|
المؤلف : عَبْدُ الهَادِي بْنُ حَسَن وَهْبِي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
إِصْلَاحُ الْقُلُوب
عَبْدُ الهَادِي بْنُ حَسَن وَهْبِي
المُقَدِّمَةُ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّاهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللّاهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللّاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا اله إِلَّا اللّاهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الكَلَامِ كَلَامُ اللّاهِ، وَخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّالأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا؛ وَكُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَةٌ، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
إِنَّ المُتَأمِّلَ فِي نَفسِهِ وَمَنْ حَولَهُ مِنَ النَّاسِ بِكَافَّةِ طَبَقَاتِهِم، لَيَرَى اهْتِمَاماً بَالِغاً وَانْصِرَافاً تَامّاً - إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللّاهُ - إِلَى العِنَايَةِ بِالمَظَاهِرِ المَرئِيَّةِ، وَغَفلَةً تَكَادُ تَكُونُ عَامَّةً عَنِ العِنَايَةِ بِالأَعمَالِ القَلبِيَّةِ وَالذَّخَائِرِ الخَفِيَّةِ.
مَعَ أَنَّ إِصْلاحَ القُلُوبِ مِنَ المَطَالِبِ العَالِيَةِ، وَالمَقَاصِدِ السَّامِيَةِ، وَأُمنِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَغَايَةٌ كَرِيمَةٌ لا تَصْلُحُ الأَحْوَالُ إِلَّا بِهَا بِإِذْنِ اللّاهِ تَعَالَى.
(1/1)
وَقَد صَارَ الكَلامُ فِي إِصْلاحِ القُلُوبِ عَزِيزاً وَغَرِيباً. «وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ»(1) وَإِذَا تَعَرَّضَ طَالِبُ العِلْمِ النَّافِعِ لِشَيءٍ مَنْهَا اسْتُغْرِبَ وَاسْتُبْعِدَ. فَهُوَ «مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ غُرْبَةً بَينَ النَّاسِ، لَهُم شَأنٌ وَلَهُ شَأنٌ، عِلْمُهُ غَيرُ عُلُومِهِم، وَإِرَادَتُهُ غَيرُ إِرَادَتِهِم، وَطَرِيقُهُ غَيرُ طَرِيقِهِم، فَهُوَ فِي وَادٍ وَهُم فِي وَادٍ»(2) مُنْفَرِدٌ فِي طَرِيقِ طَلَبِهِ. «فَلَزِمَهُ وَاسْتَقَامَ عَلَيْهِ»(3). طُوبَى لَهُ مِنْ وَحِيدٍ عَلَى كَثْرَةِ السُّكَّانِ، غَرِيبٍ عَلَى كَثْرَةِ الجِيرَانِ(4). وَلَقَد أَحْسَنَ القَائِلُ:
الطُّرُقُ شَتَّى وَطُرُقُ الحَقِّ مُفْرَدَةٌ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الحَقِّ أَفرَادُ
لا يُعرَفُونَ وَلا تُدْرَى مَقَاصِدُهُم ... فَهُم عَلَى مَهلٍ يَمشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِم ... فَجُلُّهُم عَن سَبِيلِ الحَقِّ رُقَّادُ
وَعَلَى الجُمْلِةِ: فَلا يَمِيلُ أَكثَرُ الخَلْقِ إِلَّا إِلى الأَسْهَلِ وَالأَوفَقِ لِطِبَاعِهِم.
«وَكُلَّمَا كَانَ الفِعْلُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَانَ اعْتِرَاضُ الشَّيْطَانِ لَهُ أَكْثَرَ»(5).
وَكُلَّما عَظُمَ المَطْلُوبُ وَشَرُفَ «كَثُرَتِ العَوَارِضُ وَالموَانِعُ دُونَهُ، هَذِهِ سُنَّةُ اللّاهِ فِي الخَلْقِ.
فَانْظُرْ إِلى الجَنَّةِ وَعِظَمِهَا، وَإِلَى المَوَانِعِ وَالقَوَاطِعِ التي حَالَتْ دُونَهَا، حَتَّى أَوجَبَتْ أَنْ ذَهَبَ مِنْ كُلِّ أَلْفِ رَجُلٍ وَاحِدٌ إِلَيهَا.
__________
(1) إعلام الموقعين (4/217 - 218).
(2) فوائد الفوائد (ص348).
(3) مفتاح دار السعادة (1/214).
(4) إعلام الموقعين (4/218).
(5) …موارد الأمان (ص162).
(1/2)
وَانْظُرْ إِلَى مَحَبَّةِ اللّاهِ وَالانْقِطَاعِ إِلَيهِ وَالإِنَابَةِ إِلَيهِ وَالتَّبَتُّلِ إِلَيهِ وَحْدَهُ، وَالأُنْسِ بِهِ وَاتِّخاذِهِ وَلِيًّا وَوَكِيلًا وَكَافِياً وَحَسِيباً، هَلْ يَكْتَسِبُ العَبْدُ شَيئاً أَشْرَفَ مِنْهُ؟»(1).
وَانَظُرْ إِلَى العَوَائِقِ الحَائِلَةِ دُونَهُ، مِنْ شِرْكٍ، وَبِدْعَةٍ، وَمَعصِيَةٍ؛ فَإِنَّها تَعُوقُ القَلبَ عَنْ سَيرِهِ إِلَى اللّاهِ، وَتَقْطَعُ عَلَيهِ طَرِيقَهُ، فَالعَوَائِقُ شَدِيدَةٌ، «لا يَخْلُصُ مِنْ حَبَائِلِهَا إِلَّا الوَاحِدُ بَعْدَ الوَاحِدِ، وَلَولا العَوَائِقُ وَالآفَاتُ لَكَانَتِ الطَّرِيقُ مَعْمُورَةً بِالسَّالِكِينَ، وَلَو شَاءَ اللّاهُ لأَزَالَهَا وَذَهَبَ بِهَا، وَلَكِنَّ اللّاهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ»(2).
وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ فِي غَفْلَةٍ عَنْ قُلُوبِهِم، جَمَعْتُ هَذَا البَحْثَ بِتَوفِيقِ اللّاهِ تَعَالَى، سَائِلاً المَولَى الكَرِيمَ أَنْ يُصْلِحَ بَوَاطِنَنَا وَظَوَاهِرَنَا، وَيُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَالحَمدُ للّاهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
الراجي رضى الرحمن
عبد الهادي بن حسن وهبي(3).
أُصُولٌ نَفِيسةٌ فِي إِصلاحِ القُلُوبِ
الأصْلُ الأَوَّلُ: الْقَلَبُ مَوْضِعُ نَظَرِ اللّاهِ تَعَالَى
__________
(1) …طريق الهجرتين (ص439).
(2) …طريق الهجرتين (ص336).
(3) …بيروت - لبنان. ص.ب 6093/13شوران.
هاتف 626787/03- فاكس791051/01
موقع الإنترنت: www. asseraj.net
البريد الإلكتروني: Asseraj@asseraj.net
(1/3)
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللّاهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»(1).
أَشْرَفُ مَا فِي الإِنسَانِ قَلْبُهُ، فَهُوَ مَحِلُّ نَظَرِ اللّاهِ سبحانه وتعالى، المَخْصُوصُ بِأَشْرَفِ العَطَايَا مِنَ الإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ. فَعَلَى العَبْدِ أَنْ يَهْتَمَّ بِقَلبِهِ وَيُزَيِّنَهُ بِالتَّوبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللّاهِ تَعَالَى، وَيُطَهِّرَهُ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللّاهُ تَعَالَى، فَإِنَّ زِينَةَ الظَّاهِرِ مَعَ خَرَابِ البَاطِنِ لا تُغْنِي شَيئاً. قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير? [الأعراف:26].
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ لِبَاسَيْنِ: لِبَاسًا ظَاهِرًا يُوارِي العَوْرَةَ وَيَسْتُرُهَا، وَلِبَاسًا بَاطِنًا مِنَ التَّقْوَى، يُجَمِّلُ العَبْدَ وَيَسْتُرُهُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ هَذَا اللِّبَاسُ؛ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ البَاطِنَةُ، كَمَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ الظَّاهِرَةُ بِنَزْعِ مَا يَسْتُرُهَا(2).
وَلَقَد أَحْسَنَ القَائِلُ:
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَاباً مِنَ التُّقَى ... تَقَلَّبَ عُرْيَاناً وَإِنْ كَانَ كَاسِياً
ِوَخَيرُ لِبَاسِ المَرءِ طَاعَةُ رَبِّهِ ... وَلا خَيرَ فِيمَنْ كَانَ اللَّهِ عَاصِياً
وَهَكَذَا إِذَا رُئِيَ الرَّجُلُ أَوِ المَرْأَةُ فِي مَنَامِهِ مَكْشُوفَ السَّوْأَةِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادٍ فِي دِينِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ ... وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ النَّاسِ عُرْيَانًا(3)
__________
(1) رواه مسلم [34 - (2564)].
(2) موارد الأمان (ص183).
(3) موارد الأمان (ص183).
(1/4)
فَاللّاهَ اللّاهَ فِي إِصْلاحِ السَّرَائِرِ؛ فَإِنَّهُ مَا يَنْفَعُ مَعَ فَسَادِهَا صَلاحٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?واللّاه يعلم ما فِي قلوبكم? [الأحزاب:51].
فَانْظُر أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ: مَاذَا يَعْلَمُ اللّاهُ مِنْ قَلْبِكَ؟!
الأَصْلُ الثَّانِي: صَلَاحُ الجَوَارِحِ بِصَلَاحِ القَلبِ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللّاهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «... يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئًا، يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيئًا»(1).
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّقْوَى وَالفُجُورِ هِيَ القُلُوبُ، فَإِذَا بَرَّ القَلْبُ واتَّقَى بَرَّتِ الجَوَارِحُ، وَإِذَا فَجَرَ القَلْبُ فَجَرَتِ الجَوَارِحُ(2).
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشَيرٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «... أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»(3).
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (2577) .
(2) جامع العلومِ والحكمِ (ص216).
(3) قطعة من حديث رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(1/5)
فَإِنْ كَانَ القَلْبُ صَالِحًا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِرَادَةُ اللّاهِ وَإِرَادَةُ مَا يُرِيدُهُ، لَمْ تَنْبَعِثِ الجَوَارِحُ إِلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ اللّاهُ، فَسَارَعَتْ إِلَى مَا فِيهِ رِضَاهُ، وَكَفَّتْ عَمَّا يَكْرَهُهُ. فَصَلُحَ اللِّسَانُ صِدْقًا وَقَوْلًا سَدِيدًا ثَابِتًا وَحِكْمَةً نَافِعَةً، وَصَلُحَتِ العَيْنُ اعْتِبَارًا وَغَضًّا عَنِ المَحَارِمِ. وَصَلُحَتِ الأُذُنُ اسْتِمَاعًا لِلنَّصِيحَةِ وَالقَوْلِ النَّافِعِ، وَمَا يَنْفَعُ العَبْدَ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. وَصَلُحَ الفَرْجُ عِفَّةً وحِفْظًا.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»(1).
فَأَصْلُ الاسْتِقَامَةِ: اسْتِقَامَةُ القَلْبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَمَتَى اسْتَقَامَ القَلْبُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللّاهِ، وَعَلَى خَشْيَتِهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَرَجَائِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، اسْتَقَامَتِ الجَوَارِحُ كُلُّهَا(2).
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ للّاهِ، وَأَبْغَضَ للّاهِ، وَأَعْطَى للّاهِ، وَمَنَعَ للّاهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ»(3).
__________
(1) رواه أحمد (3/198)، وحسنه الألباني رحمه الله فِي «صحيح الترغيب والترهيب» (2554).
(2) جامع العلوم والحكم (1/511-512).
(3) رواه أبو داود (4681)، وصححه الألباني رحمه الله فِي «صحيح سنن أبي داود» (3/141).
(1/6)
فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ حُبُّهُ للّاهِ، وَبُغْضُهُ للّاهِ، وَهُمَا عَمَلُ قَلبِهِ. وَعَطَاؤُهُ للّاهِ، وَمَنْعُهُ للّاهِ، وَهُمَا عَمَلُ بَدَنِهِ، دَلَّ عَلَى كَمَالِ الإِيمَانِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا(1).
فَالحُبُّ فِي اللّاهِ: أَنْ يُحِبَّ اللّاهَ، ويُحبَّ مَا يُحِبُّهُ.
وَالبُغْضُ فِي اللّاهِ: أَنْ يُبْغِضَ كُلَّ مَا أَبْغَضَهُ اللّاهُ: مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ؛ وَيُبْغِضُ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَا، أَوْ يَدْعُو إِلَيْهَا(2).
وَمَنْ كَانَ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَعَطاؤُهُ وَمَنْعُهُ لِهوَى نَفْسِهِ، كَانَ ذَلِكَ نَقْصاً فِي إِيمَانِهِ الوَاجِبِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ(3).
إِنَّ مُضْغَةً مَرْهُونٌ صَلَاحُكَ بِصَلَاحِهَا، وَفَسَادُكَ بِفَسَادِهَا، لَحَرِيٌّ بِكَ أَنْ تَتَفَقَّدَهَا، وَتَسْعَى إِلَى إِصْلَاحِهَا.
الأَصْلُ الثَالِثُ: القَلْبُ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ
عَنِ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: لَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ خَيْرًا وَلَاشَرًّا، حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُخْتَمُ لَهُ - يَعْنِي: بَعْدَ شَيءٍ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: وَمَا سَمِعْتَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنَ القِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْياً»(4).
وَمَعْلُومٌ سُرعَةُ حَرَكَةِ القِدْرِ.
وَهَذََا "مِنْ أَحْسَنِ الأَمثَالِ وَأَبْلَغِهَا وَأَعْظَمِهَا تَقْرِيباً إِلى الأفْهَامِ" (5) .
وَقَالَ القَائِلُ:
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/754).
(2) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (3/100).
(3) جامع العلوم والحكم (2/398).
(4) رواه أحمد (6/4)، وصححه الألباني بطرقه فِي «الصحيحة» (1772).
(5) إعلام الموقعين (1/295).
(1/7)
مَا سُمِّيَ القَلْبُ إِلَّا مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَر عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا القَلْبَ كَرِيشَةٍ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ ، يُقِيمُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطنٍ»(1).
فَهُنَا يُصَوِّرُ لَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القَلْبَ وَكَأَنَّهُ رِيشَةٌ لِخِفَّتِهِ وَلِتَأْثِيرِ الفِتَنِ عَلَيْهِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، تَمَامًا مِثْلَ الرِّيشَةِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِيهَا أَقَلُّ النَّسَمَاتِ فَتُغَيِّرُ اتِّجَاهَهَا.
«فَأَدْنَى شَيءٍ يَخْدِشُهُ وَيُدَنِّسُهُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، فَهُوَ كَأَبيَضِ ثَوْبٍ يَكُونُ؛ يُؤَثِّرُ فِيهِ أَدْنَى أَثَرٍ، وَكَالمِرْآةِ الصَّافِيَةِ جِدًّا؛ أَدْنَى شَيءٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا، وَلِهَذَا تُشَوِّشُهُ اللَّحظَةُ وَاللَّفْظَةُ وَالشَّهْوَةُ الخَفِيَّةُ»(2)0).
الأَصْلُ الرَّابِعُ: القَلْبُ عُرْضَةٌ لِلفِتَنِ
عَنْ حُذَيفَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَعَرْضِ الْحَصِيرِ عُوداً عُوداً، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَعُودَ القُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: قَلبٍ أَسْوَدَ مُرْبَادّاً كَالْكُوزِ مُجَخِّياً لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفاً وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَراً؛ إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ، وَقَلْبٍ أَبْيَضَ، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(3).
__________
(1) رواه أحمد (4/419)، وابن ماجه (88). وصححه الألباني فِي «صحيح سنن ابن ماجه» (71).
(2) فوائد الفوائد (ص42).
(3) رواه مسلم (144).
(1/8)
فَشَبَّهَ عَرْضَ الفِتَنِ عَلَى القُلُوبِ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ كَعَرْضِ عِيدَانِ الحَصِيرِ شَيْئًا فَشَيْئًا. «وَتُنْسَجُ فِيهَا وَاحِداً بَعْدَ وَاحدٍ، كَالحَصِيرِ الذي يَنْسَجُ عُوداً عُوداً»(1).
وَقَسَّمَ القُلُوبَ عِنْدَ عَرْضِهَا عَلَيهَا إِلَى قِسْمَينِ:
أ- قَلْبٌ إِذا عُرِضَتْ عَلَيهِ فِتْنَةٌ أُشْرِبَها؛ كَمَا يُشْرَبُ السِّفَنْجُ المَاءَ، فَتُنْكَتُ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ.
وَللهِ دَرُّ القَائِلِ:
إِذَا مَا القَلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيءٍ ... فَلَا تَأْمَلْ لَهُ عَنْهُ انْصِرَافًا
فَلَا يَزَالُ يُشْرَبُ كُلَّ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَيَنْتَكِسَ، وَهُوَ مَعْنَى قَولِهِ: «كَالكُوزِ مُجَخِّياً»؛ أَي:كَالإِنَاءِ مَكْبُوبًا مَنْكُوسًا، الذي لا يَثْبُتُ فِيهِ شَيءٌ؛ فَإِذَا اسوَدَّ وَانْتَكَسَ عَرَضَ لَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الآفَتَينِ مَرَضَانِ خَطِيرَانِ مُتَرَامِيَانِ بِهِ إِلَى الهَلَاكِ.
أَحَدُهُما: اشْتِبَاهُ المَعْرُوفِ عَلَيْهِ بِالمُنكَرِ، فَلَا يَعْرِفُ مَعْرُوفاً، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، وَرُبَّمَا استَحْكَمَ عَلَيْهِ هَذَا المَرَضُ حَتَّى يَعْتَقِدَ المَعْرُوفَ مُنْكَرًا، والمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً والبِدْعَةَ سُنَّةً، والحَقَّ بَاطِلًا وَالبَاطِلَ حَقًّا.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ المَعْرُوفَ، وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ المُنْكَرَ(2).
فَهُوَ مَيِّتُ القَلْبِ، الَّذِي قِيلَ فِيهِ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ ... إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ(3)
__________
(1) كتاب الميسر في شرح مصابيح السنة (4/1137).
(2) رواه الطبراني فِي «الكبير» (8564) بسند صحيح.
(3) تهذيب المدارج (ص946).
(1/9)
وَهُوَ قَلْبُ المُنَافِقِ، وَهُوَ شَرُّ قُلُوبِ الخَلْقِ. وَهَذَا القَلْبُ دَأبُهُ دَائِماً أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى مَا يَكرَهُهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيَنْهَاهُم عَمَّا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالاعْتِقَادِ(1).
الثَّانِي: تَحْكِيمُهُ هَوَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَانْقِيادُهُ لِلْهَوَى وَاتِّبَاعُهُ لَهُ.
ب- وَقَلْبٌ أَبْيَضُ عَرَفَ الحَقَّ، وَقَبِلَهُ وَأَحَبَّهُ , وَآثَرَهُ عَلَى غَيرِهِ. قَدْ أَشْرَقَ فِيهِ نُورُ الإِيمَانِ، وَأَزْهَرَ فِيهِ مِصْبَاحُهُ، فَإِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الفِتْنَةُ أَنْكَرَهَا وَرَدَّهَا، فَازْدَادَ نُورُهُ وَإِشْرَاقُهُ وَقُوَّتُهُ.
وَالفِتَنُ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَى القُلُوبِ هِيَ أَسْبَابُ مَرَضِهَا، وَهِيَ فِتَنُ الشَّهَوَاتِ وَفِتَنُ الشُّبُهَاتِ، فِتَنُ المَعَاصِي وَالبِدَعِ. هَذَانِ أَصْلُ دَاءِ الخَلْقِ إِلَّا مَنْ عَافَاهُ اللهُ(2).
فَفِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ: إِمَّا بِاعْتِقَادِ خِلَافِ الحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللّاهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ. كَالَّذِي يَنْفِي عُلُوَّ اللّاهِ عَلَى العَرْشِ(3). وَإِمَّا بِالتَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّاهُ. وَهِيَ البِدَعُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا.
__________
(1) الكلام على مسألةِ السماع (ص177-178).
(2) مفتاح دار السعادة (1/367).
(3) فمن نفى حقيقة «الاستواء» فهو معطِّلٌ، ومن شبَّههُ باستواءِ المخلوق على المخلوق فهو ممثِّلٌ، ومن قال: استواءٌ ليس كمثله شيء، فهو الموحِّدُ المنزِّهُ.
(1/10)
وَأَمَّا فِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ: «أَنْ يُحِبَّ الشَّهَوَاتِ المُحَرَّمَةَ، مِثْلَ: الزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَالغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?فلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ? [الأحزاب: 32] أَي: مَرَضُ الشَّهْوَةِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى»(1).
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُم: شَهَوَاتِ الغَيِّ فِي بُطُونِكُم وَفُرُوجِكُم، وَمُضِلَّاتِ الهَوَى»(2).
فَاتِّبَاعُ الشَّهَواتِ: هُوَ دَاءُ العُصَاةِ.
وَاتِّبَاعُ الشُّبُهَاتِ: وَهُوَ دَاءُ المُبْتَدِعَةِ وَأهْلِ الأَهْوَاءِ وَالخُصُومَاتِ، وَكَثِيراً مَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الاعْتِقَادِ إِلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ في عَمَلِهِ(3).
وَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ وَبَلاءٍ، وَبِهِمَا كُذِّبَتِ الرُّسُلُ، وَعُصِيَ الرَّبُّ وَدُخِلَتِ النَّارُ، وَحَلَّتِ العُقُوبَةُ(4).
الأَصْلُ الخَامِسُ: الأَعْمَالُ تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ
__________
(1) دروس من القرآن الكريم (ص87)، للعلامة الفوزان.
(2) رواه أحمد (4/420)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (52).
(3) إعلام الموقعين (1/185).
(4) إعلام الموقعين (1/184).
(1/11)
إِنَّ الأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ، مِنَ الإِيمَانِ وَالمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالإِجْلَالِ، فَتَكُونُ صُورَةُ العَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقْبِلٌ بِقَلْبِهِ عَلَى اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالآخَرَ سَاهٍ غَافِلٌ.
عَنْ عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكعَتَينِ مُقبِلٌ عَلَيهِمَا بِقَلبِهِ وَوَجهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ»(1).
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (بَعْدَ ذِكْرِ فَضْلِ الوضُوءِ وَثَوَابِهِ): «فَإنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللّاهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبَهُ للّاهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(2).
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِتَدَبُّرٍ وَمَعرِفَةٍ وَتَفَهُّمٍ، وَجَمعِ القَلْبِ عَلَيْهَا، أَحَبُّ إِلَى اللّاهِ تَعَالَى(3)، وَأَعْظَمُ أَجْرًا، «وَخَيرٌ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ بِغَيرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، وأَنْفَعُ لِلْقَلْبِ، وَأدْعَى إِلَى حُصُولِ الإِيمَانِ وَذَوقِ حَلاوَةِ القُرآنِ»(4).
__________
(1) رواه مسلم (234).
(2) رواه مسلم (832).
(3) المنار المنيف (ص 11).
(4) مفتاح دار السعادة (1/553).
(1/12)
وَلا رَيبَ أَنَّ مُجَرَّدَ القِيَامِ بِأَعْمَالِ الجَوَارِحِ، مِنْ غَيرِ حُضُورٍ وَلا مُرَاقَبَةٍ، وَلا إِقْبَالٍ عَلَى اللّاهِ: قَلِيلُ المَنْفَعَةِ، دُنْيًا وَأُخْرَى، كَثِيرُ المُؤنَةِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَثُرَ - مُتْعِبٌ غَيرُ مُفِيدٍ(1).
وَلِهَذَا قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?الَّذِي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً? [الملك:2]. وَقَالَ: ?إنا جعلنا ما عَلَى الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا? [الكهف:7]. وَقَالَ تَعَالَى: ?وهو الَّذِي خلق السموات والأرض فِي ستة أيام وكان عرشه عَلَى الماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ? [هود: 7].
فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَالمَوْتَ وَالحَيَاةَ، وَزَيَّنَ الأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا لِيَبْلُوَ عِبَادَهُ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا، لَا أَكْثَرُ عَمَلًا.
وَلِهَذِهِ المَعَانِي الجَلِيلَةِ، لَمْ تُغْنِ الصَّالِحِينَ كَثْرَةُ الأَعْمَالِ بِالظَّاهِرِ، وَقَالُوا: الشَّأْنُ فِي الصَّفْوَةِ لَا فِي الكَثْرَةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَغْفَلُوا مَا فِي القُلُوبِ، فَغَرَّهُمُ العَدَدُ وَالكَثْرةُ، وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَمْ مَبَانِيهَا؟!
الأَصْلُ السَّادِسُ: عُبُودِيَّةُ القَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ
القَلْبُ أَشْرَفُ مِنَ الجَوَارِحِ، فَكَانَ عَمَلُهُ أَشْرَفَ مِنْ عَمَلِ الجَوَارِحِ(2).
__________
(1) تهذيب مدارج السالكين (ص241).
(2) مفتاح دار السعادة (1/540).
(1/13)
وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ فِي مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا، عَلِمَ ارتِبَاطَ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ بِأَعْمَالِ القُلُوبِ، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا، وَأَنَّ أَعْمَالَ القُلُوبِ أَفْرَضُ عَلَى العَبْدِ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ، وَهَلْ يُمَيَّزُ المُؤْمِنُ عَنِ المُنَافِقِ(1) إِلَّا بِمَا فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي مَيَّزَتْ بَيْنَهُمَا، وَهَلْ يُمْكِنُ أَحَدٌ الدُّخُولَ فِي الإِسْلَامِ إِلَّا بِعَمَلِ قَلْبِهِ قَبْلَ جَوَارِحِهِ، وَعُبُودِيَّةُ القَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ وَأَكْبَرُ وَأَدْوَمُ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، «مِثْلَ مَحَبَّةِ اللّاهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللّاهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ»(2). وَلِهَذَا كَانَ الإِيمَانُ وَاجِبَ القَلْبِ عَلَى الدَّوَامِ، وَالإِسْلَامُ وَاجِبَ الجَوَارِحِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، فَمُرَكَّبُ الإِيمَانِ القَلْبُ، وَمُرَكَّبُ الإِسْلَامِ الجَوَارِحُ(3).
__________
(1) …قال شيخ الإسلام رحمه الله فِي «الفتاوى» (10/759): المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة، وإنما عقابهم وكونهم فِي الدرك الأسفل من النار عَلَى ما فِي قلوبهم من الأمراض.
(2) مجموع الفتاوى (10/5).
(3) بدائع الفوائد (3/1148).
(1/14)
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالإِيمَانُ فِي القَلْبِ» قَالَ: ثُمَّ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: «التَّقْوَى هَا هُنَا، التَّقْوَى هَا هُنَا»(1).
الأَصْلُ السَّابِعُ: القَلْبُ هَدَفٌ للشيطان
لَمَّا عَلِمَ عَدُوُّ اللّاهِ إِبْلِيسُ أَنَّ المَدَارَ عَلَى القَلْبِ وَالاعْتِمَادَ عَلَيهِ؛ أَجْلَبَ عَلَيهِ بِالوَسَاوِسِ، وَأَقْبَلَ بِوُجُوهِ الشَّهَوَاتِ إِلَيهِ، وَزَيَّنَ لَهُ مِنَ الأَحْوَالِ وَالأَعْمَالِ مَا يَصُدُّهُ بِهِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَمَدَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الغَيِّ بِمَا يَقْطَعُهُ عَنْ أَسْبَابِ التَّوفِيقِ، وَنَصَبَ لَهُ مِنَ المَصَايِدِ وَالحَبَائِلِ مَا إِنْ سَلِمَ مِنَ الوُقُوعِ فِيهَا، لَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِهِ التَّعْوِيقُ(2).
وَلَمَّا كَانَ الأمرُ بِهَذهِ الخُطُورةِ: «كَانَ الاهْتِمَامُ بِتَصْحِيحِهِ وَتَسْدِيدِهِ أَولَى مَا اعْتَمَدَ السَّالِكُونَ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْرَاضِهِ وَعِلاجِهَا أَهَمَّ مَا تَنَسَّكَ بِهِ النَّاسِكُونَ»(3).
الأَصْلُ الثَّامِنُ: أَمْرَاضُ القُلُوبِ خَفِيَّةٌ
__________
(1) رواه أحمد (3/134 - 135)، وجَوَّدَهُ الإمام تاج الدين السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (1/91). وقال المتقي الهندي في «كنز العمال» (44): «وصُحِّحَ».
(2) موارد الأمان (ص31).
(3) موارد الأمان (ص31).
(1/15)
وَمَرَضُ القَلْبِ خَفِيٌّ، قَدْ لَا يَعْرِفُهُ صَاحِبُهُ - كَالرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالكِبْرِ وَالشُّهْرَةِ - فَلِذَلِكَ يَغْفُلُ عَنْهُ، وَإِنْ عَرَفَهُ صَعُبَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَلَى مَرَارَةِ دَوَائِهِ، لِأَنَّ دَوَاءَهُ مُخَالَفَةُ الهَوَى، وَإِنْ وَجَدَ الصَّبْرَ لَمْ يَجِدْ طَبِيبًا حَاذِقًا يُعَالِجُهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ هُمْ أَطِبَّاءُ القُلُوبِ، العَالِمُونَ بِأحْوَالِهَا، وَأَعْمَالِهَا، العَارِفُونَ بِأَدْوِيَتِهَا وَأَدْوَائِهَا، دَونَ المُنْحَرِفِينَ عَنْ طَرِيقَتِهِم، المُتَشَبِّعُونَ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا، لَابِسُو ثِيَابِ الزُّورِ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِم، وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَهُم يَحْسَبُونَ أَنَّهُم يُحْسِنُونَ صُنْعًا. حَتَّى عَادَوْا أَهْلَ الحَدِيثِ، وَرَمَوْهُم بِالعَظَائِمِ، وَنَفَّرُوا النَّاسَ عَنْهُمْ، فَدَاوَوْا أَمْرَاضَ القُلُوبِ بِالآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالخَيَالَاتِ، وَ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالمَوضُوعَةِ «فَكَانُوا كَالمُدَاوِي مِنَ السَّقَمِ بِالسُّمِّ القَاتِلِ.
فَاتَّفَقَ قِلَّةُ الأَطبَّاءِ، وَكَثْرَةُ المَرْضَى، وَحُدُوثُ أَمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي السَّلَفِ، فَاشْتَدَّ البَلَاءُ، وَتَفَاقَمَ الأَمْرُ، وَامْتَلَأَتِ الدُّورُ وَالطُّرُقَاتُ وَالأَسْوَاقُ مِنَ المَرْضَى، وَقَامَ كُلُّ جَهُولٍ يُطَبِّبُ النَّاسَ»(1).يَنْطَبقُ عَلِيهِ قَولُ القَائِلِ:
وَغَيرُ تَقِيٍّ يَأمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمُ(2)
__________
(1) موارد الأمان (ص320).
(2) لطائف المعارف (ص53).
(1/16)
وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الحَدِيثِ، وَبِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ البِدَعِ اليَوْمَ فِي هَذَا البَابِ وَغَيْرِهِ؛ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ السَّلَفِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الخُلُوفِ مِنَ البُعْدِ، أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَأَنَّهُم عَلَى شَيءٍ، وَالسَّلَفُ عَلَى شَيءٍ؛ كَمَا قِيلَ:
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ
وَالأَمْر - واللَّهِ - أَعْظَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا(1).
الأَصْلُ التَّاسِعُ: إِهْمَالُ أَعْمَالِ القُلُوبِ يُؤَدِّي إِلَى الهَلَاكِ
إِنَّ الاعْتِنَاءَ بِالمَظَاهِرِ وَجَعْلَهَا زَاهِيَةً، وَإِهْمَالَ البَوَاطِنِ وَجَعْلَهَا خَاوِيَةً، يُؤَدِّي إِلَى دُخُولِ النَّارِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.
وَلِيَتَأَمَّلِ القَارِئُ الأَحَادِيثَ التَّالِيَةَ:
أ- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوَّلُ شَيءٍ يُرْفَعُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ الخُشُوعُ، حَتَّى لَا تَرَى فِيهَا خَاشِعًا»(2).
وَأَصْلُ الخُشُوعِ: هُوَ لِينُ القَلْبِ وَرِقَّتُهُ وَسُكُونُهُ وَخُضُوعُهُ وانكِسَارُهُ، فَإِذَا خَشَعَ القَلْبُ تَبِعَهُ خُشُوعُ جَمِيعِ الجَوَارِحِ وَالأَعْضَاءِ؛ لأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ(3).
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ الخُشُوعِ أَمْرَانِ:
الأَوَّلُ: عَدَمُ الانتِهَاءِ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ. فَإِنَ الصَلَاةَ الخَاشِعَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ?إِنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر? [العنكبوت: 45].
__________
(1) موارد الأمان (ص371).
(2) رواه الطبراني في «مسند الشاميين» (1579)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح الجامع» (2569).
(3) تهذيب مدارج السالكين (ص439).
(1/17)
الثَّانِي: عَدَمُ الفَلَاحِ يَوْمَ القِيامَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّقَ الفَلَاحَ يَوْمَ القِيامَةِ بِالخُشُوعِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ?قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون? [المؤمنون: 1 - 2].
ب- عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبَيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ، بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللّاهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ! صِفْهُم لَنَا، جَلِّهِم لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُم وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم وَمِنْ جِلْدَتِكُم، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُم أَقْوَامٌ، إِذَا خَلَوا بِمَحَارِمِ اللّاهِ انْتَهَكُوهَا»(1).
فَهَؤُلَاءِ قَامُوا بِأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ، وَأَهْمَلُوا أَعْمَالَ القُلُوبِ، فَلَمْ يُرَاقِبُوا اللّاهَ فِي خَلَوَاتِهِم، وَالمُرَاقَبَةُ: عِلْمُ القَلْبِ بِقُرْبِ الرَّبِّ.
هَؤُلَاءِ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِم قَوْلُ القَائِلِ:
أَظْهَرَ بَيْنَ الخَلْقِ إِحْسَانَهُ ... وَخَالَفَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلَا
هَؤلاءِ يَجْعَلُ اللّاهُ أَعْمَالَهُم يَومَ القِيَامَةِ هَبَاءً مَنْثُورًا، «لا يَنْتَفِعُ مَنْهَا صَاحِبُهَا بِشَيءٍ أَصْلاً؛ وَهَذا مِنْ أَعْظَمِ الحَسَرَاتِ عَلَى العَبْدِ يَومَ القِيَامَةِ أَنْ يَرَى سَعْيَهُ كُلَّهُ ضَائِعاً لَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ بِشيءٍ، وَهُوَ أَحْوجُ مَا كَانَ العَامِلُ إِلى عَمَلِهِ، وَقَدْ سَعِدَ أَهلُ السَّعيِ النَّافِعِ بِسَعْيِهِم»(2).
__________
(1) رواه ابن ماجه (4245)، وصححه الألباني فِي "الصحيحة"(505).
(2) الرسالة التبوكية (ص59).
(1/18)
ج- عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللّاهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»(1).
فَإِنَّ هَؤلاءِ الثَلاثَةَ الذينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ، هُم بِإِزَاءِ الثَّلاثَةِ الذينَ بَعَدَ النَّبيِّينَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ.
__________
(1) رواه مسلم (1905).
(1/19)
فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَ العِلْمَ الَّذي بَعَثَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللّاهِ، كَانَ صِدِّيقاً، وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّاهِ هِيَ العُلْيَا، وَقُتِلَ كَانَ شَهِيداً، وَمنْ تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللّاهِ كَانَ صَالِحاً(1).
د- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»(2).
وَقَوْلُهُ: «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، فَتِلْكَ الخَصْلَةُ الخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الخَاتِمَةِ عِنْدَ المَوْتِ(3). وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غِشٌّ وَآفَةٌ، لَمْ يَقْلِبِ اللّاهُ إِيمَانَهُ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُم مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ: يَخَافُونَ عَلَى أُنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ، وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُم وَجَزَعُهُم مِنْهُ.
«وَأَسَاسُ النِّفَاقِ وَأَصْلُهُ: هُوَ التَّزَيُّنُ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِي البَاطِنِ مِنَ الإِيمَانِ»(4).
__________
(1) شرح حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (ص47).
(2) رواه البخاري (2898)، ومسلم (112). وفيه قصة.
(3) جامع العلوم والحكم (1/172-173).
(4) إعلام الموقعين (2/169).
(1/20)
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قال: كانَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّاهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَينَا؟ قَالَ: "نَعَم، إِنَّ القُلُوبَ بَينَ أُصْبُعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللّاهِ، يُقَلِّبُهَا كَيفَ يَشَاءُ" (1).
وَقَالَ ابنُ أَبي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، كُلُهُّم يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُم أحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ على إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ(2).
وَقَالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللّاهُ: كَانَ يُقَالُ: النِّفَاقُ اخْتِلافُ السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ، وَالقَولِ وَالعَمَلِ(3).
وَعَنْ جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبي الدَّرْدَاءِ مَنْزِلَهُ بِحِمْصَ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ يَتَشَهَّدُ فَجَعَلَ يَتَعَوَّذُ بِاللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ النِّفَاقِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ لَهُ: غَفَرَ اللّاهُ لَكَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا أَنْتَ وَالنِّفَاقَ؟! مَا شَأنُكَ وَمَا شَأنُ النِّفَاقِ؟! فَقَالَ: اللَّهُمَّ غُفْراً-ثلاثاً- لا يَأمَنُ البَلاءَ مَنْ يَأمَنُ البَلاءَ، وَاللّاهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُفْتَنُ في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ(4).
__________
(1) …رواه الترمذي (2140)، وصححه الألباني رحمه الله فِي «صحيح سنن الترمذي (2/444).
(2) …رواه البخاري معلقاً مجزوماً به: قبل الحديث (48). ووصله البخاري في "التاريخ الكبير" (5/137).
(3) …رواه الفريابي في "صفة النفاق " (50)، وصحح إسناده المحقق.
(4) …رواه الفريابي في "صفة النفاق " (74)، وصحح إسناده المحقق.
(1/21)
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ قَالَ: أَنْ لا يَكُونَ فِيَّ نِفَاقٌ، أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. كَانَ عُمَرُ يَخْشَاهُ وَآمَنُهُ أَنَا؟(1).
وَقَالَ بِلالُ بنُ سَعدٍ: لا تَكُنْ وَليًّا للّاهِ عَزَّ وَجَلَّ في العَلانِيَةِ، وَعَدُوَّهُ في السِّرِّ(2).
وَلِأَجْلَ هَذَا: خَافَ عِبَادُ اللّاهِ تَعَالَى الصَّالِحُونَ عَلَى قُلُوبِهِم، وَبَكَوا عَلَيْهَا وَصَرَفُوا عِنَايَتَهُم إِلَيْهَا.
جَعَلَنَا اللّاهُ وَإِيَّاكُم مِنَ المُعْتَبِرِينَ بِالعِبَرِ، المُهْتَمِّينَ بِمَواضِعِ الخَطَرِ، الموَفَّقِينَ لإِصْلَاحِهَا بِحُسْنِ النَّظَرِ، إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
* * *
عَلَامَاتُ القَلْبِ السَّلِيمِ
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ? يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ? [الشعراء:88-89].
العَلَامَةُ الأُولَى: أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ مَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُهُ اللّاهُ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ سَلَامَتُهُ مِنَ الشِّرْكِ الَجلِيِّ وَالخَفِيِّ، وَمِنَ الأَهْوَاءِ وَالبِدَعِ، وَمِنَ الفُسُوقِ وَالمَعَاصِي - كَبَائِرِهَا وَصَغَائِرِهَا - الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، كَالرِّيَاءِ، وَالعُجْبِ، وَالغِلِّ، وَالغِشِّ، وَالحِقْدِ، وَالحَسَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ(3).
__________
(1) …رواه الفريابي في "صفة النفاق " (86)، وصحح إسناده المحقق.
(2) …رواه الفريابي في "صفة النفاق " (91)، وصحح إسناده المحقق.
(3) شرح حديث شداد بن أوس (ص41) للعلامة الرباني ابن رجب الحنبلي.
(1/22)
عَنْ عَبْدِ اللّاهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ القَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ».قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ القَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ»(1).
هذا القلبُ أحبُّ القلوبِ إِلَى اللّاهِ وأكثَرُهَا "خيراً، تنبعُ منهُ عيونُ الخيرِ، وتتفجرُ منهُ ينابيعُ البرِّ، ومبارُّ اللّاهِ ونِعَمُهُ تغشاهُ عَلَى الدَّوَامِ"(2).
العَلَامَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْتَحِلَ عَنِ الدُّنيَا حَتَّى يَنْزِلَ بِالآخِرَةِ، وَيَحِلَّ فِيهَا، حَتَّى يَبْقَى كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا وَأَبْنَائِهَا، جَاءَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ غَرِيبًا يَأْخُذُ مِنْهَا حَاجَتَهُ، وَيَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ القُبُورِ»(3).
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ(4).
__________
(1) رواه ابن ماجه (4216)، وصححه الألباني رحمه الله فِي "صحيح سنن ابن ماجه" (3397).
(2) طريق الهجرتين (ص606).
(3) رواه الترمذي (2333)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (1902).
(4) رواه البخاري (11/239) معلقاً مجزوماً به. وانظر الكلام عَلَى هذا الأثر فِي «الفتح» (11/240-241).
(1/23)
وَكُلَّمَا صَحَّ القَلْبُ مِنْ مَرَضِهِ؛ تَرَحَّلَ إِلَى الآخِرَةِ، وَقَرُبَ مِنْهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْ أَهْلِهَا، وَكُلَّمَا مَرِضَ القَلْبُ وَاعْتَلَّ، آثَرَ الدُّنْيَا وَاسْتَوْطَنَهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَانِ سَافَرُوا فِي طَلَبِ الدُّنيَا وَهِيَ عَنْهُم زَائِلَةٌ، وَقَعَدُوا عَنِ السَّفَرِ إِلَى الآخِرَةِ وَهُمْ إِلَيْهَا رَاحِلُونَ. «يَسْعَونَ لِمَا يُدْرِكُونَ، وَيَتْرُكُونَ مَا هُمْ بِهِ مُطَالَبُونَ، وَيَعْمُرُونَ مَا هُمْ عَنْهُ مُنْتَقِلُونَ، وَيُخَرِّبُونَ مَا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(1).
العَلَامَةُ الثالثةُ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَضْرِبُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُنِيبَ إِلَى اللّاهِ، وَيُخْبِتَ إِلَيْهِ، وَيَتَعَلَّقَ بِهِ تَعَلُّقَ المُحِبِّ المُضْطَرِّ إِلَى مَحْبُوبِهِ، الَّذِي لَا حَيَاةَ لَهُ، وَلَا فَلَاحَ، وَلَا نَعِيمَ، وَلَا سُرُورَ؛ إِلَّا بِرِضَاهُ وَقُرْبِهِ وَالأُنْسِ بِهِ، فَبِهِ يَطْمَئِنُّ، وَإِلَيْهِ يَسْكُنُ، وَإِلَيْهِ يَأْوِي، وَبِهِ يَفْرَحُ، وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ، وَبِهِ يَثِقُ، وَإِيَّاهُ يَرْجُو، وَلَهُ يَخَافُ.
«فَيَا لَهُ مِنْ قَلْبٍ، مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، وَمِنْ قُرْبِهِ مَا أَحْظَاهُ»(2). قَدْ نَالَ غِذَاءَهُ وَدَوَاءَهُ، وَشِفَاءَهُ وَحَيَاتَهُ، وَنُورَهُ وَقُوَّتَهُ، وَلَذَّتَهُ وَنَعِيمَهُ، مَا هُوَ أَجَلُّ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَأَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ، وَأَعْظَمُ اللَّذَّاتِ، قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [النحل: 97](3).
__________
(1) التبيان فِي أقسام القرآن (ص307).
(2) طريق الهجرتين (ص379).
(3) مفتاح دار السعادة (1/182).
(1/24)
العَلَامَةُ الرابعةُ: أَنَّهُ لَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَلَا يَسْأَمُ مِنْ خِدْمَتِهِ، وَلَا يَأْنَسُ بِغَيْرِهِ، إِلَّا بِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِهِ، وَيُذَاكِرُهُ بِهَذَا الأَمْرِ. فَذِكْرُ اللّاهِ عِنْدَهُ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ، وَأَشْهَى مِنَ المَاءِ العَذْبِ الصَّافِي عِنْدَ العَطْشَانِ فِي اليَوْمِ الصَّائِفِ.
العَلَامَةُ الخامسةُ: أَنَّهُ «إِذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ القَبَائِحُ؛ نَفَرَ مِنْهَا بِطَبْعِهِ، وَأَبْغَضَهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا»(1)، حَيَاؤُهُ يَمْنَعُهُ عَنِ القَبَائِحِ، وَالحَيَاءُ «هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ القَلْبِ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ، وَذَهَابُهُ ذَهَابُ الخَيْرِ أَجْمَعِهِ»(2).
فَإِنَّ حَيَاةَ القَلْبِ هِيَ المَانِعَةُ مِنَ القَبَائِحِ الَّتِي تُفْسِدُ القَلْبَ. فَإِنَّ الحَيَّ يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّأَثُّرُ بِالقَبِيحِ، وَلَهُ إِرَادَةٌ تَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ، بِخِلَافِ الوَقِحِ الَّذِي لَيْسَ بِحَيِيٍّ فَلَا حَيَاءَ مَعَهُ، وَلَا إِيمَانَ يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ(3). فَلَا يَحُسُّ بِمَا يُؤْلِمُهُ مِنَ القَبَائِحِ.
لِذَلِكَ تَرَاهُ يَرْضَى بِتَبَرُّجِ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَمُخَالَطَتِهَا لِلرِّجَالِ، وَدُخُولِهَا عَلَيْهِم وَدُخُولِهِم عَلَيْهَا، حَتَّى عَظُمَ الشَّرُّ وَعَظُمَ البَلَاءُ. وَمِنْ تِلْكَ البَلايَا: الأَجْهِزَةُ الخَبِيثَةُ الَّتِي يُدْخِلُهَا المُسْلِمُ بَيْتَهُ، فَإِنَّهَا تُرَبِّي زَوجَتَهُ وَبَنَاتَهُ عَلَى ذَهَابِ الحَيَاءِ.
__________
(1) موارد الأمان (ص55).
(2) الداء والدواء (ص110).
(3) مجموع الفتاوى (10/109-110).
(1/25)
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَع مَا شِئْتَ»(1).
العَلَامَةُ السادسةُ: أَنَّهُ إِذَا فَاتَتْهُ طَاعَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَجَدَ لِفَوَاتِهَا أَلَمًا أَعْظَمَ مِنْ تَأَلُّمِ الحَرِيصِ بِفَوَاتِ مَالِهِ وَفَقدِهِ(2). كَمَنْ يَحْزَنُ عَلَى فَوتِ الجَمَاعَةِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَو تُقُبِّلَت مِنْهُ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا، فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفًا(3).
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا يُعَانِي البَيْعَ وَالشِّرَاءَ يَفُوتُهُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي بَلَدِهِ - مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلَا مَشَقَّةٍ - قِيمَتُهَا سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا، لأَكَلَ يَدَيْهِ نَدَمًا وَأَسَفًا. فَكَيْفَ وَكُلُّ ضِعْفٍ مِمَّا تُضَاعَفُ بِهِ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، وَأَلْفِ أَلْفٍ، وَمَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى؟!
فَإِذَا فَوَّتَ العَبْدُ عَلَيْهِ هَذَا الرِّبحَ، وَهُوَ بَارِدُ القَلْبِ، فَارِغٌ مِنْ هَذِهِ المُصِيبَةِ، فَهَذَا مِنْ عَدَمِ تَعْظِيمِ أَمْرِ اللّاهِ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ(4).
__________
(1) رواه البخاري (3483و3484و6120).
(2) إغاثة اللهفان (ص79).
(3) الوابل الصيب (ص16).
(4) الوابل الصيب (ص16 - 17).
(1/26)
وَكُلَّمَا «كَانَ وُجُودُ الشَّيءِ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ وَهُوَ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِفَقْدِهِ أَشَدَّ، وَكُلَّمَا كَانَ عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِوجُودِهِ أَشَدَّ، وَلَا شَيءَ عَلَى الإِطْلَاقِ، أَنْفَعُ لِلعَبْدِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى اللّاهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِذِكْرِهِ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ، وَإِيثَارِهِ لِمَرضَاتِهِ، بَلْ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا نَعِيمَ وَلَا سُرُورَ وَلَا بَهْجَةَ إِلَّا بِذَلِكَ، فَعَدَمُهُ آلَمُ شَيءٍ لَهُ وَأَشَدُّهُ عَلَيْهِ»(1).وَهَذا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى حَيَاتِهِ(2).
العَلَامَةُ السَّابعةُ: أَنَّهُ يَشْتَاقُ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، كَمَا يَشْتَاقُ الجَائِعُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
فَلَوْ عَطَّلَ «الطَّاعَاتِ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الحُوتُ إِذَا فَارَقَ المَاءَ حَتَّى يُعاوِدَهَا، فَتَسْكُنُ نَفْسُهُ وَتَقَرُّ عَيْنُهُ»(3).
العَلَامَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ذَهَبَ عَنْهُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ بِالدُّنْيَا، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنْهَا، وَوَجَدَ فِيهَا رَاحَتَهُ وَنَعِيمَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَسُرُورَ قَلْبِهِ. كَمَا قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "يَا بِلالُ أَقِمِ الصَّلاةَ، أَرِحْنا بِهَا"(4). وَلَمْ يَقُلْ: أَرِحْنَا مِنْهَا، كَمَا يَقُولُ المُبْطِلُونَ الغَافِلونَ(5).
__________
(1) الداء والدواء (ص304).
(2) طريق الهجرتين (ص504-505).
(3) …الداء والدواء (ص90).
(4) …رواه أبو داود (4985)، وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" (4171).
(5) …طريق الهجرتين (ص307).
(1/27)
وَقَال صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي في الصَّلاةِ"(1).
«وَمَنْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي شِيءٍ فَإِنَّهُ يَوَدُّ أَلَّا يُفَارِقَهُ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهُ، فَإِنَّ قُرَّةَ عَيْنِ العَبْدِ نَعِيمُهُ وَطِيبُ حَياتِهِ بِهِ»(2).
وَالغَافِلُ المُعْرِضُ لَيسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ الصَّلاةُ كَبِيرَةٌ شَاقَّةٌ عَلَيهِ، إِذَا قَامَ فِيهَا كَأَنَّهُ عَلَى الجَمْرِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَيهِ أَعْجَلُهَا وَأَسْرَعُهَا، فَإِنَّهُ لَيسَ لَهُ قُرَّةُ عَينٍ فِيهَا، وَلا لِقَلْبِهِ رَاحَةٌ بِهَا(3).فَهِيَ كَبِيرَةٌ عَلَى هَذَا، وَقُرَّةُ عَينٍ وَرَاحَةٌ لِذَلِكَ(4).
فَسُبحَانَ مَنْ فَاضَلَ بَينَ النُّفُوسِ، وَفَاوَتَ بَينَهَا هَذَا التَّفَاوُتَ العَظِيمَ.
العَلَامَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ يَكُونَ هَمُّهُ وَاحِدًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي اللّاهِ تَعَالَى. فَيصْبِحُ وَيُمْسِي وَلَيْسَ لَهُ هَمٌّ غَيْرُ رِضَا رَبِّهِ، «قَدْ قَطَعَ هَمُّهُ بِرَبِّهِ عَنْهُ جَمِيعَ الهُمُومِ»(5). فَهَذَا غَايَةُ سَعَادَةِ العَبْدِ(6). فَمَا أَطْيَبَ عَيشَهُ! وَمَا أَنْعَمَ قَلْبَهُ وَأَعْظَمَ سُرُورَهُ وَفَرَحَهُ!(7).
وَأَيُّ حَيَاةٍ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّهَا وَصَارَتْ هَمًّا وَاحِدًا فِي مَرْضاةِ اللّاهِ؟ وَلَمْ يَتَشَعَّب قَلْبُهُ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى اللّاهِ وَاجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ وَأَفْكَارُهُ عَلَى اللّاهِ.
__________
(1) رواه النسائي (3940)، وصححه الألباني رحمه الله في "صحيح سنن النسائي" (3681).
(2) طريق الهجرتين (ص579).
(3) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص38).
(4) …الصلاة وحكم تاركها (ص170).
(5) طريق الهجرتين (ص42).
(6) …الداء والدواء (ص90).
(7) فوائد الفوائد (ص85).
(1/28)
وَأَيُّ عَيْشٍ أَنْكَدُ مِنْ عَيْشِ مَنْ قَلْبُهُ مُشَتَّتٌ، وَهَمُّهُ مُفَرَّقٌ، فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مُسْتَقَرٌّ.
العَلَامَةُ العَاشِرَةُ: أَنْ يَكُونَ أَشَحَّ بِوَقْتِهِ أَنْ يَذْهَبَ ضَائِعًا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ شُحًّا بِمَالِهِ. فَإِنَّ الفَلَاحَ كُلَّ الفَلَاحِ فِي الشُّحِّ بِالوَقْتِ.
فَهُوَ «يَرَى عِزَّةَ وَقْتِهِ وَخَطَرَهُ وَشَرَفَهُ وَأَنَّهُ رَأْسُ مَالِ سَعَادَتِهِ، فَيَبْخَلُ بِهِ أَنْ يُضَيِّعَهُ فِيمَا لَا يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ؛ فَإِنَّ فِي إِضَاعَتِهِ الخُسْرَانَ وَالحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ، وَفِي حِفْظِهِ وَعِمَارَتِهِ الرِّبْحَ وَالسَّعَادَةَ، فَيَشُحُّ بِأَنْفَاسِهِ أَنْ يُضَيِّعَهَا فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ يَوْمَ مَعَادِهِ»(1). فَيَرَى «أَشَدَّ الأَشْيَاءِ عَلَيْهِ ضَيَاعَ شَيءٍ مِنْ وَقْتِهِ وَوقُوفَهُ عَنْ سَيْرِهِ»(2) إِلَى رَبِّهِ؛ لأَنَّ إِضَاعَةَ الوَقْتِ تَقْطَعُهُ عَنِ الخَالِقِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ.
العَلَامَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَ: أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُ بِتَصْحِيحِ العَمَلِ أَعْظَمَ مِنْهُ بِالعَمَلِ، فَيَشْهَدُ سِتَّةَ مَشَاهِدٍ:
المَشْهَدُ الأَوَّلُ: الإِخْلَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الحَامِلُ وَالدَّاعِي إِلَى الطَّاعَةِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى.
المَشْهَدُ الثَّانِي: مَشْهَدُ الصِّدقِ وَالنُّصحِ، وَهُوَ أَنَّ يُفَرِّغَ قَلْبَهُ للّاهِ فِي الطَّاعَةِ، وَيَسْتَفْرِغَ جُهْدَهُ فِي إِقْبَالِهِ فِيهَا عَلَى اللّاهِ، وَجَمْعِ قَلْبِهِ عَلَيْهَا، وَإِيقَاعِهَا عَلَى أَحْسَنِ الوجُوهِ وَأَكْمَلِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
المَشْهَدُ الثَّالِثُ: مَشْهَدُ المُتَابَعَةِ وَالاقْتِدَاءِ، بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) الروح (ص301).
(2) طريق الهجرتين (ص580).
(1/29)
المَشْهَدُ الرَّابِعُ: مَشْهَدُ الإِحْسَانِ وَهُوَ مَشْهَدُ المُرَاقَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللّاهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ.
المَشْهَدُ الخَامِسُ: مَشْهَدُ المِنَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ المِنَّةَ للّاهِ - سُبْحَانَهُ - فِي أَيِّ طَاعَةٍ يَفْعَلُهَا.
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين? [الحجرات: 17].
وَقَالَ تَعَالَى: ?وما بكم من نعمةٍ فمن الله? [النحل: 53]، وَقَالَ سبحانه وتعالى: ?ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه فِي قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوقَ والعصيان أولئك هم الراشدون? [الحجرات: 53].
المَشْهَد السَّادِسُ: مَشْهَدُ التَّقْصِيرِ، وَأَنَّ العَبْدَ لَوِ اجْتَهَدَ فِي القِيَامِ بِالأَمْرِ غَايَةَ الاجْتِهَادِ وَبَذَلَ وُسْعَهُ فَهُوَ مُقَصِّرٌ، وَحَقُّ اللّاهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ مِنْ الطَّاعَةِ وَالعُبُودِيَّةِ وَالخِدْمَةِ فَوْقَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، وَأَنَّ عَظَمَتَهُ وَجَلَالَهُ سُبْحَانَهُ يَقْتَضِي مِنَ العُبُودِيَّةِ مَا يَلِيقُ بِهَا.
فَهَذِهِ سِتَّةُ مَشَاهِدٍ لَا يَشْهَدُهُا إِلَّا القَلْبُ الحَيُّ السَّلِيمُ.
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَخَافُ أَنْ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ.
(1/30)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? [المؤمنون: 60] قَالَتْ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُم يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُم، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ»(1).
فَيَا لَهَا مِنْ مَشَاهِدَ، مَا أَجَلَّهَا وَأَعْلَاهَا، وَمَا أَعْظَمَ حَظَّ مَنْ نَالَهَا وَتَبَوَّأَ عُلَاهَا.
وَبِالجُمْلَةِ؛ فَالقَلْبُ السَّلِيمُ: هَمُّهُ كُلُّهُ فِي اللّاهِ، وَحُبُّهُ كُلُّهُ لَهُ، وَقَصْدُهُ لَهُ، أَفْكَارُهُ تَحُومُ عَلَى مَرَاضِيهِ وَمَحَابِّهِ. فَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ للّاهِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ للّاهِ وَبِاللّاهِ، وَإِنْ تَحَرَّكَ فَبِأَمْرِ اللّاهِ، وَإِنْ سَكَنَ فَسُكُونُهُ اسْتِعَانَةٌ عَلَى مَرْضَاةِ اللّاهِ.
لَا يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ، وَلَا يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ. فَلَا يَسْتَغْنِي إِلَّا بِاللّاهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَّا إِلَى اللّاهِ، وَلَا يَفْرَحُ إِلَّا بِمُوَافَقَتِهِ لِمَرْضَاةِ اللّاهِ، وَلَا يَحْزَنُ إِلَّا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللّاهِ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ رِضَا اللّاهِ، وَسَيْرُهُ دَائِمًا إِلَى اللّاهِ، تَعْتَرِضُهُ كَثْرَةُ جُيُوشِ الشَّهَوَاتِ، وَتُغِيرُ عَلَى قَلْبِهِ كُلَّ وَقَتٍ، فَهُوَ هَارِبٌ إِلَى رَبِّهِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الجُيُوشِ، يَتَحَمَّلُ مِنْهَا لأَجْلِ اللّاهِ مَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ. وَحَالُهُ كَمَا قِيلَ:
__________
(1) رواه الترمذي (3175)، وصححه الألباني رحمه الله فِي "صحيح سنن الترمذي" (3/287).
(1/31)
تَزُولُ الجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ وَقَلْبُهُ ... عَلَى العَهْدِ لَا يَلْوِي وَلَا يَتَغَيَّرُ(1)
هَذِهِ عَلَامَاتُ القَلْبِ السَّلِيمِ، فَلَهُ النَّعِيمُ المُقِيمُ، وَالعَيْشُ السَّلِيمُ، فِي جِوَارِ الرَّبِّ الكَرِيمِ.
فَلنَتَأَمَّلْ قَدْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلْنَتَدَبَّرهَا حَقَّ التَّدَبُّرِ، وَلْنَزِنْ أَنْفُسَنَا بِهَا، وَلْنَنْظُرْ أَينَ نَحْنُ مِنْهَا؟!
نَسْأَلُ اللّاهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الحُسنَى وصِفَاتِهِ العُلَى، أَنْ يَرْزُقَنَا قُلُوبًا سَلِيمَةً، إِنَّهُ وَليُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ.
* * *
عِلَاجُ القُلُوبِ
اعْلَمْ - أَصْلَحَ اللّاهُ قَلْبَكَ - بِأَنَّ القَلُوبَ تَمْرَضُ بِالمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَتَأثِيرُ "الذُّنُوبِ فِي القُلُوبِ كَتَأثِيرِ الأَمْرَاضِ فِي الأَبْدَانِ، بَلِ الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ القُلُوبِ وَدَاؤُهَا، وَلا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا تَرْكُهَا"(2).
قَالَ ابنْ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللّاهُ تَعَالَى:
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ... وَقَد يُورِثُ الذُّلَّ إِدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ ... وَخَيرٌ لِنَفسِكَ عِصيَانُهَا(3)
فَإِنْ عَالَجَهُ صَاحِبُهُ شُفِيَ، وَإِنْ تَرَكَهُ تَزَايَدَ المَرَضُ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ تعالى: ?في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون? [البقرة: 10]، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِقَلْبِهِ، وَيَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُعَالِجَهُ بِالأُمُورِ التَّالِيَةِ:
أ َوَّلًا: قِرَاءَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِالتَّدَبُّرِ
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/414).
(2) الداء والدواء (ص121).
(3) زاد المعاد (4/203).
(1/32)
القُرْآنُ الكَرِيمُ، رَبِيعُ القُلُوبِ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ، وَنُورُ البَصَائِرِ، وَحَيَاةُ الأَرْوَاحِ، وَهُوَ كَلَامُ رَبِّ العَالَمِينَ(1). يَسْتَضِيءُ بِهِ العَبْدُ فِي ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَيَتَعَزَّى بِهِ عَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَيَتَعَزَّى بِهِ عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَيَسْتَشْفِي بِهِ مِنْ أَدْوَاءِ قَلْبِهِ(2).
قَالَ اللّاهُ عَزَّ وَجَلَّ: ? ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ? [يونس: 57].
وَقَالَ تَعَالَى: ?قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء? [فصلت: 44].
وَقَالَ سبحانه وتعالى: ?وَنُنَزِّلُ من الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ? [الإسراء: 82].
فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِصُدُورِ المُؤْمِنِينَ، وَحَيَاةً لِقُلُوبِهِم، وَنُورًا لِبَصَائِرِهِم، وَغِذَاءً لِقُلُوبِهِم، وَقُرَّةً لِعُيُونِهِم(3). فَمَنِ اسْتَشْفَى بِهِ صَحَّ وَبَرِىءَ مِنْ مَرَضِهِ.
فَيَا مَنْ تَبْحَثُ عَنْ دَوَاءٍ لِقَلْبِكَ، دَوَاؤُكَ فِي القُرْآنِ.
وَيَا مَنْ تَبْحَثِينَ عَنْ دَوَاءٍ لِقَلْبِكِ، دَوَاؤُكِ فِي القُرْآنِ.
وَكَيفَ تُقَاوِمُ الأَدوَاءُ كَلَامَ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ(4)، الَّذِي لَو أُنزِلَ عَلَى جَبَلٍ لَتَصَدَّعَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلالَتِهِ(5).
فَتَدَبَّر فِي لَطَائِفِ خِطَابِهِ، وَطَالِبْ نَفْسَكَ بِالقِيَام بِأَحْكَامِهِ، وَقَلْبَكَ بِفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَسِرَّكَ بِالإِقْبَالِ عَلَيْهِ(6).
ثَانِيًا: ذِكْرُ اللّاهِ
__________
(1) شفاء العليل (ص629). …(2) مفتاح دار السعادة (2/171).
(2) زاد المعاد (4/201)، بتصرف يسير.
(3) كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء (249).
(4) زاد المعاد (4/352).
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(1/33)
اعْلَم - أَصْلَحَ اللّاهُ قَلْبَكَ - بِأَنَّ لِذِكْرِ اللّاهِ آثَارًا جَلِيلَةً عَلَى القَلْبِ، مِنْهَا:
أ- شِفَاءُ القَلْبِ: ذِكْرُ اللّاهِ تَعَالَى دَوَاءُ القَلْبِ، وَالغَفْلَةُ مَرَضُهُ، فَالقُلُوبُ مَرِيضَةٌ، وَشِفَاؤُهَا فِي ذِكْرِ اللّاهِ تَعَالَى. كَمَا قِيلَ:
إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بِذِكْرِكُمُ ... فَنَتْرُكَ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ(1)
ب- جَلَاءُ القَلْبِ: وَذِكْرُ اللّاهِ يُورِثُ جَلَاءَ القَلْبِ مِنْ صَدَئِهِ. «وَلَا رَيْبَ أَنَّ القَلْبَ يَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ النُّحَاسُ وَالفِضَّةُ وَغَيْرُهُمَا، وَجَلَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يَجْلُوهُ حَتَّى يَدَعَهُ كَالمِرْآةِ البَيضَاءِ؛ فَإِذَا تَرَكَ الذِّكْرَ صَدِىءَ، فَإِذَا ذَكَرَ جَلَاهُ.
وَصَدَأُ القَلْبِ بِأَمْرَيْنِ: بِالغَفْلَةِ وَالذَّنْبِ، وَجَلَاؤُهُ بِشَيْئَيْنِ: بِالاسْتِغْفَارِ وَالذِّكْرِ»(2).
ج- حَيَاةُ القَلْبِ: حياةُ القلبِ بدوامِ الذِّكرِ، لا حَيَاةَ لَهُ بِدُونِ ذَلِكَ أبداً. فَإِنَّهُ «لِلقَلْبِ مِثْلُ المَاءِ لِلسَّمَكِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إِذَا فَارَقَ المَاءَ؟!»(3).
بَلْ إِنَّ القُلُوبَ المَيِّتَةَ تَحْيَى بِالذِّكْرِ، كَمَا تَحْيَى الأَرْضُ المَيِّتَةُ بِالقَطْرِ.
وَالذِّكْرُ فِيهِ حَيَاةُ القُلُوبِ كَمَا ... يُحْيِي البِلَادَ إِذَا مَا مَاتَتِ المَطَرُ
وَالقَلْبُ الذَّاكِرُ كَالحَيِّ فِي بُيُوتِ الأَحْيَاءِ، وَالغَافِلُ كَالمَيِّتِ فِي بِيُوتِ الأَمْوَاتِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبْدَانَ الغَافِلِينَ قُبُورٌ لِقُلُوبِهِم، وَقُلُوبُهُم فِيهَا كَالأَمْوَاتِ فِي القُبُورِ، كَمَا قِيلَ:
فَنِسْيَانُ ذِكْرِ اللّاهِ مَوْتُ قُلُوبِهِمُ ... وَأَجْسَامُهُم قَبْلَ القُبُورِ قُبُورُ
__________
(1) الوابل الصيب (ص171-172).
(2) الوابل الصيب (ص92).
(3) الوابل الصيب (ص96).
(1/34)
«فَإِنَّ أَبْدَانَهُم قُبُورٌ لِقُلُوبِهِم، فَقَدْ مَاتَتْ قُلُوبُهُم، وَقُبِرَتْ فِي أَبْدَانِهِم»(1).
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»(2).
فَحَقِيقٌ بِالعَبْدِ أَنْ يُنْزِلَ ذِكْرَ اللّاهِ مِنْهُ، «مَنْزِلَةَ حَيَاتِهِ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهَا، وَمَنْزِلَةَ غِذَائِهِ الَّذِي إِذَا فَقَدَهُ فَسَدَ جِسْمُهُ وَهَلَكَ، وَبِمَنْزِلَةِ المَاءِ عِنْدَ شِدَّةِ العَطَشِ، وَبِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ فِي الحَرِّ وَالبَرْدِ»(3).
د- رِقَّةُ القَلْبِ: اعْلَم بِأَنَّ «فِي القَلْبِ قَسْوَةً لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللّاهِ تَعَالَى، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُدَاوِيَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ بِذِكْرِ اللّاهِ تَعَالَى؛ لأَنَّ القَلْبَ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ بِهِ الغَفْلَةُ، اشْتَدَّت بِهِ القَسْوَةُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللّاهَ تَعَالَى، ذَابَتْ تِلَكَ القَسْوَةُ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ، فَمَا أُذِيبَتْ قَسْوَةُ القُلُوبِ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ»(4).
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?أَلَم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها? [الحديد: 16-17].
فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِوَابِلِ القَطْرِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ القُلُوبِ المَيِّتَةِ القَاسِيَةِ بِالذِّكْرِ.
__________
(1) موارد الأمان (ص59).
(2) رواه البخاري (6407)، ومسلم (779).
(3) الوابل الصيب (ص105-106).
(4) الوابل الصيب (ص171).
(1/35)
عَسَى مَنْ أَحْيَى الأَرْضَ المَيِّتَةَ بِالقَطْرِ، أَنْ يُحِييَ القُلُوبَ المَيِّتَةَ بِالذِّكْرِ(1).
هـ- تَنْبِيهُ القَلْبِ: وَالذِّكْرُ «يُنَبِّهُ القَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ، وَيُوقِظُهُ مِنْ سِنَتِهِ، وَالقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَرْبَاحُ وَالمَتَاجِرُ، وَكَانَ الغَالِبُ عَلَيْهِ الخُسْرَانَ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ وَعَلِمَ مَا فَاتَهُ فِي نَوْمَتِهِ شَدَّ المِئْزَرَ، وَأَحَيَى بَقِيَّةَ عُمُرِهِ، وَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَلَا تَحْصُلُ يَقَظَتُهُ إِلَّا بِالذِّكْرِ، فَإِنَّ الغَفْلَةَ نَوْمٌ ثَقِيلٌ»(2).
و- نُورُ القَلْبِ: الذكرُ نُورٌ في القَلْبِ. فَمَا اسْتَنَارَتِ القُلُوبُ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللّاهِ تَعَالَى. وَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ، وَالفَلَاحُ كُلُّ الفَلَاحِ فِي النُّورِ، وَالشَّقَاءُ كُلُّ الشَّقَاءِ فِي فَوَاتِهِ(3). وَإذا "اسْتَنَارَ القَلبُ أَقْبَلَت وُفُودُ الخَيراتِ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ نَاحيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ إِذا أَظْلَمَ أقْبَلَتْ سَحَائِبُ البَلاءِ وَالشَّرِّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ"(4).
ثَالِثًا: العِلْمُ النَّافِعُ
__________
(1) لطائف المعارف (ص544).
(2) الوابل الصيب (ص157).
(3) الوابل الصيب (ص157).
(4) الداء والدواء (ص275).
(1/36)
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللّاهُ - بِأَنَّ أَمْرَاضَ القُلُوبِ كُلَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنِ الجَهْلَ وَدَوَاؤُهَا العِلْمُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الشُّجَّةِ الَّذِي أَفْتَوْهُ بِالغُسْلِ فَمَاتَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللّاهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ»(1). فَجَعَل العِيَّ -وَهُو عِيُّ القَلْبِ عَنِ العِلْمِ وَاللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهِ- مَرَضًا، وَشِفَاؤُهُ سُؤَالُ العُلَمَاءِ.
فَأمْرَاضُ القُلُوبِ أَصْعَبُ مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ؛ لأَنَّ غَايَةَ مَرَضِ البَدَنِ أَنْ يُفْضِيَ بِصَاحِبِهِ إِلَى المَوْتِ، وَأَمَّا مَرَضُ القَلْبِ فَيُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الشَّقَاءِ الأَبَدِيِّ، وَلَا شِفَاءَ لِهَذَا المَرَضِ إِلَّا بِالعِلْمِ(2).
فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ لِلأَرْضِ إِلَّا بِالمَطَرِ، فَكَذَلِكَ لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ إِلَّا بِالعِلْمِ.
وَلِهَذَا؛ فَإِنَّ الأَرْضَ إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى المَطَرِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ، فَإِذَا تَتَابَعَ عَلَيْهَا احْتَاجَتْ إِلَى انْقِطَاعِهِ، وَأَمَّا العِلْمُ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ القَلْبُ بِعَدَدِ الأَنْفَاسِ، وَلَا يَزِيدُهُ كَثْرَتُهُ إِلَّا صَلَاحًا وَنَفْعًا(3).
فَحَاجَةُ القَلْبِ إِلَى العِلْمِ لَيْسَتْ كَالحَاجَةِ إِلَى التَّنَفُّسِ فِي الهَوَاءِ، بَلْ أَعْظَمُ.
__________
(1) رواه أبو داود (336)، وحسنه الألباني رحمه الله فِي "صحيح سنن أبي داود"(1/101).
(2) مفتاح دار السعادة (1/368-370).
(3) …مفتاح دار السعادة (1/508-509).
(1/37)
وَبِالجُمْلَةِ؛ فَالعِلْمُ لِلْقَلْبِ مِثلُ المَاءِ لِلسَّمَكِ؛ إِذَا فَقَدَهُ مَاتَ، فَنِسْبَةُ العِلْمِ إِلَى القَلْبِ كَنِسْبَةِ ضَوْءِ العَيْنِ إِلَيْهَا، وَكَنِسْبَةِ سَمْعِ الأُذُنِ كَلَامَ اللِّسَانِ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَدِمَهُ كَانَ كَالعَيْنِ العَمْيَاءِ، وَالأُذُنِ الصَّمَّاءِ؛ وَاللِّسَانِ الأَخْرَسِ(1).
وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلمٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ المَورُوثِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ العِلْمُ النَّافِعُ(2).
رَابِعًا: أَكْلُ الحَلالِ وَاتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ
عَنِ النُّعمَانِ بنِ بَشَيرٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللّاهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»(3).
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/371).
(2) زاد المعاد (2/24).
(3) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(1/38)
فَقَد دَلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَكْلَ الحَلالِ، يُصْلِحُ القَلْبَ، وَأَكْلُ الحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ يُفْسِدُهُ. وَيُخَافُ عَلى آكِلِ الحَرَامِ وَالمُتَشَابِهِ، أَلاَّ تُسْمَعَ لَهُ دَعْوَةٌ. أَلَا تَسْمَعُ قَولَهُ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللّاهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللّاهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ?[المؤمنون:51]، وَقَالَ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? [البقرة: 172]؛ ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!»(1).
خَامساً: مُطَالَعَةُ القَلْبِ لِلأَسمَاءِ الحُسنَى وَالصِّفَاتِ العُلى
اعْلَمْ-أَصْلَحَ اللّاهُ قَلْبَكَ- بِأَنَّ "صَلاحَ القَلْبِ وَاسْتِقَامَتَهُ عَلَى طَرِيقِ سَيرِهِ إِلَى اللّاهِ تَعَالَى، مُتَوَقِّفٌ عَلَى جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللّاهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالكُلِّيَّةِ عَلَى اللّاهِ تَعَالَى"(2). وَلَو فُرِضَتْ لَذَّاتُ أَهْلِ الدُّنيَا بأَجْمَعِهَا حَاصِلَةً لِرَجُلٍ، لَمْ يَكُنْ لَهَا نِسْبَةٌ إِلَى لَذَّةِ جَمْعِيَّةِ قَلْبِهِ عَلَى اللّاهِ (3).
__________
(1) رواه مسلم (1015).
(2) زاد المعاد (2/86).
(3) مدارج السالكين (ص3/163).
(1/39)
وَأَعْظَمُ سَبَبٍ لاسْتِقَامَةِ القَلْبِ: مُطَالَعَةُ القَلْبِ لأَسْمَاءِ اللّاهِ الحُسنَى وَصِفَاتِهِ العُلَى. فَإِنَّهَا تَدعُو إِلى مَحَبَّتِهِ وَخَشيَتِهِ، وَخَوفِهِ وَرَجَائِهِ، وَإِخلاصِ العَمَلِ لَهُ؛ وَهَذَا هُوَ المَطلَبُ الأَعلَى، وَالمَقصَدُ الأَسنَى، وَهَذَا عَينُ سَعَادَةِ العَبدِ.
وَلْنَذْكُر مِثَالاً وَاحِداً: "المُرَاقَبَةُ الَّتي هِيَ مِنْ أَعلَى أَعْمَالِ القُلُوبِ هِيَ التَّعَبُّدُ لِلّاهِ بِاسْمِهِ الرَّقِيبِ الشَّهِيدِ، فَمَتَى عَلِمَ العَبدُ أَنَّ حَرَكَاتِهِ الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ قَد أَحَاطَ اللّاهُ بِعِلمِهَا، وَاسْتَحْضَرَ هَذَا العِلْمَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، أَوجَبَ لَهُ ذَلِكَ حِرَاسَةَ بَاطِنِهِ عَنْ كُلِّ فِكْرٍ وَهَاجِسٍ يُبْغِضُهُ اللّاهُ، وَحَفِظَ ظَاهِرَهُ عَنْ كُلِّ قَولٍ أَو فِعْلٍ يُسْخِطُ اللّاهَ، وَتَعَبَّدَ بِمَقَامِ الإِحْسَانِ فَعَبَدَ اللّاهَ كَأنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاهُ"(1).
فَتَأَمَّلَ كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَكُلَّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ، كَيْفَ تَجِدُ هَذَا أَصْلَهُ وَمَنْبَعَهُ(2).
* * *
صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ لِأَصْحَابِ القُلُوبِ السَّلِيمَةِ
وَفِيمَا يَلي نُورِدُ نَمَاذِجَ مُشَرِّفَةً، وَصُوَراً مُشْرِقَةً، لأَصحَابِ القُلُوبِ السَّلِيمَةِ؛ فَاقْرَأها بِتَدَبُّرٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ؛ سَائِلاً رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهَا.
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (3/242).
(2) إعلام الموقعين (4/255).
(1/40)
1- عَنْ عَامِرِ بنِ سَعدٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه في إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللّاهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ. فَنَزَلَ، فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ المُلْكَ بَينَهُم؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ في صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ"(1).
وَالخَفِيُّ: مَعناهُ الخَامِلُ المُنْقَطِعُ إِلى العِبَادَةِ والاشْتِغَالِ بِأُمُورِ نَفْسِهِ(2). لا يَهْتَمُّ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ النَّاسِ، أَو يُشَارَ إِليهِ بِالبَنَانِ، أَو يَتَحَدَّثَ النَّاسُ عَنهُ(3). إنسانٌ خَفِيٌّ لا يُحِبُّ الظُّهُورَ وَلا يَتَصَدَّرُ لِشِيءٍ لأَنَّ أَهَمَّ مَا عِنْدَهُ هُوَ مَحَبَّةُ اللّاهِ لَهُ وَرِضَا اللّاهِ عَنهُ.
2- عَنْ عَبدِ اللّاهِ بنِ حَنْظَلَةَ: أَنَّ عَبدَ اللّاهِ بنَ سَلامٍ مَرَّ فِي السُّوقِ، وَعَلَيهِ حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيسَ اللهُ قَدْ أَعْفَاكَ عَنْ هَذَا؟! قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَ بِهِ الكِبْرَ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ: مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ"(4).
__________
(1) أخرجه مسلم (2965).
(2) شرح مسلم (18/100-102).
(3) شرح رياض الصالحين (6/200)، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.
(4) رواه عبد الله بن أحمد في "الزهد" (ص227-228): ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير" 13/رقم (129)- القسم المفقود- ، وحسنه الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب والترهيب" (2910).
(1/41)
وَلَعَلَّهُ مِنَ المُفِيدِ أَنْ نُذَكِّرَ القَارِئَ بَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَ الكِبْرَ بِقَوْلِهِ: «الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»(1).
فَبَطَرُ الحَقِّ: رَدُّهُ وَجَحْدُهُ، وَدَفْعُهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِمَالِهِ. فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ» قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ» مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ(2).
وَغَمْطُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُم وَازْدِرَاؤُهُم، وَمَتَى احْتَقَرَهُم وَازْدَرَاهُم وَقَعَ فِي العُجْبِ، وَهُوَ من أعظمِ المهلكاتِ وفظائعِ الأمورِ.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «المُهْلِكَاتُ ثَلَاثٌ: إِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ»(3).
3- عَنْ عَدِيِّ بنِ أَرْطَاةَ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُكِّيَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لا تُؤاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ(4).
__________
(1) رواه مسلم (91).
(2) رواه مسلم (2021).
(3) رواه البزار «كشف الأستار» (82)، وحسنه الألباني رحمه الله بطرقه وشواهده في «الصحيحة» (1802).
(4) رواه البخاري في الأدب المفرد" (761)، وصحح إسناده الألباني رحمه الله في "صحيح الأدب المفرد" (589).
(1/42)
4- وَلَمَّا طُعِنَ الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه: «جَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللّاهِ لَكَ: مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقِدَمٍ فِي الإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنْ ذَلِكَ كَفَافٌ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلَامَ، قَالَ: ابْنَ أَخِي! ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ»(1).
يَا لَهُ مِنْ مَوْقِفٍ مَا أَجَلَّهُ. عُمَرُ الفَارُوقُ رضي الله عنه صَاحِبُ القَلْبِ السَّلِيمِ لَمْ يَتْرُكِ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، فِي هَذَا المَوْطِنِ، امْتِثَالًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان»(2).
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي القَلْبِ إِنْكَارُ مَا يَكْرَهُهُ [اللّاهُ] وَيُبْغِضُهُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِيمَانٌ(3).
__________
(1) رواه البخاري (3700) - في حديث طويل -.
(2) رواه مسلم (49)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(3) الاستقامة (2/36).
(1/43)
5- عَنْ عَطَاءَ بنِ أَبي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ عَباسٍ رضي الله عنهما: أَلا أُرِيكَ امرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّوداءُ، أَتَتِ النَّبيَّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي؛ قَالَ: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ" فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا(1).
…امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لَا يُؤبَهُ لَهَا فِي المُجْتَمَعِ، كَانَتْ تُصْرَعُ وَتَنْكَشِفُ، فَأَخْبَرَتِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَأَلَتهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا، فَقَالَ لَهَا: «إِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ لَكِ، وَإِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ». قَالَتْ: أَصْبِرُ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَأَلَّمُ وَتَتَأَذَّى مَنِ الصَّرعِ، لَكِنَّهَا صَبَرَتْ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ. وَلَكِنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّاهِ إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا اللّاهَ أَنْ لَا تَتكَشَّفَ، فَصَارتْ تُصْرَعُ وَلَا تَتَكَشَّفُ(2).
…فَهَذِهِ المَرْأَةُ سَوْدَاءُ، لَكِنَّ قَلْبَهَا أَبْيَضُ. قَدْ تَصْبِرُ عَلَى المَرَضِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ عَلَى خَدشِ الحَيَاءِ، وَجرْحِ العَفَافِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَتِهَا.
…أَلَمْ يَأَنِ لِلنِسْوَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ العَصِيبِ أَنْ يَقْتَدِينَ بِهَذِهِ المَرْأَةِ، وَيَتَرَبَّيْنَ عَلَى العَفَافِ وَالحَيَاءِ!!
__________
(1) رواه البخاري (5652)، ومسلم (2576).
(2) شرح رياض الصالحين (1/236 - 237).
(1/44)
6- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي [عَلَيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ]: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللّاهِ عليه وسلم؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ - وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ -، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ(1).
7- قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه لأُوَيسِ بنِ عَامِرٍ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَينَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الكُوفَةَ، قَالَ: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ في غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِليَّ(2).
أَي: ضِعَافِهِمْ وَصَعَالِيقِهِمْ وَأَخْلاطِهِمُ الَّذِينَ لا يُؤْبَهُ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ إِيثَارِ الخُمُولِ وَكَتْمِ حَالِهِ(3).
8- قَالَ حَمْزَةُ بنُ دَهْقَانَ: «قُلْتُ لِبِشرِ بنِ الحَارِثِ (227هـ): أُحِبُّ أَنْ أَخْلُوَ مَعَكَ. قَالَ: إِذَا شِئتَ فَيَكُونُ يَوماً. فَرَأَيتُهُ قَدْ دَخَلَ قُبَّةً، فَصَلَّى فِيهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لا أُحْسِنُ أُصَلِّي مِثلَهَا، فَسَمِعتُهُ يَقُولُ في سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الشَّرَفِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أَنَّ الفَقرَ أَحَبُّ إِليَّ مِنَ الغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أنِّي لا أُوثِرُ عَلى حُبِّكَ شَيئاً.
فَلَمَّا سَمِعتُهُ، أَخَذَنِي الشَّهِيقُ وَالبُكَاءُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنِّي لَو أَعلَمُ أَنَّ هَذَا هَاهُنَا، لَم أَتَكَلَّمْ(4).
* * *
نصائحُ على الطريقِ
1- عَظِّمْ شَعَائِرَ اللّاهِ.
__________
(1) رواه البخاري (3671).
(2) انظر: الحديث في "صحيح مسلم"[225- (2542)].
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (16/77-78).
(4) السير (10/473).
(1/45)
قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)[الحج: 32].
وَالمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: العِبَادَاتُ الظَّاهِرَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً؛ مِثْلُ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَالأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ(1).
فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللّاهِ صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ، فَالمُعَظِّمُ لَهَا، يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ، وَصِحَّةِ إِيمَانِهِ، لأَنَّ تَعظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعظِيمِ اللّاهِ وَإِجْلالِهِ(2).
فَالذي "يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللّاهَ فَيَرَى أَنَّهَا عَظِيمَةٌ في قَلْبِهِ، وَيَقُومُ بِمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ التَّعْظيمِ بِجَوَارِحِه، فَإِنَّ هذا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ، عَلامَةٌ عَلَى صَلاحِ نِيَّتِهِ وَتَقْوَى قَلْبِهِ، وَإذا اتَّقَى القَلبُ اتَّقَتِ الجَوَارِحُ.
فَعَلَيكَ بِتَعظِيمِ شَعَائِرِ اللّاهِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْوَى لِقَلْبِكَ، وَأيضاً يَكُونُ خَيراً لَكَ عِنْدَ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ"(3): (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) [الحج: 30].
أَي: وَمَنْ يَجْتَنِب مَعَاصِيهِ وَمَحَارِمَهُ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وثَوابٌ جَزِيلٌ. فَكَمَا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ثَوَابٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ جَزِيلٌ، كَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابِ المَحْظُورَاتِ(4).
__________
(1) شرح رياض الصالحين (2/542).
(2) تيسير الكريم الرحمن (ص744).
(3) شرح رياض الصالحين (7/101).
(4) تفسير القرآن العظيم (3/301).
(1/46)
لأَنَّ تَعظِيمَ حُرُمَاتِ اللّاهِ، مِنَ الأُمُورِ المَحبُوبَةِ لِلّاهِ، المُقَرِّبَةِ إِلَيهِ، الَّتِي مَن عَظَّمَهَا وَأَجَلَّهَا، أَثَابَهُ اللّاهُ ثَوَاباً جَزِيلًا، وَكَانَت خَيراً لَهُ، فِي دِينِهِ، وَدُنيَاهُ وَأُخرَاهُ، عِندَ رَبِّهِ(1).
2- لا تُكْثِرِالضَّحِكَ.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ»(2).
3- لِيَكُنْ دُعَاؤُكَ بِحُضُورِ قَلْبٍ.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا اللّاهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّاهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ»(3).
وَعَنْ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ سَأَلَ اللّاهَ الشَّهَادَةَ مِنْ قَلْبِهِ صَادِقاً، بَلَّغَهُ اللّاهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»(4).
4- أَطْعِمِ المِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأَسَ اليَتِيمِ.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَليِينَ قَلْبِكَ، فَأَطْعِمِ المِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأسَ اليَتِيمِ»(5).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن (ص744).
(2) أخرجه ابن ماجه (4193)، وصححه الألباني فِي "صحيح الجامع " (7435).
(3) أخرجه الترمذي (3479)، وحسنه الألباني فِي "صحيح الجامع " (245).
(4) أخرجه مسلم (1909)، والترمذي (1653) واللفظ له.
(5) أخرجه أحمد (2 / 263)، وحسنه الألباني فِي " صحيح الجامع " (1410).
(1/47)
5- إِذَا أَذْنَبتَ ذَنباً فَأَحْدِثْ تَوبَةً.
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فإِذَا هو نَزَعَ واستَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُه، وَإنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ الله: ?كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كانوا يَكْسِبُونَ?[المطففين: 14] »(1).
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ مَِن الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ وَانْجَلى(2)
6- أَكْثِرْ مِنَ الاسْتِغْفَارِ.
عَنِ الأَغَرِّ المُزَنِيِّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللّاهَ فِي الْيَوْمِ، مِئَةَ مَرَّةٍ»(3).
فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرُ في اليَومِ مِئَةَ مَرَّةٍ مَعَ عِظَمِ شَأنِهِ وَكَونِهِ مَعْصُوماً. فَكَيفَ لا يَشْتَغِلُ بالاسْتِغْفَارِ لَيلاً وَنَهَاراً مَنْ أَثْقَلَتْ ظَهْرَهُ الذُّنوبُ وَالأَوزَارُ، وَاسْتَكْثَرَ مِنَ المَعَاصِي وَالسَّيئَاتِ؟!
وَإِذَا كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَسْتغْفِرُ وَقَدْ غَفَرَ اللّاهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَكَيفَ بِالَّذِي لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ أَغُفِرَ لَهُ أمْ لا؟ كَيفَ لا يَسْتَغْفِرُ اللّاهَ في كُلِّ وَقْتٍ، وَلا يَجْعَلُ لِسَانَهُ أَبَداً مَشْغُولاً بِالاسْتِغْفَارِ، الَّذِي هُوَ المُنَجِّي مِنْ عَذَابِ النَّارِ؟!
__________
(1) أخرجه الترمذي (3334)، وحسنه الألباني فِي " صحيح الجامع " (1670).
(2) تفسير القرطبي (19 / 260).
(3) أخرجه مسلم (2702).
(1/48)
7- عَلَيكَ بِزِيَارَةِ القُبُورِ.
عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ أَلاَ فَزُورُهَا؛ فَإِنَّهَا تُرِقُّ القَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ...»(1).
فَهَذِهِ مَوْعِظَةٌ عَظِيمَةٌ إِذَا عَمِلَ الإِنْسَانَ بِهَا، نَفَعَتْهُ وَصَلُحَتْ أَحْوَالُهُ؛ فَهَلْ مِنْ سَامِعٍ مُنِيبٍ، وَأَوَّاهٍ حَلِيمٍ، لِلنَّصِيحَةِ يَسْتَجِيبُ؟!
وَلَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: لَيْسَ عِنْدِي وَقْتٌ لِزِيارَةِ القُبُورِ، فَاعْلَم بَأَنَّ أَصْحَابَ القُبُورِ كَانُوا مِثْلَكَ: أَعْمَالُهُم كَثِيرَةٌ، وَمَاتُوا وَلَمْ يُنْهُوا أَشْغَالَهُم، فَاعْتَبِر بِهَذَا الكَلَامِ، أَعَانَكَ اللّاهُ وَحَفِظَكَ، وَرَعَاكَ وَسَدَّدَكَ، وَأَيَّدَكَ وَكَفَاكَ، وَهَدَاكَ وَأَحَبَّكَ، وَرَضِيَ عَنْكَ.
8- أَكْثِرْ مِنَ الأَعْمَالِ الخَفِيَّةِ:
عَنِ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:«مَنِ استَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَل"(2).
لَطَالَمَا عَصَينَا اللّاهَ كَثِيراً فِي السِّرِّ، فَهَلَّا أَكْثَرْنَا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ بَينَنَا وَبَينَ اللّاهِ؟!
وَلْنَذْكُرْ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ-لا الحَصْرِ- الأَعْمَالَ التَّالِيَةَ:
أ- البُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللّاهِ:
__________
(1) أخرجه الحاكم (1 / 376)، وصححه الألباني فِي " صحيح الجامع " (4584).
(2) أخرجه الخطيب فِي "التاريخ" (11/262)، والضياء المقدسي فِي "الأحاديث المختارة" (3/78) رقم (884)، وصححه الألباني فِي " الصحيحة " (2313).
(1/49)
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللّاهُ فِي ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ -وَذَكَرَ مِنْ بَينِهِم-: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّاهَ خَالياً فَفَاضَتْ عَينَاهُ "(1).
وَذِكْرُ اللّاهِ خَالِياً يَكُونُ أَقْرَبَ لِلخُشُوعِ، وَأَجْلَبَ لِلدُّمُوعِ، وَأَبعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ، وَأَصْفَى لِلنَّفْسِ، وَلا يَكُونُ فِيهِ التِفَاتٌ إِلَّا إِلى اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكُونُ البُكَاءُ حِينَئِذٍ مِنْ خَشْيَةِ اللّاهِ وَخَوفِهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ الخَلْوَةَ مَدْعَاةٌ إِلى قَسْوَةِ القَلْبِ ، وَالجُرأَةِ عَلَى المعْصِيَةِ، فَإِذَا مَا جَاهَدَ الإِنسَانُ نَفسَهُ فِيهَا ، وَاسْتَشْعَرَ عَظَمَةَ اللّاهِ فَاضَتْ عَينَاهُ ، فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ ظِلِّ عَرشِ الرَّحْمَنِ يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.
" وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّاهَ خَالياً فَفَاضَتْ عَينَاهُ ": هَذَا الذَّاكِرُ مُسْتَظِلٌّ بِظِلِّ العَرْشِ يَومَ الحَرِّ الأَكْبَرِ، وَالنَّاسُ في حَرِّ الشَّمْسِ قَد صَهَرَتْهُم في المَوقِفِ.
فَهَلَّا وَقَفْتَ يَوماً لِوَحْدِكَ وَخَلَوتَ بِاللّاهِ لا يَعْلَمُ بِكَ إِلَّا اللّاهُ، فَتَذَكَّرْتَ عَظَمَةَ اللّاهِ وَقُدْرَتَهُ وَمِنَّةَ اللّاهِ عَلَيْكَ وَنِعْمَتَهُ، وَتَذَكَّرْتَ َتْقِصيرَكَ وَكَثْرَةَ ذُنُوبِكَ؛ فَخَفَقَ القَلْبُ وَاقْشَعَرَّ البَدَنُ وَسَالَتِ الدَّمْعَةُ عَلَى الخَدَّينِ، فَرُبَّمَا كُنْتَ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللّاهُ في ظِلِّهِ.
هَيَّا بِنَا إِلى البُكَاءِ وَالدُّمُوعِ، لَعَلَّنَا نَسْتَظِلُّ بِظِلِّ العَرْشِ يَومَ القِيَامَةِ: ذَلِكَ اليَومُ الَّذِي يَعرَقُ النَّاسُ فِيهِ إِلى آذَانِهِم!!!
__________
(1) رواه البخاري(660)، ومسلم(1031).
(1/50)
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللّاهُ عَنهُ: أَنَّ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُم في الأَرضِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً، وَيُلْجِمُهُمُ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُم"(1).
وَعَنِ المقدَادِ بنِ الأَسودِ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِم في العَرَقِ. فَمِنْهُم مَنْ يَكُونُ إِلى كَعْبَيهِ، وَمِنْهُم مَنْ يَكُونُ إِلى رُكْبَتَيهِ، وَمِنهُم مَنْ يَكُونُ إِلى حَقوَيهِ، وَمِنهُم مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إِلجَاماً"(2).
إِنَّ الإِنسَانَ في فَصْلِ الصَّيفِ يَعْمَلُ جَاهِداً عَلَى أَن يُذهِبَ الحَرَّ بِوَسَائِلِ التَّبْرِيدِ المخْتَلِفَةِ.فَكَيفَ لا يَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَقِيَ نَفسَهُ مِنْ ذَلِكَ الحَرِّ الرَّهِيبِ وَالعَرَقِ الكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ؟!
ب- الدُّعَاءُ بِظَهْرِ الغَيبِ:
عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ- بِظَهرِ الغَيبِ- مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ؛ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيرٍ، قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثلٍ"(3).
وَدُعَاءُ الغَائِبِ لِلْغَائِبِ، أعْظَمُ إِجَابَةً مِنْ دُعَاءِ الحَاضِرِ، لأَنَّهُ أَكْمَلُ إِخلاصاً وَأَبْعَدُ عَنِ الشِّرْكِ(4).
__________
(1) رواه البخاري(6532)، ومسلم(2863).
(2) رواه مسلم(2864).
(3) رواه مسلم (2732).
(4) مجموع الفتاوى (1/328).
(1/51)
فَمَنْ دَعَا لأَخٍ لَهُ فِي اللّاهِ بِظَهْرِ الغَيبِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ اللّاهُ قَلْباً سَلِيماً طَاهِراً خَاشِعاً تَقِيّاً نَقِيّاً لَيِّناً رَقِيقاً، فَإِنَّ المَلَكَ المُوَكَّلَ بِهِ يَقُولُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثلٍ.
ج- الإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ في البَيتِ:
عَنْ صُهَيبٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "صَلاةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعاً حَيثُ لا يَرَاهُ النَّاسُ، تَعْدِلُ صَلاتَهُ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ خَمساً وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"(1).
* * *
نَصِيحَةٌ لِمُشَاهِدِي الأَفْلَامِ المَاجِنَةِ
اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللهُ - بِأنَّ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ البَدَنِ خُلِقَ لِفِعْلٍ خَاصٍّ، بِهِ كَمَالُهُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الفِعْلِ مِنْهُ. وَمَرَضُهُ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهِ الفِعْلُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ.
فَمَرَضُ اليَدِ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهَا البَطْشُ.
وَمَرَضُ العَينِ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهَا النَّظَرُ وَالرُّؤيَةُ.
وَمَرَضُ اللِّسَانِ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهِ النُّطْقُ.
وَمَرَضُ البَدَنِ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهِ حَرَكَتُهُ الطَّبِيعِيَّةُ.
__________
(1) رواه أبو يعلى فِي "الكبير"، وصححه الألباني رحمه الله فِي "صحيح الجامع"(3821).
(1/52)
وَمَرَضُ القَلْبِ: أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيهِ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللّاهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالشَّوقِ إِلى لِقَائِهِ، وَالإِنَابَةِ إِلَيهِ(1)، وَالأُنْسِ بِهِ، وَتَوحِيدِهِ وَالسُّرُورِ بِهِ وَالابتِهَاجِ بِحُبِّهِ، وَالرِّضَى عَنْهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ، وَالحُبِّ فِيهِ، وَالبُغْضِ فِيهِ، وَالمُوَالاةِ فِيهِ، وَالمُعَادَاةِ فِيهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَرْجَى عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَجَلَّ فِي قَلْبِهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ(2)، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ شَهْوَةٍ (3)، وَلا صَلاحَ لِلْقَلْبِ وَلا نَعِيمَ لَهُ وَلا سُرُورَ وَلا لَذَّةَ، بَلْ وَلا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَهَذَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الغِذَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالحَيَاةِ.
فَلَيسَ "لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ أَلَذَّ وَلا أَطيَبَ وَلا أَحْلى وَلا أَنْعَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللّاهِ وَالإِقْبَالِ عَلَيهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَقُرَّةِ العَينِ بِهِ وَالأُنْسِ بِقُرْبِهِ وَالشَّوقِ إِلَى لِقَائِهِ وَرُؤيَتِهِ، وَصَاحِبُ هَذِهِ اللَّذَّةِ فِي جَنَّةٍ عَاجِلَةٍ نِسْبَتُهَا إِلَى لَذَّاتِ الدُّنيَا، كَنِسْبَةِ لَذَّةِ الجَنَّةِ إِلَى لَذَّةِ الدُّنيَا"(4).
وَكُلُّ مَنْ عَرَفَ اللّاهَ أَحَبَّهُ، وَأَخْلَصَ العِبَادَةَ لَهُ وَلا بُدَّ، وَلَمْ يُؤثِرْ عَلَيهِ شَيئاً مِنَ المَحْبُوبَاتِ، فَمَنْ آثَرَ عَلَيهِ شَيئاً مِنَ المَحْبُوبَاتِ؛ فَقَلْبُهُ مَرِيضٌ وَمَأسُورٌ، أَسِيرُ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ.
فَكَيفَ يَسِيرُ إِلى اللّاهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ: قَلْبٌ مَأسُورٌ مَسْجُونٌ مُقَيَّدٌ؟
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/68).
(2) زاد المعاد (4/202).
(3) إغاثة اللهفان (1/68).
(4) روضة المحبين (ص180).
(1/53)
وَمُشَاهَدَةُ الأَفْلامِ المَاجِنَةِ وَالدُّخُولُ عَلَى المَوَاقِعِ الإِبَاحِيَّةِ، تِلْكَ فِتْنَةٌ كُبْرَى، وَبَلِيَّةٌ عُظْمَى، وَسُمٌّ قَاتِلٌ، وَدَاءٌ عُضَالٌ، وَمَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ القَلْبِ. «وَفِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ وَالفَسَادِ مَا لا يُحْصِيهِ إِلَّا رَبُّ العِبَادِ»(1)، وَهُوَ مِنَ الأَمْرَاضِ التي تُفْسِدُ دِينَ صَاحِبِهَا، ثُمَّ قَدْ تُفْسِدُ عَقْلَهُ ثُمَّ جِسْمَهُ(2)، وَلَو سَلِمَ مِنْ فِعلِ الفَاحِشَةِ الكُبْرَى، فَدَوَامُ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِهَا بِلا فِعْلِ الفَاحِشَةِ أَشَدُّ ضَرَراً عَلَيهِ، مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَنْباً ثُمَّ يَتُوبُ مِنهُ وَيَزُولُ أَثَرُهُ مِنْ قَلْبِهِ(3).
ذَلِكَ بِأَنَّ إِصْرَارَ القَلْبِ على مَحَبَّةِ مَا يَكرَهُهُ اللّاهُ، نَقْصٌ في التَّوحِيدِ، وَهَوَ نَوعٌ مِنَ الشِّركِ الخَفِيِّ(4).
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَذَا البَلاءِ: إِعْرَاضُ القَلْبِ عَنِ اللّاهِ، فَإِنَّ القَلْبَ إِذَا ذَاقَ طَعْمَ عِبَادَةِ اللّاهِ وَالإِخْلاصِ لَهُ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيءٌ قَطُّ أَحْلَى مِنْ ذَلِكَ(5).
وَسُئِلَ بَعْضُ العُلَماءِ عَنْ عِشْقِ الصُّوَرِ؟ فَقَالَ: قُلُوبٌ غَفَلَتْ عَنْ ذِكْرِ اللّاهِ، فَابْتَلاهَا بِعُبُودِيَّةِ غَيرِهِ(6).
وَالشَّيطَانُ "دَائِماً يَتَرَقَّبُ غَفْلَةَ العَبْدِ، فَيَبْذُرُ في قَلْبِهِ بَذْرَ الأمَانِي والشَّهَواتِ والخَيَالاتِ البَاطِلَةِ، فَيُثْمِرُ كُلَّ حَنْظَلٍ وَكُلَّ شَوكٍ وَكُلَّ بَلاءٍ، وَلا يَزَالُ يُمِدُّهُ بِسَقْيِهِ حتَّى يُغَطِّيَ القَلْبَ وَيُعْمِيَهُ"(7).
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/187).
(2) مجموع الفتاوى (10/132).
(3) مجموع الفتاوى (10/187).
(4) انظر: جامع العلوم والحكم (1/524-525).
(5) مجموع الفتاوى (10/187).
(6) …مفتاح دار السعادة (1/374).
(7) مفتاح دار السعادة (1/375).
(1/54)
وَلَو "لَْم يَكُنْ لِلْقَلبِ المُشْتَغِلِ بِمَحَبَّةِ غَيرِ اللّاهِ المُعْرِضِ عَنْ ذِكْرِهِ مِنَ العُقُوبَةِ، إِلَّا صَدَؤُهُ وَقَسْوَتُهُ وَتَعطِيلُهُ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، لَكَفْى بِذَلِكَ عُقُوبَةً"(1).
وَأنْصَحُ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَذَا البَلَاءِ بِخَمسَةِ أُمُورٍ:
الأَوَّلُ: الصَّبْرُ:
عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "...وَمَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيراً وَأَوسَعَ مِنَ الصَّبرِ"(2).
وَعَلَى المُبتَلى أَنْ يَصْبِرَ وَيَتَحَمَّلَ مَرَارَةَ الدَّوَاءِ، وَذَلِكَ أَصْعَبُ شيءٍ عَليهِ، وَلَيسَ لَهُ أَنْفَعُ مِنْهُ. وَإِذَا تَلَمَّحَ حَلاوَةَ العَافِيَةِ، هَانَتْ عَليهِ مَرَارَةُ الصَّبرِ.
فَلَيسَ لِمَنْ قَدْ فُتِنَ بِمُشَاهَدَةِ تِلكَ الأَفْلامِ دَوَاءٌ مِثْلُ الصَّبرِ، فَإِنْ صَبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَا لا يُرْضِي اللّاهَ نَجَا مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ سَقَطَ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا، فَدَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَاشْتَدَّ أَلَمُهُ وَعَذَابُهُ. فَلا يُنْكِرُ قُرْبَ الهَلاكِ.
وَقَد قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ البَصَرِ، أَيسَرُ مِنَ الصَّبرِ عَلَى أَلَمِ مَا بَعْدَهُ(3).
فَكُلَّمَا شَاهَدَ فِيلْماً جَرَّهُ إِلى فِيلْمٍ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرَّا. فَمَثَلُهُ مَثَلُ عَطْشَانٍ شَرِبَ مِنَ البَحْرِ، فَازدَادَ عَطَشاً. وَقَدْ يَفْعَلُ الفَاحِشَةَ وَالعِيَاذُ بِاللّاهِ. وَقَدْ يَأتِيهِ الموتُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَلْقَى اللّاهَ بِقَلْبٍ غَيرِ سَلِيمٍ. وَلا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى اللّاهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
الثَانِي: الدُّعَاءُ:
__________
(1) روضة المحبين (ص182).
(2) رواه البخاري (1469)، ومسلم (1053).
(3) الداء والدواء (ص179).
(1/55)
وَلْيُكْثِرِ «اللَّجَأَ وَالتَّضَرُّعَ إِلى مَنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ، فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلْيَطْرَحْ نَفْسَهُ بَينَ يَدَيهِ، مُسْتَغِيثاً بِهِ، مُتَضَرِّعاً، مُتَذَلِّلاً، مُسْتَكِيناً، ضَعِيفاً، لا قُوَّةَ لَهُ وَلا قُدرَةَ وَلا حَولَ إِلَّا بِرَبِّهِ، فَمَتَى وُفِّقَ لِذَلِكَ فَقَد قَرَعَ بَابَ التَّوفِيقِ.
وَلَعَلَّهُ مِنَ المُفِيدِ جِدًّا أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الأَدْعِيَةِ التَّالِيَةِ:
1- عَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الإيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوفِ أَحَدِكُم كَمَا يَخلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللّاهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُم» (1).
يَخْلَقُ: أَي يَبْلَى.
1- اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ قَلْباً سَليماً، وَلِسَاناً صَادِقاً (2).
2- اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّه إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ (3).
3- اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ (4).
4- اللَّهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا(5).
__________
(1) …رواه الحاكم (1/4)، وحسنه الألباني رحمه الله فِي «الصحيحة» (1585).
(2) …رواه الطبراني فِي «الكبير» (7135)، وجوَّد إسناده العلامة الألباني رحمه الله فِي «الصحيحة» (3228).
(3) …رواه البخاري فِي الأدب المفرد (699)، وصححه الألباني رحمه الله فِي «صحيح الأدب المفرد» (541).
(4) …رواه مسلم (2654).
(5) …رواه مسلم (2722).
(1/56)
5- اللَّهُمَّ نَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ(1).
6- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي - يَعْنِي فَرْجَهُ -(2).
7- اللَّهُمَّ اغفِر ذَنبِي، وَطَهِّرْ قَلْبِي، وَحَصِّن فَرجِي(3).
8- يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ (4).
9- يا وَليَّ الإسلامِ وَأَهْلِهِ، ثَبِّتْنِي بِهِ حَتَّى أَلْقَاكَ(5).
الثَّالِثُ: الإِخلَاصُ:
وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللّاهِ، وَلَيْسَ دَوَاءٌ أَنْفَعَ مِنَ الإِخْلَاصِ للّاهِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللّاهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) [يوسف: 24].
"فَاللهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوءُهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ للّاهِ"(6).
__________
(1) …رواه البخاري (6377)، ومسلم فِي "48-كتاب الذكر والدعاء" [49- (589)].
(2) …رواه الترمذي (3492)، وصححه الألباني رحمه الله فِي «صحيح سنن الترمذي» (2775).
(3) …يدل عليه دعاء النبي صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ للفتى الشاب، الذي أتى النبي صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنى...قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللَّهُمَّ اغفِر ذنبَهُ، وطهِّر قلبَهُ، وحصِّن فرجَهُ» فلم يكن بعد ذلك، الفتى يلتفت إِلَى شيء. رواه أحمد (5/256-257)، وصححه الألباني فِي "الصحيحة" (370).
(4) …رواه الترمذي (2140)، وصححه الألباني رحمه الله فِي «صحيح سنن الترمذي (2/444).
(5) …رواه الطبراني فِي "الأوسط" (661)، وحسنه الألباني فِي "الصحيحة" (1823).
(6) مجموع الفتاوى (10/188).
(1/57)
فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا خَلَصَ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ للّاهِ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ عِشْقُ الصُّوَرِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبٍ فَارِغٍ، كَمَا قَالَ:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا(1)
وَلِهَذَا تَجِدُ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مُخْلِصًا للّاهِ مُنِيبًا إِلَيْهِ مُطْمَئِنًّا بِذِكْرِهِ، مُشْتَاقًا قَلْبُهُ إِلَى لِقَائِهِ، مُنْصَرِفًا عِنْ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيهَا، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيهَا(2). كَالمَشْغُولِ بِالجَوهَرِ إِذَا لاحَتْ لَهُ قُشُورُ البَصَلِ، بِخِلافِ مَا إِذَا عُدِمَ هَذِهِ الحَلاوةَ الإيمَانِيَّةَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَمِيلُ إلى شَيءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ(3).
فَلَا تَزُولَ الْفِتْنَةُ عَنِ الْقَلْبِ إِلَّا إِذَا كَانَ دِينُ الْعَبْدِ كُلُّهُ للّاهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ حُبُّهُ للّاهِ وَلِمَا يحِبُّهُ اللّاهُ، وَبُغْضُهُ للّاهِ وَلِمَا يُبْغِضُهُ اللهُ(4).
الرَّابِعُ: الصَّوْمُ:
عَنْ عَبدِ اللّاهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أَغَضُّ للبَصَرِ وَأَحْصَنُ للفَرْجِ؛ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَليهِ بِالصَّومِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(5).
فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ "وَقَلَّ مَنْ أَدْمَنَ الصَّوْمَ، إِلَّا وَمَاتَتْ شَهْوَتُهُ، أَوْ ضَعُفَتْ جِدًّا"(6).
الخَامِسُ: عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِلْفِتْنَةِ.
__________
(1) الداء والدواء (ص324-325).
(2) موارد الأمان (ص433-434).
(3) شرح حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (ص33).
(4) مجموع الفتاوى (10/601).
(5) رواه البخاري (5066)، ومسلم (1400).
(6) روضة المحبين (ص230).
(1/58)
إنَّ العَبْدَ ضَعِيفٌ، وَمَهْمَا بَلَغَتْ مَنْزِلَتُهُ لا يَأمنُ على نَفْسِهِ الفِتْنَةَ، وَيَخْشَى أَنْ تَجْرِفَهُ رِيَاحُ الأَهْوَاءِ وَالفِتَنِ. وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا بِأَنَّ مَثَلَ القَلْبِ كَرِيشَةٍ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ. فَهَلْ يَلِيقُ بِالعَاقِلِ أَن يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْفِتَنِ؟!
فَيَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتَنِ، وَيَفِرَّ مِنْهَا فِرَارَهُ مِنَ الأَسَدِ، حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهَا.
فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ وَقَعَ مَوَاقِعَ الْفِتَنِ، وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهُ سَيَتَخَلَّصُ، ثُمَّ لَا يَتَخَلَّصُ.
حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهُ، حَتَّى لَا يَقَعَ فِي فِتْنَتِهِ.
قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ»(1).
فَمَا اسْتُعِينَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الشَّرِّ بِمِثلِ الْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَمَظَانِّهِ(2).
فَاحْذَرْ - رَحِمَكَ اللّاهُ - مِنَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْفِتْنَةِ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَسْلَمَ مَنِ اقْتَرَبَ مِنَ الْفِتْنَةِ.
__________
(1) رواه أبو داود (4319)، وصححه الألباني رحمه الله فِي "صحيح سنن أبي داود" (3629).
(2) عدة الصابرين (ص86).
(1/59)
وَكَمَا أَنَّ مَنِ اقْتَرَبَ مِنَ النَّارِ أَصَابَهُ مِنْ حَرِّهَا وَوَهْجِهَا، كَذَلِكَ «الشَّهْوَةُ مِثْلُ النَّارِ: إِذا أَضْرَمَهَا صَاحِبُهَا، بَدأَتْ بِإِحْرَاقِهِ»(1). فَإِنَّ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ الَّذِي يُمِدُّ النَّارَ وَيُوْقِدُهَا، وَلِهَذَا: كُلَّمَا كَثُرَتِ الْخَطَايَا اشْتَدَّت نَارُ الشَّهْوَةِ فِي الْقَلْبِ»(2).فَأيُّ نَعِيمٍ لِمَنْ قَلْبُهُ يَغْلِي بِالْخَطَايَا وَالشَّهَوَاتِ؟ وَأَيُّ سُرُورٍ لِمَنْ يَلْتَهِبُ فُؤَادُهُ بِمَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُ اللهُ؟ وَأَيُّ حَيَاةٍ لِمَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِالزَّانِيَاتِ؟ وَأَيُّ عَاقِبَةٍ وَفَلَاحٍ لِمَنِ انْقَطَعَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّ الْبَرِيَّاتِ؟
وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ، فَقَدْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ العَطَبِ، فَهُوَ إِلَى الهَلَاكِ أَدْنَى مِنْهُ إِلَى السَّلَامَةِ.
«وَيَحْتَاجُ المُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَخَافَ اللّاهَ، ويَنْهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى، وَنَفْسُ الْهَوَى والشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا، كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً للّاهِ، وَعَمَلًا صَالِحًا»(3).
عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّاهِ»(4).
__________
(1) فوائد الفوائد (ص290).
(2) انظر: موارد الأمان (ص117).
(3) مجموع الفتاوى (10/635).
(4) قطعة من حديث: أخرجه أحمد (6/21و22)، وابن حبان (4862)، والحاكم (24)، وصححه الألباني فِي "الصحيحة" (549).
(1/60)
فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَهُوَ إِلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ، فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَالصَّبْرُ فِي هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الجِهَادَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الجِهَادِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ الجِهَادِ(1).
وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِهَذَا الكَلامِ «مَنْ في قَلْبِهِ بَعْضُ حَيَاةٍ يَحُسُّ بِهَا، فَأَمَّا مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ، وَعَظُمَتْ فِتْنَتُهُ؛ فَقَد سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَ النَّصِيحَةِ: ?ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذاب عظيم? [المائدة: 41]»(2).
وَفِي خِتَامِ الرَّدِّ عَلَى السُّؤَالِ، نَقُولُ لِمَنْ تَلَطَّخَ بِشَيءٍ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ: «لَا يَصْلُحُ لِقُربِ اللّاهِ إِلَّا طَاهِرٌ. فَإِنْ أرَدْتَ قُرْبَهُ وَمُنَاجَاتَهُ الْيَوْمَ فَطَّهِرْ ظَاهِرَكَ وبَاطِنَكَ لِتَصلُحَ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَرَدْتَ قُرْبَهُ وَمُناجَاتَهُ غَدًا فَطَهِّرْ قَلْبَكَ مِنْ سِوَاهُ لِتَصْلُحَ لِمُجَاوَرَتِهِ ?يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ? [الشعراء:88 - 89]»(3).
تُبْ إِلَى رَبِّكَ تَوبَةً نَصُوحاً مَا دُمْتَ فِي مُدَّةِ الإِمْكَانِ، وَاحْذَرْ مِنَ الإِقَامَةِ عَلَى مَا يُسْخِطُ الْمَوْلَى مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى العِصْيَانِ(4).
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/635-636).
(2) موارد الأمان (ص313).
(3) انظر: اختيار الأولى (ص67)، لابن رجب رحمه الله.
(4) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (6/276).
(1/61)
عَنْ عَبْدِ اللّاهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّاهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّاهِ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "...وَيلٌ للمُصِرِّينَ الذينَ يُصِرُّونَ عَلَى ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَمُونَ"(1).
فَنَسأَلُ اللّاهَ الحَيَّ القَيُّومَ ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ، العَافِيَةَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَبَلاءٍ. إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
* * *
عِبَرٌ وَعِظَاتٌ
مَا ضُرِبَ عَبدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظمَ مِنْ قَسْوَةِ القَلْبِ وَالبُعدِ عَنِ اللّاهِ(2).
خُلِقَتِ النَّارُ لإِذَابَةِ القُلُوبِ القَاسِيَةِ(3).
مَتَى أُقْحِطَتِ العَينُ مِنَ البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللّاهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ قَحْطَهَا مِنْ قَسْوَةِ القَلْبِ، وَأَبْعَدُ القُلُوبِ مِنَ اللّاهِ القَلْبُ القَاسِي(4).
قَسْوَةُ القَلْبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ إِذا جَاوَزَت قَدْرَ الحَاجَةِ: الأَكلُ وَالنَّومُ وَالكَلامُ وَالمخَالَطَةُ(5).
لَيْسَ الاعتِبَارُ بِأَعْمَالِ البِرِّ بِالجَوَارِحِ، إِنَّمَا الاعتِبَارُ بِبِرِّ القُلُوبِ وَتَقْوَاهَا، وَتَطْهِيرِهَا عَنِ الآثَامِ. سَفَرُ الدُّنيَا يُقْطَعُ بِسَيْرِ الأَبْدَانِ، وَسَفَرُ الآخِرَةِ يُقْطَعُ بِسَيْرِ القُلُوبِ(6).
لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَحَلَّى بِالمَعْرِفَةِ وَالحِكْمَةِ وَانْتَحَلَهَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، بَل أَهْلُ المَعْرِفَةِ وَالحِكْمَةِ: الَّذِينَ أحْيَوْا قُلُوبَهُم بِقَتْلِ الهَوَى، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ قَلْبَهُ فَأَحْيَى الهَوَى؛ فَالمَعْرِفَةُ وَالحِكْمَةُ عَارِيَةٌ عَلَى لِسَانِهِ(7).
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري فِي "الأدب المفرد" (380)، وصححه الألباني رحمه الله فِي "صحيح الأدب المفرد" (239).
(2) فوائد الفوائد (ص262).
(3) فوائد الفوائد (ص262).
(4) بدائع الفوائد (3/1200).
(5) فوائد الفوائد (ص262).
(6) لطائف المعارف(ص443).
(7) فوائد الفوائد (ص263).
(1/62)
خَرَابُ القَلبِ؛ مِنَ الأَمْنِ وَالغَفْلَةِ، وَعِمَارَتُهُ؛ مِنَ الخَشيَةِ والذِّكْرِ(1).
القَلبُ يَمرَضُ كَمَا يَمْرَضُ البَدَنُ، وَشِفَاؤُهُ فِي التَّوبَةِ وَالحِمْيَةِ، وَيَصْدَأُ كَمَا تَصْدَأُ المِرْآةُ، وَجَلَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، وَيَعْرَى كَمَا يَعْرَى الجِسْمُ، وَزِينَتُهُ التَّقْوَى، وَيَجُوعُ وَيَظْمَأُ كَمَا يَجُوعُ البَدَنُ، وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ المَعرِفَةُ وَالمَحَبَّةُ، والتَّوَكُّلُ وَالإِنَابَةُ وَالخِدمَةُ(2).
إِضَاعَةُ القَلْبِ مِنْ إِيثَارِ الدُّنيَا عَلَى الآخِرةِ. وَإِضَاعَةُ الوَقْتِ مِنْ طُولِ الأَمَلِ. فَاجْتَمَعَ الفَسَادُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ الهَوَى وَطُولِ الأَمَلِ، وَالصَّلَاحُ كُلُّهُ فِي اتِّباعِ الهُدَى وَالاسْتِعْدَادِ لِلِّقَاءِ(3).
العَجَبُ مِمَّنْ تَعْرِضُ لَهُ حَاجَةٌ فَيَصْرِفُ رَغبَتَهُ وَهِمَّتَهُ فِيهَا إِلَى اللّاهِ لِيَقْضِيَهَا لَهُ، وَلَا يَتَصَدَّى لِلسُّؤَالِ لِحَيَاةِ قَلْبِهِ مِنْ مَوْتِ الجَهْلِ وَالإِعْرَاضِ وَشِفَائِهِ مِنْ دَاءِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَكِنْ إِذَا مَاتَ القَلْبُ لَمْ يَشْعُر بِمَعْصِيَتِهِ(4).
إذا حَمَّلْتَ عَلَى القَلْبِ هُمُومَ الدُّنيَا وَأَثْقَالَهَا وَتَهَاوَنْتَ بِأَوْرَادِهِ الَّتِي هيَ قُوَّتُهُ وَحَيَاتُهُ، كُنْتَ كَالمُسَافِرِ الَّذِي يُحَمِّلُ دابَّتَهُ فَوقَ طَاقتِهَا وَلا يُوَفِّيهَا عَلَفَهَا، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَقِفُ بِهِ! (5).
__________
(1) فوائد الفوائد (ص263).
(2) فوائد الفوائد (ص263-264).
(3) فوائد الفوائد (ص385).
(4) فوائد الفوائد (ص385).
(5) فوائد الفوائد (ص442).
(1/63)
القَلْبُ فِي سيرِهِ إِلَى اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنزِلَةِ الطَائِرِ، فَالمَحَبَّةُ رَأسُهُ وَالخَوفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالجَنَاحَانِ فَالطَّائرُ جيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ كَاسِرٍ(1).
مَا حُفِظَتْ حُدُودُ اللّاهِ وَمَحَارِمُهُ، وَوَصَلَ الوَاصِلُونَ إِلَيْهِ، بِمِثْلِ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَمَتَى خَلَا القَلْبُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَسَدَ فَسَادًا لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ أَبَدًا، وَمَتَى ضَعُفَ فِيهِ شَيءٌ مِنْ هَذِهِ، ضَعُفَ إِيمَانُهُ بِحَسَبِهِ(2).
طَهَارَةُ القَلْبِ بِالتَّوبَةِ، وَطَهَارَةُ البَدَنِ بِالمَاءِ(3).
الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَخَافُ مَوْتَ قَلْبِهِ، لَا مَوْتَ بَدَنِهِ، إِذْ أَكْثَرُ الخَلْقِ يَخَافُونَ مَوْتَ أَبْدَانِهِم، وَلَا يُبَالُونَ بِمَوْتِ قُلُوبِهِم(4).
القَلْبُ الوَاسِعُ يَسِيرُ بِالخَلقِ إِلَى اللّاهِ مَا أَمْكَنَهُ، فَلَا يَهْربُ مِنْهُم وَلَا يَلْحَقُ بِالقِفَارِ(5) وَالجِبَالِ وَالخَلَوَاتِ، بَلْ لَوْ نَزَلَ بِهِ مَنْ نَزَلَ سَارَ بِهِ إِلَى اللّاهِ، فَإِنْ لَمْ يَسِر مَعَهُ سَارَ هُوَ وَتَرَكَهُ(6).
المَحَبَّةُ شَجَرَةٌ فِي القَلْبِ عُرُوقُهَا الذُّلُّ لِلمَحْبُوبِ، وَسَاقُهَا مَعْرِفَتُهُ، وَأَغْصَانُهَا خَشْيَتُهُ، وَوَرَقُهَا الحَيَاءُ مِنْهُ، وَثَمَرَتُهَا طَاعَتُهُ، وَمَادَّتُهَا الَّتِي تَسْقِيهَا ذِكْرُهُ، فَمَتَى خَلَا الحُبُّ عَنْ شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ نَاقِصًا(7).
__________
(1) مدارج السالكين (1/517).
(2) بدائع الفوائد (3/852-853).
(3) موارد الأمان (ص116).
(4) تهذيب المدارج (ص946).
(5) القفار: الصحاري.
(6) روضة المحبين (ص298).
(7) روضة المحبين (ص411).
(1/64)
إِذَا كَانَتِ القُلُوبُ مَجْبُولَةً عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، وَكُلُّ إحْسَانٍ وَصَلَ إِلَى العَبْدِ فَمِنَ اللّاهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ اللّاهُ تَعَالَى: ?وما بكم من نعمةٍ فمن الله? [النحل: 53]، فَلَا أَلْأَمَ مِمَّنْ شَغَلَ قَلْبَهُ بِحُبِّ غَيْرِهِ دُونَهُ(1).
مَتَى خَلَتِ الغَيرَةُ مِنَ القَلْبِ خَلَا مِنَ الدِّينِ، وَالغَيْرَةُ تُصَفِّي القَلْبَ وَتُخْرِجُ خَبَثَهُ كَمَا يُخْرِجُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ(2).
اللّاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَغَارُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَطَّلًا مِنْ حُبِّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ غَيْرُهُ. ويَغَارُ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَتَعَطَّلَ مِنْ ذِكْرِهِ وَيَشْتَغِلَ بِذِكرِ غَيْرِهِ. وَيَغَارُ عَلَى جَوَارِحِهِ أَنْ تَتَعَطَّلَ مِنْ طَاعَتِهِ وَتَشْتَغِلَ بِمَعْصِيَتِهِ. فَيقبُحُ بِالعَبْدِ أَنْ يَغَارَ مَوْلَاهُ الحَقُّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ وَهُوَ لَا يَغَارُ عَلَيْهَا(3).
21- شَتَّانَ بَيْنَ أَقْوَامٍ مَوْتَى تَحْيَى القُلُوبُ بِذِكْرِهِم، وَبَينَ أَقْوَامٍ أَحْيَاءٍ تَمُوتُ القُلُوبُ بِمُخَالَطَتِهِم(4).
دَوَاءُ قَلْبِكَ خَمْسٌ عِنْدَ قَسْوَتِهِ ... فَدُمْ عَلَيهَا تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالظَّفَرِ
خَلَاءُ بَطْنٍ وَقُرْآنٌ تَدَبَّرُهُ ... كَذَا تَضَرُّعُ بَاكٍ سَاعَةَ السَّحَرِ
كَذَا قِيَامُكَ جُنْحَ اللَّيلِ أَوْسَطَهُ ... وَأَن تُجَالِسَ أَهْلَ الخَيْرِ وَالخَبَرِ
* * *
الخَاتِمَةُ
__________
(1) روضة المحبين (ص419).
(2) روضة المحبين (ص302).
(3) روضة المحبين (ص310).
(4) الرسالة التبوكية (ص86).
(1/65)
الحَمْدُ اللّاهِ الَّذِي «أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالبَوَاطِنِ وَالظَّوَاهِرِ وَالضَّمَائِرِ، فَعَلِمَ مَا تَحتَوِي عَلَيهِ مِنْ سَيِّىءِ النِّيَّاتِ وَحُسْنِهَا وصفَاءِ السَّرَائِرِ؛ وَجَعَلَ إِرَادَاتِ القُلُوبِ تَدْعُو إِلَى ما يُشَاكِلُهَا مِنْ أَقْوَالِ اللِّسَانِ وَأَعْمَالِ الظَّوَاهِرِ»(1)، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيينَ. خَاطَبَنَا بِأَلْطَفِ الخِطَابِ وَأَحْلَاهُ، وَنَصَحَنَا بِأَحْسَنِ النَّصَائِحِ، وَوَصَّانَا بِأَكْمَلِ الوَصَايَا، وَأَمَرَنَا بِأَشْرَفِ الخِصَالِ، وَنَهَانَا عَنْ أَقْبَحِ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ.
«إِنَّ العِنَايَةَ بِإِصْلَاحِ القُلُوبِ مِنْ أَهَمِّ المُهِمَّاتِ، وَأَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ، وَأَجَلِّ القُرُبَاتِ»(2)، وَهِيَ تَمْرَضُ أَعْظَمَ مِمَّا تَمْرَضُ الأَبْدَانُ، فَاجْتَهِدُوا فِي دَوَائِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، فَإِنَّها مَوْضِعُ نَظَرِ المَنَّانِ؛ فَكَيْفَ تُهْمِلُونَ السَّعْيَ لأَدْوِيةِ أَمْرَاضِ قُلُوبِكُم، وَأَنْتُمُ لِطَبِيبِ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ تَبْذُلُونَ نَفَائِسَ أَمْوَالِكُم، وَعَافِيَةُ قُلُوبِكُم وَسَلَامَتُهَا تُثْمِرُ الفَوَائِدَ الدِّينِيَّةَ وَالأخرَويَّةَ. وَبِهَا يَحْصُلُ الفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ الأَبَدِيَّةُ؟(3) فَمَنْ أَصْلَحَ بَاطِنَهُ أَصْلَحَ اللّاهُ لَهُ الأَحْوَالَ، وَسَدَّدَهُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ(4) وَلَمْ يَدَعْ لِلْخَيرِ مَطْلَباً، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَباً. وَجَاءَتْهُ العَافِيَةُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (6/203).
(2) الذخيرة فِي إصلاح السريرة (ص13).
(3) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (6/269).
(4) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (6/116).
(1/66)
«فَنَسْأَلُ المَوْلَى الَّذِي ابْتَدَأَ بِالإِحْسَانِ وَخَتَمَ بِالإِحْسَانِ، وَعَلِمَ حَالَةَ الإِنْسَانِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النُّقْصَانِ: أَنْ يَتَوَلَّانَا بِلُطْفِهِ، وَيَمُنَّ عَلَيْنَا»(1) بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ طَاهِرَةٍ خَاشِعَةٍ، لَيِّنَةٍ رَقِيقَةٍ تَقِيَّةٍ نَقِيَّةٍ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للّاهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
فهرس الموضوعات
الموضوع…الصفحة
المقدمة…2
أُصُولٌ نَفِيسةٌ فِي إِصلاحِ القُلُوبِ…5
الأصْلُ الأَوَّلُ: الْقَلَبُ مَوْضِعُ نَظَرِ اللّاهِ تَعَالَى…5
الأَصْلُ الثَّانِي: صَلَاحُ الجَوَارِحِ بِصَلَاحِ القَلبِ…6
الأَصْلُ الثَالِثُ: القَلْبُ كَثِيرُ التَّقَلُّبِ…8
الأَصْلُ الرَّابِعُ: القَلْبُ عُرْضَةٌ لِلفِتَنِ…9
الأَصْلُ الخَامِسُ: الأَعْمَالُ تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ…11
الأَصْلُ السَّادِسُ: عُبُودِيَّةُ القَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ…13
الأَصْلُ السَّابِعُ: القَلْبُ هَدَفٌ للشَّيطَانِ…14
الأَصْلُ الثَامِنُ: أمراضُ القُلُوبِ خَفِيَّةٌ…14
الأَصْلُ التَّاسِعُ: إِهْمَالُ أَعْمَالِ القُلُوبِ يُؤَدِّي إِلَى الهَلَاكِ…15
عَلَامَاتُ القَلْبِ السَّلِيمِ…20
عِلَاجُ القُلُوبِ…28
أَوَّلًا: قِرَاءَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِالتَّدَبُّرِ…28
ثَانِيًا: ذِكْرُ اللّاهِ …29
ثَالِثًا: العِلْمُ النَّافِعُ …32
رَابِعًا: أَكْلُ الحَلالِ وَاتِّقَاءُ الشُّبُهَاتِ…33
خَامِساً: مُطَالَعَةُ القَلبِ للأسماءِ الحُسنى وَالصِّفَاتِ العُلَى…33
صُوَرٌ مُشْرِقَةٌ لِأَصْحَابِ القُلُوبِ السَّلِيمَةِ…35
نصائحُ على الطريقِ…39
1- عَظِّمْ شَعَائِرَ اللّاهِ…39
2- لا تُكْثِرِالضَّحِكَ…40
3- لِيَكُنْ دُعَاؤُكَ بِحُضُورِ قَلْبٍ…40
4- أَطْعِمِ المِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأَسَ اليَتِيمِ…40
__________
(1) المجموعة الكاملة لمؤلفات العلامة السعدي (3/405).
(1/67)
5- إِذَا أَذْنَبتَ ذَنباً فَأَحْدِثْ تَوبَةً…41
6- أَكْثِرْ مِنَ الاسْتِغْفَارِ…41
7- عَلَيكَ بِزِيَارَةِ القُبُورِ…41
8- أَكْثِرْ مِنَ الأَعْمَالِ الخَفِيَّةِ…42
أ- البُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللّاهِ…42
ب- الدُّعَاءُ بِظَهْرِ الغَيبِ…44
ج- الإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ في البَيتِ…44…
نَصِيحَةٌ لِمُشَاهِدِي الأَفْلَامِ المَاجِنَةِ…45
عِبَرٌ وَعِظَاتٌ…54
الخَاتِمَةُ…58
فَهرَس الموضُوعَات…59
* * *
مِنْ كُنُوزِ السُّنَّةِ
عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الخَوْلَانِيِّ رضي اللّاه عنه: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللّاهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنّ للّاهِ آنيةً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَأحبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا».
شَبَّهَ القَلْبَ بِالإِنَاءِ، لأَنَّهُ إِنَاءٌ لِلخَيْرِ وَالشَّرِّ. فَقُلُوبُ الأَبْرَارِ تَغْلِي بِالبِرِّ، وَقُلُوبُ الفُجَّارِ تَغْلِي بِالفُجُورِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ فِي المَثَلِ: وَكُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَنضَحُ.
هَذَا القَلْبُ أَحَبُّ القُلُوبِ إِلَى اللّاهِ وَأَكْثَرُهَا خَيْرًا، فَبِلِينِهِ يَقْبَلُ الحَقَّ، وَبِرِقَّتِهِ يَرْحَمُ الخَلْقَ.
مَا أعظمَ سعادتَكَ إِن كانَ قَلبُكَ ليِّناً رقيقاً.
(1/68)