشكالة . والفرضية العامة
للكاتبين يمكن صياغتها على النحو الآتي : أفراد جماعة يكونون أكثر إبداعية إذا
كانت فيهم أقلية ذات تكوين قوي ومتماسك .
فديناميكية الأقلية وحركيتها وقوتها تدفع الأفراد إلى التساؤل عن مواقعهم ،
وتساعدهم على تناول جوانب أخرى من الواقع ، وإيجاد حلول جديدة ومختلفة .
والنتائج المتحصّل عليها بعد الاختيارات تُظهر :
* أن الأفراد يتبعون رأي الأغلبية أكثر من اتباعهم رأي الأقلية[26] .
* أن الأفراد الذين يشكلون أغلبية في مواجهة أقلية يعطون عدداً مرتفعاً من
الأجوبة الجديدة الصحيحة أكثر من الذين هم أقلية في مواجهة أغلبية[27] .
كما أظهرت النتائج أن تأثير الأغلبية وتأثير الأقلية يرتكز على سيرورتين
مختلفتين :
1- أن الأغلبية جدّ فعّالة لجرّ الأفراد نحو الحلول التي تقترحها ، بمعنى نحو(1/491)
امتثالية قارة [28] . وعلى العكس ، إذا كانت الأقلية تدفع أقل نحو هذا النوع من
السلوك فإنها تساعد الأفراد على اللامركزية ، وعلى تحليل يأخذ بعين الاعتبار
العناصر المقترحة التي تعين على إنتاج حلول جديدة ومبتكرة غالباً ما تكون
صحيحة .
2- أن وجود جماعة ذات أقلية نشيطة وقوية يمكن اعتبارها عاملاً مساعداً
على الإبداعية . وهذه النتيجة تعين على توضيح النتائج المتحصَّل عليها من طرف
( موسكوفيسي ، و لاج ) التي تبين أن تأثير الأقلية هو جدّ قوي في محيط تكون
قاعدته هو البحث عن الأصالة واكتشاف الجديد .
________________________
(*) هناك فرق بين الإبداع والإبداعية ؛ فالإبداع يعني اكتشاف الجديد ، والإبداعية تعني إيجاد ملكة الإبداع لدى الأفراد والجماعات .
(1) علم النفس الاجتماعي ، تأليف مجموعة من الباحثين الفرنسيين ، نشر تحت إشراف سيرج موسكوفيسي ، باريز ، المطابع الجامعية لفرنسا ، 1992 .
(2) عبد الكريم بكار ، مدخل إلى التنمية المتكاملة : رؤية إسلامية ، ص 87 .
(3) المرجع نفسه ، ص87 .
(4) معنى ذلك أن الإبداعية كامنة في جنس الإنسان ، إلا أنها في حاجة إلى من يحفزها وينشطها لتخرج إلى عالم الواقع .(1/492)
(5) لما كان وجود الفرد في الجماعة أمراً ضرورياً ، ولا يتمّ شيء من المعاني المذكورة إلا في إطار الجماعة ، رغب النبي صلى الله عليه وسلم فيها وحثّ عليها ، بل وأمر بها ، كما جاء في حديث عمر - رضي الله عنه - : « فمن أراد بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة » (أخرجه الترمذي في سننه وقال : حسن صحيح) ، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : « يد الله مع الجماعة » (أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة وصححه الشيخ الألباني) ولتربية الروح الجماعية عند المؤمنين شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالبنيان ، في تماسكهم وتفاعلهم وتكاملهم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ، (أخرجه البخاري في كتاب الأدب) ، كما وصفهم بالجسد الواحد ، (المصدر نفسه ، كتاب
الأدب) .
(6) كراع الذبيحة وبطنها .
(7) إن التغيير في القرآن الكريم سنة اجتماعية لا سنّة فردية ، بدليل قول الله -عز وجل - : [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ] (الرعد : 11) ؛ إذ كلمة قوم تعني الجمع أو الجماعة ، فكل فكرة أو خبرة اجتماعية تُقدَّم للإنسان تؤثر في مواقفه ، سواء كانت هذه الأفكار والخبرات إيجابية أم سلبية وإنما يتجلى الحذق والمهارة في إعطاء مواقف أسلم وأيسر ولا يتم ذلك إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ .
(8) إن روح المخاطرة والمغامرة يؤطرها فعلاً السلوك الجماعي سواء على صعيد الفكرة أو الموقف فالتواصي بالحق والصبر الذي جاء في « سورة العصر » لا يتصور إلا في جماعة يوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك ، ويتعاون الجميع على تكاليف الإيمان ، بما يوحي ذلك من مجازفة ومخاطرة بالمال والنفس ، والصدع بالحق لتغيير الواقع من سيئ إلى أحسن .
(9) اختلاف التنوع .
(10) اختلاف التضاد .(1/493)
(11) إن التعدّد الإيجابي ينصبّ في قناة اختلاف التنوع ؛ حيث يعمل عناصر الجماعة الواحدة أو الجماعات على إغناء الخبرات والمواقف بالأفكار المتنوعة ، وعلى سدّ حاجات المجتمع وتصحيح مساره بشتى الأساليب ، وعبر جميع الوسائل والطرق في سبيل التجديد والتغيير .
(12) ولحلّ هذه الإشكالية ينبغي التفاهم والتطاوع ، كما جاء في حديث ابن أبي بُردة عن أبيه قال : « بعث النبي صلى الله عليه وسلم جدّه أبا موسى الأشعري و معاذاً إلى اليمن فقال : يسّرا ولا تعسّرا ، وبشرا ولا تنفرا [وتطاوعا] ، (الحديث) أخرجه البخاري في كتاب المغازي وفي حديث غزوة ذات السلاسل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمدّ عمرو بن العاص بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين من المقاتلين ، وأمره أن يلحق بعمرو وألاَّ يختلفا ، فأراد أبو عبيدة أن يؤمّ بهم فمنعه عمرو وقال : إنما قدمت عليّ مدداً وأنا الأمير ، [فطاوعه أبوعبيدة] (الحديث) انظر الفتح ، غزوة ذات السلاسل .
(13) اختلاف التنوع .
(14) مصطلح أنجلو - أمريكي يعني البحث عن أفكار أصيلة ، وجديدة داخل جماعة من الناس ، وذلك بتحفيز قدرائهم للتعبير الحرّ عن أفكارهم ، وخواطرهم (قاموس لاروس) .
(15) في الواقع ، فإن أفراد الجماعة على نفس المستوى الذهني ، ولكن أوهموا بأن معهم خبراء لاختبار ردود أفعالهم في هذه الحالات .
(16) فكرياً وشعورياً .
(17) إن المتأمل في مسارات الأمم السابقة واللاحقة عبر الاستقراء والتجربة يلاحظ أنه كلّما ساد الاستبداد جماعة أو أمة أو دولة كان ذلك سبباً لسلب المجتمع إرادته وحريته ، فتخدَّر مشاعره فلا يميز بين ما ينفعه وما يضرّه ومما لا شك فيه أن ظاهرة الاستبداد تقتل روح الإبداع وتحول دون تفجير الطاقات ، مما يؤدي إلى المنحدر الخطير من التدهور والاضمحلال بكافة صوره على مختلف الأصعدة.(1/494)
(18) على أنه كلّما حظي المجتمع بالاستقرار والعدل والشورى ، كان ذلك مناخاً ملائماً للإبداع العلمي وحافزاً على التطور الإنساني ولذلك أمر الله - عز وجل - المؤمنين بالتشاور فيما لا نص فيه : [ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر ] (آل عمران : 159) ، [ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ] (الشورى : 38) ، وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (سنن الترمذي ، باب ما جاء في المشاورة) ، وذلك تعويداً لهم على التفكير بالمشاكل الهامة، وحرصاً على تربيتهم على الشعور بالمسؤولية على أنه بالاستقراء نجد أنه كلّما اتسع نطاق الشورى كانت الجماعة أقرب إلى إصابة الحق .
(19) أي : يتصرف كما يشاء .
(20) ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود .
(21) إنتاج سلوك مشترك ومتشابه لدى مجموعة من الأفراد .
(22) إن البيئة الاجتماعية تلعب دوراً كبيراً في إخضاع الأفراد لمجموعتين من التقاليد والعادات الموروثة التي تنمّط السلوكيات وطرق التفكير ، وتنتج بذلك أوضاعاً تتسم بروح القطيع ، وضمور حسّ التجديد والابتكار ، كما جاء في الحديث الشريف : « ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه » الحديث أخرجه البخاري في كتاب القدر .
(23) يقصد هنا : محاولة الخروج عن الأوضاع والتقاليد الاجتماعية السائدة ، والرغبة في التغيير والتجديد .
(24) إن النخبة الفاعلة أو الفئة المصلحة تعدّ عاملاً مهماً في الإصلاح الاجتماعي وتهيئة الأوضاع الموصلة في النهاية إلى التغيير وهو مطلب شرعي ملحّ ، كما في قوله - تعالى - : [ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ] (آل عمران : 104) .(1/495)
(25) وهذا نادراً ما يحدث ؛ إذ على امتداد التاريخ الإنساني لم تستطع الأغلبية أن تقوم بدور التغيير ، وإنما النخب المصلحة هي التي تفعل ذلك : [ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ] (هود : 116) .
(26) إن تحديد الرؤى والمواقف داخل التصور الغربي يعتمد في الغالب على كثرة العدد ؛ فالأغلبية لها تأثيرها الواضح في مجريات الأمور ، وفي جميع القضايا المعروضة على الرأي العام بينما في التصور الإسلامي ، فإن تحديد الرؤى ومن ثمْ المواقف ينبع من خضوع الإنسان المسلم لمرجعية عليا.
(الوحي) بدل الاحتكام إلى رأي الأغلبية : [ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ] (الأنعام : 116) وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : « الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدي » أما رأي الأغلبية ، فيُتّبع إذا كان موافقاً للحق ، ويُترك إذا كان خلاف ذلك : « فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم » عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (البخاري : كتاب الأذان) وفي حديث الترمذي : « لا تكونوا إمَّعة » (الحديث) .
(27) إن التفوق العددي - في بعض الأحيان - يلعب دوراً في تحفيز الأفراد وتشجيعهم على الإدلاء بآرائهم والتعبير عن أفكارهم إذا كانوا يواجهون جماعة أقل منهم عدداً .
(28) وهو سلوك غير صحي .
قضايا ثقافية
الإبداعية الجماعية
( 2 -2 )
بقلم : جان كلود أبريك ترجمة : محمد بلحسن
راجع ترجمته وقدَّم له وعلَّق عليه : د . محمد أمحزون
في الحلقة الماضية مهد الكاتب لمراجعته بالإشارة إلى تقدم الغربيين في « علم
النفس الاجتماعي » وما هي الجوانب التي يهتم بها هذا العلم . ثم تطرق إلى مقدمة
المؤلف التي تحدثت عن اهتمام علم النفس بالإبداع ، وبين ماهية الجماعة التي(1/496)
تفضل التغيير ، ثم الجماعة التي تفضل المخاطرة ، وألمح إلى عدم تجانس الجماعة
وأثره في الإبداعية ، وانتقل إلى الكلام عن الزعامة والإبداعية ، فتحدث عن الزعيم
المستبد ، وعن الزعيم الشوري ، والزعيم الاسمي ، ثم بين أنه إذا كان هدف
الجماعة هو الإبداعية فالقيادة الشورية هي الأكثر إنتاجاً وعطاءاً ، وفي هذه الحلقة
يتابع الكاتب مراجعته القيمة . البيان
مهمة وإبداعية الجماعات :
الأبحاث التي سوف نعرضها الآن تدرس جميع العلاقات التي تجمع بين
« طبيعة المهمة » المنجزة من طرف الجماعة و « السلوك الاجتماعي
والشعوري والإداري » لهذه الأخيرة ، ويتبيّن من خلال الأبحاث أن ظاهرة
الجماعات محدّدة مباشرة بأربعة أنظمة معادلة ، سوف ندرسها على التوالي :
( أ ) تلاؤم « نموذج المهمة » مع « شبكة الاتصال » فلامون
( Flament ) 1965م :
تعني « شبكة الاتصال » مجموع الإمكانيات الحقيقية للاتصال بين أفراد
جماعة ما ، ويمكن تقديمها على الشكل الآتي :
إن عدداً كبيراً من الأبحاث المنجزة في الولايات المتحدة في سنوات
الخمسينيات أظهرت كيف أن قدرة جماعة على التنافس ، ونوع الزعيم ،
والاتصالات : هي محدّدة بواسطة شبكة الاتصالات المفروضة على الجماعة .
وتبدو النتائج متناقضة : لأن الشبكة المركزية تظهر أحياناً عنصراً مسهلاً ، وأحياناً
مشوشاً على كفاءة الجماعة .
ويرجع الفضل لفلامون في إزالة كل هذه المتناقضات بإدخال مفهوم جديد
لدراسة الجماعات : وهو : « نموذج المهمة » .
فنموذج المهمة أُنجز بواسطة تحليل منطقي رياضي لتطوير الاتصالات
الضرورية لإنجازات اجتماعية أفضل : فهو مجموع الاتصالات الصغيرة
الضرورية ، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المهمة . وأظهر فلامون أن كفاءة
الجماعة وقدرتها على التنافس تكون أفضل عندما يكون هناك تماثل أو تطابق بين
شبكة الاتصالات ونموذج المهمة . وبمعنى آخر : فشبكة الاتصالات ليست لها(1/497)
مميزات خاصة ، وينبغي أن ترتبط دائماً بنوع المهمة المنجزة [4] ؛ فهذا هو نظام
الملاءمة الأول الذي يدير ظاهرة الجماعات : تلاؤم أو تطابق « نموذج المهمة »
مع « شبكة الاتصال » .
( ب ) تلاؤم طبيعة المهمة مع بنية الجماعة :
سوف يتحول اهتمام موسكوفيسي و فوشو ( Foucheax / Moocovici )
عن دراسة شبكات التواصل لينصبَّ على تحليل العلاقات الرابطة « لبنية
الجماعة » [5] وطبيعة التواصل الفعلي المتبادل داخل الجماعة .
والجماعات التي تمّ انتقاؤها للاختبار تضم كل واحدة منها أربعة أفراد ، تواجه
على التوالي مهمتين نوعيتين :
* أشكال أولر ( Euler ) : نعرض للأفراد ألواحاً بها أشكال رسمت من
خلال تقاطع خطوط وأعمدة ، وهي عبارة عن مربعات منسقة . نجد في كل خانة
حرفاً ( أ ، ب ، ج ) ورقماً ( 1 ، 2 ، 3 ، 4 ) ، علماً بأنه لا يسمح بتكرار نفس
الحرف ونفس الرقم على الخط الواحد والعمود الواحد ، وأن التوفيقات ( أ 1 ، ب
2 ، د 3 ، ج 4 ) غير جائزة . يطالب الأفراد باكتشاف التوفيقات : س ( x ) من
أجل ملء الخانات . وهذه المهمة تفرض استعمال حساب رياضي من أجل بلوغ حلّ
يقدّم جواباً صحيحاً واحداً .
* أشجار ريجي ( Riguet ) : المطلوب من الأفراد تركيب سبعة عيدان
بطريقة تمكّن من الحصول على أشكال مختلفة ، يختلف كل شكل عن آخر إذا تمّ
تركيبه بطريقة لا تفضي بعد دورانه إلى شكل تمّ اقتراحه . وباستثناء البنيات
المغلقة نستطيع تركيب 23 شكلاً مختلفاً فقط . وهذه المهمة بالغة التعقيد عن سابقتها ،
إلى حدّ أنه لم تكشف الطريقة السليمة لاستخراج جميع الأشكال ، ولذلك فهي
توجب استحضار سلسلة من الاستنتاجات والابتكارات .
تتطلب المهمتان من أفراد الجماعة سلوكيات معينة وخاصة ؛ إذ يفترض لتأدية
مهمة « حلّ المسألة » إيجاد تنظيم وتنسيق بين أفراد الجماعة ؛ وذلك لما تفرضه
هذه المهمة من وضع استراتيجية مشتركة بين العاملين ، في حين أن المحاولات(1/498)
الفردية المبذولة لتأدية مهمة الإبداعية ، والتي لا تخضع لتنسيق سابق بين أعضاء
الجماعة لا تعيق سير العمل من بلوغ الأهداف المرسومة ، بل على العكس ، فإن
هذا النهج هو المطلوب في هذه الحالة شريطة أن يتم تصويب هذه الاجتهادات
الفردية وضبطها فيما بعد من طرف الجماعة ككل .
تختلف إذن كل من الضغوط والضرورات الإدراكية [6] للمهمة اختلافاً جذرياً ،
ولهذا يفترض الباحثون أن الضغوط التي تمارسها المهمة هي المحددة الفعلية
لدينامية ( حركية ) الجماعة . « على أنه توجد علاقات متكافئة بين كل من
« طبيعة المهمة » و « بنية التواصل » داخل الجماعة ، ومدى قدرة الأخيرة على
« حل المسألة » . وتؤكد النتائج هذه الفرضيات ( انظر الجدول رقم 2 أدناه ) .
نستنتج فعلاً أن مهمة « حلّ المسألة » تشجع على ظهور بنية مركزية للجماعة ،
بالمقابل فإن « مهمة الإبداعية » تقود نحو إفراز جماعات ذات بنيات متجانسة ؛
بمعنى أن كلّ الأفراد متكافئون ، ولا توجد أية تراتبية هرمية تجدد عطاءاتهم
وإنتاجاتهم .
فضلاً عن ذلك ، فإن عطاء الجماعة يكون أحسن إذا ما تبنّت هذه الأخيرة
علاقات تواصلية ذات بنية تلائم نوعية المهمة : « بنية مركزية » [7] عندما يخصّ
الأمر مهمة « حل مسألة » . و « بنية غير مركزية » [8] في حالة مهمة
« الإبداعية » .
وعلاوة على ذلك ، فإن كل نوع من المهمات ينتج نوعاً خاصاً من التواصل
داخل الجماعة : « تواصل خطابي » موجه لمجموع أفراد الجماعة ، ويحتوي أساساً
على معلومات في حالة مهمة تستوجب إيجاد حلول لمسألة معينة . « تواصل متبادل »
يشمل مجموع أفراد الجماعة ويتبنى توجهاً نقدياً في حالة الإبداعية .
أخيراً نستنتج أن الجماعات من أجل تحسين مستوى عطاءاتها ، تغير بنيتها
( تركيبتها ) التواصلية بمجرد إنجازها للمهمة الأولى ، وذلك لتتلاءم مع طبيعة
الضغوط التي تفرزها المهمة اللاحقة .(1/499)
على أن مجموع هذه النتائج يبيّن : أن طبيعة المهمة هي المحدد الفعلي
والحقيقي لبنيان الجماعات ، وكذا طبيعة التواصل المطلوب بين الأعضاء ونوعيته ،
وأن إنتاج الجماعة وعطاءها يصبح فعلياً وأكثر حضوراً على مستوى الواقع إذا
ما استطاعت الجماعة اتخاذ بنية ( تركيبة ) تماثل ( تكافئ ) بنية المهمة [9] .
وهكذا فإن مستوى إنتاج الجماعة يتحدد فعلاً من خلال نظام كامل للتلاؤم :
تلاؤم « طبيعة المهمة » و « بنية التواصل » داخل الجماعة .
( ج ) تلاؤم طبيعة المهمة مع البنية الاجتماعية للجماعة تتميماً للتحليلات
السابقة :
عملت أبحاث بواتو و فلامون : على دراسة التفاعل الحاصل بين البنية
الاجتماعية للجماعة التي تم تحديدها من خلال الاختبارات المعيارية [10] للعلاقات
الاجتماعية ، وكذا الاختلافات الوظيفية لأعضاء الجماعة وطبيعة نموذج المهمة .
ولن نعرض هنا تفاصيل الترتيبات التجريبية ، وكذا تفاصيل المهمة : كونها بالغة
التعقيد ، وسنكتفي فقط بالإشارة إلى أن الجماعات : تضم كل واحدة منها ثلاثة أفراد
تربطهم علاقة تراتبية ( هرمية ) .
وتختلف كل جماعة عن الأخرى ، من حيث طبيعة بنيتها الاجتماعية .
تقوم الفرضية العامة التي قدّمها الباحثون والتي تم التحقق منها على مستوى التجربة
من افتراض أن الجماعات تكون أكثر عطاءاً بشكل ملحوظ عندما تتلاءم بنيتها
الاجتماعية مع طبيعة نموذج المهمة ، مما يدفعنا إلى استنتاج وجود ما يسمى :
« مبدأ التلاؤم الوظيفي الرابط لبنية المهمة مع البنية الاجتماعية للجماعة » .
ولهذا فإن كل جماعة ترغب أن تكون منتجة ومعطاءة ، يجب عليها أن تتوفر
على بنية اجتماعية معينة ملائمة لطبيعة المهمات المنوطة بها . وبالإضافة إلى ذلك
فإنّ التلاؤم الحاصل بين الجماعة وطبيعة المهمة يعمل على تقوية العلاقات بين
أفراد الجماعة كلهم .
وبهذا يمكن البرهنة على النظام الثالث للتلاؤم ، والذي يربط طبيعة المهمة(1/500)
بالبنية الاجتماعية للجماعة .
خلاصة : إن معرفة العوامل الموضوعية الخاصة بالجماعة : شبكة العلاقات ،
والبنية الاجتماعية للجماعة ، وكذا طبيعة المهمة المراد إنجازها تسمح بالإحاطة
معرفياً بالديناميكية [11] الاجتماعية والتصورية للجماعة والتنبؤ بمسيرتها ونموها .
( د ) تلاؤم تصور المهمة مع طبيعة المهمة :
يمكن تعريف تصور المهمة ( البعد الرمزي ) على أساس أنه « نظرية أو
نسق من الافتراضات ينتجه أفراد الجماعة حول طبيعة المهمة ، غايتها ، الوسائل
الكفيلة لإنجازها ، وكذا مجموع السلوكيات الضرورية من أجل بلوغ حدٍ مُرضٍ من
الفعالية والحضور على مستوى الواقع » .
تتكون الجماعة الممتحنة من أربعة أفراد ، يطلب منها القيام بإحدى مهمتي
فوشو وموسكوفيسي ( Faucheux - Mascovice ) : الأولى : مهمة « حل
المسألة » ( أشكال أولر Euler ) والثانية : مهمة الإبداعية ( أشجار ريجي
Riguet ) .
يعمل المُخْتبر أثناء كل مهمة من المهمتين على تمرير تصورين مختلفين ،
وذلك عبر استمارات مستقرِئة ومسهلة لتداعي الأفكار :
تصور المهمة : يقال لعناصر الجماعة من أجل حثهم على تصور المهام
موضوع الاختبار : إن هذه الأخيرة ترتكز على الاستنباط : المنهج والتفكير الدقيق .
تصور الإبداعية : حيث يبدو لأفراد الجماعة أن المهمة تعتمد على الإبداع :
الجِدَّة والابتكار .
وتُظهر الفرضيات الأساسية للبحث ، والتي تم التحقق منها على مستوى
التجربة استنتاجين :
يحدّد تصور المهمة درجة فعالية ( عطاء ) الجماعة ؛ إذ إن تصورين مختلفين
لنفس المهمة يؤديان إلى بروز درجتين من الفعالية .
تصل فعالية الجماعة حدودها القصوى في حالات تلاؤم « تصور المهمة » مع
« طبيعة المهمة » ، ( انظر الجدول رقم ( 3 ) أدناه ) .
إن « تصور المهمة » يحدد السياق الحركي للجماعة ؛ إذ يشجع على ظهور
نشاط المراقبة بين المستويات المكونة لهرمية الجماعة : « طبيعة المهمة » التي(2/1)
تستوجب ضرورة تكوين بنيات تواصلية هرمية ، في حين تشجع « مهمة الإبداعية »
عناصر الجماعة على الإنتاج المتنوع والأكثر حدة .
فالتصور يحدد إذن نوع النشاط الذي سوف يسيطر على الجماعة ، والذي
يدفع هذه الأخيرة إلى تحقيق إنجازات معينة .
وإجمالاً ، تعمل مجموع هذه النتائج على إبراز نظام رابع للتلاؤم يسهم في
تسيير ظاهرة الجماعة ؛ فتصل الجماعة حدوداً قصوى من العطاء والفاعلية عندما
يتحقق التلاؤم بين تصور المهمة وطبيعة المهمة .
تقييم تنافس وإبداعية الجماعات :
إذا كان التوجه السائد في علم النفس الاجتماعي هو أن تقييم الجماعات يوقف
إبداعيتها ، فإنه من الثابت أن القليل من نتائج التجارب يساند هذا الرأي . وفيما
يتعلق بنتائج المسابقات المنظمة بين عناصر الجماعة الواحدة أو فيما بين الجماعات ،
فلا يبدو أنه بإمكاننا أن نستنبط من هذه النتائج المتعارضة المحصل عليها إلى
الآن توجهاً ما أو خلاصات متماسكة .
ومن وراء لفظة « إبداعية » يبرز مشكل إضافي ناتج عن إمكانية دراسة
ظواهر ذات طبيعة مختلفة أو أبعاد مختلفة لنفس الظاهرة . غير أنه يبدو جلياً أن
هذه المتغيرات سياق التقييم ، سياق التنافس بإمكانها أن تؤثر بكيفية مميزة على
مختلف مكونات النهج الإبداعي . ويبدو لنا أن التجربة الحديثة نسبياً التي قام بها
جلوفر ( Glover ) سنة 1979م توضح وتبرهن بما فيه الكفاية على صحة هذا
الرأي .
وتدرس هذه التجربة النتائج الخاصة بثلاث حالات للجماعة :
حالة تأخذ بعين الاعتبار قدرات الجماعة على التنافس من خلال سياق التقييم
والتنافس بين الجماعات .
حالة تأخذ بعين الاعتبار قدرات الفرد على التنافس من خلال سياق التقييم
والتنافس بين عناصر الجماعة الواحدة .
حالة تغيّب أهمية قدرات الفرد أو الجماعة على التنافس ، وكذا كل تقييم أو
تنافس بين عناصر الجماعة الواحدة أو فيما بين الجماعات .(2/2)
تقسم الموضوعات على جماعات من ستة أفراد ؛ وعليها أن تحقق مهمة متبعة
من خلال اختبارات الإبداعية : أي إيجاد كل الاستعمالات الممكنة لمعطيات معلومة .
في مرحلة أولى : تشتغل جميع الجماعات في نفس السياق غير الخاضع
لعمليتي التقييم والتنافسية . وفي مرحلة ثانية : يقوم المشرف على التجربة بإدراج
التعليمات المصوغة للشروط التجريبية الثلاثة .
وتكمن أهمية عمل جلوفر في كون اهتمامه لن يرتكز على النتائج الخاصة
المحصّل عليها من لدن الجماعات ، بل على النتائج المحصل عليها من خلال أربعة
أبعاد مختلفة لهذا الناتج .
في حالة السلاسة : يكون عدد الأجوبة مختلفاً .
في حالة المرونة : يكون عدد الأجوبة النموذجية مختلفاً .
غنى الإعداد : أي مدى القدرة على إغناء الجواب .
الأصالة : وتحدّد من خلال عدد الأجوبة النوعية أو المتفرّدة .
هذا وتبيّن النتائج أن كل سياق له تأثير خاص على مختلف الأبعاد الإدراكية للمهمة
( انظر الجدول رقم ( 4 ) أدناه ) .
يساعد السياق غير الخاضع للتقييم والتنافس على الإثراء والابتكار المتعلقين
بإنتاج الجماعة غير أنه يقلّص من سلاسته ومرونته .
يساعد السياق « التقييمي التنافسي » على سلاسة الجماعة ومرونتها ، إلا أنه
يحول دون إثراء إعدادها وأصالتها .
يؤدي التركيز على الجماعة في الوضعيتين : التنافسية والتقييمية إلى حصول
السلاسة والمرونة الإدراكية أكثر مما يتم الحصول عليه عند التركيز على أفراد
الجماعة ؛ في حين لا يؤثر ذلك على تطور الإعداد والأصالة لديها .
وتبدو لنا هذه النتائج ذات أهمية بالغة إذا ما أكدتها أبحاث أخرى ؛ ذلك أنها
ستسمح باستنباط تحليل جديد لإبداعية الجماعات ، حيث سيلعب تحليل النظم
الإدراكية الذي تمّ استعماله في الإبداعية دوراً حاسماً ، كما سيسمح عند الاقتضاء
بتفسير التناقضات الملموسة بين بعض النتائج .
مناهج وتقنيات الإبداعية في إطار الجماعات :(2/3)
لنترك الأبحاث التجريبية جانباً ، ونتطرق للإبداعية في مظهرها الآخر :
إبداعية مجموعة من المناهج المعدّة لتحديد قدرات كل فرد ، لابتكار حلول جديدة ...
وبمغادرتنا المختبر وعالمه القاتم ، سنلج عالم التعبير العفوي والتحرري ؛ حيث
تبدو البشاشة والضحك والفكاهة ورفض الآراء شروطاً لازمة وضرورية لتطوير
الإبداعية .
ومهما كانت تقنيات الإبداعية ، فإنها تسعى فعلاً إلى تحقيق هدف واحد هو
رفع الضغوط العاطفية والاجتماعية أو الإدراكية التي تعمل على تقييد الخيال
الإبداعي .
ونجد من بين أهم عوائق الإبداعية :
التقاليد والعادات الفردية والجماعية [12] : يجب إذاً الحد من كل مقاومة تعرقل
التغيير .
السلطة وثقل الأنظمة والبيانات : يجب العمل على إزاحة الخضوع للسلطة ؛
سواء كانت سلطة رئيس أو سلطة خبير [13] .
عالم الضوابط الاجتماعية والإدراكية : يجب التغلب على الامتثالية [14]
والتماثل [15] .
العقل : أطره وحدوده وقواعد عمله : يجب الانسلاخ عن السلوك العقلاني أو
تعليقه أثناء مراحل الإبداع [16] .
ومن أجل رفع هذه العراقيل تم إعداد حالات مختلفة تسعى جميعها إلى تحقيق
الهدف نفسه : ألا وهو تحرير العفوية التي تُعتبر أساس الفكر الإبداعي . ومن ثم
تبدو أهمية هذا المناخ الودي ، واستعمال كل وسائل الإثارة الفكرية والعاطفية التي
تهدف إلى استرجاع أو خلق وضع ونظرة جديدة إلى الأشياء والأفكار المقبولة على
العموم ، وليس بإمكاننا طبعاً تقديم كل هذه التقنيات في إطار هذا البحث ، غير أن
معظمها لا يشكل سوى متغيرات للمناهج الأربعة التي آثرنا تقديمها لاحقاً .
1 - تحفيز الإبداع ( Lebrainstarming ) والتقنيات المشتقة
عنه :
« تحفيز الإبداع » تقنية نشيطة ، عرف وما زال يعرف نجاحاً هائلاً ،
ضبطه منذ 1938م أوسبورن ( Osbarn 1962 / 1921 ) عندما كان يشغل
منصب مدير وكالة إشهارية بالولايات المتحدة . ولا يزال « تحفيز الإبداع » مع(2/4)
التقنيات المشتقة منه أحد أكبر الوسائل المعتمدة في دراسة الأسواق من لدن معظم
المصالح العمومية الأمريكية ، وعدد كبير من المقاولات والمنظمات .
أ - المنهج :
يرتكز تحفيز الإبداع على مبدأين أو فرضيتين أساسيتين :
ضرورة فصل دالَّة الإنتاج والبحث عن أفكار دالَّة التقييم والحكم ( إيجابي أو
سلبي ) .
يفضل تحقيق تحرير الإبداعية عن طريق الجماعة شريطة أن تكون
الاجتماعات منظمة ومنشطة بإتقان .
وتستلزم التقنية في حد ذاتها ثلاث مراحل :
* المرحلة الأولى : الإعداد ، ويتعلق الأمر بتحديد محور الدراسة فضلاً عن
تكوين جماعة من عشرة إلى اثني عشر فرداً غير متجانسة ما أمكن .
* المرحلة الثانية : تتكون من جلسة تحفيز الإبداع ذاتها التي تتراوح مدتها
بين نصف ساعة وساعة واحدة ويسيّرها منشطان اثنان . والهدف المحدد للجماعة
هو تقديم أفكار مع التقيّد بالقواعد الأربعة الآتية :
يمنع خلال الجلسة إصدار أي حكم نقدي ( إيجابي أو سلبي ) .
تشجيع الخيال الحرّ : يجب صياغة كل الأفكار مهما كانت غريبة ووهمية .
المطلوب في هذه المرحلة هو كمية الأفكار وليس كيفيتها .
أخيراً المبتغى هو قرصنة أفكار الآخرين ، أي من الممكن في هذا الصدد جمع
وخلط وتتميم الأفكار المعبّر عنها من طرف باقي أفراد الجماعة .
* المرحلة الثالثة : وتتم فيها عملية فرز وانتقاء وتمحيص حصيلة هذه الأفكار ،
ويتم إنجاز ذلك في أعقاب الجلسة من طرف مجموعة صغيرة مختلفة عند
الاقتضاء . وبالإمكان اعتبار معدل 10% من الأفكار المعبّر عنها خلال جلسة
« تحفيز الإبداع » هو الصالح للاستعمال .
ب - التقنيات المشتقة :
* الفكرة الرئيسة : يرى أوسبورن ( Osborn ) أن تجميع الأفكار يلعب
دوراً أساسياً في الإبداعية ؛ حيث تنبثق أحسن الأفكار عن الخلط والتجميع
المرتكزين على المحاكاة والمفارقات والتقارب . ويمكن لهذا البحث أن ينجز بحرية ،(2/5)
كما يمكن بواسطة طرف الاستفهام ( الأسئلة ) إما لذاتها أو مندمجة مع حصة من
حصص « تحفيز الإبداع » .
* منهج البيانات الاستقرائية : يرتكز على تكوين أفكار انطلاقاً من الشبكة
التالية : وضع قاعدة تفكير ، واكتشاف استعمالات جديدة لشيء ما مثل : عبّر ، كبّر ،
كيّف ، قلّل ، استبدل ، أعاد الترتيب ، قلب ، خلط .
* منهج حذف أو تغيير عناصر موجودة : يرتكز على تكوين أفكار انطلاقاً من
حالات خيالية مرتبطة بالمحور أو الشيء المدروس ، مثلاً ماذا كان سيجري : « لو
اختفت الكهرباء فجأة من الكون ؟ » أو لو نما إبهام ثان في اليد اليمنى ؟ » أو « لو
تضاعف ثمن الخبز والدقيق مائة مرة ؟ » .
ومن جهة أخرى يمكن استعمال هذا المنهج إما لإطلاق عملية البحث عن
أفكار حول محور ما ، أو كمنهج تربوي تكويني للإبداعية : إنه يسمح فعلاً بالتمرن
على عدم التمركز الإدراكي وعلى المرونة والأصالة .
ج - أبحاث مختبرية فحصية :
يعتبر « تحفيز الإبداع » ( Braingtorming ) أحد المناهج القليلة المحثة
على الإبداعية والتي أثارت العديد من الأبحاث المختبرية ، للتأكد من صحة المبدأين
الأساسيين المقترحين من لدن أسبورن ( Osborn ) . ونؤكد أن نتائج هذه
الأبحاث المختبرية ( انظر روكيت 1976 : Rouquette ) جاءت مخيبة لآمال
مؤيديها ( أي لم تأت تماماً كما كان يأمل مؤيدوها ) ؛ فإذا كان المبدأ الأول الذي
يقول بوجوب فصل عمليتي إنتاج الأفكار وإصدار الأحكام حولها قد تحققت فعاليته
بامتياز على مستوى التجربة ، فإن المبدأ الثاني الذي يحث على ضرورة إحداث
عمل جماعي من أجل رفع مستوى الإبداعية لم يتمّ استيفاؤه مختبرياً .
ومن دون الدخول في جدل المقارنة بين حالتي الجماعة والفرد ، فقد اتضح
من خلال استقراء نتائج المهمات المدروسة داخل المختبر أن « تحفيز الإبداع »
( Braingtorming ) في حالة الجماعة يؤدي إلى مستوى إبداعي مشابه ( مقارب )
للذي نحصل عليه في الحالات الفردية .(2/6)
2 - السينكتيك La synectique :
يستند منهج « السينكتيك » أساساً على الاستعمال الواعي والمنظم للاستعارة
( أو المجاز ) ، ويهدف إلى تكوين الفكر الإبداعي المناسب للجماعة ، ثم استعماله في
تحليل المشاكل الملموسة .
ويدور منهج جوردون ( 1965 : Gordon ) وفكرته المركزية حول اعتبار
الاستعمال الاستكشافي للاستعارة أساس الإبداعية ، ومن ثم سنتعلّم وسندفع الجماعة
إلى جمع وخلط وتقريب العناصر التي تبدو في الظاهر دون علاقة فيما بينها .
يتعلق الأمر إذاً بجماعة تهدف إلى تحويل الغريب إلى مألوف والمألوف إلى
غريب . والمحاولة التي تمّ تحقيقها جماعياً وتستعمل دينامية ( حركية ) الجماعة ؛
محاولة تستلزم خلق جو من الاطمئنان واللهو والمتعة حتى يسترجع المشاركون
نظرة الطفل وسلوكه تجاه الواقع ؛ فاللعب باعتباره سلوكاً ذهنياً وملكة إبداع هو
الجواب الصحيح عند الكبير عن سلوكيات الطفل وملكاته ، ولا يعدو الأمر بالنسبة
للكبير أكثر من اكتشاف حالة الطفولة في حين نعتبر على العموم الكبير الذي يجد
متعة في اللعب طفولياً . وعلى العكس من ذلك تعتبر « السينكتيك » أن هذه الحالة
يجب الاعتناء بها واستغلالها بتأنّ بهدف تشجيع الحركة الإبداعية [17] .
على أنه سيتحقق انقلاب في وجهات النظر والنظرة الجديدة المتوخاة بواسطة
تقنية تقتضي الاستعمال المنهجي لثلاثة أنواع من التماثل :
التماثل الشخصي : ويقتضي مطالبة المشاركين في الاختبار بالتماثل مع
عنصر من عناصر المسألة المدروسة ثم تصور ردود الأفعال والسلوكيات
والأوضاع التي سيصبحون عليها حينئذ [18] .
التماثل المباشر : ويقتضي استعمال معارف مادةٍ ما في ميدان مادةٍ مختلفة ؛
فيمكن مثلاً الرجوع إلى البيولوجيا الحيوانية لدراسة مشاكل إطلاق القذائف البحرية ،
أي أننا ننقل معلومات ميدان معلوم لإيجاد حلول مسألة في ميدان مغاير .
التماثل الرمزي أو الخيالي : يقتضي استبدال مادة الإشكالية ( محلّ الدرس ) :(2/7)
إما بصورة رمزية ( الكويرة من الكريستال بالنسبة لاختبار بسيكولوجي نفسي
مثلاً ) أو رسوم كلمية [19] تستند إلى عنصر التعجب والخيال واللا معقول إلخ .
ويتعلق الأمر هنا بترك المجال حرّاً للأوهام والتعبير الشعري والحُلم ، بكيفية تجعل
إنتاج أفكار جديدة أو أسلوب جديد يتصدى للمسألة .
ويمنح منهج « السينكتيك » امتيازاً للجماعات الأكثر تبايناً بكيفية تجعل
فوارق الرأي تزداد حدة ، وفضلاً عن ذلك ، يكون أعضاء هذه الجماعات قد
تعرّضوا لعملية انتقاء بناءً على اختبارات ومحادثات ترتكز على « سلوكهم
الاستعاري » ، وقد رتبهم على عدم التمحور الذاتي والإدراكي ، ويتوزع التكوين
على عدّة أشهر ويضم ثلاثة أطوار :
ففي طور أوّلي تتفاعل الجماعة بكل عفوية مع المسألة المطروحة التي تحاول
تحديد كل مظاهرها ، بما في ذلك الأكثر غرابة ، ويؤول هذا الطور إلى كشف
الأبعاد الواجب تحليلها . ويعتبر الطور الثاني مرحلة إنتاج ترتكز على الاستعمال
المنهجي للمعادلة القياسية . وفي الأخير تتم العودة إلى الواقع ضمن مرحلة ثالثة ،
وذلك لدراسة مختلف الحلول المرتقبة وتكييف الحلول القياسية مع المسألة الملموسة .
وقد عرف المنهج السينكتيكي نجاحاً كبيراً ، مثله في ذلك مثل « تحفيز
الإبداع » ، ولا يزال حالياً يُستعمل كثيراً إما في شكله الكلاسيكي ( التقليدي ) أو في
أشكال متفرعة عنها مثل منهج ( Interlog ) ( انظر : جوي 1975 :
Jaoui ) أو منهج ( Bionique ) ( انظر : جيراردان 1972 : Jerardin ).
3 - التحليل التشكُّلي [20] :
يرتكز التحليل التشكُّلي على الاستعمال المنهجي للتنظيمات ، باعتبار النشاط
الإبداعي استكشافاً تنظيمياً لمجموعة من العناصر الموجودة والمرتبطة بمسألة
معلومة . ما نبحث عنه إذن هو : كيف يمكن أن تنتظم هذه العناصر وتتجمع ؟ وما
هو نوع الحلول التي تنتج عن هذه التنظيمات ؟ وبذلك نكون قد شكّلنا « قوالب(2/8)
حقيقية للاختراع » تسمح لنا باستكشاف منهجي لعالم ما هو ممكن ( انظر : كوفمان
1970 : Kaecfmon ) .
في مرحلة أولى بالطبع يمكن استعمال هذه الخطة في حالة فردية يكون هدف
الجماعة هو دراسة المسألة لمحاولة طرحها بعبارات أوسع وأعمّ ؛ ثم استقراء
العناصر ( أو كل الأبعاد ) المكونة للمسألة العامة ، وفي الختام تحليل كل عنصر
بالنسبة لأبعاده المختلفة [21] .
وبعد وضع قالب أو عدة قوالب ، أي إعداد جدول ذي مدخلين يضم قائمة كل
العناصر ؛ إذ تقتضي المرحلة الثانية دراسة كل الحلول الممكنة المطابقة للتقاطع
الثنائي لكل متغيّر . وفي هذه المرحلة يمكن لإبداعية الجماعة أن تتطور بفضل ما
تمنحه لها شبكة الاستكشاف المنهجي الذي يحدده القالب من تشجيع وإثارة وتوجيه .
وفي المرحلة الثالثة يتم تدارس واختيار الحلول الملائمة للمسائل أخذاً
بالحسبان العراقيل التقنية والقانونية والمالية .
يتضح إذن أن هذا المنهج بطيء حتى ولو كانت مرحلة التنظيم تتم بمساعدة
الحاسوب ، غير أنه يبدو حالياً في توسع كبير . وإن حصلنا على القليل من النتائج
المضبوطة ، فإنه يحسب الأمر لتطبيقه في مجالات حساسة جديرة بالكتمان :
الملاحة الجوية ، علم الفلك ، الفيزياء ... إلخ .
4 - المناهج التطبيقية [22] :
نجمع تحت هذا العنوان نوعاً أخيراً من المناهج السائدة بكثرة ، والتي تلامس
مجال التحليل الطبي للجماعة ، وإن كانت أهدافها مختلفة تماماً ، وتتطلب منشطاً أو
منشطين ذوي كفاءة خاصة ويخضعان للمراقبة .
أ - مناهج ترتكز على القيام بدور :
يقوم كل عنصر من الجماعة مقام الشخصية المعنية أو مقام مادة من مواد
المسألة المعروضة ، ويمثل السلوك الذي يمكن أن تنتجه بتفاعله المحتمل مع باقي
عناصر الجماعة الذين يقومون مقام مواد أخرى . وإذا تعذّر القيام بهذا الدور فيمكن
مطالبة المشاركة بالتعبير الشفهي لمدة عشر دقائق فقط باسم المادة التي يمثلها . وفي(2/9)
كلتا الحالتين يتابع جزء من الجماعة ما يحدث ويكرره في نفسه ، ويحاول توجيهه
إلى المسألة الملموسة قيد الدرس .
ب - الحُلم اليقظ الموجَّه [23] :
يتم تحقيق هذاالمنهج بواسطة جماعة قليلة العدد ( عشرة أفراد على الأكثر ) ،
وتستلزم جعل المشاركين في حالة بين النوم واليقظة ؛ حيث يكون المشاركون
ممدودين في ظلمة خفيفة ، مستعملين تمارين استرخائية مناسبة . تدوم الحصة من
ساعة إلى ساعتين ، ويقوم المنشط باستعراض رسوم ومواضيع حيادية في البداية ،
ثم يجعلها تقترب شيئاً فشيئاً من المسألة المدروسة ، ويكون رد فعل عناصر الجماعة
بواسطة أحلام يقظة مقرونة بالمواضيع المقترحة . بعد ذلك يتم معالجة هذه القرائن
والأحلام وتحليلها من لدن الجماعة والمنشط والملاحظين .
ومن الواضح أن هذه المناهج تهدف جميعها إلى التقليل من سلبية الأفراد
وتحفُّظهم بكيفية تسمح لهم بإزالة العقبات والعوائق أمام قدرتهم الإبداعية ،
والوصول إلى صور وأحاسيس أكثر تعمقاً [24] . ويظهر أنها تعرف نجاحاً كبيراً
في مجال دراسة الأسواق والإشهار ؛ حيث يظل الهدف المهيمن هو البحث عن
ردود الفعل والحوافز الكامنة ، كما يظهر من جهة أخرى أن تطوير هذه المناهج
واستعمالها دون مراقبة يطرح عدة مشاكل أدبية جديّة .
خلاصات :
كما سبق أن رأينا من خلال هذا العرض الموجز ، فإن تقنيات الإبداع وافرة ،
كما أن جهود الذين يعملون على تطبيقها مثمرة بصفة خاصة ، بما في ذلك الذين
يزعمون أنهم يكونون بأنفسهم علم الإبداعية . وكما هو معلوم فإن مسألة التجديد
تصير شيئاً فشيئاً مشكلة اجتماعية اقتصادية أساساً ، وتمر عن طريق العمل
الجماعي ؛ لأن هذا الأخير تم تعميمه في المقاولات ، وكذلك في ميدان البحث
العلمي والتربية ، وفي كل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية . لكن رغم كل هذا
فإن البحث في إبداعية الجماعات سواء كان نظرياً أو تجريبياً لا يزال في بدايته .(2/10)
وكما أشار ماكجرات وكرافيتز ( 1962 : Kravitg/ Mcgrath ) في مجلة
نشرت أخيراً تهتم بالأبحاث حول الجماعات ؛ فقد بقي علينا أن نقوم بكل شيء في
هذا الميدان أو تقريباً كل شيء ؛ ذلك أنه باستثناء فترة قصيرة تم خلالها نشر
« تحفيز الإبداع » ( Brainatorming ) وما حققه من نجاح ، فإن هذا المبحث من
علم النفس الاجتماعي ظل مبحثاً مشؤوماً لأسباب تتعلق بصعوبة إجراء التجارب
والتحليل المنهجي الإبداعي ، كما تتعلق بتعقّد التطور التدريجي المتتابع نفسه الذي
تجري عليه المتغيرات الإدراكية والعاطفية والاجتماعية في نفس الوقت [25] .
ومع ذلك يبدو أن علم النفس الاجتماعي لا يمكنه أن يهمل هذه المسألة طويلاً ،
وبإمكانه تغذيتها بأجوبة رئيسة بفضل الخطة التجريبية التي تبدو ملائمة لهذا
النوع من الأسئلة في شأن التطور الاجتماعي والاقتصادي .
يبدو لنا إذن أن دراسة إبداعية الجماعات يجب أن تتحول في السنوات القادمة
إلى أحد موضوعات البحث المهيمنة على نظامنا .
________________________
(1) الرسم رقم (1) يمثل شبكة اتصال ذات سُلطة هرمية ، تصدر الأوامر ، وتقوم عناصر الجماعة بتنفيذها .
(2) الرسم رقم [2]: يمثل شبكة اتصال متفاعلة وإيجابية ؛ إذ يقوم عناصر الجماعة بالاتصال بعضهم ببعض ، مما يساهم في تفعيل العلاقات بينهم وإغنائها ، وإذكاء روح الإبداع لديهم .
(3) الرسم رقم [3]: يمثل شبكة اتصال مركزية ؛ إذ يقوم المركز وحده بدور الاتصال بالأطراف .
(4) يعني ذلك أن تكون شبكة الاتصال التي تتكون منها عناصر الجماعة متفاعلة فيما بينها ومنسجمة، ومدركة تماماً لطبيعة المهمة المنوطة بها وأبعادها .
(5) العناصر التي تتركب منها الجماعة .
(6) مجموع الخصائص المحددة للمهمة .
(7) بنية هرمية تعمل على توجيه المعلومات من القيادة إلى القاعدة .
(8) بنية متجانسة ، بمعنى أن جميع الأفراد متكافئون وظيفياً داخل الجماعة .
(9) القياسية .
(10) القياسية .(2/11)
(11) مجموعة القوانين التي تحدّد سلوكيات جماعة معينة ، مستندة إلى نظام ترابطي بين أعضاءها ، وتعنى بدراسة الدور الذي تلعبه هذه القوانين في التواصل ، واتخاذ القرارات والإبداعية داخل الجماعة (12) عندما تكون سلبية وجامدة ، وخاضعة للأمزجة والأهواء ، وتعيق توظيف الطاقات المبدعة لدى الأفراد والجماعات فالإسلام لم يلغ جميع الأعراف والعادات الجاهلية ، وإنما ألغى منها ما كان مخالفاً للفطرة والحق .
(13) يعني تعويض مفهوم السلطة والزعيم بالمنشط والمنظم ، لتطوير الإبداعية وتفجير الطاقات الكامنة .
(14) إنتاج سلوك مشترك ومتشابه لدى مجموع من الأفراد .
(15) النمطية والتشابه في الأفكار .
(16) يقصد هنا إطلاق العنان للخيال والتفكير الخصب ، وذلك بغية توليد الأفكار ؛ إذ كلما زاد عدد الأفكار المقترحة من أعضاء الجماعة زاد احتمال بلوغ قدر أكبر من الأفكار الأصيلة أو المعينة على الحل المبدع للمشكلات .
(17) فنحن في تصورنا الإسلامي نعتقد بأن أعظم مصدر للتنوع وتحقيق الذات هو خلق اتجاهات متعددة لإنجاز الأعمال ، وتنويع الطروحات الفكرية ، والسير الأفقي على امتداد الزمان والمكان للنظر والاعتبار : [ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ ] (آل عمران : 137) ، [ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ] (العنكبوت : 20) .
(18) ويقتضي ذلك تجاوز ذواتهم وتقمص الخصائص المحدِّدة للمسائل المعروضة للدرس ، لمعايشة المشاكل والقضايا عن قرب ، وتمثل السلوك الذي يمكن أن تنتجه ، وإيجاد الحلول المناسبة لها .
(19) لها علاقة بتفسير الأحلام .
(20) علم التشكل (المورفولوجيا) علم يبحث في شكل الحيوانات والنباتات .
(21) أي الانتقال من الخاص إلى العام أو من الجزئي إلى الكليّ ، لأنه بعد استقراء العناصر الجزئية ، يمكننا استنتاج قواعد كلية أو عامة .
(22) قريبة إلى التحليل الطبي .(2/12)
(23) ما يطلق عليه جلسة القصف الذهني .
(24) ومعنى ذلك إطلاق العنان للتفكير ، والترحيب بكل الأفكار مهما يكن مستواها (سطحية أو عميقة) ما دامت متعلقة بالمشكلة موضوع الاهتمام ومغزى هذه القاعدة أنه كلما كانت الفكرة فجّة أو بكراً ، أي غير مصقولة ولا مشذبة كانت أفضل فالمهم وجود أفكار ، وسيكون تشذيبها فيما بعد أسهل والغرض من هذه القاعدة مساعدة الفرد على أن يكون أكثر استرخاءاً وأقلّ تحفظاً ، ومن ثَمَّ أعلى كفاءة في توظيف قدراته على التخيل وتوليد الأفكار (انظر : عبد الكريم بكار : مدخل إلى التنمية المتكاملة) وفي مرحلة ثانية ، فإن هذا الكمّ أساسي في توليد الأفكار الأصيلة والآراء المبدعة بمعنى أن الكم يولد الكيف ، أو يتبخّر الغثاء من الأفكار ويبقى جيّدها : [ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ] (الرعد : 17) .
(25) وهذا مما يدل على عجز الفكر الغربي لضبط بنية العلاقات الإنسانية والنفسية المجتمعية في سيرورتها الآنية أو المستقبلية ، مما يوحي بأن المرجعية الوحيدة القادرة على ضبط السلوك الإنساني هي « الوحي » : [ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ] (الملك : 14) لكن لا بأس من الاسترشاد والاستئناس بالخبرات الإنسانية ، وخاصة الغربية المعاصرة والاستفادة من أدواتها ووسائلها المختبرية وتجاربها الميدانية في مجال تفكيك وتحليل الظواهر الاجتماعية ، شريطة توظيفها في إطار المبادئ والقيم الإسلامية .(2/13)