إصلاح الشعوب أولا
عيد بطاح الدويهيس
مقدمة
…إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فقد حاولت أيها القارئ الكريم والقارئة الكريمة في هذا الكتاب الاستشهاد ببعض الأدلة الشرعية والتاريخية والمنطقية التي تثبت أن إصلاح الواقع يتطلب إصلاح الشعوب أولا وأن اي تغييرات تحدث في الحكومات لن تاتي بثمار طيبة كثيرة إذا كان الواقع الشعبي كما هو لم يتغير، وأن ما نشاهده بواقعنا من خير وشر هو في أغلبه ما زرعناه كشعوب وهو ما نستحقه.
…ولقد ذكرت كثيرا من الأمثلة التي تثبت أن الانحراف عن المبادئ موجود فينا كأفراد وأسر وأحزاب وجماعات وقبائل وشعوب ونمارسه في عقائدنا وحياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالتعصب العرقي بكافة أنواعه موجود، والمصالح الشخصية تؤثر فينا بدرجة كبيرة، وكثيراً ما تكون مناهجنا في تربية أبنائنا بعيدة عن المباديء الإسلامية، ولا يهتم كثير منا ببناء التعاون العربي... إلخ، وإذا لم ننجح بإصلاح أنفسنا وإيجاد أفراد صالحين وأسر سعيدة وعمال نشطين وتجار أمناء ومدرسين مخلصين وطلبة جادين وأحزاب وجماعات عادلة وجمعيات فعالة فإننا لن ننجح في إيجاد حكومات عادلة ومخلصة.
…ولندرك أن من أصعب الأمور علينا كأفراد وجماعات وأحزاب وشعوب أن نعترف بأننا بحاجة إلى إصلاح، فنادراً جدا ما نقابل من يعترف بأنه أخطأ في حياته الشخصية أو السياسية أو الفكرية لأن هناك أعذار وأوهام كثيرة
نقدمها ونصدقها تبرر مواقفنا وعقائدنا وسلوكنا وحتى كسلنا
وصراعاتنا، كالزعم بأن الآخرين هم سبب الفشل والظلم والتعصب
والأنانية والتخلف سواء كان الآخرون حكومة أو فرداً أو حزباً أو شعباً.(1/1)
ونحن اليوم بحاجة ماسة لتسليط الأضواء على السلبيات الشعبية ومطالبة أصحابها ونحن منهم بإصلاح أنفسهم، قال تعالى: ?إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم? فهذا هو المدخل الرئيسي لإصلاح الواقع، لأن الانحرافات الموجودة في واقعنا أغلبها شعبية المصدر كسبب أو نتيجة، أي هي انحرافات شعبية أو عقوبة على انحرافات شعبية، قال تعالى: ?وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون? (129 سورة الأنعام) وهذا لا ينفي أن يكون للحكومات دور في سلبيات الواقع، ولكن هذا الدور يبقى ضعيفا وثانويا، ومن الخطأ أن نعطيه وضعا اكبر من حجمه فالحكومات يأتي منها خير وشر بحسب إيمانها وعلمها وإخلاصها، وهي مسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن أعمالها، ولكن قدرتها على تغيير الواقع واصلاحه تبقى محدودة لأن أغلب أوراق الإصلاح بيد الشعوب.
…وقد يرى البعض في هذا الكتاب نوعا من جلد الذات أو معاقبة النفس أو نتيجة اليأس، أو انعكاساً لمرارة الواقع، وأقول إن الأمر ليس كذلك بل هو إن شاء الله بحث علمي أمين جاء نتيجة سنوات طويلة فيها معايشة واطلاع وتأمل وتفكير ونقاش في واقع شعوبنا وأمتنا. فحتى لا تضيع كثير من جهود الاصلاح بلا فائدة، وحتى لا تحمل حكومات مخلصة أكثر مما تستطيع، وحتى لا تتصارع القوى المخلصة في الشعوب والحكومات، فمن الضروري أن نقتنع بأن الإسلام والعقل يدعواننا إلى تبني شعار "إصلاح الشعوب أولاً"".
…وفي الختام أجد من واجبي أن أشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا الكتاب، واسال الله سبحانه وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وأسال كل من انتفع بشيء منه أن يدعو لي، ولوالدي، والمسملين أجمعين.
عيد بطاح الدويهيس
الكويت 19 شعبان 1417
29 ديسمبر 1996
حتى يُغيروا ما بأنفسهم(1/2)
…نقرأ ونسمع آراء وأفكاراً حول تغيير الواقع، ومناهج الإصلاح، فهناك من قال إن تبني النموذج الغربي وتقليد الغرب هو الطريق إلى الإصلاح، وقال آخرون: إن الاصلاح لن يحدث إذا لم نؤمن بالأفكار الاشتراكية والتغييرات الثورية، وقال غيرهم: إن الاصلاح يبدأ بتغيير الحكومات ولا فائدة من إصلاح الأفراد، وقالوا إن الاخلاق ليس لها دور في البناء فالمهم هو الوعي السياسي وقالوا: إن العقائد لا دور لها في عالم الواقع، وأنها قضايا إيمانية نظرية وقالوا... وقالوا ... وبعد دراسة وبحث عرفنا أن العقائد بمفهمومها الشامل هي أساس كل بناء، وأن الاخلاق هي أحد أعمدة الإصلاح الرئيسية. وبدونها تزدهر اسواق النفاق والكذب والغدر والحسد والبخل والسرقات. قال أحمد شوقي رحمه الله:
…وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
………………فإنما همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولم ينتبه إلا قلة إلى أن معرفة الإصلاح وعلومه وحقائقه تتطلب الرجوع للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حتى نعرف من أين يبدأ الإصلاح؟ وكيف يحدث التغيير؟... الخ. وذلك لأن معلوماتنا عن الأحداث السياسية القديمة والحديثة، وعن واقع الشعوب وما يجري في جوانبها المختلفة فيه كثير من التشويه، ونقص المعلومات، والجهل والآراء المتناقضة فالدعاية الإعلامية لبلد ما قد تجعلنا نعتقد أنه عندما تغيرت الحكومة انقلب الواقع رأسا على عقب ولكننا نكتشف بعد سنين أن هذا ليس صحيحاً، فتعالوا في بحث صغيرفي القرآن
والسنة النبوية لنتعلم أسس حدوث التغيير في المجتمعات من الفقر للغنى، ومن الذل للعز، ومن الكفر للإيمان، ومن التفرق للوحدة، ومن التعصب للإنتماء،
ومن الكسل للعمل، ومن الأنانية للتضحية، ومن المعاصي للطاعات،(1/3)
وهذا التغيير حدث قديما وحديثا في أفراد وقبائل وشعوب وأمم فعندما اعتنق العرب الإسلام امتلأت نفوسهم بالإيمان وعقولهم بالعلم والحكمة، فاستطاعوا أن يبنوا بلادهم، وأن يحصدوا الثمار الطيبة في الدنيا والآخرة، وهذا هو الأساس لتحقيق العدل السياسي والسعادة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي، فالتغيير ليس عموده الفقري هو تغيير الحكومات بل بتغيير ما بالنفوس وما بالعقول من عقائد وعلم ونوايا وأعمال، وقد ابتعد العرب عن الإسلام كثيراً في عصرنا هذا فتغير واقعنا إلى الأسوا نتيجة وجود انحرافات في النوايا والأعمال والعلم، وإليكم الأدلة الشرعية حول حقائق التغيير:
…1- قال تعالى: ?إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال (11)? (سورة الرعد)، وقال تعالى: ?كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ان الله قوي شديد العقاب (52) ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم? سورة الأنفال.
…فإذا غير القوم ما بأنفسهم إلى الأحسن فإن الله سيغير واقعهم للأحسن والعكس صحيح، وهذا هو قانون التغيير الأساسي في القرآن الكريم، وفي هذا اثبات واضح بأن التغيير الحقيقي هو الذي يحدث داخل النفوس، وبما أننا نعلم أن الحكومات لا تستطيع تغيير ما بالنفوس، وبما أننا نعلم أن الحكومات لا تسطيع تغيير ما بالنفوس لأن سلطاتها محدودة، وآمالها محدودة، ومعلوماتها محدودة، وقدراتها في الترغيب والترهيب محدودة وبالتالي فإن تاثيرها سيكون محدوداً في تغير الواقع وبناء على ذلك فقرار الاصلاح في أغلبه هو قرار شعبي، و80% كنسبة افتراضية من أوراق تغيير الواقع إيجابيا أو سلبيا هي بيد الشعوب، فإذا امتلأت النفوس إيمانا وعلماً وأخلاقاً وصدقا انعكس هذا في الواقع
وإذا امتلأت كفراً ومعاصي ونفاقا وجهلا ظهر هذا في الواقع في أقوال(1/4)
وأعمال وهزائم وليس صحيحاً ما يزعمه البعض أن في قلبه إيمانا في حين أننا
نشاهد منه انحرافات كثيرة تتمثل في زنا أو ربا أو غير ذلك فالظاهر هو عنوان الباطن وصحيح ان البشر لهم ذنوبهم وانحرافاتهم، ولكن المسلمين الصادقين انحرافاتهم قليلة واستثنائية، أما أغلبية أعمالهم واقوالهم فهي خيرة وطيبة، ولكن كثيرون هم للأسف من يظنون أنهم مسلمون وهم ليسوا كذلك، قال تعالى: ?إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأولئك هم الصادقون (15)? سورة الحجرات فمن عمل هذه الأعمال فهو الصادق ولا عذر لمن علم ولم يعمل وقال ابن القيم "ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف".
…وامتلاء النفوس بالإيمان والعلم سيجعلها تتقن أعمالها الأخروية والدنيوية، وستأخذ بالأسباب المادية في الزراعة والصناعة والتجارة والسياسة، وفساد النفوس والضمائر سيؤدي إلى تحويل كثير من العناصر المادية المتوفرة من مال وقوة وبشر... الخ.. إلى مصائب وإنحرافات وخسائر، فتنتشر الرشاوي والاختلاسات والصراعات والتعصب العرقي ... الخ وقد ظننا أن الأماني ستتحقق بالاستقلال السياسي وحققناه في دول كثيرة، ولكن لم يحدث التغيير نحو الأحسن لأن كثيراً من النفوس كانت فاسدة، فعاثت في الأرض فساداً فزاد واقعنا سوءاً مع وجود نعمة الاستقلال. ولا شك أن للحكومات دورا جزئيا في تغيير الواقع،
فإذا صلحت كان لها تاثيرا طيباً، وإذا فسدت كان لها تأثير سيء، وكذلك للاستعمار والأعداء الداخليين والخارجيين تأثير سيء، ولكن التأثير الأكبر هو للشعوب، وما بنفوسها من خير وشر، فعندما ينتصر عدو خارجي فلا
تظن أن قوته مهما بلغت هي التي حققت لوحدها الانتصار، ولكن انظر ايضا إلى رصيد الأمة من إيمان وإخلاص وعلم وعمل، فستجد أن في نفوسها انحرافات
كثيرة هي التي كانت السبب الرئيس في هزيمة الأمة.(1/5)
…2- قال تعالى: ?فأستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين? (54) سورة الزخرف.
…أطاع قوم فرعون الظالم، ولو عصوه لما استطاع أن يفعل شيئا، ولما أطاعوه أغرقهم الله سبحانه وتعالى. فالفسق والمعاصي والشرك جعلت قوم فرعون يحصدون المصائب.. وحاور فرعون قومه فأقنعهم بوجهة نظره، فأقتنعوا لأن نفوسهم ملوثة بالذنوب، فالحاكم الظالم بدون تأييد من بعض القوى الشعبية وتخاذل من البعض الآخر لا يستطيع الإفساد في الأرض وضعف الإيمان أو غيابه هو المشكلة الرئيسية، ولا يوجد ابداً شعب يطيع أغلبيته الله ورسوله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ويلتزمون بالأخلاق الفاضلة ويدعون لدين الله فيستطيع أحد أن يضطهدهم، وقد قال قائلهم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو وجدنا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، أما الشعوب التي تلهث وراء الدينار والدرهم، وتحب تقليد الغرب وتتخلى عن دين الله، فإنها لا شك شعوب هالكة في الدنيا والآخرة، ويحق لنا أن نعجب من البعض عندما يقول إن الشعوب مغلوبة على أمرها، فلهذا تقبل بالظلم والمهازل العقائدية والسياسية، وتكون وقوداً للحروب. وقد يكون منطقياً أن تضطهد أغلبية أقلية، ولكن ليس من المعقول أن يحدث العكس أي أن تجد الملايين لا تستطيع عمل شيء امام من هم أقل منهم قوة إلا إذا كانت هذه الملايين متفرقة وانانية وكسولة... الخ. وعشرة في المئة من أي شعب إذا تمردت أضرت كثيراً، وسببت إزعاجاً كبيراً للأغلبية والحكومة، فكيف لو تمردت الأغلبية، ولنتذكر دائما أن ما نراه في واقعنا كشعوب هو ما نستحقه، وما زرعناه من خير وشر، فإن كان لا يعجبنا هذا فلنحسن من علمنا ونوايانا وأعمالنا، فسيتغير الواقع، فالمسألة ليست أماني وانقلابات أو ثورات أو اغتيالات لأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء سببا فالأسباب الإيمانية لها نتائج طيبة، وكذلك للأسباب المادية ولنعترف أن بعض شعوبنا وحتى حكوماتنا(1/6)
وأحزابنا وجماعاتنا إما تجهل انحرافاتها فتظن أنها تستحق أفضل مما هي
عليه أو تريد أن ياتيها الخير من حرية وعدل وغنى وعلم وعزة دون
أن تبذل جهداً أو اسبابا أو كلا السببين معا!! وقوة الدور الشعبي واضحة في
الحديث التالي: عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن معاذا قال. بعثني رسول الله فقال "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فأدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فاياك وكرائم اموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"(1) وفي هذا الحديث دليل على أن الحاكم الجديد - معاذ رضي الله عنه - لا يستطيع تطبيق الإصلاح بدون تأييد شعبي فالإصلاح إذن قرار شعبي.(1/7)
…3- من البديهيات القرآنية أن الإيمان والعمل الصالح هما الطريق إلى العزة والقوة والغنى والوحدة قال تعالى: ?إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد? (51) سورة غافر وأن الكفر والمعاصي هما الطريق للخسران والذل والفقر والتفرق في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ?فكُلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانو أنفسهم يظلمون? (40) سورة العنكبوت، والإيمان والكفر والأعمال الصالحة والمعاصي لها ارتباط وثيق بكل البشر أي بالشعوب في حين أن دور الحكومات في المحصلة النهائية للخير والشر هو أقل بكثير من دور الشعوب، وغالباً ما يأتي الخطاب القرآني، موجها للشعوب مثل يا أيها الناس ويا قوم، ويا بني أدم وقوم نوح، وعاد وثمود،... الخ. فإذا رأينا في واقعنا التفرق والاختلاف والذل والفقر فلنتذكر أن هذه نتائج لما في النفوس من انحرافات، وفي الحديث التالي ارتباط بين المعاصي ونتائجها، وفيه كذلك أدلة على أن أغلبية الانحرافات المذكورة شعبية المصدر تحدث من بشر عاديين فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه قال:
ـــــــــــــ
(1) ص 136 كتاب الزكاة مختصر صحيح مسلم - محمد ناصر الدين الألباني.(1/8)
"كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله (، فاقبل علينا رسول الله ( بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها الا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم" رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وفي الحديث دليل واضح أن جور أي ظلم الحكومات إنما هو نتيجة لذنب شعبي وهو المكيال قال سبحانه وتعالي: ?وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون? (129) سورة الأنعام ولا شك أن شعوبنا قادرة على تنفيذ كثير من قضايا الإيمان والأعمال الصالحة، ولكنها لم تفعل، ولم تلتزم بمبادئها، فالأغنياء بإمكانهم إخراج زكاة أموالهم، والمتعاملين بالربا قادرون على الأمتناع، والأمهات قادرات على تربية أبنائهن تربية اسلامية صحيحة ... الخ ونستطيع أن نقول إن مسئولية تطبيق الشريعة الإسلامية تقع في أغلبها على الشعوب، ولا شك أن الإلتزام بالصلاة هو أحد أهم الأساسيات الإسلامية، كما أنها أحد المقاييس الرئيسية لقياس درجة إيمان وأعمال الشعوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه "رأيتنا وما يتأخر عن صلاة الفجر إلا منافق عليم النفاق" وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتابه رسالة الصلاة "وجاء الحديث عن النبي ( أنه قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون منه الصلاة، وليصلين أقوام لا خلاق لهم"(1) وجاء في الحديث
"إن أول ما يسال عنه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن تقبلت منه صلاته تقبل عمله وإن ردت عليه صلاته رد سائر عمله"(1/9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا خلاق لهم: لا نصيب لهم من الدين ولا من الخير والصلاح.
فصلاتنا آخر ديننا وهي أول ما نسأل عنه غدا من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام فكل شئ يذهب آخره فقد ذهب جميعه".
…4- يحكم كثيرا من الدول حكومات منحرفة، فتتذمر الشعوب، وتحدث تغييرات أو انقلابات في أنظمة الحكم، ولكن البديل يبقى سيئأ، فلا تتغير الأوضاع إلا في اتجاهات خاطئة من نوع جديد. فالانحراف الجديد لا يختلف عن الانحراف القديم إلا في الاتجاه والأفراد. وتبقى الشعوب تعاني، ويبقى الفشل والظلم ظاهرين للجميع. والنظرية الخاظئة التي تبني عليها كثير من حركات التغيير السلمية والعنيفة أعمالها هي أن الشعوب بريئة، والحكومات مجرمة، ونعتقد أن هذه النظرية غير صحيحة فالحكومات هي الصورة الحقيقية للشعوب، أي هي ليست نبتا شيطانيا، بل هي مجسم مثالي لعقائد وأخلاق وايجابيات وسلبيات الشعوب، قال الأمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة": وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم، ولم يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه، كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء، وهذه سنة الله تعالى منذ أن قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها، وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولائهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن استقاموا استقام ملوكهم. وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جار ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر منهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وأن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذ منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة. فعمالهم ظهرت في صور(1/10)
أعمالهم، وليس في الحكمة
الألهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم، ولما كان الصدر
الأول خيار القرون وأبرها، كان ولاتهم كذلك، فلما شابوا شاب لهم الولاة، فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية، وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الألهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه، كما في الخلق والأمر سواء، فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئا من أقضيته وأقداره عار من الحكمة البالغة، بل جميع أقضيته تعالى واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها" ويبقى بعد هذه الكلمات الذهبية أن نقول إن إصلاح الحكومات مهم وضروري، ولكنه لن يحدث تغييرات كبيرة إلا إذا استند إلى قاعدة شعبية صالحة، فلنرفع جميعاً شعار "إصلاح الشعوب أولا".
…ومن يحتاج أدلة اكثر نقول له: تأمل في أحوال الشعوب، فالشعب العنيف تجد حكومته عنيفة، والشعب العنصري تجد حكومته عنصرية، والشعب المنافق تجد حكومته منافقة، وهكذا، فلتختر شعوبنا ما تريد من عقائد وأخلاق وقوانين ولتتأكد بأن ما تشاهده في حكوماتها هو فعلا ما اختارته وما تستحقه، ولا شك أن من يسمع إلى أقوال الشعوب. ولا ينظر إلى أعمالها ونواياها، أو ينظر نظرة جزئية وليست شاملة قد لا يرى أن الحكومات هي الصورة والشعوب هي الأصل فالقول الشائع بأن "الناس على دين ملوكهم" ليس حقيقة علمية بل الحقيقة هي أن "الحكومات على دين شعوبها"، فلنبدا البداية الصحيحة، أي بإصلاح أفراد الشعب وأحزابه وجماعاته وجمعياته وقبائله وأسره حتى يأتي البناء شامخاً قوياً.(1/11)
…ويحدث هذا الإصلاح إذا زدنا رصيدنا كأفراد وأحزاب ... الخ من العلم بكافة أنواعه ومن العمل كزيادة الإنتاجية والصلاة والأعمال الخيرية... الخ ونصلح نوايانا حتى يكون هدفنا هو رضى الله سبحانه وتعالى.
5- هذا يعض ما قاله أهل العلم:
أ- أخرج أبو الشيخ عن منصور بن أبي الأسود قال سألت الأعمش عن قوله "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا" ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال سمعتهم يقولون إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم، وأخرج أبن ابي حاتم وأبو الشيخ عن مالك بن دينار قال قرأت في الزبور أني أنتقم من المنافق بالمنافق ثم أنتقم من المنافقين جميعا وذلك في كتاب الله قول الله وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون، وأخرج البيهقي عن الحسن أن بني إسرائيل سألوا موسى فقالوا سل لنا ربك يبين لنا علم رضاه عنا وعلم سخطه فسأله فقال يا موسى أنبئهم أن رضاي عنهم أن استعمل عليهم خيارهم وأن سخطي عليهم أن استعمل عليهم شرارهم.
ص 46ج3 الدر المنثور في التفسير
بالمأثور للإمام جلال الدين…
السيوطي رحمه الله
ب- قال ابن تيمية: "إن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة، والقضاة والأمراء، ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعا فإنه "كما تكونون: يول عليكم" وقد قال الله تعالى: ?وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا?.
………………ص20ج35 مجموع فتاوى شيخ
…………………الإسلام أحمد بن تيمية
ج- قال حيلان بن فروة "يبعث على الناس ملوك بذنوبهم".
………………… ص59ج6 حلية الأولياء
……………………أبو نعيم الأصفهاني
د- قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: وغير خاف أن الأمة
التي تسمى اليوم بالمسلمين قد جمعت بين أحضانها كل رطب ويابس من(1/12)
الأفراد والرجال فقد يوجد فيهم كل ما يوجد في الأمم الكافرة من أنواع الطبائع والأخلاق وهم يسابقون الكفار ويزاحموانهم بالمناكب في شهادة الزور في المحاكم، ويبارونهم في اخذ الرشي، وارتياد دور البغاء، وارتكاب السرقة والتجرؤ على غيرها من الأخلاق الذميمة"
……………… ص22 منهج الانقلاب الإسلامي-
……………………ابو الأعلى المودودي
هـ- قال الأستاذ جودت سعيد "وكذلك من المفارقات أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع دون أن يخطر في بالنا ان ذلك لن يتم إلا إذا حدث التغيير قبل ذلك بما في الأنفس، ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا، ولا نشعر أن كثيراً مما فيها هو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريد أن يزول. ونحن نشعر بثقل وطاته علينا، ولكن لا نشعر بمقدار ما يساهم ما في أنفسنا لدوامة واستمراره"!!!
……………… ص 15 "حتى يغيروا ما بأنفسهم"
……………………جودت سعيد
و- قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "إنه مما تفرد به الإسلام ان يبدأ الإصلاح بالدوائر القريبة، ثم يتدرج حتى يصل للدوائر البعيدة"
وقال "إن أمامنا اكثر من معركة ... والمعركة الأولى بكل وضوح هي: معركتنا مع النفس، فالمؤسف أن المسلمين ساكنون، جامدون، حالمون، واهمون، منقسمون على أنفسهم ... ومنكر ذلك عليه البينة ولن يستطيع تقديمها"
………………………جريدة الشرق الوسط
…………………………8/7/1994
ي- "كان الشيخ محمد عبده يقول لتلاميذه والأدباء أمثال الشيخ رشيد
رضا والشاعر الوطني حافظ إبراهيم "إن السياسة ضيعت علينا
أضعاف ما أفادتنا وان السيد جمال الدين كان صاحب اقتدار عجيب لو صرفه ووجهه للتعليم والتربية لأفاد الإسلام أكبر فائدة".
…………………ص 141 كتاب محمد عبده
………………… تأليف عباس محمود العقاد
س- قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد "إن الإصلاح لا يكون أبداً بالوثوب إلى السلطة".
…………………ص11 جريدة القبس الكويتية
……………………30/1/1996(1/13)
ص- قال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه "أيها الناس اصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم".
……………… ص 108 كتاب عمر بن عبدالعزيز
……………………للأستاذ خالد البيطار
التاريخ وإصلاح الشعوب
…قرأنا تاريخنا كأنه تاريخ لأنظمة الحكم، وليس كتاريخ متكامل لكل جوانب الحياة السياسية والعقائدية والاجتماعية والاقتصادية وعادة ما تربط كتب التاريخ بين الازدهار والتخلف وبين نظم الحكم، وصورت لنا أن الغنى مرتبط برضى الحاكم وصلاحه، والفقر مرتبط بسخط الحاكم وفجوره، وكل هذا بحاجة إلى إعادة دراسة، فالأدلة التاريخية القديمة والحديثة تثبت أن الشعوب الواعية تنتج قيادات واعية، وبهما معا يتحقق الازدهار، أما الشعوب الكسولة والعاصية فإنها تنتج الظلم والفقر والهزائم والقيادات الفاشلة، وإليكم الأدلة:(1/14)
1- عندما وجد الشعب المؤمن في المدينة المنورة أمكن تحقيق المعجزات البشرية، فالانتصارات لا تطغيهم، والهزائم لا تحطمهم، وكانوا أهل رحمة وعدل وجهاد وعلم وأخلاق، وهذه الصفات جعلتهم يبنون دول راقية. فحدث التقدم في عهد النبوة والخلافة الراشدة لوجود شعب صالح، وحكومة صالحة، ويجد من قرأ في تاريخ الصحابة النماذج الشعبية الرائعة، فهذا قدوة في علمه، وذلك قدوة في عبادته، والثالث في كرمه، والرابع في شجاعته، وهكذا وقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ?كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتهون عن المنكر? وقيل عنهم: "فرسان في النهار، ورهبان في الليل"، وهذا الإلتزام الشعبي بالمبادئ من الطبيعي أن يؤدي إلى بناء دولة عظيمة في عقائدها ونظمها وأخلاقها وقوتها العسكرية، فإذا مات عالم كان هناك غيره كثيرون، وإذا قتل جندي كان غيره آلاف يضحون. وحدث ضعف في عهد الخلافة الأموية وفي أيام الخلافة العباسية في عقائد واخلاق الشعوب، ولكن بقيت صفات كثيرة جيدة فبنوا دولا قوية وحضارة وثقافة وعدلا وانتشر الإسلام في دول كثيرة، ووجدنا كذلك صفحات سوداء فيها نزاعات وجهل وظلم ولكن المحصلة النهائية في هذه الفترة كانت جيدة وهي أفضل بكثير من واقعنا الحالي.(1/15)
2- يروي أن رجلاً سأل الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه: لماذا كان الناس في عهد أبي بكر وعمر في أمن واستقرار وفي عهدك اختلفوا وتفرقوا فقال الإمام على ما معناه "لأن رجالهم كانوا مثلي اما الآن فإن رجالي مثلك" فالإمام علي بين ان ضعف الدولة في عهده يرجع إلى عصيان الشعب وتمرده وقلة إيمانه وعلمه ولم يكن بسبب ضعف الحكومة أو جهلها، فالإمام على كان فوق الشبهات في علمه وعمله وقرارته السياسية كانت صائبة وحكيمة، ولكن جودة الحكم في عصره لم تؤده إلى النجاح والاستقرار بسبب الإنحرافات الشعبية الكبيرة، وخطب الإمام علي في هذه الفترة مشهورة، تبين خيبة أمله في كثير من مؤديه وأنصاره، أي في القواعد الشعبية. وقال عبدالملك بن مروان على المنبر "ألا تنصفوننا يا معشر الرعية؟ تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيروا في أنفسكم ولا فينا بسيرة رعية أبي بكر وعمر أسأل الله ان يعين كلا على كل". وقد ثبت قديما وحديثاً أن المسلمين يختلفون من فترة إلى أخرى في درجة علمهم وإيمانهم، فقد يبتعدون عن الاسلام كثيراً، فيدخل بعضهم أو كثير منهم في الكفر والشرك والنفاق مع احتفاظهم بأسماء إسلامية وبعض العبادات والعقائد الإسلامية ولهذا نجد أحيانا صفحات سوداء من فتن وظلم وحقد وحسد وطمع دنيوي وقسوة .. الخ. والاسلام برئ من ذلك وكذلك المسلمون الملتزمون وصحيح أن الانحرافات والصراعات قد تحدث بين بعض المسلمين ولكن هذا هو الاستثناء لا القاعدة.(1/16)
3- قال عثمان بن عفان رضي الله عنه "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" هذا القول ليس معناه أن أغلب اوراق الإصلاح بيد السلطان وأن من يحكم سينجح في فرض التغيير على الشعوب. فغاية ما نفهمه من هذه العبارة هو أن للسلطان قوة تردع بعض المنحرفين ممن لا يتأثرون بآيات القرآن لو سمعوها ونحن نؤمن بأن بعض أوراق الإصلاح هي بيد السلطان وأن في صلاح الحاكم والوزراء خير كثير ولكن نؤمن أن الخير الذي بيد الشعوب إذا أصلحت اكثر بكثير واحد الأدلة التي تثبت هذا هو إذا كان للسلطان قوة مالية فإن ما يملكه الشعب اكثر بكثير وإذا ثار الشعب فإن الأنظمة تسقط وهذا دليل اخر على قوة الشعب ومن لديه نصيب اكبر من المال والقوة هو القادر على إحداث التغيير الأكبر.(1/17)
4- قالوا لنا: "الناس على دين ملوكهم" وقالوا إن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه غير الأمة الإسلامية في عهده ونقول ليس صحيح أن الناس سهل انقيادهم أو يريدون أن يكونوا نسخة من حكامهم، أو يتغيروا كلما تغير الحكام أو الحكومات، وهذا واقع مشاهد في عصرنا هذا، وقدوتنا نحن المسلمين هو الرسول ( والحاكم عندنا هو قائد له مكانته، وليس من أخلاق المسلمين تقليد حكامهم أو الغرب أو الشرق في سلوكهم أو أعمالهم أو عقائدهم. وقد كان عمر بن عبدالعزيز حاكما صالحاً، وزاد الخير والعدل في عهده، ولكن من الخطأ أن نعتقد أن الدولة الأموية انقلبت رأسا على عقب، أو أن تغييرات جذرية حدثت في شعوب الأمة الإسلامية فإذا وجدت حكومة مثالية فإنها في اعتقادنا لن تستطيع تغيير أكثر من 20% من الواقع نحو الخير، وأما إذا وجدت حكومة منحرفة عقائديا او اخلاقيا فإنها لن تستطيع تدمير وافساد أكثر من 20% من الواقع، أما إذا كان فيها خير وشر فإن تأثيرها سيكون مزدوجا أي أمور تبني فيها، وأمور تهدم فيها على قدر نسبة الخير والشر فيها، ولا شك أن وجود حاكم صالح أفضل من حاكم منحرف، ولكن وجوده سيؤدي إلى تحقيق بعض الانجازات الطيبة، ولن يؤدي إلى إنقاذ أمة فيها عشرات الملايين، وينقلهم من التخلف للتقدم، ومن الجهل للعلم ومن الاختلاف للوحدة... الخ .. قال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه لابنه عبدالملك عندما طالبه بمزيد من الإصلاحات "والله ما استطيع أن أخرج لهم شيئا من الدين الا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم خوفا من أن ينخرق على منهم ما لا طاق لي به" وقال "أليس حسنا وجميلا الا تطلع الشمس على في يوم الا أحييت فيه حقا وأمت باطلا حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك؟؟"(1) وفي هذين القولين دليل واضح أنه اذا رفضت الشعوب الإصلاح فلن يكون هناك إصلاح..
…5- جاءت وذهبت ثورة 23 يوليو دون أن تحدث تغييرات جذرية في
ـــــــــــــــــــ(1/18)
(1) ص 71، ص 81 كتاب عمر بن عبدالعزيز للأستاذ خالد البيطار.
الشعب المصري فلم يؤمن الشعب بكل شعاراتها وأفكارها، بل آمن بما يريد أن يؤمن به، ورفض ما لا يريد، ففشلت الدعاية الكبيرة للاشتراكية، ولم تستطيع الثورة تحقيق تقدم اقتصادي، ولم تستطع ضمان حتى النجاح في انتخابات حره نزيهة، وهذا وغيره يثبت أنه ليست للحكومات قدرات كبيرة لتفعل ما تريده ووجدنا قوى شعبية كالوفد والاخوان المسلمين يسخرون من شعارات الثورة وقرارتها. وحاولت الحكومة استخدام وسائل كثيرة لإحداث تغييرات جذرية ولكنها لم تنجح مع أنها أممت الصحافة، وألغت الأحزاب، وفتحت المعتقلات، فالتغيير داخل النفس لا يحدث لا بالترغيب ولا بالترهيب فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان حراً، ويبقى إذا شاء حراً حتى لو كانت قشرته الخارجية تتأقلم مع الظروف. وأي حكومة لا تدعمها قوى شعبية ستبقى ضعيفة، ولن تستطيع في الغالب تحقيق إنجازات كبيرة، ولهذا وجدنا ثورة 23 يوليو أضعف بكثير من أن تصمد أمام الأعداء، وإذا كان الشعب يذكر لها ايجابياتها في العدالة الاجتماعية، ومحاربة الاستعمار، ومجانية التعليم وبناء السد العالي فإنه لا ينسى سلبياتها في تدمير الديمقراطية، وحيادية القضاء، وموقفها من الإسلام وعلمائه والمتدينين. والشعوب ترى وتسمع، ولها تاريخ وآمال وعقائد أي ليست عجينة سهلة التشكيل، وكما لم يحدث الوصول إلى الحكم تغيير شعبي في المجتمع المصري، فكذلك لم تنجح الشيوعية في روسيا والصين مع أنهم حاولوا زراعتها بكل الوسائل ولفترات طويلة من الزمن، ولكنهم باؤا بالفشل الذريع ليس فقط لأنها نظرية فاشلة جدا بل لأن التغيير الشعبي لا يحدث بقرارات حكومية وحتى لو وجدت حكومة إسلامية فإنها لن تستطيع تغيير الشعب لا بالترغيب ولا بالترهيب ولا بالإقناع.
…6- تعطي الحياة النيابية في الكويت مثالا واضحا على أن قرار
الإصلاح شعبي، فقد انتخب الناخبون لسنوات طويلة وخاصة فيما يسمى(1/19)
بالمناطق الخارجية نوابا لم يكونوا بالمستوى المطلوب من حيث كفاءتهم
وعلمهم، وهؤلاء لم يأتوا من فراغ، بل جاؤوا كنتيجة طبيعية للمستوى
الثقافي والعلمي السائد في المناطق الخارجية، وعندما زاد الوعي السياسي وحرص شباب القبائل على اختيار الأفضل، والابتعاد عن التعصب القبلي، بدأت عملية التغيير تحدث في الواقع، وبدأنا نجد نواباً أكفاء من المناطق الخارجية. فالقرار الشعبي لا يختار دائما الرجل المناسب في المكان المناسب او أي قرار فيه مصلحة الوطن، بل هو قرار يتأثرها بما في الشعب من اخلاص ووعي، فالسلطة التشريعية هي فرع من الشعب، وكذلك الأمر بالنسبة للسلطة التنفيذية هي فرع من شجرة الشعب، حتى وإن لم تكن سلطة منتخبة، ولأن أغلب شعوبنا ليس لها دور في اختيار حكوماتها، فإننا نظن أن لو كان لها دور لاختارت أفضل الرجال، ونقول هذا لن يحدث في واقعنا الحالي لأننا نجد أعدادا هائلة تختار مرشيحها في المجالس النيابية بناء على الإنتماء القبلي، أو العلاقات الشخصية او الخدمات والمصالح التي يقدمها المرشح.
إصلاح الشعوب - الأدلة العقلية(1/20)
…نحن نطالب بالتغيير الحقيقي وليس الظاهري، فتغيير الحكام والحكومات والشعارات والأفراد ليس دليلاً على أننا نجحنا في الإصلاح، فبعض الدول تكون منحرفة إلى اليسار بدرجة ثلاثين درجة، ثم بعد التغيير الظاهري نجدها تنحرف ثلاثين درجة إلى اليمين، فتختفي سلبيات الحزب الواحد، وتظهر سلبيات تعدد الأحزاب، وتختفي إيجابيات يسارية، وتظهر إيجابيات رأسمالية، والمحصلة النهائية هي :كأنك يا أبو زيد ما غزيت" فالتغيير الظاهري هو انتقال الحكم من مدنيين إلى عسكريين، أو مدنيين آخرين، أو العكس أو تغيير وزير أو مدير أو ناظر مدرسة أو رئيس حزب، والتغيير الحقيقي هو الذين يكون في عقائد الشعب وإنتاجية الموظفين وإخلاص المدرسين واجتهاد الطلاب... الخ ونحن الشعب والموظفين والمدرسين والطلاب فلنقنع أنفسنا بأن نتغير إلى الأفضل، ونقول للذين يطالبون بالإمام العادل، والحكومة العادلة، إن هذا لن يتحقق إلا إذا قمنا كشعوب بإنشاء أحزاب عادلة وجماعات عادلة، وقبائل عادلة وأسر عادلة، وأفراد عادليين وصحفيين موضوعيين... الخ. وإذا عجزت الشعوب عن حمل واجباتها ومسئولياتها، فإن الحكومات ليست لديها القدرة على تغيير نفوس الشعوب، وإليكم بعضا من الأدلة التي تثبت هذا الرأي:
…1- جعل الله سبحانه وتعالى أمور الحياة الدنيا تسير حسب سنن إيمانية ومادية من أخذ بها نجح كليا أو جزئيا بحسب ما أخذ ومن هذه السنن أن الله لم يعط الحكومات قدرات هائلة، أو أقوى مما أعطى الشعوب، فكم حكومة حاولت أن تستمر في الحكم فلم تنجح، وكم حكومة واجهت مشاكل اقتصادية فلم تدر ما تفعل، وهذا الضعف والفشل والحيرة تثبت أن قدرتها محدودة، فالحكومات في
الغالب لا تزيد قوتها على تغيير الواقع نحو الأفضل أو الأسوأ عن نسبة 20% فكل سلطة سواء كانت حكومة أو مديراً أو ناظراً أو رب اسرة أو قائدا
عسكرياً ستواجه الضعف أو الفشل إذا قال لهم مرؤسوهم "لا" فالضابط لا(1/21)
يستطيع أن يفعل شيئاً إذا تمرد الجنود. والأب لا يستطيع
فرض قناعاته على أبنائه الكبار.... الخ، وإذا وجدت مؤسسات أو تكتلات سياسية تتحكم بها الحكومات فأغلبها هي مؤسسات صورية غير شعبية. فالأبناء والأحزاب والجماعات... الخ يتحركون بناء على عقائدهم ومصالحهم واقتناعاتهم، وكثيراً ما تذهب نصائح الأب أدارج الرياح مع وجود الاقتناع بصدقه وإخلاصه، وكذلك تفعل الشعوب حتى مع الحكومات المخلصة، فكيف مع التي لا تكون كذلك؟ فالحكومات لا تصنع الشعوب. وحتى لو وجدت حكومات إسلامية وحاولت فرض الاقتناع والايمان على الشعوب فإنها لن تنجح، وليس صحيحا أن الشعوب ستلتزم بالإسلام إذا كان هناك إعلام إسلامي وقوانين إسلامية، فالشعوب إذا أرادت أن تنحرف عقائدياً أو أخلاقيا فإنها ستنحرف حتى لو حاولت الحكومات أن تردعها، فالانحرافات تحدث من الأفراد والشعوب لأن هناك ضعف إيمان، ومما يثبت هذا أن الفرد الملتزم يتمسك بدينه حتى في أوربا وامريكا حيث كل المغريات متاحة، ولا توجد قوانين إسلامية، فمن لا يعبد الله شكراً لنعمه ورغبة في جنته وخوفا من ناره، هل سيعبده لأن الحكومة أمرت بذلك خاصة وأن كل إنسان عاقل يعلم أن إمكانيات الحكومة في الترغيب والترهيب ضعيفة مهما كبرت.
…2- يعلم من لديهم خبرة في العمل الحكومي أن صلاحيات الوزير
أو وكيل الوزارة محددة بحكم الدستور والقانون والتوزان الاجتماعي
والسياسي فبعض الوزارء لا يستطيع فصل موظف صغير مهمل إذا كان لهذا الموظف علاقات سياسية أو اقتصادية قوية، وما دام الوزير لا يستطيع أن يكافئ ويعاقب ويغير القوانين واللوائح كما يشاء فإنه لن يستطيع تغيير الواقع
كما يشاء. والحكومات هي مجموعة من الوزارات، وكل وزارة
أو مؤسسة حكومية هي أفراد متنوعون في أفكارهم وعقائدهم ومصالحهم وأصولهم العرقية والطبقية، فهناك مراكز قوى تتنافس، وهناك تكتلات
إدارية أو سياسية أو صداقات، وهناك اجتهادات مختلفة وصراع على(1/22)
المراكز، فالنوايا والأعمال والاجتهادات لا تسير كلها في مصلحة الوزير أو
الحكومة. وهذا يثبت أن الجهاز الحكومي صورة مصغرة من واقع الشعوب، فموظفو الحكومة هم أبناء الشعب، تأثروا بعقائده وقيمه وأعرافه، فالتصور بأن لدى الوزارء من الصلاحيات والإمكانيات والجنود (الموظفين) ما يؤهلهم لإحداث تغييرات جذرية كثيرة في الواقع، أو حتى في وزاراتهم هو تصور خاطئ. ونجاح أي وزارة أو شركة هو أساساً في نوعية شعبها (الموظفين)، وهذا ما أدركه مدير شركة أجنبية ضخمة عندما وجد صعوبة في أن يؤدي كل الأعمال المطلوبة منه، فقد اقتنع أن أساس النجاح هوأن يحرص على توظيف المتميزين، وهؤلاء يتقنون أعمالهم، وبالتالي فستنجح الشركة، وكذلك الحكومات تنجح إذا كان الشعب وموظفوها متميزين. وقال مدرب كرة قدم: أعطني لاعبين متميزين أعطيك خططا ناجحة.(1/23)
…3- يستطيع الإنسان إحداث تغييرات جذرية في علمه وأخلاقه وأعماله، ولكنه غالبا لا يستطيع إحداث تغيير جذري واحد في حياة ابنه أو أخيه أو زوجته، والأمر أصعب لو حاول إحداث هذا التغيير في جيرانه أو منطقته فكلما اتسعت الدوائرة ضعفت قدرة الفرد على إحداث التغيير لأن للآخرين آراهم ومصالحهم وتجاربهم الشخصية، وكذلك الأمر مع الحكومات، فقدرة الحكومة على تغيير بعض أجهزتها وموظفيها قد تكون ممكنة ولكن قدرتها على تغيير عقائد وبرامج واقتناعات أحزاب وجماعات وقبائل وطبقات اجتماعية هي قدرة محدودة، وحتى هذه القدرة المحدودة منطقياً وطبيعياً قد تضعف إذا عارض محاولة استخدام هذه القدرة أعداء خارجون أو أوضاع سياسية معينة. وكثير من الحكومات تقتنع بأفكار وقرارات سياسية أو اقتصادية ومع هذا لا تستطيع التصريح بها خوفا من الثورة الشعبية. وأغلب هذه الحكومات تحاول الحصول على تأييد شعبي لما تريد عمله فإذا نجحت طبقت أفكارها، وإذا فشلت تخلت عنها، وهذا يثبت أن قرارات الإصلاح أغلبها بيد الشعوب فإذا كانت الشعوب تخاف من الحكومات، فكذلك الحكومات تخاف من الشعوب!!(1/24)
…4- لم تأت القوة الاقتصادية الهائلة في الولايات المتحدة من عمل واجتهاد الحكومة وإنما جاءت من نشاط الشعب وشركاته، فالشعب الأمريكي شعب نشيط، والشركات والمؤسسات كلها تقريبا أهلية، وميزانية الحكومة الأمريكية تأتي مما تأخذه من الشعب من ضرائب، أى أن غنى الغرب مصدره شعبي، وليس حكومياً، فالشعب الأمريكي أدرك أن قوة الدولة هي في عضلاته لا عضلات الحكومة، وإدراكه لهذه الحقيقة جعله يحقق نتائج هائلة في كثير من المجالات، والواقع الأمريكي هو واقع واضح ومكشوف، تظهر فيه العلاقات واضحة بين الأسباب الحقيقية والنتائج، والشعب الأمريكي ليس فقط أغنى من الحكومة، بل هو أيضا أقوى منها، ويغير حكامه وحكوماته كما يشاء، ويعاقبهم إذا انحرفوا، ولو كانت الحكومة أقوى منه لما تخلت عن السلطة، ولكنها تعلم أنها أضعف بكثير من شعب متحد واع، فالتقدم السياسي والاقتصادي الامريكي هو من صنع الشعب، وكذلك ايضا بالنسبة للتقدم العلمي والتكنولوجي، وفي نفس الوقت التخلف العقائدي والاجتماعي الأمريكي هو أيضا من صنع الشعب، ولا زالت وللأسف أغلب شعوبنا تعتقد أن الغنى سياتي بقرارات حكومية، وتطالب الحكومات بأن توفر لها المأكل والمسكن والملبس والتعليم والعلاج والوظائف، والحكومات لا تستيطع أن تفعل كل هذا حتى الغنية منها، لأن الموارد المالية مهما كبرت فهي صغيرة جداً أمام احتياجات الشعوب.
…5- لنفترض أن عندنا قريتين وكان أهل القرية الأولى نوعية متميزة من البشر، أخلاقهم عالية ويحبون بعضهم البعض ويشغلون أوقاتهم بالعلم والرياضة
والعمل وتربية الأبناء في حين أن أهل القرية الثانية منحطون أخلاقياً،
وإنتاجيتهم ضعيفة، وينتشر فيهم الطمع والنفاق والحسد. ولنفترض أننا
أرسلنا حكومتين صالحتين لهاتين القريتين ثم زرناهما بعد عام،
فمن المتوقع أن نجد أن حكومة القرية الأولى وشعبها حققوا نتائج طيبة،(1/25)
وإنجازات رائعة، في حين أن إنجازات حكومة القرية الثانية وشعبها
محدودة، هذا بالإضافة إلى منازعات وصراعات أو حروب أهلية، وسنجد وزيرا في الحكومة يشكو من انه لم يجد من يتبرع لمشروع مستوصف فأهلها بخلاء، وسنجد وزيراً آخر يشكو من أن الاختلاسات افقرت ميزانية وزارته، وهكذا في حين أن العكس حدث مع حكومة القرية الأولى، وإذا أضفنا على أهل القرية الأولى بعض الانحرافات وإلى أهل القرية الثانية بعض الفضائل حتى نجعلهم بشراً لا ملائكة، ولا شياطين، فإن توقع مثل هذه النتائج يثبت أن أغلبية الواقع من صنع الشعوب.
لماذا اتهموا الحكومات؟
…إيماننا بأن الحكومة هي صورة في المرأة لجسم متحرك أمامها اسمه الشعب، فإذا كانت الصورة قبيحة فعلينا إصلاح الشعب لا تحطيم المرآة، لأن أي مرآة جديدة ستعطينا نفس الصورة السابقة، هذا الإيمان يكفر به كثيرون لأن الحكومات عندهم مذنبة ومسئولة عن كل سلبيات الواقع، والشعوب بريئة وواعية وصادقة، ونشيطة والاختلافات بيننا جاء في اعتقادنا للأسباب التالية:
…1- تسلط الأضواء على أقوال وأفعال الحكومات مما يجعل إيجابياتها وسلبياتها معروفة للقريب والبعيد، وبما أن للسلبيات ثمناً كبيراً عند الشعوب، وخاصة عند من يحاكمون الواقع بمقاييس مثالية، فإن من السهل في كثير من الأحيان إثبات السلبيات والأخطاء والإنحرافات الحكومية أما سلبيات الأفراد والجماعات والأحزاب والقبائل والشعوب فنادراً ما تسلط عليها الأضواء لأسباب اجتماعية وسياسية وقانونية، وإذا سلطت فننسى أنها سلبيات شعبية، فالشجاعة الأدبية مفقودة، ونحن نعلم أن كثيراً من الحكومات لا تلتزم بالمبادئ، ونعلم أيضا ان كثيرا من الأحزاب والجماعات والشعوب يفعلون ذلك، فينحرفون نتيجة مصالح أو جهل أو ضعف أو كسل، وغير ذلك. ولو سلطنا الأضواء على بعض هذه السلبيات الشعبية لأصبحنا منبوذين. ألم يقولوا قديما "لوقلت الحق لأبغضوك" ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال:(1/26)
نعيب زماننا والعيب فينا……وما لزماننا عيب سوانا
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب……ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب …ويأكل بعضنا بعضا عيانا(1)
…ومما جعل هذه الحقائق تغيب عن كثيرين أن كثيراً من الحكومات لا
ـــــــــــــــــــــــ
(1) عياناً: مشاهدة.
تنتقد شعوبها بل تمدحهم وتجاملهم، وتعتبر ذلك جزءا من السياسة الحكيمة والمفروض أن تقول لست وحدي المقصرة فأنتم مقصرون، ولكم أخطاؤكم وانحرافاتكم، فنوعية الأبناء التي نشاهدهم تثبت أنكم قصرتم كثيراً في تربيتهم، وكثير جدا من المدرسين والموظفين والعمال لا يؤدون حتى نصف المطلوب منهم ولا يتقنون أعمالهم ونسبة مرتفعة من التجار لا تدفع زكاة أموالها، ولا تهمها المصلحة الوطنية، أما أعداد المنافقين فحدث عنها ولا حرج!!! وقد كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يقول: "كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد". وقد قال عبدالملك بن مروان على المنبر: "ألا تنصفوننا يا معشر الرعية؟ تريدون منا سيرة ابي بكر وعمر ولم تسيروا في انفسكم ولا فينا بسيرة رعية أبي بكر وعمر، أسأل الله أن يعين كلا على كل".(1/27)
…2- أدت عوامل سياسية وشخصية ونفاقية إلى إرجاع أي إنجاز طيب إلى مجهود الحكام والحكومات، وتهميش أو إلغاء الدور الشعبي مع أنه الأصل، فهم العمال والإداريون والمهندسون لهذه الأعمال، فالحكومات أضافت إلى رصيدها أكثر بكثير من حقها، وأضافت إلى عضلاتها عضلات وهمية كبيرة، فكسبت ثناء زائفاً، فكان من العدل ومن شؤم هذه المعصية أن ينسب كل انحراف أو خطأ أو فشل إلى الحكومات، وأدى الاستبداد كذلك إلى إيجاد بيئة ملوثة انتشرت فيها الإشاعات والحكايات التي تشوه الحكومات، قال الأستاذ حسين أحمد أمين: "ولا ريب عندي في أن ضخامة التوقعات التي تعلقها الرعية على كل عهد جديد مع افتقارها إلى كل من الواقعية والمنطق تنطوي على إجحاف شديد بالحاكم الوافد. والواقع أن الاستبداد والمركزية المفرطة في نظم الحكم في كثير من الدول الإسلامية هما المسئولان عن توهم الشعوب أن كافة شئون حكمهم منوطة بإرادة الحكم، وأن تغيير الحكومة لا بد أن يؤدي إلى تغيير في كافة هذه الشئون، وغالبا ما تنسى هذه الشعوب أن الحاكم إنما يرث عن سلفه تركة مثقلة
بالدين، وأن الكثير من المشكلات قد لا يكون له علاقة بالحكومة
ذاتها"(1).(1/28)
…3- الحكومة هي شيء واضح ومحدد له سلطاته ومجالسه وقراراته المعلنة، ولكن الشعوب وخاصة في الدول النامية غير ممثلة في مجالس نيابة إلا ما ندر، فكأنه لا حول لها ولا قوة وهذه الصورة الظاهرية ليست صحيحة، فالشعب هو الموظفون والجنود والأحزاب والجماعات والجمعيات فهو موجود، ويشارك في صناعة الواقع بأفعاله وأقواله وعقائده. فعدم وجود مؤسسات شعبية رسمية، أو عدم وجود قرارات شعبية معلنة ليس معناه أن الشعوب غائبة بل معناه أنها لم تطالب بحريتها وأن القوى الشعبية مختلفة لا تتفق على قرارات وكثير من أوضاع الدول النامية تثبت أن جزءاً من الشعب هو الذي يسيطر وينفرد في القرار، أي أن الحكومة ذات جذور شعبية سواء كانت هذه الجذور حزباً شعبياً أو عرقاً، أو طبقة أو طائفة، أو غير ذلك، ونادراً ما توجد حكومة لا تنال تأييد بعض القوى الشعبية. وعموما فالحكومات المخلصة والذكية هي التي تعطي دوراً كبيراً وبارزاً للشعوب في المناصب والمصالح والقرارات لأن في ذلك فوائد كثيرة لعل أهمها أن تُبعد بعض اصابع الاتهام الظالمة عنها.
…4- غالبا ما تكون القوى الشعبية السياسية بعيدة عن السلطة والمال
والعمل وقريبة من الشعارات والكلام والخيال، ولا شك أن أغلب أو كثيراً
من القوى الشعبية تجيد الخطب وإعطاء الوعود، والعزف على أوتار الإصلاح، ومصالح الشعوب ولكن هذا لا يعني أن كلها مخلصة وواعية وذكية
ونشيطة، وانها لو وصلت إلى الحكم فسوف تحقق المعجزات، وهذا ليس
تجنياً عليها، بل هو واقع شاهدناه مراراً، فكثير من القوى الشعبية
ــــــــــــــــــــ
(1) ص 137 دليل المسلم الحزين - الأستاذ حسين أحمد امين.(1/29)
وصلت للحكم، ولكن تحول كثير من قادتها إلى مستبدين ومجرمين ولصوص، فالصورة المثالية للقوى الشعبية ليست صحيحة إذا سلطنا عليها نار المناصب والمال والشهرة. فالصورة المثالية للقوى الشعبية جعلتنا نراها أجمل مما هي عليه، وجعلتنا نرى الحكومات بأقبح مما هي عليه، فالأولى تشق طريقها من خلال الكلام الجميل، والثانية تصطدم في سيرها بواقع مرير وهذا جعل الكثيرين يظنون أن الحكومات هي العائق أمام التطور والتقدم. وندعو إلى تشجيع القوى الشعبية للانتقال من الحياة في عالم الشعارات الجميلة إلى عالم العمل والإنتاج والمواقف المحددة والتصورات الواضحة ونحن لا نريد أن نحرج أحداً أو ندعو للتشاؤم، ولكن نريد أن نرى الواقع بصورة صحيحة ونريد أن تتطور القوى الشعبية من خلال العمل ولنتذكر قول الشاعر:
ما أكثر الأصحاب حين تعدهم
……………لكنهم في النائبات قليل
…5- كثير من السلبيات يتحملها اكثر من طرف، فهناك أكثر من مسئول عن السلبية الواحدة، وإذا كان هناك طرفان حكومي وشعبي، فإن كل طرف يحاول ان يلقي المسئولية على الطرف الآخر فإذا سألت طالبا فاشلا عن سبب فشله اتهم بعض مدرسيه أو الناظر، وإذا سألت امرأة مطلقة عن سبب فشل زواجها اتهمت زوجها بأنه السبب، وكذلك يفعل الزوج. ولو سألنا شعوبنا لماذا لا نجد التقدير المناسب للعلماء والمفكرين لألقوا اللوم على الحكومات بأنها لم تشجعهم معنويا وماديا، وقد يكون هذا صحيحا، وقد لا يكون، ولكن الصحيح أن كثيراً من
العلماء والمفكرين ينتقلون من بلد إلى بلد، فلا يعرفهم أحد، بل إن بعضهم مجهولون حتى في بلادهم، وكثير من كتبهم لا يقرأها إلا قلة، ولا تحقق
ربحا في حين نجد أشرطة غنائية أو أفلاماً لممثلة تافهة تحقق أرباحاً طائلة،
ونجد المعجبين يستقبلون الممثلة في المطار، والأسواق، ونجد تذاكر حفلة
لراقصة تنفذ خلال ساعات ويحق لنا التساؤل لماذا هذا التأييد الشعبي ومن(1/30)
أجبر الشعوب على أن تتجاهل العلماء؟ وسنصل في النهاية إلى الاقتناع بأن كثيراً من أوراق الواقع هي بيد الشعوب.
…6- هناك إرث تاريخي مشوه يربط بين التغيير نحو الأحسن وبين الثورات والانقلابات، وهذا التأثير التاريخي نابع من التاثر بالثورة الفرنسية وشعاراتها الجميلة، وبالثورة الروسية الشيوعية وبثورات وانقلابات قديمة وحديثة في تاريخنا وهذا جعل كثيراً من الشباب يقتنع بأن التغيير نحو الأحسن يجب ان يبدأ بالثورة والعنف، وحتى أصبحت هذه من البديهيات الإصلاحية، ولكن هل كانت الثورة الشيوعية تغييراً نحو الأحسن أم أنها كانت تغييراً نحو الأسوأ بعد أن ثبت فشلها بعد سبعين سنة من التطبيق في روسيا؟ أما الثورة الفرنسية فقد كانت لها ايجابيات كبيرة وكذلك سلبيات كبيرة فالثورة لا تؤدي بالضرورة للتغيير نحو الأحسن، ولو كانت كذلك لكانت أغلبية أنظمة الحكم في العالم عادلة ومثالية لأن التغييرات العنيفة موجودة في كثير من الدول، فالعنف قد يؤدي إلى التغيير نحو الأحسن أو الأسوا أو يبقى الأوضاع كما هي، ومن الملاحظات أن هناك اقتناع بأن إزالة نظام حكم ظالم ستؤدي حتما إلى إيجاد نظام أفضل، وقد يكون ذلك راجعا لفطرة الناس المتفائلة، لكنهم لو صبروا خمس أو عشر سنوات على الحكم الجديد لربما اقتنعوا أنه لم يكن تغييرا نحو الأفضل، فالحكم على تغيير عنيف أو سلمي بانه إيجابي أو سلبي عملية تتطلب التعرف على حقائق كثيرة عقائدية وسياسية واجتماعية واقتصادية قبل التغيير وبعده وهذه من الأمور الصعبة لأن هناك أسرار، ونادراً ما نجد الموضوعية والعلم فيما يكتب من آراء وكتب ودراسات، فكثير من التغييرات التي حدثت في عالمنا العربي لا زلنا مختلفين حول إيجابياتها وسلبياتها، ونحن بحاجة إلى رفض التسليم بأن هناك علاقة إجبارية بين التغيير نحو الأحسن وبين العنف والثورة، وبحاجة إلى تسليط الأضواء على التغيير نحو الأحسن الذي يحدث في أوضاع سلمية وهو موجود(1/31)
في كثير من الدول وأنتج أمناً واستقرارا وتقدماً اقتصادياً وحكمة، ونحن لا نتطرف في تبني المفهوم
السلمي للإصلاح ولا ننفي أهمية الجهاد ولكننا نؤمن بأن الإصلاح السلمي هو القاعدة وأن الجهاد يجب أن يكون في مكانه الصحيح ونؤمن بأن البقاء في الحكم أو الخروج من يخضع كأي عمل آخر لأسباب إيمانية ومادية، فقد يبقى الله سبحانه وتعالى الحكومة الظالمة كجزء من الإمهال، أو كعقوبة لانحرافات شعبية، فالله سبحانه وتعالى هو المتحكم بالأمور، وقد رأينا أنظمة حكم تنهار في كثير من الدول في هذا القرن مع أخذها بكثير من الأسباب المادية، فأجهزتها الأمنية متطورة، وصرفت الكثير من المال في كسب الولاء العسكري والمدني، ومكرت في الإعلام والسياسة، ولكن عندما أذن الله سبحانه وتعالى بخرابها جاءها الدمار من عدو خارجي، أو مؤامرة عسكرية، أو ظروف سيئة، أو اغتيال أو مرض خطير، أو غير ذلك قال تعالى: ?قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير? (26) (سورة آل عمران).
التخلف العلمي الشعبي
…نصيب أي أمة من التقدم والسعادة يعتمد على رصيدها من العلم والعمل والإخلاص. ولأننا من المقتنعين بأن ما نشاهده في واقعنا من خير وشر هو ما نستحق وهو مرتبط بما عندنا من علم وجهل، ومن عمل وكسل ومن إخلاص ونفاق كشعوب وكحكومات وبأن التأثير الأكبر في الواقع راجع للشعوب، فمن الواجب أن نقدم الأدلة التي تثبت بأن هناك تخلفاً علمياً شعبياُ ساهم بصورة كبيرة في جزء كبير من التخلف والشقاء والتفرق الذي نعيشه وإليكم الأدلة:(1/32)
(1)- لا شك أن أهم أنواع العلم هو معرفة عقائد الإسلام وأحكامه، وهناك جهل شعبي كبير في ذلك، ومع أنه لا يوجد ما يمنع الشعوب والأمم الإسلامية من التعرف على دينها، وزيادة رصيدها العلمي إلا أنها لم تفعل، فالكثير من المثقفين وغير المثقفين يجهلون أساسيات في علم التوحيد، فهم يظنون مثلا أن كل من يؤمن بوجود الله فهو مؤمن، مع أن كفار قريش كانوا يؤمنون بوجود الله أي أن معاني الشرك غير واضحة لهم، ولو سألتهم عن الاختلافات العقائدية التي حدثت للأمة الإسلامية لما عرفها كثير منهم، فبعضهم لا يدرك خطورة الصوفية وشطحاتهم في الكرامة والولاية والعبادة، وكثيرون هم الذين يجهلون الفرق بين الانتماء والتعصب العرقي، وبين الشورى والاستبداد وبين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وبين الالتزام والتطرف، وبين الزهد والتصوف، والجهل في الأحكام الاجتماعية والاقتصادية حدث عنه ولا حرج، وهذا التخلف تم استغلاله من اتجاهات علمانية وشيوعية ورأسمالية ومتطرفين سواء وجدوا في حكومات أو اتجاهات أو أحزاب أو جماعات، فصبغوا أفكراهم المنحرفة بصبغة إسلامية أو أوهموا الشعوب بأنها لاتعارض الإسلام فصدقت الشعوب ذلك، فأصبحت فريسة سهلة لأعداء الأمة، وأهل المصالح والبدع، بل وصل الجهل إلى أبعد من ذلك حيث استطاع هؤلاء تشويه سمعة علماء واعين
وصادقين، وشوهوا عقائد صحيحة وأنظمة صادقة، ففقدت الأمة قياداتها الفكرية والسياسية!!(1/33)
وما دام الجهل بهذا الحجم، فمن الطبيعي أن يختلف المخلصون فالجهل يفرق والعلم يوحد، ومن الطبيعي أن تكون أحد القواعد الأساسية للواقع العربي هي. (اتفق العرب على ألا يتفقوا) وقد يظن البعض أننا نبالغ في ما نقول، وجوابنا هو احضروا مئة عربي مثقف من المخلصين وأسألوهم أسئلة محددة في موضوع العلاقة بين الإسلام والقومية، ثم قوموا بتصحيح إجاباتهم فستجدوا إجابات مختلفة ومتناقضة بصورة كبيرة، وهذا التناقض دليل قاطع على الرسوب والتخلف والجهل، ونحن لا نفترض هذه النتيجة بل هي حصيلة قراءات كثيرة ولقاءات ودراسة حول هذا الموضوع(1). ولو وجد الوعي العلمي الشعبي لما اختلف المخلصون. ولما استطاع الاعداء تشويه أفكارنا أو نشر أفكارهم والمسئولية كما قلنا في هذا التخلف تقع على الشعوب فلا أحد يمنعها من أن تتفقه في دينها وواقعها، ولكن الكثيرين منها انشغلوا في جمع المال أو في السعي نحو المناصب أو الشهوات أو فضلوا النوم والكسل أو في قراءة الجرائد والمجلات لا الكتب والمراجع والجهل بالإسلام ليس فقط عند عموم المسلمين بل هو موجود عند كثير من الملتزمين حيث نجد تعصباً لعلماء أو فهم مثالي وعاطفي للتاريخ، أو رفض للاجتهاد في الرأي، أو تضعيف لدور العقل!!
2- لا شك أن أفراد المجتمعات الغربية، ولا أقول الحكومات، هم متطورون في علوم التكنولوجيا، والإدارة والتخطيط والاقتصاد والتجارة والزراعة... الخ مقارنة معنا كأفراد، ونحن نعلم أن كثيرا من هذه العلوم متاح لنا،
ونستطيع إكتسابه من خلال الدراسة والقراءة والتدريب، فهل
ـــــــــــــــــــ
(1) يمكن الرجوع إلى كتاب "الطريق إلى الوحدة الشعبية ... دعوة لبناء الجسور بين الاتجاهين القومي والإسلامي" لعيد الدويهيس.(1/34)
اجتهدنا في ذلك؟ الأجابة معروفة. فالظن بأننا نملك كفاءات علمية كثيرة ظن خاطئ، وعلى شعوبنا أن تدرك هذه الحقيقة، فالفرق بين شعوبنا والشعوب الغربية في المجال التكنولوجي يزيد عن قرنين على الأقل، أما في علوم الإدارة فعلى الأقل قرن واحد، وقد يكون الفرق أكبر من ذلك، والفرق هنا كما ونوعا، فزيارة واحدة لمعاهد بحثية غربية تكفي للاقتناع بذلك. ومن الأمثلة التي تصلح كدليل على صحة قولنا هو عمل دراسة لتقييم الرصيد الشعبي من علم التخطيط، هذا العلم الذي يعتبر أحد العلوم الرئيسية وإذا عملنا هذه الدراسة فسنجد ثقافتنا التخطيطية هزيلة، فالفرق بين الرسالة والتوجه والأهداف غير واضح، أما مفاهيم الاستراتيجية والسياسات والإجراءات فهي متناقضة، والتكامل بين الخطط الطويلة والقصيرة ليس عندنا به خبرة، ولا يوجد تقارب في تحديد المسئولين عمن يضعون الخطط، ودور وأهمية المعلومات والدراسات في العملية التخطيطية موضوع لم يسمع به كثيرون منا، أما الأدوات التخطيطية فلا ندري عنها شيئا، ومع هذا نخطط لمؤسساتنا ووزاراتنا ودولنا مع أن كثيراً منا لم يتخصصوا في علم التخطيط، وإصدار الفتاوى والآراء لا يحدث في هذا المجال فقط بل أيضا في مجالات كثيرة فنجد سياسيين وصحفيين يتحدوثون في قضايا إسلامية ولا علم كافياً لهم في العلوم الشرعية، ونجد علماء في الشريعة يتحدثون في السياسة، ومهندسين وأطباء يفتون في العلوم الإدارية، وأحزاباً، وجماعات وأفراداً يتخذون مواقف سياسية مع أو ضد دون معرفة بالواقع السياسي، فيكتشفون بعد سنوات طويلة أنهم كانوا مضللين، وهكذا تجد تصرفاتنا وآراءنا اشجاراً جذورها تمتد في بحيرات الظنون والانفعال والسذاجة والمعلومات المزورة والمثالية، وبإختصار إن رصيد شعوبنا من العلم بكافة أنواعه هو رصيد قليل لا يتناسب مع طموحاتنا وآمالنا، وإذا أدركنا ذلك سنقتنع أكثر بأن إصلاح الواقع يتطلب أولا إصلاح رصيدنا الشعبي من العلم(1/35)
والجهل والإخلاص، وبإمكاننا إذا أردنا أن نبذل كثيراً من الجهد في القراءة والتدريب والدراسة والعمل وحتى نختصر الطريق ونحقق قفزات علمية فإننا نقترح ما يلي:
…أ- بناء ثقافة إسلامية صحيحة: يتطلب الوعي الفكري والسياسي دراسة الإسلام دراسة صحيحة، فالبحث عن الحقائق في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هو طريقنا للعلم والنور والحقائق العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وإذا فعلنا ذلك فسنسير على بصيرة وحكمة في علم التوحيد، وعلم العدل، وعلم الحرية، وعلم الشورى، وعلم السعادة وسنعرف صفات المخلصين، وصفات المنافقين، وسنعرف ما نأخذ من حضارة الغرب، أو من تراثنا، وما ندع وكيف نطبق الشريعة الإسلامية وما هي أولويات العمل الشعبي والحكومي؟ وسنعرف الفرق بين الشريعة والفقه وبين الحريات الشخصية والفوضى الأخلاقية، وبين الاعتدال والتطرف، وبين التفكير العقلي السليم والظلام العلماني، وبين حقوق المرأة وحقوق الرجل، وغير ذلك كثير. والقرآن والسنة هما دستور الأمة وقوانينها، وهما المرجع إلى حل كثير من الاختلافات الموجودة عن طريق استشارة وتحكيم مجالس للعلماء المخلصين الواعين وبدون ذلك ستتحكم الآراء الشخصية والمصالح، ولن نصل إلى تعاون واتفاق ونحن لا ندعو إلى تجميد عقولنا، وتسليم أمرنا للعلماء فالطاعة العمياء مرفوضة شرعا فالعلماء ليسوا معصومين ولكن العلماء هم ورثة الأنبياء واخلاصهم له دور كبير وأساسي في التقدم والاستقرار، والموضوعية والحكمة والصواب، ومن العلماء والمفكرين المتميزين في عصرنا هذا الدكتور أحمد كمال أبو المجد، والاستاذ عبدالرحمن عبدالخالق، والشيخ محمد الغزالي والدكتور عمر الأشقر، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ محمد ناصر الدين اللباني، والاستاذ فهمي هويدي فلنبدأ من حيث انتهى هؤلاء ولنأخذ من اجتهاداتهم وآرائهم ما نقتنع به ولنحترم ما لا نقتنع به.(1/36)
…ب- العلوم المادية: الأخذ بالأسباب المادية واجب إسلامي، والأمة
تواجه اليوم تخلفاً شديداً في العلوم التكنولوجية والإدارية والتجارية... الخ.
وكما نحتاج إلى فقه في أمور الدين فنحن بحاجة إلى فقه وعلم في أمور
الدنيا، فمحمد الفاتح لم يفتح القسطنطينية بالتقوى
والدعاء فقط بل أيضا بالفنون العسكرية المناسبة، وأمة لا تنتج غذاها ستبقى أمة ضعيفة، وجبهة العلوم المادية بحاجة إلى جنود كثيرين يتوزعون في المصانع والمزارع والمؤسسات والوزارات، وكثير من المعلومات والمهارات المطلوبة متاحة ويمكن الوصول إليها عن طريق الدراسة والقراءة والتدريب والشراء، وحتى ما هو ممنوع من أسرار تكنولوجية عسكرية أو مدنية يمكن الوصول لها بالعمل بالمستمر والصبر والمال والتجارب، وقد يقول قائل إن البيئة عندنا في العمل لا تشجع على اكتساب هذه العلوم، ونقول ان كثير من هذه العلوم متاح، ويباع في مكتبات وطنية أو أجنبية، فأقرأ وتعلم وشاور العلماء المتخصصين والخبراء الفنيين، أما بالنسبة للتطبيق فأنه بالإمكان تطبيق بعض الطموحات حتى في ظل الظروف التي تعيشها أكثر دولنا، فهناك شركات اسثمارية، وصناعية، وزراعية، بحاجة إلى خبرات متميزة ولا تجدها في السوق العربي والإسلامي، فإذا بحثت عن خبرات في التخطيط أو المواد البلاستيكية أو السياسات العلمية والتكنولوجية أو الاستثمار في السياحة أو غير ذلك فنادراً ما تجد المتميزين والسبب في قلة هؤلاء أننا نادراً جدا ما نجد مديراً أو مهندساً أو مزارعاً أو تاجراً يقرأ كتابا جديداً، وحتى قديماً في مجال تخصصه، أو يتابع المجلات العلمية المتخصصة، أو يحرص على المشاركة في مؤتمرات علمية أو دورات تدريبية متطورة فالكثيرون وللأسف كسالى ويائسون أو لا يحرصون على تطوير معلوماتهم ومهاراتهم، وانتهى علمهم عند حصولهم على شهادة جامعية، أو شهادة الدكتوراة مع علمنا أن التعليم والتدريب هو عملية مستمرة، وأن الاختراعات(1/37)
والنظريات والأفكار والتجارب والنجاح والفشل تحدث كل يوم، وتزداد خبرة البشر، ومن لايتقدم يتأخر، ومن لا يتطور يتخلف، وأحيانا نجد شباباً متدينا حريصا على العلم الشرعي واكتسابه ولكنه غير حريص على العلم المادي في مجال عمله فكأنه هذا ليس واجباً وكأن المسلمين لا يحتاجون لهذه العلوم المادية، وهذا من الجهل في الدين وفي الحياة، فالله يعزنا وينصرنا ويرزقنا إذا أخذنا بكل الأسباب الإيمانية والمادية.
…جـ- إنشاء وتطوير المؤسسات العلمية المتخصصة: نحن بحاجة ماسة للعمل العلمي الجماعي من خلال معاهد ومراكز ومجالس بحثية متميزة ومتطورة، فلا مكان اليوم للعمل الفردي سواء في العلوم المادية أو الشرعية، فالدراسات العلمية تتم اليوم بجهود جماعية، فتحقق نجاحات تكنولوجية واقتصادية وفقهية، وهذه المؤسسات هي منارات إشعاع للعلم من خلال تأليف الكتب وإصدار المجلات، وعقد الندوات، وتنظيم الدورات التدريبية، وهي مراكز لنقل العلم والخبرة ممن يملكها لمن يحتاجها ولنتذكر أن الفارق الأساسي في العلوم التكنولوجية والإدارية بيننا وبين الغرب هو أساسا في المعلومات والمهارات في العقول البشرية حيث أن الآلات يمكن شراؤها بسهولة ويمكن تقليل هذا الفارق من خلال الدورات التدريبية وللمؤسسات العلمية المتخصصة دور كبير في الوصول إلى ذلك ونحن لا ندعو إلى مؤسسات نظرية أكاديمية بعيدة عن الواقع بل ندعو إلى إنشاء مؤسسات قريبة من احتياجات المجتمع، وتتعامل مع الواقع وتستخدم العلم ونظرياته وتطبيقاته في تطوير المجتمع من خلال أبحاث تطبيقية واستشارات ونقل التكنولوجيا المناسبة ولا شك أن هذه العلوم هي التي نحتاجها، ولهذه المؤسسات تاثير كبير في تطوير الوزارات والمؤسسات والشركات، والجمعيات المهنية والجامعات والمدارس، وتكلفة انشاء المعاهد المتخصصة كبيرة وتدريب العاملين فيها يحتاج أموالا طائلة، ولكن لا بد منها، فهي طلائع العلم والتكنولوجيا والخبرة،(1/38)
فالاستثمار فيها بشكل خاص وفي عقول البشر بشكل عام هو أهم أنواع الاستثمار، وأكثرها ربحية، ولنتذكر أن البشر المتميزين في علمهم وأعمالهم هم الثروة الحقيقية لأي شعب أو أمة.
…د- قراءة الواقع: الواقع كتاب كبير فيه نجوم وكائنات وفيه حقائق
عقائدية وسياسية واجتماعية وإدارية كثيرة لابد أن ندرسها ونعرفها حتى
نستطيع ترشيد القرارت والخطط السياسية والإدارية والاقتصادية، ودراسة النظريات والمبادئ عملية مطلوبة وضرورية، وكذلك دراسة الواقع،(1/39)
وكثيرا ما يفشل السياسيون لأنهم لم يحسنوا قراءة واقع بلادهم السياسي فتجدهم يخالفون عقائد شعوبهم أو لا يقدرون حجم ونوع ردة الفعل الشعبي على قرار، أو تصريح، وكثير من العرب صدموا بهزيمة يونيو 1967 لأنهم لم يستطيعوا قراءة الواقع السياسي والعسكري والعقائدي للأمة ولو قرأوه لتوقعوا هذه الهزيمة الكبيرة. وقد قرأ الزعيم الهندي غاندي واقع الهند قراءة صحيحة ولهذا استطاع أن يطبق مبادئه وآماله بصورة صحيحة تحقق أكبر قدر من الايجابيات، وتمنع الفشل والخسارة، فاستقلال بلاده مبدأ لم يتنازل عنه ولكنه أدرك بعد قراءته للواقع أن هناك خطوات لابد من تحقيقها أهمها هو توحيد القوى الشعبية، وكسب ثقة المسلمين والهندوس، وإيجاد المؤسسات الشعبية المطلوبة، وليت كثيراً من سياسيينا يبذل جهودا في قراءة الواقع العربي من خلال القراءة والزيارة والسياحة والعمل حتى يستطيع التعامل مع هذا الواقع بصورة صحيحة فلا نتحدث من خلال النظريات فقط أو من خلال العواطف والظنون والمعلومات المشوهة أو المزورة حتى نتمكن من وضع أهداف واقعية تتناسب مع صفاتنا وعلمنا وعملنا واخلاصنا، وحتى نختار ما يناسبنا من نظم وأعمال ومجالس نيابية وغير ذلك، وقراءة الواقع مطلوبة كذلك في الجانب الإداري فمهما حصلت على دراسة وعلم في الإدارة فإنه لابد من قراءة واقع الوزارة أو المؤسسة أو الشركة بصورة صحيحة حتى نختار القرارات والأولويات الإدارية المناسبة، وقراءة الواقع لا يتم حسابها بالسنوات، بل بما فيها من خبرة ودراسة وعمل وتجارب، فقد تجد موظفا عمل عشرين عاما، ومع هذا لم يقرأ واقع وزارته بصورة صحيحة، والنجاح في قراءة الواقع يتطلب
الحوارات واللقاءات والندوات والاجتماعات وقراءة خريطة المصالح
ويتطلب المصارحة والمكاشفة والعلانية، وذكر الايجابيات والسلبيات ومن
الخطأ اخفاء نقاط الضعف والسلبيات سواء كانت في مؤسسة أو قبيلة أو(1/40)
شعب أو إدارة أو حزب أو جماعة، فكثير من السلبيات يجب إعلانها
حتى يتم تصحيحها، وحتى نتعامل معها بصورة صحيحة،
ولنتذكر أن الحقائق هي التي تحرك الواقع لا الغطاء الذي نضعه عليه، فهذا الغطاء لا يضر إلا من أردنا حمايته، ولا شك أن من يقرأ الواقع بصورة عميقة هو الأكثر نجاحا وصوابا وخبرة.
…ر- الحوار المنظم الهادي: الحوار الذي ندعو إليه هو حوار بين عقلاء مخلصين لدينهم وعروبتهم لا يقوده علمانيون أو رأسالميون أو شيوعيون أو متطرفون وهو حوار بين من ثبت إخلاصهم ووعيهم في مواقفهم وأقوالهم. وهو حوار يعتمد على دراسات علمية وقراءات وثقافة وخبرة، وهو حوار بين قوى شعبية داخل الوطن الواحد وبين قوى شعبية داخل الأمة، وبين الحكومات والقوى الشعبية، وبين الإداريين والعلميين وبين أهل السياسة وأهل الدين، وبين العمال والتجار وبين المدراء والموظفين، ومع أننا شاهدنا حوارات كثيرة في مؤتمرات واجتماعات وصحف ومجلات ومحاضرات إلا أن أغلب هذه الحوارات ناقصة ومشوهة وسريعة وجزئية ولهذا نجد كثيراً من المواضيع تبقى معلقة، وكثيرين يبقون على اقتناعهم وأفكارهم القديمة فلا يتطورون. وإذا كان هدفنا الوصول إلى نتائج إيجابية ومفيدة فعلينا أن نرفض الجدل والتعصب، وأن ننظم حوارات هادفة لا سوقا للكلام، وتسجيل المواقف وإحراج الآخرين أو السخرية منهم أو التشويه والتنفيس ولنعمل على الاستفادة من علم الآخرين وتجاربهم، والوصول إلى حلول وسط كلما أمكن، وتقديم تنازلات منا لا انتزاع تنازلات من الآخرين، ولنعلم أن الكلمات الطيبة تقرب النفوس والعقول، أما الكلمات الخبيثة المشبعة بالعنصرية أو الحسد أو الانتقام أو التعصب أو الأنانية... الخ فهي قنابل تمزق النفوس، وتشعل الغضب والعداوة والكراهية. ولنعلم أن أهم مشاكلنا وخلافاتنا
كثيرة ومتشعبة، وهي بحاجة إلى حوارات كثيرة مستمرة وبحاجة إلى صبر(1/41)
طويل جدا، ومحكمين من جهات محايدة، قال الدكتور أحمد كمال ابو المجد: "إن كثيرا من الساسة والقادة العرب يشفقون على أنفسهم وعلى الأمة العربية
كلها من عواقب الحوار ويتصورنه مدخلا إلى مزيد من الخلافات، ويؤثرون لذلك
أن يحافظوا على ما بقى من الود، وما بقى من مظاهر التعاون... إن هؤلاء يفضلون إستمرار أبواب الحوار مغلقة حتى تظل الفتنة نائمة لا يوقظها بالحوار أحد"(1) وقال "كذلك فإن اٌلاقدام على المفاتحة والمكاشفة والحوار يظل محفوفا بالمخاطر الكثيرة في غيبة الإتفاق على منهج له يؤمن موضوعيته، ويضمن استمراره، ويضبط أصول ممارسته ضبطا يستقر في التقاليد العربية"(2).
…و- المستشفى العلمي: أمراض الجسد بنيت لها المستوصفات والمستشفيات، وتخصص لها الأطباء والممرضات والفنيون والإداريون وأدركنا خطورتها على الحياة، ولكننا لم ندرك حتى الأن حاجتنا الماسة لإنشاء مستشفيات علمية لعلاج أمراض العقول والنفوس المتمثلة في انحرافات وتشوهات في عقائد واقتناعات وسياسات ومناهج وأساليب لحكومات أو جماعات وأحزاب واتجاهات وشعوب، وقبائل وعائلات وأفراد، مع أن هذه التشوهات تسبب فتناً ومشاكل وحروباً وخسائر وضياعاً ودمارا. فهناك من انحراف عن بعض بديهيات الإسلام، ومع هذا لا يدري أنه انحراف وهناك من لديه عنصرية ولا يشعر بها وهناك من هو متطرف في أقواله وأفعاله ويظن أنها جهاد وكفاح، ودور هذه المستشفيات هو تشخيص الحالة المرضية العلمية لفرد أو جماعة، او حزب أو حكومة، ثم بعد ذلك علاجها من خلال إعطاء وصفات علمية من كتب وحقائق ومعلومات يتم صرفها من معاهدة علمية متخصصة. ولعل من أهم العوائق أننا مقتنعون بأننا نعرف
كل شيء وأننا على صواب ولا توجد عندنا أمراض علمية، وأن عقولنا
كلها علم وخبرة ووعي، وأن الانتقادات التي توجه إلينا ليست حقائق
بل هي إشاعات مغرضة وراءها أعداء، أو مصالح شخصية أو جهلاء(1/42)
أو حساد أو ملاحدة. والوصول إلى فكر إسلامي معاصر صحيح وواقعي
ــــــــــــــــــــ
(1) ص 24 حوار لا مواجهة د. أحمد كمال أبو المجد.
(2) ص 24 المصدر السابق.
يتطلب تشكيل لجان علمية محايدة تقوم بتشخيص أمراض حكومة أو حزب أو جماعة، ثم إعطاؤهم الوصفة العلمية المناسبة، فهذا يساهم كثيراً في اختصار الوصول للحقائق، لأن المريض لا يستطيع في أحيان كثيرة اختيار الدواء المناسب من الصيدلية العلمية، لأنه لا يدري ما هو مرضه؟ وما هو دواؤه؟ وعموما فالعقلاء هم من يطلبون تقييم أدائهم من جهات محايدة وخارجية واعية ومخلصة، ويقومون بتصحيح مسارهم، ومن يفعل ذلك هو الذي يستطيع أن ينمو ويكبر، لأن جذوره العلمية راسخة، ولأن للعلم والحقائق والصواب قوة هائلة ينجذب إليها المخلصون.
…س- قد يتعجب بعضنا عندما يشاهد أفراداً وأحزاباً وجماعات وحكومات يرتكبون أخطاء كبيرة وواضحة في عقائدهم، أو أعمالهم أو أقوالهم، أو سياساتهم، أو لا يهتدون إلى حلول لمشاكلهم، فيفشلون في حياتهم الزوجية أو الوظيفية أو السياسية. لأن الإنسان يتساءل هل من المعقول ألا يرى هؤلاء الحقائق والصواب والمنطق السليم؟ وأين ذهب المستشارون والأهل والأصدقاء والعقول الكثيرة؟ والجواب: نعم، إنهم لا يرون الحقائق الواضحة لأن الله سبحانه وتعالى أعمى بصائرهم فلم تعد ترى النور، وذلك بسبب معاصيهم قال تعالى: ?إن الله لا يهدي القوم الفاسقين? وقال تعالى: ?إن الله لا يهدي القوم الظالمين? فالمعاصي والنور العلمي الفكري شيئان متنافران، قال ابن القيم: (لما جلس الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية). وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
……………فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بان العلم نور
……………ونور الله لا يُهدى لعاصي(1/43)
…وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عندما سئل: من نسأل
بعدك؟ فقال: سل عبدالوهاب. قيل: إنه ليس له اتساع في العلم فقال أبو عبدالله: انه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق (1). فالتقرب إلى الله بالطاعات، والابتعاد عن المعاصي من بديهيات النجاح في اكتساب العلم ومحاربة الجهل، وفي الختام فإنه من الضروري أن نقتنع كأفراد وكشعوب بأن العلم ثروة، وأنه ميراث الأنبياء وأنه أهم بكثير من المال، قالى تعالى: ?قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب? (9) (سورة الزمر)، وقال ابن القيم رحمه الله: وفضل العلم على المال يُعلم من وجوه: أحدها أن العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الملوك والأغنياء، والثاني أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله، والثالث أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو على النفقة، والرابع أن صاحب المال إذا مات فارقه ماله، والعلم يدخل معه قبره، والخامس أن العلم حاكم على المال والمال لا يحكم على العلم، والسادس أن المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن، والسابع أن العلم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال إنما يحتاج إليه أهل العدم والفاقة، والثامن أن النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله وذلك من كمالها وشرفها والمال لا يزكيها ولا يكملها ولا يزيدها صفة كمال بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه، فحرصها على العلم عين كمالها، وحرصها على المال عين نقصها، التاسع أن المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء، والعلم يدعوها
إلى التواضع والقيام بالعبودية، فالمال يدعوها إلى صفات الملوك، والعلم يدعوها إلى صفات العبيد، والعاشر أن العلم جاذب موصل لها إلى سعادتها التي خلقت لها، والمال حاجب بينها وبينها، والحادي عشر أن غنى العلم أجلُّ من غنى المال فإن غنى المال بأمر خارجي عن حقيقة الإنسان لو ذهب(1/44)
في ليلة أصبح فقيراً، وغنى العلم لا يخشى عليه الفقر بل هو في زيادة أبداً".
ـــــــــــــــــــ
(1) ص 10 كتاب الورع - للإمام أحمد بن حنبل دراسة وتحقيق محمد السيد بسيوني زغلول.
…الانحرافات الشعبية في النوايا والأعمال
…الواقع هو كتاب كبير بحاجة إلى قراءة، وإذا شاهدنا واقعا كله خير وحب وتعاون وعدل وشوري واجتهاد... الخ فإن هذه الثمرات الحلوة هي لبذور طيبة في النفوس والعقول، فبالتأكيد أن هناك ضمائر حية وإخلاص وعلم، وإذا شاهدنا واقعا كله شر وظلم واختلاف وكسل وحسد وتفرق فإن هذه الثمرات المرة دليل على أن النفوس والعقول ممتلئة بالنفاق والكسل والجهل والأنانية والقسوة، وعندما نعطي هذه الأمثلة المتطرفة فإننا نهدف إلى تقريب الصورة في العلاقة بين ما في النفوس والعقول، وما في الواقع، لأن الواقع فيه خير وشر، وعدل وظلم.. فإذا زادت نسبة الظلم أو الشر في واقع ما، فلنتذكر فوراً الارتباط الكبير بين النفوس والواقع، ولنتيقن أن ما نشاهده في واقعنا هو ما نستحقه، ومن الخطأ أن نظن أن الواقع سيء بدرجة كبيرة في حين أننا جيدون بدرجة كبيرة، وأن سبب هذا الواقع هو أن حكومة أو اتجاها أو حزبا هم المسئولون وحدهم عما وصلنا إليه، فالواقع هو حصيلة ما في نفوس المجتمع جميعا فرداً فرداً من خير وشر وهؤلاء الأفراد يتجمعون في أسر وقبائل ومناطق وحكومات وأحزاب وجماعات وشركات وجامعات، وإذا كان إثبات وجود ضعف (انحراف) علمي شعبي عملية سهلة، فإن إثبات وجود انحرافات كبيرة في النوايا والأعمال عند الشعوب عملية سهلة أيضاً، هذا إذا كان الإسلام بعقائده وعباداته وأحكامه وأخلاقه هو المرجع والمقياس الذي نحتكم إليه، فمن السهل أن نعمل دراسات حول نسبة المصلين أو أعداد الممتنعين عن الزكاة أو المتعاملين بالربا، وغير ذلك وهذه قضايا أساسية ومعروفة في الدين، ومع هذا نجد انحرافات شعبية هائلة فيها، أي أن الالتزام بالمبادئ ضعيف، فأبو بكر رضي(1/45)
الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وبعض كبار العلماء كفروا تارك الصلاة، فهل أجبرت الحكومات الشعوب على ترك الصلاة، أو منع الزكاة، أو التعامل بالربا أم أنها أجبرتهم على الأهمال في العمل أو التبذير او الكسل أو النفاق أو الحسد أو التعصب العرقي؟! واغلب هذه الأمور هي أشياء
داخل نفوسنا لا تستيطع الحكومات فرضها أو تغييرها أو معرفة حقائقها، وإذا أردنا أن نعرف مزيداً من الانحرافات الشعبية فلنسأل بعض المقاولين عن كفاءة العمال ولنسأل العمال عن جشع بعض المقاولين، ولنسأل المدارء عن الموظفين والعكس ولنسال الزوجات عن الأزواج والعكس ولنسأل المدرسين والطلبة والمحامين والفقراء والتجار والشرطة.... الخ وسنجد انحرافات كثيرة تثبت أن ما نشاهده في واقعنا السياسي أو الاجتماعي أو غيرهما من شر وخير هو في غالبيته ذو مصدر شعبي، وسندرك أن الفرق بيننا وبين إيجابيات الغرب ليس فقط بين حكوماتنا وحكوماتهم، بل هو أيضا بين موظفينا وموظفيهم، ومعلمينا ومعلميهم، واحزابنا وأحزابهم، وطلبتنا وطلبتهم وعمالنا وعمالهم..... الخ. ألم يقل الشيخ محمد عبده رحمه الله قبل قرن عندما زار أوربا: "وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين ووجدت هنا المسلمين ولم أجد الإسلام" وأحيانا تصل الانحرافات الشعبية في العقائد والأعمال والنوايا إلى حد إخراج أصحابها من الأسلام، فهناك حدود للانحرافات في الاسلام والانحرافات عموما هي الاستثناء لا القاعدة في حين أننا كثيرا ما نشاهد العكس. وعموما فلا يمكن أن نتغلب على ما نشاهده في واقعنا من فقر وحروب وتفرق وتخلف وظلم إلا إذا اقتنعنا بأن السبب الأول والرئيسي لكل هذا هو وجود انحرافات شعبية في العلم والعمل والاخلاص، وإليكم أمثلة واقعية تثبت أن الانحرافات التي نشاهدها في أغلبها ذات جذور شعبية:
…1- قامت انقلابات عسكرية عديدة في الوطن العربي، وأغلبها فشل
في إصلاح الأوضاع، وأنتج أنظمة ظالمة ومستبدة، وعلى سبيل المثال(1/46)
سيطرت على الجيش المصري خلال الفترة من 1962 إلى 1967 قيادات
شعبية مئة في المئة في شعارتها وفي أفرادها وفي أصولها، فطغت
وتفرعنت، ولم تهتم بواجباتها العسكرية، ولم تطبق شعار الرجل المناسب
في المكان المناسب، وخانت إسلامها، ومصالح مصر، ففتنة السلطة
والمال عندما لامست نفوسها، وسمحت لهذه النفوس أن تظهر ما بها،
ظهر الغرور والطمع والفساد الأخلاقي، وكان من الطبيعي جداً أن ننهزم شر هزيمة في يونيو 1967، وإذا كان هذا المثال قديماً نسبياً فتأمل في الحرب الأهلية الأفغانية، أو في القتال القبائلي في الصومال فهذا البلدان بلا حكومة فعلية حتى نتهمها بأنها السبب، وانظر في الواقع الشعبي العربي خلال الغزو العراقي للكويت لترى انحرافات شعبية كثيرة في الأعمال والأقوال والنوايا في حين أن أغلبنا كان يظن قبل هذا أن اختلافاتنا هي اختلافات حكومية، وأن شعوبنا واعية ومخلصة وشقيقة، وندعو لرؤية الصور الحقيقة لا الصور الظاهرية للأفراد والجماعات والقبائل والشعوب، ولنصدق الأعمال لا الأقوال والشعارات، قال الأستاذ أنيس منصور: "عندما نتكلم فكلنا أصحاب مبادئ، وعندما نعمل فكلنا أصحاب مصالح" فكثرة الاختلافات بيننا كأفراد ودول وجماعات وأحزاب حول قضايا رئيسة دليل على وجود "إنحرافات" في علمنا ونوايانا وأعمالنا. والاتفاق دليل على حرصنا على نفس العقائد والمصالح، وعلى صدقنا، فأهداف ومصالح الدين والأمة ضعيفة، وغير موجودة في نفوس كثيرة، قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "ولكن قولوا لي أين الإسلام اليوم؟ إن المسلمين ليست فيهم السيرة الإسلامية، ولا الخلق الإسلامي، ولا الفكر الإسلامي. ولا شئ من الحماسة الإسلامية، إن الروح الإسلامية الخالصة لا توجد في مساجدهم، ولا في مدراسهم ولا في زواياهم"(1) وقال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين(1/47)
رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجدة الذي يؤذن فيه"(2).
…2- قياس التزام فرد أو أسرة أو شعب أو أمة بالمبادئ. هو بقراءة
ــــــــــــــــــ
(1) ص 49 نحن والحضارة الغربية، الأستاذ ابو الأعلى المودودي.
(2) ص 92 مختصر صحيح مسلم للألباني.
واقعه وأعماله وسلوكه وأخلاقه، ومن الأدلة الاجتماعية الواضحة على أن انحرافاتنا هي في غالبها شعبية الجذور هو ما نراه من تعصب عرقي لعائلة أو قبيلة أو شعب أو أمة، هذا التعصب الذي أنتج أعمالاً وسلوكاً أثرت في تطبيق القوانين، وفي تشريعات وانتخابات سياسية ومهنية، وفي الزواج وفي سخرية وعنصرية وأقوال، وفي ربط الانتماء العرقي بصفات الخير والتي عادة ما تكون صفاتنا وفي الشر والذي عادة ما يكون في الآخرين، فكثيرون منا لا يتحركون لتصحيح التعصب لعوائلهم وقبائلهم وشعوبهم، بل إن بعض هؤلاء ضمائرهم ليس فيها مثقال ذرة من الإيمان بأن التعصب جاهلية وظلم، فلا يأمرون بمعروف في هذا المجال، ولا ينهون عن منكر، بل يسيرون مع التيار، أو يصمتون، فليس عندهم استعداد للالتزام بالمبادئ الإسلامية، ونفوسهم على استعداد للتخلي عن حملها إذا ما تعارضت مع مصالح فئاتهم العرقية، فهم ينتخبون المرشح الذي ينتمي لهم عرقياً حتى لو كان أسوأ المرشحين، اي هم يمارسون الواسطة العلنية في المناصب التشريعية وسيمارسونها في المناصب التنفيذية لو استطاعوا وهذا فيه خيانة الإسلام والوطن، وبعض هؤلاء يعلمون أن هذا ظلم، ومع هذا يفعلونه بإرادة حرة لم تجبرهم حكومة، ولكن حتى يكونوا محبوبين من أصولهم العرقية، وحتى يصلوا إلى مناصب أو مصالح ولا شك أن المقياس للالتزام بالإسلام هو تطبيقه قدر ما نستطيع فيما نحب وفيما نكره وفيما يتعلق بمصالحنا وطموحاتنا، وفي أسرنا وقبائلنا وشعوبنا وفيما يخالف شهواتنا، وهذا الالتزام له تكاليف وله تضحيات وهو(1/48)
مسئولية وأمانة، إلا أن حبنا للعدل وللحق ولنبينا يجب أن يكون أكبر، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وبهذا الأسلوب صحح الانحرافات، وحقق الإصلاح، وحقق المكاسب الكثيرة لقبيلته وللعرب وللبشر، وقد يقول قائل إن الانحرافات في هذا الموضوع نتيجة الجهل، ونقول أحيانا تكون كذلك، ولكنها في الغالب تأتي ممن يعلمون سؤاء كانوا مثقفين أو غير مثقفين، وهذا واقع شاهدناه في عوائل وقبائل وشعوب.
…3- كثيراً ما نسمع تذمراً كبيراً من التخلف الإداري، ونرى مخرجات من التخلف في إهمال وظلم ونفاق وواسطات وتأخير... الخ. وقبل أن نظن أن أصحاب هذا التذمر ملائكة علينا أن نقرأ الواقع الإداري بصورة صحيحة، وعلينا أن نتاكد أن هؤلاء يتقنون أعمالهم، وأن مصالح الوزارة أو الشركة أو الدولة هي التي تهمهم، وأن هناك أدلة قاطعة على اجتهادهم في أعمالهم، أو على الأقل استعدادهم للاجتهاد إذا أعطيت لهم الفرصة، وإذا صدقنا الأعمال لا الأقوال سنجد أن السبب الرئيسي للتخلف الإداري هو نحن الشعوب، فقد علمتنا الأيام أن كثيراً ممن يتذمرون من التخلف الإداري هم سببه، فهم كسولون ولا رغبة عندهم في العمل، فكم من مهمة تم إعطاؤها لهم فجاءت النتيجة متواضعة جداً، أو فاشلة، ولو سألت رؤساءهم لأخبروك أنهم يتأخرون في إنجاز الأعمال، ويرفضون أداء أعمال مطلوبة، أو ليس عندهم اهتمام بتطوير علمهم في مجال تخصصهم، وكثير من هؤلاء الموظفين ينافقون لرؤسائهم، وليسوا على استعداد للمساهمة في التطوير الإداري، بل كثيراً ما يزرعون اليأس والتشاؤم أمام أي عمل أو أمل أو محاولة إصلاحية، وبعض هؤلاء المتذمرين يتخلون عن مسئولياتهم وواجباتهم حتى يسكت رؤساءهم عن إهمالهم أو حتى يضمنوا ترقيات ومناصب، أما مصلحة الوطن ومبادئ الإسلام فهي لا تهم وتجد من ينصحك بالنفاق والسكوت حتى تترقى، وبعض هؤلاء ليسوا مجبرين على ذلك، بل أن الأغلبية ليست مجبرة على هذا الإنحراف، ومع هذا تفعله(1/49)
باختيارها، وبعضها لديه المال والأمن المالي، ومع هذا ينحرف إهمالاً وكسلاً، أو رغبة في منصب أعلى. وتخلى الكثير منا عن واجباتهم في الجانب الإداري، وهو جانب ليس فيه خطر السجون والنفي والاضطرار وهذا دليل على ضعف أو غياب المبادئ في نفوسنا، وعموما فالبيئة الإدارية فيها صراعات وعداوات شخصية ومصالح وعقائد متناقضة، فلنحسن قراءتها حتى نكون واقعيين.
…هذه الأمثلة تثبت أن كثيراً من العسكريين والإداريين وأهل التعصب العرقي هم أفراد منا، ولديهم انحرافات وأن هؤلاء وغيرهم على استعداد
للتمرد على المبادئ، متى ما وجدوا الفرصة، فالقابلية للانحراف موجودة عند تجار وفقراء وأحزاب وجماعات، فإذا وجد بعض التجار فرصة غش وزاد في السعر، والأمثلة كثيرة وزيادة التعليم والديمقراطية والغنى لن تغير الواقع بل يغيره ما في النفوس، فالغنى يتحول عند النفوس المنحرفة إلى تبذير وطغيان، ومظاهر ومخدرات وكماليات تافهة وهذا واقع مشاهد، والديمقراطية تصبح ساحة للتعصب والصراع والتنافس غير الشريف، وهكذا، قال الأستاذ أحمد بهجت: " إن الخراب الذي تفرزه الحياة، والظلم المدجج بالسلاح والمآسي التي تقع في عالمنا تعود أولاً وأخيراً إلى خراب النفوس. إن النفوس حين تصير كالأرض البور لا ترى في الحياة إلا مصالحها القريبة تغشى عيونها عن رؤية العدل، أو الإنصاف أو المصالح البعيدة، ولا ترى أبعد من أنفها، عندئذ تقع الكارثة"!!(1/50)
وهناك ملاحظة هامة لا بد من ذكرها، وهي أن محاولة إصلاح الشعوب تصطدم بصعوبة كبيرة، وهي أن من اصعب الأمور على الفرد والحزب والجماعة والقبيلة والشعب الاعتراف بوجود انحرافات كبيرة. وحيث أننا ننظر بقدسية إلى نفوسنا وقبائلنا وشعوبنا وتكتلاتنا، وإذا انتقدنا أحد اتهمناه بأنه حاسد أو عدو أو جاهل أو حتى مؤامرة أجنبية، حتى لو جاء هذا النقد ممن ينتمي لنا وكثيراً ما نقابل النقد بهجوم على الآخرين، وعلى سبيل المثال فلا زالت كل شعوبنا العربية ترى أن ما أخذته من مواقف وأعمال ونوايا خلال الغزو العراقي للكويت صواباً سواء كان مع الغزو أو ضده، أو على الحياد أي نجد هذا التناقض الشديد في الاقوال والأعمال والنوايا والزلازل العقائدي والقومي والسياسي والعسكري ونظن جميعا أننا التزمنا بإسلامنا وبعروبتنا وبمبادئنا، وأن الآخرين هم الذين خانوا وانحرافوا وكفروا وظلموا، وجزء من العلاج هو في الحوار الهادئ، وفي تحكيم المخلصين الواعين لإسلامهم وعروبتهم من علماء وسياسين، وسنعرف انحرافاتنا وأخطاءانا، وسنعرف العالم من الجاهل والمخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، حتى لا تتكرر مصائبنا، أو تأتي مصائب جديدة لشعوبنا دور كبير في إيجادها!!
أمثلة من الانحرافات الشعبية
أ- جنون العلمانية(1/51)
لسنا نبالغ عندما نقول إن العلمانية (اللادينية) هي العدو الأول للأمة العربية المسلمة، وأن العلمانية هي أحد الأسباب التي مزقت الأمة والبشرية شر تمزق، وذلك لأن مرض العلمانية يصيب العقول بالتلوث، فيفقدها القدرة على التفكير السليم، فتتخبط في عقائدها واقتناعاتها وأقوالها وأفعالها، فتقود الشعوب والأمم للتفرق والضعف والهلاك. فالعلمانيون كالمجانين لا يهتدون ويتناقضون في تصوارتهم وأقوالهم. والعلمانيون مقتنعون بأنهم بإمكانهم بعقولهم المجردة، وبدون الحاجة إلى نور الحقائق في القرآن والسنة الوصول إلى جميع الحقائق، فهم يجهلون قول الله سبحانه وتعالى: ?ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور? (سورة النور: 40)، ويطالب العلمانيون باتباع العقل البشري، ونقول لهم أي عقل بشري نتبع؟ فالراسماليون لهم عقول، وكذلك الشيوعيون والبوذيون والنازيون وغيرهم، فكل هؤلاء استخداموا عقولهم وكلها عقول بشرية ولكنهم لم يتفقوا، ولم يصلوا إلى كل الحقائق، بل وصوا إلى اقتناعات فيها جهل وغباء وسخافة. ووجد الفكر العلماني تأييداً عند بعض الأنظمة الحكومية، وكذلك وجد تاييداً شعبياً وتبناه أحزاب وأفراد ومفكرون وأساتذة جامعيون وسكت عنه جهل أو علم كثير من المسلمين، ولا زال البعض وحتى يومنا هذا لا يدرك خطر العلمانية، وإذا أدركت شعوبنا شرها فلنعلم أننا حققنا تقدماً عقلياً وعلمياً هائلاً سيساهم في انقاذنا وإنقاذ البشرية من الضياع العلماني، وسنناقش في النقاط التالية موضوع العلمانية بشئ من التفصيل:
1- في كتاب الطريق إلى الوحدة الشعبية:
أ- قلنا " إنه ليس هناك تناقض بين العلم والإسلام، وأن الإسلام هو منبع الحقائق المتعلقة بالإلهيات والشرائع والإنسان، وأن الإسلام دين عقلي".(1/52)
ب- وقلنا "إن إرضاء الأقليات غير الإسلامية لا يتم برفض النظام الإسلامي لأن تطبيق النظام الإسلامي واجب لا يمكن أن يتنازل عنه المسلمون، وأن المعادلة الصحيحة هي حكم الأكثرية وحقوق الأقلية".
جـ- وقلنا: قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "أما قضية فصل الدين عن الدولة بمعنى إقصاء الدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع فإنها المكون الرئيس من مكونات العلمانية الذي لا يسع مسلماً قبوله".
د- وقلنا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر".
…2- فكر الغرب بطريقة علمانية، فوصل إلى ان الرأسمالية هي العقيدة الصحيحة، وماركس ولينين فكرا بطريقة علمانية أيضا فوصلا إلى أن الشيوعية هي العقيدة الصحيحة، وغيرهم وصل إلى النازية والاشتركية ... الخ ولدى كل
هؤلاء " الحقائق والمبررات العلمية" التي تثبت من وجهة نظرهم أن ما توصلوا إليه هو الحق والصواب، وهذا دليل قاطع على خطأ الأسلوب العلماني لأن هذه "الحقائق" متناقضة، والحقائق لا تتناقض مع بعضها، وفكر هؤلاء وغيرهم من العلمانيين في القضايا العقائدية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية فوصلوا إلى آراء واجتهادات كثيرة ومتناقضة، فاختلفوا حول معاني الحرية والعدل
والشورى وقوانين الزواج والطلاق والميراث وأحكام التجارة والاقتصاد .... الخ. ومع هذا تظن كل فئة منهم أنهم مهتدون، وأن بقية العلمانيين ضائعون
وضالون وجهلاء، فالعلمانيون كالفلاسفة في كل زمان ومكان يقرأون
كثيرا، ويجادلون كثيرا، ويكتبون كثيرا، ولكنهم لا يتفقون على شيء والسبب ببساطة هو أنهم لم يصلوا إلى حقائق واضحة يتفقون عليها مع أنهم
استخدموا عقولهم كثيراً. وقلد بعض المسلمين قديما نتيجة تأثرهم بالفلسفة(1/53)
اليونانية بعض المفاهيم العلمانية فيما يسمى بعلم الكلام، فتخبطوا وضلوا، قال الإمام الشافعي رحمه الله "لو يعلم الناس ما في علم الكلام لفروا منه فرارهم من الأسد" وقال "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان ارسطاطاليس"(1) وقال الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا"(2)
وقال:
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا……سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
…وقال محمد بن عبدالكريم الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها……وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر………على ذقن أو قارعا سن نادم
…وواجه العلمانيون على اختلاف مدراسهم قديما وحديثا صعوبة الوصول إلى الحقائق، وفي نفس الوقت لابد من اختيار عقيدة ودستور وقوانين ومناهج تربوية، فلم يعلنوا عجزهم وجهلهم بل أعطوا أي إجابات حتى لو كان بعضها سخيفا، فقال الشيوعيون مثلا (لا وجود لله) وسخروا من الدين، ومن قيم اجتماعية وحاجات نفسية... الخ. ولم يستطيعوا إقناع الناس بأن ما توصلوا له حقائق، فقد كان عند الناس أدلة وحجج كثيرة تثبت تفاهة التفكير العلماني الشيوعي، فكانت ردة الفعل الشيوعية هي الاستبداد السياسي والإعلامي والتربوي، وكلما كان الفكر هزيلا احتاج للبطش ليحميه، ومع هذا لم ينفع الاستبداد فقد سقطت الشيوعية سقوطا خياليا، وفشلت سياسيا وعقائديا واقتصاديا، فالقوة لا تستطيع حماية الجهل العلماني طويلا، فأين اليوم الشيوعيون المتشدقون بالعلمية والتقدمية بعد أن كفرت بها روسيا والصين وأوربا الشرقية؟ أما العلمانيون الرأسماليون فكانوا
ــــــــــــــــــــ
(1) ص 47 مواقف أهل السنة من المناهج المخالفة لهم - الأستاذ عثمان على حسن.
(2) ص 42 العقيدة في الله - الدكتور عمر سليمان الشقر.(1/54)
أذكى بكثير فلم يتطرفوا في ادعاء العلمية، بل حرصوا على مصالحهم المادية، وشهواتهم الجنسية، وتركوا كثيرا من الأسئلة بدون إجابات، ولم يدعوا أن علمانيتهم توصلهم لكل الحقائق، فلم يحددوا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ في كثير من العقائد أو العبادات أو الأمور السياسية والاجتماعية وقالوا أنت حر في عقائدك وعبادتك وحياتك الشخصية، فيجوز أن تعبد الله، أو تعبد صنماً، أو لا تؤمن بشيء، ولتختر كل دولة إلى درجة كبيرة ما تشاء من قوانين اجتماعية أو سياسية أو عقوبات أو غير ذلك، وهذا الهروب علق كثيرا من القضايا، وتركها بدون حل، والظاهر أنهم تعبوا من الجدل والنقاش، ولا شك أنهم وصلوا لبعض الحقائق بعقولهم المجردة، فقد اقتنعوا بالديمقراطية وآمنوا بحرية الرأي كقاعدة أساسية، وبحقوق الإنسان حتى لو طبقوها فقط على شعوبهم، ووصلوا إلى تقدم هائل في الحقائق التكنولوجية لأن الوصول لها يتم باتباع اسلوب عقلي بحت، وهو أسلوب التجربة والمشاهدة والاستنتاج، ووصولوا لبعض الحقائق الفكرية وكثير من الحقائق التكنولوجية، وفشل الرأسماليون العلمانيون في الوصول للحقائق العقائدية والاجتماعية... الخ هو أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت بعض عقائدهم تافهة، وأنانية، وأدى إلى تفكك اجتماعي، وأمراض نفسية، وأدى إلى سيطرة المصالح، والشهوات على حياتهم، فمبادئهم ضعيفة لا تزرع الثقة والوعي والاقتناع، فالمرض العلماني الذي أصاب عقولهم جعلهم في حالة فوضوية متناقضة، وهذه الفوضى ليست حرية حتى لو أعتقدوا أنها كذلك. فالغرب لم يتبع العقل والعلم، بل اتبع مصالحه وشهواته وخاصة في القضايا التي عجزت عقولهم عن الوصول إلى حقائق واضحة فيها كحدود الحرية الشخصية ودور المال في الحياة والعلاقة مع الدول النامية.
…3- أوصل التفكير العلماني الغرب للراسمالية، والشرق للشيوعية،
وآمن بعض مثقفينا العرب به فاقتنع بعضهم بالرأسمالية، واقتنع آخرون(1/55)
بالشيوعية، واقتنعت فئة ثالثة بالاشتراكية، وفئة رابعة بخليط من قومية
واشتركية... الخ فتمزقت العقول في الأمة إلى اتجاهات واقتناعات وعقائد وقوانين ودساتير متناقضة، فيكف يتفق العرب وعقولهم مختلفة وعقائدهم متناقضة، وتصوراتهم متصادمة؟ ونحن نتكلم فقط عن المخلصين لا المتاجرين بالشعارات والمبادئ وما أكثرهم. وظن بعض المخلصين من العلمانيين أن زيادة العلم والمدارس والتجارب والثقافة ستجعلنا نتفق على حقائق عقائدية وسياسية... الخ ولم يحصل هذا ولن يحصل ابدا. واستمرت خلافاتنا حول كل شئ تقريبا فهل نتحالف مع الغرب أو الشرق أو نقف على الحياد؟ وهل نسمح بالربا أو نمنعه؟ وهل نشجع القطاع الخاص أو نحاربه؟ وما هي فلسفتنا التربوية؟ وما هي حدود الحرية الشخصية والإعلامية؟ ... الخ وأغلب هذه الاختلافات هي اختلافات جذرية، وليست اجتهادية، والاختلاف الجذري هو شر كله، وهو يؤدي إلى التفرق والضعف والعداوة والبغضاء فكل مخلص سيصر على ما يعتقد أنه حق وصواب ويعتبر ذلك مبادئ لا يقبل الانحراف عنها، ومن وصل من هؤلاء إلى السلطة طبق قناعته بالقوة، فظلم واستبد وانحرف، أما من لم يصل فلا يستطيع ان يلتقي مع الآخرين لأن الاختلافات جذرية، فالعلمانية هي التي جعلت الاختلافات الشعبية كبيرة، فزرعت الضعف والتفرق. فلا توجد قوة مخلصة سواء في السلطة أو خارجها قادرة على النمو وتكوين قاعدة شعبية كبيرة، أو حتى على الاتفاق حول بعض القضايا الرئيسة فالمبادئ والعقائد العلمانية كثيرة ومتناقضة. ولا يوجد نظام علماني متفق عليه، أو حتى خطوط عامة، فمن ناحية نظرية وواقعية أصبحت أمتنا بلا دستور، وبلا عقيدة وبلا نظام، وبلا رؤية، وبلا قوانين، وغياب كل هذا سيؤدي إلى سيطرة الأفراد والمصالح والانتماءات العرقية، واللصوص
والخونة والفساق، فالعلمانية ترفض النظام الإسلامي، وفي نفس الوقت(1/56)
لا تطرح بديلا محددا، فيتلاعب المنحرفون بالشعارات والمبادئ العامة، ويقف المخلصون حائرين متفرقين بلا نظام، وبلا علم، وبلا حقائق، ورفض
العلمانية للإسلام جعل كل مسلم عربي واع عدوا لها، فهي كفر وإلحاد
فكيف نتوقع أن تقبل الأمة التي حملت راية التوحيد
للبشرية بالكفر في عقر دراها؟ والمسلمون لم يضيعوا كما ضاع العلمانيون، بل آمنوا بالحقائق العقائدية والسياسية والاقتصادية... الخ الموجودة في القرآن والسنة، فبالإسلام عرفوا العدل من الظلم، والبيع من الربا، والانتماء العرقي من التعصب، وعرفوا صفات المنافقين وحدود الحرية الشخصية، وحقوق وواجبات الحكومة، والحلال من الحرام، وحقائق أخرى كثيرة جداً، فلا داعي للاختلاف والجدل والتفرق، فالحقائق مكتوبة وواضحة، قال تعالى: ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين? (سورة النحل: 89). وقال تعالى ?وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون? (سورة النحل: 64). وقال تعالى: ?أفمن يمشي مكباً على وجهة أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم? (سورة الملك: 22)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" وعندما يختلف المسلمون (حكومات أو أحزاب أو جماعات أو أفراد) فإنهم يحتكمون إلى آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الإسلام، وأما العلمانيون العرب أو غيرهم فلا يوجد لديهم مراجع يحتكمون إليها، فتبقى اختلافتهم بلا حل مهما اجتمعوا، وتناقشوا وتحاكموا، وإذا وصلوا إلى حلول جزئية أو اتفاقات محدودة فستظل الأغلبية الساحقة من القضايا مختلف حولها، في حين أن المسلمين إذا ابتعدوا عن الأهواء والمصالح والشهوات أي هم من ناحية علمية متفقون على قضايا كثيرة جدا، وباختصار فالعلمانية في أمتنا العربية أشعلت نار الفتنة بين أنصارها، وكذلك أشعلتها بينهم وبين المسلمين،(1/57)
والعلمانية عقيدة ضعيفة لم تستطع هزيمة العقائد الدينية المنحرفة أو العنصرية أو المصلحية أو الشهوانية أو الفلسفية في حين أن العقيدة الإسلامية بما تملكه من حقائق وأدلة وحجج قادرة على هزيمة الضلال العقائدي، والتعصب العرقي، والمصالح الشخصية الضارة، والطبائع الشهوانية.. وتحرير الإنسان من كل ذلك.
4- يوصلنا التفكير العقلي/ ولا اقول العلماني إلى الحقائق المادية من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج، ولهذا لا اختلاف بين الرأسمالين والشيوعيين والمسلمين حول حقائق الذرة والصاروخ والطب والزراعة.. الخ ولكنه لا يستطيع الوصول للحقائق الفكرية أي الحقائق العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالإنسان ليس مادة تخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج، فكل ماء يغلى عند درجة مئة مئوية، في حين أن ليس كل إنسان يزيد من إنتاجيته إذا حصل على ترقية، أو يعامل زوجته معاملة حسنة، أو يقابل الإحسان بالإحسان، أو غير ذلك، فكيف إذن نتعامل مع هذا الإنسان؟ وكيف نصل للحقائق الفكرية التي تحقق العدل والحق والصواب والخير والسعادة؟ والأسئلة الفكرية كثيرة منها هل لهذا الكون خالق؟ وما الهدف من خلق الإنسان؟ وهل الربا عدل أم ظلم؟ وهل هناك حقوق للفقراء على الأغنياء؟ وما هو موقعنا من اختلافتنا العرقية؟ وما هي العلاقة الصحيحة بين الزوج والزوجة أو الاباء والأبناء؟ وهل الإجهاض عمل مشروع؟ وهل الديمقراطية نظام صحيح أم نظام خاطيء؟ وهل الزنا فضيلة أم رذيلة؟ وغير هذه الأسئلة الكثيرة. ولو حاول العلمانيون الوصول إلى إجابة صحيحة في توزيع الميراث لاختلفوا فالبعض قد يرى أن الصواب هو توزيع(1/58)
الميراث بالتساوي بين الأبناء، في حين أن آخرين يرون أن للوالدين نصيب ومجموعة ثالثة ترى للأخوة نصيب كذلك، وسيختلفون في نسبة كل فئة من هؤلاء، فالآراء العلمانية كثيرة، ولكل منها مبرراته المنطقية، فأين العدل في هذه القضية؟! وستبقى الإجابة في الفكر العلماني متغيرة ومختلفة من فرد إلى آخر في حين أن الحقائق والصواب في موضوع الميراث وغيره واضحة من الفكر الإسلامي. ومهما ازداد العلمانيون علما وثقافة وخبرة فلن يصلوا إلى حقائق فكرية لأننا لا نعلم كثيرا من الحقائق المتعلقة بالإنسان، فنحن نجهل الكثير في مجال النفس والروح والانفعالات والأسباب والنتائج والدوافع وما يحدث
خلف الجدران، وبالتالي سيصعب علينا التشريع لهذا الإنسان، فإذا عرفنا
بعض الحقائق عن حياتنا الشخصية(1/59)
الزوجية فنحن نجهل ما يحدث في مئات الملايين من الروابط الزوجية، ومع هذا نجد العلمانيين يفتون في قضايا الزواج وغيره، ويشرعون ولكن أي كلام، فغرورهم مبني على الجهل، ولو كنا أهل علم لاعترفنا بجهلنا وعجز الإنسان عن إدراك كثير من الحقائق لصعوبة الوصول إليها مهما درس وتعلم، فالعلم البشري كله منذ أول إنسان إلى آخر إنسان، وفي كل فروع العلم المادية والفكرية هو قليل فما بالك بعلم فرد أو أفراد محدودين قال تعالى: ?وما أويتم من العلم إلا قليلا? وقال تعالى:?إن الله لا يهدي القوم الكافرين?، وليت العلمانيين وقفوا عند هذا الحد بل اعتبروا التشريع الإلهي تخلفا ورجعية، وهو اتهام لله سبحانه وتعالى بالجهل، وهذا كفر وزندقة، فأين العلمية عندما يتهم العلمانيون الله بالجهل وهم ليس لديهم العلم والمقدرة على خلق ذبابة واحدة والله هو خالق الكون والكائنات والإنسان ويعلم ما في السموات والأرض. والعلمانيون لا يتناقضون فقط في آرائهم بل حتى يغيروها من حين لآخر، فالاجهاض كان حراما، وعقوبة الإعدام اعتبروها عقوبة ظالمة، واليوم أصبح الاجهاض عندهم حلالاً وعقوبة الإعدام عادلة... فالعقل البشري عاجز لوحده، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل لهداية الإنسان من خلال بيان كثير من الحقائق له، ثم مطالبته بالاجتهاد ضمن هذه الحقائق. فالعقل البشري يجهل الكثير بل إن كثيراً من البشر لا يستخدمون عقولهم، وإليكم الأدلة على ذلك:
أ- حتى يصبح المرء طبيباً عاماً عليه أن يدرس سبع سنوات، وحتى يتخصص في أمراض الجلد أو غيرها يحتاج عدة سنوات إضافية، وسيبقى هذا الطبيب يجهل حقائق كثيرة عقائدية وفقهية وتاريخية وهندسية وإدارية
وسياسية واجتماعية وعسكرية، وأخرى في علوم الكيمياء والميكانيكا
والتجارة والقانون... الخ. وكل تخصص من هذه التخصصات يحتاج
عدة سنوات للتعرف على أساسياته، فالعقل البشري غير قادر على(1/60)
التعرف على كل الحقائق حتى يقتنع بها، ولهذا ارسل الله
سبحانه وتعالى الرسل حتى يعلموه الحقائق الأساسية في
العقائد والسياسة والحياة الاجتماعية والاقتصادية وأعطى الله سبحانه وتعالى الرسل المعجزات حتى يقتنع العقل البشري بصدقهم، وعموما فمساحة الجهل في عقولنا هي السائدة، قال تعالى: ?وما أوتيتم من العلم إلا قليلا? وسئل أبو يوسف عن شئ فقال: "لا أدري" فقيل له تأكل من بيت المال كل يوم كذا وكذا وتقول: "لا أدري"، فقال: "آكل منه بقدر علمي، ولو أكلت بقدر جهلي ما كفاني ما في الدنيا جميعاً".
ب- يجهل الإنسان كثيرا من الحقائق المحيطة به، فكم من رجل اختار زوجة ثم اكتشف أنها ليست مناسبة له، وكم طالب اختار تخصصا فعرف بعد ذلك أنه أخطأ في اختياره، فهناك من يعترف من الآباء أو الأمهات وبعد سنين طويلة أنهم اخطأوا في تربية ابنائهم وهناك من غيروا مبادئهم وعقائدهم أو مواقفهم السياسية والتي كانوا يرون في يوما ما أنها حق وصواب، فعقولنا ترتكب أخطاء كثيرة جداً في حياتنا الشخصية، فمن الخطأ أن نثق بها ثقة عمياء.
ج- لا يستخدم كثير من البشر عقولهم في البحث عن الحقائق، وأعداد هؤلاء بالمليارات!! فعقائد الاباء من أديان أو عقائد عنصرية أو خرافات يتوارثها الأبناء، فابناء المسيحيين واليهود والهندوس، وكثير من البشر يتأثرون ببيئتهم أكثر ما يتأثرون بعقلهم، وكثير من هؤلاء انشغلوا بأمور معيشتهم أو بشهواتهم أو جمع المال. وهؤلاء جميعا يؤلفون الكتب، ويتكلمون ويدافعون عن عقائدهم أو سلوكهم بحماس شديد، وهي عقائد اقتنعوا بها بدون دراسة وعقل وبحث أو لمصالح لهم وشهوات. وبعض البشر قد يقتنع بحقائق معينة، ولكنهم لا يتبعونها، وكثير من المسلمين يفعل ذلك، قال سفيان بن عيينة: "ليس العاقل الذي يعرف الخير والشر إنما العاقل الذي إذا رأى الخير اتبعه، وإذا رأى الشر اجتنبه".(1/61)
د- يقدر العقل على اكتشاف بعض الحقائق مثل هل لهذا الكون خالق أم لا؟ وهل هؤلاء أنبياء أم لا؟ أما ما هي صفات الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا خلقنا؟ وهل هناك جنة أو نار؟ وما هو تفسير كثير من الظواهر ذات العلاقة بالنفس البشرية وبالجن فإنه لا يستطيع إعطاء إجابات علمية، كما لا يستطيع الوصول إلى كل الحقائق الاجتماعية والاقتصادية، بدليل تناقض عقول الرأسماليين والشيوعيين والعنصريين ... الخ في هذه المواضيع.
هـ- من سابع المستحيلات أن يستطيع الإنسان البحث عن الحقائق في العقيدة والأحكام المختلفة والعلوم المادية والطبية حتى يقتنع بها، فالعلم محيطات من المعارف والحقائق، ولهذا عليه أن يقبل ويستسلم ويثق فيما يقوله العلماء كل في مجال تخصصه، ولهذا يصدق الأطباء والعسكريين والاقتصاديين، وإذا كان هذا هو ما يحدث، أليس من العقل أن يصدق ويثق فيما يقوله الأنبياء من حقائق عقائدية وتشريعية، خاصة وأنهم مدعومون بالمعجزات العقلية التي تثبت صدقهم وعصمتهم، بل إن الثقة فيهم هي في حقيقتها ثقة بالله سبحانه وتعالى الذي خلق الكون، ويعلم كل ما فيه. والعلمانية تطالبه ألا يثق بشيء إلا إذا بحث عنه علمياً، واقتنع به، وهذا مستحيل لأن العلم محيطات من الحقائق، فالإيمان الحقيقي بالعلمانية يعني رفض كل ما يقوله الأطباء والمهندسون وغيرهم لأننا لم نتأكد من صواب علمهم، بل إن الحياة مستحيلة عندما تقول كطالب يجب أن أقتنع بالمناهج الدراسية قبل أن أدرسها، ثم تقول كموظف يجب أن اقتنع باللوائح قبل أن أطبقها، وتقول كمواطن لا تطبقوا على القوانين حتى اقتنع أنها صواب أولاً.
5- يحول الاقتناع بالعلمانية الإنسان إلى إنسان مادي لا يؤمن إلا بما يقوله العقل، ويكفر بكل ما في الدين ويعتبره رجعية، وتخلف، فتنقطع علاقته(1/62)
بالمسجد أو الكنيسة، وتضمحل أو تنعدم العقائد الدينية، والأخلاق والمبادئ، فتنقطع أو تضعف كثيرا علاقته مع الله سبحانه وتعالى، ويجهل سيرة الأنبياء والصالحين، ومن يبتعد عن الله سبحانه وتعالى فإنه يقترب من
الشيطان والضلال والشهوات والماديات. والقرب من الله يزكي الإنسان، ويجعل في قلبه الرحمه، وحب الخير، ويدفعه للأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقات، وصدق، وعفة، وعلاقات طيبة مع والديه وأسرته، وجيرانه، وأقاربه، ومعلوم أن أفضل البشر أخلاقاً وعلماً وحكمة ورحمة هم ممن التزموا التزاما واعيا وصحيحا بالدين، فهولاء لا يسرقون، ولا يقتلون، ولا يكذبون، ولا ينافقون، أما من ابتعد عن الدين، فتوقع منه كل أنواع الشر، فقد يقتل ظلما في سبيل مناصب أو أموال، وقد يعق والديه، أو يرجع لأسرته سكيراً فيضرها أو يخون زوجته أو يتعصب لعرق أو يغش في تجارته أو يكذب في حديثه وما ينطبق على الفرد العلماني ينطبق على الدولة العلمانية، فهي دولة تعيش بلا إيمان، ولا روحانيات، ولا راحة نفسية، وكل ما يهمها المال، وأسعار البورصة، ونسبة البطالة، فلا شيء يهم عندها إلا الأمور المادية، قال جون جونز في كتابه في داخل أوروبا "إن الإنجليز يعبدون بنك انجلترا ستة يام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة" وباختصار إن القرب من الله هو أساس كل خير، والبعد عن الله هو أساس كل شر والعلمانية هي فكرة شيطانية تدعونا للابتعاد عن الله لأنها تفصل الدين عن الدولة، وتفصله عن حياتنا، فابتعادنا عن الدين هو ابتعادنا عن الله، لأن الدين هو الذي يعرفنا بالله سبحانه وتعالى، ويعلمنا كيف نعبده ونطيعه، كأفراد وكدول.(1/63)
…6- وصلنا بالعقل وبالأدلة الفكرية إلى أن وجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله بما جاء به من معجزة القرآن، وآمنا بأن القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة هما حقائق فكرية عقائدية واجتماعية وسياسية وبالعقل سنتمكن من فهم هذه الحقائق بصورة صحيحة بعيداً عن التعصب والجمود، وسنتعرف بالعقل على حقائق واقعنا، وسنستخدم كل هذه الحقائق في تحديد الحق من الباطل، والعدل من الظلم والصواب من الخطأ، والفقه الإسلامي هو عبارة عن اجتهاد بشري عقلي ضمن ضوابط وحدود وحقائق قرآنية تمنع العقل البشري من الضلال كما ضل العلمانيون، والاجتهاد قد يكون صوابا،(1/64)
وقد يكون خطأ، ولكن الخطأ، هو خطأ ثانوي أي اجتهادي، وهو اجتهاد في الفروع لا في الأصول، ولا يؤدي غلى التناقض والاختلافات الجذرية كما يحدث في الاجتهاد العلماني، فالالتزام بالمعلوم من الدين بالضرورة يمنع وجود الاختلافات الجذرية، ويحقق وحدة الأمة على القضايا الأساسية، أما القضايا الفرعية فيجوز فيها الاختلاف لاختلاف العقول والتجارب الشخصية والخبرة ودرجة العلم، وقد اختلف الأئمة الأربعة وغيرهم على قضايا فرعية، وكانوا يحبون بعضهم البعض لأنه هذه من أساسيات الإسلام، فلا مكان في الإسلام الصحيح للتعصب المذهبي، أو العدواة لاختلاف الاجتهادات الفكرية أو السياسية، وليس صحيحاً إطلاقاً ان الاجتهاد جعل المسلمين مختلفين حول كل القضايا، فهناك اتفاق إسلامي حول كثير من القضايا، ونحن نتحدث عن أغلبية العلماء المخلصين قديما وحديثاً، ولا نتحدث عن اجتهادات شاذة ومرفوضة لا تجد من يقف معها، أو اجتهادات لفرق إسلامية لم تلتزم بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وفي كل الأحوال فالمسلمون متفقون على قضايا كثيرة جداً أكثر من تلك التي يتفق عليها الشيوعيون أو الرأسماليون فالمسلمون الواعون تجدهم في كل مكان يحملون نفس الأفكار، ولهم نفس الأحكام والعبادات والعقائد والعادات، وتكونت مع مرور السنين ثروات عقلية هائلة من العلم والخبرة والاجتهادات والتجارب والحوارات الرفيعة والبحث العلمي والكتب القيمة، وهناك حاجة لزيادة هذه الثروات باجتهادات جديدة تناسب عصرنا، ونستفيد من خبرتنا الحياتية، وخبرة الشعوب الأجنبية، قال الدكتور أحمد كمال ابوالمجد: إن إقامة أحكام الإسلام في
عصرنا تختاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع
عاقلا إنكاره، فالنصوص - قرآنا وسنة- محدودة متناهية، والحوادث
متجددة غير متناهية، وحركة الزمن سنة من سنن الله، وحركة التشريع
لملاقاة تلك الحركة أمر من أمر الله"(1) وكان علماؤنا المخلصون قديما(1/65)
ــــــــــــــــــ
(1) ص 41 حوار لا مواجهة - الدكتور أحمد كمال أبو المجد.
وحديثا مدارس عقلية تبحث عن الحكمة والحقائق، فزيادة دور العقل بعد جمود فكري طويل عملية تصحيحية، أما العلمانية فهي عملية شيطانية، والظن بأن المسلمين لا يستخدمون عقولهم لوجود اجتهادات قديمة ظن خاطئ، فكثير من القضايا التي تواجه الحكومات والمجالس النيابية والقوى الشعبية والدعوة الإسلامية بحاجة إلى اجتهادات جديدة، وندعو إلى تشجيع الاجتهاد الجماعي متعدد التخصصات لتشعب كثير من القضايا، قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "وحين يمارس الاجتهاد، وتعرض على المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة، وتتسع لها، فإن الاختيار حينئذ لا بد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعي وتحليل حركته، لذلك وجب أن يستقر في ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهي الخالص لابد أن يتممه عمل اجتماعي واسع حتى تأتي ثمرته رحمة حقيقية للناس"(1).(1/66)
…7- من الأدلة الواضحة على ضياع العلمانيين وتخبطهم أن كثيرا من العلمانيين العرب كانوا مقتنعيين في بداية هذا القرن بالفكر الرأسمالي، أي الديمقراطية وسيادة القانون والحريات الصحفية وتعدد الأحزاب، ثم آمن أكثريتهم في منتصف القرن بالاشتراكية والحزب الواحد والمستبد العادل والإعلام المقيد، فالعلمانيون يؤمنون بالمبدأ وعكسه، ويعطون مبررات منطقية لكليهما فإذا أرادوا أن يقنعوك بالنموذج الغربي جاؤوا بأمثلة رائعة من تاريخه وواقعه وافكاره، وأصبح الغرب هو بلاد الحرية والعدل والمساواة، وإذا كرهوه جاؤوا بأمثلة سيئة من واقعه وأفكاره وتاريخه وأصبح الغرب بلاد الاحتكار والاستعمار وسيطرة الأغنياء، ونفس الأمر يفعلونه مع الشيوعية. ولقد دافع العلمانيون العرب عن الاستبداد والظلم والمعتقلات، وبرروا ذلك بحجج مختلفة لعل أهمها حماية الثورة، وعدم وعي الشعب، وفساد الأحزاب، وغير ذلك، فالعلمانية تستطيع تبرير كثير
ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 94 حوار لا مواجهة - الدكتور أحمد كمال ابو المجد.(1/67)
من الانحرافات، ولهذا استغلها المنحرفون من زنادقة، وظلمة، وأصحاب المصالح، وهذه هي مصيبة العلمانية الكبرى لأن للعدل والحرية والديمقراطية.... الخ معان متناقضة بين علماني وآخر، فالمخلصون ضائعون، والمنحرفون وجدوا فيها المبررات التي يحتاجونها، فكل ما عند العلمانيين العرب هو شعارات عامة، وأهداف ضبابية تدعو للديمقراطية والعدل والحرية دون أن يعرفوا جوانب كثيرة من العدل والحرية، فالثقافات الغربية والشرقية نجحت في غزوها الفكري، فشوهت عقولهم، فضاعوا، ولا زال بعضهم يتهم الإسلام بأنه سبب تخلف الأمة مع أن وجود الإسلام كان ضعيفاً خلال المئتي سنة عند أغلبية الشعوب والحكومات، في حين أن العلمانية هي التي ساهمت في تمزيق الوحدة الإسلامية، والوحدة العربية، وزرع الخلافات حتى بين أبناء الوطن الواحد، فالدول التي حكموها أو كان لهم تأثير فيها لم يكن يجمعهم حزب، أو أتجاه، أو حتى فكر، بل تصارعوا فيما بينهم، فلم يستطيعوا أن يوحدوا دولتين مع بعض، في حين أننا بالإسلام وحدنا دولا وشعوباً وأمما كثيرة، وبنينا دولا عظمى يحسب لها الأعداء ألف حساب، وهذه حقائق تاريخية، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك صفحات سوداء في تاريخنا، بل هي موجودة ولكنها أقل بكثير من الصفحات السوداء الحالية، والتي ساهم في إيجاد بعضها العلمانيون، وكانوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون أكبر أعوان الأعداء، ولم ينجح العلمانيون حتى في تطبيق الديمقراطية في دولة عربية واحدة، ونجحوا في اللف والدوران وبناء ديمقراطيات مزورة، وحريات صحفية كاذبة، وحتى يعرف العلمانيون وزنهم الحقيقي نطالبهم بعمل استفتاء شعبي ما داموا يؤمنون بالديمقراطية، وليتم استطلاع رأي الشعوب حول الاختيار بين الشريعة الإسلامية والعلمانية، وليقبلوا نتيجة الاستفتاء، وليرحلوا، وليتهم يقتنعون بأن المشروع العلماني فاشل علميا، ومرفوض شعبيا، فليوفروا أوقاتهم(1/68)
وجهودهم خاصة وأن العملاق الإسلامي بدأ يستقيظ، ولو حكم العلمانيون
عقولهم لاقتنعوا بأن أحزابهم ضعيفة أو شكلية وبلا جذور شعبية قوية،
وهذا جعل أثرهم الحقيقي في اصلاح الواقع العربي أو القرارات
الهامة ضعيف أو غير موجود أما تاثيرهم الكبير فهو في هدم الأمة وزيادة اختلافها وحذر كثير من علماء المسلمين من خطر العلمانية وألفوا الكتب حتى يعود من انخدع ويعلم من جهل ويهتدي من ضل.
…ولا يكفي إطلاقا رفض العلمانية نظريا فقط، فالمسألة بحاجة إلى إثباتات كثيرة علمية تثبت أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية لا دينية أي دولة لا تخضع ليسطرة علماء الإسلام بل هي تلتزم بالقرار الشعبي ضمن حدود الشريعة الإسلامية قال الشيخ محمد عبده رحمه الله "ليس في الإسلام ما يسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه"(1). ولا بد من إثبات أن المبدأ الإسلامي يعطي مكانا واسعا للتفكير العقلي ولحرية الاعتقاد وحرية الرأي، فلا إكراه في الدين وفي الإسلام حقوق عادلة للأقليات. وأن النظام الإسلامي ينصف الفقراء والأغنياء والنساء والرجال والأطفال.... الخ فإثبات العقلانية والواقعية الإسلامية نظريا وعمليا في حياة الجماعات والأحزاب والأفراد والمؤسسات والدول الإسلامية هو الطريق المختصر للقضاء على العلمانية، وهو الطريق إلى نهضة الشعوب والأمم الإسلامية، سواء كانت هناك علمانية أو لم توجد، قال الدكتور أحمد كمال أبوالمجد "ولا أمل اليوم في صحوة، ولا رجاء في بعث، ولا جدوى من حديث عن تقدم أو تنمية، إلا إذا تحركت العقول في الرؤوس" فلنتحرك بسرعة فقد تأخرنا طويلاً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 115 - حوار لا مواجهة - دكتور أحمد كمال أبوالمجد.
(ب) أرض النفاق
…(1/69)
انتشار النفاق في الأوساط الشعبية قضية ثبتت بأدلة كثيرة وأصبحت حقيقة معروفة نشاهدها في كل مكان في العمل وفي الإعلام وفي العلاقات الاجتماعية وفي حياتنا السياسية. وقد يظن البعض أن المنافقين عاشوا في بداية وجود الدولة الإسلامية وانهم انقرضوا بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا وأنه لا يوجد في بقية العصور الإسلامية ومنها عصرنا هذا منافقون وأن كل من نشاهدهم مسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهذا الظن ليس له اساس من الصحة فما أكثر المنافقين والنفاق في عصرنا وهذه بعض أنواعهم:
…1- ينقسم النفاق إلى قسمين نفاق عقائدي ونفاق عملي والمنافق العقائدي هو من يعلن الإسلام وهو كافر به امتلأ قلبه بالكراهية للأسلام وأهله ويمكر في الليل والنهار في سبيل أهدافه وهناك النفاق العملي مما لا يخرج من ملة الإسلام كأن إذا حدث كذب أو خاصم فجر والنفاق العقائدي موجود عند سياسيين ومثقفين وغيرهم يعلنون إيمانهم بالإسلام في حين أن عقائدهم الحقيقية هي مصلحتهم أو العلمانية أو الرأسمالية أو الشيوعية وقد تجد بعض هؤلاء يصلون وهدفهم إقناع الناس بأنهم مسلمون في حين ان قلوبهم وعقولهم لا تؤمن بالله ورسوله. قال تعالى: ?إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرءاون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا? (سورة النساء: 142). وقال تعالى: ?إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا? 0سورة النساء:(145). وبعض بل كثير من هؤلاء، من السهل اكتشاف نفاقهم من أفكارهم وآرائهم ومواقفهم وأخلاقهم وتلونهم وعلاقتهم بالصالحين. وإذا كان بالإمكان المتاجرة بكثير من المبادئ والشعارات فمن الصعب المتاجرة بالمبدأ
الإسلامي لأن له عقائد واضحة وأخلاق معروفة وأحكام محددة،(1/70)
فالمنافقون يعيشون في بيئة من الانحرافات العقائدية والأخلاقية والمالية... الخ. مبدؤهم هو دينهم دينارهم تقودهم المصالح وتلعب بهم الشهوات،
وخطر هؤلاء المنافقين عظيم جداً فهم طابور خامس يثير
الشبهات ويشجع الاختلافات ويتعاونون فكريا وسياسيا مع أعداء الإسلام والأمة ويستغلون تصادم المصالح واختلاف الانتماءات العرقية والاختلافات الطبقية وغير ذلك في سبيل تحقيق أهدافهم. وعندما يكون العدو داخلي فهو أخطر لأنه يعلم نقاط الضعف ويصدقه كثير من الناس لأن ولاءه الظاهري للدين والوطن. وقد وجدنا منافقين من أهل السياسة خدعوا الجماهير بالشعارات الوطنية والقومية وحتى الإسلامية لأنهم يجيدون فن الكلام الكاذب. قال تعالى: ?وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون? (سورة المنافقون:4).(1/71)
…وقد آن الأوان أن تكون شعوبنا أكثر وعيا وحذراً فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وليس بالإنسان الساذج الذي يسهل خداعه فمن يخون دين الإسلام فلا يجوز أن نثق به حتى لو كان عنده اخلاص لوطن أو قضية فخيانة الدين هي أكبر الخيانات وإذا كان من يخون وطنه يستحق الإعدام فإن من يخون دين الله أشد جرماً فلا يجوز أن يحتضن معسكر الإيمان جواسيس المنافقين فإذا كان الصراع العالمي أساسه المصالح والعنصرية والعلو في الأرض فإن الصراع الشرعي يجب أن يكون بين من يقف مع الله سبحانه وتعالى ورسله ومن يقف ضد ذلك ونعلم أن المنافقين موجودون ولكن نرفض أن يكونوا من القياديين أو يسمح لهم بتمزيق الجبهة الداخلية ويجب أن نسعى لأن يعيشوا أذلاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان"(1). ولنتذكر أن الكذب هو العمود الفقري للنفاق الاعتقادي والعملي وقد قيل: أس النفاق الذي يبنى عليه النفاق الكذب". ولا شك أن النوايا والأعمال والأقوال والعلاقات والمعلومات والمواثيق المبنية على الكذب لن تأتي بخير لا للفرد ولا للمؤسسة ولا للدولة وإذا تحققت بعض المصالح فالأضرار أكثر بكثير وأضرار الكذب دنيوية
وأخروية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ــــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع الصغير 1554 وسلسة الأحاديث الصحيحة 1013 للألباني.
"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا"(1).(1/72)
…2- الحكومات والمنافقون: مما يثبت انتشار النفاق في الأمة هو النظر والتأمل في كثير من المحيطين بالحكومات حيث نجد أنواعاً من المنافقين والنفاق ممن يمدحون الحكومات بالحق والباطل وهدفهم الحصول على مناصب أو أموال أو نفوذ اجتماعي أو سياسي وهذا المدح يكون بمقالات صحفية أو أشعار أو خطب بليغة أو كلام مزخرف.. فيظن المسئول أنهم مقتنعون بقيادته أو يحبونه لوجه الله تعالى أو أنه فلته زمانه ذكاء وحكمة .... الخ فيمتلئ غروراً وعجباً فيهلك.
…ونعلم أن هناك من الحكام والوزراء من لا يصدقون هؤلاء المنافقين ويرفضون مدحهم ويعلمون أن ولاء المنافقين هو لصاحب المنصب وأنهم متى زالت مناصبهم سيبتعد عنهم المنافقون وسيتقربون لمن يأتي بعدهم وهذا واقع شاهدناه قديما وحديثا فقد كان مجلس وزير في منزله لا يتسع لعدد المهنئين بالعيد فلما انتهى عمله كوزير لم يهنئه إلا فرداً واحداً وصحيح أن مثل هذا الوزير يلام لأنه قرب المنافقين ولم يقرب الصالحين ولكن هذا دليل على كثرة المنافقين فمنهم علماء في الإسلام وتجار وسياسيون ورؤساء أحزاب وقبائل وقادة عسكريين... الخ قال الخليفة العباسي المنصور: "كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد... غير عمرو بن عبيد". وقيل "كلهم صيادون ولكن الشباك تختلف" وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه رأى الناس يدخلون في المسجد
فقال "من أين جاء هؤلاء؟" فقالوا من عند الأمير فقال: "إن رأوا منكراً أنكروه وإن رأوا معروفاً أمروا به؟" قالوا: لا. قال: "فما يصنعون؟" قالوا: يمدحونه، ويسبونه إذا خرجوا من عنده. فقال ابن عمر: "إن كنا لنعد النفاق على عهد
ــــــــــــــ
(1) حديث رقم 1809 مختصر صحيح مسلم للألباني.(1/73)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دون هذا"(1) والغريب أن المنافقين لا يعطون الحكومات أي قوة حقيقية فهم أول من يتخلى عنها وقت الشدة كما أن ليست لديهم قوة شعبية لما يعرف الناس من كذبهم ونفاقهم ومع هذا نجد بعض الحكومات تقربهم وتعينهم في مناصب هامة. ومن الضروري أن تتبنى الشعوب والحكومات آلية فعالة تمنع وصول هؤلاء المنافقين لنفوذ حكومي أو شعبي. قال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: "من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه"(2) فليت هذه الكلمات يتذكرها ويطبقها كل حاكم ووزير ومدير ومسئول.
…3- كثير من الناس مقتنعون أن النفاق هو الطريق الرئيس للمناصب أو المال أو الراحة ولهذا تجدهم ينافقون لرؤسائهم في العمل سواء كان رئيسهم مدير أو ناظر أو ضابط أو مدرس ... الخ وكثير من هؤلاء مقتنعون أن التمسك بالمبادئ نوع من المثالية أو الغباء.. وهؤلاء يخافون على مصالحهم من ترقيات ومناصب وأموال. ولهذا يسكتون عن الأخطاء والانحرافات ... وكم من كلام يدور بين الموظفين أو المدرسين حول بعض السلبيات فإذا دخل المدير أو الناظر اختفى هذا الكلام واختفت السلبيات وظهر النفاق أما إذا حدث - ونادراً ما يحدث - مناقشة الأوضاع بصراحة وصدق وجدنا الأغلبية الساحقة تقف مع وجهة نظر المسئول أو على الحياد ولا تقف مع الصدق والحق... ونقول لهؤلاء حدث في التاريخ أنه دخل هشام بن عبدالملك الخليفة الأموي الكعبة فإذا هو بسالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فقال له سلني حاجة قال: إني أستحي أن أسال في بيته غيره. فلما خرج قال: الآن فسلني حاجة قال: والله ما سألت
ـــــــــــــــــــ
(1) ص 32 صفة النفاق وذم المنافقين للإمام أبي جعفر بن محمد الفرياني.(1/74)
(2) ص 79 كتاب عمر بن عبدالعزيز للأستاذ خالد البيطار.
الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها"(1). فقد علم هذا المسلم أن الحاكم لا يملك الدنيا وإن إمكانياته محدودة فإن أعطاك مالاً أو منصباً فهو ليس بقادر على حمايتك من المرض أو الحوادث أو الاغتيال أو الهم أو الخوف أو غير ذلك وليس بقادر على أن يزيد أو ينقص من عمرك دقيقة واحدة ولا يملك على الحقيقة أن يزيد في رزقك شيئا فالأرزاق قد كتبها الله سبحانه وتعالى كما أنه لا يستطيع أن يعطيك علما وبصيرة وحكمة ونوراً كما أن المناصب يؤتيها الله من يشاء وينزعها ممن يشاء والأدلة على كل هذا موجودة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والواقع المشاهد فقد شاهدنا أنظمة حكم تزول وحكاما يتغيرون مع أنهم امتلكوا أقوى الجيوش وأفضل الأجهزة الأمنية ولكن المنافقين لا يعلمون وما ينطبق على الحاكم ينطبق على المدير والناظر.... الخ. فإذا كنت تريد الدنيا فمن الذكاء والحكمة أن تسألها ممن يملكها فقدرات المسئولين محدودة جداً ولا يكون لها مفعول إطلاقا إذا حكم الله بإلغائها في نفعك أو ضرك ومن يؤمن بذلك سيتقرب إلى الله بالصدق والأعمال الصالحة ويبتعد عن النفاق والكذب والانحرافات الأخرى لأنه يعلم أن فيها هلاكه وضياعه وتعاسته في الدنيا والآخرة ومن لم يقتنع بهذا الكلام فعليه أن يسلط الضواء المكثفة على حياة المنافقين ونهايتهم وسيجدهم يفتقدون السعادة مهما نالوا من أموال ومناصب ويفتقدون حب الناس واحترامهم وسيجد أن كثير من المنافقين لم توصلهم أدوات النفاق إلى مناصب وأموال وسيجد في المقابل أن الله سبحانه وتعالى أعطى المناصب والأموال لكثير من عباده الصالحين فقد أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام ملكا لم يعطه أحدا من البشر
وأعطى يوسف عليه السلام منصبا رفيعا مع كثرة المؤامرات ضده
وغير ذلك كثير قديما وحديثاً. قال تعالى: ?ولله خزائن السموات والأرض ولكن
ــــــــــــــــــــ(1/75)
(1) ص 151 كتاب مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأستاذ فاروق عبدالمجيد السامرائي.
المنافقين لا يفقهون?. وتبقى نقطة أخيرة وهي أن فرح بعض المنافقين ببعض المكاسب هو أشبه بفرحة لص بمال سرقه لأن هذا الفرح سيصبح حزنا وندما إذا تم القبض عليه، والمنافق لا يستطيع أن يهرب من عقاب الله سبحانه وتعالى، فالنتيجة المؤكدة شرعاُ أن نهاية كل منافق سيئة جداً.
…4- ارض النفاق: كتب الأستاذ يوسف السباعي رحمه الله سنة 1949 ميلادية رواية بعنوان "أرض النفاق" وهذا يثبت أن النفاق مشكلة قديمة وكبيرة وإليكم مقتطفات منها:
أ- "أجل ... إن الجريدة نفسها قد أصبحت بلا نفاق من يتصور هذا ؟! من يتصور صحافة بلا نفاق؟" ص 253.
ب- كيف يستطيع الناس أن يحيوا بلا نفاق؟ كيف يستطيعون أن يحتمل بعضهم بعضا...؟ كيف يستطيع الزوج أن يعيش مع زوجته لحظة بلا رياء ولا نفاق؟ كيف تستقيم الأمور وكيف تنقضي المصالح؟ كيف تنتظم الحياة ويتعامل الناس وقد خلوا من النفاق؟ كيف تنشأ الأحزاب... وتؤلف الوزارات؟ من ينادي بأمانينا الوطنية ... ومن يخطب ومن يكتب؟ ص276.
ج- "طبعا وزارة بلا نفاق... لابد أن تحل مجلس النواب ومجلس نواب بلا نفاق لا بد أن يسقط الوزارة" ص266.
د- "هذه قصة النفاق والمنافقين وأرض النفاق، قصة قد يكون فيها بعض الشطط وبعض الخيال... ولكن يخيل إلى أن ما بها من حقائق قد طغى على ما بها من خيال.... يا أهل النفاق تلك هي ارضكم وذلك هو غرسكم ما فعلت سوى أن طفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها" ص286.
(جـ) تقليد الغرب(1/76)
…في نفوس أعداد كبيرة من شعوبنا عقائد واقتناعات غربية تبنوها في أفكارهم وأحزابهم وأعمالهم وسلوكهم وأقوالهم، هذه العقائد والاقتناعات تتعارض مع الإسلام، فقد وجدنا في بداية القرن العشرين أن أوروبا هي النموذج الذي نريد تقليده، ثم أصبح النموذجان الأمريكي والسوفيتي هما القدوة، فأنقسمنا إلى يمينيين ويساريين، وأصبحنا نعرف عن الثورة الفرنسية أكثر مما نعرف عن تاريخنا، وعن أفكار الغرب ونظمه أكثر مما نعرف عن ديننا، وأحكامه وليت شعوبنا نقلت أفضل ما عند الغرب من صناعة وزراعة وعلم مادي ولكنها في الغالب نقلت أسوأ ما عنده من تخلف عقائدي وانحرافات اجتماعية، قال كلوت بك: "ذلك لأن الشرقيين إذا هموا بتقليد غيرهم أظهروا في الغالب الغباوة والغشم... وهم لا يأخذون في الغالب من أخلاقنا كلما اختلطوا بنا سوى ما كان منها سيء العاقبة بعيدا عن الصواب"(1) ورفض كثير من مثقفينا حتى البحث عن نظام سياسي واقتصادي اسلامي، ولو كانت شعوبنا واعية لما قام هؤلاء بتجاهل الدين، أو اتهامه بأنه سبب تخلفنا، ولما صفقت لمفكرين وكتاب وأحزاب لديهم انحرافات عقائدية وتشريعية، فشعوبنا مسئولة عن تقصيرها في تبني فكر إسلامي عصري وفي نفس الوقت لم تقل للعلماني أنت علماني مرفوض وللشيوعي انت شيوعي ضال، ولأن البعض لا زال يقلد الغرب تقليداً أعمى، ولأن هذا الاقتناع أضرنا كثيرا، فمن الضروري أن نسلط الأضواء على جوانب من سلبيات
الحضارة الغربية، وهذا لا يعني أن ليس لها إيجابيات، بل إيجابياتها
كثيرة وخاصة في الصناعة والزراعة والديمقراطية والعدل والمساواة
والإدارة، وتسليط الضواء على السلبيات ليس معناه تبرير لسلبيات في
كثير من دولنا ورضاء بها فنحن نعلم أن عندنا مهازل
ـــــــــــــــ
(1) دليل المسلم الحزين ص 11 - للأستاذ حسين أحمد أمين.(1/77)
سياسية وعقائدية وعلمية كبيرة، ولكننا مقتنعون بان علاجها هو من خلال تطبيق نظام إسلامي حديث يناسب واقعنا، وليس بتقليد الغرب تقليداً أعمى، ومن سلبيات الغرب ما يلي:-
…1- تخلف الغرب في مجال العقائد كبير جدا، فهو لا يدري هل الله واحد أم ثلاثة؟ ولا يدري لماذا خلق الله الإنسان؟ وهذا من أهم الأسئلة، فالله سبحانه وتعالي لم يخلقنا لنأكل ونشرب ونتطور صناعيا واقتصاديا ونشبع شهوات الجسد، فالإنسان الغربي يجهل المهمة الرئيسية للإنسان في الوجود التي هي عبادة الله بطريقة صحيحة، ولهذا قسم حياته إلى قسمين: العمل والاستمتاع بالحياة وهذا انحراف كبير لا يقارن بالإيجابيات التي يحققها، فلو أرسل حاكم رجلا في مهمة خطيرة، فلم يهتم هذا الرجل بأداء المهمة بل إنشغل عنها في صناعة أو زراعة، وأدى فشله في مهمته دماراً كبيراً وقتلاً هل يشفع لهذا الرجل أن يكون قد استغل وقته في صناعة طائرة، أو زراعة قمح! فالإنشغال بغير الهدف الرئيس ضياع كبير، فالاهتمام بالزراعة أو الصناعة ضروري ولكن هناك أشياء أهم بكثير لابد من الأنشغال بها أولا، ويجهل الغرب حقائق أساسية أخرى عقائدية واجتماعية واقتصادية، بل حدث عنه في هذه القضايا ولا حرج، فهو لا يعرف قصص الأنبياء الصحيحة، ولا كيفية الوصول للحقائق الفكرية، فيظن أن البيع مثل الربا، ويعتقد أن الزنا حرية شخصية، وهو لايعرف الفرق بين العبادة الصحيحة والتصوف، ولا يستطيع أن يحدد الصواب من الخطأ في عقائد الشعوب المتناقضة القديمة والحديثة، وهو يجهل الحقوق والواجبات العادلة في الزواج والطلاق والميراث وغير ذلك كثير.
…وهذه الحيرة الغربية أصابت شاعر المهجر ايليا ابو ماضي، والذي عاش في أمريكا سنوات طويلة، فترجم هذا الضياع في قصيدته المشهورة "الطلاسم" وإليكم ابياتاً منها:
جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسابقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت(1/78)
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟……………لست أدري
قد دخلت الدير استنطق فيه الناسكينا
فإذا القوم من الحيرة مثلي باهتونا
غلب اليأس عليهم فهم مستسلمونا
وإذا بالباب مكتوب عليه:………………لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة فخلود أم فناء فدثور؟
آكلام الناس صدق أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري؟……………لست أدري
إنني جئت وأمضي، وأنا لا أعلم
أنا لغز، وذهابي كمجيئي طلسم
والذي أوجد هذا اللغز لغز مبهم
لا تجادل... ذو الحجى من قال أني:…………لست أدري
2- تخلص الغرب من إنحراف الكنيسة وتعصبها، ولكنه وقع في ظلام العلمانية، حيث أوصله التفكير العلماني إلى عقائد متناقضة مثل الرأسمالية
والشيوعية والدنيوية والنازية، وهذا التناقض جعله يحصد الحروب العالمية والصراع والتنازع وأوصله التفكير العلماني إلى أن استعمار الشعوب
أمر جائز، وإلى أن الكذب سياسة، فالعالم الغربي يحترق من نارين: نار
المبادئ المتناقضة، ونار المصالح المتصادمة، وغالبا ما تسيطر المصالح على قراراته، فقرارات الأمم المتحدة لا تنفذ إلا إذا كانت(1/79)
تخدم مصالح الدول الغربية، أو على الأقل لا تتعارض معها، أما تطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية فهو فقط داخل حدود الدول الغربية، أما بقية البشر فحقوقهم ومصالحهم تنتهي بعد أن يتم اشباع مصالح الغرب، وهي مصالح لا تشبع، وكيف نعتبر الغرب متقدما وهو مسئول عن تدبير المؤامرات والانقلابات في كثير من الدول النامية وأحيانا التدخل العسكري المباشر؟ الم تهاجم كل من فرنسا وبريطانيا واسرائيل مصر سنة 1956 مع أن هذا اعتداء واضح وهيئة الأمم المتحدة موجودة؟! ووجدنا فرنسا بلاد الحرية والجمال تكشر عن أنيابها ومخالبها وتحاول افتراس الجزائر، وترتكب الكثير من الجرائم، ووجدنا أمريكا تلقي قنلبتين نوويتين على اليابان، وتقتل الأطفال والمدنيين، ووجدنا روسيا تضطهد شعوبا إسلامية كثيرة، فتقتل وتدمر في سبيل مصالحها، بل وتتدخل عسكريا في افغانستان بصورة علنية وواضحة. وكل هذه الجرائم والانحرافات حدثت في ظل وجود حرية رأي، ومجالس نيابية في أمريكا وفرنسا وبريطانيا. والغريب أنهم يتهموننا بالهمجية مع أن المقارنة بين عدد القتلى في حروبنا وعلى مدى خمسة عشر قرنا هو أقل بكثير مما قتلوا في حروبهم. هذا مع الاختلاف حول أن هدف بعض حروبنا كان ساميا، أي لنشر العقيدة الصحيحة في حين أن أغلب حروبهم هدفها المصالح المادية، فمن هو الهمجي؟!!. قال الدكتور فؤاد زكريا: "فإن الأمريكيين لا يكونون صورتهم عن أي زعيم على أساس فضائله الداخلية أو الشخصية أو حتى طريقته السليمة في الحكم بل على أساس ما يمكن أن يجنوه منه من فوائد"(1).
…3- قال رسول الله (: "من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد
ولو إلتزمت شعوبنا بهذا الحديث لما قلدت الغرب تقليداً أعمى أدى إلى
مصائب كثيرة مزقتها وفرقتها، فالتناقض الغربي العقائدي والسياسي
والفكري تم استيراده، فالاقتناع بالفكر القومي العلماني الغربي جعل
ــــــــــــــــ
(1) ص 174 كم عمر الغصب - الدكتور فؤاد زكريا.(1/80)
الحرب تشتعل بين العرب والأتراك، وجعلنا نمزق الدولة العثمانية،وجعل العرب أنفسهم ينقسمون إلى مؤيدين ومعارضين للدولة العثمانية، فأختلفوا وتمزقوا أكثر، ثم استوردنا الفكر الرأسمالي والفكر الشيوعي، فأنقسمنا إلى شيوعيين ورأسماليين في الدولة الواحدة، فتصدع البنيان السياسي لكثير من دولنا، ونقل البعض سلوكيات اجتماعية غربية فتصادمت هذه مع مفاهيمنا الاجتماعية الإسلامية، فحصلت المشاكل واختل نظامنا الاجتماعي، ودافع البعض منا بحماس شديد عن نظام الحزب الواحد أو القطاع العام، أو فلسفة أفلاطون وسارتر وفرويد أو غير ذلك، ووجد العكس، وكل ذلك أنتج صراعات وعداوات وتمزق، فالغرب لم يكتف بضياعه العقائدي بل نقله إلى أجزاء كثيرة من العالم، فسبب للعالم مصائب كبيرة لأن ما صدره من أفكار لم يكن حقائق علمية، بل في الغالب أفكار ضائعة، لم تستطع إقناع عقلاء الشعوب النامية بصوابها وحكمتها، ولهذا مزق هذه الدول إلى أحزاب وتجمعات، (كل حزب بما لديهم فرحون) وليت الغرب إكتفى بذلك التصدير بل أخذ يرمى مزيداً من الحطب على هذه النيران طمعا في الحصول على مناطق نفوذ ومصالح، وبيع السلاح، حتى لو لم تملك المال فبالقروض يمتص ما عندك من ثروة أو موارد وإمكانيات حتى ولو كانت محدودة ولا يهمه ان يعاني شعبك من الفقر والجهل والمرض!!!
…4- يُظهر الإعلام الغربي المرأة بصورة غير صادقة عندما يوهمنا أنها سعيدة لأنها تملك سيارة، ولديها وظيفة وشقة وعشيق... الخ. لأننا نعلم أن هذه الصورة ليست السائدة، وأن هناك أجزاء من الصورة مفقودة تحتاج أن نسلط عليها
الأضواء، فالمرأة الغربية تعمل على الأقل ثمانية ساعات، والعمل في
الغرب ليس مكانا لتمضية الوقت، بل هو عمل مكثف مرهق، وإذا رجعت
المرأة من العمل فعليها أن تساهم في إعداد وجبة لنفسها، أو لعائلتها،(1/81)
وعليها أن تقوم بواجباتها نحو أبنائها وزوجها، فتهتم بتعليم الأبناء، وإذا كانت المرأة عانسة أو مطلقة - ونسبة الطلاق مرتفعة في الغرب فعليها أن تتحمل مسئوليات أكثر ولا بد أن تدبر المال الكافي لإيجار الشقة،
ومصاريف الأبناء والمنزل، وتجد عشيقها يطلب متعة آنية لا
زواجا دائما وبالتالي فهو غير مستعد لتحمل بعض المصاريف، وإذا مرضت أو حصل لها حادث أو عاهة فلن تجد من يقف معها، وكل هذا يرهق المرأة نفسيا وجسديا، ونحن لا نتحدث عن حالات استثنائية بل هي الغالبة حيث أن في فرنسا لوحدها أكثر من سبعة ملايين أمراة تعيش لوحدها، ولا شك أن كثيرا من النساء لسن قادرات على الحصول على مرتبات مرتفعة تكفي لمصاريف السكن والمأكل والملبس... الخ ولذلك فإنه لا بد من تأجير حجرة بدلا من شقة واستخدام المواصلات العامة بدل السيارة الخاصة، وتحمل إرهاق ومشاكل العمل، فلا زوج ولا أب يحميها ويساعدها، فالمرأة الغربية كانت تجد زوجا يحميها، فأصبحت وحيدة وخائفة وكانت زوجة فأصبحت مطلقة أو عانساً، وكان المال يأتي إليها فأصبحت تركض وراءه، وكان العريس يبحث عنها فأصبحت تبحث عن العريس، وبعد أن كان حولها الزوج والأبناء أصبح حولها الكلاب والقطط، وكانت تجد أسرة مستقرة في طفولتها، وزوجا في شبابها، وأبناء في شيخوختها، فأصبحت أسرتها مفككة، وهي صغيرة، وتعيش حياتها وحيدة في شبابها وشيخوختها، وأنظر إن شئت في وجه المرأة الغربية فستجد القلق والحزن والضياع حتى لو حاولت أن تغطيه بالكبرياء والعناد والقوة، وهذه نتيجة منطقية لأنها مرهقة ومعذبة، فحياتها غير مستقرة، وتتلفت حولها فلا تجد طفلا تداعبه، أو زوجا يرعاها، بل تجد التليفزيون والفيديو فتمل من هذه الحياة الجافة القاسية فتصبح امرأة معقدة تعلم أن حياتها غير سعيدة، ولكنها لا تعرف أين الخطأ قال الدكتور فؤاد زكريا: "فالأمريكيون مصابون بهوس العقد النفسية، والتفسيرات السيكولوجية الرخيصة، وهم(1/82)
ينفقون على العلاج النفسي ما يغطي ميزانيات عدة دول من العالم الثالث دون أن يجنوا من ذلك إلا مزيداً من السلوك غير السوي"(1). وجزء من الخطأ كان في أن كل فرد يريد أن يعيش حياته كما يشاء، وهذا لا يتحقق، فلا بد من الأخذ
ـــــــــــــــ
(1) ص 55 - من كتاب كم عمر الغضب - للدكتور فؤاد زكريا.
والعطاء، ولا بد من التكامل في الواجبات والمسئوليات ولا بد من تقديم تنازلات طبيعية، فالحرية المزورة جعلت الأفراد لا يتحمل بعضهم بعضا حتى لو كان هذا البعض زوجا أو زوجة أو أبناء. ووجود المرأة في أسرة مترابطة كطفلة وفتاة وزوجة يحقق لها مصالح مادية ونفسية كثيرة، فتشجيعها على التمرد على الرجل، والثورة والعناد، واتباع الشهوات هو تحطيم لها، ولسنا ندعو إلى خضوعها إلى الرجل واستبداده بل ندعوها إلى الأقتناع بأنها ليست في معركة تحد مع الرجل وأنه ليس من معاني الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء فهذه فوضى ولكن المرأة الغربية جهلت هذه الحقائق البديهية، فحطمت مملكتها بيدها!!!
…5- اقتناع الغرب بأن الفوضى الجنسية نوع من الحرية الشخصية خطأ علمي رهيب جر عليه مصائب كثيرة سنتطرق إليها لعل البعض يتعظ، وقبل أن نذكرها فإن من المهم أن نتذكر أن الغرب لم يتبع عقله عندما فتح الباب للفوضى الجنسية، بل اتبع شهواته، لأن العقل السليم سيدلنا وبسهولة على فوائد الأخلاق والعفة والزواج والمبادئ ومضار الزنا والتبرج، وإليكم بعضاً من الحصاد المر للفوضى الجنسية:(1/83)
…أ- أدت الفوضى الجنسية إلى تحطيم معاني الحب والوفاء والاخلاص والتضحية، فالارتباط بين الجسد والنفس ارتباط وثيق، فالرجل مستعد أن يعمل ليلا ونهاراً في سبيل زوجة وفية، أو فتاة مخلصة له، وهو يزهد في المرأة عندما يراها مع رجل آخر، والفوضى الجنسية جعلت الثقة شبه مفقودة في كثير من النساء، وكثير من الرجال، وكيف سيحب رجل أمراة يعلم أنها كانت على علاقة مع عدة رجال قبله؟! وهذا ليس تفكير رجل شرقي بل هو تفكير
كل رجل سليم الفطرة، قال نابليون: "المرأة الشريفة هي أقوى الحصون" وهناك قول أوروبي بمعنى "من بين كل الثروات فإنها أثمنها هو أن يكون
لك أمراة فاضلة وشريفة". ولهذا اصبح الحب في الغرب نزوة، أو
شيئا مؤقتا، أو ضعيفا، فهو بلا جذور، وفي الغالب لا يستمر غير شهور،
ونادراً ما يكون لمدة سنين، فهو أشبه ما يكون ضيفا لا يستطيع أن يعيش
في البيئة الغربية الملوثة، ولهذا علينا ألا نستغرب
إذا وجدنا عزوفا كبيرا من الرجال في الغرب عن الزواج، فكثير من النساء غير مستحقات للحب والزواج.(1/84)
…ب- أنتجت الفوضى الجنسية ملاييناً من الأطفال غير الشرعيين، بعضهم مجهولو الأب وبعضهم مجهولو الأب والأم فأما الأطفال مجهولو الأب فتتحمل الأم مسئولية التربية وتعاني من ذلك الأمرين!! أو تتركهم للملاجئ، فيفقدوا الأم بعدما فقدوا الأب!! وتصورا حالة ملايين من البشر يجهلون آبائهم وأمهاتهم، كيف تكون حالتهم النفسية؟!! فهم بلا حنان أم، ولا رعاية أب، ولا أخوة، ولا أقارب، إن الحيوانات ترعى أبناءها حتى يكبروا، فكيف نرضى نحن البشر أن يصل فينا الظلم والشر إلى هذا الحد؟!! إن الطفل بحاجة إلى رعاية طويلة قد تصل إلى خمسة عشر سنة على الأقل، وليس مطلوب فقط الرعاية المادية بل الأهم هو الحنان والحب، فحنان الأم لا يعوضه اي شئ، فإذا لم يجد الطفل هذا الحنان فقد ينشأ قاسي القلب، وكارها للناس، ومجتمعه، وهذا شئ متوقع. فمن الصعب أن يؤمن المرء بشيء لم يحس به أو يره عند أم وأب وأخوة لأن هؤلاء ليسوا موجودين في حياته، ولا شك أن من أكبر الجرائم، ومن أشد أنواع التخلف أن يمارس الإنسان الجنس رجلاً كان أو امرأة ثم يرمي بعد ذلك طفلا رضيعاً في الشارع، لا أدري أي حرية هذه؟! فالحرية هي التي تبني الإنسان وتسعده، لا تلك التي تهدمه وتشقيه.
…ج- مصائب الفوضى الجنسية كثيرة منها انتشار الخيانات الزوجية، وانتشار جرائم الاغتصاب، وارتفاع العنوسة والطلاق، وإزدياد حالات الاجهاض، وتفشي الأمراض الجنسية كالايدز وغيره، وانعدام أو ضعف الثقة في النساء والرجال، والشك والكراهية لجنس الرجال أو جنس النساء، وإزدياد
جرائم القتل، واضعاف الدول لانشغال شبابها بالجنس والملذات، فينسون
قضايا أوطانهم لأنهم أصبحوا مخدرين جنسياً، وهذا واقع مشاهد،
فالشاب الفاسق والفتاة اللعوب تكون عادة. مساهمتهم في القضايا الوطنية
والخيرية ضعيفة أو غير موجودة أصلاً وعموما ففي الإسلام حماية لنا من(1/85)
الفوضى الجنسية، قال تعالى: ?ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا? (32) سورة الإسراء، ونبهنا الله سبحانه وتعالى أنه طريق هلاك وشقاء وضلالة وضياع. قال تعالى: ?إن الله يهدي القوم الفاسقين? وقال تعالى: ?إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون? (19) سورة النور، وقال رسول الله ( "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء"(1) وقال رسول الله ( "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا"(2) وقال ابن القيم رحمه الله، "ومن آفات النظر أنه يورث الحسرات والزفرات الحرقات فيرى العبد ما ليس قادراً عليه، ولا صابرا عنه، وهذا من أعظم العذاب"(3)!!
ــــــــــــــــــ
(1) حديث رقم 2067 مختصر صحيح مسلم للألباني.
(2) حديث رقم 1388 مختصر صحيح مسلم للألباني.
(3) ص 161 الجواب الكافي لابن القيم.
د. التعصب العرقي(1/86)
…كثيراً ما يقوم أصحاب العقائد الباطلة، والمصالح المشبوهة من داخل الأمة والشعب ومن القوى الاجنبية المعادية بتغذية التعصب العرقي، وذلك لتحقيق مصالحهم التي لن تتحقق إلا إذا تفرقنا بناء على أصولنا العرقية، أو أفكارنا، أو مواقفنا، وعندما ننشغل باختلافاتنا العرقية وغيرها ننسى أعداءنا، وسنعادي فئات من شعبنا، وبالتالي فرفض التعصب العرقي يفقد هؤلاء أحد أسلحتهم الرئيسة وعندما يحاول أعداؤنا وجهلاؤنا وسفهاؤنا إقناعنا بأن التعصب العرقي يحقق مصالح لنا، نقول بل هو شر كبير وإذا حقق مصالح فهي مصالح هزيلة ومحدودة ومصائبه أكبر بكثير، فالربا ظاهرياً فيه مصالح ولكن شره وآثاره الاقتصادية والشخصية سيئة، فالمال الحرام لا يأتي بخير وكذلك بالنسبة للتعصب العرقي فليس مهماً كم نائب ينجح من هذه القبيلة أو تلك، بل المهم جودة النواب، فالنائب الواعي المخلص يفيد المجتمع مهما كان انتماؤه العرقي، والنائب المنافق الضعيف يضر المجتمع وأبناء قبيلته حتى لو حقق مصالح محدودة للبعض، وقوة الأمة في تعاون شعوبها لا في تدمير بعضهم البعض، ومصالحنا تتحقق بتكاتفنا وإيجاد شعوب متماسكة، فجسد الأمة عندما يتمزق سيكون جسداً ضعيفاً حتى لو توهم من يملك اليد أن عنده عضلات أو من يملك الرأس أن عنده عقل، فقوة اليد الحقيقية هي عندما تكون جزءاً من جسد متماسك، ويستغل المنحرفون في عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم التعصب العرقي كشعار للوصول إلى المناصب والأموال، فيتباكون على مصالح القبيلة، أو الشعب أو العائلة، في حين أنهم لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية. ومن سلبيات التعصب العرقي أنه يزرع الكراهية بين افراد المجتمع، فلكل فعل رد فعل، فالناس يكرهون من يسعون للتميز عنهم، ومن يكسب محبة الناس فقد كسب الكثير، ومن يكسب عداوتهم فقد خسر الكثير.
…والفاشل في عمله يتهم الآخرين بأنهم يتعصبون عرقيا ضده ليثير(1/87)
غضب جماعته، وحقيقة الأمر أن عدم ترقيته راجعة لفشله، لا لتعصب عرقي ضده، فالمتعصبون الفاشلون هم الذين يتاجرون بانتمائاتنا القبلية، والشعبية، والقومية، أما أهل الإيمان والوعي فهم أبعد الناس عن ذلك.
…ومن جرائم التعصب العرقي أنه جعلنا نبالغ في مدح قبائلنا وشعوبنا وأمتنا حتى اعتقد بعضنا أننا ملائكة، وأتت كثير من الأحداث ففضحتنا، فكفر بعضنا بجنسانا العربي أو بشعوبنا أو بقبائلنا، فالتعصب العرقي يزور حقائق تاريخية وحديثة عنا، ويجعل إيجاباتنا كبيرة، وسلبياتنا صغيرة، فلا نرى واقعنا كما هو فتصيبنا الكوارث العسكرية والسياسية والاجتماعية، فالمعتصبون يجعلون دائما شعوبهم أفضل البشر في حين أن التقييم العلمي والمحايد سيثبت أن حساباتهم خاطئة بدرجة كبيرة، قال تعالى: ?ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى? 0سورة النجم: 32). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب، وقع على أنفه فقال به هكذا فطار". فالصالحون من الأفراد والشعوب يحاسبون أنفسهم ويعتبرون إيجابياتهم قليلة، وسلبياتهم كبيرة، فيجتهدون أكثر، ولهذا يرتقون في سلم الرقي الإنساني، أما أصحاب التعصب العرقي فيفعلون العكس، فيخسرون الدنيا والآخرة.
…ويجعلنا التعصب العرقي نتساهل مع المجرمين من أبناء قبائلنا وشعوبنا، فتزداد الانحرافات، ويتجرأ المنحرفون أكثر، ويتشجع غيرهم لأننا نغفر لهم، وهذا واقع مشاهد.
…وجعلنا التعصب العرقي لا نرى من الآخرين إلا سلبياتهم، والآخرون ينظرون إلينا النظرة نفسها، فتصبح كل الملفات سوادء سواء على مستوى الشعب، أو الأمة، وإذا كان هناك اعتراف بإيجابيات وحسنات الآخرين
فهو قليل، فأصبحت شعوبنا إما ملائكة، أو شياطين، وفقدنا العدل والموضوعية، وإذا حدث شر أو خلاف بين عرقين كالذي يحدث بين الأخ وأخيه،
فمن الصعب عند أصحاب التعصب العرقي التسامح، والعفو(1/88)
لأنه قد يعتبر ضعفا أو جبنا، فالواجب العنصري أن ترد الصاع صاعين، وتزيد الشر والجروح في الأمة ولا تتنازل عن أي شيء حتى لو كان شبراً واحداً على الحدود.
…وحطم التعصب العرقي الكفاءات والمؤهلات في العمل والإبداع والعلم، فلا أهمية إلا للانتماء العرقي في التوظيف والترقية والمناصب، فمن هو من العرق الأزرق لن يجتهد لأنه ضامن الوصول ومن هو خارجه لن يجتهد لأنه لا فائدة في اعتقاده من الاجتهاد، ولهذا تضعف أوطاننا وأمتنا، ونغرق جميعا، ولو نظرنا للولايات المتحدة الأمريكية لوجدنا تشجيع المتميزين علميا وعمليا من الأجانب، فيصبح كيسنجر وزيراً للخارجية مع أنه مولود بأوروبا فتستفيد أمريكا وتزداد قوة في حين أن التعصب العرقي يمنع في أحيان كثيرة شراء أرض، أو عمل مشروع استثماري في كثير من دولنا، فنحن لا نثق إلا في من ينتمي لعرقنا وهذا سبب رئيسي من أسباب هجرة أموالنا لدول أجنبية، فالمواطن العربي يشعر بالغربة من كثرة القوانين العرقية التي تمنعه من الإقامة، أو التجارة، أو التملك، أو الترقية!!.
ومن سلبيات التعصب العرقي أنه يقف حاجزاً كبيراً أمام النقد البناء، فإذا انتقدت مسئولا أو حكومة أو شعبا لخطأ أو انحراف فيتهموك بأنك تعادي "العرق" الذي ينتمي إليه المسئول أو الشعب، وهب أصحاب العرق ينتصرون لصاحبهم وهذا الحاجز يعوق تنفيذ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك يمنعنا التعصب العرقي من نقد عوائلنا وقبائلنا وشعوبنا لأننا نعتبر هذا من أنواع نشر الغسيل، وتشويه سمعتنا عند الآخرين، ومن الضروري أن نقتنع بأن تسليط الأضواء على سلبياتنا هو أحد أساسيات التقدم، ولكن لنحاول أن نبدأ بأنفسنا لا بالآخرين.
…ومن سلبيات التعصب العرقي أن بعض أصحابه يظنون أنهم في
القمة، وذلك من خلال تسليط الأضواء الشديدة على عيوب الآخرين،
وسلبياتهم وأخطائهم القديمة والحديثة، فيسقط الآخرون من عيون هؤلاء،(1/89)
فيظنون بأنفسهم أنهم أفضل البشر كرماً، وشجاعة، وأخلاقاً... الخ لا لسبب إلا أنهم تذكروا سلبيات الآخرين، ونسوا سلبياتهم بل بعضهم يبالغ فيجعل صعودهم للقمة هو فقط نتيجة انتمائهم العرقي في حين أن النسب لا علاقة له بالأفضلية، لا في الدين، ولا عند أهل العقول، وهذا من بديهيات الشرع والعقل والواقع.
وجعل التعصب العرقي شعوبا تضطهد شعوباً أخرى، ولغاتهم مما فتح المجال لثورة المضطهدين، وتعاونهم مع أعداء الأمة، وأصبحنا نواجه اليوم عقبات قوية من الحواجز السياسية والنفسية بين بعض شعوبنا.
…ومن سلبيات التعصب أنك مهما حاولت أن تكون عادلاً وترضى عرقاً ما بمناصب وأموال، فإنه سيتهمك بأنك لست بعادل مهما فعلت، وهذا وضع تواجهه حكومات وقوى مخلصة، فالتعصب العرقي يريد أكثر من حقه، في حين أن القلوب المؤمنة تعطي أكثر مما تأخذ، ولا يحركها الطمع في المناصب والأموال!
…ومن سلبيات التعصب العرقي هو أنه جعل أصحابه يهتمون فقط بدوائرهم العرقية عل مستوى الأسرة أو القبيلة أو الوطن، فيتجاهلون آلام الآخرين ومصائبهم، وأعداؤنا يريدون منا ذلك حتى ينفردوا بنا، في حين أن واجبنا الشرعي أن ننصر المظلوم خاصة إذا كان غريباً أو فقيراً، وأن نردع الظلم خاصة إذا جاء من قبائلنا وشعوبنا، ولكن المتعصبين يعتبرون هذا نوعاً من المثالية، والغباء السياسي، أو حتى نوعاً من الخيانة للقبيلة والوطن في حين أنه انتصار حقيقي لأنه ردع عن الظلم.
…وما ذكرناه أعلاه هو نماذج وألوان من التعصب العرقي الذي لا نحصد منه غير الكراهية، والتفرق، والاختلاف، والتكبر، والغرور، والكسل، وتزوير الحقائق، والحسد، وتحطيم الكفاءات والمعنويات... الخ فكيف تكون فيه مصالحنا كافرادا وقبائل أو شعوب أو أمة؟!! إن التمسك به يعني أننا ضد إسلامنا وضد أوطاننا، وما نراه من مصالح هي مصالح وهمية وسراب وأوهام.(1/90)
وربط أحد علماء الإسلام بين التعصب العرقي لعائلة أو قبيلة أو شعب أو أمة وبين معصية إبليس عندما رفض السجود لآدم عليه السلام حيث قال إبليس: ?أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين? (سورة الأعراف: 12). أي استند إلى الأصل العرقي، فهو رفض العدل الإلهي، ورأى أنه ظُلم دون وجود منطق حكيم، كأن يقول أنا أقوى، أو أعلم من آدم. ويفرق التعصب بين بني آدم، وبين المسلمين، ليس بناء على العقيدة، أو الكفاءة، أو الأخلاق، بل بناء على الأصل العرقي، هذا الأصل الذي يعلم جميع العقلاء أنه لا يعني أي شيء إطلاقا في ميزان الحقيقة، فكلنا بنو آدم، وميزان التفاضل الشرعي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى هو ?إن أكرمكم عند الله أتقاكم?، ولكن أصحاب إبليس يرفضون هذا الميزان، ويرفضون القاعدة الإسلامية التي تقول: (لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى) ولنثق كل الثقة بأنه كلما ضعف إيمان الإنسان، وتلاشي، زاد تعصبه، وكذلك كلما زاد جهله زاد تعصبه، وينطبق هذا على المثقف والجاهل، ويجهل كثير من العقلاء والمتعصبين أن محاربة التعصب هي أحد التغييرات الجذرية التي أحدثها الإسلام في القبائل العربية، فقد نقلهم من التعصب العرقي إلى الانتماء للعقائد، والمباديء والعدل، ومن (انصر أخاك ظالما) إلى اردعه عن الظلم، وعلمهم أن العدل هو الأساس، (ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) مع أنها من ناحية عرقية أقرب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أصحاب التعصب العرقي يرفضون ذلك، فإذا ارتكب فرد من خارج قبائلهم أو شعوبهم جريمة نظروا إليه بتعصب وقسوة، وعاقبوه بأكثر مما يستحق، أما إذا كان المجرم منهم سامحوه، أو خففوا العقوبة، فقوانين العدل تتأثر عندهم(1/91)
بالانتماء العرقي وهذا ظلم ولهذا علينا ألا نستغرب عندما نجدهم يدفعون عن أصحاب الاختلاسات، والحروب الظالمة، أو عن عادات ومفاهيم اجتماعية منحرفة. ولا يعارض الإسلام الإنتماء لقبيلة، أو شعب، أو أمة، ولكنه ضد التعصب والظلم، وقاعدة أن الأقربين أولى بالمعروف ليس من معانيها أن نسكت عن انحرافات الأقربين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس
منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية" رواه ابن داود. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو يكونن أهون على الله من الجُعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، إنما هو مؤمن تقى، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال أبو ذر إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" أخرجه مسلم، وقال الغزالي رحمه الله "التكبر بالحسب والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً، وقد يتكبر بعضهم فيأنف من مخالطة الناس ومجالستهم وقد يجري على لسانه التفاخر به، فيقول لغيره من أنت؟ ومن أبوك؟ فأنا فلان بن فلان، ومع مثلي تتكلم"(1)؟!(1/92)
…وفي مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش والعرب قدوة لنا، فقد كان عدواً لعمه أبي لهب، وحارب قريشاً وهي قبيلته، ولكن كثيراً من المسلمين اليوم ضيعوا دينهم، فهم يرون الظلم أمامهم، ولديهم القدرة على معارضته، ولا يفعلون شيئاً ولهذا ضاعوا وضاعت الأمة، قال تعالى: ?وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون? (سورة النحل) ويسخر اليوم بعض المسلمين من بعضهم نتيجة أصولهم العرقية، أو طولهم أو قصرهم، بكلمات شريرة، وألفاظ قبيحة، تمحو الحسنات، وهذه ذنوب لو مزجت بماء البحر لأفسدته لما فيها من
تعصب وكبر وغرور وإتهام لله سبحانه وتعالي بأنه غير عادل في
المساواة بين البشر في خلقهم، فالناس لم يخلقوا أعراقهم أو
أشكالهم، فليحذر كل مسلم حريص على دينه ليس فقط من
ــــــــــــــــــــــ
(1) ص 368 - من كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين.
أقوال وأفعال فيها تعصب عرقي، بل حتى على تطهير نفسه من أي عقيدة أو اقتناع بأن الناس يختلفون بناء على أعراقهم، فلا فضل لعائلة عل عائلة، ولا قبيلة على قبيلة، ولا شعب على شعب، ولا أمة على أمة، ولا لون على لون، وعليه أن يحارب المفاهيم العنصرية وأصحاب التعصب لأنهم أحد أسباب ضعف المسلمين، وعن جابر رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكسع(1) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال دعوى الجاهلية؟" قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة"(2).(1/93)
…ومن بديهيات الواقع والعقول أنك لو قلت لرجل كان جده مجرماً عليك أن تتحمل ما فعله جدك، لقال بانه مسئول عن أعماله لا عن أعمال جده وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وهذا الكلام حق، ولكن البعض يريد أن يبني تعصبه على ما فعله الآباء والأجداد من المآثر والأعمال الطيبة ويتهرب من ذكر سلبياتهم وسيئاتهم. قال تعالى: ?تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون? 0سورة البقرة: 134)، ولو كان النسب العرقي سببا كافياً للاستعلاء والتعصب العرقي لكان أولى أن يفتخر به بنو إسرائيل لأنهم بنو يعقوب عليه السلام، وفيهم كثير من الأنبياء، ولم ينفعهم ذلك بشيء، ولم ينفع النسب بني هاشم. قال تعالى ?فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جنهم خالدون? 0(سورة المؤمنون) كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني
ـــــــــــــــــ
(1) أي ضرب دبره وعجيزته بيد أو رجل أو سيف أو غيره.
(2) حديث رقم 1811 مختصر صحيح مسلم للألباني.(1/94)
عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإنني لا أملك لكم من الله شيئا"(1) وعموما فتاريخ كل القبائل والشعوب فيها خير وشر، ومن قرأ التاريخ عرف ذلك في مواقف وحكايات وانتصارات وهزائم، وفيه صفحات بيضاء، وصفحات سوداء، قال تعالى: ?وتلك الأيام نداولها بين الناس? فلا داعي لأن نجعل من أنفسنا أولياء وغيرنا شياطين، ولنأخذ من التاريخ درساً وعبراً لا مبررات وهمية وكاذبة للتعصب العرقي، ونقول للمتعصبين اقرأوا التاريخ، وإذا لم تقتنعوا فابحثوا عمن يقرأه لكم بموضوعية، ومن بديهيات التاريخ أن النسب فيه دائماً صفحات مجهولة، وروايات متناقضة وضعيفة، وأحيانا مزورة خاصة وأننا نتكلم عن صفحات تزيد عن ألفي سنة في حين أننا نعترف ونعرف أننا نجهل صفحات تاريخنا المعاصر مع ما نجده من مذكرات كثيرة يكتبها بعض من شاركوا بالقرارت الكبيرة، هذا إضافة إلى وجود مؤرخين وسياسيين يتابعون الأحداث بصورة يومية، قال الأستاذ حمد الجاسر: "وحسبنا الاكتفاء بالقول بأنه قل أن توجد قبيلة صريحة النسب لا يوجد من المطاعن في نسبها ما يدركه كل معني بدراسة أنساب القبائل من قبيلة قريش إلى دونها من القبائل"(2). ومعروف أن هناك اختلاط بين القبائل والشعوب والأمم نتيجة هجرات وصراعات ونسب وتجارة ومصالح وعقائد وقوة وضعف وغنى وفقر وهناك فترات زمنية مجهولة وهناك قبائل وشعوب اندمجت مع غيرها فغابت وضاعت بعض الأسماء المشهورة تاريخيا(3) والحقيقة الكبرى في الانتماء العرقي أنه لا توجد ميزة وأفضلية
عرقية لأي عرق بشري فكل البشر هم بنو آدم وحواء وأكرمهم عند الله أتقاهم وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يقول: أنا ابن بطحاء مكة
ـــــــــــــــــــــ
(1) حديث رقم 98 من مختصر صحيح مسلم للألباني.
(2) حمد الجاسر، مجلة العرب - السنة الثالثة - ربيع الأول 1389هـ.(1/95)
(3) راجع كتاب الألف سنة الغامضة من تاريخ نجد للأستاذ عبدالرحمن بن زيد السويداء.
فوقف عليه فقال: إن كان لك دين فلك شرف وإن كان لك عقل فلك مروءة وإن كان لك علم فلك شرف وإلا فأنت والحمار سواء(1). وذكر الفخر بالأنساب عند إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر فقال: إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصامياً لا عظامياً. وقال الشاعر:
إن الفتى من يقول ها أنذا
……………ليس الفتي من يقول كان أبي
…ومن غرائب التعصب العرقي أن كثيرا من الأمم والشعوب والقبائل تعتبر نفسها أرقى وأفضل البشر، وهذا ينطبق حتى على قبائل افريقية متخلفة عقائدياً وعلمياً، فالبعض يصنع الأوهام، ويعيش فيها مع أنه لا دور له إطلاقاً في اختيار عائلته أو شعبه أو أمته.
…ومن الطرائف التي تروى في هذا الموضوع: قال رجل انكليزي لرجل فرنسي: ولدت انجليزيا، وأعيش انجليزيا، وأتمنى أن أموت انجليزيا. فقال الفرنسي: هذا جميل، ولكن أليس لديك طموح؟! وقال رجل لآخر أنا ابن فلان ابن فلان... إلى أن أوصل نسبه إلى آدم عليه السلام فقال الآخر: كل هذا حتى تثبت لنا أنك تنتمي إلى بني آدم!!
…ومما يثبت تفاهة التعصب العرقي أن البشر يعتقدون بأنهم جميعا أبناء آدم وحواء، فلماذا يصر المتعصبون على أنهم يختلفون عن الآخرين؟ والمفروض ألا نقف طويلا عند إنجازات الآباء والأجداد، بل أن نركز جهودنا على ان نقدم إنجازات طيبة، ونطور علمنا وأخلاقنا وأعمالنا، فالرصيد التاريخي محدود الفائدة.
…ومن مبررات أهل التعصب العرقي أنهم يفعلون ما يفعله الآخرون، أو أن تعصبهم رد فعل أي معاملة بالمثل، والحكم الشرعي أن انحراف الآخرين
ليس مبرراً أن يقابل بعنصرية وظلم خاصة عندما يكون الآخرون
ـــــــــــــــــــ
(1) ص51 ج1 - كتاب نوادر من التاريخ - للأستاذ صالح محمد الزمام.
مسلمين نريد أن نتعاون ونتكاتف معهم، فمن السهل أن نقابل التعصب بتعصب، ونردد قول الشاعر:(1/96)
ألا فلا يجهلن أحد علينا
……………فنجهل فوق جهل الجاهلينا
…لا نفعل ذلك لأن حرصنا على مصالح ديننا وأوطاننا وأمتنا تجعلنا نقابل السفهاء بحلم وصبر، فلا تستفزنا تصرفاتهم، فلنبدأ بكسر الحواجز العرقية والسياسية، وكذلك ليس من المبررات الشرعية للتعصب أنه موجود في بعض الدول المتقدمة والديمقراطية، لأننا لا نقارن أنفسنا بالآخرين، بل بما أمرنا الله سبحانه وتعالى به.
…ومن مبررات التعصب العرقي الارتباط بين الأرض والبشر، ونقول رداً على ذلك أن كل الشعوب تكونت من خلال هجرات قديمة وحديثة وانتقال من أرض إلى أخرى، فهي خليط من أعراق وخليط من انتماءات أرضية، فالإخلاص للأرض وللوطن ليس حكراً على عرق دون آخر، كما أن الأرض ليست ملكاً لعرق دون آخر، وغالباً ما تكون هناك شعوباً أو قبائل استوطنت الأرض التي تسكن اليوم من شعوب وأعراق أخرى فهل هذا مبرر أن يعود السكان الأوائل للمطالبة بها؟ ولو فعلنا ذلك لفتحنا أبواباً لا تنتهي من الفتن والصراعات بين الشعوب، بل حتى بين أبناء الشعب الواحد، فحبنا لأوطاننا من القيم السامية، ولكن لا يجوز أن يتحول هذا الحب إلى تعصب وعنصرية. وما يقال عن الأرض يقال كذلك عن اللغة والدم والتاريخ، فاللغات تتغير والدماء تختلط، والتاريخ لك وعليك.
من نتائج فلسفة إصلاح الحكومات أولاً
…الاقتناع بأن إصلاح الواقع يتم من خلال تغيير الأنظمة اقتناع آمن به كثيرون، وآن الأوان أن ندرس نتائجه وآثاره، وسأركز في النقاط التالية على السلبيات اقتناعا مني أن الإيجابيات إذا وجدت فهي محدودة جدا، ومن أهم سلبيات الصراع الشعبي الحكومي ما يلي:(1/97)
…1- عندما يصبح استخدام العنف والتآمر على الأنطمة عقيدة وأعمالاً، فمن الطبيعي أن تقابل الحكومات العنف بالعنف والتآمر بالتآمر فالمسالة بالنسبة إليها صراع من أجل البقاء، وكل صراع من هذا النوع يعطي الأولوية، وعندما تقرر أغلب القوى الشعبية والحكومية أن تتصارع ولا تتعاون فقد زادت شقاءها ومصائبها شقاء ومصائب ويصبح نتيجة لذلك واقعنا أكثر تمزقاً ومرارة، والاقتناع بأن كل أو أغلب مفاتيح الإصلاح بيد الحكومات جعل حكومات تتآمر على حكومات، وقوى شعبية تتآمر على قوى شعبية حتى لا تصل إلى الحكم فتمسك بالمفاتيح "السحرية" لتغيير الواقع، وكل هذا أثمر العدواة والبغضاء والتعذيب والاغتيالات والسجون والخوف والشك والإنتقام، وأضعف الأمة أمام أعدائها الداخليين والخارجيين، وجعل كل طرف همه إفساد انجازات الطرف الآخر، وتشويه سمعته لأننا في حرب بل حروب دائمة فلم نعد نثق في حكومات، ولا قوى شعبية، ونرجوا أن يكون العقلاء فينا قد اقتنعوا بأن الصراع ليس طريقا للإصلاح وأن الجبهتين الحكومية والشعبية يجب أن تكونا جبهتين متكاملتين لا متصادمتين وأمتنا اليوم بحاجة إلى كثير من اللين والرفق والحلم والصبر والتسامح... وهذا ليس دليلا على ضعف. ولا هو تنازل عن المبادئ، بل
هو من مبادئ الدين، ومن أساسيات الحكمة والعقل في مثل واقع أمتنا ولنا في رسول الله ( قدوة حسنة، فقد جقق انجازات عقائدية وسياسية هائلة
بتسامحه وصبره وحلمه، ودعا بعض العلماء إلى اتباع منهج ابن آدم
الثاني في إصلاح، وقد لا ينفع هذا المبدأ مع الكل
ولكنه بالتأكيد ينفع مع الأغلبية، وفيه تفويت الفرصة على أهل المناصب والانتقام من المتاجرين بالشعارات الإسلامية والوطنية.(1/98)
…2- ركزت كثير من الحكومات جهودها وأموالها على الجوانب الأمنية، والأمن الداخلي قضية ضرورية، وهذا أخر إنجازات أولويات أخرى اقتصادية وسياسية وتعليمية وصحية. والمفروض أن تستند الشرعية إلى الشريعة الإسلامية، ويتم قبولها من القوى الشعبية ومن الحكومات وكلما اشتدت الصراعات غاب دور القوانين، ومن أجل توفير بعض ما يصرف على الجانب الأمني وإيجاد بيئة صالحة تلتزم بالقوانين وتقوية الجبهة السياسية للدولة فإننا ندعو إلى تطبيق شعار "إصلاح الشعوب أولا" ولنتذكر أن من فوائد هذا الشعار هو تشجيع النمو الاقتصادي، فبيئة قلقة سياسيا لا تصلح لهذا النمو لأن رأس المال كما يقولون جبان، وهذا أحد الأسباب الرئيسة لهجرة أموال وطنية وعربية عن أوطانها وأمتها.
…3- لعل أخطر نتائج شعار "إصلاح الحكومات أولا" أن كثيرا من العقول والأيدي ممن آمنت بأن الإصلاح هو قضية حكومية لا شعبية توقفت عن التفكير والعمل والإنتاج والإصلاح. فأخذوا يزرعون اليأس والأشواك أمام محاولات الإصلاح الإداري والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي مع أننا بحاجة ماسة إلى إصلاحات هائلة صغيرة وكبيرة وفردية وجماعية في هذه المجالات، ولن تكون للأمة قوة سياسية وعسكرية إذا كانت مفاهيمنا الإدارية متخلفة. أو لأبنائها عقائد متناقضة أو كان اقتصادها ضعيفا، أو نظامها التعليمي ملوثا، بل لن ننجح في الإصلاح السياسي إذا لم نتمرن عليه في الإصلاحات الأخرى، وكأن هؤلاء يقولون لا فائدة من العلماء ولا فائدة من المصانع والمزارع، ولا
فائدة من المدارس والمعاهد، ولا فائدة من الكتب والأبحاث لأن عندهم
تعريف جديد للأعمال الصالحة والنافعة والناجحة، ألا وهو أن أي عمل
لا تكون نهايته الوصول إلى كراسي الحكم هو هباء منثور ونقول
لهؤلاء: إننا بحاجة إلى مصلحين، وأعمال صالحة في(1/99)
كل المجالات، فالإصلاح قضية شاملة أساسها الإصلاح العقائدي وقلبها الإصلاح الأخلاقي، وأعمدته الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
…4- فتح الصراع بين الحكومات والقوى الشعبية الباب واسعاً أمام أعداء الأمة الداخلييين والخارجيين لأن الأمة أصبحت ممزقة وضعيفة، وأخذ المنحرفون عقائديا وأخلاقيا وماليا يعيثون في الأرض فسادا، بل أن بعض هؤلاء متحالفون مع الحكومات أو القوى الشعبية، ويتم قبولهم ولو عوتب بعض هؤلاء لكان جوابه إنني أرى الشر والخطر في القوى الشعبية، أو في الحكومات أكثر مما أراه في المنافقين والمتطرفين والعلمانيين وأعداء الأمة الخارجيين، ونحن بحاجة ماسة أن نلغي شعار إصلاح الحكومات أولا لأنه يدمر القوى الشعبية، ويدمر الحكومات، وواهم من يظن أنه سينتصر لأن المنتصر سيكون ضعيفاً، مجروحاً، ومنهكاً، وفريسة سهلة للأعداء، ولن يكون قادراً على تحقيق إنجازات وتقدم فلنقفز فوق الثارات التاريخية، والحواجز النفسية، واختلاف الاجتهادات، وليتعاون المخلصون في الحكومات مع المخلصين في القوى الشعبية لأن هذا هو الطريق الوحيد للإصلاح والتطوير، وإذا تم هذا التعاون بعيداً عن المزايدات السياسية والاستبداد سنعرف فوائد هذا التعاون الكثيرة، وسنقتنع أننا تأخرنا كثيرا في معرفة طريق الإصلاح والتطوير.
شبهات حول تغيير الحكومات
…تغيير الحكومات موضوع متشعب وله جوانب شرعية وواقعية، ونحن بحاجة ماسة لمعالجته بموضوعية بعيدا عن ردود الفعل والانفعال والاشاعات ومن النقاط التي نرى أنها اساسية في هذا الموضوع ما يلي:-(1/100)
…1- يجب أن ننتبه إلى أن هناك اختلافاً جذرياً بين "إصلاح الحكومات" وبين "تغيير الحكومات"، فالإصلاح هدفه زيادة الإيجابيات وتقليل السلبيات، في حين أن تغيير الحكومات هو تغيير أفراد أو أنظمة حكم، وقد يحدث هذا التغيير، ولكن الأوضاع قد تبقى كما هي، أو تتردى أكثر، وقد لا يكون هؤلاء الأفراد عائقا في وجه الإصلاح، وقد يشجع التغيير أفرادا أو أحزاباً أو جماعات أو اتجاهات أو أعراقاً بناء على ثارات تاريخية، أو مصالح سياسية أو عداوات شخصية، أو اختلاف عقائدي اي أمور لا علاقة لها بإصلاح الأوضاع. فتغيير الأفراد لا يجوز أن يكون هدفا بحد ذاته إلا إذا تعارض وجودهم مع الإصلاح، فباب التوبة كان ولازال مفتوحاً للأفراد إذا كانوا على استعداد أن ينتقلوا من معسكر الانحراف إلى معسكر الإصلاح، وهذا ليس سذاجة بل اسلوب طبقه الرسول ( وحقق نتائج ممتازة فالهدف هو إصلاح الحاضر والمستقبل لا محاكمة الماضي!!
…2- بعض المتدينيين يعتقدون أن وجود إنحرافات وظلم سبب كاف للمطالبة بتغيير الأنظمة، وإعلان الحرب عليها ونقول: إن هذا غير صحيح، وقد بين الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله وعلماء آخرون في كتاب "مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة" للدكتور عبدالله بن محمد الرفاعي، متى يجوز الخروج على الحاكم؟ وننصح بقراءة هذا الكتاب الهام، وندعو الشباب المتحمس إلى التفقه في الدين والابتعاد عن العنف، فالجهاد يكون صحيحا عندما يعلنه علماء المسلمين لا شباب قرأ بعض الكتب، واختار منها فقرات، وتجاهل ما يخالف هذه الفقرات مما كتب العلماء ولقد وجدنا شبابا يتهمون علماء(1/101)
أجلاء بالمداهنة والجهل والضعف، وحقيقة الأمر أن عقول هؤلاء الشباب هي الجاهلة والضائعة، فتغيير المنكر بحاجة إلى علم وفقه ووعي سياسي، ومحاولة فرض الإصلاح بالقوة غالبا ما تأتي بنتائج سلبية في مثل واقعنا المعاصر، فعندما يتصرف بعض المتدينين كأنهم حكومة شرعية، فيحاولون تغيير منكر موجود بالقوة مما يجعل الحكومات تشعر أن هذا اعتداء على صلاحياتها وهيبتها، فتتحرك ليس بالضرورة تأييدا للمنكر، بل دفاعاً عن صلاحيتها فالقضية بالنسبة لها ليست إسلاماً أو غير إسلام والعلماء قالوا بأن تغيير المنكر بالقوة هو من اختصاص الحكومة، ولو ضرب بعض الشباب المتدين رجلاً سكيراً يسير في الشارع ويؤذي الناس لحاول هذا الرجل الانتقام، ولساعده أصدقاؤه وأقاربه، ولأصبحت مشكلة كبيرة، فتغيير هذا المنكر قد يؤدي إلى منكر أكبر منه، والواجب الإسلامي هو تبليغ الحكومة بوجود أي انحرافات اجتماعية أو عقائدية أو أخلاقية، وواجب المسئولين أن يمنعوا المنكر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فمحاولة الإصلاح مع تجاهل الطرق الشرعية والقانونية هو انحراف بحد ذاته وطريق إلى الفوضى. ووجود انحرافات لا يبرر مقابلتها بانحرافات، ومن الضروري معرفة الواقع، فكثير ممن لهم آراء يمينية او يسارية أو علمانية هم ليسوا رأسماليين ولا شيوعيين، ولا علمانيين، بل هم مسلمون "يصلون ويصومون" ولكنهم يختلفون مع بعض الجماعات أو الاجتهادات، وكثير من التصنيفات التي كانت في الخمسينات والستينات من هذا القرن إلى يمين ويسار لم تكن صحيحة، أي هي توازن سياسي ومصالح لا مبادئ وعقائد، وفي كل الأحوال ليس من حق بعض المتدينيين فرض اجتهاداتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على بقية المسلمين، فالاجتهادات تحتمل الصواب والخطأ ومن الخطأ التعصب لها فالآخرون لهم عقول وعلم وإخلاص وخاصة إذا كانوا من العلماء المخلصين، قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/102)
قاعدة دينية وأخلاقية يستحق أصحابها الثناء، ولكن المضي في ممارستها بغير حدود ولا ضوابط من شأنه أن يدفع بهؤلاء الآمرين والناهين إلى الاعتداء على حقوق ليست
لهم، وإلى تهديد أمن الأفراد وحرياتهم وحقوقهم(1)" وقال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله "إن غلمانا سفهاء يحملون علما مغشوشا أو جهلاً مركبا هجموا على الصحوة الإسلامية وكادوا يوقفون مسيرتها بما ينشرون من ضلالات ويشيعون عن الإسلام من إفك"(2).
…3- القاري لسيرة الرسول (، وللتاريخ يعلم أن القيادة السياسية والحكومية بحاجة إلى كثير من المرونة السياسية، وخاصة في التعامل مع القوى الخارجية، وخاصة عندما تكون الدولة ضعيفة عسكريا أو اقتصاديا وسياسيا، فمن الطبيعي أن يفرض هذا الضعف نفسه على قرارات ومواقف ولكن طبعا للضعف حدود. فمن الخطأ في أحيانا كثيرة أعلان الحرب على حكومة لأنها فعلت كذا وكذا في حين أنها قد تكون مضطرة لأن تفعل ذلك. وفي شرعنا (الضرورات تبيح المحظورات)، وهؤلاء ينسون القاعدة الإسلامية الهامة وهي ?فاتقوا الله ما استطعتم? وينسون أن الرسول ( وقع صلح الحديبية، ورأى فيه بعض الصحابة بنوداً ظالمة لا يجوز القبول بها ولكن الرسول ( قبل بها، وكذلك لم يقتل الرسول ( أبي بن سلول زعيم المنافقين مع استحقاقه للقتل لأن هذا سيؤدي إلى ضرر أكبر على المسلمين، حيث سيقول العرب، أن محمدا يقتل أصحابه، وفي هذا تشويه كبير للدعوة الإسلامية وعموما فالثقة بالقيادة عملية ضرورية لحياة الدول، ومن الخطأ أن يتصرف بعض العلماء أو الخطباء كأنهم قيادة سياسية فيتحدثون فيها كأنهم من أهلها، وهم يفتقدون الوعي السياسي، والمعلومات الصحيحة، ومع هذا يحاولون فرض آرائهم. ولا ندعو لفصل الدين عن الدولة، بل ندعو إلى إعطاء الحكومات المسلمة والسياسين المرونة الكافية. ومن واجب الحكومات اطلاع العلماء على حقائق الواقع، واستشارتهم، وتقبل الآراء المخالفة بصدر
ـــــــــــــــــ(1/103)
(1) ص 52 حوار لا مواجهة - الدكتور أحمد كمال أبو المجد.
(2) جريدة القبس الكويتية 5/5/1996.
رحب، ومن المهم أن يدرك الشباب أن الإنحراف عن المبادئ ليس كله خيانة وكفر وظلم بل أحيانا يكون اضطراراً وأحيانا يكون عن جهل عقائدي أو تشريعي.
…4- الشباب المتدين هو ثروة شعبية هائلة، وهو العمود الفقري للإصلاح، فالمتدينون الصادقون لا ينافقون، ولا يتم شراؤهم بمال ولا بنساء وهم موجودن في المدن والقرى والمدارس والجامعات وداخل الأمة وخارجها، والأهم من ذلك أنهم أولياء الله سبحانه وتعالى وبالتالي فأضطهادهم والاعتداء عليهم من أكبر الكبائر، فحرمة المؤمن عندالله أشد من حرمة الكعبة الشريفة، نقول ذلك لأن بعض الحكومات تعادي كل المتدينيين كجزء من صراعها مع المتطرفين. ومن الطبيعي أن يقابل هذا برد فعل المتدينيين. فالعنف في هذه الحالة قد لايكون هدفه تغيير الحكومة أو الإصلاح، بل حماية النفس أو الانتقام، ولا شك أننا نطالب الحكومات بالالتزام بالشرع، وجعل القضاء سلطة مستقلة وحكما عادلاً، فبقاء الحكومات ومصلحتها هي مع العدل لا مع الظلم، قال ابن تيمية "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة"، وقال: "إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام"، والحرب على المتدينيين المعتدلين هي لا شك حرب على الإسلام نفسه، وهي كفر وإلحاد وزندقة، وكم من حكومة تجبرت وظلمت وظنت أنها سيطرت على الأوضاع واستخدمت التعذيب والسجون، وفكرت وخططت وصرفت الأموال، فلم ينفعها ذلك في شيء، فعقاب الله لا تستطيع أن تقف أمامه قوة، ولا تنفع معه حيلة، قال تعالى: ?قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون? (26) النحل وقال تعالى: ?فانظر كيف كان عاقبة
مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين? (51) سورة النمل. فالمتدينون(1/104)
هم جنود الله. وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بالدفاع عنهم، والانتقام لهم، وإذا كان العقل يدعو لوضع حساب للقوى العظمى فإن العقل والإيمان يدعوان
للخوف الكبير من الاعتداء على أولياء الله سبحانه وتعالى قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
…5- التطرف مرفوض سواء جاء من جماعات، أو أحزاب، أو حكومات، ومن الضروري أن نعرف ما هو التطرف؟ فالتمسك بالعقائد أو الاقتناع ببعض الاجتهادات أو الالتزام ببعض المظاهر الإسلامية ليس من التطرف، فالتطرف هو مخالفة علماء الإسلام، وتشجيع سفك الدماء والفتن، واستخدام سلطة الحكومات بصورة ظالمة. وتطرف بعض الجماعات الإسلامية بحاجة إلى جهد شعبي وحكومي للقضاء عليه بالحكمة والحوار واللين، وللعلماء دور كبير في ذلك، ومن الضروري أن يدرك المتدينون المعتدلون أن المتطرفين خطر كبير على الإسلام والدعوة حتى لو كانت نواياهم صادقة، وبعض ما يقولونه صحيحاً، ذلك لأن العنف يفتح على الأمة جروحاً جديدة، ويمنعها من الحوار والتفكير، ولعل من أهم أسباب التطرف ضعف الثقافة الإسلامية الصحيحة، واستبداد وظلم الحكومات، والفقر وضعف التزام المجتمع بالإسلام، ونقص علماء الإسلام الواعين، وقد فشلت عدة حكومات في مكافحة التطرف، وذلك لأنها في أغلب الأحوال استخدمت القوة في حين أن المطلوب القضاء على البيئة التي ينمو فيها، وقد فعلت بعض الحكومات ذلك، فكسبت استقراراً سياسياً واستفادت من إخلاص كثير من هؤلاء الشباب في عملية البناء، ولا شك أن كسب التأييد الشعبي ضروري للقضاء على التطرف، وأن هذا التأييد لن يتحقق إلا إذا اتبعت الحكومات سياسات عادلة فقوة الحكومات كثيراً ما تكون في حكمتها ولينها وصبرها وعفوها، وهذا واقع مشاهد وباختصار فإن كثيراً من أدلة المتطرفين وأفكارهم لا يستطيع أصحابها كسب تأييد شعبي لها، وسيؤدي ذلك إلى تخلي كثير منهم عن تطرفهم ولكن بعض الحكومات وللأسف(1/105)
تجهل حقيقة التطرف فتعالجه بطريقة خاطئة، فتزيده قوة وعنفا، بل وشعبية!!
…6- نسبة الخير والشر في الحكومة هي نفس النسبة الموجودة في الشعب، وكما نطالب الشعب بإصلاح نفسه فكذلك نطالب الحكومة بإصلاح نفسها، فالحكومات مسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن أعمالها من خير وشر، ولديها قدرة كبيرة على إصلاح كثير من الأمور، فمن الخطأ أن تلقى مسئولية الإصلاح على الشعوب وحدها، وإذا لم تفعل الحكومات ذلك فإن الأوضاع ستزداد سوءاً، والأمة اليوم بحاجة إلى القيام بتغييرات جذرية في كثير من حكوماتها حتى تواجه أخطاراً كثيرة، حتى يمكنها تحقيق إنجازات اقتصادية وسياسية فلا بد من إشراك القيادات الشعبية في اتخاذ القرارات سواء من خلال إيجاد مجالس نيابية، أو من خلال اختيارهم لمناصب قيادية كوزراء ووكلاء وهذا من شأنه أن يجعل الشعوب تشارك في البناء وتتقبل بعض القرارات المرة إذا كانت منها فوائد، ولا بد من الاستغناء عن خدمات المنافقين، وما أكثرهم، وهؤلاء لا يعطون الحكومات قوة حقيقية ولا يحققون لها إنجازات طيبة لأنهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، بل يضعفون الحكومات لأن اختيار المنافقين يسبب نفوراً شعبياً ولعل من أهم ما يعطي الحكومات تاييداً شعبياً هو الحرص الكبير والصادق على تطبيق الشريعة الإسلامية، والأهم من ذلك أن هذا يقربها من الله سبحانه وتعالى، وهذا يسهل الأمور من حيث تدري ولا تدري، قال تعالى: ?ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز? (سورة الحج: 40).
…وقد شاهدنا بأعيننا كيف أن الله سبحانه وتعالى سهّل الرزق لأهل دول الخليج مع أنهم كانوا يعيشون في صحراء قاحلة لا ماء، ولا تكنولوجيا، ولا زراعة كافية، بل ولا حتى مدن بالمفهوم العصري، فحتى الدول الاستعمارية لم تكن ذات أطماع بها، ومع هذا أخرج الله سبحانه وتعالى الثروة النفطية من باطن الأرض وله الحمد والمنة والثناء الحسن.(1/106)
…7- نعلم أن الدين حق، وأن من الواجب أن نلتزم بالإسلام كأفراد
وشعوب وحكومات ولكننا نعلم أننا لن نشاهد ثمرات الإسلام الطيبة في
واقعنا إذا لم يكن هناك اقتناع وقبول والتزام من أعداد كبيرة منا، أما إذا
التزمنا فنحن الرابحوان في الدنيا والآخرة، وإذا عصينا فنحن الخاسرون في
الدنيا والآخرة، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل الناس أحراراً في
اختيارهم بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر وبين الطاعة والمعصية، والطريق السليم في نشر الدين هو في معرفة الإسلام، ودراسته بعيداً عن التعصب والجهل والظن، وفي الالتزام الصادق بما نؤمن قولاً وعملاً، وفي تبني دعوة سلمية تخاطب عقول الناس بالحجة والبرهان والعقل وفي جهاد صحيح ندفع به ظلم أعداء الدين، ونحمي عقيدتنا، وأراضينا وأموالنا. والدعوة السلمية ضرورية خاصة وإن المبدأ الإسلامي له تأييد شعبي كبير حتى لو كان هناك جهل وانحرافات، ونحن بحاجة إلى شباب ذوي أخلاق عالية، فلا ينتقمون، ولا يحرصون على مصالح شخصية أو مناصب ويريدون الخير للشعوب والحكومات، يكسبون قلوب الناس بالصدق واللين والحكمة والصبر، ويؤمنون بأسلوب ابن آدم الثاني، ويكرهون العنف والدماء والانفجارات. وما نشاهده الآن من صحوة إسلامية في كل مكان ما هو إلا دليلاً واضحاً على نجاح الدعوة السلمية، فأعمال العنف لا تحقق في الغالب غير الجروح والفشل والعدواة والبغضاء، وصحيح أن الدعوة السلمية بطيئة ولكن التغيير الحقيقي هو أيضاً بطيء فالسير خطوة خطوة يؤدي إلى اكتساب خبرات سياسية واقتصادية وعقائدية أما القفز فغالباً ما يؤدي إلى السقوط، وفهم الإسلام بحاجة إلى وقت وتطبيقه بحاجة إلى وقت، وكذلك إقناع الناس به، وبالتالي فالإصلاح ونشر الإسلام بحاجة إلى وقت خاصة وأن هناك أعداء كثيرون وغزو ثقافي، وجهل كبير، وطريق الدعوة السلمية ليس مفروشا بالورود، بل فيه معاناة وتضحية وصبر وتحمل للأذى، وبذل للوقت والمال، ولا يصبر(1/107)
في هذا الطريق إلا من يريد الأجر من الله، ويعلم أن واجبه الشرعي أن يستمر في الدعوة لآخر العمر سواء استجاب الناس أم لم يستجيبوا فالدعوة السلمية هي جهاد مستمر، فحمل المباديء، أي مباديء، هي عملية مرهقة ولهذا وجدنا كثيراً من العلمانيين والشيوعيين والرأسماليين يتخلون عن مبادئهم
ويفضلون أن يهتموا بمصالحهم الخاصة أو شهواتهم. ومن أراد أن
يقتنع بمرارة الدعوة السلمية وصعوبتها أن يحاول تحقيق بعض الإنجازات الإدارية في وزارته أو مؤسسته أو شركته، وعموماً فإن وجوب تطبيق الشريعة ليس
معناه إجبار الشعوب والحكومات على الالتزام بها إذا كانوا لا يريدون ذلك، فهم أحرار في اختيارهم وهم مسئولون عن اختيارهم أمام الله، فلا داعي لإجبارهم بالقوة، أما إذا كانت الأغلبية تريد الإسلام، وظهر صدقها فإن التطبيق سيحدث، وسيخضع الجميع له من يريده ومن لايريده، وصحيح أن رفض الناس للإسلام وإعراضهم عنه شيء مؤلم، فالمسلم يريد الخير لشعبه وأمته، فإذا فشل فيسير في دعوته، ويتركهم لمصيرهم الأسود، قال تعالى: ?فتولى عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين? (سورة الأعراف: 79).(1/108)
…8- قضية الدين ودوره في المجتمع قضية جوهرية، وأساسية، ونحن جميعاً بحاجة ماسة إلى تحديد وتنظيم وترشيد هذا الدور حتى لا يتم استغلاله من جماعات أو حكومات، أو أهل المصالح والأهواء سواء بحسن نية، أو بسوئها، وهناك حقائق نؤمن بها، ونحن بحاجة إلى وضعها في نظم حديثة فمن الضروري وضوح الخطوط العريضة والحدود في دور علماء الإسلام، وصلاحيات الحكومات، وحقوق الأفراد، وما يجوز الاجتهاد به، وما لايجوز، وما يخضع للحلول الوسط، وما يعتبر مباديء وما هي حدود السياسيين؟ وما هي حدود الاختصاصيين؟ ومكانة القضاء وصلاحياته؟ وهذا غيره سيؤدي بإذن الله إلى ترشيد حركة المجتمع، وتطويرها، وحل قضايا كثيرة معلقة، لأننا نتحرك الآن في الغالب على رمال فكرية متحركة لا نستطيع أن نبني عليها بناء شامخا لأننا لا زلنا غير متفقين على الأساسيات والقواعد، وتحديد دور الإسلام في المجتمع يجب أن يتم من خلال اتفاق شعبي حكومي، ويترجم هذا الاتفاق في دستور وقوانين ووثائق واضحة تجعل القوى الشعبية المخلصة والحكومات الصادقة تتعاون، ولا تتصارع، وتتفق ولا تختلف، وإذا لم نتفق على دور الإسلام في المجتمع فلنعلم أننا مختلفون جداً، وإذا وجدت اتفاقات حول قضايا سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك فهي اتفاقات جزئية، ومعرضة للضياع، لأن المتحكم الرئيسي في هذه الحالة معادلة توزان القوى والمصالح، والظروف المحيطة، وكلاهما يتغير مع الأيام.
إصلاح القوى الشعبية(1/109)
…اقتناعنا بأن للإصلاح جانب شعبي أولاً (اتجاهات، أحزاب، جماعات، جمعيات، قبائل، أسر، أفراد) وجانب شامل ثانيا (إداري، سياسي، اجتماعي، عقائدي، تكنولوجي) يفرض علينا القيام بدورنا فوراً في العملية الإصلاحية، فليس صحيحاً أن تحقيق إنجازات كثيرة في التعامل مع إيجابيات وسلبيات الواقع بحاجة إلى قرارات حكومية. وسنحاول أن نسلط الأضواء على إيجابيات وسلبيات القوى الشعبية، وسنرى أن بإمكاننا عمل الكثير، وسنترك الفئات الشعبية الأخرى والجوانب الشاملة لمن يريد أن يتحدث فيها. ومن السلبيات التي نجدها في أغلب القوى الشعبية ما يلي:
…1- ضعف الوعي الإسلامي وخاصة في مجال العقائد والسياسة، وهذا الوعي لا يكتسب فقط بالقراءات الكثيرة والحوار، بل لا بد من أخذ العلم من علماء واعين، فبعض القوى الشعبية تريد أن تقود أمة عربية مسلمة دون أن تكون واعية إسلامياً!!
…2- أغلب القوى الشعبية تعتبر نفسها الممثل الشرعي الوحيد للشعوب مع أن الشعوب لم تخترها ولم تحاول حتى أن تشاور الشعوب وتشاركها في صياغة الأهداف والأولويات والآراء، بل نجدها تحاول فرض آرائها وعقادئها على الشعوب، أي هي تريد أن تحكم الشعوب، ولا تريد للشعوب أن تحكم نفسها، فالدكتاتورية مرض شعبي.
…3- غياب الحوار العلمي الهادف مع بعضها البعض، فلا توجد دراسات علمية محايدة، ويوجد تعصب للرأي والأفراد، وتوجد مزايدات سياسية
وفكرية، ولا يوجد صبر كاف لنقاش ودراسة القضايا المطروحة، ومن
لا يعرف الحوار العلمي لا يصلح بالتأكيد لأن يقود أمة، وكثير من
القوى الشعبية تعتبر نفسها الواعية والذكية والمخلصة، أما الآخرون فهم
ضائعون وأغبياء ومكابرون، ونقول لهؤلاء تواضعوا وابتعدوا عن الغرور، فللآخرين عقول فاحترموها.(1/110)
…4- غياب البرامج المحددة التي تعكس قناعات واجتهادات القوى الشعبية، فالأغلبية تتحدث عن شعارات وأهداف عامة لا يختلف عليها إثنان، وهي تبتعد عن طرح حلول لمشاكل محددة عقائدية أو سياسية أو اقتصادية، وتفضل أن تتحدث عن المباديء العامة، وتحاول أن ترضى الجميع، ولهذا تبتعد عن القضايا الساخنة، فلا توجد عندها حلول لصراعات عقائدية أو سياسية، أو مصالح متصادمة، أو تخلف إداري واقتصادي.
…5- العمل بكافة أنواعه بحاجة إلى الالتقاء مع الآخرين، والتنازل عن بعض الاقتناعات والآراء، والوصول إلى حلول وسط في بعض القضايا، وهذا من بديهيات التعاون والوحدة والقوة، والملاحظ أن المكابرة والعناد والانفرادية في كثير من القضايا هو طبع متأصل في القوى الشعبية، بل إن البعض ليس على استعداد للالتقاء مع الآخرين أو التعاون معهم في قضايا متفق عليها مع أن حجم هذه القضايا يكون أحياناً كبيراً جداً، وتحقق مصالح كبيرة للإسلام والأوطان، ولا أدري لماذا لا نرى أين نحن متفقون؟ ونصر على أن نرى أين نحن مختلفون؟ ولماذا لا نقبل الاختلافات الاجتهادية؟ ليس لأن قبولها يحقق التقارب والتعاون، بل لأن وجودها شيء لا بد منه، ولا يمكن أن تزول، وكانت موجودة بين الصحابة، وبين علماء الإسلام، وبين سياسيين مخلصين، وأخيراً لماذا لا نرى إيجابيات الآخرين ونشكرهم عليها؟!
…6- نشاط أغلب القوى الشعبية يتركز حول الجوانب السياسية،
وخاصة الانتخابات في حين أن العمل الشعبي يتطلب جهوداً كبيرة في
الأعمال الخيرية والاجتماعية والتربوية والعقائدية والإدارية، فالحسابات السياسية لن تكون صحيحة إذا كانت تعتمد على نظرة جزئية للواقع وحقائقه،
فسعادة الشعوب وشقاؤها لا يعتمد فقط على الجانب السياسي،
فالتقدم مطلوب في كل المجالات، وأي نجاح سياسي لا يرتكز على قواعد عقائدية واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية فسيكون مصيره الفشل!!!(1/111)
…7- وجود التحزب الأعمى، وافتقاد العدل والموضوعية، وخاصة في الترشيح والاختيار للمناصب القيايدية، فكثيراً ما يتم تقديم أهل الانتماء الحزبي على غيرهم ممن هم أكفأ منهم من أبناء الشعب، ومع هذا نجدهم يرفعون شعار الرجل المناسب في المكان المناسب ونقول لا بد أن يدرك المخلصون أنهم إذا خسروا العدل والموضوعية فقد خسروا الكثير.
…8- التساهل مع المنحرفين في داخل القوى الشعبية، حيث نجد هناك خلطاً بين المعتدليين والمتطرفين في الاتجاه الإسلامي واليمين الإسلامي باليمين الرأسمالي في الاتجاه الليبرالي، واليسار الإسلامي باليسار الشيوعي في الاتجاه الاشتراكي، والقومي الإسلامي بالقومي العلماني أو العنصري في الاتجاه القومي، وحل هذا التلوث ضروري جداً لتقارب المخلصين لإسلامهم وعروبتهم، والواقعية والعصرية، وهذا التلوث سبب إضعاف القوى الشعبية، وأحيانا تحطيمها. فلنخسر هؤلاء المنحرفين، وسنكسب بإذن الله الكثير جداً من الواعين المخلصين.
…9- كثيراً ما تحاول القوى الشعبية تسييس الجمعيات المهنية، والاتحادات الرياضية، والمؤسسات الأكاديمية، ونقول يجب أن تبقى هذه المؤسسات مؤسسات عامة لكل الشعب، وأن تهتم بتحقيق إنجازات في مجال أعمالها حتى لا تفقد حياديتها وموضوعيتها.
…10- عدم أو قلة مشاورة العلماء المخلصين وأهل الاختصاص قبل تبني القناعات والآراء والقرارات والمواقف، ولا شك أن للعلماء المخلصين الواعين وأهل الاختصاص دوراً كبيراً في تحقيق الاستقرار السياسي، والترشيد الفكري، وتقريب وجهات النظر، ليس فقط بين القوى الشعبية مع بعضها البعض، بل حتى بينها وبين الحكومات، وقد أدركت بعض الحكومات هذا فكسبت استقرارا سياسيا وتاييدا شعبيا.(1/112)
…والمتأمل في هذه السلبيات يدرك أن بعضها أو أغلبها موجود في كثير من الحكومات مما يثبت أن الحكومات هي صورة صادقة من أخلاق الشعوب وسلوكهم وعلمهم واقتناعاتهم وعقائدهم ودرجة إخلاصهم، وتعالوا بنا لنسلط الأضواء على سلبيات وإيجابيات لقوى شعبية(1) وهي:
أ- القوى الشعبية الإسلامية: من الضروري أن يبتعد بعض علماء الإسلام عن إصدار الفتاوى السياسية، أو اتخاذ مواقف سياسية إذا كانوا يفتقدون المعرفة السياسية المطلوبة، فقد وجدنا بعض العلماء والجماعات الإسلامية يتخذون مواقف سياسية دون أن يكونوا واعين سياسيا، أي دون دراسة وعلم وخبرة في الأمور السياسية، ولا نقول إن الاجتهاد السياسي ممنوع، ولكننا نقول إن الاجتهاد لا يحدث في غياب توفر دراسات سياسية وفي غياب أجهزة سياسية لجمع وتحليل المعلومات مثل تلك التي تتوفر في وزرات الخارجية والداخلية والدفاع. ومن الضروري أن يحدث الاجتهاد السياسي وحتى الفكري بصورة جماعية ومن خلال مجالس للعلماء بعد الاستعانة بأهل التخصص من سياسيين أو اقتصاديين أو أطباء. والقوى الشعبية الإسلامية بحاجة إلى زيادة علمها وأعمالها في علم الشورى وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات، وسلبيات التعصب العرقي وعلم الحرية، فالإسلام ليس عقائد وعبادات فقط. ونجد عند القوى الإسلامية ضعفاً في الثقافة العالمية، وتعصبا لبعض العلماء والجماعات، ونجد بعضها تؤمن بالعنف، وتعيش في بيئة من الشك في النوايا والأفعال، وترفض التعددية الحزبية ويضيق صدرها من اختلاف وجهات النظر، ونجد عندها إهمالاً كبيراً لاكتساب شهادات وخبرات إعلامية وسياسية واقتصادية وإدارية، وعموما فالقوى الإسلامية بحاجة إلى تغييرات
ــــــــــــــــــــــ
(1) نقترح مراجعة كتاب "رؤية إسلامية معاصرة" إعلان مبادئ، للدكتور أحمد كمال أبو المجد لما فيه من فؤائد كبيرة للقوى الشعبية".(1/113)
جذرية كثيرة، وقد أعجبتني كلمات قالها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله: "نجحنا في التصفية، ولم ننجح في التربية" ولا زلنا ننتظر كثيراً من الاعترافات من الإسلاميين لأن معرفة المشكلة هي نصف الطريق إلى الحل.
وإيجابيات القوى الشعبية الإسلامية كثيرة لعل أهمها وجود نظام فكري صحيح، ووعي عقائدي إسلامي، ونشاطات كثيرة في الأعمال الخيرية، وارتفاع نسبة الإخلاص، والحرص على الأخلاق الفاضلة، والانتشار في مختلف الفئات الشعبية.
ب- القوى الشعبية القومية: لعل من اهم سلبيات هذه القوى غياب المنهج الفكري، وتجاهل أهميته، والتركيز فقط على القضايا السياسية، وهذا أدى إلى تحول بعضها إلى التكتل حول الولاءات العرقية والشخصية، فغاب دور الدستور والقانون والمبادئ، وشجعت هذه القوى بدعة المستبد العادل، وعارض بعضها التعدد الحزبي، والانتخابات الحرة، وحرية الصحافة، وأغلبيتها تفتقر إلى الوعي العقائدي الإسلامي، ولم تقم بواجبها الإسلامي، فلم تدافع عن العقيدة الإسلامية، ولم يكن لها دور يذكر في نشر الإسلام أو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، واتخذت بعضها مواقف متطرفة من بعض الجماعات الإسلامية، وسمحت للعلمانيين والشيوعيين أن يدخلوا ضمن صفوفها.
ومن ايجابياتها حرصها الشديد على التعاون والوحدة بين الدول العربية، وتشجيع حركات التحرر العربية، ومحاربة التعصب الإقليمي، وتشجيع الاعتزاز بالهوية العربية، وباللغة العربية، والحرص على الاستقلال السياسي والانفتاح الثقافي، والاعتدال في الأطروحات الاقتصادية.
ج- القوى الشعبية اليسارية: لعل من أهم سلبياتها مواقفها المتخاذلة من الشيوعيين مما جعل الشيوعيين يسيطرون على بعض هذه القوى فأصبحوا كأنهم
طابور خامس في بلادنا موالي للنظام الشيوعي، وهذا أدي إلى
تصادمهم مع القوى الشعبية الأخرى، وخاصة الإسلامية(1/114)
والقومية كما أدى إلى تصادمهم مع بعض الحكومات ولا شك أن كل مخلص يقف مع حقوق العمال والفلاحين والفقراء ولكن خلط هذه الحقوق بأفكار شيوعية عملية مرفوضة من أساسها وتأثر القوى اليسارية بالشيوعية جعلها تعيش في عالم من الجهل والغرور مما جعلها تصنف الناس بسهولة إلى امبرياليين، وخونة ورجعيين، وجعل أغلب المفكرين اليساريين يعيشون في بيئة فلسفية منعزلة عن الواقع مما جعل جذورها الشعبية محدودة وتقتصر على أعداد قليلة من المثقفين الساخطين تقريبا على كل شيء، وأول وأهم خطوات الإصلاح لهذه القوى هي فك التشابك بين اليساريين المسلميين واليساريين الشيوعيين وهذه الخطوة بديهية ليس لأن النظام الشيوعي انهار فقط، بل أيضا لأن وجود التلوث الفكري الشيوعي جعلها قوة ضعيفة مفككة تفتقد للجذور الشعبية حتى قبل أن ينهار النظام الشيوعي.
أما إيجابيات القوى اليسارية فلعل أهمها الحرص على مصالح الفقراء والعمال ومحاربتهم للتعصب العرقي سواء كان إقليميا، أو قوميا، ورفضهم للتبذير والإسراف والكماليات الزائدة، وحسن علاقاتهم مع الأقليات العرقية والدينية، ورفضهم للمواقف الانهزامية، وحرصهم على المساواة بين الأفراد.
د- القوى الشعبية اليمينية: لعل من أهم سلبيات هذه القوى هو تقليدها للغرب في أجزاء كبيرة من ثقافته وعاداته ونظمه ومصطلحاته، ومن عيوبها أنها أحيانا واقعية أكثر من اللازم، وهمومها في أغلبها هي هموم الأغنياء لا هموم كل فئات الشعب، وهي في الغالب تهتم بالجوانب التجارية والاقتصادية، وعندها تجاهل كبير للجوانب العقائدية والسياسية، ومواقفها متخاذلة مع الاحتكار والتبذير والترف والفسق. وسمحت بعض هذه القوى للرأسمالين والعلمانيين بالدخول فيها، والتأثير في أفكارها ومواقفها، وأغلبها تفتقد للجذور الشعبية وفي حاجة ماسة إلى بناء الجسور مع كل فئات الشعب، وعلى(1/115)
المخلصين فيها أن يدركوا أهمية ذلك، فلا يمكن أن يكون لك تأثير في الشعب إن لم تكن فكرا وسلوكا وعملا فرد منهم، فالكفاح المترف خداع للنفس، والحرص على المناصب الشعبية واحتكارها من قبل أفراد وعائلات ليس له تأثير فعلي في هذا الواقع.
وأهم إيجابيات القوى الشعبية اليمينية هو إيمانها بالتعددية الحزبية، والحرية الصحفية، والاحتكام للدستور والقوانين، ولديها خبرة طويلة وكبيرة نسبيا في الاقتصاد والسياسة والثقافة الغربية، وتؤمن بالتدرج في البناء والحلول الوسط.
التعاون الشعبي العربي(1/116)
…يجب أن يكون التعاون العربي أحد الأهداف الرئيسة لشعوبنا وحكوماتنا ولا يفرض هذا التعاون فقط إيماننا بالإسلام وانتماؤنا العربي، بل تفرضه ايضا مصالحنا في عصر اضطرات فيه أوروبا للتعاون والوحدة لأن وجود الأسواق الضخمة هو أحد أسس النجاح الاقتصادي والتقدم التكنولوجي، والقوة السياسية والعسكرية، ولا شك أن من بديهيات العقول أن أمة متفرقة هي أمة ضعيفة، يسهل هزيمتها وابتزازها، وتحطيمها، وهذه حقيقة أدلتها التاريخية والعصرية كثيرة، وتنطبق على واقع أمتنا العربية، فكيف نصبح أمة قوية وجيوشنا تحارب بعضها البعض؟ وكيف نحقق تقدماً اقتصادياً كبيراً وأسواق أغلب دولنا صغيرة لا تشجع على إقامة المصانع الكبيرة والمزراع الضخمة؟! وكلنا يعرف أن هناك مئات البلايين من الدولارات العربية المهاجرة للغرب والشرق لا تجد أغلبها فرص الاستثمار المناسب داخل الوطن العربي لصغر حجم السوق، أو لاعتبارها أموالاً أجنبية أو لأسباب أخرى. وايجابيات التعاون كثيرة جداً، ولجميع الأطراف، ويمكن به تحقيق إنجازات عظيمة، وأكبر بكثير من تلك التي تحققها دول متفرقة، وهذه الإيجابيات في كل المجالات الاقتصادية والسياحية والعلمية والتكنولوجية والسياسية...الخ. وإلى متى نتمسك بالعوائق الموجودة من تعصب إقليمي، ووطني أو من قوانين متخلفة لا تشجع الاستثمار أو مصالح ضيقة واحتكارات، فإذا كنا مسلمين حقاً، واشقاء فلنتعامل على هذا الأساس قدر ما نستطيع، ونحن نستطيع الكثير، وإذا لم نفعل ذلك فالطوفان الحالي سيستمر في إضعافنا وتدميرنا، وسيغرق من يظن أنه سينجو لأنه إذا غرقت السفينة سيغرق كل من عليها حتى لو ظن بعض من عليها أنهم يجيدون السباحة، فالأمواج أعلى بكثير من مهارات أفضل السباحين!!!
…إذا كان ما قلناه يؤيده الدين والعقل وحقائق الواقع فيحق لنا أن
نقول: إن مبادئ التعاون العربي والوحدة العربية شبه منقرضة في واقعنا(1/117)
الحالي، وأن السبب يرجع إلى اختفائها من نفوس كثير منا، فهي بعيدة عن تفكيرنا، وآمالنا ومطالبنا، فكأن لا أحد يهتم بزراعة بذورها، أي كأنها شعبيا مفروضة، وهذا هو السبب الرئيسي في أننا لا نشاهد ثمارها، وإصلاح هذا الواقع يتطلب أولا إصلاح ما بنفوسنا من أماني وأهداف وليكن التعاون العربي هدفاً أساسياً، ونستطيع أن نقول إنه نادراً ما سمعنا خلال العشرين سنة الماضية حديثاً جاداً في هذا الموضوع، فالجهل بأهمية التعاون مرض شعبي قبل أن يكون مرضاً حكومياً ونثر أشواك اليأس والسخرية من الداعين إليه يجعلك تظن في أحسن الأحوال أن ما تدعو إليه قضية هامشية لا أهمية لها في الدين، أو السياسة، أو الاقتصاد، والمفروض أن تأخذ هذه القضية اهتماما لا يقل عن اهتمامنا بالحفاظ على ديننا، ونشره، وعلى الديمقراطية (الشورى) وتطبيقها، ولعل من أهم معوقات التعاون العربي هو في نظرتنا الشعبية إليه لأنها نظرة أنانية تريد أن تأخذ ولا تعطي، وما دام الأغلبية يريدون أن يأخذوا، وقلة تريد أن تعطي فلا شك أنه لن تكون هناك ثمار كثيرة، وسيبقى التعاون وفوائده حلماً وسراباً ولكن لو حدث العكس فقمنا نحن بالعطاء والمساعدة، وفعل الآخرون ذلك لكثرت الثمار، وتنوعت، واستفاد الجميع، فعلينا أن نتعب ونزرع ونضحي ونصبر وبالتأكيد سنحصد، وهذا ما يفعله الفلاح في أرضه، والموظف في الشركة الناجحة، فإذا فتحت دولة أبوابها للأموال العربية، وشجعتها وساندتها علميا وإداريا وماليا، فإن ثمار النجاح والحصاد ستكون من نصيبها، وسيجد المستثمرون من أهل هذه الدولة فرصاً استثمارية مستقبلية في دول عربية أخرى، لأن المعاملة بالمثل ستفرض نفسها مع مرور السنين إذا تشابكت المصالح وسيجد العمال في هذه الدولة أو تلك فرص عمل كثيرة وسيتم تحقيق إنجازات عقارية وسياحية وصناعية وخدمية ... الخ. ونحن لا ندعو إل تعاون عاطفي وخيالي، ولا نطالب بالمستحيل، وندرك وجود صعوبات عديدة ومختلفة،(1/118)
ولكننا ندرك أن للصعوبات حلولا، وأن هدفنا في التعاون يجعلنا نأخذ المبادرة في تذليل كثير من الصعوبات حتى لو
تقاعس الآخرون، ولنثق بأنه كلما زاد الإيمان في قلوبنا، والعلم في عقولنا
شعرنا بأن كل فرد عربي هو مواطن، وكل شركة عربية هي شركة وطنية، وأن كل استثمار في أرض عربية أو إسلامية هو استثمار في وطننا، وهذا لن يتحقق من خلال طريق مفروش بالزهور، فهناك كثير من الأشواك علينا أن نسير عليها، ونتحمل آلامها، وننبه من يسيرون خلفنا على وجودها حتى يتجنبوها، وسأعطي مثالاً صغيراً تحقق فيه نجاح كبير، فقد كانت مميزات تركيا السياحية مجهولة، وأخذ بعض الشباب الخليجي المبادرة و "اكتشفوا" هذه الدولة سياحيا، وشجعوا السياح الخليجيين على زيارتها فازداد عددهم وتجاوبت الحكومة التركية بقيادة تورغوت أوزال رحمه الله فألغت تأشيرات الدخول (الفيزا) وشجعت توفير الشقق المفروشة، فازداد عدد السياح بدرجة كبيرة، وأقيمت علاقات تجارية وثقافية كبيرة، وقامت صداقات بين العرب والأتراك. فمن الإخلاص للدين والأوطان أن يتوجه السياح العرب إلى الدول العربية والإسلامية خاصة وأن بعضها لديها مؤهلات سياحية ممتازة.. ونتمنى أن يقوم التجار والعلماء والسياسيون والطلاب والمدرسون... الخ بأخذ المبادرة في التعاون التجاري والصناعي والعلمي والسياسي والتربوي والسياحي... الخ فلنبدأ من حيث انتهى اخواننا فلا نكرر نفس الأبحاث والدراسات، ولا نكرر نفس الأخطاء التجارية والعقارية، بل نزيد نجاحهم نجاحاً، وننقل إليهم تجاربنا الناجحة، فنحن أسرة واحدة، فنجاح أخيك هو نجاح لك ولأبنائك.
…وقد يقول قائل: لماذا التعاون العربي، فكثير من مصائبنا مصدرها عربي، فهناك الغرور والطمع والحسد والتآمر، ونقول قد يكون كثير مما تقول صحيحاً ولكن أيضاً كثير من مصائبنا مصدرها أجنبي وكثير منها مصدرها وطني فهل نكفر بناء على ذلك بالتعاون الوطني ونمزق أوطاننا، أو ننعزل عن العالم(1/119)
ودوله؟ ولندرك أن تمزيق الأمة هو تمزيق للوطن، وهو ليس حلاً لأمراضها، بل هو يزيد أمراضها، ويضعف أوطاننا، ويجعل كل وطن منا فريسة سهلة
للأعداء الداخليين والخارجيين، وعلينا أن نعرف أن الأخيار والأشرار
موجودون في أوطاننا، كما هم موجودون في أمتنا، ومن
اساسيات النجاح في التعاون هو البحث عن الأخيار في الوطن والأمة والتعاون معهم، فهؤلاء هم الصادقون في انتمائهم للإسلام والعروبة، أما أهل العقائد المنحرفة والمصالح الأنانية والمشبوهة فهم طابور خامس لا يريد الخير للإسلام والأمة، ولا للوطن، فالتعاون يبني على قاعدة فكرية إسلامية معاصرة بعيدة عن التطرف، وبعيدة عن الميوعة الفكرية، وإضاعة الدين، وهو مبني على قاعدة بشرية من المخلصين الواعين من أصحاب الاتجاهين القومي والإسلامي، أما غير هؤلاء فقد غرقوا في مستنقعات الضياع العلماني، والتعصب العرقي والوطني، وفتن المال والشهوات والمناصب، فالأخيار موجودون، وكذلك الأشرار، ومن الخطأ أن نرى واقعنا دائما من خلال نظارة سوداء لأن هناك إيجابيات كثيرة عند الآخرين والمهم أن ننتصر في تغيير أنفسنا، فإذا نجحنا فإن النصر على أعداء الوطن والأمة آت بإذن الله، وحتى ننجح في التعاون العربي فإننا ندعو أن ينشغل كل شعب بإصلاح سلبياته، وأن نبتعد قدر الإمكان عن محاولة إصلاح الشعوب الأخرى، فالآخرون عادة لا يقبلون إصلاح الغير لهم سواء كان الآخرون فرداً أو حزباً أو جماعة أو حكومة أو شعباً، وقد عانينا كثيراً من محاولات فرض الإصلاح على الآخرين سواء كان هذا الإصلاح لعقائد أو أفكار أو
مواقف أو سلوك، والواجب الشرعي أن نشتغل أولاً بإصلاح أنفسنا، وأسرنا وأحزابنا وجماعاتنا وشعبنا، وإذا بدأنا في ذلك في كل المجالات وجزء
من هذه البداية هو إلقاء اللوم في ضعف تعاون الأمة علينا لا على الآخرين(1/120)
فقد بلغنا مرحلة متقدمة جداً من الوعي الإصلاحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس" وقيل: إن أعظم
المصلحين هم الذين بدأوا في إصلاح أنفسهم" فلنتذكر هذا ولنتذكر معه
ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد كمال أبو المجد: "وليس من شك في أن حال
الأمة لا يبشر بخير في حاضر المسلمين ومستقبلهم وهو ما ينبغي
أن يعيه المسلمون جيداً حتى يدركوا أهمية التعاون الجاد للتغلب على
سلبيات الواقع وإنهاء أسباب ضعفهم واستضعافهم من الآخرين، ليعودوا أمة قوية متماسكة يهابها الآخرون ويحسبوا لها ألف حساب"(1) ولن يتحقق التعاون الجاد والكبير ونحن مختلفون عقائديا وفكريا وأعمالا ونوايا فلا بد من إحداث تغييرات جذرية في أنفسنا ولا شك أن سعي الأفراد والجماعات والأحزاب والحكومات للالتزام بالإسلام الصحيح سيحدث تجانسا بين النظم السياسية التي نتبناها والفلسفة العقائدية التي ننطلق منها والأهداف التربوية التي ندرسها لأبنائنا والأعراف والأخلاق التي نتعامل بها والمصطلحات التي نستخدمها وعندما نصل إلى هذا الوضع أي الوحدة الفكرية سيكون الحديث عن التعاون والتكامل والوحدة أكثر واقعية من أحلام اليقظة التي نعيشها الآن.
ــــــــــــــــــ
(1) د. أحمد كمال أبو المجد، جريجة الشرق الأوسط 8/7/1994م.
من معوقات إصلاح الشعوب
…إذا أرادت شعوبنا أن تتقدم وتتطور وتتغلب على مشاكلها وتحقق كثيراً من طموحاتها وأهدافها فلا بد أن تزيد رصيدها في ثلاث مجالات: العلم بشقيه الفكري والتكنولوجي، والعمل بشقيه الإيماني والدنيوي، والإخلاص أي تكون أعمالنا خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، وهناك معوقات شعبية تمنع تحقيق إنجازات طيبة في هذه المجالات لابد من التعرف عليها، ومحاولة التخلص منها، أو على الأقل التقليل من آثارها، ومن هذه المعوقات ما يلي:(1/121)
…1- اليأس والتشاؤم: يجيبك كثير من المخلصين عندما تنصحهم بالجد والاجتهاد والعلم بأنه لا فائدة من العمل؟ أو ماذا نستطيع أن نعمل فالأوضاع ميئوس منها سياسياً أو إدارياً أو علمياً...؟! أو هل تريد أن تغير الكون؟ أو قالوها قديما "ما فيش فايدة يا صفية" والحل الذي يقترحونه هو ننام وننسى، ولأننا طبقنا هذا الحل، وانتظرنا طويلا، ولأنهم انتظروا، فلم تمطر السماء ذهبا ولا فضة، بل زادت مشاكلنا، فلا بد إذن أن نقتنع بأن الياس والتشاؤم لن يأتيا بخير، وأن الهزيمة النفسية (اليأس) هي أشد خطراً من الهزائم العسكرية الكبيرة، إن هؤلاء اليائسين هم أفراد من الشعب وهم من أكبر معوقات الإصلاح، والغريب أن بعضهم يظن أنهم قاموا بواجبهم، ولا ندري أي واجب هذا الذي قاموا به غير الكسل والهرب واللامبالاة، ونحن نعلم أنه لو يئس المسلمون لما فتحوا القسطنطينية، بعد محاولات فاشلة كثيرة، ولو يئس صقر قريش لما استطاع بناء الدولة الأموية في الأندلس خاصة وأنه كان فردا ضعيفاً هارباً بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق، ولو يئس الجزائريون لما تحرروا من فرنسا، ولو يئس
الأفغان لما هزموا روسيا، ولو يئس الفيتناميون لما هزموا أمريكا، ولو يئس الشباب الكويتي لما تكونت لجنة مسلمي افريقيا، وقامت بإنشاء آلاف
المساجد والآبار والمدارس والمستشفيات وتوزيع ملايين الكتب الإسلامية. وقد يقول قائل إن هناك صعوبات كثيرة، ونقول: نعم إن الصعوبات موجودة في(1/122)
كل زمان ومكان، فطريق العلم والعمل لم يكن يوما ما مفروشا بالورود، ولماذا ننظر فقط للصعوبات ولا ننظر للإمكانيات المتوفرة من ثروات بشرية ونفطية ومالية، وعقيدة صحيحة وأراض شاسعة... الخ؟! إن علينا أن نسعى لعمل أكبر عدد من الإيجابيات، وتقليل عدد السلبيات، وهذه عملية بحاجة إلى صبر واستمرارية، ووقت وتفكير ودراسة فالظن بأننا سنقوم بتغيير الواقع خلال سنوات قليلة وهمٌ كبير، فالتغيير دائما ما يكون بطيئاً وتدريجياً فشجرة الزيتون تحتاج سنوات من الرعاية حتى تثمر، وتربية الأبناء كذلك، ومحاولة إقناع البعض بفكرة معينة تحتاج سنوات طويلة، فلا توجد عصا سحرية تغير أوضاعنا العقائدية والسياسية والاقتصادية، فاليأس والإحباط من الطبيعي أن ينتج عندما تكون حساباتنا خاطئة، ولا أقول متفائلة، فالكثيرون يريدون أن يروا نتائج أعمالهم بسرعة، وهذا دليل على جهلهم، فالتغيير لا يحدث بسرعة، ليس فقط في مجتمعاتنا، بل في العالم كله، فلا الحكومات، ولا الأحزاب، ولا الجماعات، ولا العلماء ولا غيرهم، يملكون عصا سحرية فلا بد من السير في الحياة خطوة خطوة، ولكن لا شك في أن هذه الخطوات الصغيرة إذا انتشرت في كل مكان في المدارس والمنازل والحكومات والأحزاب والأفراد والوزارات والمؤسسات فإنها ستأتي بخير كثير إن شاء الله وسيمكن تجميعها لتحقيق واقع أفضل، ولعل من أهم العوامل التي أنتجت اليأس هي الربط بين العمل والنتيجة، أي نريد أن نرى نتائج أعمالنا في واقعنا، وبأعيننا، وإذا لم نرها فإننا نعتقد أنه لا فائدة من العمل فنتركه ونيأس، ونقول إننا شرعاً مطالبون بأن نعمل، وأن نتقن أعمالنا، وأن تكون أعمالنا صحيحة شرعياً وواقعيا، وإذا فعلنا ذلك فقد أخذنا الأجر كاملاً، ومنها فائدة سواء كان لها تاثير في الواقع، أو لم يكن، فكم من نبي دعا قومه، فلم يستجيب أحد أو استجاب القليل، ومع هذا أخذ أجره على عمله، وغير الأنبياء كثيرون، فتغير الواقع والبشر(1/123)
خارج سيطرتنا ولن يحاسبنا الله عليه، أما إتقان عملنا
والاستمرارية فيه فهو ضمن سيطرتنا، ونحن محاسبون عليه، وصحيح
أننا نحب النجاح، وأن نرى نتائج أعمالنا، ولكن عدم رؤية ذلك
ليست مبرراً لأن نترك العمل، فاليأس لا مكان له في قلب المسلم، فهو دائما يعمل سواء كانت أمته في المقدمة أو المؤخرة، وسواء نجح أو فشل، والفشل عنده مدرسة يتعلم منها أخطاءه لا مقبرة لمعنوياته وأعماله، قال تعالى: "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" وقال ابن مسعود رضي الله عنه" الهلاك في اثنتين: العجب والقنوط (اليأس) وذلك أن السعادة لا تدرك إلا بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه لا يسعى لأنه قد وصل، والقانط لا يسعى لأنه لا فائدة للسعي في نظره".
…2- تقليل شأن الإنجازات الصغيرة: فقدنا وللأسف ملايين الانجازات الصغيرة المفيدة لأننا لم نقتنع حتى الآن بأن الأنهار العظيمة تكونت من قطرات مطر صغير، ولم نقتنع أن قيام الأم بتربية أبنائها تربية إسلامية عمل جبار يستحق كل تأييد وتشجيع، ولو فعلت ربع الأمهات ذلك لارتفعت نسبة الصدق والأخلاق في الأمة بدرجة كبيرة، قيل: "اليد التي تهز السرير هي اليد التي تحكم العالم". وإذا قام مدرس بإعطاء درس اسبوعي مجاني لطلاب الحي، فقد أضاف قطرات علمية نحتاجها للنهر العلمي، وإذا عمل أهل الحي ملعب كرة قدم متواضع فقد حققوا فوائد كثيرة لأبنائهم، والانجازات الصغير مطلوبة في الأفراد والأسر والمدارس والجماعات والأحزاب والحكومات، بل إن الانجازات الكبيرة هي فعلا مجموعة انجازات صغيرة منسجمة مع بعضها البعض، ولا شك أننا لن ننجح في تنفيذ الإنجازات الكبيرة إن لم ننجح في تنفيذ وإدارة الإنجازات الصغيرة. والأعمال المطلوب إنجازها كثيرة جداً وفي كل مجال، ولكن هناك
عوائق شعبية تستهتر بالإنجازات الصغيرة، بل لديها حب كبير للكلام وشبه معارضة وعداء لأي عمل فكأنها أعلنت تحالفاً دائما مع الكسل، لنتذكر أن(1/124)
أمة لا تعمل لا يمكن أن تتقدم، فإتقان العمل الرسمي والشخصي جزء
لا يتجزأ من القوة، والغنى والسعادة، ومع هذا نجد عندنا ملاييناً من
الموظفين لا يعملون أو انتاجيتهم متدنية جداً، وعندنا بلايين من الساعات
تضيع في حياتنا الشخصية بلا فائدة علمية أو عملية ولدينا فلسفة
تزرع الشوك في طريق العمل والإخلاص والتفاؤل، ويعتقد، بعضنا أنه عندما لا يعمل فإنه يرتاح، ونقول بل الراحة في العمل، ومن يتقن عمله في الحياة يكتسب علما وخبرة ويشق طريقه في الحياة بسهولة ويكون أكثر سعادة وثقة بل إن الراحة لا تكون جميلة إلا بعد التعب.(1/125)
…3- السكوت عن الانحرافات الشعبية: هدم السلبيات أو تقليلها، وإنكار المنكر بحاجة إلى رجال ونساء لا تأخذهم في الحق لومة لائم، وهناك سلبيات شعبية كثيرة جداً منها عادات تافهة أو ظالمة، والتطرف السياسي والعقائدي، والتعصب القبلي والوطني، والانحرافات الاخلاقية، والسلوكية، وهذه السلبيات بحاجة إلى مواجهة علنية وصريحة، فلتعرف قبليتك بأنك لا تؤمن بالانتخابات القبلية، ولا تقبل المشاركة بها وتسعى لإلغائها فالهجوم على الانحرافات هو منهج الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، سواء كانت هذه الانحرافات عقائدية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات الاسلام ومن الفرائض التي تكاد أن تكون قد انقرضت عند الكثيرين. وللأسف إن الغالبية منا تجامل وتسكت حتى لا نفقد علاقتنا الاجتماعية أو السياسية، أو حتى لا نفقد مصالحنا أو نغضب من نحب والتساهل مع المنحرفين يضرنا ويضر المنحرفين فكم من أم تساهلت مع انحرافات ابنها فتمادى في انحرافاته من دلع وإهمال وكسل فخسر دينه ودنياه وفي المقابل نجد أمهات عاقبن أبناءهن على انحرافاتهم ونصحهم فتعلموا وأصبحوا مواطنين صالحين فالمبادئ والإصلاح هما من أهم ضحايا بالمجاملة والتساهل، ولا شك أن التمرد على الانحرافات الشعبية سيواجه بمقاومة شعبية فعندما يزوج الأب ابنته بمهر معقول سيجد معارضة من الأم أو الأبناء، وسيجد من يتهمه بالتقليل من قيمة
ابنته أو بالحماقة، وهذا الأب وأمثاله هم من أعلنوا إيمانهم بالمبادئ
وترجموا هذا الإيمان إلى أعمال وأقوال، وهم أمل الأمة في إصلاحات
أكبر، لأنهم طبقوا هذه الإصلاحات في حدود سلطاتهم وإمكانياتهم،
ولنتذكر بأن من يتخلى عن حمل المبادئ في دوائر نفسه أو(1/126)
أسرته أو قبيلته أو وظيفته أو حزبه أو جماعته لن يتمكن من حملها في دوائر أكبر، حيث الضغوط والمعارضة والخسائر أكبر، فلنبدأ بإصلاح أنفسنا وأسرنا وشعوبنا، وليس أنفس الآخرين وأسرهم وشعوبهم، فالساكت عن الحق وهو لديه القدرة على قوله شيطان أخرس، وقد نخسر أقارب وأصدقاء وجماهير لوقوفنا مع الحق والصواب، وقد يظهر بالموازين الدنيوية الظاهرية أننا أغبياء سياسيا، أو اجتماعيا أو تجاريا ولكن لا شك أننا بالموازين الأخروية والدنيوية الصحيحة رابحون لأن بنياننا الدنيوي والأخروي مبني على مبادئ صحيحة من العدل والحق والنور والحكمة، وإدراك هذه الحقيقة لا يتطلب غير أن نقرأ قول الله تعالى: ?إن تنصروا الله ينصركم? (7) سورة محمد. وقال تعالى: ?إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد? سورة غافر (51) وقد فعل الرسول ( وغيره كثيرون ذلك، فحارب قريشاً بل العرب جميعا، ووقف مع الحق، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فأعزه الله ونصره ورجعت قريش والعرب عن انحرافاتهم وتحققت المصالح الكثيرة، وأعزهم الله في الدنيا والأخرة.
…4- المتطرفون: من أهم معوقات العمل الشعبي وجود المتطرفين في كثير من الحكومات والشعوب والجماعات والأحزاب والقبائل، وهؤلاء المتطرفون يتصرفون وكأنهم هم المتمسكون بالمبادئ والمصالح والانتماء العرقي، بل كلما زاد تطرف هؤلاء في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم كلما زاد رصيدهم عند تكتلاتهم، وأصبحوا أهل الوعي والعلم والثقة والاخلاص، وجزء أساسي من الإصلاح الشعبي يتحقق بتطهير القواعد والقيادات الشعبية من هؤلاء المتطرفين حتى ولو كانوا مخلصين، لأن هؤلاء لهم أثر كبير في بقاء التفرق والاختلاف لأنهم ضد التعاون والتقارب والواقعية، ولا شك أن الأسرع تخلصا من المتطرفين
هو الأسرع نموا وقوة، فلنخسر عشرات ومئات المتطرفين، ولنكسب آلاف(1/127)
وملايين العقلاء. وكثير ما أضر المتطرفون كلا من الاتجاهين الإسلامي والقومي ومنعا تقاربهما، ويظن البعض أن هؤلاء المتطرفين هم الممثلون الحقيقيون
للاتجاهين الإسلامي والقومي، ونقول: إنهم فعلياً أقلية لو نفخت عليها الشعوب لطاروا فالمتطرفون في الاتجاه الإسلامي أقلية، والعلمانيون في الاتجاه القومي أقلية، ولكن صراع الأقليات هذا جذب الأكثرية في كلا الاتجاهين له، فاستنزف طاقات الأمة وأدي إلى اعتبار أي دعوات مخلصة للتبصر والعقلانية واللين عبارة عن تنازل عن المبادئ، ودعوة لقبول الجمود والعنف، أو لقبول الإلحاد والانحلال، وعموما فكل من انحرف داخل الاتجاهي القومي والإسلامي أو خارجهما عن عقائد الإسلام، وأخلاقه وعبادته، فهو متطرف لا يصلح لأن يكون من القيادات الشعبية، ومن يعرف بديهيات الإسلام يعرف ذلك، ويرفض أن يقوده الضائعون.
…5- الإختلافات الوهمية: نحن قوم لا تنقصنا إختلافات حقيقية حتى نضيف لها اختلافات وهمية تزيدنا تفرقا وعداء وتشاؤما وضعفا، وتستنزف طاقات وجهود نحن بحاجة ماسة لها حتى نتقدم خطوات، فكثير ما نتصور أن عند الآخرين إنحراف عقائدي، أو خيانة الوطن أو تعصب عرقي، أو تطرف مذهبي، أو شبهات علمانية، وذلك بناء على مقال قرأناه أو قول سمعناه، أو إشاعة كاذبة، أو سوء فهم لحدث سياسي، أو لمصطلح لغوي، أو غير ذلك، والاختلافات الوهمية كثيرة جداً، فالبيئة الأعلامية ملوثة، والحوارات ناقصة أو غير موجودة وكفاءة الاتصالات ضعيفة، وهناك رغبة في تصديق ونشر الإشاعات، وعدم التبصر والتأكد من صحتها، وكل هذا جعلنا نتصور أن المسافة بيننا وبين الآخرين هي أكبر فعلا مما هي عليه فحتى في مجال العقائد نصدق العقائد الأكثر تطرفا وانحرافا عند الآخرين، ولا نصدق الأكثر اعتدالا وصوابا، مع أنها موجودة وهي السائدة، ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى هدانا بالإسلام إلى أحكام(1/128)
وأخلاق تساهم في إلغاء موضوع الاختلاف الحقيقية والوهمية ولعل من أهمها الاحتكام للأسلام في موضوع الاختلاف وحسن الظن بالناس وأخذ أقوال
وأفعال الناس بنية حسنة وبمعاني طيبة والحرص على صحة المعلومات
والبحث عن الحقائق، وعدم الاستعجال، في التصديق أو في رد الفعل،
وعدم تصديق كل ما يقال، وعدم الحكم على الأفراد من خلال مقال أو كتاب أو قول والتنبه إلى أن هناك أعداء داخليون (متطرفون ومنافقون) وخارجيون يريدون لنا أن نتفرق ونتصارع، ونتنازع، فيشوهون الحكومات والقوى الشعبية، ولو فكرنا قليلا فيما يقال أو بحثنا عن المصدر لاكتشفنا أنه جزء من الحرب على الأمة والشعوب.(1/129)
…6- المثالية: أغلب الحكومات والأحزاب والجماعات والأفراد ليسوا ملائكة. وليسوا شياطين، وسعينا للالتزام بالمبادئ والقيم لا يجوز أن ينسينا أننا نتعامل مع بشر ليسوا مثاليين، والتقدم هو شئ نسبي، فإذا كان يومنا أفضل من أمسنا فقد تقدمنا ولن نصل أبدا إلى واقع مثالي، فالفرق سيبقى كبيراً بين ما نريد وما نستطيع أن نصل إليه، خاصة في ظل واقعنا الحالي... والبعض يرفض أن يتعاون مع الآخرين لأن لهم آراء لا يتفق معها، أو مواقف يعارضها، وهذا السلوك أضاع فرصا كثيرة للتعاون في كثير من القضايا ليس حولها اختلاف أو يمكن الوصول إلى حلول وسط سواء بين القوى الشعبية، أو بينها وبين الحكومات. وصحيح أنه لا يجوز التساهل مع الانحرافات والسلبيات، ولكن الصحيح أيضا أننا بشر، والبشر لهم أخطأؤهم وانحرافاتهم، فلا بد من النظر في مصلحة الأمة، وتقديرها، واتخاذ القرار المناسب، ولنتذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل باب التوبة مفتوحا. وعلينا أن نبقيه كذلك في تعاملنا مع الآخرين، وكثيرا ما تكون الخيارات المطروحة للسير في الواقع خيارين سيئاً أو أكثر سوءاً، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ولكن العاقل الذي يعرف خير الشرين". والبعد عن الواقعية جعلنا نرفض كثيرا من الحلول السياسية والإدارية لأن لبعضها سلبيات وننسى أن المقارنة الصحيحة بين الحلول
هي في أكبر عدد من الإيجابيات، وأقل عدد من السلبيات، فلا يوجد حل بلا سلبيات، فلا بد من القبول بها وإلا فإن هذا معناه أن تكبر المشاكل، وتبقى بدون حل، والتعاون مع الآخرين ليس معناه موافقتهم على أخطائهم، والسكوت عن(1/130)
سلبياتهم، ولكنه تعاون على الخير ومصلحة الإسلام والوطن والأمة وهو طريق للتعرف على الآخرين وإصلاح مواقفهم وآرائهم، فالناس تتغير مع الزمن فكم من كافر أصبح مسلماً وفاسق أصبح متدينا وضال أهتدى، ومن الخطأ أن يكون مصيرنا هو مصير الشاب الذي يريد أن يتزوج فتاة مثالية لأنه لن يجدها. والمثاليون يفعلون نفس الشئ، فلا بد أن يكونوا واقعيين حتى يعيشوا في دنيا البشر. وجعلت المثالية البعض يطالب المخلصين من السياسيين والأداريين بالاستقالة كرد فعل لقرارات أو مواقف خاطئة منهم، أو من حكوماتهم، أو أحزابهم، أو مؤسساتهم ولو استقالوا لتركوا الساحة للمنحرفين، ونقول: الواجب الشرعي أن يستمر المخلصون في أعمالهم، ويحاولوا تقليل السلبيات قدر الإمكان إلا إذا كانت المصالح الشرعية تتطلب استقالتهم وما دمنا بشرا فلا توجد حكومات ولا أحزاب ولا جماعات معصومة، وحتى لو أتيح لنا فرصة تكوين الجماعات والأحزاب والحكومات، وأخترنا لها أفضل الكفاءات علما واخلاصا، فستكون لها أخطاء وانحرافات، ولو نظرنا لإيجابيات الآخرين لوجدنا أن هذه الحكومة حققت نتائج إيجابية كثيرة، وتلك الجماعة ساهمت كثيرا في نشر الوعي الإسلامي الصحيح، وهذا المفكر ساهم في نشر الفكر الإسلامي المعاصر حتى لو كان عنده بعض الأخطاء والمثاليون أدوا إلى تدمير حاضرنا ومستقبلنا لأنهم يحاكمون العالم بمقاييس مثالية فيرسب الجميع بل دمروا حتى ما ضينا فلا يرون في تاريخنا غير الصفحات السوداء مع أن به صفحات كثيرة بيضاء.(1/131)
…وأخيرا المثاليون لا يجيدون غير الكلام وتشويه الآخرين والكسل، وهذه سلبيات كبيرة حتى لو ظنوا أنهم بلا سلبيات، أما إيجابياتهم فالمتوقع أن لا تكون موجودة، وإذا وجدت فهي صغيرة لأنهم يعيشون في الخيال ولا يؤثرون في الواقع ولنتذكر أن الالتزام بالمبادئ لا يتعارض مع القبول يحلول واقعية فيها سلبيات، وتعارض جزئيا مبادئنا لأن من القواعد الإسلامية ?فاتقوا الله ما استطعتم? و ?لا يكلف الله نفساً إلا وسعها? فهذا من الحكمة والبصيرة.(1/132)
…7- النظرة الجزئية: تعودنا على إتخاذ المواقف والآراء والأحكام والفتاوي ونحن لم نر إلا جزءا من الصورة، قال عمرو بن عبدالعزيز رضي الله عنه "إذا جاءك الرجل وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتيك الآخر، فقد تكون عيناه قد فقئتا جميعا" والنظرة الجزئية مصيبة كبرى، وهي موجودة عند كثير من الحكومات والأحزاب والجماعات والأفراد، فأهل السياسة ينظرون عادة للأمور من ناحية سياسية وواقعية، في حين أنهم يتجاهلون أهمية المبادئ والقيم، في حين أن أهل المبادئ ينظرون للأمور في الغالب من ناحية المبادئ وبعيدة عن الخبرة بالواقع والحياة، وأهل الاقتصاد تجدهم يخططون للدولة من منظور اقتصادي أو شبه اقتصادي، ويتجاهلون أو يجهلون الجوانب الإدارية والعقائدية والتعليمية والسياسية، والثقافية، وينظرون لها فقط كأرقام، ولهذا تكون كثير من الخطط فاشلة أو ضعيفة التطبيق، وكذلك يفعل أهل العلم والتكنولوجيا أي يهتمون بالجانب الفني وينسون الجانب البشري والإداري والاقتصادي وأهميتهم في تحقيق إنجازات عملية والمطلوب هو أن نبتعد عن الحكم على قضايا كبيرة ومتشعبة من خلال نظرة سريعة وجزئية لها، وكثيراً ما نجد أفرادا مسئولين يحكمون على واقع وزاراتهم ومؤسساتهم وشركاتهم بناء على نظرتهم الجزئية، فيظنون أنهم يعرفون كل مشاكلها بل وكل الحلول، وليسوا بحاجة إلى استشارة أحد وأن من يخالفهم. في الرأي أما يجهل بعض الحقائق وأما صاحب مصلحة شخصية أو غير شخصية أو غير ذلك، وهذه نوع من الغرور وللخروج من هذا المأزق لا بد من تكوين فرق ولجان ومؤسسات تدرس المواضيع بصورة شاملة من خلال فرق متعددة التخصصات وأن يكون داخل هذه التخصصات تنوع في الآراء والأفكار حتى يتم تسليط أكبر كمية من الأضواء، وبهذه الطريقة ستأتي الدراسات شاملة(1/133)
وبها إحصائيات وأرقام تحدد الأعمال والصعوبات، وكيفية التغلب عليها، وبدون ذلك سنصطدم بالنظرة الجزئية وستفشل كثير من المحاولات الإصلاحية،
فإذا أردت ان تنظر إلى وزارة فابدأ بالنظر إلى الدولة وأهم الحقائق المتعلقة بها في الجوانب السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية ثم انظر للوزارة،
فدراسة البيئة المحيطة بوزارة أو إدارة أو عمل من بديهيات التخطيط وتجعلنا ندرك الفرص المتاحة والقيود الموجودة ونقاط القوة ونقاط الضعف، فنرتب أولوياتنا ثم نستطيع أن نسير بطريقنا على بصيرة وحكمة.(1/134)
…8- غياب العمل الجماعي: العمل الجماعي هو العمود الفقري لعمل الحكومات والأحزاب والجماعات والجمعيات الخيرية، ومع دعوتنا للعمل الفردي وعدم التقليل من إنجازاته وأهميتها، إلا أن انجازات العمل الجماعي هي أكبر وأكثر استمرارية وأصوب رأيا، وأكثر شمولية والعمل الجماعي مطلوب في كل المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والرياضية والخيرية والعلمية، والعمل الجماعي مطلوب بين الدول وبين الحكومة والقوى الشعبية، فإمكانياتنا تزداد إذا تعاونا مع الآخرين، والفرص المتاحة تصبح أكبر، والأخطار الخارجية والقيود تصبح أقل، وأعداء الأمة والشعوب يحتارون عندما يشاهدوننا نعمل بصورة جماعية، لقد أدركت أوروبا أهمية العمل الجماعي، فسعت للوحدة والتعاون... ومن الضروري أن نقتنع بأن التعاون مع الآخرين في قضية أو موقف أو هدف يحقق خطوات عظيمة في الاتجاه الصحيح، واختلاف الاجتهادات والآراء لا يجوز أن يكون عائقا في سبيل العمل الجماعي، بل لا بد من ترشيد الاختلاف، وتقديم تنازلات وسنفعل ذلك إذا اقتنعنا بأننا مهما حققنا من إنجازات مفيدة ونحن منفردون ستكون أقل بكثير من الإنجازات التي نحققها بالتعاون مع الآخرين، والنجاح في العمل الجماعي يتطلب مرونة وتعاونا وضوابط وتنازلات وحوارات طويلة وصبر..... الخ. فالعمل الجماعي علم له أصوله، وفي الإسلام اهتمام كبير بالعمل الجماعي وله مواقف حازمة ورادعة لمن يحاول أن يفرق المسلمين سواء على مستوى الدولة أو على المستوى العقائدي والعبادي، فالتعصب للاجتهادات والآراء أو الأنتماء العرقي أو المصالح الطبقية كلها أشياء مرفوضة والالتزام بطاعة أولى الأمر في المعروف والنظام وكيفية تغيير المنكر واجبات إسلامية معروفة، ولا تقل أهمية عن العقيدة والصلاة والزكاة والصوم، فلا بد من(1/135)
زيادة الفقه كثيراً في أهمية العمل الجماعي وضرورة أن تكون مصالح الأمة والوطن فوق مصالح واقتناعات وآراء الأفراد والأحزاب والجماعات، وكم من فتن حدثت لأن كل شعب يريد أن يصل إلى مصالحه حتى لو أدى ذلك لحرق الأخضر واليابس، ولنتأكد أنه إذا تعاونا سيستفيد الوطن وسنستفيد جميعا وإذا عملنا متفرقين سيخسر الوطن، وسنخسر جميعاً، وندرك أن العمل الجماعي ليس سهلا، فهناك آراء مختلفة، واستعدادات متفاوتة للعمل، ومستويات مختلفة من الأخلاص والعلم والثقافة والذكاء ولكن كل هذا لا يجوز أن يجعلنا نيأس، لأن فوائد نجاحنا ستكون كبيرة في النهاية.
كتب للمؤلف
1- الطريق إلى الوحدة الشعبية:
…"دعوة لبناء الجسور بين الاتجاهين القومي الإسلامي"
2- الطريق إلى السعادة
3- إصلاح الشعوب أولاً
4- لا للتعصب العرقي
5- عجز العقل العلماني
6- الكويت الجديدة
7- العلمانية في ميزان العقل
8- العلمانية تحارب الإسلام
9- تطوير البحث العلمي الخليجي (تحت الإعداد)
??
??
??
??
8
22(1/136)