إشكالية الواقع والتحولات الجديدة
في الرواية العربية
دراسة وعي مجادلة الواقع ومتغيراته، وتقنيات البنية
دراسة
الدكتور: دريد يحيى الخواجة
إشكالية الواقع والتحولات الجديدة
في الرواية العربية
دراسة وعي مجادلة الواقع ومتغيراته، وتقنيات البنية
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
1999
البريد الالكتروني: E-mail : unecriv@net.sy
الإنترنت ... : Internet : aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنان : اسماعيل نصرة
((
في نظرية النقد
مراجعات في بنية المفهومية الاجتماعية في الأدب
النقد وتحقيق المنهج العلمي هما نقطة البدء في ذلك، ويلاحظ أن هؤلاء النقاد الذين حاولوا ذلك كانوا يأخذون من علوم أخرى ويطبقونها كما هي على الأدب، فالنتائج كانت علماوية، وليس علمية. إذ إن النقاد كانوا يبدؤون بتركيب المنهج مسبقاً وعلى ضوء ذلك يحاكمون الأعمال الأدبية. وهذا ما فعله "تين" وذلك لتأثره "بهيجل".
أما محاولات لانسون فكانت أكثر تقدماً إذ طرح مجموعة أسئلة صارت في الخمسينيات محور سيسيولوجيا الأدب. "جولدمان" لم يكن مبتدع السيسيولوجيا. "جورج لوكاش" "تأثر بهيجل وكوّن نظرية (الكلية والمجتمع). وجولدمان اقتبس (الرؤية للعالم) عن لوكاش في كتابه (الرواية التاريخية). لكن جولدمان يتميز عن لوكاش في كونه قام بجملة من التطبيقات على بعض الآثار الأدبية في حقب متباينة.
الممارسة التطبيقية أوصلته إلى تعديل وإضافات أغنت مجال النقد الأدبي. لوكاش لم يكن ملتزماً أرثوذكسياً. والبنية التركيبية التي تعتبر النص منطلقاً كانت محور عمل لوكاش على أساس أن النص لا يقوم إلا على بنية. هذه البنية من أين تستمد؟ لا بد أنها من مجموعة بنى اجتماعية. لذا يشير إلى بنية مستمرة لا يحسها الكاتب.(1/1)
وعلى الناقد أن يكشف عن هذه البنية. الناقد تصبح مهمته مسوغة ليبحث لنا عن مصطلحات لتفسير ما عبر عنه الكاتب. أهم ما وجه إلى جولدمان إغفاله للتفاصيل في النص: اللغة، الخيال. إن الرؤية للعالم هي محور المنهج، لكن هذا يضطرنا إلى فهم البُنى، وأنماط الوعي: الوعي القائم، والوعي الممكن فالناقد- يفترض أن الأديب قد يعبر عن الوعي الممكن. والآثار الأدبية تؤلف كليات يمكن لأجزائها أن يفهم بعضها انطلاقاً من بعضها الآخر وبخاصة انطلاقاً من بنية الكل.
هكذا كلما كان العمل كبيراً كان شخصياً لأن الفردية الاستثنائية الفنية والقوية هي وحدها القادرة على أن تفكر أو تعيش رؤية الكون إلى منتهى عواقبها، بينما تظل هذه الرؤية في طور متكون وحديثة التبلور في وعي البنية الاجتماعية. لكننا نجهل من جهة ثانية أنه لما كان العمل تعبيراً صادقاً عن مفكر أو كاتب عبقري كلما كان فهمه في ذاته دون أن يلجأ المؤرخ إلى سيرة الكاتب أو نواياه، ذلك لأن الشخصية الأكثر قوة هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع الفكر أي مع القوة الجوهرية للوعي الاجتماعي بمظاهره القوية وعلى العكس من ذلك فحين يتعلق الموضوع بتفسير نقاط الاختلال أو الضعف في عمل فكري نكون في معظم الأحيان مضطرين إلى اللجوء لفردية الكاتب وإلى الظروف الخارجية لحياته.(1/2)
نضرب مثلاً بمجموعة من التقنيات الاستيعابية في الخلية الأدبية عند (جوته) بل وعند الأجزاء الضعيفة من كتابه الثاني عن فاوست. فهي تفسر بالتزاماته الاجتماعية في بلاد (فيمار). حينذاك كان يمكنه التعبير عن نفسه بعيداً عن إقامة تعارض بين القيم الموحية والاجتماعية - أين يوجد الواقع، إنه يوجد في الأشكال الأكثر اكتمالاً عندما تكون الحياة الاجتماعية في درجتها القصوى من الكثافة والقوة الخلاقة. وعندها يدرك الفرد قيمة قوته المبدعة فيمتزجان وذلك سواء في المجال الأدبي أو في المجالات الدينية والسياسية. كيف يمكن فصل "راسين" أو "باسكال" عن "بوريام"؟ "وبونتينير" عن عدد من المفكرين الغرباء عن المادية الجدلية منذ "باسكال" الذي قال: "صل وستؤمن" إلى النظرية المحيطية للانفعالات عند "جيرس" و"لانج" وفي أبحاث (جان بياجيه) كذلك نعتقد أنه يوجد على مستوى الزمرة الاجتماعية تفاعل صميمي بين الفكر والفعل يؤثر أحدهما في الآخر. ومن ثم فإن كل عمل أدبي مهم، وكل تيار فلسفي أو فني تكون له أهمية ويمارس تأثيراً على سلوك أعضائه، وبالعكس فإن طريقة الحياة، والتصرف لمختلف الطبقات الاجتماعية في فترة محددة تحدد جزءاً كبيراً من اتجاه الحياة الثقافية والفنية. لكن هاتين الملاحظتين لا تستتبعان القول بوحدة الوجود بين الوظيفة الموضوعية للسلوك الفردي لكائن ما، وبين الأهمية الموضوعية للعمل الأدبي. ولكن هذه الوحدة يمكن أن توجد، وتكون بالنسبة للفرد مثلاً أعلى يسعى إليه، وبالنسبة للزمرة الاجتماعية يظل صحيحاً دائماً أن الفكر والفعل يؤثر أحدهما في الآخر ضرورةً، ويبقيان متقاربين في بعض الحدود. إنه لا يمكن تصور مجتمع مكون فقط من مفكرين أو من رجال الفعل. على أن في استطاعة الفرد أن يتخصص وأن يملأ حياته بما هو مجرد جزء من الحياة الاجتماعية عند الزمرة، لأجل ذلك كثيراً ما يوجد أفراد هم فقط مفكرون أو رجال فعل.(1/3)
لقد وضحنا أنه بالإمكان في حالات نادرة وجود قطيعة بين الفكر الواعي والنشاط الاجتماعي للكاتب من جهة وبين الدلالة والأهمية الموضوعية لأعماله من جهة أخرى. فليس هناك ما هو أقل مأسوية في الظاهر على الأقل من حياة (كانت) أو (راسين). وليس هناك ما هو أكثر بعداً عن الرؤية العمالية في العالم من (بيكاسو)...
هذه الرؤية يستتبعها الفكر موضوعياً. ومن المسلم به أن العناصر الأصلية للتفكير الجدلي توجد في أعمال المناضلين الكبار والكتاب الكبار لكن ذلك مجرد تخمين، ولو أن الأحداث كثيراً ما أكدته، فإنه ليس قابلاً للتصديق، وليس على الأخص ضروريّ الوقوع.
من جهة ثانية يبدو لنا أن العمل اليومي بكل ما يستتبعه من غنى وتعقيد يمكنه أو يكون في بعض الحالات غير مساعد على التخطيطية المفهومية والتجريبية التي تفترضها كل منهجة فلسفية، ولربما يكمن هنا الطابع الجزئي، أو المجزأ الذي تمثله الكتابات الفلسفية والقوة الإبداعية والثقافة العميقة للكتاب المبدعين المؤثرين، وقد يكون الوضع مختلفاً بالنسبة للفنان الذي يمكن لإبداعه على مستوى الإحساس أن يأخذ مجراه بغير الاتصال المباشر أو المكثف مع الواقع الذي ينصب عليه مثلاً. وبالإمكان أن نسرد أمثلة توضح مكان حدوث العكس.
وليكن العمل الأدبي الكبير مثلاً المستوحى من الفلاحين الذي كتبه (تولستوي) في الشطر الأول من حياته، أو شعر التمرد عند (بودلير). لكن يتحتم التأكيد أن العمل الأدبي نفسه هو بالنسبة للفنان وخاصة بالنسبة للمفكر ليس مجرد فعل بل هو أيضاً أكثر الأفعال فعالية من بين ما يستطيع فعله.
من بين هذه الفترات التي نعيش فيها قد لا تكون الشروط لصراع الطبقات مشجعة وملائمة للتعبير الفني، وهذه الملاحظة الأخيرة تقودنا إلى مسألة معقدة وهي مشكلة المبدع. إن كلاً من هاتين الوضعيتين تظهر في فترات تاريخية مختلفة، وكأنها أفضل وضعية مُسعفة للإبداع الأدبي والفلسفي.(1/4)
ولقد تأكد القول في أن الأدب يعبر عن طريقة ما في الإحساس بالكون والنظر إليه، وخلال فترات الممارسة الجماعية الكبيرة عندما تتوافر وحدة عضوية وحيّة بين المنظمات والطبقات الاجتماعية التي تمثلها حيث يستطيع المبدع عامة أن يعبر في إطار المنظمات عن رؤية تعكس الطبقة الفعلية الجماعية. لكن في فترات الجمود أو التقهقر عندما تصبح المنظمة تنظيماً مستقلاً ذاتياً وعندما تصبح علاقتها مع الطبقة الاجتماعية لا تتم إلا من خلال مجموعة من الوساطات المعقدة - فإن الإبداع يغدو صعباً، وكثيراً ما يصبح الكاتب الحر هو أكثر قدرة من الكاتب المرتبط على إبراز الجمال.
في العصور الأولى للحكم المسيحي كانت الكنيسة هي التي شيدت الكاتدرائيات، ووظيفتها تحتم التوجه إلى الهرطقات، وما يمثل بدعاً في نظر الكنيسة هو كل من يستمع إلى صوت الفكر! والمعطيات نفسها تجدها عند بعض الفلاسفة، ذلك أنه ظهر عند أول وهلة أن المنهجة المفهومية في غير حاجة إلى اتصال مباشر مع الواقع، وأن بالإمكان أن تستمر في إنجاز عملها داخل المنظمة حتى عندما تفقد هذه الأخيرة الاتصال الواقعي والحي مع جمهرة الأوفياء!.. في الحقيقة لا يوجد فكر فلسفي أو منهجة مفهومية، إلا حيث تستطيع المنظمة أن تحتضن الكلية الاجتماعية، فضائياً وزمانياً، لكن المنظمة البيروقراطية تكون جد قريبة من اليومي، وتكون آفاقها جد مباشرة فلا يتيح لها الاعتقاد مع الرؤية الكلية التي يفترضها الفكر الفلسفي الحق أو الأدب الحق.
((
... ... نجيب محفوظ
"ثرثرة فوق النيل" لـ "نجيب محفوظ"(1)
معنى الزمن والمصير والموت والعدم
__________
(1) * نجيب محفوظ: "ثرثرة فوق النيل- رواية" القاهرة، دار مصر للطباعة، مكتبة مصر.(1/5)
أسئلة كثيرة تطرحها رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، وهي تصور دواخل الشخصيات أو تعبر عن الواقع الذي تعيش فيه، أو من خلال السرد الروائي الذي قدمه خطابه، وانطلاقاً من النظرات التي يمكن أن تتحكم في المقاصد الواقعية والعصرية والوجودية التي رمت إليها الرواية. ولدى كل سؤال نجد اشتباك الأجوبة.
- هل العدم مغزى الحياة!؟..:
مع المصير المجهول والموت والليل والظلام، تعيش ثرثرة نجيب محفوظ فوق النيل، ومع العدم تتشوف تجربة الإنسان على رعب. وتحس إحساساً مختلفاً يجتاح جوانبك حين تحاول "الثرثرة" في بعض جوانبها، فتح مغاليق مجهولك وتتطلع إلى ما وراء الأشياء وتتعمقها، حيث تبدأ من لا شيء لتصل إلى لا شيء.(1/6)
لا شيء يستحق الاهتمام، و"العدم" هو المحور الذي يهيمن على وجودنا، إن كنا حقاً نحس به، وما الحياة إلا خرافة أو نكتة سمجة يعيشها الإنسان من خلال شاشة رجراجة، تخنقه، ترميه جثة في نهاية الطريق. وتنتهي الحياة كأنها لم تكن شيئاً.. لا شيء يبقى كما هو.. كأن لم يعش إنسان بلحمه ودمه.. إنسان عليه السؤال "هل حقاً سنموت يوماً ما؟" الدوامة هي عالم مشهود لثرثرة، مجال لأفكار تدور وتتحرك، أشخاصها اندحروا في رقعة صغيرة، - استسلموا للحشيش يمتصونه مع مهرجان الجمر المتوهج. جميع هؤلاء الساخرين "الحشاشين": "تكوينات ذرية فقدوا الشكل واللون، اختفوا تماماً ولم يعد يوجد منهم شيء يرى بالعين المجردة، ليس ثمة هناك إلا أصوات".. أصوات تتحدث خلال رؤية مسطولة حالمة عن هذا الزمن الذي يتواتر.. والذي يبدو أنه يقصر ويتقلص حتى يغدو زمناً خاصاً بالأشياء والناس.. ويكبر ويتسع ويمتد حتى يصير كوناً يبدو أنه لن ينتهي، فكيف للإنسان أن يعيش هذه الحالة المتناقضة من القصر والامتداد المتداخلين المتماهيين.. ما عذاب الإنسان الزمني؟.. ما معاناته في حساب المصير؟.. لا بد أن يقف كل شيء في نهاية الأمر، لكنه يقف ليعود إلى دورته الجديدة. الزمن خاص وعام في الآن ذاته، وهذا سر التباسه. فما المغزى؟.. ما الموت؟.. ما الحياة؟.. ما العدم؟.. ما البداية.. ما النهاية؟.. "حين قرأت الثرثرة لأول مرة، أحسست بمالها من قبض آسر للنفس. أحسست بذلك الأسى العاتي يسري في كل لفظة من ألفاظها، في كل صورة من صورها التعبيرية الفنية، في كل شخصية وشجرة وحركة ورؤية مضببة مسطولة نراها بعيني أنيس الداخليتين"(1) ومن عيني أنيس الثقيلتين- الشخصية المهمة في الرواية - يتفجر الدم منهما وهو يرى الإهمال في كل شيء وتنعدم الأعوام والشهور والأيام تمر على الإنسان والزمن الكوني يتحداها فلا تنقص منه شيئاً..(1/7)
هذه الأفكار ترتجف، وتصبح على شكل أفكار فسفورية متلاحمة، ينفتح بها ذهنه المسطول عبر أشجار الجازورينا والياسمين والأكسيا والياسمين والحمام الأبيض والحوت.. والموت. وفي المساء حيث الحزن "يقتحم عليك المأوى بلا دعوة" يرنو أنيس بعينين ناعستين إلى المغيب يحسو من الفنجان السادة الممزوج بالسكر ويلعق بلسانه الرواسب، ويطير مع الأشعة الذاهبة فتمثل له المساء بشرا عابثاً قد عمر الملايين من السنين وراح يعرض بامرأه، كلما هجرها محب ارتمت بأحضان آخر"، وقال: "إن ذلك سلوك يمكن أن تغر به أوجه القمر المتتابعة من المحاق إلى البدر"..
**خلاص المعاناة.. المعنى أين؟.(1/8)
انتهى أنيس زكي هذا بعد وظائف عدة إلى موظف في "معتقل الأرشيف. متحف الحشرات "هل الخلاص في قاعدة الحب؟ هل يتغلب أنيس على عدميته وعلى دورة الزمن الخاص المؤدية إلى موته بالحب وحده دون العلم. هل يستطيع الحب أن يحل اشتباكات خفاقة في الحياة وفي العلم وفي تعرف وجوده وإنسانيته وتقلبه في حمأة معاناة مجتمعه. لقد فاته كل شيء، وانسدلت الحجب على كل شيء، فهل ثمة خلاص لمعاناته وهو يقف وراء الحجب التي أغلقت نوافذه.. يضيق ذرعاً بالصراصير والعفن والعنكبوت والنمل بعد أن أسره الجيش، وحين يقدم المدير العام - المملوك في نظره والذي تشبه صلعته قارباً مقلوباً - حين يقدم له بياناً عن حركة الوارد، يكتشفان معاً أن الورقة بيضاء، لأن أنيساً كتبها والقلم خال من الحبر، فيسأله المدير في حيرة: "خبرني يا سيد أنيس كيف أمكن أن يحدث ذلك؟ "فإذا به يغيب في السؤال أو يغيب السؤال فيه، وتكبر أمامه "كيف" وتتسع وتتسع حتى تشمل أزمته هو أزمة الوجود، فيتساءل "أجل كيف. كيف دبت الحياة لأول مرة في طحالب فجوات الصخور بأعماق المحيط". وتنهال عليه نبرات الوعيد الحادة مشفعة بحركات التهديد من مديره العام: "عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية خلق الله.. "..إلى الداخل، حيث يذيبه السؤال: "إلى أين؟" إن الإنسان المعاصر يعيش أزمة تتجلى في كل شيء، تهدده لحظة الصفر، وتأخذه الحركة الدائرية "التي تتسلى بالعبث". إنه - أي أنيس- ما يزال ببساطة يجهل كل شيء عن نفسه، وإنه ليس ثمة معنى لأي شيء.(1/9)
إنه يعيش في الحياة التي تتصادم أمورها في أعماقه تصادماً سريعاً، فتجعله نزقاً، راعباً- مرتعباً يبحث عن شيء في لا شيء "فيا أي شيء افعل شيئاً فقد طحننا اللاشيء" ويقوى ضياعه ويأسه من كل شيء انسطاله الدائم، وحتى عندما حاول أنيس زكي: "الموظف الفاشل" والمثقف المثالي الذي ظل طوال الرواية صامتاً مسطولاً فجاء في النهاية ليفيق ويصمم على أن - يجرب قول ما يجب قوله- .. سرعان ما يعود إلى سطله"(2). ويخترقه خوفه من الموت قبل الموت، ويتساءل أهو خوف الموت أم الحياة؟ الراحة لا معنى لها، ولم يبدع الإنسان ما هو أصدق من المهزلة". "إلى أين "هذه التي يمكن وضعها أمام هذه المعاني السابقة وأفكار أخرى متعددة حول الوجود الإنساني، تضيع من رأسه، فيتلهف راكضاً وراءها يريد أن يمسك بالخيط، ويتألم لها عندما تضيع، وتختفي عبر ماضيه حيث غيب في التراب أعز ما يملكه: زوجته، وابنته، وحيث فاته النجاح في الشهادة والحصول عليها ولم يفته العلم وحيث لم ينجح في كلية العلوم ولم يتخرج فيها لكنه لم يتوقف عن طلب العلم بنفسه وتكرر الأمر نفسه حين التحق بكلية الطب والحقوق. لقد أخفق في حياته حيث "يسقط الفعل وتموت الكلمة"، فالتحق موظفاً يعايش التفاهة، ويرصد الوارد والصادر مع أنه "ثمة آلاف من الشهب تتناثر مع الكواكب لتحترق وتتبدد منهالة على جو الأرض دون أن تمر بالأرشيف أو تسجل في دفتر الوارد.(1/10)
أما الألم فقد خص به القلب وحده "لأن كل تلك الإخفاقات ترسبت في داخله المتوهج المتنابذ، تتحول إلى أسئلة تبحث عن أجوبة صعبة، كلما عمر الحشيش دمه وأعصابه وإحساسه بالخارج هرباً من قسوة ما ينتظر وعيه، كلما ازداد توتراً وحرقة وتشتتاً وتمزقاً في ضبابه الدخاني الحار: ويبقى الخارج يكبر بدلالات إرهابه عليه ويتسع في كل ما تقع عليه عيناه الدائختان: "وأنيس إذ نراه في العوامة يدمن الحشيش ليخبئ في ضبابياته وخدره مخاوفه فما تزداد إلا عرياً، ولا يستطيع أن يفيق منه لحظةً، لأنه لا يحتمل آلام الإفاقة وأهوالها. فالإفاقة.. تعني مواجهته بدبيب العدم الزاحف"(3).
- الموت والدورة الكونية والغربة الكونية:(1/11)
لقد فقد أنيس إيمانه بما يعوز الإنسان حتى "يسوغ" صيرورته، حتى يستمر..فقد إيمانه بالناس، وبالكون، وبالدين، وبالفلسفة، ويخشى كل شيء، ويضيق بكل شيء كما يضيق الضيق بالضيق، ويدب العدم حوله دباً، يدور، كما يدور كل شيء: الشمس والقمر والأفلاك ويؤدي إلى الموت. "لا شيء يسمع إلا دبيب الموت".. والجوزة تدور "لأن كل شيء يدور ولو كانت الأفلاك تسير في خط مستقيم لتغير نظام الغرزة". ومن الدورة يتولد التعب من الدوار ومنه يهجم الموت أو - على الأقل- التفكير بالموت، والاندفاعات الإنسانية تلقائية، آلية لا تعني شيئاً غير (الشكل) و(الظل). فهو غريب عن الناس، غريب عن أصحابه في العوامة، ولا يجمعه معهم إلا "الموت"، وهو "عندما يدقق النظر في وجوههم تتكشف له عن ملامح جديدة كأنها وجوه غريبة، ويشعر أنه غريب وسط غرباء"، وغربته عن نفسه تجعله يستيقظ" على منظر ساقه المطروحة لصق الصينية طويلة بارزة العظام، باهتة اللون في الضوء الأزرق، كثيفة الشعر، كبيرة الأصابع، مقوسة الأظافر من طول إهمالها بلا قص، فكاد ينكرها، وعجب لعضو من جسده كيف يبدو كالغريب". والكون حول أنيس حين ينظر إلى (خلفية) بعضه عبر نافذة العوامة، يمثل رحلة الفضاء عبر رؤيا مسطولة للأشياء، تتشابك مع التاريخ في توتر "فتبدو الكلمات حليه جميلة من الشعر "تشدك إليها شداً عند القراءة الأولى للرواية، وتتبعثر أفكاراً ورؤى إنسانية مأزومة في حالة التعمق الثانية، لقد رغب نجيب محفوظ، أن يستخدم التاريخ وأن ينقله نقلاً يود أن يخدم الفكرة والشخصية. ويصبغ الكون من شجرة وحيوان، وطير، وإنسان، صبغة تتولد فيها المعاني وتشعرك بأن كل شيء مكرور.والإنسان حين يصل إلى القمر، فسوف يخرج من لا شيء إلى لاشيء..
- العدم بين التاريخ الزمني والكوني:(1/12)
إن حركة التاريخ في "العوامة" توحي دائماً بالعدم، مع أن أحداث الرواية تسير في زمن متلاحق نسبياً، إلا أن الوجود الزماني للشخوص يشكل حيزاً واسعاً من "الزمان"، والشخوص الإنسانية المنتزعة، تستقطب الوجود الإنساني كله، متحدية، عنيفة في مواجهة الوجود الكوني. لكن هذه المواجهة العتيدة المتبدية بأشكال مختلفة في شخصيات الرواية، تمتزج امتزاجاً خالصاً بفكرة العدم، وتجعل منها - أي المواجهة- لوناً من ألوان العبث والعذاب. ويتضح ذلك من تلك الرؤية الفيزيقية، حيث ينشغل أنيس بالكون فيتخيل "الراصد" من فوق وهو يشهد "ثمة تجمعات دقيقة تنفث غباراً مما يكثر في الغلاف الجوي للكواكب وتصدر عنها أصوات مبهمة.. وهذه التجمعات الدقيقة تختفي لتعود دون هدف واضح".
فتارة تدق حوافر المغول أسماعنا، - تدق حدود مصر. وتتبدى في اشتياق الحسناء كليوباترة بارزة في تبلج الفجر من بساطها المنطوي ممتلئة ثقة أمام يوليوس قيصر. ويخيم علينا: "الخيام" بعد أن أفلح في الفرار من الموت، ويظهر لنا أنيس وقد وقع في أسر الهكسوس، يبكيه فرعون، كما نراه في صحبة الرشيد، وهذه ليلى زيدان تشخص لنا راعية في صحراء سيناء في عهد خوفو لدغتها حية فقضت عليها، وتارة أخرى يهتف أنيس "برفاق العدم" حين يحتدمون متمسكين بعبثهم وإباحيتهم: أيها الأوغاد أنتم السبب في سقوط الحضارة الرومانية!(1/13)
وقد عملت الرواية على أن تلغي الزمن وتتخطى حواجزه وحدوده، فيحضر الزمن الماضي إلى الحاضر وتتناسج معه، وتبدو إسقاطاته تدعونا إلى التأمل، وفي هذا الإحضار لا يهم الرواية، تعاقب التاريخ أو تجمع المتشابكات فيه في فترة واحدة أو حساب المكان الواحد، بل تترى الشخصيات والمواقف تهمي كالمطر تخترق دخان الحشيش الذي يملأ العوامة، ويعود الانسطال وسيلة من وسائل هذا الاستحضار الخارق وتهديماً لحاجز الزمن والمكان والمعقول. إن دخان الحشيش الذي قد يعني من ضمن ما يعنيه حجب أهل العوامة عن الخارج ليعيشوا معناهم العدمي والعبثي مثلما تعني العوامة انفصال المكان وحجزه لهم وحدهم يمارسون فيه طقوسهم وانفلاتهم كما يمارس: "أنيس" تأملاته ورؤاه المسطولة يسمع ما لا يسمع ويرى ما لا يرى وهو يتمثل عدمية الوجود في كل شيء. وإزاء ذلك كله، نكاد نرى في الكلمات والتصرفات والاستحضارات كل شيء، أو لا شيء- المعنى - أو اللامعنى- الحقيقة- أو- الأكاذيب- ما يسوغه شهر إبريل شهر الأكاذيب حيث يتم الحديث الروائي في الرواية الذي يجعلنا نتقلب في وراء الحديث بين طرفي التضاد:
- الأمور المطروحة # وما ينقضه الوعي بالواقع..
"ننظر بعين حادة إلى تلك العبثيات. أو الرؤى المضببة المسطولة التي يرى أنيس بها الوجود"(4).(1/14)
والقمر رمز العدم لأنه يظهر ويختفي. هو "العدم الأكبر" إن صحت التسمية، الذي يأخذ بلب أنيس: ويرشقه في دوامة "اللغز" في الوجود والأزل حين يطير مع أشعته الذهبية مشرقاً و"يسقط" معه محتضراً. لقد فقد القمر مدلوله الذي كان له في القرية، وأنيس يذكر بحدة كيف كان مرهقاً في الغارات السود "وها هو ذا البارع يتواثب لغزوة جديدة وهو كجميع الغزاة يتحلى بقسوة حادة كالدرع". إن حالة الانشغال" بالقمر" تنبعث من الخوف من الموت أو من الخوف من الحياة! والقمر فيما يبدو - في قبة المجهول، يبحث عنه الإنسان وهو عابث في الخسارة وتلألؤه مندرج في زحف الدورة التي تبقى بلا تفسير "هاكم الموت يزحف ويمد قبضته إلينا، ثم مأدبة مُدّت للفناء". "ذلك هو النظام الكوني كما قال العلم، وأنيس يجد في ذلك كله معالم الفناء، كل دورة تمثل خطوة من خطى الموت والعدم"(5).(1/15)
لن يكون من طريق سوى العدم، في العلم، وفي الدين وفي الحب. كل موهوم، والعدم هو الصيرورة الواضحة الأولى، التي تلفنا وتعصرنا وتجعلنا نتصرف على نحو أو آخر، حتى "الحركة" أي حركة يتساءل عنها أنيس، ويجد "العدمية" تكمن في ذبذبتها، وحين يطل على التاريخ من خلال رؤيته المسطولة على رفاق الموت: أصحابه، تقتحم التساؤلات رأسه وينفسح خياله دوامة تدور وتدور، إنه يفكر بطريقة عجيبة في العدم. وفي مزج فكرته مع شخصيات التاريخ المستحضرة لديه، والمتميزة في حالة من حالات الأسف والحرقة. فيطعم فضولنا بنيران حوادث خاطفة، تمايلت حائرة، دسمة، فاتنة على لسانه لتخلط العبرة - إن كان ثمة عبرة خالصة- بالسخرية إزاء التجارب الإنسانية في الجنون، والحب، والطب، والهبوط الأول، وآدم وحواء. وخير مثال على ما أوردت حين يتساءل المسطول العدمي هذا: "هل اجتمع هؤلاء الأصدقاء- كما يجتمعون الليلة- بثياب مختلفة في العصر الروماني؟ وهل شهدوا حريق روما؟ ولماذا انفصل القمر عن الأرض جاذباً وراءه الجبال؟ ومن دجال الثورة الفرنسية الذي قتل في الحمام بيد امرأة جميلة؟ وما عدد الذين ماتوا من معاصريه بسبب الإمساك المزمن؟ ومتى تشاجر آدم - بعد الهبوط من الجنة- مع حواء لأول مرة؟ وهل فات حواء أن تحمله مسؤولية المأساة التي صنعتها بيدها؟ "حواء صنعت مأساة، الهروب، من وحوش الموت والقلق في هذا العصر الغريب على الأرض، وكل عصر. والخيام الذي كان مدرسة أمسى فندقاً للملذات، وقد قال لأنيس مرة: "إنه لو كان امتد به العصر إلى أيامنا لاشترك في أحد النوادي الرياضية".(1/16)
في هذه الجملة السابقة إلى جانب جمل أخرى سأذكرها، نتعرف إلى توق ينز بالدم ينبت أحياناً في أعماق البطل العدمي لأن يحصل على شيء أقوى من العدم ذاته، ولعل هذا ما أشارت إليه صراحة "سمارة بهجت" حيث قالت له: "لا تسئ بي الظن، إني أحبكم حقاً وأرغب في صداقتكم، وفضلاً عن هذا وذاك فإني أؤمن بأنه يوجد بطل كامن في كل فرد. ولكن هذا التوق نحو الخلاص، يبدو على شكل شعاع ضئيل أحياناً في محاولة حبه لسمارة. والصورة الأخرى عند أبطال العوامة في البحث عن الحقيقة، والانطلاق نحو مواقع جديدة يضعون عليها أقدامهم- صورة شاذة عبثية، ولكننا مع ذلك لا نملك غيرها بعد أن لحق العجز آخر الفلسفات الإنسانية في فض كنهها وغدت فلسفة اليوم كامرأة ساقطة "وهم مجموعة من الساخطين الرافضين للعصر الذي لا يكن للحب احتراماً، يمزقهم اللانتماء، يواجهون الحياة بالعبث"(6). فمن خلال العبث يودون الوصول إلى "المعنى"، فهو عبث يرفض أشياء كثيرة ما دامت "الفناطيس بحالة جيدة والحبال والسلاسل متينة وعم عبده ساهراً والجوزة عامرة، فلا هم لنا.." هم آمنون إذن، ولم لا يكونون كذلك، وعم عبده هو الحبال والفناطيس والزرع والطعام والكيف والمرآة والأذان؟!.. وعم عبده هذا شخصية مهمة جداً تخدم "فكرتي" عما بحثت عنه في عدمية الرواية، فهو (الفكرة المطلقة) التي يوافقون عليها جميعاً، حيث يتجسد فيها معنى "الخلود" مقابل الموت، وقد أضفى عليها نجيب محفوظ ملامح إيمائية رائعة تنبض بالقوة والإعجاب، حيث يشعرنا بطريق غير مباشر، ما يحس به أهل العوامة وخاصة "أنيس"، من (الطرب) لرؤيته، و(تنبه) يصل إلى درجة (الحسد) الحقيقي للرجل الذي "لا يمرض ولا يتأثر بالجو ولا يعرف عمره كما يخيل (لأنيس) أنه لا يموت". لكل شيء نهاية و "حلت اللعنة التي تجعل لكل شيء نهاية" ولكن عم عبده "نسل الديناصور" يظل، أبداً، بدء النهاية..(1/17)
إنه الإنسان الذي تجب محادثته قبل وبعد ذهاب الصحاب رغم أن المعاشرة بينهما لم تتجاوز الشهر، ونحن نعرف أنيساً الصامت الذاهل، ولكن عم عبده يستقطب تفكيره وإحساساته، ويبدو الإنسان الوحيد المحبب لديه (فعلاً)، إنه عالم "يشع كونه جاذبية لا تقاوم" و"رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت، ورأى كل شيء.. حتى العفاريت؟! "إن مجرد ظهور عم عبده حين تغيير الجوزة، وخروجه، كان يشكل وحده نغماً عجيباً خاصاً، ونفحاً يفتق فيهم الإحساس بتوقهم المطلق نحو هذا البناء المتكامل الذي يبدو أنه لن يموت، فيتراشقون كلماتهم على انبهار معنية بهذا الخفير المحير، الذي يحفظ "دنياهم" العوامة. إن العالم في حاجة إلى رجل في عملاقيته لتستقر سياسته.. ويقول رجب إله الجنس مدركاً تلك الحقيقة: "من حسن الحظ أنه مثال الطاعة وإلا فلو شاء لغرقنا جميعاً..".(1/18)
إن معنى الموت يجبه أنيساً، ويقف أمامه كسؤال الاسفنكس الخالد في قصة أوديب المعروفة(7)، وعم عبده يمثل الوجه الآخر من الصورة، فهو ببساطة - فقد كل شيء ونسي كل شيء(8) "هذه هي أزمة الإنسان المعاصر، كل مكاسبه تضيع في دوامة الصراع، المهدد في كل لحظة بانتهاء إلى لا شيء. والعوامة بالفناء في كل لحظة" ويبدو "الاطمئنان" في هيكله الذي يناطح رأس العوامة أولاً، وتلقائيته الوجودية النفسية في الحياة ثانياً، إنه مطمئن لوجوده لأنه لا يحس بالوحدة، أما مشكلة الموت فإنها ظل أنيس الذي يؤرقه في انسطاله وإفاقته، والشعور القاسي العنيف في إدراكه بأنه سيموت وحيداً كما يعيش وحيداً، ولا يربطه بأصحابه إلا الموت، وأن آلاف العوالم تنطفئ فيه، والعدم حتمية شاملة ما كان الإنسان كائناً من كان أن يفلت منها. وفي الفصل السابع عشر، نجد أن نوعاً من (المطاردة).. مطاردة العجوز تغلف إحساس أنيس اللاواعي، ويقول له مداعباً "تطاردني يا عجوز "إن أنيساً يخاف من الناس خوفه من إخفاقه الذي يلاحقه أبداً في تفكيره، وتأملاته، لذلك نراه يسأل عم عبده سؤالاً يفيض مرارة، وضياعاً، بطريقة جد موحية، حيث جعل نجيب صيغة السؤال تواجه عم عبده في "ماذا تصنع لو طردتك من العوامة؟ "فيجيبه وهو يضحك" جميع الناس يحبون عم عبده". إن "طردتك" هذه تتعلق علاقة غير مباشرة بـ "طرده" هو من الأرشيف، والعذاب القاسي الذي يشب لظى في أحشائه من جريرة ذلك إنه يخاف من حياته خوفه من موته في هذه اللحظة، ولا يدري ماذا يعمل ببطالته ولكن "جميع الناس يحبون عم عبده" وهل الناس يفعلون ذلك أو فعلوا الشيء نفسه إلى "أنيس؟! "فيسأله" أتحب الدنيا يا عجوز؟" وبالطبع تكون الإجابة متناقضة تماماً، لما يحس ويفكر به أنيس" أتحب كل ما خلق الرحمن"، وأنيس أبغض كل ما خلق الرحمن، لأنه فقد كل ما يصله بالرحمن، لأنه فقد حتى حبه لنفسه، إنه في غربة عن ذاته، ومجتمعه، وكونه.(1/19)
وإن "طول عمر الشجرة- وحده- يكفي لإقناع من لا يريد أن يقتنع بأن النبات كائن لا عقل له "ولا فائدة من أن يعمر الإنسان كسلحفاة، ولا جدوى من إطالة عمره، فلن يكون إلا كالملك في مسرحية ايونسكو "الملك المحتضر" الذي تحدى الموت بكل شيء فلم ينفعه شيء - : "سيصبح الملك صفحة من كتاب مؤلف من عشرة آلاف صفحة، وسيوضع هذا الكتاب في مكتبة تشتمل على مليون كتاب، وهذه المكتبة واحدة بين مليون مكتبة". وحتى الفصل الخامس عشر، حين قامت "الجماعة" برحلة السيارة المشؤومة وحصلت جريمة القتل، وحاول رجب قتل أنيس، كان يبدو لنا أن كل شيء في انتهاء، وأن الذين جمعهم الموت والعدم كاد أن يشتت شملهم الموت أيضاً.. كل شيء كان يبدو في انتهاء، غير واحد!.. "فالكيف" نفد من السوق، ومعرس الجوزة داهمه الخراب، والخيال مات ولم يبق في الرأس إلا ضغط الدم، و"سمارة بهجت" لم تعد تصلح لشيء رغم جديتها وهي صائرة "إلى موت محقق" "موت يدركك وأنت حي"، وعلامة الاستفهام تكبر وتنتفخ، تدوم مدوية في أعماق أنيس وهو بدوره ينتظر الموت الذي سيظهر ليبتلع العوامة.. غير واحد عملاق خلفه أقزام يركعون، يؤذن ويؤم الناس في الصلاة.. عملاق وحده راسخ كالطود.. إن شخصية عم عبده تذكرنا بشخصية "وات" إلى حد ما في رواية "بيكيت" المعنونة باسمه، فوات هذا الرجل عجوز من مثل عجوزنا في الرواية يخدم رجلاً غريب الأطوار هو "المستر نوت" ولا مجال هنا للمقارنة الفعلية، فنجيب محفوظ تأثر تأثراً واضحاً في الثرثرة بثورة اللامعقول، مسايراً بذلك التطور الحديث في الرواية الأوربية والأدب الأوربي. ويمس أوتار العبث في قول ألبير كامو في "الحرية العبثية- : "أنا لا أعرف إذا كان لهذا العالم معنى ولكني أعرف أني لا أعرف هذا المعنى، وأنه من المستحيل عليّ هذه اللحظة أن أعرف هذا المعنى. ماذا يهمني من تفسير خارج عن عرفي؟ أنا لا أستطيع أن أفهم إلا بالألفاظ البشرية".(1/20)
- نجيب محفوظ وأدب العبث اللامعقول:
إن اختيار نجيب محفوظ (للعوامة)(9) كمكان، لمجاري الأفكار "التجريدية"، تعطينا انطباعاً خاصاً لأفكار جديدة على أرض جديدة لكن الأشياء والصور التي يسكب فيها الكاتب أفكاره، من خلال ما يتجسد في "العبارة الرؤيوية" توسع من دائرة الضوء في المصادر الأدبية التي هي - كما قال ألتيك- أكثر سلامة من تلك التي تتعلق" بمصادر الإلهام في حياة الكاتب". إن مسرح العبث قد ألقى عليه بساط البحث كثيراً من الأسئلة التي افترضها نجيب محفوظ، حول العدم والموت، بل إن العنصر الجوهري الأول في هذا المسرح وهو الحضور أو شرط الحضور- كما يطلق عيه أصحابه- دون الحركة أو الإغراق في تغيير الحركة في المكان والزمان، يتوافر توافراً مشابهاً في الرواية، فالأفكار هي التي تتحرك، لا الأشخاص. بل إن أفكاراً رددها "بيكيت" و"ايونسكو" و"جان جوني" مثل: "إننا لا بد هالكون، من سينقذنا، نحن لا شيء، ونسير نحو لا شيء لننتهي إلى لا شيء في عالم غامض ثقيل تحف به قوى الموت والعدم".. هذه الأفكار موجودة في أكثر من مكان في الثرثرة كما عرضتها سابقاً. إن شخصيات "بيكيت" معزولة معنوياً عن الحياة، وكذلك شخصيات نجيب محفوظ في الثرثرة، إن الحديث الفكري الذي يتردد في أعمال الأول مشابهاً - ديالكتيكيا- لعمل نجيب محفوظ الأدبي، في اصطباغ هذا الحديث بهذا المضمون الحزين المأساوي، الذي يبدو لنا صدى كيان الإنسان في هوة سحيقة لا نهاية لها.
- هل شخصيات الثرثرة مقنعة جميعاً؟:(1/21)
والسؤال الذي يثور بنا هو: هل شخصيات الرواية "مقنعة" وبخاصة شخصية "أنيس"؟ الرواية كاملة، تولدت تولداً غير عربي إلى حد ما، وهي عبارة عن أفكار دومت في أعماق نجيب محفوظ بعد إطلاعه على أدب العبث، فكانت تلك الشخصيات التي تثرثر فعلاً، تدخل حال دخول العوامة، في مناقشات مبتسرة، تعطيها شيئاً من "الزخم" الروائي حوادث جانبية تثير الفضول أكثر مما ترضي العقل ويتبدى ذلك في شخصية سمارة "السرية" حين تسبق الحضور، وسناء حين تروض خصلة من شعرها مقهورة، وليلى زيدان العانس والخراب يزحف على عينيها، ثم سنية كامل وهي تخرج ضحكاتها المكبوتة من الحجرة المغلقة.. وهل هذه الشخصيات الأفكار تمثل المجتمع العربي في مصر، فعلاً؟ أم أنها أشخاص أو أشباح أشخاص "مستقبلية" تراود مخيلة الكاتب، أم أنها جماعة غريبة لا تمثل إلا نفسها؟ الجواب أن كل الدلائل تدل على أن أبطال الرواية ما عدا أنيساً - وعم عبده عاديون بل جد عاديين وهم يثرثرون على نحو أو آخر دون أن ندرك، أو نأخذ فكرة سليمة عن شخصياتهم، أو الدوافع التي تملي عليهم هذا الكلام أو ذلك، بل إن الحوار يعود يتشابك ويتشابك، حتى ما نحس بعده من يتكلم فعلاً وحتى الذي رأى في هذه الثرثرة - ثرثرة فنية بصورة مطلقة- أكد أننا لا نستطيع رؤيتها كذلك، إلا من خلال شخصية أنيس "الذي قاتل العدم طويلاً، وبلا هوادة"(10)، والذي بقي يرى العدم في كل ما حوله، "لو أننا فعلنا ذلك - أي لو عددنا أنيساً رجلاً تفلسف وعانى وفقد الحب وخاف وغاب في رؤاه الانسطالية - لكان معقولاً في كل رؤية رآها وكلمة قالها(11) لكن الرواية /الثرثرة ليست رواية/ ثرثرة أنيس ولا عم عبده وحدهما. فالعالم المخلوق الذي احتوته العوامة فيه شخصيات أخرى لم تبلغ - فنياً- مبلغهما.(1/22)
فالطالبة الجامعية في المجتمع المصري المتوثب تحولت إلى عاهرة، والفتاة المثقفة غدت شيئاً منحطاً تتناقلها الأيدي، كدمية، والزوجة - أية زوجة- مدمنة جنسياً تمارس تعدد الأزواج لكنها تظل "امرأة حنان" أمّاً رؤوماً حتى في "عشقها"، العالم يعيش على كف عفريت، ولا بد من رأس الحوت أن يظهر. إن هذه الشخصيات التي عرفنا أسماءها تتردد وتتردد في كل صفحة ولم نتعرف أعماقها، لم تكن إلا الأفكار عادية مجردة، صيغت في بوتقة الجوزة العامرة، وأنا أعرف حقيقة أن المجتمع المصري بخاصة والعربي بعامة ليس على هذه الصورة. وكاد ما يصلنا يدل دلالة أكيدة على زخور الحركة المثقفة وانفتاحها في مصر، وتطلعها إلى (منائر) جديدة من الأخلاقية المجتمعية والتقييس الجديد لجميع ما يستجد في بناءات المجتمع المتحول، أم أن مجتمع الحشاشين سيظل وصمة القطر المصري. فهل يمكن للأديب العربي بالذات أن يطلق مرحلة الرؤيا الاجتماعية البحتة إلى الأبد في مرحلة بحثه الفلسفي وأن نشتم روائح أخرى مميزة؟.. أن نعايش تطلعات المصري الجديد؟ إن المثقف في - القاهرة الجديدة- قد حاول الدفاع عن "قضية"، أفلا يمكن له الآن أن يدافع عن (قضية أخرى) في الثرثرة؟ أنا لا أنكر على محفوظ الروائي الكبير تطوره أبداً، بل إني أنكر استخدامه هذا التطور في إعطاء مثل هذه الصورة المشوهة عن المثقف المصري الحشاش بكل قطاعاته!.(1/23)
على أننا لو افترضنا وجود هذه الشخصيات بأوضاعها (ما عدا أنيساً وعم عبده)، فهي ليست مقنعة بما تحمل من أبعاد فكرية، ونفسية، وثقافية كما بدت في الرواية، بمعنى آخر إن حال تلك الشخصيات غير طبيعي، وسياق الرواية في التأدية للتعرف إليها من الداخل، لم يكن مقنعاً بحيث نرتضي أوضاعهم في العوامة.. على أنهم كذلك. إنهم عاديون في حديثهم، متشابهون في محور أفكارهم واستجاباتهم، وغير عاديين في أوضاعهم.. أوضاع كل منهم على حدة، ومن هنا نشأ التناقض. إن "الآلة" التي مجها الغرب وجعلت من عدد المصابين الذين يدخلون إلى المصحات، قدر عدد الجامعيين الذين يدخلون الجامعات، هذه الآلة ما زلنا نحتاج نحن إليها، إننا نفقدها. والمرحلة المتدهورة التي يعيشها الغرب، لا نعيشها نحن بحال! إن التراث الحضاري العربي، وأفكاره متميزة تميزاً عجيباً عن أي فكر آخر وهو عندما يأخذ، نراه كأنه يعطي، إنه موهبة ما زالت تبعث بشرارتها الأولى "الأصيلة" بالرغم مما أصابها من نكبات - كان يمكن لهذه الشخصيات أن تفكر مرحلياً بما يدور حولها من ثقافات! إنما أن تعيش على هذه الطريقة من العدمية دون تسويغ مقنع وسط شعب متأجج، مثقفوه أكثر نجاحاً وحماسة، وصيرورة نحو ما هو أفضل، دون أسباب عصابية أو دواع حياتية خاصة لم تظهر لنا بوضوح فنياً ونفسياً، فهذا ما لم نعثر عليه إلا في الأعمال الأدبية الأصيلة وفي أعمال نجيب محفوظ نفسها.(1/24)
إن الشخصيات الروائية من "سناء" حتى "رجب" يمكن أن نجد لها شخوصاً ممسوخة لأفكار تمت إليها بصلة قريبة أو بعيدة، أو شخوصاً تتكلم بأفكار حقيقية لأعمال اللامعقول، ولكن هل هذا يعنينا في شيء؟ إن كاتباً مثل "بيكيت" نكاد نجد أكثر شخوصه موجودة قلباً وقالباً في مسرحية أخرى له، أو لغيره وكذلك الأمر بالنسبة إلى "يوجين ايونسكو" فإن الملك "بيرنجه الأول" الذي يعيش تجربة موته وينتظره عارفاً به في المسرحية المسماة "الملك المحتضر" هو بطل "ايونسكو" المشهور الذي نراه في كثير من مسرحياته في "الكركدن" مثلاً وفي "سيارة الهواء" و"القاتل المجاني"، إذن لا يعنينا ذلك من وجهة النظر هذه، لأن فكرة العدمية هي الأساس والمحور الذي يدور حوله أي عمل فني لا معقول، وما يمكن قوله بالنسبة إلى (الثرثرة) فيما يتعلق بهذا التشابه، بين عمل فني معين وعمل فني آخر،هو أن أفكاراً عدمية، ألبسها نجيب محفوظ - مختصرة- لباس الشخوص الملتفة حول الجوزة، والجمر فـ: "هذه الشخصيات ليست حقاً شخصيات عبثية تتخذ من العبث فلسفة في الحياة، بقدر ما هي شخصيات أقرب إلى المجون والأغلال أو الغموض والاستهتار، لا يختلف تضييعهم الوقت في إحدى العوامات عن تضييع غيرهم الوقت في أحد النوادي أو المقاهي أو الحفلات"(12) وصب عمله الروائي - مبدعاً- على أنيس، الذي بدا لنا شخصية مقنعة ورائعة، تعيش في إشراقات دائمة يبثها الوجود حقيقة في أعماقه، فيفجر أحاسيسه وتأملاته وذكرياته. ومن هنا، فإني أعتقد أن الرواية لم تفقد أهميتها الفنية - على الأقل- لأن شخصية أنيس العصابية وحدها تستقطب اهتمامنا فعلاً، وناجحة، منذ أول حرف سطره نجيب محفوظ لأبعادها، وقد استطاع أن يدرس أزماتها خلال البنية الدرامية في الكيان النصي للرواية دراسةً دقيقة، موحية، عميقة، تنبض بالألم.. والمأساة.(1/25)
أقول - عصابياً- لأنه يمكن أن يصيب المرء الموت - كما يصيب كل من يعيش على هذه الأرض- من أجل ما يصبو إليه دون أن يمنعه ذلك من تجربة الحياة والسعي فيها نحو الغلبة وتأكيد الذات، أو أن يتزوج إنسان، ثم تموت عنه زوجته، فلا ينهار كما انهار أنيس بل يصبر على الدهر والقدر، ويحيا "بالمعنى" الذي تمليه علينا الحياة، إنه - أي أنيس- الشخصية الوحيدة المتخلفة فنياً، إذ استثنينا عم عبده الذي يشبه إلى حد كبير شخصية "وات" كما أسلفت، على الرغم من أن الرواية أخذت اسماً جامعاً: "ثرثرة فوق النيل" وهذا يعني أننا أمام أشخاص وليس أمام شخص واحد يكاد لا يتكلم، ولكن الرواية له، ومنه. إن عصابية أنيس الحادة تتجلى من خلال رؤاه وصمته وحتى في إفاقته. و"النظرة الخاصة" التي منحها له رفاقه حين سموه بـ "ولي الأمر والنعم" تدل دلالة واضحة على موقفهم منه، وكذلك فإن أية كلمة كانت تخرج من فمه، كفيلة بأن تجعل المكان يضج بالضحك، حتى في "الجنس" حين يسأل "ليلى زيدان" قائلاً: "لم لا تتخذين مني رفيقاً" فأجابت: "إنك إذا استعملت الحب يوماً كمبتدأ في جملة مفيدة فستنسى حتماً الخبر إلى الأبد"، ومن هنا أدركت ليلى حقيقته، وحين تقول "سنية كامل" محاولة إيجاد رجل لسناء بعد أن هجرها رجب: "وإذا وقع المحذور فعندك مصطفى وأحمد "صاح أنيس بوحشية: "لماذا تغفلني إحصاءات الأوغاد؟ "ثم بغلظة وهو يضغط على مخارج الكلمات "أوغاد منحلون مدمنون".. كل الشتائم تكون نتيجتها أن أغرقوا بالضحك. إن أنيساً كانت تشغله مشكلة الموت شغلاً حاداً. وهذه الظواهر التي تدلنا على تفتحه للحياة كما رأينا سابقاً في تعبيره "لماذا تغفلني إحصاءات الأوغاد؟" لم تكن إلا "صرعات" تتبدى بين حين وآخر، على أثر منبه ما يحس به، لينتشله من "المذهلات" التي تسلب لبه وحسه وصوته أيضاً، سابحاً في ذرات العدم والموت التي تكمن في الأشياء والناس والليل والضوء.(1/26)
لأن أصل المتاعب مهارة قرد هبط من جنة القرود إلى أرض الغابة، وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.. فقبض على غصن شجرة بيد - عنصر الخصب- وعلى حجر بيد- عنصر الدفاع والقوة- وتقدم في حذر وهو يمد بصره إلى طريق لا نهاية له، هارباً من وحوش الموت والقلق والمجهول(13).. ولكن إلى أين؟.. بهذا المعنى يختتم نجيب محفوظ روايته.
- نهاية الرواية:
إن نهاية الرواية ظلت (تبحث). والشخوص ما ونت تسير في طريق مجهول، بعضهم ظل (معاندا) رغم "الجريمة" خلال "حدته المفرطة" أكثر جدية في عبثه. و"نجيب محفوظ" على لسانهم جميعاً ظل بلا هدف بل يبحث عن هدف، بلا خلاص، بل يتشوف طريق خلاص في الطريق الجديد العجيب اللانهائي.
***
كان من الممكن لهذه الرواية أن تأخذ حظها إلى حد كبير من "الثرثرة الفنية" أي أن تكون (ثرثرة فنية) حقيقية، دون أن تشوبها (الثرثرة على الورق)(14) في أسلوب تجريبي حاول أن يجعله نجيب محفوظ جديداً على ما كتبه من قبل متأثراً بالروايات الجديدة الفرنسية خاصة: لو أن مجمل الشخصيات فيها نالت التركيز والتعميق والإثارة كما نجد ذلك في شخصية (أنيس) وشخصية (عم عبده) ولو أن فلسفة دورة العدم والوجود(15) في الرواية التي استغلت الزمن التاريخي والزمن الكوني كان لها مومئاتها الحادة وراء الواقع الذي كان يغلي في وقت كتابة الرواية وهو يستند على همومه بيد الشعب العربي في مصر الذي يقوم دائماً من عدمه بالثورة والطموح الذي لا يحد. إنه الشعب الذي لا تغيبه ظلمة الحياة ومغيباتها عن تخطيط طريق الضوء الذي لن يجهل مفضياته.
فالرواية تضع في حسابها دائماً أسباب التخليق الفني داخل مسوغات محلية وإرهاصات محلية وإنسانية متعددة المستويات والأبعاد.
***
( الإحالات
1- إبراهيم الصيرفي: "نجيب محفوظ.. الثرثرة"، في مجلة الفكر العربي. القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، العدد السادس عشر، يونيو، حزيران 1966م، ص68.(1/27)
2- جلال العشري: "ثرثرة فوق النيل- نجيب محفوظ"، في مجلة الفكر المعاصر. القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، العدد الخامس عشر، مايو 1966م، ص85 (زاوية رأي في كتاب).
3- إبراهيم الصيرفي، "نجيب محفوظ.. والثرثرة"، ص70.
4- م.ن، ص74.
5- م.ن، ص72
6- أحمد محمد عطية: "نجيب محفوظ - ثرثرة فوق النيل"، في مجلة المجلة. القاهرة، العدد 115، السنة العاشرة، يوليو تموز 1966م، ص117.
7- رأى بعض النقاد جانباً مهماً عند نجيب محفوظ، هو نزوعه نحو الفلسفة والتاريخ في رواياته، وهو يبدو في بعض رواياته صاحب نزوع فلسفي باحث عن العلاقات المطلقة بين الأشياء وهنا تبدو في الثرثرة رؤيته الكلية للأشياء. يقول نجيب محفوظ في حوار معه: "لم تنقطع صلتي بالفلسفة. ولكن الذي يبقى في نفسي منها هو منهاجها.. وهو أهم عندي من الآراء والمعلومات، وأعني به النزوع إلى الرؤية الكلية بالأشياء بدءاً من شتى التجارب والمعارف، والمحافظة على الاهتمام بأسئلة محددة دأبت الفلسفة على طرحها جيلاً بعد جيل. وفي هذه الحدود، أعتقد أنني تأثرت كثيراً بالفلسفة في أدبي.- :
... حوار سامح كريم: "مع نجيب محفوظ"، في مجلة الفكر المعاصر. القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، العدد 43- سبتمبر 1968م، ص77.
8- أحمد محمد عطية، "نجيب محفوظ- ثرثرة فوق النيل"، ص117.
9- "نلاحظ أن أغلب أبطاله - يعني نجيب محفوظ- إنما يتجهون إلى (النيل)، وينظرون إليه على أنه الأب الذي يخرجون من صلبه.. والذي ينبغي أن يعيشوا في كنفه، وينبغي أن يمتثلوا أمامه صاغرين معترفين بخطاياهم"-
... سعد عبد العزيز: "ما وراء أدب نجيب محفوظ"، في مجلة الفكر المعاصر. القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، العدد 42، أغسطس - آب 1968م، ص71.
10- إبراهيم الصيرفي، "نجيب محفوظ.. والثرثرة"، 69- 70ص.
11- إبراهيم الصيرفي، "نجيب محفوظ.. والثرثرة، 69- 70ص.
12- جلال العشري، "ثرثرة فوق النيل- نجيب محفوظ"، ص85.(1/28)
13- "وبهذا السعي الدائب المستمر نحو تحقيق غاياتنا.. وبمدى ما نعاني من عذاب كي نكتشف حقيقة أنفسنا ونكتشف أسرار وجودنا، يمكن أن نؤكد إنسانيتنا، ويمكن أن نحدد قيمتنا في ذلك العالم الذي نعيش فيه "- سعد عبد العزيز: "ما وراء أدب نجيب محفوظ"، ص77.
... "أنيس يقرر أن العبث وانعدام الهدف ليسا نابعين من عدم دراسة الحياة، بل من فهمها والوقوف على أن الحياة لا معنى لها، ومع ذلك فالاستمرار في العبث والرفض قد يحمل في طياته ويجعل للحياة معنى.. "أحمد محمد عطية: "نجيب محفوظ- ثرثرة فوق النيل.."، ص118.
14- لاحظ شيئاً من ذلك: "جلال العشري"، إذ إن: "هذه الشخصيات ليست حقاً شخصيات عبثية تتخذ من العبث فلسفة في الحياة بقدر ما هي شخصيات أقرب إلى المجون والانحلال أو الفوضى والاستهتار، لا يختلف تضييعهم الوقت في إحدى العوامات عن تضيع غيرهم الوقت في أحد النوادي أو المقاهي أو الحفلات، رأينا أن الرواية لم تكن ثرثرة فوق النيل، وإنما هي- ثرثرة فوق الورق- ."-
... جلال العشري: "ثرثرة فوق النيل- تجيب محفوظ"، ص85.
15- في كتاب (نجيب محفوظ- ما وراء الواقعية) لـ: "رياض عصمت.
... "إشارة إلى أن "لقصص نجيب محفوظ جانبين (هما): جانب نفسي تحليلي، وجانب آخر يعتمد على التاريخ والفلسفة في بحث المجتمع ومفاهيمه ككل والأمر واضح في ميرامار، ففيها يتابع نجيب محفوظ أسلوبه الجديد الذي بدأه في طريقة عرض ثرثرة فوق النيل".
ورد المقتطف السابق من عرض للكتاب المذكور سالفاً:
"محمد أحمد يوسف"، في جريدة الاتحاد. أبو ظبي، العدد 6343، الخميس
30- 10- 1997م.
(((
... ... محمد زفزاف
قراءات في الأدب المغربي المعاصر
الواقع العربي والعالم والهوية الضائعة
ورفض الزيف المحيط بنا في رواية "أرصفة وجدران".
لـ :"محمد زفزاف".(1/29)
محمد زفزاف قاص وروائي مغربي، لعله أكثر أدباء المغرب العربي انتشاراً في المشرق العربي، وبخاصة فيما كتبه في السنوات القليلة الماضية، فهو، كقاص، على التحديد، تشكل تقنيته الفنية في هذا المجال الصعب دون الدخول مبدئياً في - قول- ما يكتب، أهمية لا يمكن تجاهلها في الإنتاج العربي المبدع عموماً.
كتابته فيها هذه القوة أو الطاقة التي تبعث: (شرارة ما) حين تبدأ بقراءة مبدع ما... وهي تسعى من أجل اكتشاف بؤر جديدة مشعة في فعالياتها، وبلورة إمكاناتها خاصة عندما تنجح في وضع تجربتها داخل الشرط الاجتماعي والاقتصادي والفكري للوطن والعصر والتاريخ، من مؤلفاته: (أرصفة وجدران) و(المرأة والوردة)، وأيضاً (قبور في الماء) وهما روايتان، وقصص منها مجموعتان قصصيتان هما: (أرصفة وجدران)، (حوار في ليل متأخر)، وأيضاً: (بيوت واطئة)...
** رؤية الواقع والحياة:
أتحدث في هذه القراءة عن الرواية الأولى: (أرصفة وجدران) مؤكداً على النتائج التي تفضي إليها الدراسة، دون أن أغفل الربط بين هذه النتائج واستمداداتها. إن هذه الرواية تنطلق من تجربة متصلة بسلوك معين (داخل بيئة أو بيئات معينة)، حيث تكون عملية: (التأثير، والالتقاط) مرهونة بـ (الدور) الذي تقوم به، والمؤدي إلى(اتجاه ما) هو:"اللوبان"، و"التفاهة" و"الشيئية" و"الإنسانية" و"اللامبالاة"، و"العدمية" مع شيء نادر ومفاجئ من التبريح الذاتي في البحث عن - شيء ما- معنى - أو خلاص- ...
إنه نوع من فتح - مسام- من مسامات المجتمع للدخول إلى عالم تطل عليه بكيفية ما من أجل التوازن، والخروج من حياة مالها وجه آخر!...
فالرواية رصد لشريحة اجتماعية تؤمن بعد تجارب ذواتها، بعدم جدوى هذا العالم وبنهايته المحتومة: (أنا أساوي صفراً في هذا العالم- ص38).(1/30)
و(- العبث في كل شيء- ص70). و(ماهي هويته)، هل هو مغربي:(إنه لا يعرف- ص20 و: الناس يمشون بلا هوية- ص70)... هل يحس العالم: (لا أحسه طبعاً- ص20). وأننا في الواقع: (نعيش الغرابة والاغتراب). وكل شيء: (يتضمن العفونة والرتابة والتكرار- ص39)، لكن زفزاف - له رأي بهذه التجربة وصفها في مقابلة له بأنها: (تجربة طالب غير عادية يواجه عالماً لا تتكافأ فيه الفرص، وهو يحاول أن يتجاوز كل ذلك ويتحداه. إنه يعلن رفضه لكثير من الزيف المحيط به). هذا الوصف غير باطل، وإسقاطه صحيح، والاحتجاج أو الرفض في الرواية يعني أشياء كثيرة على مستوى الفرد والمجتمع والعصر.
مايود الكاتب أن يقوله في الرواية شيء، تشي به معطياتها بسياقات لغوية دلالية عدة.
إن البطل الحقيقي: "بو مهدي" الذي تسلل بأقنعة مختلفة"، لم تسطع إخفاءه "إلى باقي الشخوص، تشكل مقولاته الشاملة الإحساس الموقفي باتجاه حالة - العجز الكامل- داخل المحيط وحركة العالم والوجود:"الكل شيء يسود، كل شيء تافه. إن كل شيء لا معنى له... ليس له جدوى ص 65"، و" الحياة غير مجدية- ص40". لا:"السجائر" تجدي ولا:- الكتب- ولا: - الجماعة- ...
وتصرخ أعماقه مترنحة: - الساعات تمر فارغة.. تجتر نفس الكلام- فماذا يسمى هذا الموقف من الحياة، والناس، والأشياء؟، ماذا يسمى موقفه من - الإضراب- في الجامعة؟...
أي شيء يمكن أن يَهَبَ "رد الاحتجاج أو الرفض"، الذي يفرزه هذا - الإحساس بالاتجاه- !؟... يتصور الطالب - بو مهدي- أنه مركز ثقل العالم: "كل شعور عام يجتاحه. شعور عام بالاختناق. العالم لا يريد أن يتغير في بعض اللحظات، يشعر أنه مركز العالم- .
فهل العالم يتغير بـ "معجزة"؟، أين- فعل- التغيير من قبل المرء الذي يقوم به على عجزه؟. أين - التجاوز- ؟ إن هذا الشعور حتمي نتيجة الاستلاب والتلاشي!... فأين - وعي المصير- ؟ أين - وعي التحدي.(1/31)
بطبيعة الحال، يرصد زفزاف مثل هذه الشخصية السلبية الحادة التي نجد النهايات والموت والموات في كل شيء تراه وتقوله من أجل أن نحتج عليها ونبحث عن الجدوى في لا جدواها.
هذه الأسئلة يقوم الكاتب بالإجابة عنها في الرواية من خلال منطق يتلمسه في الشخصيات التي يجري بها التغيير.
"أثير هذه الأسئلة هنا بتأثير ما أعلنه "زفزاف" معلقاً على جواب يتعلق بسلبية البطل:"إن الاحتجاج دون إدراك الاتجاه المعرفي ودون معرفة كيف تحدث الأشياء، يؤدي بالضرورة إلى الفراغ، وإلى - توهيم الذات- ، وجلدها، وجلدنا، دون نتيجة... وأعتقد أن هذا وضع رواية "أرصفة وجدران"، في - ضوء- ما ملغوم في الداخل، ضوء يرفض السواد والهزيمة أمام كل شيء ويصنع المستحيل داخل استنتاجاتنا في رواية تعمل على طرح أمور كثيرة من الواقع والعصر طرحاً عبثياً من أجل أن تصدمنا وتثبتنا بقوة على الضفة الأخرى المقابلة. لذا جاء عمل الرواية إيجابياً على الرغم من اندحار شخوص الرواية على رأسها بو مهدي وفيها إشارة إلى أن الهروب والتجديف وتبني معجم الاغتراب بكل مفرداته لن يؤدي إلا إلى مزيد من الهزائم الشخصية بل العامة. وبالمناسبة فقد "كتبت هذه الرواية بين 66- 1971م في أحداث خطيرة ومتميزة في تاريخنا الحديث"... ولهذا فالرواية رفض لتجاهل هذا السياق التاريخي وعدم مسؤولية اللحظة التاريخية في أن تأخذ حقها على يديّ المثقفين والمبدعين في كل باب.
** العدم ورسالة الفن:
لقد أراد زفزاف أن يلقي على فئة من المثقفين، ونحن نشهدها تصنع الحياة - في الرواية الواقع- ، في بعد واحد! - رسالة الفن المعلنة على لسان البطل بقوله: "والفن إنما هو عطاء إنساني كبير، إنه أسمى مايقدم الإنسان للإنسان. وأن تمارس الفن معناه أنك تؤنس الآخر. إنها تجربة منبعها السماء، إنها تجربة ترتفع عن الطين، عن الوحل، عن الشر المتأصل في الأرض- ص49".(1/32)
لكن هل وافق العمل الرأي، هل كان بو مهدي ملتزماً بمعنى رسالة الفن، هل أحداث الرواية تجيب عن ذلك لتصور واقع هذه الفئة التي يمثلها بو مهدي الفنان صاحب الرسالة الفنية التي لا يخلص لها الكثيرون.
... هذا اعتراف رخيص في مفرزات العمل الأدبي، لم يتحقق لدى "بومهدي" لأنه فرز - آني- . في فرديته الموهومة التي تجعله يهاب حتى من نفسه، ومن الفن، وصلته بـ "الجماعة" التي يبغضها ويسلب جدواها. والالتحاق بها نوع من إشباع حس - العدم- فيه...
إن الفن لديه نوع من رغبته المتناقضة في ساعة اهترائه، "وتعذيب نفسه"، حين ترغمه هذه الساعة - للحظات، على أن يندفع في "الحياة" حتى لا يموت، حين يجد فرصته لاستغلال الفن في الغناء والضياع والتشتت ونسف القيم والهلوسة الجنسية:- جسم امرأة يساوي العالم- ص50".. تتعب قدماه في حانات البغايا وأماكن يلتمس فيها أية امرأة تستهلكه، وتوهمه، وتعهره أكثر حين يشعر بالحياة. حتى هذه التي اعتبرها مخلوقاً رائعاً مختلفاً عن كل ما عرفه، استدرت عدميته حين وجدها تشارك "سالم" الرسام فراشه منذ أمد. فلا شيء يبنى في شيء أو على شيء...
** النماذج الروائية:(1/33)
ترغب المرأة بشكل محموم، في أن تمارس عدميتها وتكشف عن ذاتها في فناء الآخرين نصاً، فتحقق بأسلوب مرضي "صلتها الوحيدة"، بهم وهم ليسوا، لديه، إلا جثثاً عفنة ص 82..." و"يحمل الرشاش وينهال على العالم ص80"... وينتهي كل شيء في - الحياة- : (اللذة والمعنى)، دون وعي- بأدواتها- ، وشرط وجودها اللائق بـ "الإنسان" حيث المعنى الذي تحمله يجب ألا يعمل على إنهائها. إنّ صوت "بو مهدي" هذا وبما ينطوي عليه يندرج بأشكال ومعان تكاد تكون متشابهة في بقية النماذج الروائية، من خلال ما تطالعنا به وهي تدور في دوائر يستشف القارئ عالمها، ولولبيتها، منذ البداية، بعضها يكبر وينتفخ في فضاء الرواية، وبعضها يتقلص، لكنها كلها تدور في عالم الكبت والجنس واللامعنى والعدمية والإخفاقات المتكررة والمتوقعة والخيانات النفسية أو السلوكية، مما يجعل صفة: "التكرار"واضحة لها غاية حين نلمس هذا الواقع الإنساني المتشابه لا المتماثل أو المترادف والذي يفضي بعضه إلى بعض في قنوات عديدة.
في هذا الواقع نماذج تلبس إهاباً مستعاراً، وقشرياً، يسهل انتزاعه، يحرم عليه "الخصوصية" الزائفة التي تحرص عليها والتي تعد نفسها شريحة حيوية إنسانية- في لحظة تاريخية أو واقعة ما، الشيء الذي وفرَّ شحنات شعورية أو فكرية متصادمة أو متحاورة من قبل المتلقين من أجل وعي مايتحقق به من منظور البنية الدرامية التي تقوم عليها الرواية، والتي تفرز استقراءات، واستنباطات، وامتلاك معادلات على مستوى "الدعاوي، "أو على مستوى- التبشير- ، أو على مستوى "التشكيل الإنساني المتخيل". من قبل هذه النماذج التي تمتلك أفكارها وطروحاتها. وأية كتابة لا تمثل أفكاراً، طرحاً ما فلا معنى للدخول معها في أية أحاديث ومقولات مبتسرة وعائمة، وعن طريق هذه الأفكار تمَّ تفسير وتأويل "سفالات" في الرواية لها نكهة الإنسان في سقوطه حين تعني حقيقة مبتسرة للأشياء والعالم.
** شخصيات ورموز:(1/34)
ماذا يتحرك في خلفية هذا المشهد الاجتماعي وبنيته الفكرية؟...
"سالم وصالح" متزوجان ويعيشان حياة ساقطة دون ملامح "إنسانية".
"ليلى" معلمة."نانسي": طالبة جامعية. سالم رسام أمه مريضة بالسل وتموت في نهاية القصة، وتغيب في دهليز، كانت رمزاً موفقاً استغله - زفزاف- في محاولة تحرك معنى الحياة ضد "العقم" و"انطفاء الأمل" حيث موتها في آخر الرواية... لكأن الأم هنا هي رمز النسق الخصبي في الرواية ورمز الوجود المستمر الذي لا يريد له "بومهدي" أن ينمحي.
كانت أم سالم "إيقاعاً" حزيناً حنوناً ومراً ومتفرداً في الرواية، تملؤنا لهفة على مصيرها- الذي كان يسير بصورة متصاعدة في العنف والترقب إلى شيء قد يحدث، وكانت لهفتنا على مصيرها المحتوم هو لهفة على مصير وجودنا الذي هزمت مسوغات استمراره وشطبت عوامل رعايته وتمكينه من خلال الشخوص المسلوبة الإرادة التي ترى أمامنا في الرواية والتي سرقها الوهم وإلغاء الزمن والهوية والمكان إلى عدمية حقه، تعمل على التسريع بمصير موت الأم المهملة.(1/35)
ها هو ذا بو مهدي المهزوم - يعطي إشارات عابرة عن الأم تأتي خلال السأم والشرب وممارسة الاستبئاس والتفكير بالجنس، يسأل عنها "بو مهدي"، الذي يرى في سرعة خطواتها نحو الموت تجسيداً لا ندحاره في هذا العالم أمام الموت وفقدان أية قيمة فيه تستحق عيشه، فلا أمل للإنسان معه إلا في استهلاكه لنفسه في الحياة. ويذكرها "سالم" المتعلق بها بعبارات مقتضبة في الوقت الذي لا يغفل التجديف على أبيه الباحث عن لذاته قبل وبعد موت زوجته، وبهذه النظرة المنقلبة على ذات "بو مهدي"، يمكن فهم هذا - الجو النفسي- الذي كان يشيعه ذكر - الأم- المنكودة المهملة الضحية الظامئة إلى الحياة والحنان والحب والرعاية، وبهذه النظرة يجب فهم مشاعر "سالم" الذاتية الذي لم يكن ليقوم بواجبه تجاهها منشغلاً بذاته، لا يعنيه هموم أحد لا الطلبة ولا الجماعة ولا الوطن ولا العالم وحتى نفسه في أحايين بسبب تشوشه واضطرابه. حتى إنه يجاهر بكرهها:"ربما أكون في موقفي من هذه الأمومة التي تبدو مجانية وباردة تجاه معطياتي الشعورية". إن المرأة في الرواية متشيئة أبداً، متهمة بالخيانة الجنسية، وقد تحمل صفات أخرى حسب مرآة نفس الرجل الذي لا يقبل - الخيانة منها:"ليلى.... لو كنت زوجة لي ولكنك مع الأسف خائنة كل مافيك رائع إلا الخيانة- ص77"، و"لو أتزوجك ثلاث ليال فقط لأطلقك- ص44".
ثمة وظيفة واحدة لها هي "الجنس"، وهي مهيأة دائماً للقيام بهذا الفعل بما تملكه من عهر مادي وفكري "زوجة رجل المطافئ- زوجة الشرطي" "زوجة الشرطي مثلاً لها ثلاثة أطفال وتسمح للبقال أن يعتصر نهديها ويندفع في ممارسة الجنس معها، زوجة رجل المطافئ: كانت تخونه مع سالم الذي لم يتركها إلا وقد مصمص العظام".(1/36)
"المعلمة ليلى مطلقة، وخائنة" نانسي تهوى الشيوعية لأنها تيسر لها فقط حرية الجنس والبحث عن اللذة مطلقاً"... ومركزية دوائر هذه السلوكات تكون في تكرار حوادث الملاحقات الجنسية في الرواية مكشوفة أو غير مكشوفة، محققة رؤية ببعد واحد "رؤية بو مهدي"، وأمثاله الذين يغتالون العالم بأفكار مسمومة ولا يتلمسون إلا السقوط المتدحرج نحو النهاية للإنسانية.
** النص السحري...
وتوظيف العجز في دلالة تعبيرية:
- بنية النص....
ونماذجها الإنسانية:
ماهو المستوى التعبيري الذي يجيء بكيفية يمكن أن توظف هذه المواقف وأفكارها- ، في دلالة تعبيرية؟...(1/37)
بمعنى صياغة فنية لمضمون ضياعي يفرزه واقع تمتلكه رواية حرة في طرحه ورؤيته حتى تنير بمفهومها الخاص والمحدق بقوة - واقعاً آخر، حتى يكون خواء المقولات والنظرة الطافية التي أجراها أو حدق بها الكاتب من خلال أبطاله الهامشيين... مجالاً للنقد والانتقاد وتقليب النظر والفحص لأن سلوك الشمعيين في تركيباتهم النفسية والفلسفية - له أبعاده المختلفة في فضح هذا الواقع وتفكيكه- أقول ماهي هذه الكيفية؟... فيها طموح مقصود، ليس فيها الخطوط الصارمة أو القفز أو الاغتصاب الشكلاني مرة واحدة في عمل واحد، ليست تقليدية، إنها شيء مما يمكن أن أسميه بـ "النص السحري" فأنت تقرأ الفصل منعزلاً فتجد فيه - حديثاً- ، حواراً ذاتياً أو مع آخر.... وصف إنسان في حركة الحياة، رصداً نفسياً مهلوساً، إخفاقاً، عجزاً، حساً عدمياً مخيفاً، فوراناً جنسياً- يسحرك غالباً ببساطته وتدفقه وإيحاءاته القوية التي تغالب شغفك العقلي في كشف شيء ما تحت - الحوادث- تحت مايمكن أن نتوقعه من - حقيقة قشرية تصطدم مشاعرنا وأفكارنا فنراها كذلك في - بداية الأمر ثم يحولها التعبير من خلال الإدراك الحسي للشخوص إلى مسوغات جوهرية تركبها لديك من خلال إشارات وعلامات يبثها السطح إلى العمق. ومستويات التعبير هنا لا تأتي من خلال كل شخص بنفسه بل من خلال رؤية كل واحد بالآخر حسب درجة العلاقة بينهما.
هو لا يريد أن يستغل شيئاً من أجل شيء محدد مقصود، لا يرغب في تنسيق بنيات تركيبة معينة في عمله الروائي، شيء ما يثيره في تلك الأمور التي تجدها في النص عنده فيجعله يسيل، وتتحرك معه بلذة محببة حتى عندما يتكرر كل شيء في دوائر لا يربطها في علاقة جدلية إلا جولات الشخوص وهي تتحرك إلى مصائر مختلفة تتساقط في الإخفاق والعبث وعدم الجدوى. وكأن الروائي هنا لدى الكاتب "محمد زفزاف" هو مجموعة نصوص يمكن أن تتكامل وأن يقف كل نص وحده في آن واحد.(1/38)
وهكذا تتشكل: البنية الروائية التي لابد أن تقوم على نظام ما حتى لو كان - فوضوياً- ! لذلك فالرواية لا تطمح إلى نفس روائي ملحمي في تلك العلاقة بين الشكل والمضمون. بل تريدأن تجعل الشكل معبراً عن المضمون، ويمثل جدله المتكون فيه وبه. وفي انفلاته عن العالم وانغماره في الموت والجنون طبيعة الحياة الصاعدة، وفي استمراره واندراجه في نسق الذين يعيشون الحياة في الوقت ذاته. وعلى هذا فالنص الروائي فيه هذا الاندحار الذاتي والتخلف عن مسيرة الآخرين حين يقوم وحده في جانب من بنيته، وفيه هذا الاندماج الإنساني الذي تفرضه ظروف التعايش على أية صورة في الجانب الآخر من بنيته حين يتكامل النص الروائي بعضه مع بعض في وحدات متضامة.
** اللغة والإيقاع والسرد:
فأما اللغة فترى بسيطة تجلو الوجود، بإحساسه النهم الصارخ بعدميته. والبساطة هنا ليست إسفافاً بل هي طاقة مبدعة بتوهجها المنظور وغير المنظور. فمواجهته اللغة لا تكون "فرقعة"، دون صدىما، بل تكون شوقاً جامحاً في فهم براءتها الأولى لحظة تسقط من الذاكرة المحمومة مما يصبغها في مواضع بالشعر، والبلاغة الخاصة بالنص الروائي، تستبيك بجسدها الذي تشعر بنبضه قوياً في حسك، وبروح خاصة تسري في السياق اللغوي يوفر لنا قدرات متابعته وأسره قبل أن نبدأ بمحاسبة النفس على استهلاكه لنا دون وعي أولي سرعان ما نعود به لمعاودة قراءتنا بالإضافة إلى أن التزاوج المهم بين ضمير الغائب الذي قص به الرواية، وضمير المخاطب - كان يثري التعبير ويلون ظلاله ويخصب الخطاب الروائي، ويبدد بعضاً من - الرتوب- .(1/39)
ثم هناك هذا - الإيقاع الطلق- المقتحم واللا مبالي الذي حمل القارئ منذ البداية على إمكانية توقع قول أي شيء مخجل- أو ممتلئ بالنزوات الفردية- على لسان جميع الشخوص التي يصورها "زفزاف"، خارجة عن أية مسؤولية أو أي تفكير لا يحقق لذاتها الذاتية الحسيّة ورغائبها الدفينة، في مناخ سيسولوجي معطى له مسوغاته الفنية وأهدافه الفنية، وكانت ملاحظاته المعترضة في السرد، أو تلك التي تكثف في عبارة حالة أو وضعاً أو شوطاً تاريخياً- منبهة، وموفقة في ما تبلغه من دلالات مساندة.
أخيراً، يمكن أن نرد كثيراً من العناصر الأساسية: "التصورات" في هذه الرواية، وما ترغب في إبراز "مدلوله" إذا كانت ترغب في بعض ذلك حقاً، وما طبع "التفسيرات" وتمجيدها - على الخصوص- إلى ما يمكن أن ندرجه تحت كلمة "الحب" الذي برز في عطفه على تجربة الحياة لدى الشخوص وفي شجبها في الوقت نفسه وهو يراها تغتال نفسها أو تسعى إلى ذلك دون رحمة وكأن إبراز هذا التطرف في الانفجار الحسي والنفسي الذي يشوه الحياة بدلاً من أن يزينها ويؤدي إلى تعذيب الذات وجلدها يدفعنا مع الكاتب إلى الإنقاذ واللهفة على مصير الفناء المحتوم.
أخيراً، أبرزت رواية :"أرصفة وجدران"، تلك العلاقة التي يمكن أن تكون في دراما الذات والعالم، وجدليتهما الحسية حين يبادر الحس إلى رؤية العالم عملياً ثم يتراجع بالحس نفسه عنه ويهرب حين يلمس العفونة واللا معنى وراء كل شيء. يخيل إليَّ أن هذا العالم إن كان يعني شيئاً هو يعني لاشيء - كلود سيمون- حاولت الرواية أن تتناول الأشياء كما هي، وأن تعبر عنها في صدورها الظاهر من قبل الأشخاص دون تغطيتها أو مجانية التصريح فيما يظهر فيها من تحدٍّ، بل تنقل مايقع عليه النظر مباشرة. ثم يترك للقارئ أن يستلهم ماوراء النظر المباشر أو يشارك الكاتب ببعض تصوراته الممكنة.(1/40)
من المفيد الإشارة إلى أن "زفزاف" قد تأثر نوعاً ما بتجربة (مدرسة النظر) في فرنسا في كتابة روايته حيث ثقافته الفرنسية تشكل حيزاً مهماً في تكوينه الثقافي، ولعل هذا التأثر لم يكن نيته، فقد كان له دور فعَّال في خصوصية التجربة وفي طموحها الذاتي والعربي.
محمد زفزاف في روايته: "أرصفة وجدران"، أخرج العوالم الوحشية من ذوات أبطاله إلى الخارج حتى لا تبقى فيها، وحتى نتصدى لها ونحن نصنع الحياة.
ولا تتبدد بالسقوط والموت والضياع ورخاصة الحياة التي تظل - ثمينة- بنا على أي وجه كانت.
***
... ... واسيني الأعرج
الشاهد غير الأخير، في رواية
"ضمير الغائب
الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر"(1)
لـ "واسيني الأعرج"
دعوة إلى إعادة البناء - البيريسترويكا- العربي- رحلة الكشف عن الحقيقة في معطيات حياتنا: تمزيق الأغطية، أصوات الإدانة، والحلم المرتقب قبل الكسوف الأبدي.
تسنى لي أن أقرأ رواية بعنوان: "ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر/" للكاتب الجزائري: "واسيني الأعرج" قبل النشر وبعده.
__________
(1) واسيني الأعرج: "رواية: ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال البحر"، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، ط1، 1990/م.(1/41)
وهي تنطوي علىعمق فني ودلالي يستحق الوقوف عنده. إنها تخلق تلك الحالة الأخاذة التي تستحوذ عليك خلال قراءة أعمال أدبية لها مغزاها. وتملك مصداقيتها في الواقع الذي نبحث عنه، وتخترق برؤيتها شيئاً من الغش والسماكة والغباشات التي تتوارى خلفه، أو تحاول قوة معينة أن تموهه أو تغير ألوانه. وهي تمثل نوعاً من أدب إعادة البناء (البيريسترويكا) العربي في جزء من أقطار العروبة. هنا، دعوة إلى قراءةجديدة لأوراق المستتب من الأفكار والأحوال والأفعال والأشخاص، تنضوي تحت راية ضرورة رحلة الكشف عن الحقيقة في معطيات حياتنا وإشكاليتها، وتبديد الأوهام، وتمزيق الأغطية، مهما كانت النتائج قاسية. الجو كابوسي أحياناً يعادل الواقع المعيش... أصوات الإدانة، والإنذار، والمحاسبية متداخلة بإشفاق مع أصوات الحب، واللهفة على المصير، واستثارة حب يطهر ويوقف ماتراه - خطأ فادحاً- تؤدي مفضياته إلى حلول الدمار، والكسوف الأبدي. الرواية. بهذا المنحنى، قامت ببعض أدوار الإبداع في النبوءة والتأمل.
** شخوص الرواية:
بطل الرواية صحفي يرغب في أن يقوم بتحقيق حول ما يراه ملابسات موت والده:"المهدي" إبان الثورة الجزائرية، لكن مدير الجريدة: "بلقاسم" بتأثير من نسق مرعب معين في المدينة- الواقع يرفض ذلك ضمناً ويؤجله في الظاهر وهو يخفي توعداً يثنيه عن تحقيقه وإلا فسوف يواجه التهميش أو العزل ثم الطرد...
كان أصدقاء الصحفي:"الحسين بن شهيد" يجدون شبهاً بين عذابه، وعذاب الحسين بن علي(رضي الله عنه)، لكنه رفض ذلك، لأنه يرى نفسه ثمرة القرن العشرين، ولديه قدرة أن يفعل شيئاً من أجل المدينة التي غطتها الأعشاب الضارة، ولن يستسلم لقوى الظلام التي تود تغييبه، ثمة من له مصلحة في مقتل والده في ظروف غامضة، وكأن أباه هو أبو معاني الثورة النبيلة التي طُمرت ولم تُترك لها فرصة كي تحصد ما ضحت من أجله؟(1/42)
والأب المغدور أيضاً رمز الشهداء - حسب الرواية- الذين أكلتهم الثورة على غير وجه حق، والذين مع رفاقهم ضاعت عظامهم في الغابات دون أن يتحقق ماكانوا يحلمون به وقاتلوا قتالاً معجزاً من أجله.
من أجل ذلك، يصر الحسين على نبش سيرة والده مع السير المشابهة القديمة، وتزيد المعاناة عمقاً، حين يرد تصوير لـ - شارع- أطلق عليه اسم المهدي بن محمد تكريماً مصطنعاً له، وإبعاداً للشبهة، حيث يغدو صورة مركزة لأوضاع الحياة ومثالبها: شارع تتوالد فيه العصافير المنكسرة واللون الداكن ويتكاثر فيه تجار كل شيء...، باعة ومشترون... إنه دلالة على كل ما يفقد المدينة عرضها، ويذكر بانهيار آمال شهداء الثورة في مدينتهم- المرتقبة. وتستخدم الرواية شخصية:"حمو" ليأخذ دوراً أشبه بترديدات الجوقة والتعليق المتكرر على مجريات ومواقف وأحداث يعززها السياق الروائي فتعمل على اللازمة المفجعة التي تشحن المتلقي بمزيد من القلق والألم والتفكير في ما ورائية الأمور وبالتالي تكسب عطفه. إن "حمو" الذي يصرخ بلا زمته: في الشوارع والأزقة الضيقة قائلاً:"خسارة الدم اللي ضاع. خسارة الدم اللي ضاع"، وعي سابق على كشف الرواية المستمر، يعكس الهموم لحظة تأمل علىحافة الغيبوبة، تدفع بإيقاعها الجنائزي إلى الصحو، ويدخل لحن اللازمة في إحساس بالوحدة والبكاء والحنين إلى شيء مخلص يلح على خاطر حسين الصحفي... إحساس كأنه تفاصيل الوضع الذي يسبق الجنون... انتابته أحلام اليقظة، أحياناً كان يرى أباه المهدي مازال حياً، تخرج صورته المعلقة من الإطارـ، يجلس إليه في لهفة، يخاطبه، يحكي له هواجسه، ويسأله مكملات الملف الذي أصر على فتحه حول مقتله.(1/43)
وعند الحديث عن الملف، وتقليب أوراقه ترد أمور أخرىتتعلق بالامتهان، وتأثير الأجنبي، والاستلاب أمام قشور حضارية، وعن الحالة التعسة لأسر الشهداء، ووضع المدينة المستفزة، وما يجري في الجريدة، جريدة مدجنة عبر أرشيفها، ومديرها، ومساعد مديرها...الخ.
وخلال التداعيات عن حياة الطفولة، تبرز بعض الشخصيات التي لحسين علاقة بها مثل عشيقته:"ساسا فندا"، وعمه: "البوحفصي"، وأمه:"عيشة المنورة". تكشف الإشارات خلال البحث عن قصة موت المهدي التي تغدو في الرواية رمزاً للقبض على الحقيقة، وعلى طبيعة المآل الذي وصل إليه الواقع، حيث استبعاده لا يعنيه شخصياً، بل يعني فكرة أو جماعة تؤمن بفكرة ما لا تريد للوطن أن يسير على أشواك أخطائه، ولا تريد أن يدخل التجربة المرة، أن توفر عليه البداية غير السليمة، وألم اليقظة أمام الشاهدين غير الغائبين.
ومن خلال الحس الفجائعي، وما رمز إليه بإنذار الكسوف القادم الذي قد يغمر المدينة في أية لحظة، تكشف بعض الإشارات عن أخبار تناقلتها بعض الجرائد العربية عن سقوط والده في ظروف غامضة، فيلجأ في حواراته المستحضرة إلى كشف المزيد من عمق الحالة الغامضة وملابسات الشهادة والقوة الشعبية المشاركة في حرب الثورة الجزائرية فتتبدى رغبة الثورة المركزية آنذاك في منع هذه القوة التي كان لها صفة خاصة غير مرضية.
تتوضح بعض جوانب الحادثة: يجري إيقاع دنيء بالقائد المهدي عبر عملية حربية مدبرة ضد المحتل، كانت النية، بسبب دراسة ظروف الهجوم، أن يقتل فيها المهدي، لكن الأخير ينجو مع قلة من رفاقه في حين يستشهد الكثيرون، فيتهم بقتل جنوده دون مسوغ وبرفض الأوامر ثم يصدر الأمر بذبحه في مكان ما رطب بين الغابات مع امرأة متهمة على علاقة معه بعد أن دفع إلى حفر قبريهما بنفسه. وبذلك ينتهي الفصل الأول.
** ذاكرة المدينة
وخيانة أمانة القيم:(1/44)
أما الفصل الثاني فمعنون بـ "بداية الرحلة" وفيه أجزاء (الوجوه الغامضة.....، عودة إلى الحكايات القديمة، تفاصيل يومية، أسوار المستشفى التجميلي)، وتظهر فيه متابعة الصحفي الحثيثة وهو يحمل آلامه وأسراره وخلال ذلك يلتقي ما أسمته الرواية: - الوجوه الغامضة من سلالة بني كلبون- منهم (بعض المسؤولين في البلديات) ومرة وهو يسير في أحد شوارع المدينة، يقبض عليه مع سكير ثم يطلق سراحه بتهمة أخلاقية مدبرة بدلاً من تهمة سياسية تود الأنساق المرعبة إلحاقها به، وبعد مشاعر تعاطف كاذبة من قبل رئيس المخفر،ومن خلال تفاصيل يومية تظهر معاناة "الحسين" من معوقات كثيرة توضع في طريقه حتى لا يصل إلى الحقيقة، وتتعمق البنية الدرامية حين يتعثر فتح ملف التحقيق إلى نهايته، وحين يظهر الصراع بين التخلي عما سعى إليه فيكسب الاستقرار ويخسر نفسه في مثل حقيقة خسارة دم الشهداء الضائع الذي لم يُنصف كما يرى أو يبقى مستمراً إلى النهاية ويدفع ثمناً لذلك روحه دون أن يكشف مايجب كشفه وعبر تداعيات ونجوى ذاتية تبدو صورة:"مريم" حبيبته رمز النقاء والإخلاص والتضحية والأمل المشنوق، تلك التي اغتالتها المدينة والتي لم يحب غيرها حباً حقيقياً خالصاً، إلى الحد الذي لم تستطع معه معشوقته: "ساسا فندا" أن تعوضه عنها، لأن الأخيرة لا تذكره إلا بجدران المدينة المتهدمة. ويتم الترميز بالكسوف من جديد الذي سيحل بالمدينة، ويكون لقاء بينه و"ساسا فندا"، التي تصر على تسمية نفسها بـ "شهرزاد"، ويجري حوار متكرر بينهما تحاول فيه أن تثنيه عن مشروعه وأن تعيش معه مثل خلق الله، ثم يتدبر أمر مرور (المستشفى التجميلي)، فيرى فيها العجب: خلقاً ذوي عيون زرق وفسفورية... آلات تنصت وكشف عن النفس، عيون ملاحقة دقيقة، أجهزة غريبة من أجل خنق الروح والجسد... هنا تتبدل الأنوف، والأمخاخ، والآذان، أما الذين لا يصلح فيهم شيء من الفاسدين فيجري عجنهم وتحويلهم إلى بالوعة المدينة.(1/45)
وتم - الاستبدال- أحياناً بين أنوف الناس وأنوف المدينة، هؤلاء الناس الذين يخرجون - بعد عمليات التجميل المناسبة!- إلى الشوارع تلتهمهم أزقة المدينة ليمارسوا أعمالهم تحت هيمنة مطلقة من قوى غاشمة، وأنساق متحكمة مستفيدة ذوي ارتباطات مشبوهة ونوايا مرعبة.
لعبة المتابعة ومطاردة "الحسين" تتكشف عن ظهور عنصر جديد ومفاجئ، وهو: عشيقته الخائنة التي تنفذ أوامر العسس والجهات المعنية، فخسرت نفسها، تمَّ رصد كل تحركاته، وكانت وراء كشف أوراقه، ونواياه، والإيقاع به في النهاية.
*** ظلام المحاكمة والشاهدون النجوم:
في الفصل الثالث أقسام هي: (انهيار المدينة- أقبية المدينة- آخر الحوارات- المحاكمة التي سبقت الكسوف).... ماذا حل "بالحسين"؟ لم تستطع الأقبية أن تحرق ذاكرة الحسين، ولا الذعر أن يكسر العظام التي بقيت صحيحة تضم الحقيقة، الثورة على زمن متعجرف، ولا جلسات التعذيب أن تنسيه وعده للمهدي في كشف المشبوهين والأسرار التي تدور حولهم.
الحسين مرَّ بلحظات أقبل فيها على الانتحار، لكنه تراجع بإرادة الصمود والتحدي التي يقويها دائماً حواره المستحضر مع المهدي الشهيد صاحب الرأي فيما جرى ويجري، حيث تتعمق النظرة بقوة وحرارة إلى جوهر الحياة السائدة في المدينة التي تزيف شهداءها وتعيش على حسابهم وتنطق ضد رغباتهم وسط ظلمات تتعب القلب والذاكرة. ثم تجري محاكمة غريبة من نوعها تذكرنا في بعض جوانبها بمحاكمة "كافكا"، من حيث تعدد مستويات الإحالة، والجو الكابوسي، وما ينوس بين الحقيقة والخيال الذي يمتد بدلالاته فيها. حسين يقف أمام المحكمة عارياً، سمح له بجلب ثيابه بعد أن خبأ في داخلها إطار صورة أبيه الشهيد.(1/46)
ويتبين القارئ أن رئيس المحكمة، وطاقم المحكمة، والجمهور الحضور والمحامي كلهم صنيعة المستشفى التجميلي وبإمرة الدليل ذي العيون الزرقاء الفوسفورية الذي لقيه خلال زيارته لها. وعبر حركات بهلوانية ذات دلالة، وأفعال غرائبية تستبطن سخرية الحالة وعبثها وتومئ إلى عدم جدوى تصنيعها تتبدى بعض التجليات التي تتركز في زيف الواقع وغشه... القاضي يأكل البصل لفتح شهية الكلام، والمحامي يغطس في أكياس التبن ويلتهمه... ويتصدى المهدي للدفاع عن الشهداء ثم يتحول إلى كتلة نار متفجرة حارقة تخرج من النوافذ، وتنتهي المحاكمة إلى نتيجة مفادها ضرورة استئصال كل الأشياء الزائدة من الشاهد على الحقيقة: الحسين، ويكلف الدليل بأخذ المتهم الصحفي الذي لم يرعو إلى المستشفى التجميلي، لقد تحول المهدي إلى "نجمة" في السماء، أما الحسين الذي أرادته الأنساق المخفية أن يكون الشاهد الأخير على اغتيال الحياة والواقع فقد اختار أن ينضم إلى فريق النجوم الشاهدين الذين ليس لهم آخر، يضيئون ويشهدون، على الرغم من رغبة مدمرة في إخفائه واختفائه.
***
** رواية من أجل الذات والأمة معاً:(1/47)
على الرغم من أن الرواية تنطلق من دافع ذاتي يبحث عن توضيح شخصي، إلا أن هذا المنطلق ماهو إلا شرارة لكشف جماعي، إنساني. تريد أن تحفر في بنية الواقع في العمق، وتقلب الأوراق، وتمنع حيفاً وقع، أو يقع هنا أو هناك، أو قد يقع. وأن تنتصر لكل القوى المجاهدة من أجل الحق وجمال الحياة. وترغب الرواية أن تنسب التمجيد إلى من يستحقه من فئات الثورة دون حجب أو مصادرة لآخر، وأن تقبض على اليد التي اغتالت الشهادة وزيفت بيانات الواقع، واستمرت تمتد في أشكال عديدة من التشويه والتعويض وزرع الحزن والبؤس والفقر في شجرة السنين التي انتظرت فرجاً كبيراً ثمناً للدم الذي قدمه الناس... فقراء دَرَسْنا فقراء عشقنا فقراء كبرنا... حاولت الرواية أن تكون شيئاً من أصوات المسحوقين والفقراء والمطاردين والمتبعين هؤلاء الذين كسبوا النصر ضد المحتل، والذين ضاع بعضهم في القرى المهملة أو في شوارع المدينة المعطلة عن الحياة الكريمة، والتي ينتهك عرضها كل يوم بصور عديدة غير إنسانية دون أن يستطيع النسق الجدير بهذه الحياة أن يفعل شيئاً ضد أنساق مخفية تطغى على كل شيء، وتكشف كل صوت.
لذلك فهي دعوة إلى حرية الرأي، وحفظ أمانة القيم التي ضحى من أجلها السلف، وتدين كل القوى الهامشية المستفيدة الرغيدة المحكومة بأطماعها وأطماع - الخارج- الأكثر منها رعباً لأنه يمتلك أدواته وقوته الغاشية، وتبرز في هذا السياق مقولة مفادها: لو استمرت "المدينة" العربية في معاني الاستلاب الحضاري، والإنساني، والاجتماعي، والطبقي، فإن الواقعة قائمة لا محالة. وقد حافظت الرواية على هذا التوازن بين قتامة الأفكار ودلالات الأسى ورؤية مفعمة بحب الحياة واستنكار الظلم وإمكانية التغيير، مشدودة بقوة الشهادة التي لا يبخل بها المرء، حين يجد كل شيء باطلاً ينبني على باطل. إن ضياع صوت الحقيقة، يعني غيابها وعدم كشفها.(1/48)
والتقصير في السعي إليها، مهما كانت السبل والمعترضات، ضياع لإرادة الإنسان، وفناء آماله وأحلامه في التغيير والتجديد الثوري، ومن هنا يقوى صوت اللهفة في هذه الرواية على المصير الإنساني، وخصوصية ثقافتنا العربية وطموحاتها التي آن لها أن تتحقق.
على هذا انطوت بعض تجليات الرواية على هجوم حاد على المستوردات الأجنبية الفاقعة التي تخدم مصالح الأجنبي حين استعملناها ضدنا مثل التلفزيون، والأفلام، والمسلسلات، والتقنيات التي تكمم الأفواه، وتدجن، وتلقن تلقيناً يخدم الهيمنة الفكرية الأجنبية، وتعتم على النسق الخاص الطالع الذي لم يلوث، والذي يمكن أن تتمخض عنه الثورة وهي تبحث عن طريقة خلاصها الأكيد.
إن بعض ما طرحته الرواية من توق إلى التغيير والتطهير قد تحقق فعلاً في الواقع، ويكفي الرواية أنها صدقت واقعها، وأنها تبقى بتجلياتها تشارك في خلق مزيد من بذور هذا السعي الحثيث الذي لا يتراجع من أجل إنسان المدينة العربي الذي يبدو أنه اشتد عوده بما مرَّ عليه من أحداث وأزمات وما ناله من تقصير وضغط على مستويات عديدة، وصار قادراً على الفعل من أجل الذات والأمة معاً.
سعت الرواية منذ البداية، وفي جانب منها، أن تهتم بـ "معنى" حياة الفرد في المدينة، وهو ما اهتمت به الرواية الفرنسية على يد سارتر. وعلى الرغم من أن الرواية تتحدث عن همٍّ إقليمي، إلا أنها ملغومة بالدلالة الفسيحة، العميقة على المدينة العربية، وكأنها مأساة تتكرر هنا، أو هناك على نحو ما.
** البناء الدرامي:(1/49)
أكثر ما أفلحت فيه الرواية:"ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر"، هو البناء الدرامي الذي قام على المأزق الإنساني في صراعه ضد قوى مخفية، وفي بحثه عن الحقيقة المغطاة، وفي معنى وجوده في المدينة/ الواقع، وفي مجهودات التنقيب في الأماكن المغلقة في النفس الإنسانية، وفي التقاط العلاقة بين مايجري في شوارعنا وبيوتنا ونتعسف به إنساننا ويد الأجنبي التي تبدو أنها محافظة على طولها ووحشية أظفارها وما تتدبره من حلول لما يُعد مشكلات بالنسبة إلى من هم في موقع التحكم بالمصائر والأحوال. كما تتدفق بالموقف العذابي الدرامي في هذا الإصرار على الكفاح من أجل الحياة الكريمة، وإنصاف الناس، وكشف الأوضاع، مهما كان الثمن غالياً، لذلك نحا البناء الدرامي منحىً آلياً جعل البطل - صائراً- ، وبقي يتنامى في اتجاه رئيس ضد معوقات التحقيق في أبعاد الذات والواقع والأمة وهي تتناسج في أبعاد مقتل المهدي وما يكمن وراءه من دوافع وما يرتسم حوله من دوائر يتيح لها البناء الدرامي أن تكبر وتترك الفرصة للمتلقي في أن يقوم بعملية الربط والاتصال، بأمور تجربته ورؤيته في مايطرح ويُكتشف.
والموقف الدرامي كان يشتد ويشحن بدفقات جديدة حين معاناة الذات تتخارج مع حقائق الشخوص، التي يعرفها أو يتعرفها، وحين تصطدم أحياناً مع أفكار المهدي إذ يستحضره من إطار صورته، أو من خلال إحساس النفس باليأس من المتابعة والوصول إلى حدود خفية من لا وعيه والتحرك من جديد في الاتجاه الذي جند نفسه من أجله.
** شكل الرواية:(1/50)
شكل الرواية مرن الحركة يقبل أن يستخدم طرائق فنية عدة في السياق الروائي، وقد أخذ تيار الوعي حيزاً واسعاً، وأعان على استدعاء الذكريات والنجوى الذاتية وتوظيف الحكايات وتفجر اللاوعي بأحداث وأزمات تتحرك في أمكنة عدة أفقياً وعمقاً وطرح أشياء غامضة تقوّي الصراع وتمدّ من مغزاه، لكن كل ذلك لم يؤد، على الغالب، إلى ضياع خيط الحبكة الذي ظلَّ مشدوداً.
والترجمة الذاتية في عرض الحبكة ساعد على توظيف الاعترافات أحياناً توظيفاً مناسباً سواء حين تصدر من النفس التي تغدو في كثير من الأحايين مايعتلج في نفوس القراء أنفسهم أو تنعكس من المهدي على النفس فتأخذ شكل ردود أفعال وتقدم اعترافات إضافية تزيد من تنامي الصراع ضد كل ماهو مناقض.
تميزت الرواية أيضاً باستدعاءات الخيال وموثبات الغرابة كما في المحكمة التي لعب فيها الترميز دوراً خطيراً، وشحن بعض مومئاتها بكثافة الدلالات. وأدى إلى امتزاج الاتجاه الواقعي بالاتجاه الرمزي امتزاجاً لا يخلو من حس صوفي بالحياة، والحب، والأمل فيهما، كما ترك الفرصة للعناية بالموقف، والشخصية من زوايا عدة، وحفر مثارات التساؤل، وأخضع الرواية إلى منطقها الخاص.
لكن ثمة مبالغات أحياناً في عرض الغريب، وطبيعة الشكل الفضفاض في الرواية ومرونة الحركة فيه كما أسلفت ساعد في أحيان قليلة على التراكم والإلحاح والتكرار في الاتجاهين الواقعي والرمزي، مما يؤدي إلى سياحات إنشائية، ولغة مستنسخة. وما عدا ذلك فقد سار كل شيء مثيراً، مبدعاً، وامتلكت اللغة طاقة موحية أبرزت مومئات الصراع، وخاضت بدلالاتها مساحات إيمائية زمانية ومكانية شاملة يمكن إسقاطها على كثير من مساحات عربية أخرى.
***(1/51)
إن مرور التجربة الاجتماعية والتاريخية للأمة عبر التجربة الذاتية، هو ما تقوم به الفنون وحدها، لذلك بقدرماهي لا تستهدف المستوى الخارجي لتجربة الاجتماع والتاريخ، فإنهاتعبر عنهما أعمق تعبير وبأسلوب مؤثر له مغزاه لا يقدر عليه إلا الإبداع الذي يستطيع وحده، حصر عالم رؤيته المتشابك التفسير والخلق في كتاب.
من هنا يظهر بعض مكامن الإبداع في النشاط الإنساني، وأداة لا تضاهى في التغيير. إن الأمثلة، بين أيدينا، على ذلك، لا تحصى.
***
رواية: "ضمير الغائب/ الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر"- "لواسيني الأعرج"، وسيلة من وسائل التعبير الجديد برؤية نافذة، التي تبحث بجرأة، وصدق، ومسؤولية عن الهوية العربية، والمصير العربي، تتحرك بثقة فوق تراكمات تشويه الحياة العربية، والإنسان العربي، تناجي التغيير، وتصنفه، تكشف الحجب عن الواقع المقموع، وترى الآتي جميلاً،لأن الحياة ترتفع بأبنائها الخلصاء دائماً.. فعليها شاهدون ولا يغيبون.
***
... ... ليلى عثمان
التقاليد الظالمة، وظلمة المرأة الظالمة،
والقهر، والقتل، والرغبات المحمومة،
والتحدي داخل مكان مغلق.
في رواية: "المرأة والقطة" لـ "ليلى عثمان"(1)
* مدخل:
__________
(1) ليلى عثمان: "رواية- المرأة والقطة- ": بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1- 1985م.(1/52)
تجسد رواية: (المرأة والقطة)، للكاتبة الكويتية: "ليلى عثمان"، صورة عذاب مرير، احتل معظم مساحتها (سالم) عندما كان طفلاً ثم زوجاً. وشاركه في لوينات معاناته أمه، والقطة:"دانة"، وزوجته:"حصة". وقد رسمت صورة هذا العذاب بالمخالب... وشرر العينين الأحمر... وبالحنجرة الغاضبة... والصعقات المفاجئة، وبنبضات طير ليلي خائف بسبب (عمته)، التي كانت تجد لذة في الضغط بقوة على ألوان الأسود والأحمر والأصفر في تلك الصورة، لا تدع فرجة، ولو ضيقة، من بياض، بل كانت تدمج بين هذا اللون أوذاك بريشة ساحرة شريرة، تتشكل بها مع ذيفان السم والحقد والضغينة والكراهية ألوان مرعبة تترك في النفس انطباعات مؤثرة عنيفة.
* ضوء على الفكرة والشخصيات:
فكرة الرواية تصدم مشاعرنا بماتحركه من أبعاد نفسية وجنسية، ومن جرأة في الطرح. إنها رصد حي لأسرة خليجية اندحر فيها رب الأسرة ضعيفاً، متخاذلاً أمام أخته عمة "سالم" التي أدارت مصائر أفراد الأسرة على هواها وتحت تأثير عقدتها النفسية إذ لم تتزوج والتي أورثتها عقدتها الجنسية إذ لم تحب أو تشارك رجلاً في الفراش، وبسبب سوء أخلاقها، ورغباتها المريضة في حب السيطرة، حتى لو وصلت إلى حد ارتكاب جريمة.
وهناك أم سالم المسالمة، المنسحبة، التي سمحت لظلم زوجها أن يطلقها دون ذنب منفذاً رغبة أخته التي لا تطيق أن ترى الحب والوفاق يستظل بهما بيت.
ثم الأب الذي يبدو لا حول له ولا قوة تنازعه شخصيتان: شخصية الإنسان لا يرضى بالذل والظلم لكن لا يستطيع شيئاً لنفسه ولغيره، وهي شخصية باهتة تظهر بعض كلمات التعاطف أو قلة الحيلة أو كلمات العذر بين يدي أخته... "ودافع أبي بتردد: - لماذا تكرهك؟- راجعي معاملتك الخشنة معها.ص18". و"هذا الصغير.. هل يتربى يتيماً بلا ذنب. ص20".(1/53)
وفي موقع التعاطف نقرأ:"وماذا في ذلك؟ أليست أمه ومن حقها أن تراه؟ص26". وفي مجال تهيبه من العمة التي اغتالت لديه بوادر عدم الرضى أقوال صريحة: "حاول أبي محاورتها... لكن صوت عمتي الشرس الرافض لكل خير علا على صوت أبي، فأخرسته... كان ضعفه أكبر منه. ص 27". هذا الضعف تلبس الشخصية الثانية التي احتوت الأولى وقبرت ملامحها وخنقت الإنسان المسؤول فيه، وليس لدينا الكثير أو مايكفي مسوغاً للصعق والوجل:" هي أكبر منه بسنوات كثيرة. ربته منذ توفي جدي وجدتي...ص27".
ثم نفاجأ في أطراف صراع الأسرة بين الخير والشر بشخصية: "دانة" القطة الجميلة المدللة..."الصديق والحبيب ص 16 "لسالم الصغير. وهي شخصية لا تقل أهمية وخطورة في صياغة الأحداث وتأليب مواجع الصراع وشحنه طوال الرواية عن بقية الشخصيات بل تأتي في الدرجة الثانية بعد سالم لأنها كانت تتبادل المواقع مع الشخصيات عند التذكر، وتترك ظلال مقتلها الشنيع في فتحة المرحاض من طرف العمة على نفس سالم، فنادراً ما ذكرت إلا مع "أمه" أو"حصة" ولا تذكران إلا معها على الغالب: "كان وجه دانة أول وجه أحبه بعد وجه أمي... صار مرتعاً لطفولتي... يا حصة اهربي لا تكوني جبانة كدانة..."، ص47.(1/54)
إن دانة تعني بعض أوجه الحرمان: "أبي الذي حرمني وجه أمي، وحرمني مدرستي، وحرمني دانة. ص102".، وتعني الطفولة المشوهة عندما تفقد عزيزاً رفيقاً:" عمتي التي أكلت لحم طفولتي فشوهت نفسي- ص102". كما تعني التفهم، والترفق بضعفه، والحنو، حين بادلها مع نفسه:"مسحت على جسدها مرات ومرات وهي تلعق نفسها، عيناها لم تفارقا عيني... فيهما شكر... وامتنان... فيهما نظرة حانية ترحم ضعفي كتلك النظرة التي أهديتها إلى أبي يوم جاءت أمي. ص32". وإن دانة كانت محركاً تفجيرياً وراء مشاعرإنسانية متنوعة لدى سالم وصاغت محور عقدته النفسية عندما لم يستطع أن يفض بكارة حصة. فمن هذه المشاعر الإنسانية: "كنت لا أجرؤ بعد دفن دانة حيّة بالمرحاض على الجلوس إليه. كنت أتصور أن دانة الميتة لن تستفيق إلا إذا شمت رائحة برازي كي تعاتبني عندما يسقط على وجهها الجميل، فتشردتُ في الحارات... وعلى أسطح البيوت المهجورة لأتخلص من فضلاتي..ص46".
وكذلك إضرابه عن الطعام:"لا أريد أن آكل.. لا أريد أن أدخل المرحاض.ص90". ومعاناته عذاب الفراق:"لقد عذبني فراقها.. لقد قتلتها عمتي.ص90". وإدانته للقتل، عملاً غير إنساني وغير مشروع يقف ضد الحياة والحب، أراد مقاومته بكل حرارة وتدفق إنساني وهو يحمي حصة منه في مرحلة المواجهة القاسية مع أبيه وعمته وإن لم يستطع منع يده القاسية ولغته التي لا ترحم: "نعم كنتُ أحميها... كنت لا أنام خشية أن تمتد يد أبي الذي هددني.. أو يد عمتي التي لا ترحم.. فتنام عيون حصة إلى الأبد...ص116". من يحب لا يقتل، ومثلما أحب دانة أحب حصة:
"حصة مهجتي... حبيبتي وحياتي.. فكيف أقتل حياتي.ص9". لا...لا... أنا لم أقتلها.. لم أقتل دانة.. فكيف أقتل حصة. ص132".(1/55)
أما الإحباط الجنسي عند سالم الذي أورثه العُنَّة فسببه "دانة" التي انشغل بمراقبتها ذات يوم وهي مستسلمة لهر يدخل فيها، ثم تجيء العمة فتمزق التحام الاثنين بعد أن: "سحبتني عمتي.. رفعتني عن الأرض وحدفتني.ص36- 37".....
"فصلتهما بعنف... شيء ما تطاير حتى وصل إلى وجهي الرابض فوق عنقي مشلولاً من الخوف... وفاحت رائحة العشق والتهبت نار في فؤادي... لقد أطفأت عمتي نار دانة قبل أن ينتهي الزيت! هل ياترى سيضيء مرة أخرى". إن الجملة الأخيرة تضي مستقبله الجنسي أيضاً، حيث قتلت فيه هذا الشيء الرائع مع ما قتلته، وبوحشيتها ابتلعت عنده متعة اللحظة، أخمدت شيئاً في داخله، كانت حصة زوجة توقظه آنات ثم يعود مطفأ كما أطفأت العمة نار دانه والهر عندما فصلتهما بعنف ووحشية. ثمة أيضاً أسباب أخرى لهذه العنة تنسج عجزه وتكسر قلعة تمثلها الضغوطات النفسية، والرغبات المكبوتة وفقدان الآمال في الأسرة، وصرخات العمة المتجبرة التي أوهنت أعصابه، أفقدته الثقة في نفسه، واستكثار السعادة على نفسه، قتلت فيه الفرح أو الرغبة، وتعطل الشوق إلى المرأة التي يبادلها مع دانة خوفاً على مصير مشابه، وكذلك خوفاً على الهر الذي كان يبادله مع نفسه في أحيان "تنتصب مشاعري بتوق لاحتضان جسد دانة أمامي... أنا الهر... الليل الصامت".(1/56)
"إن لحظة امتزاج دانة بالهر لا تزال تثير قشعريرة داخل أوصالي كلما تذكرتها.. كان شعوراً فيه مزيج من اللذة، والدهشة، والتساؤل... لكن لحظة الانفصال قتلت دهشتي... وانتفاضة حواسي، دوري يجيء الآن... سأكون أنا الهر... وحصة ستكون دانة ص64"، كما كان سالم يبادل الهر مع الرجال: لماذا أبحث عن هرة الجيران؟ ص90"، الخوف انسحب على كل ذكر يقترب من أنثى. والجلاد ينتظر أن يرى لحظة عناق بين اثنين يولد لهفةعلى المصير ورهبة عاتية من الموت وفقدان للثقة والأمان:" هل أرحب بالعطر؟... بالعروس التي تختارها عمتي؟ هل آمن إليها وهي التي أفقدتني كل ثقة بأنها تملك قلباً آدمياً؟... هل حقاً سَتُهديني عمتي حصة ثم لا تحاول أن تخلعها من أرضي كما خلعت من قبلها أمي.. وقطتي دانة؟... اعترتني لهفة لرائحة الأنثى... وريح خوف تهب تحجب الرائحة وتنذر بريح ساخنة... قد تجلدني... وتجلد الفتاة.... تماماً كما يجلدني هذا الليل الطويل.... ص61". في "سالم" شيء من دانة، وشيء من الهر، وبينهما لحظة الحياة التي تنغل فيها لحظة الموت، لأن الانفصال بينهما مستحيل، والعمة تنتظر اتصالهما حتى تقطع الشرايين بينهما:"لوكانت تعرف كم تكره عمتي عناق الأجساد الدافئة حباً واشتهاءً، لوكانت تعرف كل هذا.. هل كانت تستسلم للهر الزائر الذي بحث عن جسدها المتفتح الجائع.ص46". إن تمازج اللحظتين قطع لحظة الحب عند سالم، وتضادَّت عنده الاندفاعة مع العجز، لنقرأ تصوير مثل هذا التمازج:"حصة أمامي قلعة بريئة محصنّة... انتظرت أن يأتي فارسها... وأنا الفارس... وهذه القلعة الشهية ملكي... تثير كل الشوق الرابض... قفزت إلى السور.. صورة دانة تقفز... تخطيت المسافات والفواصل برفق.. دانة كانت تقطع المسافات.. هرعت إلى الباب الموصد لأعبر الدهليز... وحصة مستسلمة تماماً كاستسلام دانة للهر... وأنا هرُّ حصة.. يدفعني الشوق للحظة التمازج تلك التي جمعت الهر بدانة.. أبدأ...(1/57)
الرعشة اللذيذة تخترق المفاصل كلها.. وحين اقتربت من باب القلعة... صرخ من حولي شيء!.. أحسستُ يداً قوية تشدني.. تفصلني عن حصة.. تتعطل أطرافي... أصاب بشلل.ص70".
** سالم:
ونصل بعد ذلك إلى شخصية سالم التي تحدثنا عن كثير من جوانبها خلال الحديث عن بقية الشخصيات. وهذا شيء طبيعي لأن في سالم آثارَهَا جميعاً. إنه ضعيف، مريض النفس، عانى من القهر والرعب وفقدان الحماية والحب والحنان والظلم والضرب:"العصا كانت تهتز في وجهي وصوت عمتي يتوعد:- ياويلك من هذه العصا... ستأكل من جسدك كما أكلت جسد قطتك النجسة.ص30". كانت الأقوى، امتدت مخالبها تشدُّ على أذني بلا رحمة.. تسحبني على غرفتي وهناك... انهالت على جسدي النحيل بكفها العريض حتى خمدت مقاومتي... ص 37". ويبلغ القسر مداه حين لا يكفي العمة الضرب، بل لم تغادر الصغير"، حتى تأكدت من أنني قد ابتلعت دموعي ص37". فلا تترك له فرصة التنفيس عن أوجاعه التي ألمت به. إن عمر طفولة سالم مليء بالتهديد الموجه إليه "ياويلك مني. هل فهمت... ص 30". وإلى غيره ممن أحبهم، إلى أمه:"اذهبي إلى زوجك الآخر أيتها المزواجة، ولو جئت ثانية فلن تكون نهايتك إلا على يدي! ورفعت مخالبها في وجه أمي ص25". وامتلأ بالحرمان حتى من أبيه الذي يعيش معه في بيت واحد: "كان موجوداً.. لكن حنانه غائب... لم يكن قادراً على أن يعوضني شيئاً... كان كلما اقترب ليعانقني أو يداعبني تصرخ فيه عمتي: لا تفسد الولد بهذا الدلال. ص23". ولم يكن بمقدور سالم أن ينفرد بأبيه:"هل يجب أن آخذ رأيها قبل مجالسة أبي.ص65". ولا أن يتعزّى بلقاء أمه المطلقة:"كنتُ محروماً حتى من زيارة أمي.ص23".
وعانى سالم من الانفراد والإبعاد ومن الملاحقة حتى غدت عمته كابوساً يجثم على صدره صغيراً أو كبيراً:"وجه عمتي يلاحقني هنا، في السجن. وفي المستشفى. هذه الماردة! كيف قتلت قطتي؟ ثم قتلت حصة؟ص29".(1/58)
كما أن هزات نفسية تصل إلى درجة الشدة النفسية تركت بصماتها على تكوينه النفسي بسبب المناظر المرعبة التي ثقبت حواسه وداخله لأنها ضد عواطفه أو مشاعره أو رغباته أو ما ينحصر في اهتماماته أو يتعلق بمن يأنس به أو يحبه أو تربطه به الحياة.
هاهي ذي العمة تكره فسحة دانة اليومية..."تبرّح جسدها تبريحاً بلا أدنى رحمة.. حتى تكسرت ضلوعها.. وسال لعابها مضرجاً بالدم... واعتلى ثغرها المجروح زبد ورديّ. تنهدت عمتي وهي ترى القطة ذائبة مفروشة على الأرض... كان الشرر لا يزال يسكن وجهها حين لمحتني قابعاً أنظر إليها مرتعداً.. اقتربت مني.. رفعت العصا في وجهي... وقد تلطخت بدم دانة، فتمنيتُ لو كان بمقدوري أن أجمع دمها نقطة نقطة وأعيده إلى شرايينها.ص30".
وهاهي ذي تسحب عباءة أمه البالية التي جاءت تصله بعد فراق: "كنت وأمي في لقاء محموم... نلتحم.. وننسى أن المخالب التي فتحت الباب قد تبعت أمي... و... اقتربت.. لتبتر اللحظة بحدة وقسوة. ص24". وحتى الليل الذي هو لباس الناس كان غصة في فؤاده وقلبه وهو يسمع إلى بكاء أبيه: "لكن بكاء أبي في الليل كان يسري مع النسمة الآتية من السطح إلى فراشي الممدود بقرب عمتي ذات المخالب... فأتذكر أمي... أحس طعم قبلتها يوقظ حنيني.. ويوقظ ثورتي على أبي... هذا الضعيف المستسلم ص22".
والحوش في البيت كان صورة من الظلال المؤسية المرعبة، بما جرى فيه من حوادث، وحيث يرقد جده وجدته في قبريهما بعد أن ماتا حرقاً، أيضاً هناك المفاجآت التي كان يتعرض لها في سلوك حصة زوجته بعد أن أخذ يشك في أمرها، ولاحظ (المرتفع) في بطنها، والخوف المستطيل المتنامي على قتل حصة "يتكرر الخوف.. وتصرُّ الصورة أن تأتيني كل ليلة ص86".(1/59)
كل ذلك ولّد عنده حقداً كبيراً على عمته وأبيه أدى إلى ثورته عليهما في نهاية الأمر وتحديهما، لكنهما انتصرا عليه وقتلت حصة وانتقل هو إلى السجن ثم إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية للراحة والمعالجة ص10".ومن ثم استنطاقه.
** حصة:
وآخر هذه الشخصيات هي (حصة) التي هي صورة عن أمه بسلوكها وتصرفاتها ويختلف وضعها بحماية سالم لها ووقوفه في وجه عمته وأبيه اللذين نجحا في النهاية بقتلها وإلحاق التهمة به.
وعلى الرغم من أن العمة هي التي اختارت حصة وخطبتها له لتكسر رجولته، مثلما أرادت أن تكسر شوكة حصة منذ البداية بعد أن اختارتها صغيرة تربيها على يدها، وهي بحاجة لمن يساعدها في البيت، إلا أنّها سرعان ما انقلبت عليها، لأنها لن ترضى "أن تشرق الشمس على أفق اثنين ص60". وخلعتها من أرضه كما خلعت من قبل أمه. كان سالم يعشق حصة وقد بدأت تعوضه عن تعسه، لكن العمة لا تريد أن ترى لحظة عشق مستمرة، وتساءل:"هل هذا هو العشق الذي حرمت منه عمتي لبشاعتها وشرها؟ هل هو نفسه الذي عاشته أمي وحرمتها عمتي منه ص36". كانت حصة مثل الأرض الذائبة.. "مستسلمة حزينة تضربها الفأس بعنف لكنها لا تصل القرار الذي تريد ص 72". تعوضه عن دانة:"صارت ليالينا مبهجة أستعيد فيها ذكريات دانة ص 73"، وفي رطوبة جسدها شيء يذكرني دائماً بلحظة انتعاش دانة ص73".، كما عوضته عن أمه: "أدنو من حصة، يدها الرطبة تندس في كفي.. ألثم رائحة الحناء في يد أمي.. أشم يدها... ص 119". وكان هذا التعويض ينحو منحى ارتياب لولا اعتبار ذلك الجفاف في عاطفة الأمومة لديه وفي جدب الحنان، وادقاع الطفولة التي لم تبتل بصدر أم ترعى وتمسح الآلام...
"دسست وجهي ففاحت رائحة عذبة ذكرتني برائحة أمي، حنان يفوح ص68".(1/60)
إن حصة غدت بالنسبة إليه مدينة أحلامه وخلاصه "هذه المدينة التي أكور نفسي قربها كل ليلة يائساً ص 89". وحصة تألقت في تضحيتها وصبرها "لأجلك يا سالم... أحتمل كل شيء ص 76". لكن إحساسه بضعفه إذا لم يجعلها أنثى حقيقية زاد من عدم قدرته على مواجهة عمته، وبالتالي زاد من معاناته وخوفه من اقتحام مدينته من قبل غرباء.
*** ضوء على أبعاد الصراع:
* طرفا الصراع:
* هناك طرفان في الصراع:
طرف العمة التي تطوي تحت لوائها الأب بالرغم عنه أحياناً أو بإرادته أحياناً أخرى التي لا تخلو من أثر هيمنة العمة أيضاً، وهو طرف يمثل الشر، والعدوانية، والتسلط، والتحكم بالأقدار والظروف، والجريمة، والخوف، والملاحقة، وإحصاء الأنفاس، والسجن داخل سور البيت... وباختصار إلغاء الآخر أو القضاء عليه حتى ليغدو الإنسان مجرد صرصار زاحف: "صرت صرصاراً يدفن نفسه في الشق... أذرع حوش البيت... عيناي لا تفارقان باب غرفتي... وفي الليل أغلق بالمفتاح .. أدسه في جيبي.. ثم أبقى عند الباب متكوماً أخشى أن يندس أبي أو عمتي من الثقب ص 111". لذلك تكررت صفة شيطان وصف بها الأب وهو يواجه تهمة مشاركة حصة الفعل!.. "ابن شيطان رجيم ص 95"، الشيطان في بيتنا يا أبي ص 95"، وُصفت به العمة أيضاً: لاشيء يصعب على عمتي... كأن الله قد خلقها فقط لتلاحق خلقه... وتستبد بهم.. شيطان كانت.. وما أسوأ الشياطين...ص 56".(1/61)
وطرف ثانٍ يمثله:سالم، والأم، ودانة، وحصة، يبين عليه الضعف والذلة حتى لا يجرؤ سالم أن يشتم عمته في سره: "إنني عندما حاولت أن أشتمها.. تصورت أنها سوف تسمع شتيمتي من داخل صدري وتنقض علي ص 54". وسالم أشفق على ضعفه مثلما أشفق على ضعف حصة:"يحب حصة.. ويحب ثمرتها.. يحب ضعفها.. يحب بؤسها.. يحب وجهها المذلل بين يدي الصمت ص 119". غير أن هذا الضعف مقابل القوة لم يكن عند سالم كما عند بقية الشخصيات التي تمثل جميعاً: "الأنثى" بل اتخذ صراعاً مع الطرف المقابل على (صعيد النفس) حيث يستنكر ويرفض دون تصريح في المرحلة الأولى من المعاناة، وعلى (صعيد الموضوع)، الذي يمثله الطرف القوي المستبد في المرحلة الثانية وحتى حصة كان يظهر منها بعض الأحيان مايدل على الرغبة في المواجهة وحماية النفس: "هدأتني حصة: - لا تخف.. لن تمسني يد عمتك.. أنا لست قطة! ص85". لا تخشَ شيئاً.. لن يفرقنا شيء.. ص 85". لكن هذه الرغبة ليست معلنة، وكلماتها إنما هي محاولة لتخفيف آلام الشكوك في رأس سالم، لأن القبضة الحديدية تبقى السائدة في الصراع:"وفجأة تصمت.. كأنها تخشى أن تتسرب رنة الضحكة إلى الساحرة فتأتي وتنقض على سعادتنا ص80". وتبقى حصة الزوجة نعجة وديعة تظل رقبتها دائماً تحت سكين الجزار.
** أما أبعاد الصراع فهي:
* البعد النفسي:(1/62)
تبدى هذا البعد في ما يعانيه سالم من آلام وردود فعل تجاه ما يلحق به من ضرر نفسي وفي محاولة الضغط على الداخل حتى يتجمع ويكبر فيه الألم فيصل إلى درجة الغليان والثورة. إنه صراع نفسي ظهر في نفوره من عمته ومن أبيه بل وفي التخطيط للمواجهة والتحدي على الرغم من مظاهر الخنوع والخضوع لهما، ظهر ذلك عندما أخرج سالم من المدرسة: "ولكن: هل أستسلم؟ لقد تولعت بالمدرسة وبعلومها... وقررت أن أتحداها.. على أن يكون التحدي سرياً.. قلت في نفسي: أكسب بعض الرضى.. وأفعل ما أريد وقد فعلت ص55". وظهر هذا البعد في التمسك برغبات النفس وأشواقها وميلها إلى من تحب، فلم تستطع العمة اقتلاع حبه لأمه أو لحصة أو لدانة. والبعد النفسي في الصراع ظلَّ في (المرحلة الأولى) في مسارب غير مباشرة وغير مصرحة، لأنه لم يقو بعد على المواجهة المباشرة ولم يشتد فهو يعرف أن عمته: "تسحق شجاعتي" أفهم بسرعة وتنمو الكلمات في ذاكرتي.. وتمتد الجمل... ولا تدري عمتي بالخط المستقيم الذي بدأ يشق القنوات داخل عقلي ويقوم أفكاري ص56". والطرف المقابل المتمثل بالعمة لاحظ ذلك: "وقد لاحظتْ بأن الشوكة التي كسرتها بدأت تنتصب رويداً رويداً وبدا شبابي يطفح أمامها حيوية ص56". أما البعد النفسي في (المرحلة الثانية) مرحلة التعدي المباشر، فقد ظلت نفسه شلال حزن منهمراً، وبقيت أشجار العذاب، وبقي مغلولاً بأمور نفسية لم يتخلص من دبابيس التصدي مثل ضعفه الجنسي، وأثر عذاب حصة فيه، شكه في أبيه، شكه في عمته أنها تحوك له شركاً أو فعلة شنيعة، أثر الثمرة التي تكبر مثلما يكبر الهم ويدفعه أبوه إلى قطفها..، لكنه مع ذلك، لم يستسلم لنفسه التي تنبت فيها الأزهار. جابه قوة الطرف المقابل بقوة مماثلة: "واقتحمت باب غرفته... قوة هائلة نبتت في كل أوصالي وأنا أواجهه بسؤالي: من تظنه فعل هذا ياأبي؟ ص90".(1/63)
وفي مواجهة أخرى مع عمته: "أصرّت بعنف: طلقها... رُدّها لبيت أهلها الفاجرة. رددت عليها بعزم: لا.. لن أطلقها.. أنا لا أستطيع الابتعاد عنها لحظة. ص92".
ورداً على قذف العمة حصة بالفسق، قال سالم: "لم تكوني أقل فسقاً منها في أحلامك.. ونواياك. - لقد نبتتْ لك أظافر... - نعم.. وستطول لتعوض ذل السنوات الماضية. وارتدت عمتي... كانت لها نظرة مغلولة.. لاتستطيع أن تغرسها. ص93".
*البعد الاجتماعي:
يظهر هذا البعد في دفاع طرف سالم عن (الأنثى) الضعيفة التي لاحول لها ولاقوة. فالأم لم تستطع أن تفعل شيئاً من أجل ولدها أو زوجها، تركت ولدها وأصبحت غريبة عنه في عرف العمة ووفقاً لتقاليد الأسرة فهو ابن أبيه والأم: "جرّة أفرغت ماءها" ويجب أن ينبتّ عنها وتنبتّ عنه، لكن الطفل يهرب إلى أمه خلسة متحدياً أوامر العمة التي وسمتها بالمزواجة والتي ترى بأن أمه لاتملك أدنى حق في رؤيته أو السؤال عنه، بل لاتجد حرجاً في أن ترفسها وتلذ بعذابها وتلقي ملابسها وراءها.
إن العمة تمثل سلطة بدائية مارسها كبير السن في الأسرة القديمة، وتعد نفسها بديلة رب الأسرة القديم الذي لايقبل مناقشة في آرائه، ولا أن يجري شيء في ممتلكاته دون علمه ولا أن يسلبه أحد صولته ومركزيته: "هل أستطيع أن أخفي شيئاً عن عيني عمتي وكل شبر في البيت ملك لها! وهل تهجر عمتي ممتلكاتها ولاتتفقدها بين الحين والآخر. ص40". لذلك ضاقت حتى بدانة داخل البيت، وقتلتها في قسوة حين هوت بها إلى فتحة المرحاض الضيقة، ولذلك خاطبت سالماً في حقد: "ولو تركتها فستملأ علينا البيت. ص40". ولعل مثل هذه النظرة هي التي دفعت العمة إلى أن تجبر الأب على طلاق زوجاته الثلاث حتى لاتكبر الأسرة، وتملأ البيت، وتفقد زمام الأمور أو يثقل عليها ألا تراه ممتلئاً بها وحدها.(1/64)
مثل هذه النظرة أيضاً أخفت نقمتها على لحظة العشق والحب التي ترجع إلى قبحها، وعدم زواجها، وغيرتها وشعورها بالنقص الاجتماعي حيث لم تكن موضع اهتمام، أو مثار إعجاب ولم تنجب، كما ترجع إلى تعويضها بامتلاك البيت ومن فيه.
وهذا الأب رجل لايمتلك أدنى حد من الرجولة، ترى ما السبب؟ أيمكن لرجل مهما بلغت حالته أن يخضع للعمة بهذا الشكل، أن يخضع للتقاليد الاجتماعية المتمثلة فيها حتى لو كانت تكبره وربته؟ أليس في الأمر سرّ؟ ولكن أين يكمن ذلك السر؟. أين يعمل؟ ومانوع عمله؟ لم تكشف لنا الكاتبة ذلك ولم تشر أبداً إلى مهنة ما يمكن أن نستشف منها موقفاً.
إن العمة بما هي عليه من شخصية متشعبة لم تسمح بزواج الأب من جديد وإن سمحت له أن يذهب في بعض الليالي وتطول غيبته. ص65"، فهي لن تقبل "امرأة أخرى في هذا البيت. ص58"، ولكنها سعت إلى صغيرة لأنها "بحاجة إلى من يساعدني. ص59"، ويمكن كسر شوكتها: "آه ياعمتي.. كم من الأشواك كسرت.. وأعجب كيف لم تجرحك الأشواك. ص58- 59". لكن حصة بقيت امتداداً لدانة والأم، وإذا كانت العمة نالت من الأم ومن دانة ولكنها لم تنل من حصة إلا بعد صراع مكشوف زلزل البيت من تحت أقدامها: "لكن الحياة تغيرت في البيت... وعود النخل الأخضر صار مليئاً بالشوك.. عمتي تتحاشى مجرد النظر إلى وجهي.. لم تعد تكلم حصة ولا تأمرها.. وأبي صار يتجاهل وجودي. ص101".
صحيح أن القتل وقع على حصة في النهاية من طرف العمة، لكن التحقيق كشف الحقيقة، وسوف يدفع الطرف القاتل الثمن. إن حصة، ودانة، والأم رمز لكل أنثى خليجية وقع عليها الضيم فحرمت من ممارسة حقها في الحب، والحياة، في ظروف اجتماعية عادلة.
*البعد الإنساني:
**الجفاف الإنساني:(1/65)
انطوى هذا البعد الإنساني على جفاف إنساني في العمة، وتغطيته أو تغليفه أو سجنه أو عدم الاهتمام به بنقله إلى حيز الممارسة والمبادرة عند الأب الجبان، فهي لاتستطيع أن تفهم - إنسانياً- علاقة سالم بأمه، ولاعلاقته بحصة، ولاعلاقته بدانة، وبالتالي علاقة كل هؤلاء بسالم: "حرمتني من أمي.. يتمتني ولم أكن بعد قد نهلت من حنانها إلا القليل.. ثم حرمتني من دانة وقد كانت مؤنسي ورفيقتي في يُتمي... ثم صكَّت أبواب الحياة في وجهي حين حرمتني من المدرسة. ص53".
إن العمة لاتعرف مثل هذه المشاعر الإنسانية تجاه القطة: - دانة- "كان أول شيء تعلمته اسمها. فنقشته على جدار البيت، ورسمت ذيلها.. وعينيها.. لقد خشيت أن أرسمها كلها فتذبح عمتي صورتها كما ذبحتها.. ص56".. كما لاتقدر العمة معنى أن تحرم الزوج من زوجته حتى لو بكاها ليلاً، ولامعنى أن تقتل القطة قتلاً غير إنساني بعد أن تحجر قلبها، ولا أن تحرض سالم على قتل زوجته ومن ثم شد الحبل بيدها على عنقها. والأب ضغط على مشاعره الإنسانية تجاه ولده، وتجاه قطته وتجاه زوجته وعاش لنفسه وأرخى الحبل لأخته ولم يتردد في حث ابنه على قتل زوجته عندما اتهمت بالفسق. وهنا يتبدى الصراع برفض الابن سالم لهذا الطلب: "وإذا بأبي يفاجئني: اقتلها ياسالم. ورفضت: لن أفعل. ص97". ويتوهج موقفه الإنساني في تسويغ عدم القتل: "لا.. لن أقتل امرأة قبرت فيها عجزي.. وخوفي.. ومتاعب السنوات.. فاحتملت بذل وصبر.. وأحبتني. ص91".
** الخروج على التقليد في الظلم الأسري:
* المرأة ظالمة المرأة:
إن مايلفت النظر في هذا الصراع داخل فكرة تدين الظلم الأسري، هو أن تكون (المرأة) ظالمة (المرأة)، والرجل إما هو ضعيف، محيد، كما هو الأب، وإما هو يتقاوى، ويقوى بعد ذلك كما هو سالم.
* الدلالة الفكرية:(1/66)
لماذا فعلت الكاتبة ذلك؟ هل أرادت من ذلك أن تخرج من إطار الفكرة التقليدية المتمثلة في ظلم الرجل للمرأة في الأسرة! وأن ثمة امرأة تظلم امرأة، وتظلم رجلاً، وتظلم أسرة كاملة. هل أرادت أن توجه عدسة فكرتها إلى أوضاع أخرى من هذا الظلم، وتفضح موقعه الاجتماعي، وتكشف عن بؤر التناقضات التي تعيش فيها الأسرة العربية نتيجة تخلف الوعي الاجتماعي الذي يرسخ علاقات تسيء إلى الإنسان وتدمر حياته وحياة من حوله، أم أن ذلك، إشارة إلى أن المرأة يجب أن تصحح نفسها أولاً قبل أن تطلب من غيرها أن يفعل ذلك وإلى أن المبادرة بيدها أولاً وآخراً، فلا شيء يهدى لها بل تناله بنفسها، وتأخذه، بجسارتها وتحديها، والقبض على زمام الأمور. هل حالة العمة في رواية: "المرأة والقطة" حالة استثنائية لايمكن أن نسحبها على مجتمع الكويت أو الخليج أو الوطن العربي، وهل غدا الرجل مظلوماً إلى الدرجة التي بات معها ضرورياً توجيه النقد الاجتماعي إلى المرأة؟ مهما يكن الجواب، فإنه من خلال هذا الوضع الاجتماعي المشوه نلاحظ إدراكين:
1) إدراك متخلف يتمثل في سلطة العمة وجبروتها، وفي الأب المشتت المسلوب الإرادة، وهو (إدراك قاهر) بأثره على من حوله.
2) إدراك يعي عذابه ولكنه إما عاجز عن التخطي ويتمثل في الأم وحصة وإما محاولة تجاوز العلاقة الأبوية الظالمة المحكومة عليه اجتماعياً. وهو (إدراك مقهور).
وعلى الرغم من محاولة الإدراك القاهر تصفية سالم روحياً بقتل كل شيء فيه ينبض بالحياة وبقتل من أحب جسدياً أو معنوياً إلا أن هذا القتل ما كان إلا تحدياً "للمتلقي" الذي استمع إلى شهادة سالم واعترافاته عبر الطبيب، والذي ينتظر منه إنصاف هذا الإدراك المقهور واتخاذ موقف اجتماعي وإنساني منه موقف معاضد.
** أضواء على الحبكة:
*الخطف خلفاً وغيابات المشاعر:(1/67)
استخدمت الكاتبة ليلى عثمان طريقة الخطف خلفاً لعرض أحداثها وانطلقت من النهاية حيث تم ارتكاب جريمة قتل "حصة" التي بقيت غامضة بالنسبة إلى القارئ ثم جرى القبض على سالم الذي نقل من السجن إلى مستشفى الأمراض النفسية بعد أن انهارت نفسه وجسده أمام المحقق. وعبر تصورات البطل وذكرياته سارت بنا الأحداث من البداية إلى النهاية. وقد ساعدت هذه الطريقة على تشويق القارئ وانشداده بانفصال البطل عن الواقع عندما كان يغيب عنه بنفسه أو بإبرة المخدر في حين يتهامى اللاوعي عنده بكل مايمزق روحه ونفسه ومايتشابك في أعماقه من مآس وذكريات وتفاصيل دقيقة عن مرحلة الطفولة والشباب.(1/68)
إن رواية ليلى عثمان "المرأة والقطة" رواية نفسية مثل رواية (السراب) لنجيب محفوظ وهي (رواية جريمة) أيضاً، واختيار هذه الطريقة جعل السيطرة في يد الكاتبة التي كانت تقدم لنا شيئاً من الأحداث، والتصوير وسبر أعماق الشخصيات، والمآلات التي أدت إلى الجريمة. تمنع استمرار الأحداث لاستراحة قصيرة حيث يجري تعمية أبعاد بعض الجوانب المتعلقة بالشخصيات أو بوقفة متأملة مع الطبيب يلقي على الأحداث بعض الأضواء من خلال حواره مع سالم المستفيق من غيابات مشاعره وذكرياته كما في الفصل الثامن، ثم تبدأ من جديد لعبة شد الأحداث. ولأن طريقة الخطف خلفاً وظفت في السينما، فإنها استفادت من بعض تقنياتها في عرض أحداث الحبكة حيث فتت الرواية إلى مجموعة حوادث وأحوال في مشاهد تدع القارئ يقوم بتركيبها، كما ساعدت على الانتقال من مشهد إلى مشهد ومن صورة إلى صورة. وكانت تركز العدسة ببطء والاقتراب شيئاً بعد شيء من نفسية سالم خصوصاً بطل الرواية ومن حصة بعده وقصرت في استبطان عميق لبقية الشخصيات تفسر أحوالها ومواقفها.. استبطان ينسجم مع فسحة الرواية، وإن حاول الحوار أن يعوض بعض هذا التقصير. كانت العدسة تكشف عما يحاول المرء أن يستره في جرأة، وتسلط الضوء على معاناة البطل النفسية والجسدية في آن.
**ثنائية الحوار والنجوى الذاتية:(1/69)
وعلى الرغم من التركيز أحياناً على حوار المشاعر بكيفية صامتة تجاه حصة على الخصوص، فإن الكاتبة كانت تلجأ إلى رسم أفق من الذكريات والأحلام والتصورات وأحاديث النفس تضمنها في سياق المشهد الصامت حتى يخيل للمرء أنه سيلتقط أقل نأمة تصدر من أحدهما نتيجة ما يجري وراء العيون ومايستند تحت طبقات الوعي... وهنا يظهر الحوار مع حصة ليكشف بعض ما يعتمل في النفس ويؤكده أو ينتقل المشهد عبر السرد إلى تذكر حوارات مع غيرها أو مواقف تعمق السياق ليعود سالم من جديد إلى نجواه الذاتية.." وألتصق بها.. أمسح دمعها أرى البراءة كلها مفروشة على وجهها.. يثور السؤال على لساني: "من ياحصة فعل هذا؟" لكنني أبتلع السؤال.. لا أريد أن أعذبها.. وهل يهم من يكون... لكنها تتوسل:
- ارحمني ياسالم.. ارحم أباك.. وارحم نفسك.. طلقني أو اقتلني..
- مستحيل ياحصة أن أمسك بسوء.. إياك أن تقولي هذا ثانية..
وتصمت صمتاً حاداً. لا أقدر على كسره..آه لو تقول..لو تتكلم..لو تريح الصراخ في رأسي: هل معقول أن تخدعني حصة؟ من ذا الذي رآها؟ وأين؟ إنني آخذها بنفسي لأمها مرة كل شهر.. تبقى هناك ولاتخرج.. أجيء بها بنفسي.. رأسها لايرتفع، وعيناها أبداً لاتريان غيري..إذن؟ كيف انغرست البذرة؟.وكيف ارتفع التل الصغير؟ كيف..وكيف. ويحتد الصراخ..الخ ص100".
*تقنية السينما وحركة آلة التصوير:(1/70)
والكاتبة في الرواية لم تستعمل طريقة واحدة في عرض حبكتها التي بنيت بناء حديثاً على طريقة توظيف "تقنية" السينما وحركة آلة التصوير المتسللة إلى العتمات!.. كما قلت سابقاً، بل نوعت بهذه الطرق التي أفادت عملية التوصيل والتأثير، وهذا هو المهم، فليس الغاية في التعدد، وإنما في كل ماينفع في التوظيف الفني فهي إلى جانب استخدام الطريقة الحديثة شكلاً من أشكال عرض الأحداث حيث يتم تصوير البطل من داخله وتُداخِلُ في (الأزمنة) في كثير من الأحيان، حيث تنقل اعتمالات الذات وأحاديثها وتصوراتها وتعليقاتها وتحدياتها من الماضي إلى الحاضر وحتى إلى المستقبل الذي لايريد أن يراه سالم أو يعيشه لأنه فقد أسبابه ومسوغاته بموت حصة "لامستقبل لي دون حصة لقد انتهيت ص14". كانت تُداخل أيضاً في (الأمكنة) فالانتقالات غدت يسيرة تتبع تداخل الأزمنة أو تنتقل خارج السور في أحيان قليلة وخاصة في الفصول الأخيرة حيث الانتقال إلى بيت الأم والسوق، لكن على الأغلب ظلت الأحداث تتحرك داخل سور البيت، وانتقالات الزمن تتصل بمواقفه وتحركاته وخاصة الأحداث التي جرت في الحوش: "المسألة تحتاج إلى جرأة.. إنها المرة الأولى التي أفكر فيها بأن أختلي بأبي.. لأحدثه.. فكيف إذا كانت لحظة يُثار فيها موضوع من هذا النوع؟ وعمتي: هل تترك لي فرصة كهذه؟ هل يجب أن آخذ رأيها قبل مجالسة أبي؟ ماذا أقول لها؟ هل أعترف بأنني أريده أن يعلمني كيف ألامس جسد حصة؟ وقررت أن أعتمد على الصدفة.. وما أقل الصدف التي كنت أجد فيها أبي جالساً وحده في غرفته التي لم أفكر يوماً أن أطرق بابها.. لكن الأمر اليوم مختلف. هناك دنيا جديدة مطلوب مني أن أدخلها بعد أسابيع وأنا أجهل حدودها تماماً، فقط.. أرسم لها الأحلام، صار وجه حصة أولها.. وكأني بها سأصير قوة تتحدى الظلم والذل.. ورغم الحلم الباسم كان يرزح كصخرة فهل أستطيع أن أزيحها.. أن أفتت قساوتها بقدم. إن الخوف شيء رهيب..(1/71)
مقاومته صعبة.. وعمتي علمتني أن أخاف دائماً منها.. فكيف لا أخاف الآن وهي تهديني حصة؟ صار خوفي مزدوجاً... خوف على نفسي وخوف على حصة ص65".
*الترجمة الذاتية:
وطريقة الترجمة الذاتية تركت الفرصة للبطل في أن يتكلم عن نفسه ويسرد انطباعاته وعذاباته وينثر الأفكار حول مخاوفه وعلاقاته بأشيائه وأسرته واستعمال هذه الطريقة رفعت من وتيرة الانفعال عند البطل، وتركت له فرصة التعبير عن نفسه والبث النفسي دون تدخل في أكثر الأحوال، ومال اعتقاد القارئ إلى مصداقية مايقول وهو يصدر عن الذات مباشرة دون وسيط: مددت يدي.. إلى الحبل المشدود.. لغته قاسية وصوته هدار.. لغة لاتتآلف إلا مع يد أقسى... وقلب لايعرف الرحمة. هتفت لها.. لعلها تسمع صوتي فتشفق عليّ.. لكنها لم تردّ - حصة.. أنت أيضاً بعد دانة.. وعاتبتها.. لماذا لم تصرخي.. لماذا لاتهربي؟ رفعتها إلى صدري.. ضغطتها آملاً أن تستعيد دقة من دقات قلبي وتنجو من الموت.. دموعي تبلل وجهها.. وأملي لايخيب ص131". وهذه الطريقة مكنت البطل من استخدام وسيلة (الاعترافات) الجريئة لكل ماكان يجري في اللاشعور والشعور معاً حيث تخطى حاجز الخوف والخجل وهو في قمة توتره وانغماسه في بؤرة عذاباته وحساباته لكل ماجرى وما أدت إليه مآلات الأحداث بين يدي العدالة فضلاً عن الصدق الفني الذي أدى إلى القناعة. وكانت تبدو هذه الاعترافات الموجهة إلى القارئ/المجتمع دفاعاً عن النفس بحرارة من يرغب في كشف الحقيقة التي يمكن أن يؤدي ضياعها إلى ضياع القارئ/المجتمع ذاته. وهكذا قدّم البطل سالم حيثيات دفاعه حتى يبرئ نفسه ويدين المتهم. وداخل هذه الطريقة أيضاً جرى استخدام (الذكريات) وسيلة مهمة لإشعال المواقف وتوضيحها وإلقاء الضوء على أبعادها النفسية وشغل القارئ بالبحث والتنقيب عن مزيد من اعتمالات النفس لتقوى الرأفة على مصير البطل ومشاركته". وتحت وشوشة الماء أسمع حركة جسدها..(1/72)
أتصورها وهي تمسح جسدها بالليفة لتنزع عنه رائحة التعب، وتخرج لي ندية.. معطرة.. شهية كالرمانة.. فأقبل عليها.. أحضنها أعصرها بين ذراعي.. فتتأوه.. كنت أدرك أنها تتعب.. وأن عمتي تستعبدها.. كأنها تقصد أن تهديها لي آخر النهار كالثمرة المعطوبة حتى لاأستمتع بها ونهنأ في الليل الذي صار هو دنيانا التي ننسى فيها كل هموم النهار. حصة لاتشكو أبداً.. لاتتذمر.. لاتتمرد على عمتي كأنها تريد أن تشاركني صبري.. وذلي..
"ص75" ذلك الحبل الذي طوحت به يوماً في وجه عمتي هو نفسه يلتف بخشونة على عنقها الطري "معقود بقسوة وأطرافه تتدلى.. جزء إلى صدرها.. وجزء إلى الأرض.. الخ ص130- 131".
ومن خلال الذكريات والاعترافات وأحاديث النفس واشتغالات الوجدان وتموجه عرفنا أيضاً جوانب عن هؤلاء الذين يتحدث عنهم، وهنا كانت تتمازج معرفتنا به وبغيره. وكانت النجوى الذاتية تداخل هذه الترجمة الذاتية فتزيد حرارة السياق: "لم تكن الليلة كباقي الليالي (الجو يوحي بقدوم الشتاء) ثمة نسمات باردة تتلاعب بأوراق الحوش، وتخترق أضلاعي" أحس قشعريرة البرد "التفت إلى دانتي الحلوة" ألمح عينيها الجميلتين مفتوحتين نصف انفتاحة أمسح عليها.. أناغيها: ستنامين في حضني كباقي الليالي. ودسستها بين ساقي: اندسي أيتها الرائعة.. ستدفئك جواربي، وحرارة قدمي.. وإن جعت فأسمعيني مواءك الشهي.. سأخرج رغم النسمة الباردة.. وأتسلل إلى مطبخ عمتي.. وآتيك ببعض ماتشتهين ص34.."(1/73)
واستعملت الكاتبة أيضاً طريقة السرد المباشر حيث كانت الكاتبة الراوية تحكيي عن أبطالها بصيغة ضمير الغائب، وقد تكررت هذه الطريقة في البداية لأنها تود أن تفتح سجلات شخصياتها وتدل عليهم، لكن هذه الطريقة لم تستعمل جيداً دائماً، فقد أدت إلى (التكرار) في بعض الأفكار، تلك التي تتعلق بالعمة وبأعمالها مما سيقدمه السياق بعد ذلك بالتفصيل في مجرى الأحداث.. استفاقت عيناه.. دارتا في أرجاء الغرفة.. بحث عن شيء ما.. أغمض عينيه ثانية.. كأنه يتصور نفسه في حلم ص48".
**رسم الشخصيات:
*تكوين الشخصيات درجات:
بدا لنا نقص في تكوين بعض الشخصيات. لانعرف الكثير عن الأب، ولم تربطه الكاتبة ببعض دواعي تصرفاته، ولم تتعمق نفسيته، ولانعرف محاور حياته في الخارج حيث تكون الفرصة في الرواية نرى ردود أفعاله وغالباً ماتنتهي بالقسر والصمت المطبق. ولم تتعمق شخصية حصة أيضاً، لم نطلع على الكثير مما يجري في داخلها إلا من خلال انعكاسات وصفها على سالم ولو تم إخصاب هذه الشخصية تحليلاً وسبراً لقوى من درجة الصراع مع الأطراف المقابلة ولساعد على كشف بعض الجوانب التي لم ترها عين سالم المسلطة عليه.(1/74)
كان الجهد منصباً على شخصية سالم بالدرجة الأولى ثم على العمة. وكان تعرف هاتين الشخصيتين منسجماً مع طبيعة كل منهما إلا أننا في بعض الأحيان كنا نشعر أن لغة الكاتبة تطفو على لغته المقدرة وتحميل وعيه مالا يحتمل في (صورة التعبير) وليس في (صورة التغيير) الكامنة خلف الأحداث والمواقف والأحوال، وكأن حرارة الكاتبة وتعاطفها مع سالم جعلاها تنسى نفسها فحلت محله فأنطقته مافي نفسه دون أن تعزل نفسها عزلاً مناسباً عند الكتابة. فالشخصيات والأبطال في القصة والرواية لا "نتحدث عنهم" ولكن قد "يتحدثون عنا" دون أن يبدو عليهم ذلك: "لماذا يريدون نبش ذاكرتي وقد تخثرت فيها كل سنواتي ولم أعد قادراً على تذويبها وتفتيتها؟ لماذا يريدون انتزاع حياتي من فمي وقد صارت نبتة حنظل تشد جذورها إلى قاع النفس الميتة؟.
كل الأشياء تنام بداخلي.. وهم يريدونني أن أقول: أن تلتئم كل المفردات، والأحداث، والصور، وتخلق حقيقة تبرئتي... وتدل على الفاعل!! لماذا أبرئ نفسي؟ ص16".
**وأحب أن أثمن هنا الوصف الدقيق والرسم الجميل لشخصية القطة دانة فهي تشي بعاطفة إنسانية متدفقة وبحب خاص لهذا الحيوان الأليف، وقد يدل هذا على تجربة خاصة بالتعامل معه، وهذا ليس شيئاً مهماً بحد ذاته لولا أن وظف في سياق الرواية وكان له أثره الكبير في بقية الشخصيات وردود أفعالها بأسلوب (المبادلة) الذي تحدثت عنه سابقاً.
*الطريقة التحليلية:(1/75)
أما الطرق التي استعملتها في رسم الشخصيات فقد لجأت إلى - التحليل- حيث شرح ردود الفعل عند الشخصيات ورصد المشاعر والمواقف خلال التفاعل. هذا التحليل لم يأخذ أبعاده الشاملة بربطه بالبيئة خارج أسوار البيت وبالعصر وبالحياة الاجتماعية في امتداداتها التي يمكن أن تعود لتصب في الحالة الخاصة داخل السور. إن الجنس وفقدان الحب والقسر والعلاقات الأسرية والظواهر غير الإنسانية وغير ذلك يمكن ربطها في توظيف مناسب بما تستوعبه علاقة الخاص بالعام بمجمل اشتراكات الحياة الاجتماعية عامة، ولو جرى توسيع بؤرة هذه الحالة الأسرية في استسقاءات أخرى اجتماعية وإنسانية ونفسية تتعلق بحوادث إضافية تقوي تسويغ الحالة وتركز على مفاصلها واشتداداتها لأعطت تفسيرات أشد غوراً وأخصب تفاعلاً وشخصيات أدل على تموجات النفس واندفاعاتها لدى سالم ولدى بقية الشخصيات.
*الطريقة التمثيلية:
وهناك الطريقة (التمثيلية) التي استطعنا بها من خلال اعترافات سالم وأحاديثه وسلوكاته أن نتعرف شخصية سالم ونطلع على سماتها. "تمشيت في الحوش.. لمحتها آتية.. أمسكت بذراعها الهزيل.. - أين كنت؟ - همست: في بيت الخلاء.. غرست شوكتين صحراويتين في وجهها.. لماذا انتابني هذا الرعب لمحت وجه حصة مورداً، فتلفت في المكان.. بحثت عن ظل هرٍّ.. ص83".(1/76)
وبهذه الطريقة تعمقت بعض صفات سالم/ البطل عبر حديث شخصيات أخرى تعطي رأيها ببعض مواقفه وتصرفاته: "رق صوت العمة" - ياسالم.. هذا أبوك- لاأريد أبوته.. أتبرأ منها- الظفر لايخرج من اللحم- سيكون ظفري خنجراً.. سأدسه في صدره وصدرك.. - أنت طيب ياسالم- ولهذا استغللتما طيبتي.. أنت.. وهو.. أنت ذبحت دانة، وهو ذبح حصة - عيب هذا الكلام.. لاتتهم أباك - عيب هه.. سوف أفعل العيب ص107"، "أستدير إليها.. أرى وجهها مشرقاً رغم الذبول.. أندس في صدرها.. وتغمرني بحب عذب وتضحك: - أحكي لك قصة من؟ قصة الساحرة - لأ أخاف- رجل وتخاف الساحرة وليست حقيقية- لأ.. الساحرة موجودة هنا ص80".
وعبر الوسائل غير المباشرة في هذه الطريقة التمثيلية تتوضح لنا أمور كثيرة عن الشخصيات الأخرى التي تتبادل التأثير مع البطل: "نعم ياعمتي؟ ابتسمت: لأول مرة أرى وجه عمتي يبتسم طبعاً.. أنت الآن رجل ص62".
واستُخدمت أيضاً الطريقتان التحليلية والتمثيلية: "كنت ألحظ نظرات عمتي إليّ.. أحسها تخترق ضلوعي وأحس شيئاً ما يعابث رأس الشرير.. كنت متأكداً.. أنها تحيك لي قراراً.. وكنت أنتظر ولم يطل انتظاري.. ذات ليلة.. جاءني صوتها تحاور أبي" - كبر الولد يا أخي. - ماشاء اللّه ونضجه أيضاً يكبر معه.. هل يزعجك أن يكبر. لا.. لكنني أخشى أن تتفتح عيناه على ما لاترضاه ص57".
*أنواع الشخصيات:
أما أنواع الشخصيات فقد كان بعضها بسيطاً أمثال الأم، وحصة، والأب، والعمة لأنها بقيت تحمل سمة عاطفية واحدة بمواصفات محددة منذ أول الرواية حتى نهايتها.(1/77)
بينما شخصية سالم مركبة كانت عواطفها تجاه الأحداث وتأخذ أبعاداً مناسبة متطورة لم تقف عند حدودها الأولى بل كشفت عن تفاعل حي مع الشخصيات الأخرى ومع ذاتها ومع الأفكار السائدة في وسط الأسرة. وقد حمل سالم صفة التذبذب العاطفي كما يطلق عليها المحللون، فهو في البداية لم يستطع أن يحب أباه كما أحب أمه، وأحياناً كان يشعر تجاهه بالكره، بل إنه في نهاية الرواية أخذ يمزج كرهه العاتي بالحقد والتحدي والتهديد بالقتل. وعلى الرغم من أنه أحب حصة، إلا أنه، مرت عليه أحوال فكر فيها بقتلها بسبب حملها لكن سرعان مايسقط ذنبها على غيرها ويعود إلى حبها الجارف، وموقفه من العمة الموضوع الرئيس الذي ملك عليه عقله وحسه ومواقفه كلها إلى درجة المواجهة المباشرة، ولم يعد بالنسبة إليه موضوعاً ذاتياً بل موضوعياً يتصل بمن يحتويه ويحبه.
*السرد واللغة:(1/78)
كانت لغة السرد مقتضبة على الغالب، امتلكت حجمها، وكانت متلونة لاتخلو من نفحات مشاعرية وملائمة للمعاني التي تطرحها الأحداث. إنها لغة قصصية موظفة لم تعطل السياق. وقد عملت هذه اللغة على فعالية الوصف، لكن الوصف قصر أحياناً في خلق التوازن مابين الوصف الخارجي والوصف الداخلي من أجل رصد حالة الشخص النفسية في جدل جانبيها. فشيء مهم أن نرى هيئة الشخصية ونربط ذلك بداخلها، كماهو مهم أن نرى الداخل وهو يصطرع ويترك بصماته على الهيئة في حال تصرفها. هذا التوازن من أدق معاناة الكاتب في أثناء الكتابة لأن المرء ليس مجرد داخل فقط، كما هو ليس مجرد خارج فقط ولايمكن الفصل بينهما. وفي أحيان كثيرة كان الوصف جميلاً مؤثراً يلتقط أدق الملامح النفسية والحسية.. كشفت عنها العباءة فانسدلت عن شعر تفوح منه رائحة البخور.. وحين رفعت "البوشية" انبرى لي وجهه كالبدر. لم أصدق هل يعقل أن تهديني عمتي قمراً؟ كنت أتصور أنني سألقى وجهاً بشعاً جامداً.. حاقداً كوجه عمتي لكن مانظرته يجعلني أشك في أن عمتي لم تر وجه حصة. وإلا لما ارتضت أن تهديني هذا الجمال الوادع المبهر. دسست وجهي كله في وجهها.. في لحظة.. نسيت كل ما قاله أبي ودرسته وحفظته عن ظهر قلب.. صرت وحدي أتصرف وكأنني أعرف ماذا يجب أن أفعل.. وكيف أكون وديعاً مع هذا الجمال، حنوناً، رقيقاً، مع هذه الرقة المتكومة بخجلها أمامي.. ص68". كما أنه كانت تثب بين الحين والآخر، جمل وصفية فيها جدة في تجاوز كلماتها وتعبيرها عن المراد. ص53.
*الحوار واللغة:(1/79)
للحوار في الرواية: المرأة والقطة دور كبير كماً وكيفاً، فهي حفية بإجراء الحوار مع الشخصيات والسبب عائد إلى تلك المواقف التي كانت تقع فيها، فتندفع إلى الكلام وإبراز مايودون توضيحه. خاصة وأن هذه المواقف قد بدأت ساخنة عند التعرف إلى جريمة القتل. كما أن الحوار فرضه أيضاً وسط الأسرة وضيق المساحة التي تتحرك فيها الأحداث داخل سور البيت مما يهيئ مواجهات كثيرة وارتطام الأحداث بالشخصيات، كما هو ملائم لشخصية العمة التي تبادر كل شيء وتود أن تعرف عنه مايجب أن يعرف. إن الحوار في الرواية أبعد الرواية عن افتعال الحوادث والتكلم عنها وهيأ الدور له في رصد النفوس وكشفها وتناول الحالات التي تكون عليها في مواقفها، كما ساعد سالم على توثيق سجلاته مع الأسرة عند تذكير العمة ببعض ماجرى فضلاً عما كشفه من معاناته وأفكاره. وقد أوحى الحوار هنا أيضاً بالنية السرية التي يتلقفها المرء من اللغة داخل الأفكار المصرحة من خلال لهجة الحوار الساخرة أو المراوغة. والحوار أخذ دوره كبيراً أيضاً وفي التحقيق وحث سالماً على الاعتراف وكان ملائماً للموقف والشخصية "دخل الطبيب".. رآه في السرير هادئاً.. أحس ارتياحاً تجاهه.. اقترب بهدوء: - ها: - كيف الحال الآن ياسالم.. لم يجد الطبيب ترحيباً، قال سالم: - لاأريد أن أبقى هنا. - أنت متعب بعض الشيء.. ونحن نريد أن نساعدك. - لا أريد مساعدة أعيدوني إلى سجني. فرد الطبيب ذراعيه في الغرفة: - هنا سترتاح أكثر.. لا.. هناك حوائط أرسم عليها وجه دانة.. - ووجه حصة.. ووجه الطفولة.. الخ ص50".
وهنا أشير إلى أن الحوار قد استعمل بعض الكلمات العامية المتداولة في الكويت، وهي قليلة جداً، وكان يفضل الاستغناء عنها لأنها ليست مفهومة لدى بعض الأقطار العربية ويمكن أن تحل محلها كلمات أخرى مناسبة، أو يُلجأ إلى شرحها وتوضيحها في الهامش.
*كلمة أخيرة:(1/80)
* ظلت الرواية في حدود الأسرة المفردة داخل أسوارها وإذا تحركت الأحداث فإنها تنتقل من الغرفة إلى الحوش وإلى مايحتويه سور يعيش فيه أفراد يكاد انقطاعهم يكون تاماً عن المجتمع الذي يحيط بهم، فلم تتسع دائرة الرواية إلى دوائر يتصل بعضها ببعض ضمن حلقات اجتماعية متصلة تربط الأسرة بالحي بالمجتمع بجريان الحياة بالبلد مما يلائم شمولية رؤية الرواية.
* في الرواية لونان الأبيض في أعلى درجات نقائه والأسود في أشد درجات حلكته. وفي رأينا أن الحياة لاتسير هكذا، وإن غلب على المرء لون من هذين اللونين، فلابد في لحظة ما من موقف يفجر أثراً إنسانياً في داخله لايمكن أن يخلو منه بشر وإن عادت سمة الثبات إليه من جديد. وقد رافق ذلك ثبات الحالات في أغلب الشخصيات.
* استبقت الرواية الأحداث في أولها، وباشرت أوصافها وأغدقت على الشخصيات أوصافها الكلية قبل أن نلمس ذلك بأنفسنا من خلال الحدث الروائي مع أن في السياق متسعاً. نقرأ مثلاً: "كانت أمي طيبة، وكان شر عمتي يقف بالمرصاد لهذه الطيبة.. أرادت أن تفتت حبل الوصل بينها وبين أبي أكثر من مرة، عاشت أمي حياة مهددة على الدوام.. أن تفقد البيت والزوج والاستقرار.. وأن تفقدني أنا.. الذي كنت حلمها ليل نهار. ص17- 18". هذا المقطع كان في الصفحتين السابعة عشرة والثامنة عشرة من الرواية وهو يكاد يكون تلخيصاً لمجريات الرواية في نطاق العلاقة السابقة. وقد جاء بعد المقطع السابق مايظهر شرِّ
ية العمة تمثيلياً في الحوار التالي الذي يغني عن الإخبار:
... "صوت عمتي الشرير تهادى إلى مسامعي ذات يوم وهي تأمر أبي:
... - يجب أن تطلقها
... ورد عليها صوت أبي المرتجف:
... - ولكنها امرأة طيبة.. خدوم
... صرخت عمتي بافتعال:
... - إنها تكرهني.. إلخ(1/81)
... - لعل من الأفضل تسمية هذا العمل الأدبي الممتع حقاً على الرغم من ملاحظاتي وبها أيضاً، (قصة طويلة) وهي نوع أدبي بدأ يختلط بالرواية مع أنه له حدوده وصفاته ويحتمل ماانطوت عليه المرأة والقطة. وإن القصة الطويلة قد قصر النقاد في متابعتها وفرز أشكالها وسياقاتها وهي على الرغم من قلة تجاربها إلا أنها موجودة.
* إن أمثولة ليلى عثمان في (المرأة والقطة) في تلك الحرارة التي توهجت وراء السطور، وفي تلك (اللغة) التي تميزت بها، وفي (الجرأة) عند طرح أدق المشاعر الجنسية والعاطفية، وفي إحضار بعض واقعات الواقع الأسري أمام أنظارنا وبكيفية موظفة دون خشية (مشهد دخول القط في القطة)، وفي (رفض بعض التقاليد) التي تغل المرأة وتحرمها من حقوقها وإنسانيتها، وفي (طموح تجربتها) الروائية الأولى التي أعطى ثمراته في روايتها الثانية: "وسمية تخرج من البحر"، وفي هذا الاتحاد الحميم والعشق العميق (لشخصية سالم) الذي حلت فيه الكاتبة حلولاً صوفياً جميلاً.
***
... عبد النبي حجازي
سرد
سوسيو - أيديولوجية: المسألة الفلاحية
في رواية الصخرة(1) لـ عبد النبي حجازي
"1"
ماذا يجري في قرانا البعيدة؟ ما التجارب التي تطبع حياة الفلاح داخل المسألة الفلاحية؟ مانوع العلاقات السائدة التي توجه مصيره داخل هذه التجارب؟ مامقدار اهتمامنا بالفلاح، وبأرضه، وبمعاشه؟ مادور الثورة في تجهيزه بالأسلحة المادية والذهنية حيث يجد نفسه تائهاً في مستنقعات "لم يستطع - التاريخ- ولا - التحويل- الاشتراكي على مستويات أن يجففها تحت قدميه الغائصتين؟ أما زال فلاحونا يأبون الاجتماع على جانب واحد أمام ريح عاتية مازالت تهب؟. وبالتالي، أيبقى كل شيء لديهم - متفرقاً- على وهن تهيمن عليه أهوال الإنتاج الماضي في ظروف لاتملك - بسبب التخلف وضعف الإمكانيات أوغيابها- الوسائل البديلة؟..
__________
(1) عبد النبي حجازي: "الصخرة - رواية" دمشق منشورات اتحاد الكتاب العرب 1978م.(1/82)
من أعماق الإجابات عن هذه التساؤلات أو المساءلات التي تعكس، من جهة، الحالات الروحية والعلاقات الاجتماعية، والآفات النفسية المتوارثة، وشكل الارتباط بالأرض - وماعليها- ... والتي تؤدي، من جهة أخرى، وبالضرورة، إلى وجود أشكال استغلالية أخطبوطية، وانشغالات إحباطية على مستوى الفرد والجماعة، والتفافات مشعوذة: من أعماق هذه الإجابات التي تطلقها رواية "الصخرة" لعبد النبي حجازي داخل المستويات السابقة، تبرز - إدانة- المسألة الفلاحية!...
"2"
"ساعد الربابة يذوي على هيكلها ص8".. الأرض حوالي الصخرة واجفة، لم تبلّ ظمأها حتى الآن بقطرة مطر واحدة. يبست. الجوع يقصف أعمار المواشي. الرؤوس مخدرة. قاله: "ما العمل؟" تمزق صدور رجال الصخرة، تفتت قلوب نسائها. كلهم حائر معذب ص8- 9".
القحط ينعي المطر.. ينعي المواسم، ينعي النعاج ص11"... ثمة مصائب إذن!. فما هي أبنيتها؟ وما هي مستويات صدماتها؟ تفجراتها؟.. انهياراتها....؟ وعيها؟.
"3"
**بنية ثلاثية
أ- بنية التراكم الكمي:
سيكون التوجه النقدي نحو وعي الأرض في "المسألة الفلاحية" على الخصوص، مايداخله من ملابسات ومايمكن أن تفرزه الرواية، على الصعيد السيسولوجي وعلى الصعيد الأيديولوجي، من علاقات ومواقف وتصورات وقوى تلغيه أو تخلخله داخل المسألة الفلاحية، أو قد تؤدي إليه دون غفلة عما يرتبط بالأرض من إنتاج رعوي سائد، له أهميته القصوى - من حيث هذا الارتباط- في هذا النص الروائي. فضلاً عن مسارب إلى أحوال اجتماعية أخرى تدور في فلك المراكز الأساسية المتعلقة بقضية الأرض.(1/83)
مع الإشارة إلى أن ثمة مجالاً في الرواية لدراسة أخرى ذات أهداف مختلفة، ترصد مظاهر الحياة الاجتماعية في القرية خارج البنية الروائية، من نواحي اللباس والانتماء القبلي والطبقي، والمهور، والأمثلة الشعبية، وإيقاع الحياة اليومية، ونظرة القرية إلى المدينة، وسلطة الزوج أو الأب ومستوياتهما، وأشكال توزيع العمل في العائلة، والقوى المهيمنة في القرية وانتماءاتهما وصراعاتهما القبلية ومدى تأثيرها، وأسلوب البيع والشراء، إلى غير ذلك مما ورد على الهامش الضيق من المشكل المركزي أو في إطار سرد الصخرة العام.
"الصخرة قرية يتجاوز عدد سكانها المائتين وخمسين رجالاً ونساء وأطفالاً، جميعهم من عرب الدليم، كانوا بدواً رحلاً ثم تحضروا بالتدريج وأخيراً وزعت الدولة عليهم الأراضي التي أخذت من الإقطاعيين في عملية الإصلاح الزراعي ص104". لكنهم: "أهملوا التفكير بالأرض لأنهم لايعبؤون إلا بتربية المواشي، بدافع عاداتهم البدوية المتوارثة ص104" وهم: "ينتظرون من السماء أن تمطر، وإن أمحلت هلكوا، وهلكت مواشيهم كما يحصل هذا العام ص105".
فما معطيات هذا الواقع في بنية التراكم الكمي؟...
ثمة مراكز في المسألة الفلاحية هنا، نَحَّت مواقف معينة بتأثيرات متباينة.
*مركز: محمد الجاسم وسميح الندار (المزارع).(1/84)
على أثر البلاء الذي أصاب الصخرة، فأدى إلى يبس الزرع وانعدام الكلأ، وتساقط المواشي، وما قد يجرّ على السكان الفلاحين من الخسائر ويترك انعكاسات سيئة على مجمل حياتهم وعلاقاتهم،... "جاء مزارع من القامشلي، يعرض عليهم أن يؤجروه أراضيهم مقابل مبالغ يرونها كبيرة ص105" فيجد له وكيلاً: محمد الجاسم يفاوض باسمه ويشهر مشاريعه وخططه ويغري الفلاحين بأن يوقعّوا عقوداً معه ليحقق توقه إلى الزعامة المطلقة" محمد الجاسم مقامه يعلو، في الصخرة في قرى الدليم الثماني، فوق المصائب فوق القحط ص19" تلك التي تيسر له الجاه، والمال، وتصفية الحسابات مع مراكز أخرى أو لجعلها تعمل لحسابه في خبث ولين وحنكة. إلى جانب مايلحقه من "إنقاذ" حالته المتضررة. وقد سخَّر في فلكه من يسهل له الأمور (فايد العقل - حواس الزير..). فالعملية استغلال مفضوح: "سينشئ المزارع محركاً، ويحوّل من يريد العمل لديه إلى مجرد أجير عنده، مبتلعاً خيرات أراضيهم، ومن لايريد العمل معتمداً على أجرة أرضه إلى مجرد عاطل لانفع فيه، وقد اختار هذا المزارع في خبث رجلاً في الخامسة والأربعين يسمى محمد الجاسم ص105".
ومع ذلك فقد اتخذ الفلاحون (حيثما وردت كلمة - الفلاحين- في الدراسة، يعني بها - الرعاة أيضاً لتداخل عملهم في الرواية) مواقف مختلفة تجاه هذا المركز وغيره من المراكز التي تتغاير أساليبها لكن تندرج في صف قوى الاستغلال والغبن إلا نادراً.
*موقف التأييد والمعارضة:(1/85)
أخذه على عاتقه بوضوح، "حواس الزير"، الذي كان ينعت المعارضين لتأجير أراضيهم بـ "بالأغبياء ص10" وهو لايفتقر إلى مسوغ تواكلي مهزوم: "إن خانتنا الأغنام، نحتمي بالأرض نؤجرها ونستريح ص98". تصرخ أمه: "آه ياثرثار المضافات ص98" وتضرب يداً بيد. أمه لم تخطيء. لسانه هنا تدعيم وإرضاء وإعلان لما يبشر به محمد الجاسم: "أجره أرضك، وضع نقودك في جيبك.. واترك الشقا على من بقا ص11" أما (فايد العقل) الذي كان يجوس بين الدور ويدعو الفلاحين إلى "فنجان قهوة" في المضافة بدأب وقحة، فليس لديه مايخسره سوى نفسه التي تقف مع الظلم والمكر والاستغلال وقد كاد يخسرها. "فايد العقل لا شأن له بشيء. الحكومة لم تعطه أرضاً، إنه كان مكتوماً أثناء التوزيع. ليس لديه مواشٍ يبكي عليها؛ بلغ الثامنة والعشرين، ولم يستطع أن يتزوج، لأن الآباء يتكالبون على بناتهم ص92"، وعده محمد الجاسم أن يدبِّر له عملاً في مشروع المزرعة الجديدة، وهو يأمل.
ثمة أيضاً "آل الجرو"، فعندما كان "المعلم نذير" يحاول إقناع "سليمان الجرو" حتى لايتعاقد مع المزارع قال له: "لماذا لا آخذ ألفين وخمسمائة ليرة، أصرف منها كما أشاء، وأجلس خلف قهوتي كالأمير".(1/86)
وهكذا، كلما ازدادت الأرض قحطاً، والسماء قفراً تقوَّى هذا الموقف وأغتنم الفرص لنصب "فخاخه" التي يقع الفلاحون بها دون أن يدركوا "لعبة" سرقة أراضيهم في آخر المطاف. هذا "المركز" كبقية "المراكز" في بنية التراكم يحيا بتضرر الناس واستلاب الفلاحين، وتتكثف "قيمته" وتمتد كلما ارتفع "أنين المواشي الجائعة.. يمزق أوتار القلوب مستجلباً أشباح الكرب والكآبة ص23". حتى سقوط نعاج محمد الجاسم نفسه، تغدو شعاراً مناسباً: "أحمق ابن أحمق من لايعرف قيمة المزارع ص18" وبالطبع، فلاحون كثر ينجرفون في هذا التيار مع ريح الإغراء وضغط الحاجة حين يكون - الجهل- سائداً والبديل لايفكر أو لايريد أن يفكر به أحد بالإضافة إلى روح الخذلان وتفسخ نظام الإنتاج القائم الذي لم يمسّه التحويل الاشتراكي في الجوهر، وإلى وقوع الفلاحين تحت هيمنة مراكز في غاية الخطورة والحذق سيأتي سردها مع بقية الأبنية المتهالكة في "المسألة الفلاحية".
*موقف منجرف على الرغم منه:
هذا الموقف ليس معاضداً، ولا مقتنعاً، ولاداعية، ولاتمتد يده في لهفة إلى المزارع ليقبض النقود دون أن يعلم أو لايعبأ بما تجني هذه اليد. إنه لايصمد للمصائب طويلاً، و "ما باليد حيلة". ثم ينجرف مرغماً، مسلوب الاختيار. يمثل هذا الموقف: "عائلة الدلفي" التي نقرأ ابنها الأكبر (محمداً) يخاطب ابنه (دهاماً) "اذهب يادهام وأجّره مايريد من قيعان أخرى" فيحكي عن حاله وهو ينهض: "كأنني، أمضي إلى قطع رأسي ص31- 32".
*موقف متردد:
هذا الموقف تكتنفه كل الأسباب السابقة التي تدفع به إلى التهالك، وإلى الحد الذي يصل فيه منتظراً إشارة تشجيع للتعاقد. بخاصة عندما لم ينفع معهم صدق الوعي غير المدعوم والمتمثل بالحلول من قبل (دحّام، والمعلم نذير)، وعندما لم يقعوا مباشرة تحت سطوة "مركز" - المختار (حسين الشريف).
*موقف الرفض واللامبالاة:(1/87)
يمارس موقف اللامبالاة "فالح المطلق" لأنه "الوحيد في الصخرة الذي يزرع القطن، وعلف المواشي لأنه يملك محركاً زراعياً ص34". لايدخل، بالتالي، في أفلاك المراكز: "لاينخرط في الأحلاف المحلية سواء تأججت الخلافات أم كانت الأحوال عادية ص33" ويقول عن "فاطمة الضحى": "هي مكانها وأنا مكاني ص35". إذن هو مكتف بذاته، ولا يرغب في صراع ضد أحد، وإذا ماطلب بعض العلف من المختار فإنه يترفق ولايلح في عنف كأنما لايخفي استقلاليته.. وعدم الاستعداد لأي تعهد كان، أو ثمن: "أما هداك اللّه، وتعطينا كيسين آخرين؟ ص46".
أما موقف الرفض فدوافعه ليست واحدة.
آل الدليمي، يرأسهم محمد سعيد الدليمي: "لايؤثر عنه أنه دخل مضافة أحد إلا في حالات نادرة ص81"، يتصفون بالعناد والشراسة. وكثيرون يحبون "رجولة" محمد سعيد هذا، واستهتاره بكل كبيرة. على ذلك نجد أن (عليَّة زوجة محمود الدليمي) تخبر (فايداً) الذي أقبل ليدعو أحداً من آل الدليمي ليشرب القهوة عند محمد الجاسم: "إذا شئت أن يصبح رأسك كرأس حمارة ابن معتوق أدخل وقل له ص79" ومن المتوقع أن تكون علاقة هذا الموقف مع مراكز الصخرة، تتصف بالمكابرة والمنافسة والتهديد بالعنف: (عراقة في الأصل. غنى. صلابة). فالمختار وآل الشريف لايطيقون آل الدليمي الذين أخذوا أكثر مما يستحقون من بذور القطن المكسر. كما أن "فاطمة الضحى" تتحاشى (محمد سعيد) وحده من دون سائر الدليم، ذاك الذي نقلوا على لسانه: "مجنونة بنت مجنونة ص81" وهي التي تكاد تُرْهب الجميع.(1/88)
ودوافع الرفض لآل النمر الذين لم يتعاقدوا مع المزارع، تتبدى في اتخاذ (عايد النمر) أكبرهم، سبيل (الحياد من الخصومات الدائرة في الصخرة ص84" وقد عجز محمد الجاسم عن - استجلابه لكن موقف الحياد هنا لايشبه موقف الحياد- اللامبالاة عند فالح المطلق. من حيث "الغنى" أولاً و "الانشغال" بالمأساة ثانياً: "كأن رأسه يضرب في الجهات الأربع، يصطدم بالجدران"، لكن مع هذا ثمة "تصبر" مرجعه الاستسلام إلى القدر: "الرزق من اللّه يعطيه عندما يريد ويأخذه عندما يريد ص72" يرفض "العويل". فضلاً عن تسرب "التردد" في لحظات الانفعال الشديد في أن يفعل كما يفعل الآخرون على الرغم من أنه كان يزمجر في وجه - فايد العقل- أما مراكز القوى فلا قدرة لها عليه في تغيير موقفه الرافض الذي يظل متماسكاً متوازناً مع ماينطوي عليه من - قلق- أحياناً. بينما نجد المختار يكشف حقيقة "فالح" بقوله: "كل هذه المصائب لاتحرّك شعرة في لحيتك ص10".
أما موقف الرفض من قبل (طلاع السايب)، فلأن بيت السايب مرتبط بولاء مركز فاطمة الضحى: "أفهمني لماذا رفض طلاع السايب، وكل بيت السايب أن يوقّعوا عقوداً مع المزارع ص17" هكذا خاطب حواس (محمد الجاسم). لكن لابد أن يصيب هذا الموقف "اللين" بعد أن "لانت" فاطمة الضحى للهدايا.
آل العلي أيضاً رفضوا التعاقد مع المزارع بإشارة من "مركز" المختار، لأنهم لايحركون ساكناً إلا بوحي منه.
*مركز المختار: حسين الشريف:(1/89)
آل الشريف يقفون على رأس "السلم الاجتماعي القبلي" يفخرون جميعاً بأنّ جدهم "صويلح" كان زعيم الدليم المطلق قبل "عسكر الدليم" الجد، والآن يتطلعون إلى إعادة مجدهم بشخص حسين الشريف الصلب ص49". تحرك مركز المختار في مثل هذا المناخ المتعفّن السلطوي، المطارد المحاصر، والقائم من ضمن مايقوم به على ترسيخ أيديولوجية إقطاعية عقارية عائلية. تركت لأعماق المختار سانحة كي تتوهج في ظروف المعطيات الجديدة في القرية شوقاً إلى إعادة مجد الأسرة: "عُيّن مختاراً للصخرة منذ أمد طويل ص55" والآن يفيض بالآمال الكبار في التحكم والجاه بين رجالات الدليم. يلجأ الفلاحون إليه. يمدون أياديهم أيضاً إلى "مركز" يضمن لهم علفاً من بذور القطن المكسر، "ولو أنه قليل لكنه أسعفنا" و "الكحل خير من العمى ص10". وهنا تظهر فئات. فئة لاتدخل في صراع الأحلاف كما مر سابقاً؟ لاتبرم عقود إيجار مع المزارع عن طريق محمد الجاسم، وترضى بما يقدمه لها المختار من حصة منقوصة دون مقايضات من أي نوع. آل النمر يملكون أربعمائة رأس من الغنم، أعطاهم المختار أربعة أكياس فقط. يقول "رافد النمر" "ولكنه أعطى غيرنا أكثر منا ص73" فيجيبه الأب: "ما الفائدة من الكلام ص73". وهكذا يغدو "الصمت المنفصل" وسيلة لتسويغ الوضع القائم والتصريح بشرعيته المزيفة. ثم فئة تعتمد على المختار وتواليه أو تدفع ثمناً ما فتحصل على ماتريد من العلف. منهم آل العلي: "قطيعهم يبلغ ثلاثمائة رأس.. أعطاهم المختار ثلاثة أكياس من بذور القطن علناً.. وفي هدأة إحدى الليالي السالفة القريبة أعطاهم كيسين آخرين ص82" ومنهم آل الخلف لهم مئتا رأس من الغنم. أعطاهم كيسين من العلف "ذهب إليه حسين متودداً متوسلاً ليزيدها دون فائدة و.... ينسل إليه عماش، ولا أحد يعرف ماذا قال له.. يظفر بكيسين آخرين ص90"..(1/90)
"عماش الخلف" لايتهرب من "محمد الجاسم" رغبة في تحالفه مع المختار والانتساب إلى بطانته، أو رفضاً لمشروعه، وإلا لما احتاج أن يتوسل أو يدفع ثمناً ما، لكن "المكان الذي اختاروه لإنشاء المحرك.. تحيط به أرضنا من جهتين ص90" وهو "ابن حرام أكثر منه ص90" ينتأ في هذا الموقف. تبادل المنافع، وحذق الألاعيب، وخاصة العلاقات التي لايهمها إلا ماتحرز ، دون أن يشغلها مايجري على أرض الواقع من تآمر واستغلال لمصير الآخرين الذي يشتمل على مصيره هو في نهاية التحليل. ثم فئة تعاقدت مع المزارع فلم تنل إلا نصف مايعطيه للفئة السابقة "لماذا إذاً لايعطي الذين تعاقدوا مع المزارع من العلف الذي جاء به من عند الحكومة إلا بمعدل نصف مايعطي جماعته، وأقل أيضاً؟. ص20". منهم آل الدلفي. يقول عبد العزيز بن دهام الدلفي للمختار: "كيف تعطي الآخرين كيساً عن كل مائة رأس، ونحن؟" يقول محمد الدلفي عنه: "حسين الشريف لايستحي، لايخجل ص29" ويكتفي هذا الموقف بالتجديف، وبـ "نحن لانحب المشاكل" على مستوى الواقع ككل. ثم فئة تضاهي عائلة الشريف قوة وشأناً وتتصف بالمواجهة والشراسة والتخريب فيحسب حسابهم إلى جانب قدرتهم على تحمل المصيبة بمكابرة، لكن بالتأكيد لن تستمر هذه - القدرة- مادامت تظل في حيز المكابرة أولاً كحل تظاهري، وكمواجهة فردية لاتأخذ بوعي "السنة الصعبة"، وبالتعاون لتذليلها وإلغاء تكرارها بانقلاب البنيات الإنتاجية وتغييرها، بل تأخذ بمواقف "الاستشهاد" العظيمة التي تتناسب مع ادعاءات أصالة خاوية ينقصها وعي التعامل مع الحياة الجديدة؛ إذن تحت ضغط مشاعر "المنافسة" يعدون المختار من ألد أعدائهم في الباطن، و "علاقته بهم ليست حسنة في الظاهر ص77" أما ماحصلوه بشرهم فلا يعرف عدّه.
*مركز الحكومة:(1/91)
في بنية التراكم يطفو جانب من مركز الحكومة، يتمثل في البيروقراطية، والانتهازية، ولصوصية الشعارات، وارتجالية التحويل الاشتراكي ومسه مساً شكلياً لهياكل المسألة الفلاحية المطروحة وفي قوى جشعة تستغل كل الظروف وتتعاون مع مراكز "الصخرة" بثمن مناسب.
مادور هذا الجانب في عملية محمد الجاسم و "سميح الندار"؟
يقول محمد الجاسم "لكن السيد سميح ليس مزارعاً فقط. السيد سميح طلبه لايخيب عند الحكومة فوق". ويضيف حواس: "في عينيه، قوة رجال الحكومة ص10" إذن ثمة علاقة حكومية مشبوهة تدعم المشروع أو على الأقل تحمي موقفه الاستغلالي إذا ماتعرض للإدانة أو تقوي تحركه الابتزازي لضمان مساندة قائمة دائماً بقيام انتفاعات متشاركة مستمرة. ولايعقل لمثل هذا المرابي الخبيث أن يخاطر بعدم توافر هذه - العلاقة- ، التي بدا أن لها - دعامات- قوية في كل الدوائر، بُمكنتها أن تحاصر مصائر المتفهمين المعاندين لـ "اللعبة" غير المنطقية وأن ترفع بها إلى مدارك الفرح والفائدة إذ يعرفون "الأصول" فلا يحملون السلم بالعرض، وتبقى الأرض مسطحة. وبهذه العلاقة كان تهديد المعلم "نذير" قال أبو الجاسم: إذا كان الأستاذ لايحب أن ينقل فيعلمني حتى أطلب من السيد سميح الندار لأنه قادر على منع النقل بما له من صلات عند الحكومة ص107". ومرة أخرى ضيق عينيه: "صدقني أنه قادر على نقلك ص113".(1/92)
وكصورة مماثلة ساقتها الرواية، انعسكت مثل هذه العلاقة في مرآة - الوضع- بقوة، حيث نعدها (إسقاطاً) (على شبكة واحدة)، فيها دلالة على الانتشار وتفشي ماقد يصيب كل شعار اشتراكي من برود، وتهاون، ثم طقوس مصلحية على مستوى الممارسة، حين يسود التكالب على منافع ذاتية تيسرها مواقع السلطة.. ففي فندق في القامشلي، التقى المعلم نذير بزميل سأله عن "رأسه" الذي دبره وعن زراعة القطن والقمح في القرية، ولما كان رأس نذير غير مدبر، وفارغاً وغفلاً (وماشئت من نعوت تسقط مثل الحجارة على رأس من لايدبر نفسه، تفرزها بنية الاستغلال بشعار وبغير شعار في مجتمعنا العربي اليوم) ضحك الزميل ضحكة لها معنى ثم قطب سائلاً: "أنت اشتراكي؟ "ولما أجابه نذير بـ "نعم" ذات مرارة في جهة من سياق الواقع، قال الزميل: "كثير من أقطاب الاشتراكية هنا يشاركون المزارعين ويدبرون رؤوسهم" وكان على نذير أن يرد التهمة التي أرادها الزميل كمعطيات من الوضع الاشتراكي لابد من أن تكون منسحبة على أيديولوجية المبدأ: "ككل": "هؤلاء أقطاب الانتهازية واللصوصية" ص116- 117.(1/93)
وفي ذلك الجانب من مركز الحكومة، الذي يعزل أبعاداً من البيروقراطية وغيرها، تطرح تجربة دحام المرة وهو يجهد من أجل عمل في أية شركة، فبعد معطيات الإحباط والخيبة التي ظلت تنهره على المستوى الشخصي (لا أرض، لازوجة، لا استقرار، لامال، لاأمل لديه...) وعلى المستوى البيئي حيث يشقيه ماوصل إليه الفلاحون من قهر بتأثير قوى مراكز تمتص عقولهم وأحوالهم حتى الموت دون أن يعانوا من استلابهم إلا ضمن شبكة تآمر هذه القوى التي أحكمت إطباقها على تشكيلاتهم المثقلة بالأدران، فبعد المعطيات هاته، يحاول دحّام أن يتملص من نفسه وواقعه إلى عمل في المدينة، لكن صبره نفد وصاحبه يقول له: "لاتضجر!، لابد من الروتين و.. ص126" وأحس أنّه متسول لا طالب عمل، وأنه عاجز عن فهم "إجراءات!" هذا المركز؛ تعيين عامل يحتاج إلى كل هذا العذاب وعندئذ يطلق صرخة ضد كل قوى الانحطاط وما تنتجه في عالمه، كبيان مختصر حي: "الحياة من كل وجوهها شقاء ص126". حياته قاتمة لأنه لايريد أن يرتهن، أن يسكن ويثرثر فقط، أن يكون لعبة في دائرة الانحطاط الملعونة، ألا يقر بعياء روحي وطموحي نهائي غير متجاوز، لو أراد كل ذلك لوجد "العمل"، "قال السيد سميح الندّار إذا كان دحام العسكر يريد أن يعمل في الجبسة أو الرميلان بجدّ أنا أجعله يلتحق بالعمل منذ الغد، وإذا كان يريد البقاء في الصخرة فأنا مهّيء له عملاً لايفرح به أحد من كل الدليم، مارأيك أبا عسكر ص172؟ بهذا الكلام يستوقفه محمد الجاسم، يحتج ويتابع طريقه، فخيوط المزارع وحباله المتصلة بمركز الحكومة في شبكة الانحطاط أطول مما يحسب في العادة.(1/94)
ويمكن أن ندرج في البنية التراكمية المتمثلة، هنا، في مايفضي إلى هاته الشبكة من مركز الحكومة، "تصرف" مدير التربية غير الجدي، وإن ظل (موقفه) تجاه مايحاك ضد المعلم غير "مدان" على وجه الإجمال كما سيأتي. إذ نجده بعد أن يشرح نذير بالتفصيل كل شيء، يقول له مداعباً: "أحياناً لابدّ أن تكون الأرض مسطحة" فالعبارة هنا جاءت في سياق القنوط الذي بدأ يحسّ به المعلم، قوتّه أكثر، لأنها تحذير مفهوم من تحدي "المشاعر الاجتماعية ص118" التي تعني مراكز القرية الرجعية والمظلمة، ومن إثارة "القلاقل والمشاكل" التي تعني إلغاء - الفعل- في هذا المجتمع القديم. بدلاً من أن يتخذ من موقعه المؤثر والمسؤول أكثر، بحماسة ووضوح وحسم، ممارسات تثبت وتشجع الحركة المضادة التي يعتبر المعلم أحد المؤثرين فيها ودعامة منتجيها دون انسحاب من "القضية" وكأنها لا تعني مجالهما معاً. فضلاً عن إمكانية كتابة "تقرير" عن المسألة الفلاحية في القرية إلى الجهات المعنية، ودعم موقف المعلم نذير عند الحاجة، ومساندته، لأنهما يمثلان دفعاً ثورياً يجب ألا يداخله "التفتيت" و "المسايرة" و "التقهقر" لحسابات ليست من الممارسة الثورية وبناء الاشتراكية الذي لايؤسس على الانسحاب والتناقض بين النظر والعمل من أجل المصير. والظاهر أن مدير التربية واقع تحت ضغط الشبكة ويعاني من "نقطة الضعف" التي تمت بصلة إلى "نقطة الضعف" لدى المعلم نذير الذي يخاف النقل والتشتت وتسويد الصفحات التي يقدر عليها القادرون وأخذ يخلف الآن أيضاً "الفراغ" الذي يمكن أن يتكئ عليه من الخارج. على الأقل في لحظات معينة وفترات بالنسبة إلى حالته ذات الذبذبات النفسية الإشكالية.(1/95)
كما أن الشرطي أبا فايز ينسحب هذا التناقض على جانب من موقفه الذي ينطوي على الإذعان، والاستسلام لسيسولوجية الوقائع المعاشية وأيديولوجية المراكز التي تحترف الكهانة والتضليل والاستغلال على الرغم من أنه يرفضها على مستوى النظر، مما يسلبه دوره كعامل تطهيري مهم في التحويل الاشتراكي الذي يدعم البنى الحية العاملة في صفوف التعاون والوعي وغرز أسس جديدة اشتراكية في الإنتاج والارتباط بالأرض وإعادة تقييم الموروث من المسلمات والممارسات والقيم، لا ككابح للطاقات حين يأخذ دور "المتفرج" أو "القانط" من أي أمل في التغيير لأنهم، في رأيه، يحتاجون إلى "صبر الجبال ص109" يسخر من "الحماسة" ويتبنى "الارتدادية" في الممارسة: "لو خضت قليلاً في المشاكل لانثنيت عنها مباشرة "فيبقى حائراً حيرة تميل إلى الاستسلام، وتجاهل حقيقة أن الأرض كروية فعلاً ولم تكف عن "الدوران" من خلال صراع تاريخي حتمي. وأن الممارسة وحدها هي التي تضع صحة "الأفكار" على المحك، هذه الممارسة التي يجب أن تستمر دون هوادة، لتفضي إلى - معرفة- جديرة متحركة دائماً إلى أعلى، منهما يخرج بناء نظام جديد.
ثم ما الدور الذي لعبه هذا الجانب من مركز الحكومة في ممارسة المختار؟
*دور المختار:(1/96)
المختار يريد أن يجمع الحبال كلها في يده من خلال مايقدر على استغلاله والتصرف به و "الأمل بعد اللّه بالحكومة ص15" أية حكومة؟، بالطبع تلك التي يمثلها، ويوزع باسمها العلف للمواشي! لايخفي ذلك على فالح المطلق فيدغدغ قصده في التباهي كمركز يحيي ويميت "هذا حق، أنت رجل الصخرة وعقيدها" والغريب أنه في عهد اشتراكي، تُسلم عشرات الأكياس أو مئاتها إلى رجل واحد، يشغل مكاناً تقليدياً في استغلاله وتحالفه مع العقاريين والإقطاعيين ضد جموع الفلاحين الفقراء والمسخرين، دون أن تتشكل أية لجنة تشترك معه في الإشراف لأمانة التوزيع وعدله. كما أن دافع مصلحته في هذا المأرب، جرّه إلى أن يدين نفسه ويدين الجانب الحكومي المتحالف معه، حين كان يصرح بأحوال الدليم التسعة، ويسعى بإغراء الحكومة بالزيادة في العطاء، سيقول: "هذا الذي أعطيتمونا إياه من بذار القطن المكسر لايكفي ص48" وكيف يكفي، وهو يوزع بمزاجية في أوقات متباعدة، ونتيجة مقايضات وتأثيرات متنوعة، ولأهداف شخصية لم تقرر هذه المخصصات، أصلاً، من أجلها وذلك قبل أن تصل إلى أيد انتهازية في جانب من مركز حكومي ينتظر مثل هذه - المواسم- ، ولايعدم قوى في القرى المتضررة تتبادل معه المنافع مازالت مهيمنة بشكل أو بآخر.(1/97)
فسعي المختار الدؤوب وهو يحث أبرز رجالات الدليم من أجل طرق أبواب المسؤولين ليس بدوافع إنسانية ومسؤولية، وإلا لما - ضحك- "على الناس ببذور القطن المكسر التي يأتي بها من عند الحكومة ص20" (حواس من مركز معاد للمختار، ولكن من أين تُستقى الحقيقة أو بعضها إذا لم تتلمس من هذا المركز المعادي!)، ولما ظهرت حقيقته على سيمائه تحت لفح ضوء المصباح الكاشف بعد سقوط المطر واستغناء الناس عن خدماته!، تلك الحقيقة التي تنم عن "قهر عميق ص149" لايخفى على أخويه. يقول "جندل" هامساً في أذن "مجدول": "ماذا يضرهم أن يؤتى لهم بالعلف ولو أن السماء أمطرت؟ أليس زيادة الخير خيراً؟، لكن هذه (التعزية) للمختار بعد أن قدم "فرح المطر"، كان "مجدول" يعرف بطلانها في بريق عيني أخيه الأكبر، كما فهم من حوله أسباب "انكباحه" وهو يشهد استنكار الناس لبذور القطن المكسر بعد أن دخلوا في حبال (الشبكة) التي كادت تخنقهم بلا شفقة.. "لا أحد ممن حوله يجرؤ على التنفس من فمه ص168، ثم كيف يكفي بذر القطن مادامت مبادرة الحكومة تأخذ شكل (الإحسان) فقط!.
*أصوات الفلاحين:
وفي بنية التراكم ينضوي تحت هذا الجانب من مركز الحكومة، كل أصوات الفلاحين الذين يعتبرون عمل الحكومة بالطريقة التي يوزع بها المختار العلف، عملاً أو حلاً للبلاء، وهم متواكلون، لايبادرون شيئاً لأنفسهم ولايستجيبون لبعض أصوات الوعي التي تحتاج إلى مؤازرتهم. فالكحل ليس أحسن من العمى، بل في وضعهم يؤدي حتماً إلى العمى.
*مركز الشعوذة الدينية والخرافة: فاطمة الضحى
... وأعلنت "فاطمة الضحى" لدليم الصخرة، والدليم قاطبة أن أخاها وشيخها المجلل "سينقذان الصخرة من ويلاتها ص11".... "ينزلان المطر،
ينبتان العشب، ينعشان الأغنام ص11 " يقول" طلاع السايب" صفيّها وحامل أسرارها ورسولها إلى قرى الدليم المجاورة: "أهل، والله أهل ص11".(1/98)
فاطمة الضحى ماكرة، مركزها قوي جداً، المراكز الأخرى تستمد منها القوة، تتحاشاها أو تدفع ثمن "رضاها" حتى تمرر خططها وتسعى إلى أحلامها. ونتيجة لتعثر أية تحولات اجتماعية وثقافية عامة، جوهرية في الأساس، فإن هذا المركز يمارس "سيطرة" فائقة وعريضة بحيث يشكل "مصدر رعب" داخل مجتمع لم يعقلن بعد. يؤمن بالسحر والشعوذة، ويتوسل إليهما، بها، لتخليصه من أزماته بأنواعها. "فالح المطلق" "له عصا شهيرة يتوكأ عليها بدافع العادة، في منتصفها خيط صوفي أسود يقال إن فاطمة الضحى هي التي أعدته وربطته" .. و"عمشة" "أتنسى فضل فاطمة الضحى؟ في ظهرك يا سالف - قالت فاطمة الضحى- فجوة من الداخل. أنت لا يعيش لك أولاد، وإن تزوجت امرأة أخرى جلبت النحس والدمار لنفسك ص40" تضع عمشة كدسة من الليرات في يدها. في رأسها صورة من قوة الشخصية، والحيلة، والضمير الأسود، وحب المال والهدايا، ومجموعة من ملوك الجان خلفهم شياطينهم يأتمرون جميعاً بأوامرها، والمعرفة الدقيقة بأسرار البيوت. تلك الصورة راسخة أيضاً في جل الرؤوس وإن اختلفت نسب نعوتها منفردة ومجتمعة، لكن الجميع متفق على أنها "ماكرة" إذا ما استثيرت فإنها تحرق كالنار ذات لسع لا يرحم.(1/99)
الخوف يملي عليهم أن يتحاشوها. آل الدلفي يعضدون (دحاماً العسكر) في كل شيء. أما عندما يحدثهم في أمرها، فإنهم يصمّون آذانهم: "نحن لا نحب المشاكل ص26" والفلاحون، النسوة على الخصوص، صدقوا عندما اختفى دحام العسكر من القرية للبحث عن عمل، بأنها شردته ونفذت تهديدها، ريّحت الصخرة والدليم منه، وأنها ستفنيه" على يد واحد من شياطينها.. يتابعه أينما ذهب ص55" ومع أنه رجع بعد إخفاقه، ولم يمحق ولم تمح آثاره من على الأرض، إلا أن (خبصة بنت سالم الجرو) الواقعة تحت تأثير كوامن اعتقادية مطلقة بما تقدر أن تقوم به فاطمة الضحى وبالطريقة التي تهدد بها، تقول بلسان هذه الكوامن التي تخنق الرؤية وتشوه الواقع: "كأن عينيه في غير محجريه. كأن أحداً بسم الله الرحمن الرحيم حل به ص 137". وهكذا تراه أيضاً: (هدلة زوجة ذوقان العقل) وغيرها كثيرات، أو يصدقن بلا توان ما يقال، ويشتركن بالأحزان. فلا غرابة، إذن، أن تستغل فاطمة الضحى مركزها في الابتزاز المادي والمعنوي، وأن تبالغ في التهديد بقدراتها، وأن ترسخ (توجيههم الغيبي)، وهي على ارتباط وتنقيب واستقصاء مستمر لكل ما يجري حولها. شمّة زوجة فالح المطلق الثانية تمدّ لفاطمة الضحى عشر ليرات، تتنشق دموعها: "استري عليّ كرامة لأخيك وشيخك". تعرف بأنها - تعلم- كل شيء، لقاءها مع (محمد العلي) في غرفة المحرك المقفلة. الاستنطاق يضع فاطمة الضحى على حقيقتين "ذيبة بنت سلاف المطلق" تعرف بالأمر، دحام العسكر عدوها اللدود متورط مع حمدية ص39. تشحذ أسلحة جديدة تفيض بالقوة تمشي بين الناس بالسحر وادعاءات جبروته، تمزق (أوصالاً) وتضم (أوصالاً) وفي الحالين تدرك كيف تضع يدها على الأقفال، وتقطع الألسن، وتدفع الآخرين على أن يتلطفوها بالمال والهدايا والولاءات. وثمة اعتقاد سائد ثبته مركزها من خلال بنية التراكم التي كوّنها التأثر العام بالقحط والجوع، وهو قدرة فاطمة الضحى في أن تنعش كل شيء..(1/100)
آل السايب "أملهم بأن زرعهم سينتعش مصدره فاطمة الضحى التي منحتهم بعض الرماد، وطلبت منهم أن يرشوه على حوافي الزرع ص66" تلجأ إلى التمثيل المجسد لقواها الغيبية التي تشير عليها بسلوك سبل معينة، وتمسرح الفكر الخرافي المخدر لوعيهم والمدعم بانحساراتهم في جو محبوك يغشي البصر "فاطمة الضحى تقفز إلى عينيه (فايد) وقفت ترتجف بين الناس، تناشد شيخها، ترغي، تزبد، تترع القلوب رهبة. مشت شمالاً تعد خطواتها، جنوباً، شرقاً، غرباً.... هنا، أي والله هنا، أي والله هنا مقام الشيخ ص 93" الذي ستحل بركته على القرية، وعلى بقية قرى الدليم، فلا يصيبهم مكروه إلا وجدوا حله عند أعتاب هذا المقام الذي سيكون له طقوس غفرانه تصوغها سرحة خيالاتها التضليلية: "ترى قرى الدليم الثماني، كل قرية يمثلها أبرز رجالها، وشبانها، وشاباتها، ونسائها العجائز؛ الخيم ترتفع على نسق، محيطه بمقام الشيخ المجلل بالحجارة، القدور تطبخ الذبائح، الشيوخ من رجال الدليم يتصدرون المجالس، يمسدون لحاهم، يشربون قهوتهم المرة معتدين، الشبان ينهمكون بسباق الخيل، سباق الحمير، رمي الحجر، الدبكة، الرقص، المقام يبنى عالياً، الجميع يطأطئون لفاطمة الضحى كل شهر تقام فرجتها الكبرى، أعراس الدليم كافة، أفراحهم لا تقام إلا أيام الفرجة ص154" وليس عجباً أن يقف "الدين المدجن" إلى جانب المشعوذة متمثلاً بالشيخ محمد الحلبي الذي يكثف خيوط الدجل في عيون الفلاحين بدلاً من أن يمزقها كما فعل زميل له. ذلك لأن بينهما "اتصالات خفية. وهدايا ص110".
وهكذا مارس هذا المركز سلطانه، بلعب بشَرِّيَّة وخداع بمصير الأفراد (فاطمة الضحى تسببت بموت الطفل) وبمصائر الجماعات حين تكسح فيهم قوى العمل والمبادرة والوعي، وتخمدهم تحت كابوسها متواكلين، مضللين، ينتجون بخيالهم الذي تبتدعه وترسمه لهم، في الوقت الذي تميد بهم الأرض. وبذلك تحقق حضورها، وتمتن بناءه، وتزيد من مكتسبات أحلامها المفسدة.(1/101)
* مركز خارجي: المناخ الكاسد:
هذا المركز الذي استدعى تحرك المراكز الأخرى السالفة بصورة قوية، وغذى استغلالها باستمرار بقائه وديمومته، وغدا مظلة تخفي وتمرر كل النوايا الكالحة والأعمال المستغلة. كما أنه أدى إلى دفع الفلاحين إلى شبكة هذه المراكز ومفرزاتها، وسمّك بنية التراكم إلى الحد الذي كان يشي بانهيار هذه - الأرضية- التي تتراكّم فوقها لكن في حدود ضيقة جداً لا تدعو للتفاؤل، بينما أعطى أو عبَّر هذا (السُّمك) عن حضور قوي، وتجذر لغاياته وأهدافه، يكاد ينفي أي - تدخل- لوقف هذا الاستنزاف الذي سيؤدي إلى ضياع الحرث والنسل، لحساب مراكز تبني خيالاتها المتضخمة على الخراب في غياب صراع قوي وغياب الوعي وإدراك المصلحة التي تخدم الجميع وتقهر أية ظروف صعبة قادمة تحل بالأرض والناس والماشية.
بضغط هذا المركز الخارجي، تتورم عاهة التواكل، التي تصيبهم بالشللية المثيرة لحركة المراكز الأخرى في هذه البنية التراكمية إذ تقوي إحساساً عاماً بأن الخلاص لابد قادم من (خارجهم). لم يكن لهم يد في أحوالهم وظواهرهم الاجتماعية ومسلماتهم الروحية والفكرية" وما تضيق به الصدور من بلاء، كما لا يكون لهم يد في أي إنجاز أو تجاوز أو حل، ما دام السبب خارجاً- عن إرادتهم. وجدوا أنفسهم بما هم عليه، ويجدون دائماً هذه الأنفس بما هي عليه وما يحيط بها من ظروف غاشمة، لا دخل لهم فيها، كما لا قدرة لهم على حلها، على نسفها، على التصارع معها وضد مسببيها وخلق ظروف جديدة تفرز واقعاً جديداً ينتفي فيه التضليل والتواكل يستجيب لضرورات الفلاحين المسحوقين حيث يشكل مركز المناخ وتناقضاته عاملاً تدميرياً في حياتهم، في غياب أيديولوجية تقدمية راسخة تعطي وسائل الإنتاج اللازمة، وتمد الإنسان بقوى التفكير المحصنة (بكسر الصاد) من كل ما يعوق مكتسباته من التشكل والتنامي الاشتراكي.
*صراع المراكز(1/102)
في رواية الصخرة داخل بنية التراكم، نشهد صراعاً غير معلن بين هذه المراكز المذكورة من قبل لكنه صراع لا يصل إلى حد تعطيل فعالية المراكز في اتجاهاتها البشعة، بل على العكس من ذلك، يحاول جهده أن يعقد هدناً غير مباشرة ما دامت حرب مباشرة ليست موجودة أصلاً. الأمر الذي يوفر لهذه المراكز أن تشيد خططها وطموحاتها دون محاربة مكشوفة تفضح وتغلّ وتبدد القوة الموجهة بعنف إلى الحقل المنتكس الذي يضطرب فيه الفلاحون المتعبون، دون أن ينسى أبداً خصمه المراكزي ليغتنم الفرصة للانقضاض عليه والاستئثار الذاتي لمركزه هو بالسلطة والغنيمة معاً إذا تيسر له ذلك، ولم يُتخذ موقف استنهاضي يؤدي إلى التمازج والتوحد في الحقل المنتكس يصارع هذه المراكز مجتمعة برفض عملي لا مجاني، بنائي، جذري، يعمر طموحاته الموضوعية ويمشط الآثار الهجينة لهذه المراكز.
**- يقول فايد "أترى فاطمة الضحى راضية عن المزارع من كل قلبها؟ أم أنها.. "يرد محمد الجاسم في رزانة في المضافة: "فاطمة الضحى امرأة جيدة" والحقيقة أنها ليست كذلك، وهو أعرف بها من غيره، وقول فايد يدل على أن محاولة جرت لإرضائها دون التأكد من مدى فعاليتها.(1/103)
لكن (حواس) يدلل على نفي ذلك بصورة قاطعة: "أفهمني لماذا رفض طلاع السايب كل بيت السايب (يوالون فاطمة الضحى ويأتمرون بأمرها) أن يوقعوا عقوداً مع المزارع؟ ".. فيفهمه محمد الجاسم في ثقة بتهيئة الظروف المناسبة وأن شيئاً يبذل في ذلك السبيل: "سيوقعون، سيوقعون ص19" وبالفعل"فاطمة الضحى رأسها لان لنا ص21" شياطينها لا تلين بسهولة.. طلاع يمد يده إلى جيبه، يخرج ورقة بيضاء، تلف قطعاً نقدية، حملها من سميح الندار المزارع" فاطمة الضحى تتناولها، تدسها في صدرها دون أن تنظر إليها، مؤكدة لطلاع أنها تثق به، تنهض، تحمل الهدايا، تضعها بكل عناية في صندوقها الخشبي.. ص153 "بالطبع كل هذا مكسب عارض، المكسب الأقوى بالنسبة إليها، أن تقدر على ممارسة طقوسها المشعوذة دون تردد أو وجل بعد أن حصلت "المقايضة"، وهادنت رجلاً له اتصالات عريضة مع مركز الحكومة الذي يُهدِّد ويُرَغِّب به دائماً، في الوقت الذي يستفيد مركز محمد الجاسم مع مركز الحكومة من تبادل المنافع وتحقيق مآربهما في الصخرة، دون أن ينسى كل "مركزيته" و"وصايته" و"التلويح بالقوة" كلما تخلخلت شروط الهدنة لأن هدفه النهائي هو الاستغلال المطلق لصالحه وأنه وحده يملك "مفاتيح البشر".
** وهذا ما حصل تماماً في قسمة المختار الداخلة في هذه "اللعبة". منذ البداية أرسل إلى محمد الجاسم أخاه "جندلاً الشريف" لتوقيع عقد مع المزارع واستلام النقود لقاء جزء يسير من أرضه. عقد هدنة واضحة لا يستطيع مركز محمد الجاسم والمزارع رفضها. لكن الإشعار بمركزيته ظل يوحي به فعلى الرغم من أنه تعاقد هو نفسه مع المزارع، إلا أنه لم يعط من العلف للمتعاقدين معه إلا نصف ما يعطي جماعته وأقل.(1/104)
لماذا؟ يقول حوّاس: "أتعرف لماذا يعارض؟ لأنه يرفض أي خبر يأتي للصخرة عن غير طريقه ص19" لكن محمد الجاسم الخبيث يراجعه: لا، المختار رجل طيب؟ إنه يعرف أن إثارة الخلاف بينهما ليس لصالحهما معاً على الأقل في هذه المرحلة التي تحتاج إلى تثبيت دعائم المشروع بخاصة وأن المختار تظاهر بحسن نيته، لكنه يدرك ما تنطوي عليه سريرته، وأن أفكاراً دنيئة تعشّش في رأس كل منهما تجاه الآخر، تأخذ طريقها كلما حانت فرصة. المختار له نصيبه في هذا الجانب من مركز الحكومة ذي المدار المضارب أو المختفي المختلس ويبدو أن من يتراخى معه في هذا الجانب لا يريد أن يتورط أكثر مما دفع المختار إلى أن يدفع، بعد هذا التلكؤ، برجال الدليم ليطالبوا بزيادة مخصصات الدليم من العلف. ويريد أن يَرِد إليه في تظاهرة قوية فخور، وحتى إذا لم يكن هذا التراضي وارداً مع تحفظنا لملابسات الاستلام والتوزيع وغياب أية محاسبة، فإن مسلكه لا يرفع عنه الإدانة، لأن طلب المزيد من العلف، غايته الاحتفاظ بوصايته، ودعم مركزيته في ظروف حرجة تمر بها الصخرة برزت له خلالها مراكز أخرى منافسة مما يجعله يحث الخطا في سبيل ذلك ليضمن قوته في اللعبة المتصارعة كما بينت من قبل. و"سميح الندار" يدرك هواجسه تلك، يزهو وهو يرى "المصيبة المترسخة جعلت المؤيدين أكثر رسوخاً... والمترددين ينتظرون كلمة ليمدوا أيديهم للتعاقد ص156". يشعر بمركزه الموطد، يلوح بذكاء بعصا القوة وهو يمد يده للمصافحة. بعد أن اضطربت حسابات المختار، بتماطل مركز الحكومة وتدهور مركزه بنقصان العلف أو فقدانه كلياً، الشيء الذي دفعه إلى أن يصرح: "لا معنى لجفاء المختار ص175 "بيد أن المختار لا يريد أن يجاهر بالعداء التام في وقت غير مناسب ولا يريد أن يبدو بضعفه قبل أن تظهر نتيجة اتصاله مع مركز الحكومة وهو من هو! "له معارف في القامشلي، والحسكة من أصحاب الشأن في الدولة..(1/105)
والشرطة لا تؤم في الصخرة إلا مضافته ص50" واضعاً في حسابه أيضاً، الذراع الطويلة لسميح الندار في مركز الحكومة، التي قد تفوق ذراعه كما يبدو وتبز وسائله "القديمة". ألم يكن المزارع يعي كل ذلك وهو يصرح في خيلاء وفي ثقة من مركزيته: "أنا شخصياً مستعد أن أذهب إلى المختار بنفسي "وأريده أن يعرف - يجأر بصوته- أنني قادر على مساعدته، ومساعدة رجال الدليم غداً عندما يذهبون لإحضار العلف.. ص159".
*** - لا يختلف المختار مع فاطمة الضحى علناً، "يكرهها ضمناً ويصمت علناً ص111". خوفاً من قوة مركزها، لكن الصراع قائم بينهما في الخفاء، فكل من المراكز يريد أن ينفذ خططه داخل "الجفاف" وهي لها مشروعها الذي تعمل له وتود تنفيذه، حتى يكون الإنقاذ، عن طريقها وحدها، ويتعلق الناس بأعتاب مركزها وحدها وتغدو الحاكمة بأمرها المتسلطة على الناس تمتص ما تبقى من أرواحهم ومعاشهم على شكل هدايا ونذور وأضحيات." ومنذ أسابيع جمعت أهل الصخرة في الجهة الغربية، وحل بها أخوها أمام الحضور، وخاطبهم، طلب منهم أن يحترموها، ويطيعوها، وينفذوا ما تطلب منهم، ودعاهم لبناء مقام للشيخ المجلل، وهو ملك من ملوك الجان الإنسيين الذين ماتوا، وما تزال روحه ترفرف فوق الدليم. خطا وهو يحلّ بها في الجهات الأربع وحدد المكان وطلب من الناس أن يضعوا رجماً من الحجارة، فوضعوا وحثّهم على بناء مقام، واختفى ص122".
سيكون للمختار معها موقف تشفٍ وتباهٍ بمركزه بعد ذلك ص122.
مما مرّ نجد أن الفلاحين يعيشون حياتهم داخل المسألة الفلاحية، في صورةٍ مغلولة مستلبة على مستويات عدة: الروحية، والفكرية، والاجتماعية، والعملية، والتاريخية.(1/106)
تتحكم فيهم وبأرضهم مراكز قوى مختلفة، بينها صراع خفي في سباقها من أجل تحقيق كامل أهدافها، (لكن عندما تلحظ بداية سقوطها تتكاتف مجتمعة كما سنرى) وفي أثناء ذلك يقع المتضررون من الفلاحين في (طاحونة) الوصاية والولاءات الهجينة ذات الأهداف النفعية الضيقة، في ظل بنيات اجتماعية متفاوتة طبقياً وعائلياً وقبلياً وعقارياً، تتأبد فيها وسائل إنتاج وعلاقات غير اقتصادية وغير اشتراكية محجوزة بالانقسامات على المستويات المذكورة سابقاً. إنها محكومة بمراكز تستغل الواقع وتغيراته باتجاه السوء، ذات أيديولوجية إقطاعية وانتهازية تدعمها بيروقراطية المدينة وارتدادية الشعارات، وعقارية المستفيدين من تضحيل الواقع وتسطيحه.
ونجد في المسألة الفلاحية داخل الرواية، تعطيل رهيب لقوى الفلاح العقلية والروحية والسلوكية والنفسية (رفض العلم رفض الطب، الاستسلام للغيب، تدخل الخرافة والشعوذة في حياته اليومية ومصيره، التواكل، تهميش حياته، جاهزية العادات والأعراف والتقاليد وربقتها العبودية، قوقعيته داخل اهتمامات ضيقة جداً، يكاد لا يعرف شيئاً خارج قريته. المدينة بالنسبة إليه تشبه "الحلم" وتقترب من "الخيال" لا يعي ذاته، ولا أرضه، ولا عالمه، ولا القوى التي تحاول إحكام قبضتها عليه، تمزقه آلام نفسية وعاطفية كتعبير عن الضياع وعدم الفهم وانتفاء الفعل - كصوت وزان- نورة بسبب سلطة الأدب التي تود المتاجرة بها، وكثيرات مثلها بحيث نجد غلاء المهور يغطي ميراث النظرة للمرأة كسلعة، وحمدية وشمّة بسبب تعدد الأزواج والزوج المسن، فايد، بسبب طبقي، سليمة بسبب عرفي... الخ.. الخ).(1/107)
إن ارتباط الفلاحين المصلحي الضيق من جهة، واستكانتهم لضغط الظروف ومعطيات المراكز بدافع الخمول وعدم وعي مصائرهم، يعطي خلفية عدم ارتباط الفلاح بأرضه ارتباطاً وثيقاً، لا تكون بالنسبة إليه - إذ يتخلى عنها- كمن يبيع وجوده" إن خانتنا الأغنام، نحتمي بالأرض نؤجرها ونستريح" وهنا يبرز صوت التقريع- الأم قوياً متفجراً بالمرارة: "آه يا ثرثار المضافات.. تؤجر الأرض، وتضع النقود في جيبك تصرفها لأنك خامل ص98" وهناك أمثلة كثيرة مشابهة تفرز مثل هذا الصوت القميء من صوت الفلاح الحقيقي الذي يفدي بدمه وعرقه ونبضه كل ذرة فيها؟ فهل الفلاح وحده المسئول عن هذا الشعور اللامبالي والتفكير الأرعن؟ هل يعني أن فلاحنا، حقيقة، قد ملّ في أن يكون وحده دائماً عبر سياق تاريخي صراعي طويل في وجه الريح؟ أليست أيديولوجية الإنتاج الإقطاعي مازالت سائدة؟ (ثمة طلاء اشتراكي تبدّى في توزيع الأراضي المشمولة بقانون الإصلاح الزراعي كما ورد في الرواية، لكن لم تكن داخل إطار تنظيمي اشتراكي مكتمل الجوانب، يساعد على إنشاء وحدات مادية انقلابية مؤسسة على ممارسات اشتراكية في مستوى العلاقات والإنتاج).
إن قوة الضغط، المحدثة في بنية التراكم التي كانت تهب شعوراً بتدهور الأحوال نحو الأسوأ، كانت تمد جانباً من تسويغ منطق الاستسلام والسقوط.(1/108)
فثمة غياب لأيّة أرضية سياسية/ أيديولوجية مواجهة، تضمن لهم مفاهيم طبقية واعية، تؤدي إلى التجانس والتماسك فيما بينهم في تشكيلة اجتماعية متفاوتة تحبط الاستغلال خارج أية عبودية عائلية أو قبلية بائدة.(يلاحظ في الرواية بروز المشاعر العائلية كسطح بلا تعاريج يمثل مستوى واحداً، تنعدم فيه أية أفكار خاصة داخل الفكرة المتبناة السائدة، كما تنعدم فيه أية محاولات لاتخاذ مواقف لو تعددت لكان بالإمكان خلق فعالية فئة مضادة خارج الموقف العائلي الراقد الذي يتمثل عادة بسلطة كبيرة العائلة: مما يضيق بصورة عفنة أنماط الوعي) مما سهل اقتناصهم في شبكة المراكز- الأوكار، وسلب أي أمل لهم. لهذا نجد الفلاح المفرغ سياسياً/ وأيديولوجياً والذي لم تُحّلَّ "إشكاليته" بعد فيما يتعلق بضرورة (العلاقة) بين البنيات السياسية فوق، وبين بنياته الاقتصادية المعبرة عنها، والتي يجب أن تمارس إنتاجه داخلها- نجد هذا الفلاح يتعامل مع الأرض من خلال ما شرحته عن علاقته بالمراكز، وتأثير "أيديولوجيتها" فيه كلية، كتعامله مع المرأة (هذا يمثل جانباً من التعامل فقط) يتخلى عنها بقسوة حين تتوقف عن الإنجاب والتوالد أو العطاء بأي معنى.
ما هي بنية التراكم على المستوى التعبيري؟
وأنواع من السرد في بنية التراكم
** بنية مفتتة
إنها بنية مفتتة، تجميعية، غير متجانسة أحياناً، تركيبية على الأغلب، تكدّس أكثر مما تركب.(1/109)
هي سرد لشتات الواقع الناجم عن "الجفاف" يسعى إلى أن يتوجه إلى كل الصراعات، والبنى، والعلاقات داخل التشكيلات الاجتماعية من خلال سرد مرئيات مشتتة لا تمثل متابعة ما بعد الحلقة الأولى من سلسلة أفقية، بل تسعى سعياً تسجيلياً لنقل كل ما يتحرك في واقع الصخرة من أفكار وناس وحيوانات، وما هي عليه من أرض وزرائب ومنازل وسماء.. وفق نسق ليس حيادياً بمعنى العفوية، بل يحاول جهده أن تكون (عينه المفتوحة) عين آلة التصوير السارحة في أرجاء القرية، في أزقتها، وداخل مضافاتها ومن هنا تتحدد قيمة هذا الأسلوب من حيث إيصال الرؤية، وإمكاناتها على التأثير والعمل، حين نتعرف إلى مدى القدرة على هذه الإيصالية.(1/110)
يكشف السرد ذو البنية المفتتة عن محاولة إبراز "لون" معين داخل ألوان الصورة- الواقع. ليس على مستوى "صباغي" فقط حيث يأخذ سطحاً عريضاً بل على مستوى "الدلالة" باتجاه عمقي في آن يتمدد هذا اللون بشكل بقع لونية تأخذ أحجاماً مختلفة كل حجم يمثل عائلة من العائلات التي تسكن الصخرة من عرب الدليم دون أن ينسى أن يضغط اللون في هذا الحجم أو ذاك، مستعملاً عطاءات أدق التدرجات اللونية داخل اللون الواحد الذي يراد إبرازه كطابع يطبع مجتمع الصخرة كله والذي تتبع به رؤية الكاتب لواقعها. وفي آن آخر يوزع السرد أجزاء ذات ألوان متغايرة تتصل بنسب متفاوتة إلى رؤية اللون المركزي وأحياناً لا تعود تمت إليه بصلة.فإذا عددنا بنيات مجتمع الفلاحين بما هي عليه عبارة عن دوائر ذات أحجام مختلفة، لكل دائرة منها مركز أساس يدور عليه محيط الدائرة الذي يشكل أجزاء صغيرة وكبيرة، فإن للصخرة هي بالتالي دائرة كبيرة تسع فضاءها الزماني والمكاني، نضع أيدينا على مركزها الأساسي الذي عمقته الرواية منذ الأسطر الأولى، تدخلنا فيه بقوة بعربة" وزان "شاعر الصخرة وهو عائد من قرية" جب القصب" إلى قلب "الصخرة" .."الأرض ما تزال جرداء، تغطيها في بعض المناطق بقع خضراء متغلسة، تلسع القلب "هذا المركز الأساس تدور حوله بالتالي بقية مراكز الدوائر الأخرى تقترب منه وتبتعد، كما يدور بعضها حول مراكز بعضها مقتربة ومبتعدة، وهي في اقترابها وابتعادها في هذه الحالة أيضاً، تكون على مسافات متفاوتة من هذا المركز الرئيسي لدائرة الصخرة: (البنية الكلية) المشحونة بحدث مأساة القحط الذي يتبادل- المجاذبة- مع ما حوله.(1/111)
من هذا كله تبرز (لعبة) الألوان في السرد المذكورة سابقاً، والتي تشير إلى طابع معين لهذه الجزئيات المفتتة التي تنتظمها الحركة الدائرة في مجالاتها المتعددة. وكذلك تبرز تلك المجاورة بين تلك الألوان واللون المفجّر للرؤيا داخل الرواية، إذ تعكس ظلالها على هذا اللون، بعلاقة تحركها نحوه أو تفصلها عنه، والتي تفهم - أي هذه المجاورة- على مستوى تقنية "التركيب" ومدى توفيقه، ودلالاته، عندما يتوافر.
يحاول الكاتب أن يعكس "التوحيد" بين بنية التفتت في الشكل وبين رؤيا سوسيو إديولوجية بنية مجتمع الصخرة. فالتهتيك في بنية التعبير هنا محاولة لاستنطاق جزئيات واقع (متناثر) في داخله.. لا يكفي سرد ملامحه العامة، بل تُكشف جوانبه الدقيقة إفرازاته الناتئة باستنفار إضاءة مستمر متقلبة لإزاحة كل تكلس فيها. وهذا التهتيك في الرؤيا داخل واقع الصخرة، لا يؤدي إلى رؤيا روائية مفتتة بمعنى عدم التماسك في المحتوى وإنتاج وعي ما لهذا الواقع، بل على العكس؛ إن الرغبة لا في رصد الواقع، ونقله ورؤيته فقط بل في استكشافه في أثناء تفتيته، والرغبة في تملي ما قد ينطوي عليه من التخطي والتجاوز. فكانت أنواع من السرد داخل بنية التفتيت، حتى لا يضمر الوعي المستقى. فما هي هذه الأنواع، وإلى أي حد حققت التقنية عملية الكشف في بنية التراكم؟، ودفعت إلى تحريض القارئ ومشاركته ووعيه؟
** السرد بالتقطيع السينمائي
** الفصل الأول: إثارة القلق(1/112)
الفصل الأول يكون بتقديم شخوص الرواية الذي يشكل معظمهم بؤراً مهمة تدور فيها الأحداث، وتتبادل قوة الجذب مع معطيات المركز الرئيس المتوتر ومثير التوجهات في الصخرة وهو: "الموسم" فيأخذ السرد شكل تأسيس انطباعات سريعة مكثفة، تضع القارئ في معترك المناخ الساخن في القرية، فمن "وزان" الذي ينعى وتره الموسم، وزوجته التي تختبيء عينيها من أشباح الجن وهما خارج الصخرة، إلى أطفال الصخرة يتلاحقون بين الدور ودخان المواقد والتنانير يتفشى في الجو و "عقيد" الصخرة في مضافته حوله أخوه وفالح المطلق في حديث عن العلف، إلى محمد الجاسم وحواس الزير وفايد العقل وهم منكفئون إلى جانب المضافة يذكرون المزارع ومشروعه العظيم، إلى فاطمة الضحى في صورة ممسرحة تخاطب أخاها ملك الجان ليسقط المطر، إلى غرفة دحام العسكر الموصودة بعد أن شرد لأسباب لا نعرفها ونظرة الفلاحين إلى المعلم نذير، إلى حمدية ذات الشفتين المغريتين، وسليمة الشقراء المحتدتين اللتين تتنازعان عشق دحام العسكر مع كشف بأوراق كل منهما. إنه يتوسل إلى هذه الانطباعات بطريقة "التقطيع السينمائي" ذي الانتقالات اللماحة التي تثوي في داخلها أبعاداً اجتماعية خاطفة يكون لها أثرها في تدفق السرد الروائي وحيويته بعد ذلك. وقد وفق هذا السرد إلى إثارة "القلق" لدينا، وهو يفتت تعريات جزئية تنم عن دائرة "التمفصل" الرئيس لكل تعرية...
** وظيفة جديدة لبنية التفتيت
وحتى الفصل 18: قوة الجذب بين المركز الرئيس(1/113)
أما الفصول الأخرى التالية حتى بداية الفصل الثامن عشر، فقد أخذت اتجاهات أخرى في السرد، له غايات مختلفة. يبدأ بدخول الدوائر التي تشكل بنيات اجتماعية عائلية في الصخرة، ليفضح التفتيت حركة الجذب حول مركزها وحركة الجذب حول مراكز القرية الأخرى المتأثرتين في محورهما الرئيس بقوة الجذب الكبيرة في مركز دائرة بنية الصخرة الكلية المتوتر والمتفجع، والذي "تولدت" مجاذبته العاتية بضغط مستمر متوغل من (المركز الخارجي) الذي يقوي المأساة ومجاهيلها.
* السرد الوصفي الأنثربولوجي
فثمة في هذه الدوائر سرد وصفي تقليدي بأسلوب التقارير (الصحفية السريعة) الذي "يكرس" معلومات تريد أن تعطي "تعريفات"، تمت بصلة إلى نطاق "الأنتربولوجيا". هذا السرد أساء بحيث برز كعائق، مطوّل في أحيان كثيرة (السرد الأنتروبولوجي لعائلة الدلفي مثلاً) في طريق النمو الفني الداخلي للرواية نحو قناعة حكائية صميمية تزداد معطياتها في التناول الدائري الذي عولت عليه الرؤية التي تتداخل فيه نصوص صغيرة داخل النص الروائي المركب بحيث تتحول الرواية، كالقصيدة التركيبية الحديثة، إلى نصوص داخل النص في مستويات عدة. "دار فالح المطلق الواسعة وسط القرية... فالح في السبعين، مظهره الخارجي يوهم بالبؤس والإشفاق، له عصا شهيرة يتوكأ عليها بدافع العادة... آل المطلق عيونهم واسعة، لكن رموشهم خفيفة... أقدامهم كبيرة.. سلاف هو الأخ الثاني يبلغ الخمسين، أعور، .. الأخ الثالث محمود يعمل راعياً عند فالح... يداه مشلولة من الرسغ... فالح من مدمني السهر في بيت المختار، لم يسمع أحد في داره صوت مهباج القهوة... لا يتكلم في غياب أحد خيراً أو شراً..(1/114)
فالح المطلق الوحيد في الصخرة الذي يزرع القطن.. وسبب شهرته في الصخرة إضافة إلى ذلك زوجته الأخيرة حمدية.... الخ ص34". وهكذا نتعرف بالخطاب التقريري في هذا السرد على العادات، والطبائع، والأشكال، والأعمال، ظواهر المعيشة، والممتلكات "آل الجرو عريقون باقتناء المواشي لقطيعهم يبلغ ثمانمائة رأس.." "زرائب حيواناتهم الواسعة وسط البقعة الشمالية من الصخرة ص53"، ولا ينسى هذا السرد الوصفي أن يسهب على الخصوص في إعطاء معلومات وافرة عن كبير العائلة، وتكديسها، دون إيقاع حكائي يشد القارئ ويبعده عن الملل.
** السرد الاستقصائي(1/115)
وثمة أيضاً في هذه الدوائر التي تتداخل فيها حركات الجذب كما هو مبين سابقاً، "سرد استقصائي"، يعتمد على ملاحقة المشاهد وعلى جزئياتها في كل دائرة، قد تتفتت المشاهد إلى أصغر دوائر التفتت، يستبين المرء فيها حركات الجذب التي تدوم حول مركز الدائرة كبنية اجتماعية قائمة بذاتها، لها علاقات مع مراكز دوائر أخرى تختلف في قوة الجذب والأهمية، ولها علاقات أيضاً دائرة حول مركز الصخرة الكلي الذي تدور الدوائر كلها حوله، والذي ينبع فيه الفعل الدرامي لكن هذا السرد الاستقصائي لم يعتمد النقل فقط، وإحضار هذه المرئيات المفتتة بشكل مباشر بحيث تبدو نوعاً من الإثارة الظاهرية بل داخلها وأنقذها معاً حوار حيّ ينجر أحياناً بانزلاقات "المراجعة" الكلامية الممتدة التي يمكن الاستغناء عنها... (أمثلة ص8- 37- 95) أين الهر؟ - يقول حمدان /ما بك؟- تقول هدلة/ سرق لنا قطعة لحم كبيرة/ أكلما فقدّتم شيئاً تتهمون هرنا، لولا أنك امرأة /ماذا/ لكنت /إذا كان هرنا يسرق/ حطمت رأسك/ فهو حيوان يا لصوص يا أولاد اللصوص. وحتى لا يتحول هذا السرد الاستقصائي إلى ما يشبه التقريرات دائماً على سطح مستقيم تسير باتجاه واحد، "تعمل على أن تخبر" أكثر مما "تري" وتحضَّ على المشاركة والتأمل وحقن الرؤيا، نجده يعمق لحظة الالتقاط في المشهد عن طريق "الاستدعاء" أو ما يسمى (فلاش باك)، فيرجع بشخصية ما إلى أفكار أو صور أو حوارات معينة تضيء جوانب المشهد من وجوهه الضرورية، وتعمق لونه الخاص، وتوحي بدلالاته وترفد زخم حركة الدوائر نحو بناء صميمية الرؤيا في الرواية التي يشكل القارئ طرفاً مهماً في صوغها. ولهذا بالذات نجد أن مثل هذه "الاستدعاءات" التي تندرج في النص المفتت وهي تسترجع الذكريات والمواقف والتعابير، لا "تسرح عبثاً" بل تُوظّف توظيفاً ضمن الحدود المراد الوقوف عندها للكشف، مما حرك هذه النصوص المجزأة ذات الاسترخاء المرضي.(1/116)
وترك للتفتيت أن يأخذ دوره في الاستلهام والخصوبة وهو يبعث التأمل ويتحرك في زوايا مختلفة عندما يداخل ذلك الاستخدام نسيج السرد الاستقصائي" حمدية تدير ظهرها لكجّة... تلج غرفتها... [حمدية تندس في غرفة دحام. لسان المصباح يرتجف، ظلام. ذراعا دحّام يهجرانها... دحام أضع روحي بين يديك. أنقذني.. والله لو كان بيني وبينك سباع ضارية ما خشيتها يا حمدية. لكنك متزوجة. متزوجة. متزوجة ص32] يلفظها الحلم فوق أرض غرفتها، تغادر الغرفة مضطربة، تحمل صفيحة الماء... الخ.
** التفتيت التراكمي
* مثال آخر:
عمشة ينتهبها البكاء. تذكر عدداً من الأطفال ضمتهم إلى صدرها، أشبعتهم من حليب ثدييها، جميعهم تساقطوا... يهيج إحساسها بالأمومة.... أبا حسين... نداء يأتي من نحو باب الدار، عمشة تمسح دموعها... سالف يمضي إلى الباب، الأيام أحنت ظهره.... أتنسى عمشة فضل فاطمة الضحى [في ظهرك يا سالف.. فجوة من الداخل] سالف أقلع نهائياً عن فكرة الزواج [عمشة العسكر تضع كدسة من الليرات في يد فاطمة الضحى..] الماكرة الكذابة. دحام لا يقول إلا الحقيقة... الخ.(1/117)
وهذا الاستخدام في استحضار الماضي وإسقاطه على الحاضر، استعمل على أفضل وجه في الفصل المهم (18) ليس على مستوى التقنية فقط بل على مستوى المضمون، فقد تخلص من كثير من التفتيت الإضافي) الذي لا يعني الكثير بالنسبة إلى الرؤيا ولا يجد له محلاً، في عملية التركيب، الشيء الذي يؤدي إلى الحشر والتجميع وفقدان النسق قدرته التداخلية المنتظمة التي تكثف تواشج الفكرة. بحيث يجعلنا نظنّ أحياناً أن هذه التفتيتات تريد أن تخدم بنية التراكم من حيث هي تراكم فقط لا على مستوى "العلاقة" المنفرزة والتي تجد مكانها من الحلقات الدائرة على أنساق معينة أو أنها توهم بأنها تعويض عن ضياع لغة السياق المعنوي عند كتابة الرواية. وقبل أن أعطي أمثلة، تطرح المساءلة الآتية: هل هذا العمل الأدبي مبني، في الأصل، على سرد الصخرة ككل، كاتساع تسجيلي ينطوي على بؤر توتر متعددة، لا على فعل درامي معين داخلها؟..
أو أن الفعل الدرامي، كموضوع، يأتي في الدرجة الثانية من أجل تأسيس رؤيا داخل إشكالية عامة هي "الصخرة"، بحيث يغدو التوازن بين (الصخرة) كوحدة متكاملة وبين الحدث، وليس بين ذلك (الحدث) و(الفعل الدرامي) الذي تتركز فيه شخوصه.. الجواب نعثر عليه في كل الصفحات التي تبدأ منذ الفصل(18) وحتى النهاية، حيث نعثر على بنيات جديدة، وعلى تركيز على الفعل الدرامي الذي تتوجه إليه الرواية، والذي وشت به في الفصل الأول على مستوى الشكل أو المضمون من خلال شخصيات معينة بذاتها تمثل الصراع الحقيقي وتعطيه آماده وفوراته داخل الذات والواقع، ومن هنا فقط، تتكون مجادلة تكثيف إشكالية محيط "الصخرة"، ذلك الاسم الذي سجل كعنوان وحيد تنضوي تحته كل صفحات الرواية.
** عجز التفتيت في بنية التراكم: الفصل الثاني عشر
* مرئيات غير فاعلة في تفاعلات الصراع(1/118)
وكمثال على عجز التفتيت في أن يأخذ دوره في بنية التراكم، أحياناً، في المنظار السابق، وفي إطار الإجابة عن السؤال المطروح... يساق الفصل الثاني عشر، في المرئية الأولى: وزان يحاول رشوة (نواف من آل الدليمي)، وهذه صورة هامشية.
في المرئيّة الثانية حوار حول سقوط ثلاث نعاج لآل الدليمي، وهذه صورة تدخل في تركيب حركات الجذب كجزء من التجربة الواحدة في المرئية الثالثة تسجيلات تقريرية عن كبير آل الدليمي وعن أملاكهم وغير ذلك مما ورد الحديث عنه في السابق بصدد السرد الأنتربولوجي وهذه صورة تفرز معلومات سلطوية، كسول، لا تدخل في بنائية حكائية داخل تركيب المرئيات التي تشكل نص الدائرة العائلة.
في المرئية الرابعة: تصوير على مدى صفحتين، ممتع لكنه مجاني، لمحمد سعيد الدليمي وهو يقلع ضرسه على طريقة الأجداد!- فإذا تركنا هذه المرئية تتكلم بصوتها داخل المرئيات السابقة واللاحقة وضمن حركات الجذب مع الدوائر الأخرى ومع مركز الدائرة الأساسي في الصخرة لما أسعفنا الاستنتاج بشيء سوى أنها دلالة على التخلف ومحاربة الطب والعلم وهي لا تساعد على التركيب من أجل تعميق الصراع وقراءة ارتباط ما يجري في هذه البيئة الاجتماعية التي هي جزء من فضاء زماني ومكاني واحد، له معطيات الوقائع داخل هذا الفضاء.(1/119)
أما انتسابها هنا فهو الانتماء إلى الدائرة العائلية التي يمكن الحكي عنها بكل شيء، وعلى هذا فالصورة تدخل في نطاق التجميع والتكديس لإعطاء دلالات متفرقة عن أحوال المسألة الفلاحية في حدودها العامة المقطوعة عن اللحظة والصراع كعمق في السياق الروائي الذي يتوهّج بتفاعلات بنائية محكمة تمسك به جيداً على مستويات، من خلال ما يتجلى في العلاقات التي تفجّرها شخوص الفعل الروائي والتي تكون مدرجة في داخله حيث يكون هذا السرد رمزاً لغياب الوعي لدى الفلاح والذي يصنع مواقف مهمة في رواية بنية التراكم، لكن مثل هذا الرمز يجب ألاّ ينفصل مضمونه عن الشكل، وأن يكون عنصراً مثيراً داخل السياق الروائي، فضلاً عن أن هذا الرمز استعمل في دوائر أخرى عائلية (الطفل محمد المصاب بالعين- ص16) كما أن الفصل الثامن عشر يعطي مثالاً جيداً على إمكانية تضمين كل هذه الرموز داخل سياق متماسك وداخل بنية تركيبية متسقة (الطفل الذي تسبب فاطمة الضحى قتله- رفض الآباء تعليم بناتهم..) بحيث نجد أن هذه الرموز لم تحشر حشراً، لم تهمش، بل جاءت ضمن علاقات شخوص أساسية في الرواية. وداخل النسق الفكري والتركيبي في السرد، (ثمة إشارات مقحمة على جانب المرئية الرابعة تتعلق بـ فايد وفاطمة الضحى) في الخامسة والسادسة يعود إلى النسغ الروائي الدائري داخل بنية التراكم الذي يبدأ وينتهي في دوائر متجاذبة لا تضيف شيئاً جديداً مهماً يؤدي إلى اختلال قوى التجاذب في هذه البنية، وإنما يسعى إلى أن يُجذر الشخصيات ويهبها المزيد من قوتها داخل مجتمعها وبيئتها على السواء، ويخصب العلاقات الناشئة والسابقة بين الأفراد والمراكز) والبنيات في تفرعاتها وأصولها مما يساعد على ملء خصوصيات هذه التجربة التراكمية، لكن ظَلَّ "الإخبار" يحشو تضاعيف نسيج السرد.(1/120)
وهكذا نجد هنا أن محاولة التفتيت ليست بذات بال ولا تقدم كثيراً، فيمكن مثلاً ربط السرد بين المرئية الثانية والثالثة والرابعة والخامسة فلا تحتاج إلى إشارات التفتيت دون أن يتغير في الأمر شيء، أو يؤثر في السياق، لأن ما بدا في هذه المرئيات المذكورة هو التجميع، لا "التركيب"
** التركيب الدائري(1/121)
كان يمكن لهذه الفصول جميعاً من الثاني حتى نهاية الفصل السابع عشر منضافاً إليها التاسع عشر في القسم الأول أن تسرد في معمار حكائي واحد ينسج هذه العلاقات الاجتماعية (ويروي) هذه البنيات العائلية من خلال وعي الرواية ذاته في التناول والذي استطاع أن يبرز على الرغم من إخفاقه بنسب متفاوتة في هذه الفصول التي عرفنا فيها كثيراً من البنيات الاجتماعية التي تعيش في محيط القرية، وعن مراكزها، عن طريق (الإخبار) أكثر مما قد يثيره فينا (التركيب الدائري) من غواية ومشاركة واستدرار للتأمل والوشاية إذا ما أحكم سبكه في سياق روائي (يُمثّل) الأخبار والأفكار والعلاقات والشخوص لا أن (يحكي) عنها كما حصل في غالبية هذه الفصول. والواقع فإن حجازي حين يمارس خطابه الروائي الذي ظهرت تقنياته بوضوح وحذق بخاصة في (القسم الثاني) من الرواية - فإنه كان يوحي بذلك العطش الذي يحمله كل مبدع وهو بسبيل ترسيخ كتابته. إن كتابة روائية عن فاطمة الضحى في علاقتها مع دحام باستخدام الاستحضار في أثناء اقتراب الباص الذي يركب فيه نحو الصخرة ف20 ج ص123- 124، وصياغة هذا المشهد الرائع من خلال حوار تخفق فيه الحياة بأعمق نبضاتها واتجاهاتها لجدير بأن يفجر استيعاباً وانشغالاً وتأثيراً ما لا تقدر عليه أطنان التعاريف والأخبار المشتتة عنهما: ماكرة.. نصابة... الخ..) بالطبع لا أحد ينكر أهمية الإخبار والسرد الوصفي في أية رواية، لكن المنكر أن يحل محل السياق الروائي ويختزل الحكاية بمعناها التكويني كبنية لا كإفراز معرفي (ف19- ص121) إن أسر الكاتب لحرّيته أن يحصرها وهو يكتب عن كل عائلة من العائلات، كل شيء، جعله يقع بهذا المنزلق الذي سبقته "هيكلة" للرواية على مستوى الهمّ النظري في اتجاه التركيب الدائري بالحل والربط ومدار الجدية والذي تبدى واضحاً على نحو نمطي وناجح في الفصل الأول.(1/122)
وعلى نحو أقل وأحياناً تكديسي في الفصول الأخرى المشار إليها سابقاً في بنية التراكم... ثم فاجأنا (الفصل الثامن عشر) ومتعنا معاً بالمقارنة مع ما سبقه بحيوية السرد وطرائقه التي كانت تتقصد التركيب وتجذير الأحداث وبلورة الشخصيات وفتح بؤر جديدة في الهم المركزي في الرواية وحتى دون أن يصنع هذه الإشارات النجومية التي يراد لها أن توحي بالتفتيت تماماً كما في الفصل العشرين أيضاً- كما عرفنا مع فصول لاحقة بوجود بنية مواجهة على مستوى الممارسة المومأ إليها إيماء من قبل.. وهي:
ب/ بنية التراكم الكيفي
اتخذ التراكم الكيفي عدة محاور:
1- محور وعي الفلاحين يمثله في وضوح وجدّة دحّام(1/123)
"دحام العسكر معارض صلب، لا يعجبه شيء. يرفض آراء المختار في اللجوء إلى الحكومة، يرفض حل محمد الجاسم في اللجوء إلى المزارع، يفنّد أباطيل فاطمة الضحى.. ص12" ليس هذا فقط، بل هو يستهجن سلوكات الفلاحين وهم واقعون تحت سيطرة المراكز بكيفية تدعو إلى الغضب والإدانة، يكاد يتفجر، ألهذه الدرجة تسيطر فاطمة الضحى على هذا الأبله. (فايد)؟ قال له فايد: "أتوسل إليك يا دحام، لا تقل شيئاً عنها ص128" دحام يعرف أنه يكرهها في أعماقه: "ويلها، أية نجسة! ص128" لكنه منجرف بتأثير منَّة لها عليه، إلى تصالح ظاهري معها ترسخه أحلام مصلحة ذاتية: "لولا أنها همست في أذن أمي قائلة: لا مانع عندي أن يعمل فايد مع محمد الجاسم لما كنت دخلت داره ولا تفوهت معه بكلمة" لكن، مع ذلك، فإن تشابه وضع فايد مع دحام في كثير من الأحوال باستثناء "الوعي" الذي جعل هذا الأخير يتألم وهو يعاني من إشكالياته على صعيد الذات والموضوع وبما لعلاقة كل منهما بالآخر، والألفة التي ولدت منذ سنوات الطفولة بينهما، وشكاية دحام الدائمة من كل شيء، وصلابته وعناد مواقفه ضد مراكز فاطمة الضحى، ومحمد الجاسم، والمختار) وشخصيته الرافضة على وجه الإجمال- كل ذلك بالإضافة إلى معطيات أخرى جديدة على مستوى الحدث الروائي والأحلام، كان له فاعلية محدودة في أعماق فايد، لكنها كافية لتتعاون مع إحساسات أخرى مستجدة وبوادر وعي مجهول بالنفس وبالآخرين، ولكي تحقق له موقفاً محارباً فيما بعد.(1/124)
وحين بدأ المعلم نذير الاتصال بالأشخاص الذين يتوسم فيهم الكفاءة من أبناء الصخرة، لم يعثر إلا على دحام العسكر، ذلك الذي أعلن له منذ الأساس أنه: "يرفض خرافات فاطمة الضحى ويضيق بها ص111" ويعدها رأس المصائب، كما أعلن أيضاً أنه "يستنكر قدوم المزارع ص111" الرفض ينبع من عينيه الحاقدتين أبداً، لذا فهو محور معرّض لهجوم شرس ويعد (عائقاً) شائكاً في طريق أحلام "المراكز" وكثيراً ما ترد إشارات تشفٍ" من مصير تشرده المزعوم، ومحاولات تهديده أو استمالته دون جدوى. وكان أيضاً ذا وضع ملتبس بين الفلاحين، مما حدّ تحرك فعله فيهم:
** وعد دحام العسكر
* إشكالية الانتماء إلى مجتمع الصخرة(1/125)
"والحقيقة أن فيه نقطة ضعف أساسية تحدّ من تحركه لأنه غير منتفع بالإصلاح الزراعي بسبب بعض الملابسات فلا يرى الناس أنه واحد منهم، ولا يملك ماشية تجعلهم يرون أنه يصاب بالضرر كما يصابون. إنهم يحبونه، يحترمونه، لكنهم لا يثقون ضمناً بإخلاصه ص110" لكنه لا يعبأ بهذا كله ويحاول دائماً أن يقفز فوق: "نقطة الضعف "هذه" دون حساب الإخفاق دون أن يترك معاناتها كهّم ذاتي ملح، طالما نظر إلى ما يجري وما هو معطى في محيط الصخرة من خلاله. وعودة إلى بداية حياته وتكوينه تتوضح شخصيته: دحام العسكر جار آل الدلفي الأغنياء الأقوياء يحترمونه، عرضوا عليه الزواج بفتاة منهم دون مهر، لكنه رفض بحجة أن كل بنات الدلفي أخواته، أما الحقيقة، فلأنه يأبى "أن يظهر بمظهر العاجز في الصخرة ص25" فهو يرفض أن يكون غير نفسه، لا تغريه مزايا غيره من جاه ومال، له (توقات) نحو الأعلى يريد أن تكون من صنعه هو، ثمة معوقات داخلية وأخرى خارجية. إنه يحارب على جبهتين، تتوتر أعصابه وهو يعاني من إشكاليته التي تتضخم كلما انهارت أمامه الآمال وازداد واقع الصخرة قتاماً وانحسر فعله في فراغ قاتل وغمضت الأهداف في هذا المكان الصعب من العالم: الصخرة.. وخارجها حيث الريبة في النجاح في إيجاد عمل ما يملأ عليه حياته، ويحقق وجوده، وينفذ مشروعاته، لكن كل شيء كان ضده منذ البداية، فهل سيستسلم؟.. الأب الأكبر علي الدلفي" حمل وصية عسكر الدليم أبي دحام عندما مات.(1/126)
فاحتضن دحاماً، وربّاه، ووقف إلى جانبه عندما تزوج فالح المطلق من أمه فضيلة المنشار قرابة السنتين، وابتلع كل أموالها استطاع علي الدلفي أن يحصّل له بعض الأموال أنفقت عليه حتى مطلع شبابه؟ ص126" لقد عاش يتيماً، محروماً مادياً معنوياً، مستغلاً، معذباً، "ويرجع عذابه أساساً إلى وصيّة أبيه ص119 "لعلي الدلفي، وكان دحام طفلاً، كي يتعلم مما تركه له من مال، لكن تعليمه لم يتجاوز المرحلة الإعدادية بسبب ضياع المال وعدم حماسة آل الدلفي للتعليم، كل هذه المصادرات، كان من الممكن أن تنقضي، أن يعوض بعضها بشكل ما، لولا إحساسه بذاته على نحو جاد، يريد أن يعوّض، رغائب ذاته التي لم تُملأ عن طريق قواه هو. همه الداخلي يمزقه حين يجد محيطه الاجتماعي ينغل بالجهل والأباطيل، ويتفجر بالأزمات وعدم الأمل فتزيده إحباطاته ألماً ولوعة "يدخل غرفته يوصد الباب خلفه، ينكب على الأرض، من كانت له أرض ينشغل بها، يغرس صفاً من أشجار الحور على محيطها. يقسمها إلى أجزاء، يزرع قسماً كرمة، وعلى حوافيها الرمان. يضرب الأرض بقبضتيه. ص131" لكن لولا وعيه لما تخلفت إشكاليته على مثل هذا العنف واللوبان ومحاولة الانصهار في مجتمع ليس له فيه مكان، يريد (قلبه) وبناءه من جديد، ومحاولة الارتباط بأرض الصخرة، التي أبت وتأبى أن تفسح له حيزاً يقدر أن يحقق عليه ولعه وعشقه بها ويغرس فيها أشواق الحياة بسبب معطياته ومعطياتها على السواء.. من أين تأتى وعيه؟. "ومما كوّن وعي دحام أيضاً سفره خارج الصخرة، واختلاطه الواسع بعدد كبير من الناس، وخدمة العسكرية وبعض المطالعة، كل هذا ميزه من أبناء جيله فايد العقل وغيره- وعذاب دحام ناتج عن هذا الوعي ص120 "دحام يدرك أن حل تناقضاته وتناقضات "الصخرة" لا يكون إلا بالانتصار على المراكز والوسائل التي تريد أن تنسفهما معاً. هل يأخذ دور الشهيد في صراعه هذا؟.
** أبعاد الصراع لدى دحام العسكر(1/127)
كلامه يفجر في أعماقهم بعض الحقيقة وهم متخاذلون مطوقون: "كلام دحام زين.. لكن الحالة صعبة والعسر لا يحله الكلام" ص26 في رأي بعضهم هو مسؤول من حالته تلك من العناء والتشتت والشكوى والضيق بكل شيء.. "دحام دحام. أكلتم رؤسنا. ماذا نعمل؟ ألف مرة نصحته أن يترك فاطمة الضحى وشأنها ص27.. ويمكن أن نذكر هنا موقف محمد سعيد الدليمي الرافض مركز فاطمة الضحى: .. "مجنونة بنت مجنونة 27" لكنه يظل في حيز الشتائم دون عمل لتخريبه، حتى عندما يسمع بأنها تسببت في تشريده وابتعاده، فإنه يهددها بباعث عائلي قبلي: "سعيد أقسم بالله إن كان صحيحاً ما فعلته فاطمة الضحى بدحام فسيقطع عنقها بالرفش، تصوري، الآن أصبحت علاقتهم بابن عمهم دحّام طيبة ص80" كما أن الباعث نفسه في منافسة المختار بعراقة الأصل وقوة آل الدليمي ومراسهم لتحقيق مآربهم الذاتية الضيقة هي التي جعلتهم يأخذون أكثر مما يستحقون من العلف، وكذلك في رفضهم لمركز محمد الجاسم والمزارع وحتى للمركز الخارجي.. وهكذا يبقى دحام العسكر تائهاً، ناقماً في دائرته وحده، لا أحد يستطيع أن يمد له العون إلا نفسه، تلك التي تحيا - التناقض- بين ما يطمح إليه وبين ما هو عليه.. "كل شيء فيها وفيه، يختلف، يزداد اختلافاً لحظة عن لحظة، يطوّقه فراغ قاتل كالأعمى في الصمت، لا هدف، لاشيء ص129." إن اللاهدف /و/ اللاشيء/ لايعنيان عدم انشغاله بـ - هدف- أو - شيء- وإلاّ لما أحس بهذا الطوق من عدم التحقق الذي لا يجده في كل شيء حوله يأمل فيه أو يحلم. الكل متقوقع على ذاته وعلى جماعته يتراكم فيه الاستلاب، وينهشه استغلال المراكز ويعشش فيه الجهل والأباطيل والمرض، مستقبله مؤرجح على كف الغيب والتواكل وسيطرة المراكز تشد على خناقه وتتدخل في حياته ومصيره دون أن يفعل أي شيء أو يترك الآخرين يساعدونه على هذا الفعل..(1/128)
ها هي ذي فاطمة الضحى حاربها بلا هوادة منذ البداية، يتحداها، يكذب قوى جانها وشيخها المجلل ويسخر منها، يصرخ، "كل مصائب الصخرة من هذه المرأة الكاذبة النصابة.. لكنها صرخة في واد) لا يتزحزح عن موقفه، يشتد صراعه ضد هذه الشعوذة، كلما ازداد خط التراكم الكيفي تكثيفاً وعناداً وأخذ (حجماً) يخيف المراكز ويهددها.. فاطمة الضحى تسترضيه، تعرف خصوصياته: ..أنا أعرف التي تحبها، مفتاحك بيدي ودورانك بالليل أسراره عندي، دحام طاوعني ص125(ثمة انشغالات عشقية لديه: حمدية، نورة، سليمة لكل واحدة منهن على الرغم من "غرامها" به معوقات تقف على طريق زواجه منها) تظهر أمامه بمظهر البلهاء وتكشف عن حقيقتها ضارعة: "يا ولدي، أريد أن أعيش ص124"
يطردها دحام فتهرب متوجسة، وهو أيضاً، يعي دوره في (العمل) الذي يفتقده "الاستقرار لا يأتي إلا عن طريق العمل ص" وقد حاول كثيراً مع بيروقراطية بعض مراكز الحكومة لكن دون جدوى 61. لم يعد يحتمل عذاب "اللعبة".
هل ينحدر إلى السقوط - التام؟ أصحاب كثيرون له وعدوه بتدبير عمل له ثم خفت حماستهم.
صاحب آخر ابتسم في وجهه: "لا تضجر" "لابد من الروتين والـ.. "أية حياة شقية تحوله إلى متسول" وهو يطلب عملاً.. ألم يفهم اللعبة؟ أم يريد أن يطفر فوقها في إباء نفس وصلابة لا يتيسر لها امتصاصه وهو يطلب حقاً!؟.. تماماً كما تأبى أن يُشفق عليه الآخرون ويعيروه بمالهم وجاههم بعد أن يزوجوه - بنتاً- "سيمارس أي عمل: بناء، حفريات، حمل أمتعة.. لن يموت" ص176 لن يقنط. ويأمل. محمد الجاسم يستغل هاجسه ليتقي، صوته، المعارض، يخبره بأن السيد سميح الندار يمكن أن يدّبر له عملاً في الجبسة أو الرميلان أو في الصخرة، لكن عليه أن يفهم ويطاوع ويترك اللعبة لأصحابها. دحام يمضي في طريقه بإباء ساخراً منه بعد أن خاب ظنه، محمد الجاسم عند دحام حين قال:(1/129)
"دحام العسكر انتهينا منه "كعنصر وعي لا يتراجع، وكشخصية شديدة القوة والجرأة إلى حدّ الغرور، أضلت سهمه الآن!. ودحام لا يرضيه ما يجري على يد المختار.. الغضب يفجر عينيه الحادتين أبداً وهو يراه يلجأ إلى الحكومة التي لا يكفيهم إحسانها".. يخدر الداء ولا يستأصله، بل يؤدي (بالطريقة) التي يوزع فيها المختار العلف ويحرك بها آل الدليم جميعاً إلى أن يستنجد بهم للمزيد من أجل الإحسان ذلك الذي يوفر مجالاً إضافياً للابتلاع من قبل جانب البيروقراطية والانتهازية، ومن ثم يصحو الناس في كل صباح على البلاء، المتفاقم وعلى المراكز التي تنفذ مآربها في الكمود وعطل الحياة، يسأله الناس: ما الحل؟ "إذن، فيجيب ننشئ جمعية تعاونية!.. التعاون هو بديل التفتت القائم على تلك الأرض البور التي لم ترحمكم حين لم ترحموها، وبديل تلك العلاقات المنخورة التي ما تزال تقطع أوصالها ديما غوجيه حلول المراكز، يعتقد الناس أن هذا الحل ليس منه، بل من المعلم نذير.
** اللقاء بين المعلم نذير ودحام العسكر
* والفعل المضاد
إن لقاء نذير مع دحام في بنية تراكم الكيف على غاية من الخطورة، ليس مصادفة، بل لقاء بالضرورة، فالمعلم نذير وجد الوعي (المفقود في الصخرة مجسداً في شخصية دحام المتوقدة، وبهما ولدت إمكانية فعل المضاد لبنية التراكم الكمي دحام، عندئذ، وجد في المعلم الأفق الظامئ المختلج بالمعرفة والكشف وأحلام التشييد بـ "قلب" المجتمع لمجتمع مقلوب، يمكن لدحام أن ينضوي فيه ويعيش التغيير. لكن ما إنتاج - هذا اللقاء الذي تحول (في مستوى من المستويات) إلى - تصادم- . مصادمة بين النظرية: نذير، واقتراحات التطبيق: دحام، وما مدى النقل الذي مورس على مراكز بنية التراكم، وما هي- الوقائع- التي تولدت عن ذلك...(1/130)
بعض هذه الإجابات عن الأسئلة السابقة تكتمل خلال الحديث عن محاور التراكم الكيفي الأخرى... ما دام هؤلاء الرعاة والفلاحون يعوزهم العنصر الأساسي الذي هو - الوعي- والمتوافر في دحام.
لقد لجأ المعلم إلى أن يجعله، أداة اتصال" معهم، يحثهم على الانتفاع بالبدائل عما هم عليه..
** مشروعات وحلول تعاونية لدى محاور الكيف(1/131)
اقتراح جمعية تعاونية عوامل الإنتاج فيها تقسم إلى قسمين، وتقدر بالأسهم.. القسم الأول: رأس المال ويضم الأرض والأموال النقدية وغيرها.. والقسم الثاني: ويضم اليد العاملة.. إن توزيع الإنتاج سيكون بحسب الأسهم، والمواشي سيكون لها حل مناسب لأنها أساسية في حياة الدليم فتدخل في التعاونية على أنها رأس مال.. فما النتيجة؟.. لم تصمد الحلول: المشاريع: الأفكار السليمة.. تراجعت النظرية في مجتمع حسير يجب أن تقوم النظرية على يديه.. لم يفهم دحام ذلك، لابد من الصمود أكثر.. وجد أن المثقفين لا يجيدون إلا الكلام ص113" وقاطع المعلم، وكانت المحاولة الثانية في مشروع ثان، ساعدت الظروف على نضارته وينشط نذير ودحام يجتمعان يومياً بالناس يفصلان لهم مزايا المشروع، لكن علاقات عدم الائتمان القائمة على الأَثَرَة والمواقف العائلية السلطوية المتناحرة، وعدم التكافؤ، ذات مضمرات عقارية وإقطاعية ورائحة بضغوط المراكز- كل ذلك حطم المشروع الثاني. هنا، لا يستطيع المعلم إلا أن يكشف لدحام عن نقطة ضعفه: "أنا مستعد أن أخطط معك لكن عليك التنفيذ".. الفلاحون يحبون (دحاماً) لكن لا يثقون به أيضاً.. لا يملك شيئاً.. لم يعش بؤر علاقاتهم. ليس لديه ما يخسره.. يرتابون به.. دحام لا يفهم هذا، يظل يتقيأ علاقات القرية المنخورة، بصلابة الذي يجد نفسه في الساحة وحيداً يهز قبضته "سأخطط وحدي سأعمل وحدي.." .. لكن ماذا يفيد عمل "الوحيد" في عاهة ظلامية تسدّ كل درب.. هل تغلبه الخيبة؟.. هل الحل "في اللجوء إلى المدينة" ثمة محاولات ظهرت في أول الرواية لإيجاد عمل في المدينة خارج الصخرة ازدادت تكثيفاً على الرغم من إخفاقها مع ما يرافقها من أحلام اليقظة في الخلاص. لكنه لم يستطيع أن ينحِّي - الصخرة- نهائياً من رؤاه وتفكيره، إنها وصل سحري لا يقدر على التملص منه، هي قدره وصوته "مجموعة من الأصوات المختلطة كالغمغمة ترشف أحاسيسه" ..(1/132)
لكأن المدينة تغدو رمز خلاص "القرية"، يريد أن يمتلك (القوة) منها، من خارج الصخرة التي أعيته، ليعود يستعملها داخل القرية التي لم ينسها.. "عبث. عندما تبتعد عن الصخرة سوف تنساها" و"يجب أن تضحي".
لكن دحام يصر على أنه لن ينساها، غاب عنها مرات وعاد في كل مرة، لكن، من أين لي أن أعيش؟.. وما معنى التضحية داخل كل هذا؟ هل تفيد في النهاية؟.. أم يجب عليه ألا يهرب من قدره؟ أن يظل (يتدحرج) على صخورها؟.. أسئلة كثيرة من أمثال ما سبق، يمكن أن تُستسقى في بنية تراكم الكيف من خلال دحام. لكن لا أحد يقدر أن يعرف ما سيفعله، دحام" في آخر لحظة. الكل يعرف حالة التمزق التي يعيشها، يعتقد أنه على وشك "التحطم" أو" الخروج".
ها هو ذا (المختار) توشّي سيمياءه ابتسامة سخر، وهو يسمع "أبا فايز" يطلب مناداة دحام العسكر للمضافة، ومحمد الجاسم يعود ليقول هامساً في أذن سميح الندار: "دحام العسكر انتهى أمره تقريباً" فهل انتهى فعلاً؟
المحور الإيديولوجي: المعلم نذير..
** إيدلوجية مضادة
المعلم نذير يحس تفاهة الحياة، بمنتهى تفاهتها، بمرارتها، "الجزيرة هذا البحر من الخيرات يعاني أهلها البؤس والفقر، الجزيرة التي يفترض أنها مصدر الثروة الوطنية لا تكاد تحتمل من يعيش فيها، صوت المعلم نذير الكيفي تردد منذ بداية الرواية أيضاً، نظرت إليه المراكز، كمحور مشاغب يجب كبته وإلغاؤه إنه يشوش - المسلمات- لدى الفلاحين ويثير الوعي، ويعمل من أجل نشره بقوة وحزم، ويسعى إلى تشكيل جبهة معارضة، يقلقل العلاقات، ويقلب البنيات: يشرح ويفسر، ويأمل.(1/133)
الفلاحون في القرية ينطقون بكلمات من يستغلهم وينفخ فيهم الإشاعات المغرضة: "معلم المدرسة نذير هو الذي ينفخ في رأس دحام... المعلم يحاول أن يطرد الأوهام من رأس عمشة: ذهب دحام "إلى الحسكة يراجع من أجل العمل" لم يشرد بشياطين فاطمة الضحى، التي لا وجود لها: كلهم كذابون".. وقف موقفاً أيديولوجياً يدين أصابع القذارة التي تلعب بأقدار الفلاحين. إنه موقف حزب البعث العربي الاشتراكي" من المسألة الفلاحية التي تحمل شعار: - الأرض لمن يعمل بها- تجعله يتعذب بنقاء ثوري يدعو إلى (التهكم) حين يجد نفسه ضمن دوائر عاتية متلبسة تقذف به دائماً خارج الشعارات الإيديولوجية التي تفجّر سلوكه. لكن ما يجري على الواقع، يحولها إلى مجرد كلمات جوفاء، ففي الفصل (18) الذي تبرز فيه بنية تراكم الكيف قوية، نعرف بأن نذيراً لم يمض على وجوده في الصخرة إلا سبعة أشهر، فهو ما يزال يرى الأشياء جديدة متناقضة، وهو في نظر الفلاحين يمثل قشرة سرعان ما تسقط بعيداً، عاجلاً أم آجلاً، عن هموم الصخرة، (الناس يعاملونه بحذر).. ثمة حادثة لزميل سبقه إذ أمسك به الفلاحون مع فتاة في غرفته.. والمعلم ماذا يهمه، ابن حكومة، له راتب آخر كل شهر. وهو غريب سيأتي يوم يغادر فيه الصخرة إلى غير رجعة، يحذّرهم أيضاً، لكن لا يوافقهم على قشريته، هذه المأساة التي تكويهم هي مأساته، عليه بمواجهتها بطريقته التي تنبع من أيديولوجيته المضادة، لم تكن لتنقصه الحماسة، لكنه حائر، ماذا يعمل؟. فاطمة الضحى جعلت الناس متخاذلين ينتظرون معجزة عن طريقها، تسقمه الأرض المهملة: "أهملوا التفكير بالأرض لأنهم لا يعبؤون إلا بتربية المواشي بدافع عاداتهم اليومية المتوارثة.. وإن أمحلت هلكوا، وهلكت مواشيهم كما يحصل هذا العام..(1/134)
" رصف مثل هذا الكلام في السرد على أنه في (رسالة)، رمز مهم يعني (التوثيق) على الحالة المتردية التي تعيشها هذه المناطق، وكبعد مكاني" غدت تنفع معه الرسائل وحدها ما دام أولو الأمر قد لا يعرفون شيئاً عما يجري هناك وكشريحة من الواقع تجدر الكتابة عنها، حتى تكون مصدر كشف لفعل الثورة الذي لم يكتمل بعد وكـ حاشية" مهمة على الشعارات التي كرّستها الثورة من أجل التغيير الجذري في واقع مظلم..
** الثوري المحبط
والصراع مع مراكز الصخرة
"كان نذير يقول في نفسه نحن ثورة، والثورة تعني التغيير الجذري، كان توقه للتغيير الجذري آنذاك أشبه بتوق من يرتدي ثياباً وسخة ويود لو يبدلها بأخرى نظيفة، عرف العلّة، لكنه عجز عن التماس وسيلة للقضاء عليها، يعرف بأن (سميحاً الندار) المزارع القادم من القامشلي يعرض عليهم أن يؤجروه أراضيهم مقابل مبالغ يرونها كبيرة، لكنها في الحق عملية استغلال مفضوحة، سينشئ المزارع محركاً، ويحوّل من يريد العمل لديه إلى مجرد أجير عنده، مبتلعاً خيرات أراضيهم، ومن لا يريد العمل معتمداً على أجرة أرضه إلى مجرد عاطل لا نفع فيه وقد اختار هذا المزارع في خبث رجلاً في الخامسة والأربعين..." إذن العملية خطيرة: أين الاشتراكية؟ من يحيي هؤلاء. من ينير لهم السبيل؟.. أتعرفون ما معنى الاشتراكية؟.. أن يعمل الإنسان في أرضه، أن يأكل ثمرها، وينفع وطنه ".. لا أجراء في الاشتراكية، لا استغلال، لا مرابين، لا مشعوذين..(1/135)
سميح الندار حاول تهديده بالنقل.. هل يمكن أن يعاقب لأنه تحدث عن هذا كله في عهد اشتراكي؟.. البيروقراطية في الحكومة قالت له: "الأرض مسطحة أحياناً! ".. إذن عليه أن يكون حذقاً!. ما يحتاجه هو الوعي من داخل الفلاحين.. اتصل بـ "دحام" لم يفلح أي من مشروعيهما كما مرّ، لابد من نسف المراكز" فاطمة الضحى تسببت بموت طفل.. عَرَّاها في أفهامهم.. الشيخ محمد الحلبي إمام الدليم عاضدها، وكانت تصله منها - هدايا- وبينهما اتصالات خفية.. صرخ الشيخ: "أنت عدو الله".. أهانه باسم الدين- الذي جعله أعداء الدين يعمي الأبصار والبصائر، ويحقق المصالح، ويساند الابتزاز.. في حين بقي الدين دعوة للخير والتعاون والعلم والعمل... يكذب التنجيم والشعوذة ويحارب الخرافة، ويدعو إلى هتك اللوابس ويستنكر الدور الهدام المتواكل. وهكذا شهد الفلاحون تحولات زراعية هشة، ظلت - خارجية- بينما انعدمت التحولات الاجتماعية الجذرية التي تمنع وقوعهم في "فخاخ" شتى، وتمنح فرص الاستغلال... محمد الجاسم راح يحلل له (وضعه) الذي لا يحسد عليه وهو مهدد بالنقل على يد المزارع.. الأرض مسطحة".. هل اندحر نذير؟ أية قوة يجب أن يمتلكها الثوري وهو يضع الشعار الثوري في قامة التطبيق دون أن يكبو؟ هل هي أثَرة الذات ومصلحتها؟.. هل نسي - التضحية- التي تشدق بها ذات يوم في وجه دحام؟.. يحس بالوحدة الآن.. المثقفون لا يجيدون إلا الكلام.. ليقرّ بنقطة ضعفه.. نظرة "الاستصغار" من قبل دحام كانت في مكانها.. هو لا يستحق الثقة.. دحام على حق وهو يصبو إلى "المدينة" بعد أن سَدَّت الحواجز كل أمل في خلاصه.. هل أدرك المعلم أيضاً أن "نقله" سيترك الأمور تتفاقم، وأن عليه أن يمارس "كموناً" مؤقتاً حتى يجد الظروف المناسبة.. هذا غير صحيح ما دام لم يُقل في الرواية.. لكن المؤكد أن اندحار نذير كان ضغطاً، وسقوطاً، مما جعل بعض المراكز تشير بوضوح إلى تهدم محوره..(1/136)
لكن صدق المعلم ونقاوة طويته وتصديه على المستوى النظري والعملي ترك عندنا انطباعاً بإمكانية ما "تنبثق عنه، تعود به إلى المواجهة، وأن ما حصل له يشبه ضربة على الرأس، عطلت مبادرته وتفكيره وقواه.. لكن أليس في تهالك نذير إشارة إدانية خفية إلى مركز الحكومة في جانبه الذي يتبنى الديماغوجيه على يد (مدير التربية) أو أيّ غيره كان من الممكن أن يؤثر فيها مركز المزارع.. وجد نفسه "وحيداً" الجميع ضده أو بسيبيلهم إلى ذلك.. وأن شيئاً مراً بطعم العلقم يسكن حلقه وهو يمدّ يده.. لم يخف قلقه على الثورة وهو يقحم مديرية التربية ويدخل غرفة المدير.. "أصحيح أنني سأنقل من الصخرة؟" (في هذا العهد الثوري الذي أمارس فيه شعار الثورة: الأرض لمن يحرثها..)" أحياناً لابد أن تكون الأرض مسطحة".. تعني، مما تعنيه، الحث على أخذ الحيطة من عواقب الأمور فلا "أحد" ينقذه إذا لم يأخذ جانب الابتعاد عما لا يعنيه، والتعامي، والاهتمام بشأنه وحده.. كما تعني - المسايرة- و- النفاق- و- التملق الاجتماعي، في حين تتجذر المشكلات وتتزايد التناقضات في الواقع. لا ثورة بلا ثوار.. فكيف هو في موقع المسؤولية أن "يرتد" ويحذر؟، وكم هي المواقف المسطحة التي اتخذها مدير التربية في عمله دون حساب للمبادئ؟! تبقى "الارتدادية" لا تفعل شيئاً حاسماً لنقل الواقع من طور إلى طور، وإلى تحرير الفلاحين من التبعية والرهان والمصالح الضيقة ودفعهم لامتلاك مؤسسات تعاونية جماعية جدية وتأطيرها ودعمها بالإيديولوجية الثورية اللازمة.. مع هذا، فالنقل لم يحدث، و"الكشف" في تلك النقطة لم يسر إلى آخره!، وسارع الكاتب إلى تعطيل "نذير" لفض العلاقة التي تدفع السياق الروائي في هذا الاتجاه!، فهل تم دفن محور نذير أيضاً؟..(1/137)
ثمة ملاحظة على موقف نذير من (المختار)، تجلت في مغالطته وفي تردده في أخذ رأي حاسم تجاهه... وهذا ناتج عن تشتت الرسم الذي تكونت فيه هذه الشخصية في الرواية لا من غموض الأفكار وانسحابها أحياناً من بين يدي الكاتب وهو يعمق هذه الشخصية، فتغدو الإضافات خلخلة لها، أو تسطيحاً في جانب واحد...
ظهر ذلك في "حسن الظن" الذي اعتقده المعلم تجاه المختار، عند لقائه بـ "إمام الدليم" محمد الحلبي. فجعله يتأثر ويغضب لسلوك الشيخ... مع أن المتوقع أن يكون ثمة تحالف بينهما لشبك خيوط التصرف الشائن، ومسايرته بالتملق الذي عهد عن المختار، لبقاء علاقته مع فاطمة الضحى ولو ظاهرياً، غير مشوبة.. ألا يكون قد روجع مثل هذا الحديث قبل دعوة المعلم الذي خصص بالدعوة؟ وهل يمكن أن يأخذ المختار موقفاً إيجابياً يوحي به إلى الشيخ من أجل "مطلق" معلم غريب ومشاكس على حساب قوى يعايشها وتعايشه من منطق حسابات دقيقة، في الوقت الذي يعرف محور المعلم المحتج والكاشف والحاث. السياق يفضي إلى أن "المختار" يكره - الملعونة- كما يكره (محمداً الحلبي) ضمن رؤية المصالح... فأدرك أنه ضرب من الملف الاجتماعي المصوغ بشكل ما. يكرهها ضمناً، ويصمت علناً "فما دام الأمر كذلك، أفلا يدفعه ملقه، أن ينافقه، وأن يتآمر ضده؟...".(1/138)
ثمة سرد عن المختار يقول: همة المختار في إعادة مجد الأسرة تفتر وهو يرى الناس يتكالبون على المصالح، والأنانية تشتعل بالنفوس يوماً عن يوم لكن الأمل ما يزال يتوهج في أعماقه: "الدنيا مختلط بعضها في بعض هذه الأيام" يقول دائماً "مات التقدير في النفوس"... أليس ما ينعي عليه ينطق بأنانيته هو.. واختلاط الدنيا الذي يراه أليس من رغبته المتجذرة في الحفاظ على - الهياكل العتيقة- وإدانة كل تحرك يعقبه الفرز لصالح قوى ظلت طويلاً وهي (تُقدّر)،.. إنه يريد أن يكون - محور- كل شيء.. ويحقق - أمله- على حساب (المقاييس) التي - يفتقدها- في غيره... فلا يرى إلا - الغيمة- التي تظلل (أرضه) أما إذا كان - المطر- عاماً، سيكون - هذا المطر- لعنة، ويغدو به - منكبحاً- ما دام بوسيلته، فهل يكون الفلاحون طعانين - وغير مقدرين- آنذاك.." ليمض المختار ورجال الدليم إلى القامشلي أو إلى الجحيم"... ورقصت قلوبهم، كما فاض قلب "نذير" بالفرح، لذلك - الضيف- الجديد الأخضر.. فهل ثمة بشارة في عينيه، ويده؟...
3- محور الحكومة: أبو فايز
* الشرطة وقوى الاستلاب(1/139)
الشرطي أبو فايز أداة من أدوات الحكومة في القرية. لا يبدو، في الرواية، كأداة "مسخرة" وغبية، وتضرب بتسلط بأيد أخرى، بل "أداة وعي" لم تدخل أبداً حيز التنفيذ ليس هو مع قوى الظلام، وعنده (حماسة) ما من أجل النضال والتغيير والأفكار الثورية، لكنه لا يملك (الفعل)، أو يتوهم عدم امتلاكه لذرائع تملي عليه انسحابه العملي، وتقريظ من يحاول القيام بهذا الفعل فقط "أنت مناضل حقيقي يا أستاذ نذير..." ... ضمن هذا المجال يُفهم موقفه الكيفي. والمعلم يقول عن: (أبو فايز شاب واع ص 103) رغب في أن يتعاون معه.. إنه تحالف طبيعي بين قوى أية ممارسات ثورية.. لكن هذه (الرغبة) بدت لأبي فايز على الرغم من ثقته بقوة مسوغاتها، (حماسة حلوة) أي عملاً غير مجد... "لكنك لو خضت قليلاً في المشاكل لا نثنيت عنها مباشرة".. المعلم نذير يرى فيه "الضيق" لا "اليأس" عندما يستمع إلى حيثياته.. القانون ضد فاطمة الضحى... لكن لو قدمت للمحاكمة بشهود من أبناء القرية، فلن يشهد أحد ضدها... مشروع محمد الجاسم والمزارع. يمارس استغلاله دون أن يناله القانون؛ أين هو من شعار: (الأرض لمن يحرثها).. من يحمي الأرض من أن تكون سلعة رخيصة تباع وتشرى ويتاجر بها مع مصائر ما عليها..
أبو فايز يرى الاشتراكية لا تطبقها الشرطة، بل يطبقها الاشتراكيون... والتغيير ينبعث من داخل الفلاح من أعماقه وإيمانه بالاشتراكية لا من قوة خارجة عنه.. شيء من ذلك صحيح، والمغالطة في أن نستعمل هذه المقولات الصعبة في قناعات غير مراجعة.. فباسم هذه نفتح باب الاستغلال الفاحش يستشري مثل وباء بحجة انتظار - وعي- قد يبدو مستحيلاً؟...
ونترك هؤلاء الفلاحين الذين - أحبهم- أبو فايز نفسه تغوص أرجلهم بالوحل حتى الاختناق حين يتحولوا إلى مجرد أجراء وفعالة، بحجة - طور قادم- قد لا يأتي بعد ازدياد النفوس والعقول والمصائر اسوداداً وتهافتاً..(1/140)
الرواية ذاتها تعطي مثالاً.." أعرف بعض القرى التي أجر أهلها أراضيهم لمزارعين من هذا النوع، اكتفوا بأجرة الأرض، وتركوا الفلاحة نهائياً وقعدوا في بيوتهم ص 105"... فلا أقل من أن تعطل "الشرطة"... هنا قوى الاستلاب، فبمحاسبتها وتجريمها تثير لديهم الوعي، وتثير سبل الفهم، وتتيح فرص الإدراك بالكشف القانوني والتعرية بالجزاء. الوضع الاشتراكي قائم، ويد الإقطاع والعقاريين لن تملّ من شد الحبل لمصالحها واهتبال الفرص، فما موقف أو دور القانون في حماية الوضع الاشتراكي وترسيخ أبنيته بقطع (اليد المخربة)؟ من يمثل هذا القانون؟ ألا يسمح فعلاً بالتدخل؟.. "القانون لا يخولني بذلك"!.
لا يكفي أن نعطي الفلاح، الأرض المشمولة بقانون الإصلاح الزراعي دون أن نعضده - بقانون- ، فلا يترك لمصيره، ولا يكفي أن يكون لدى الفلاحين (حسن التعاون) وهو متوفر حتماً عند كثيرين من الفقراء منهم وأصحاب الملكيات الضيقة، بل تجب مراقبة العمل في هذه الأراضي باستمرار، وصياغة الحس التعاوني المتنامي بمكاسبهم الجديدة في أشكال مشروعات جمعية مدعومة بالأدوات اللازمة على المستوى المعنوي والمادي حتى تتحول قراناً إلى مجمعات زراعية تعاونية حقيقية مفيدة تحبس الغبن والاستغلال. وترسخ إيديولوجية علاقات إنتاج جديدة، تبني الوعي من خلال الممارسة والشعار معاً، ولا أعتقد قيام ذلك دون تدخل القانون ضد من لا يريد أن يعرف أو يعرقل قيامه.
* زوايا المعلم نذير الميتة(1/141)
يؤخذ على المعلم نذير، أنه لبد في (زواياه الميتة)، ولم يستغل نيّة "أبي فايز" الصادقة ودفعه إلى مواقع وعي عملية كانت تفيده جداً في تحركاته الإيجابية التي أحبطت. بينما أسقط أبو فايز تخاذله، على الرغم من وعيه على المستوى النظري، على تشجيع المعلم للعمل والنضال فقط، تركه وحيداً يتفرج عليه باسم القانون الذي لا يستطيع شيئاً.. "أنت جبهة شريفة يجب أن تأخذ دورك ص 106".. بالطبع دوره كمعلم مناضل، لكن ألا يُمارَسُ النضال من أي موقع يكون الإنسان فيه؟ أم يجب أن يتبادل الناس المواقع، حتى يمارسوا نضالاتهم!؟. مهما يكن، فأبو فايز لم يقف ضد المعلم، أو ضد مشروعاته ولم يسع من أجل نقله متحالفاً مع القوة المهيمنة، وهذا ساعد على أن يُبذل الجهد من قبل المعلم بقوة ضمن الظروف والملابسات المشروعة سابقاً.
4- المحور الديني:
أريد بهذا المحور تلك المواقف الدينية التي تدحض المشعوذة وتدينها، على يد رجال الدين الذين يمثلونه كقوة دفعية ثورية، لا كأداة تخاذل وتغطية وغيبيات لا يقرها الدين.." واللَّه كان عندنا في الصخرة إمام فقير للَّه، صاحب أخلاق فاضلة، وعفة نفس، نفرته الملعونة.. ص 110..
وخلف (محمد الحلبي) أيضاً في وقت مناسب شيخ جديد أعلن صراحة بأن ما تقوم به فاطمة الضحى من أعمال (خرافة) و (مروق) على الدين ص 114.
هذا المحور كان - هزيلاً- في الرواية وجاء على شكل اتكائي، لم يكن له ضغط قوي، بارز، لكن مما لاشك فيه، أنه لعب دوراً في إعادة الأسئلة والأجوبة لدى أفهام بعض الفلاحين، التي تنتعش بوضوح إذ يسقط المطر إذ لم ينفع فاطمة الضحى إدعاء قدرتها هي على تلك الدفقات من المطر.
5- المحور الخارجي:
- دفقات المطر والقوة النابذة
يمثل هذا المحور بـ "دفقات المطر" المباغتة، مما أدى إلى تحرك:(1/142)
بنية التراكم الكيفي "بعد أن كادت تخمد وتهرسها بقوة وثقل بنية تراكم الكم.. وإلى حقن رئتها بأنفاس جديدة، حيث ستتحول إلى قيام بنية أخرى متولدة من عطاءاتها التي أخذت اتجاهات فعالة على درب الوعي المعمق من أجل حياة شرعية تنطبع فيها تطلعاتهم الجماعية في توازٍ وتضامن. لكن المتغيرات في المواقف والشخوص في بنية تراكم الكيف من خلال هذا المحور بالذات، ظلت في حدود "الرفض" للمراكز والتهديد بنسفها دون بديل، دون ركائز وعي عميق أحياناً تسوغ الرفض، بل كانت ردود فعل حارة تجاه هذا المركز الخارجي و "مشجباً" يعلقون عليه مأساتهم "إلى حين. بغض النظر عن التفكير في "ضمانات" قوة هذا الشجب وثباته!
لكن مما لا شك فيه، أن بهرة التفتح على الأرض والمطر يبلل قشرتها، ساعدت على استطالة مُشعات في تراكم كيفي. في وقت اشتدت قوة الجذب حتى أقصاها لصالح التراكم الكمي، ولقد خرج التراكم الكيفي بسقوط المطر، من قوة الجذب هذه، - كقوة نابذة- لم يعد التراكم الكمي الدائر، على الرغم من قوته الهائلة، بقادر على حبس جاذبية أقوى دعمت هذه القوة النابذة، التي أخرجت التراكم الكيفي من إسار دائرته، لينطلق في فضاء في مهوى بدا ضائعاً حين لم يحدد مساراً محدداً يجنبه إمكانية التعرض للاحتراق بإنعدام قوة جاذبية المركز الخارجي غير المستقر، ويبعده بالتالي من أن يصطدم مرة أخرى بكل دوائر مراكز بنية الكم فيتدحرج، وهو أكثر انزلاقاً وتشققاً، ليطويه جذب المركز الكبير الأساسي لدائرة: "القحط المرجح".
** نقاط قوة متبلورة في تراكم الكيف
يتأتى في تراكم الكيف بعض نقاط متبلورة في مايلي:(1/143)
* إن محاولة تغيير واقع الفلاح في مجتمعنا السوري بقلب الأوضاع المتخلفة أولاً، وإرساء بنيات بديلة سوسيو - إديولوجية، لم تتحقق بعد جوهرياً، كان ثمة طرح - أسئلة- ومعطيات أجوبة تقدمية، داخل الرؤية النظرية في المسألة الفلاحية، وشيئاً ما داخل الممارسة، وإلا فما معنى أن توجد بنيات متراجعة أو مستغلَّة أو مستغِلة أو جاهلة أو غير مستفيدة، على تلك الصورة المركبة التعسة..
** ثمة "اختيار: واع ونظيف يدعو إلى توحد الإيديولوجية الاشتراكة مع تجربة الجماهير يعري "الانتكاصية" التي تعاني "الازدواجية" على صعيد النظر الثوري وعلى صعيد الممارسة. وإن كان هذا الفضح في رواية الصخرة يسكت عند الكلام - غير المباح!..، ويأخذ دلالات عامة غير حيّة وغير تمثيلية مركزة.
** انزواء الوعي أو إفلاسه داخل إطارين عامين: الفرد - في العائلة أو المجتمع.. الفرد - في مصيره الجماعي الواحد.
ثمة معادلة يفرزها "الوعي" في بنية تراكم الكيف محاولاً تلقينها وتطبيقها على مستويين:
فلاحون + تعاونهم مع المزارع واستلابهم تجاه بقية المراكز = ضد أنفسهم وتدهور واقعهم. فلاحون + تعاون بعضهم مع بعض والانتصاب خارج العاهات بأنواعها = تغيير الواقع المفروض بالحرب ضد المراكز.
*- إرادة المناضل والمسألة الفلاحية(1/144)
إن إرادة المناضل الحقيقي قد يصيب حركتها الانحدار، لكن لا يمكن أن تتلاشى، وقد تتعرض لإجهاض، لكن التصدي للذين صنعوه، يعطيها الفرصة مرة أخرى، لأن تُصعِّدَ الصراع حتى تحقق في الواقع ما ترغب به على مستوى المقولة والشعار. لكن هذه الإرادة كما هي في الرواية كانت تمارس أدوارها فردية، أو في محاور غير متعانقة، وحتى في بعض الأوقات التي التقت فيها بعض هذه المحاور، فقد لاقت الإخفاق والتراجع، نتيجة عدم مساندة المحاور الأخرى لها، وضآلتها، في حين يقوم على عاتقها عبء عملية مزدوجة: التنوير العام على المستوى الإديولوجي والسوسيولوجي ورسم المشروعات التي تحتاج إلى تفسير للقيام بها من جهة ومحاربة المراكز والرد على سهامها من جهة أخرى.
ظهر في المسألة الفلاحية أن الطرح الإيديولوجي من أجل التغيير يجب أن يواكبه طرح سوسيولوجي في قامته، نفتقده بذلك المستوى.
بنية تفجيرية
*- إيقاع بطيء.. إيقاع عنيف
بنية تفجيرية بمعنى صوت ارتطام قوي من الأفكار المضادة لسكونية صمت التآمر والغش والاستغلال، واندفاعات معاكسة ثاقبة تحاول أن تمزق نسيج (السلمية) الذي يزداد طولاً وتكثفاً كما لو أنه لا سبيل إلى فضّه واستبداله، وتلغيمات تفقأ عين دمامل التخلف وتنسف بؤر المسلمات والسلوكات والمفاهيم المحنطة.(1/145)
بذلك الاتجاه كان التعبير الفني الذي سُخّر في نسق بنية تراكم الكيف داخل الكم في القسم الأول وفي الثاني من الرواية. والبنية التفجيرية، لم تكن بذات القوة في كل عملياتها، لكنها في كل مرة، على الرغم مما تحدثه من بعض الخراب في النسيج، ومن زلزلة في أرضيات المراكز، وتضرم الحرارة في استرخاءات نفسية وموقفية هنا وهناك، إلا أنها سرعان ما يزول أثرها المختلف، ويعود ما كان هدفاً للتفجير إلى سابق عهده من الصفة، كأن شيئاً لم يحدث. وهذا تبدى في ما قاله أو فعله دحام ضد فاطمة الضحى، والمختار، ومحمد الجاسم، والحكومة، واستلاب الفلاحين، ومن أجلهم، أو في ما فعله أو قاله المعلم نذير، وفيما أعلنه المحور الديني ضد الهرطقة... على أن هذه البنية التفجيرية بقيت ذات إيقاع بطيء حتى سقوط المطر في القسم الثاني، يسخن أحياناً (تجربة المشروع الثاني بخاصة.. صدام دحام المباشر مع فاطمة الضحى وإصراره على إهانتها وفضح أكاذيبها...) بينما أخذت هذه البنية تتوافر على إيقاع عنيف ذي قوة تدميرية في القسم الثاني من الرواية أثناء سقوط المطر، حيث تشكلت البنية التفجيرية في أسلوبية جديدة عمقت الزمن في السياق الروائي. كان الزمن في القسم الأول متداخلاً يتجذر ويتعمق إلى مراكز الدوائر كلها، ويتلاحق في الوقت ذاته كضرورة حتمية في استمراره وديمومته من خلال البناء الروائي ومعطياته في "الصخرة" يكشف عن الأعماق، كما ينير التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، أما في القسم الثاني، فإن الزمن كان يدخل تضاعيف دوائر معينة في لحظتين متناقضتين: لحظة تسبق العلم بالمطر ونظره، ولحظة المطر الهاطل "حيث العيون معلقة بالسحاب"، أما التتابع ففي مسافة ضيقة (هيكل الزمن الظاهري المتلاحق في الرواية لا يتعدى يوماً واحداً).(1/146)
في اللحظة الأولى يكمن الكاتب في زوايا الدوائر أو مراكزها ليلاحق رؤيته، يدخلنا معه، يرينا أكثر مما يخبرنا كما حدث في القسم الأول على مستوى البنيتين في تراكم الكم والكيف، تمتد هذه اللحظة وتتسع في عمقها وهي تطوي في السرد قطاعات مختلفة ذات شخوص متعددة في حالات متنوعة عن طريق الحوار الذي أخذ دوره في الكشف عن النزعات والعواطف والهموم ومتح ما يختفي في أعماق الشخصيات ليؤدي إلى امتلاك الرؤيا المصنوعة أيضاً من قبل استخدامات أسلوبية أخرى، كالتحليل الذي يحل كل الحوار أحياناً، والوصف الذي يعد مهمشاً في السرد الحكائي، واستعمال المونولوج الداخلي في حدود ضيقة، والإيقاع الذي بدأ في هذه اللحظة حيوياً، لكنه ليس شديد السرعة والسخونة كما هي اللحظة التي تلي، وبذلك أعطى معنى قوياً وتأثيراً حاداً، حين تفجر مثل ألسنة اللهب من النار التي اشتعلت في الساحة الصغيرة التي تطل عليها دُوْرُ آل الجرو وآل النمر وآل العلي، أو مثل طلقات الرصاص من البنادق والمسدسات المتحدة مع زغردات النساء والضراعات اللاهبة وهي (تلاطم) قطرات المطر القوية الحقيقية.(1/147)
في اللحظة الأولى دلَ الشريط على أن الدوائر ماتزال على انغلاقها الذي تطوي فيه مفرزات حيواتها الفردية والعائلية والاجتماعية على دائرة ماتني في حركة التجاذب المتوازنة مع بقية مراكز الدوائر والمشدودة كلها إلى قوة الجذب في المركز العام الناتج من التجربة الكلية الواحدة والذي يحفظ قوة جذب المراكز، هذه اللحظة الأولى إذن، هي من بنية التراكم الكمي "تتبعها بشكل فجائي يغاير سلمية اللحظة الثانية التفجيرية من بنية تراكم الكيف"، فتحدث هرجاً وشرخاً قوياً في الانغلاق "الدائري" تهتك قشرتها وتحاول أن تقذف بـ النواة - المركز "بعيداً" وبذلك يتعطل التوازن ويضطرب ويؤدي إلى الاختلاط والتداخل، الأمر الذي يطلق "القوة النابذة" خارج قوة الجذب الأساسية في المركز العام وخارج قوة جذب المراكز التي كانت تستمد طاقتها واستمرارها من القوة السابقة. وهكذا مارست قوة التفجير في بنية الكيف دورها في دخول كل دائرة لتحدث نوعاً من العطب، ثم تنتقل بسرعة إلى دائرة أخرى لتمزق، حتى يحدث الخلل والتعطيل في كل الدوائر، ثم تعود مرة أخرى لتحقق نوعاً أعمق وأوسع من التخريب، على الخصوص، في دوائر "مراكز" بنية التراكم، في محاولة لفرقعة قلوب هذه المراكز نفسها وبؤرها العفنة، ووضع الرؤية على مدى القلقلة والاختلاط التي أصابها بمصادمة الدوائر العائلية التي تبددت حركة مجاذبتها أو كما يبدو في طريقها إلى ذلك التبدد، بمزيد من قوى التفجير داخل بنية تراكم الكيف، التي ظهرت أيضاً ليس من خلال ارتطام اللحظتين الأولى والثانية، اللتين تتسرب فيهما البنيات المتضادة، بل بصراع تصفية الحسابات بين المراكز، وتكشف عن أطماعها المتصادمة ذات النوايا والغايات المختلفة في انحطاطاتها..(1/148)
لكنه صراع سرعان ما تجري تغطيته مرة أخرى كما أوحت الرواية، لأنهم "بعد أن انهزموا جميعاً ص 181 يدركون أن الخراب لاحق بهم جميعاً، إذا لم يجدوا صيغة تعاون جديدة ويقفوا ضد "العوائق، كل العوائق ص 189" ويظهر أن المختار سيتزعم جبهتهم المنتكسة- .." أنا الذي أعرف الصخرة.. أنا الذي أعرف الدليم ص 145 "أما نتيجة هذا الصراع فمتوقف على طاقة قوة التفجير في بنية تراكم الكيف أولاً وعلى فعل القوة النابذة" المتولدة عن التفجير في قدرتها على إيجاد فلكها الخاص المتحرر والمتوافق مع طموحاتها التي قد تنتج مغايرة بتأثير معطيات التفجير الإيجابية إذا وعت ذلك ومدعومة بالمحاور الكيفية التي ستجد فرصة كبيرة لتوحيد الفعل الموضوعي معها.
*سرد بنية التفجير
والتركيب الدائري(1/149)
أما سرد هذا الصدام على أنواعه، فقد حقق ما أراد من تطلع إلى الوصول إلى المتلقي، في تحقيق عمليات الأخذ، والمشاركة، وصنع "الرؤيا" مما تطبعه وتقوله المشاهد، ومعايشة همّ جديد في ما يمكن أن تحققه - القوة النابذة- التي ظلت "ضائعة" حتى الآن في بنية تراكم الكيف تشي بالتفلت من الإسار، لكن لا تعد بشيء حاسم، فأي مدار ستنشد إليه مرة أخرى؟. هذا التطلع" المحقق، على المستوى التعبيري، في القسم الثاني، يكاد لا يقارن بما حققه من نجاح وما ميزه من ضبط السياق، بالنسبة إلى القسم الأول، بعضه، على وجه الدقة كما مرّ، فهيكله الأسلوبي بدا هنا متماسكاً، في عمليات التفكيك داخل كل فصل وإلا فسيؤدي هذا "الحل" الذي يكون عنده على مستويات عدة على أصغر حالات التفتيت- أحياناً- إلى الانهيار بفعل انتفاء عملية التركيب المتينة أصلاً. كما يقوم البناء عند إعادة التركيب من قبل المتلقي والذي هو محسوب في معمارية الصورة والرؤيا داخل الفصل أولاً وداخل الفصول ثانياً عندما يثقل بإضافات وذيول وتهميشات لا أهمية لها. كما كانت انتقالاته غير محصورة في نطاق ضيق، سريعة، خاطفة أحياناً، في جل الدوائر يحل مقطعاً من مشهد، يمرره أمام عيوننا، يطبعه، يوقفه، ينسحب وقد خلف وراءه قهقهة نشاركه إياها، أو مرارة، أو سخرية، أو استطلاعاً وفضولاً لم يشبع يبحث عن بقية، يعود إلى تتمة مقطع من مشهد ليعرفنا على ملتهباته.. وهكذا حتى تتكون فكرة شمولية عما يجري خلال هذا التركيب/ الدائرة، وكأنه في سباق مع زمن قصير، يريد أن يستقطب كل حوادث الحياة في القرية خلاله، بحيث أمكنه أن يعرفنا على كل ما (يخفق) فيها خلال لحظة المصادمة في بنية التفجير في تراكم الكيف، ولو لم يكن هذا التركيب الدائري، لما استطاع أن يحقق هذه الشمولية وأن يعمق الزمن إلى درجة استيعاب كل الحياة فيه مما دفع إثارتنا إلى المتعة وحرك حدسنا ونحن نستخرج أو نحاول أن نستخرج نتيجة ما.(1/150)
والواقع أن هذه الطريقة قد مهد لها الكاتب جيداً في الفصل الأول من القسم الأول، لكنه لم يتابعها، ومما زاده في البنية التفجيرية هنا، هو تشابك الدوائر حيث رحنا نرى في مقطع واحد مفتت يعرض أمامنا اجتماعاً من عدة دوائر بعد أن تكدست محيطات هذه الدوائر "في البقعة الجنوبية الغربية تندلع أصوات الأطفال: مطر.. مطر.. نواف بن محمد سعيد الدليمي يقود جمهرة الأولاد... عيد أصغر أولاد ماجد الخلف... يتوسط الأولاد... أولاد آل العقل ينضمون إليها.. صبحة زوجة متعب النمر تضع يدها على فمها... وردة زوجة هزال، سعيد بن محمد سعيد الدليمي لا يتمالك نفسه... طراف المشعل... سالم الجرو.. ذوقان العقل... هدية أم محمد العلي... حماد ابن المختار وخلاف... الخ ص 43- 144".
* التداخل في الدوائر وملامح التعبير
لكن هذا التداخل في الدوائر، ظهر بصورة جلية، في دوائر المركز حيث تغدو مسرحاً للصدام، عند سقوط المطر، في حين تكون قبل اللحظة التفجيرية، شبكة حقيرة للاصطياد والتسخير، وقد بدت براعة هذا التداخل على الخصوص في الفصل السادس، المتواشج داخل الفصل كما هو متضامن أيضاً مع تداخلات الفصول الأخرى، التي يربط بعضها ببعض، وشائج تراكبية عدة بشكلها الدائري.(1/151)
أما سرد دحام في البنية التفجيرية، فقد رصد انفجاراته الداخلية في اتجاهات عدة (المرأة، العمل، الاستقرار، المصير الذاتي،...) عن طريق بعض الاستخدامات الأسلوبية المتبعة في الفصل الثامن عشر والعشرين من القسم الأول. وقد اتسم سرد دحام في هذه البنية بالحرارة واللهفة على المصير يتمزق بين الكلمات ظل باك لكنه مشحون بالغيظ والحقد والإصرار على تحقيق الذات داخل اختيار صعب وحيد هو: الخروج من الصخرة، كما أن التدفق كان يميز العبارة، ويلون الحوار داخل صفحات هذا السرد بالحدة والغنائية والعذاب والعصبية التي تسبق الإقدام على شيء مجهول أو غير مضمون. هذه الغنائية ليست غير مسوغة، بل هي نتيجة المضمون والمواقف، وصدق السرد.
كما تجب الإشارة هنا إلى وصف المطر في هذه البنية التفجيرية التي كان يختار فيها اللحظة برقة حتى تعطي دلالاتها حتى كنا لا نعدم احتجاج المراكز (الذي- يقبله- السياق)، "ألم يعرف المطر أن ينزل إلا في هذه الساعة؟ ص 159 "يقول سميح محدثاً نفسه. كما أن هذا الوصف لم يكن إخبارياً بل غدا يزحم نفس المتلقي بمشاعر عدة قوية، يدخله في العواطف المتفجرة فيه، يصوغ موسيقي خلفية فيها أمل الأعماق الساغبة وهي تقدس انتصار الحياة. هذا الوصف لا يتيسر إلا بتجربة واقعية صادقة في المستوى الذي جاءت به، عرفت الأرض، وعرفت عضاتها، وعرفت كيف تمسح الدموعُ الفرحةَ بعد مطر في موسم جدب، يغسل جبين الفلاح المعصوب بالألم والجفاف.
بنية الحلم:
والحلقات الأخيرة
هذه البنية تمثل الحلقات الأخيرة من بنية تراكم الكيف، هي متصلة بها ونتيجة لها في الوقت ذاته اتسمت بسمات جماعية معبرة، بعد أن ظلت محاولات تراكم الكيف حتى الأخير فردية تنزلق عن قوة الجذب بفعل القوة النابذة، لكنها تظل المحاولة تدور ضائعة، أما هنا فقد تجمعت هذه المحاولات داخل القوة النابذة ترسم مجالها الذي ستدور فيه من جديد.
* هل تحقق بنية الحلم إحلال بناء آخر؟(1/152)
فعلى هذا، فثمة حد رقيق يفصل هذه البنية "الحلم" عن بنية التراكم الكيفي الذي أرهص بمعطياته وكون إمكانية انبعاثها إذ لم تقم. لكنه ظل حتى الكلمات الأخيرة (ويمكننا أن نقول ذلك) تتداخله، تسري في نُسْغه (على التحديد في الفصل ما قبل الأخير)، بكيفية لا تبعث على الثقة التامة بثباتها ومقاومتها وجديتها ما دامت تفقد محوراً مهماً هو: دحام الذي ستكون مواجهته، هذه المرة، مع جماعة "القوة النابذة" شرسة إلى أبعد حدود بعد تجربة نضالية طويلة مع المراكز، وبعد الظرف الجديد الملائم، وبعد الاختيار الذي لا رجعة فيه باستقراره، وبزواجه من سليمة، وبناء حياته التي يحلم بها، وتحقيق هذه الحياة - الحلم، بالكفاحية الجماعية، حيث يرهن حياته للأرض التي أحبها، للصخرة المطهرة من الاستغلال، والانحطاط بأنواعه.
بنية الحلم تنفصل وتتصل. تنفصل عنه عند الحدود التي طفقت تُبْرِزُ تَخَلُّقَ كيان ذي اتجاه جديد لا يعني التفجير، والانسحاب من دوائر المراكز، والتجديف على الغش وحبائله، والمجابهات الغاضبة المؤقتة أو المتشفية دون هدف، لا يعني كل هذا أن الذي يستند على - مركز خارجي- قد لا يدوم، وعندئذ يمكن للتراكم الكمي من العودة لينبني في تشتتهم وضياعهم أقوى مما كان عليه. ولكن يعني إحلال بناء آخر مغاير، أحجاره من تلك المعادن الصلبة في التراكم الكيفي التي تتجوهر حقيقتها بعد أن تكشف عنها التراب الذي كاد يئدها.(1/153)
وتتصل به في كون بنية الصحوة والحلم، أخذت تسود أكثر فأكثر في القسم الثاني من الرواية بعد سقوط المطر، وبعد أن كان التراكم الكيفي يبحث للوصول إلى ذروة. فخلف الأحجار المتهاوية، والتهديدات، والانسحابات، والجرأة على المراكز وشتم بعضها بطريق مباشر أو غير مباشر، والانفلاتات المعلقة، والتهديدات، كانت تنشأ - صحوة- داخل رحم التراكم الكيفي، لم تر النور، وإن كان يمكن توقعها، لكن يظل هذا التوقع غير مضمون مخافة أن يكون جنين الصحوة مشوهاً لا يستقيم أمره في هذه الحياة الصعبة، ولا يقدر على ممارسة نشاطه المجدي، بل سيكون من الضعف بحيث يسهل تسخيره، مما ترك شعور الخوف لدينا من "سقوطه" على هذه الصورة الجنينية المشوهة، ومرارة من تلك الإشارات التي كانت تدرجها الرواية بين الحين والآخر، في أن دفقة من المطر فعلت ما فعلت، والسماء راحت تصفو، والإفادة من هذا الظرف المناسب لم تتحقق. غير أن في الفصل الثامن من القسم الثاني يبدأ ضوء الحياة يكشف شيئاً فشيئاً عن ملامح الجنين- بين الصحوة والحلم، ونتعرف على إمكانية جدارته في العيش، والنمو القوي، فمن هؤلاء الذين شاركوا في صنعه؟...
فايد العقل: المستغَل
من المُظْلِمين
فايد العقل من طبقة مسحوقة، ضائع، يتشبث بوعود محمد الجاسم، في أن يجد له عملاً مناسباً في المشروع، وفجأة غدا ناطوراً بلا زرع. بكاؤه، الآن، يحرق قلب نذير وهو يعرف أنها ستطهره بعد أن خدع طويلاً.(1/154)
نذير يعرفه، لايشك أنها حرقة من أجل الآخرين أيضاً، من أجل - بعضهم- على الأقل، إنهم جميعاً (مُظْلِمُون). مثله ذرة ضائعة تبحث دون جدوى عن أرضية تقف عليها لأنه معزول ومبتز داخل هيكل اجتماعي واقتصادي قديم ومغتصب... قشرة مهترأة على سطحه. مثله يحاول أن يبحث عن - إجارة ما- ، عن - مركز ما- فيبقى مسحوقاً يعيش مصائر (غيره)... معلقاً في ترقب ومرارة وخوف، لا يصنع مصيره وحده ويرعاه، بل ينتظر كل شيء من الآخرين الذين يحيون على امتصاص حياة أمثاله. وهكذا، كان بعض شأنه مع فاطمة الضحى ومحمد الجاسم، والذي أوصله إلى أن يطرده الفلاحون من دورهم، ككلب. بل إن هذا الهيكل القبلي الطبقي العائلي، لا يجد لمثل فايد مكاناً من أي مستوى إلا إذا كان مستغلاً بما فيه الكفاية، ليلحق إلحاقاً "فايد العقل ليس له أرض، ولا يملك نعجة واحدة ص8" فهل مثله يجد زوجة و "عشرة آلاف لا يرضى أبوها مهراً ص 96. وعندما تتحطم آماله ذات الرابط الهش بخطة محمد الجاسم، يدرك أنه لا يملك مصيره أبداً، وأنه معلق بالآخرين الذين لم يعرف اختيارهم. بدأت أفكار جديدة نقية تحفزه إلى فعل ما، صحوة تؤمله بحلم ما. يتوجه إلى المعلم نذير متألماً دامعاً. إنه فقد كل شيء دون أن يملك شيئاً حقيقياً في الأصل، لكن حتى بؤسه الذي كان يحتمله داخل حلم غثٍ، غدا فراغاً، تفاهة رآها تزيد من خلال دموعه من أجل نفسه أو من أجل الآخرين فمثله تختلط لديه الأمور إذ نسي نفسه واحتواه غيره. وما دام الأمر كذلك، فعليه أن يختار من يحتويه من جديد، لا كإمعة، بل كشريك مؤثر فعال، له كيانه وقدره وهو ينضم إلى الفئة التي تحلم بأحلامه على حد سواء، من أجل التغيير ونصرة المسحوقين والمخدوعين والمتلبسين بالجهل والضغوط والانعزال.. ها هو ذا "نذير" يؤكد له كيانه وقدره: "سيتعاونون ويقفون ضدكم يا أستاذ/ - ضدنا؟ وأنت ما أنت؟/ - أنا؟..(1/155)
ماذا أنا؟ /ص181" وبداية السؤال عن (الأنا) في طرح جديد، ستضعه داخل أسئلة أخرى جديدة، وداخل "فعل الإجابات".. وهكذا يجد مكانه وهو يسأل!.يرفع غبشة عينيه وهو يسعى إلى "دحام" ويطرق عليه الباب حتى يكاد يكسره، يريد أن يدخل "وعيه" الذي حرم منه، لكنه: - اختفى! - نذير لا يعرف أين هو أيضاً. "هيا معي فايد، لعله عاد إلى غرفته". هما في مواجهته. فايد له موقف الآن، يدخل أسئلته الجديدة المحاربة وهو يسأل (دحاماً) الذي أراد مغادرة الصخرة: "لماذا يا دحام؟ ص 185" وبعد حوار لم ينفع، فايد العقل يختلج أسفاً وغيظاً، تلوح مبادرته على التصميم وعدم التراجع واقتناعه باختياره وتقوية جبهته، يتلهف على (الإجابة) مع دحام وبه..." سأتبعه، سأوقفه، سأمنعه ص 186 "نذير لا يقبل" لا خير فيه إن لم يعد من تلقاء نفسه" وهذا ما فعله "فايد" نفسه: هو لا يفقد الأمل الحقيقي، هو لا يريد أن يهرب الحلم منه بفعل جبهته الناجز... "يجب أن يعود"...
حواس الزير:
ومصائر الآخرين:(1/156)
حواس الزير من آل الزير الذين كانوا يعملون رعاة عند خالهم "سالف الحسين"، ثم كونوا كياناً مستقلاً بقيادته. لهم قطيع مناسب. المصيبة جعلته يوالي (محمد الجاسم). ذكاؤه يؤهله للاندفاع نحو "نذير" في صحوة من الهذيان الذي أصاب الجميع بالمصيبة، بعد أن دفعته أثرته الضيقة على الارتماء في - الشبكة- ، وخموله أن يفرط بالأرض. حواس يدرك القوى العائلية وأثر الإمكانيات المادية في تحكم علاقات الصخرة وتسلطها "أتظن أنني أخشى آل السايب يا طائش. ألا تعرف أن أخوالهم آل الدلفي؟ وأخوال أبيهم آل النمر؟ ص 97". لا بد من استبدال هذه العلاقات، بأخرى تقوم على التعاون، وعندئذ فالقوة تنبع من الجميع الذي يشترك في صنعها وتهبه القدرة على مجابهة العوائق القائمة والمفترضة دون استغلال، وقهر، وانتظار الإنقاذ. دون رهان على الأرض والنسل، ودون الإحساس بالضعف في وحدته، أمام مصير لا ينفك أبداً عن مصائر الآخرين الذين يجب أن يعوا ما حولهم، هؤلاء الذين يجب أن يدركوا، ألا أمل لهم إلا بالتساند ليؤلفوا نواة صلبة ضد قوى إما مكتفية بذاتها ومدعومة بالمال والجاه ويجب أن تنسف بنياتها وتنخرط في هذه النواة، وإما قوى مصادرة (بكسر الدال) داخلية وخارجية تستغل تشتت أهل الصخرة في التصدي لمشكلاتهم، تلك التي لا يحلها إلا هم، هؤلاء الذين يعنيهم الأمر في الدرجة الأولى. ليس بالزحف، نحوها، ببطء.. ولا باستجرار غيبي أو انتظاري لولادات إعجازية قد تأتي بعد فوات الأوان، قد تنفع نفعاً مؤقتاً ولكن لاتبرئ.
* على المشعل..
والصحوة على الواقع والمصير.(1/157)
آل المشعل من ذوي الذكر الخامل، "علي المشعل" يعمل في الزراعة، يملك مع أخيه "خمسين رأساً" من الماشية، كان من أعوان فاطمة الضحى، مهيأ بحالته الاجتماعية والمادية للدخول في بنية الصحوة والحلم، كما أن اصطدامه بمركز فاطمة الضحى، ولو أنه جاء مصادفة، أظهر زوال تلك الأبهة التي كانت تمسح بها الناس. وكان صوته الهازئ "بَلِّطي الزرقا" و "أنا أضربك بالحجارة يا أم شداق ص 174" هو صوت جماعي أخذ يتنافى في بنية تراكم الكيف بعد سقوط المطر.. يقولون: "بدأت تصاب بالجنون" وهذا كثير، زاد نحفاً ص 174 "لكن عندما يتعلق الأمر هنا بـ "خديم" لها وهو علي المشعل، فإن الاستخفاف يومئ إلى عمق الهوة التي طفقت تفصل قوة سيطرة المركز عن الفلاحين، ومدى الحالة التي وصلوا إليها، بتحطم حتى ولاءاتهم، التي أخذ أصحابها يستذلون بها، أو ينسفونها كما هي الحال عند علي المشعل الذي بدأ صحوته في اختياره العمل مع المعلم نذير ومن معه، ليحقق حلمه في الحياة الكريمة داخل حلم جمعي ينتفي فيه حساب التباعد الطبقي الذي يدفع أمثاله إلى الالتجاء والتبعية والولاء الساقط الذي ظهر له سخافته بما كان ينطوي عليه من هراء وشعوذة وتسلط واستغلال، كما ينتفي فيه أي خوف من مصير غير مضمون أو ربقة ما من أحد.(1/158)
وبالطبع، فإن التراكم الكيفي يومى إلى إمكانية دخول الكثير في بنية الصحوة والحلم ولا بد أن تقويهم وتجذبهم القدرة التي كونت بذرة شقت عتمة الأرض وبدأت الاخضرار فوقها، ولهذا نجد أن المراكز كانوا يوحون كثيراً إلى هذه الأصوات الجماعية المستنكرة والمتخلية وإن ظلت ضائعة موزعة - بواو الجماعة. "ليموتوا قهراً ص 168": المختار - و "أتركهم يموتون ص 169": المزارع- "سترون ماذا سيحل بكم على يدي ص 174": فاطمة الضحى- . فضلاً عن أن أكثرهم من المشمولين بعملية الإصلاح الزراعي، وإمكانية صحوتهم بعد تجربة مرة مع المراكز التي مازالت تهدد، سيمكنهم من التعاون مع المشروعات البديلة لجبهة التضاد والإنقاذ، توفر لهم الوعي اللازم باستنبات أراضيهم والاستفادة من خيراتها بدل إهمالها والاكتفاء بتربية المواشي، كما يتيسر لهم الاعتماد على التقنيات الحديثة في سقي أراضيهم والاعتناء بها، يقول نذير: "أتعرفون ما معنى الاشتراكية؟ أن يعمل الإنسان في أرضه، أن يأكل ثمرها، وينفع وطنه...
والواقع، فإن صوت نذير الواعي والمبشر والفاعل والذي قام مرة أخرى ليعمل، لا يهمنا قدر ما يهم صوت دحام، لأنه ابن الصخرة، وفيه صلابة إن امتلك الإرادة على تحقق أهدافه، وعنده الوعي الذي يجنبه عثرات الطريق ويعدي به المتعاونين معه، كما أن معاناته من المراكز، خاصة مركز فاطمة الضحى، برفضه لهم، ومحاولاته مع المعلم نذير من أجل الإنقاذ أكثر من مرة، وتعاطفنا مع شخصيته بكبريائها، وتطلعاتها، ونزقها، وعذابها من أجل الخلاص الفردي والجماعي - كل ذلك وأشياء أخرى من ضياعه تدعم استحقاقه في جني ثمار أي انتصار لا يمكن توقعه قائماً مستمراً في مستوى التحديات التي سيواجهونها من دونه.
* دحام العسكر
وبنية الصحوة والحلم(1/159)
دحام العسكر يدخل بنية الصحوة والحلم في الصفحة الأخيرة من سرد الصخرة.. نوازع شتى انتابته من قبل وأفكار. في فراشه فكر في إخفاقه: "فشلك ناتج من إيمانك بأنك جزء من المجتمع الذي تعيش فيه، ستبقى فاشلاً ما دام المجتمع فاشلاً. "هكذا قال له نذير. رفض قوله: "سخف هراء، يضرب الفراش بقبضته ص160 "لو أنه استقر لتحسن حاله، طلب الاستقرار عن طريق الزواج. راح يفكر بهن. كل واحدة بينه وبينها عائق.. وعن طريق العمل، أي عمل؟
- ارتباطات وخلفيات
قارن نفسه بالآخرين، بفالح المطلق الغني، كرهه دائماً، تمزق، طالما يسعى إلى الانتقام منه بمشاركته فراش زوجته الثالثة: حمدية.."(1/160)
يُفسر تهالك دحام على النساء، بالإضافة إلى ما قد تنتهز شخصيته الآسرة من فرص، بتكوينه النفسي الحاد والقلق، وبطاقة حيوية هائلة تدفعه للبحث والتأكيد على الذات في ظروف قاهرة تحاربه على مختلف الأصعدة اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، فيجد متنفساً لها في الجنس يداه متشنّجتان، تهفوان إلى صدر نابض يجمع فيه كل مصائبه، يطرحها ص 164" إلى جانب إشكاليته المتمثلة في عدم قدرته على العيش في واقع لا يجد له مكاناً مناسباً، نجد أيضاً فقدانه الحنان الأبوي (أبوه مات أمه تزوجت) وهو صغير، يتبدى بعض من ذلك على شكل إشارات عابرة وهو يمايز بين الصفات - التي تعجبه ويهفو إليها- فيمن عرفهن "نورة" صوتها يملأ القلب حناناً ص 161" و "سليمة تحيط به كما يحيط الظل بالمتعب ص 176").. تلك من حقه "فالح يستطيع أن يتزوج كل سنة امرأة، وأمثال دحام يعيشون حول البيوت كالكلاب ص162"، وتجدر الإشارة هنا إلى تقصير الكاتب في تعميق إنساني ونفسي لهذا الجانب في شخصية دحام في علاقته بالمرأة كجنس، وكارتباط (سليمة مثلاً) له خلفية اجتماعية ونفسية وموقفية، كان لها أكبر (الأثر) في جرّ واختيار دحام للدخول في بنية الصحوة والحلم بصلابة وعنف، واتسم سرد مشاعره تجاه - سليمة- ببعض العمومية لا تعدم التدفق والإشراقات العاطفية والإيقاع الملتاع نوعاً ما.
* الصفحات الأخيرة ذات مذاق خاص(1/161)
إلا أن هناك تفسيرات يمكن الاعتماد عليها في التحليل، داخل ذلك المذاق الخاص، الذي صنعته لنا الصفحات الأخيرة، ونحن نمتص - صدى- محاولات دحام وطريقته لطلب يد سليمة والتي بدت "مستغربة" ولهاث ودموع واختناق السر في صدر وعيون سليمة.. تلك التي أراد أن يتحد بها (لا أن ينتقم بها كما جرى الحديث عن حمدية. أما نورة فقد كان يخمد ناره في شفتيها... "ليست غبية، أبوها يكرسها كموسم عام، ليتمّ بمهرها تكاليف محرك زراعي يحلم به ويزرع القطن ص 56" سليمة شيء آخر.وجه من ظلم اجتماعي يطويه.. "جميعهم يحاولون استغلال غلطتها ليسطوا عليها في الخفاء ص 61" (وعيه بظلمه جعله يرفض انتسابه الطبقي حين أبى الزواج من آل الدلفي حتى لا يرسخ هذا الظلم ويقبل به وهو يغطيه بـ "التبعية" واستلهام القوة من غيره.) رأى في قدرها شيئاً من قدره.. هديبان أبوها "مات منذ سنوات طويلة مخلفاً سليمة" وأمها عمياء. ينكأ قرحته في مأساتها "ما أقسى أن تكون الأسرة دون رجل ص164"، يفكر بها داخل نقلات أحلام اليقظة التي تنسيه بعض حرمانه إلى حين" وسليمة تهيء له الطعام ص 165 "يغور صدره بالتوق إلى أن يسند رأسه على صدرها، يشعر بالحنان الذي يهفو إليه في الأنثى.. "سليمة دفء، حنان، طمأنينة ص 189 "وهي تحيط به "كما يحيط الظل بالمتعب". هي تحتاج إليه" ما أروع الرجل عندما يكون شديد القوة، شديد الجرأة، شديد الحياء" ولا "تطمح أن ترى من يحبها... إلا دحام العسكر ص 61".. إنه يريد أن يحميها، أن يتحد بظلمها، ليجد كل منهما في الآخر خلاصه وقوته النابعة من (الحب) الخالص القادر وحده على "الإنقاذ.." يحسّ بقدرة عارمة على إنقاذها ص 184 "والحنين" يحيله إلى ريح عاصفة قادرة على اقتلاع الأشجار، وتمزيق الصخر ص 189 لكن من يقدر أن يغفل الآخرين/ الجحيم حين يبلغ ظلمهم حداً لا يطاق، تدفعهم رغباتهم الآسنة لاستغلال غلطتها إلى ما لانهاية، ويشغلون فراغهم القميء، بتصعيد الألم والحزن.(1/162)
ينكب هؤلاء الآخرون حول أفكاره، هل يمتصون حنينه؟، "سليمة بلا أخلاق، متلاعبة ص 165" "سليمة متعفنة ص 161" أيتزوجها؟.."الناس يتجمعون، يبصقون عليه - سليمة يا دحام؟- / - أنت يا دحام؟ ص 160" ومن هو؟" فقير مغرور ص60". الناس يبالغون. وتعود سليمة.
* دحام والمحبوبة والصخرة.. وآفاق الاختيار(1/163)
تحيط به كما يحيط الظل بالمتعب هو يحتاج إليها كما تحتاج إليه.يطلب سليمة من أمها. يخلص في خطبها: "ماذا أقول حتى تصدقيني؟ أريد أن آخذ سليمة، أخلصها من الصخرة، وأمضي بها بعيداً إلى القامشلي، إلى الحسكة، إلى الدير، إلى أي مكان نعيش فيه بعيداً عن كل الدليم ص 179" لكن الأم أبعدته في حرقة، وسليمة تدفقت باكية. كل منهما تدرك "الحالة" في مجتمع شهادته، أحكامه، أقسى من الموت، يمكن أن "يميّع أية علاقة إنسانية لا تمر عبره يصبح مثل هذا الطلب غير جدي، مجرد لعبة، أو إقداماً أخرق، لأنه محكوم على طالبه بالمهانة سلفاً. وفي مجتمع سرعان ما يتحول "الاتهام" فيه إلى حكم ثابت يعدي من "يتصل به"، حين يقدم مثل دحام بن عسكر الذي كان فارس الدليم الأول وزعيمها الذي يتوافر لديه المال والجاه، والذي مازالت بقية الأسرة (آل الدليمي) التي ينتسب إليها، تمارس قوتها من رأس الهرم الاجتماعي ويحسب حسابها - عندئذ يغدو الأمر لا يصدق، ويبدو من خلال الحسابات السابقة، محاولة للسخرية "اذهب واتركنا في أسانا، في همنا، اللَّه يرضى عليك، اللَّه يستر عليك ص 178" أو ضرباً من الجنون يهتك في حدة حقيقة الوضعية المؤلمة: "الآن يا دحام؟ يا أسفي على شبابك، لو كنت في عقلك لما جئتني تطلب يد سليمة لابن عسكر الدليم ص 198" هو نفسه يطبق هذا (المعيار) في غضبه بعد أن أراد أن يدوس عليه ولا يأبه بمن يلوذون به ففسّر جانباً كبيراً من (موقفها) دون أن يحدده ويدركه مما دفعه إلى أن يقع في الإدانة حتى سليمة المعتوق ص 189" "أيتركه أهل الصخرة دون أن يمحقوه بألسنتهم؟ ص 179". ولكن (لماذا الزواج - الآن- ؟) و (لماذا سليمة الآن)...(1/164)
حقيقة هو ينوي "الهرب" من الصخرة، ولكنه هرب منها بها- . ومن هنا جاءت أو تبدت تلك الكآبة العميقة المعتمة التي لم يكن ليستطيع دفعها، والتي استطاع الكاتب أن يفجرها في إيقاع السطور، كلما خطر لدحام أن يفارق الصخرة أو حتى وهو يجزم صائحاً في مبالغة مفتعلة تكشف - ضعفه- في الوله بها حتى العبادة، وعجزه عن أن ينفذ عزمه "سأمضي الآن، ولن أتراجع لو وقف أهل الأرض في وجهي ص 184"... وفي كلمات أسيانة "سأغادر الصخرة إلى الأبد ص 185" إنه يعرف من البداية، أعماقه، وهو في لُغُوب يبحث عن عمل ثابت لم يجده في الصخرة ولا في خارجها، في أنه مهما ابتعد عن الصخرة فلن ينساها "تركتها ست سنوات من طفولتي أثناء المدرسة، وثلاث سنوات في شبابي في أثناء العسكرية، وبين كل فترة وأخرى أغادرها شهرين وثلاثاً لأعمل هنا وهناك، ولم أنسها مرة واحدة ص 119 "كانت" تملأ عينيه الضائعتين ص 126 "دائماً..." حبل متين يربطه بالصخرة ص 165 "كأنها" جسم لحمي كبير، وهو قطعة من هذا الجسم، ولكي يستخلص جسمه منها عليه أن يحزه بسكين.. ص 183" ولهذا كان عليه أن يخفي دموعه وهو يرميها بنظرة ترمي قلبه وهو يغور في المجهول هارباً منها، يسلط عينيه إلى الصخرة: وداعاً... وداعاً؟ ص 187"... كل هذا العشق المحفور في الجسم والنفس، يجعله يدرك مدى العذاب الذي سينتظره عندما يغادر الصخرة، ومدى الهجانة والخواء والعبث الذي سيدمر شخصه وحياته عندما يباين مقامه عن تلك الأرض التي نمت عظامه وأشواقه عليها، وحلم أبداً في جزء منها يكمل عليها مسيرة وجوده الذي تمثله بحب وصدق وتبعده عن الطريق "المجهولة".. "العابثة"... "الهجينة" والتي قد لا يقدر الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية إذا أراد أن يعيش حياته المسوغة، ومن هنا فإن (تقلبه) و (اختلافه) بين لحظة وأخرى متقاربتين حتى يتحدا أو متباعدتين...(1/165)
ص 165/166) وحتى في اللحظة الأخيرة التي صمم فيها على الهروب وأقفل محفظته على - العالم المكتوم داخل خيبته- عاد ليصرح بعد نفي قاطع "سأغادر الصخرة إلى الأبد" فيكشف عن نفسه: " لا أدري ما إذا كنت سأرجع إلى الصخرة أم لا") فإن منبعه ليس (الصخرة والدليم) اللذين يربطه بهما - حبل متين ص 165- لكن بما - هما عليه- وبما- هو عليه- فيهما. فالصخرة/ الأرض: منيته، حميمية قديمة تعشش فيه، عروقه من صنعها، لكنها لم تعترف به، تنكرت له، لم تسمح له أبداً، على الرغم من جهوده، في أن يتواصل عليها، بعد كل رحلة تعب خارجها، يعود إليها مكدوداً دون أمل يتعجل الباص القادم إليها، لم يعد يحتمل تجنيها، لماذا تتركه يمرغ أنفه بتراب غيرها، هنا الأمل، يتمسح بها" ينكب على الأرض. من كانت له أرض ينشغل بها، يغرس صفاً من أشجار الحور على محيطها، يقسمها إلى أجزاء يزرع قسماً كرمة وعلى حوافها الرمان "يضرب الأرض بقبضته ص 131 "والدليم/ المجتمع: أهله، جزء منهم، لم تستطع شعلة الانشغال بواقعهم، على الرغم من تشككهم فيه وجهلهم الذي أعماهم عن حقيقته وأثرتهم والبنيات المنحطة التي تقوم عليها ممارساتهم ونكرانهم لأمثاله، إلا أن تتفجر العواطف في قلبه بعد المطر... "يكاد يقفز عن الأرض، يرقص، يغني ص 164"، ومع أنه ليس لديه "زرع يحيي أملاً ضائعاً ص 165"، فإنه "يحس بالبهجة تقتحمه ص 165". إنه يدرك وضعه في هذا المجتمع، "كأنه حبة رمل في قاع عكر ص 128 "وقد أخفق في أن ينقذ نفسه، أو مجتمعه...(1/166)
أو توهم ذلك، وعلى الرغم من أنه لم يترك شيئاً إلا "فرّط" فيه، قبل أن يعزم على السفر الذي أصر أمام الجميع على أن يبدو - نهائياً لا رجعة فيه- فإنه لم يخف اضطرابه وتردده: "إلى أي مكان في الدنيا تراه يذهب؟ ص 183 "ولم يخف حبّه الكبير للصخرة التي يقتطع شخصه منها بسكين، ولا العواطف المختلطة من الحب والنقمة معاً تجاه مجتمع الصخرة، والاشفاق حتى على أولئك الذين يستحقون القتل لأنه يعرف أن ولادة الحياة الجديدة هي الأساس والكفيلة بنسفهم "يخطر له أن يقتل إنساناً ما قبل أن يغادر الصخرة.. يفكر بمن يستحق هذا القتل؟ فاطمة الضحى؟. امرأة.. فالح المطلق؟.. ينبجس في عينيه منظر الدم شنيعاً مقززاً، ينفضه، يغلي به ص 183"، وحتى الرغبة في القتل، تشير إلى أسباب هروبه القسري من وجهة نظره. هذا الهروب الذي بدا حلاً غير مقنع له وللقارئ بسبب معطياته النفسية السابقة، والفرصة المتوافرة له في الظروف داخل بنية الصحوة والحلم، وما تركه هذا الهروب من أثر قاس على المتلقي وهو يشهد تشتته، ووصوله إلى الدرجة المعتمة المدانة، ومن خوف على تهافت بنية الصحوة والحلم في (القاع العكر) لذلك (فزواجه الآن)؛ فلأنه يريد أن يحمل (الصخرة) معه، أن ينقلها حيثما حلّ، حتى لا تخمد الأيام والجهات الضالة حنينه إلى الجذور، بخاصة وأن المعلم "نذيراً" حذره ناصحاً" لكنك إذا قمت خارجها بشكل مستمر لا بد أن تنساها يا دحام ص119". إنه يعرف أنها صليبه الذي سيأتي يوم يتعب من حمله مشرداً في المجهول. زواجه الآن؛ لأنه قد يهبه (القوة) على الهروب بعد أن يفارقها، يجد شيئاً منها يواسي به نفسه، يعيش فيها انتماءه في البعيد.(1/167)
بزواجه من سليمة الآن؛ فإلى جانب معطيات مسوغات الشروح السابقة لاختيار "سليمة" فإنه وجده "ميسوراً" كما ظن - لتنفيذ فكرته في الهروب (لا مهر.. لا حساب لمن يسأل ويحلل ويعتبر أسلوبه في الزواج توريطاً ومقامرة سيئة العواقب لا ينفع معها الصدق!.. ثم ثقته بوله سليمة به، واعتبار وضعها (خاطئة أو كخاطئة). كما أنه اكتشف حبه العميق لسليمة دون غيرها، ودفعه إلى تحقيق (فكرة الإنقاذ) المنشغل بها على مستويين: نفسه، مجتمعه. فكيف يتخلى عن معشوقته وهو يعرف أي مصير أسود يترصد لها، وأي مجتمع سوف تواجه.. وأي لون يصبغ أجفانها التي يلهبه منظرها بعد كل معاناة قائلة: إنها ضائعة، متألمة، مطاردة، مبتوتة مثله؛ فرغبته تعدت خلاصها إلى خلاصه هو. لكن ظنه خاب في قبول أمها أو قبولها. لم ينفع صدقه الذي بناه دون تبصر لم يستطع أن يفهم حتى عندما لحقته سليمة إلى غرفته التي يجمع فيها أمتعته، لم يكفها منه أنه (خلق بها من جديد)، وحتى عندما لحقته في المرة الثانية إلى الطريق العام. إنه نسي في غمرة خيبته الكالحة، أنه عندما أراد أن يهرّب (بتشديد الراء) الصخرة/ سليمة معه، فإنه يهرب لا معها بل - منها- ، وعندما لم يستطع مواجهة المجتمع في الصخرة من أجل نفسه وآماله التي انهزم مدحوراً في صياغتها داخل الوعي المنشود في هذا المجتمع، فإنه يفعل الأمر ذاته من أجلها هي. ذليلان أسقطا حقيهما، لم يعندا، مهما كلفت الظروف، في الدفاع عنه. ليس أحدنا جديراً بالآخر الذي يحبه، ويهرب منه إن الحب لا يعرف التراجع والهروب وظلام المجتمع بل يصنع الحياة اللائقة به. لا يفقد الثقة بهذه الحياة، ويهب القوة الرائعة على سلوك دربها المضني الجدير بالإنسان.(1/168)
إن تحقيق السعادة والأحلام والاستقرار لا يكون بالهروب بمن نحب أو ممن نحبّ، بل أن نعيش مع من نحب، دون حساب للعوائق مهما عظمت، وإلا فسوف يجد كل منا نفسه وحيداً، ضائعاً، هارباً إلى ما لانهاية وعندئذ بنا تتحطم الحياة. وهكذا، (شيء) من ذلك كله، أومأت إليه سليمة في الحوار الممتع المتقن في آخر الرواية، حين لبست سليمة ثياب (الأرض) المطعونة الصارخة التي تحتاج إلى الرعاية والحماية، بحيث غدت الصخرة وسليمة تتناوبان أمكنتهما ويشي كل منهما بالآخر وغدوا نداء واحداً حاراً يهفو إلى الإنقاذ والمواجهة دون هروب متخاذل، وإلى الولادة، والخصب، والانبعاث.. والحبل الإيجابي المبهر..
* حوار له مذاق الحب العميق
- الصخرة والمرأة والحقيقة المستنبطة فيهما
دحام: "كيف جئت؟" سليمة: "أما زلت مصراً على السفر؟".
دحام: "ألديك حل آخر؟"
سليمة: "أترضى أن يقال عنك هارب؟.
دحام: لماذا تبعتني؟"
سليمة: " ليس في نيتي أن أتركك إلا إذا..."
دحام: "سافرت؟"
سليمة: "تركتني"
دحام: "لن أتخلى عنك ولو سُلَّت روحي من جسدي"
سليمة: هيا نعود إلى الصخرة إذن".
دحام: "والناس.. تعرفين يا سليمة.."
سليمة: "دحام إذا كنت تريدني حقاً، لا ينبغي عليك أن تجعلني أعيش ذليلة.. إذا كنت تحبني ارجع وانقذني"
دحام ينهزم أمام سليمة. ينهزم... لا يدري ماذا يقول، يغدو أخرس.. تقول سليمة: "وإذا كنت تحب الصخرة هيا ارجع إليها فهي تحبك".
ينساب على كلماتها كما تنساب المياه من غدير دفاق.. أصحيح أنها بهذا الوعي؟.
دحام: "سليمة.." يقول، لا يستطيع أن يتكلم أكثر... ويتجه بها إلى الصخرة.(1/169)
وهكذا يفجر وعي سليمة المرأة، بالحب، وعي دحام الكامد الذي كادت تعصف به رياح شتى، فملأ وعيها فراغاً في بنية الصحوة والحلم، ممثلاً لأصوات النساء التي لم تسمع إلا في الندب، وفي الزغاريد كمعلقات هامشيات على خضم الواقع. أو في أحوال شجارات تافهة. أو في معاناتهن تحت سلطة أبوية مطلقة، أو عدم تمكنهن من اختيار مصائرهن، أو وهن مخدوعات أو مسلوبات الإرادة والعقل أمام واحدة منهن أتقنت الشعوذة والسحر والتلاعب بالناس، ضارعات عند أقدامها للستر عليهن. أو في خلافاتهن وهن مكدسات لدى رجل واحد. أو مصعوقات لعين حاسرة أو مسحوقات في أرذل عمر ومحيط غير آمن. أو مطرودات داخل المجتمع، متعيرات في الجهر، ملاحقات في السر. أو في ولههن وأحلامهن الذاتية الضيقة. أو في اشتمامهن الأخبار والأقاويل وتصديقها وملاحقتها.واندراجهن مذعنات باستسلام لضغط عرف سائر.. كما غدا هذا الوعي رمزاً للتصدي والتغيير للمعايير السوسيولوجية القائمة. وإمكانية انعكاساته على مجمل القيم الاجتماعية وتحريك اتجاهات جديدة في الأصوات النسوية في إطار التغييرات الفكرية والإنتاجية التي ستضعها بنية الصحوة والحلم وتهاوي مركز فاطمة الضحى وتعريته والتي لم تعد تنفع أسلحته في نصب الشراك الخادعة والاستغلال الروحي والعقلي المشين بخاصة حين يتبنى ويمارس هذا الوعي دحام الذي لم تهدأ معركته الضارية ضدها والتي سيدخلها بعنف لا تراجع فيه هذه المرة.(1/170)
معركة ستأخذ أبعادها السوسيو ايديولوجية على المستوى النظري والتطبيقي يقوم بها رجال ونساء في بنية الصحوة والحلم في واقع انحطاطي يعبث بكل شيء، بعد أن بدأ "توارد الخواطر" والأفكار الواعية المغايرة التي بشرت بها وحاولت ممارستها بنية تراكم الكيف داخل بنية الكم، تشحن الرؤوس، وتدفعهم إلى المعلم نذير وإلى دحام وهم يستذكرون كلمات سمعوها، وحتى هؤلاء الذين ما زالوا - كامدين- راحوا يعون (انسحاقهم) بشكل غامض، وهم ينظرون إلى السماء التي بدت نظيفة، والذي عوّل خمولهم وتخاذلهم على المزيد من شآبيبها دون أن يفعلوا شيئاً لأنفسهم، ذلك - الشيء- الذي ينتظرونه من الغيب أو من الآخرين الذين انفضحت خبائثهم وفتحت نواياهم، كما أخذوا يستشعرون (اللعبة) التي يفرزها الواقع وهو يقبض على مصائرهم الفردية والجماعية التي تشتبك تحت هذا الواقع اشتباكاً كثيفاً وتبلغ الاتحاد في أكثر من جانب. وهنا يتجلى دور بنية الصحوة والحلم في تحريك هذا "الاستشعار" في طريق الوعي والإنجاز، لأن هذا الطريق، حرصاً من أن يؤدي إلى لا شيء، إلى عبث أو تجديف، يتطلب غاية يسعى إليها بالتضحية والصمود ومواجهة كل ما يعوق.. قد يكون طويلاً، وصعباً لكن الطرق الصعبة كلها بدأت بالخطوة الأولى للتغيير، وذلك الذي يولد فيه الإنسان الجديد في واقع يساعد على الإحساس بالمسؤولية ويدفع إلى التفتح الدائم.
*بنية تأسيسية:
وحركة الانبعاث في الواقع(1/171)
كانت اتسامات سرد بنية الصحوة والحلم المتصلة بتراكم الكيف، هي ما تمّ التعبير عنها في البنية السابقة. أما المنفصلة، فإيقاعها ذو شحنة موسيقية مفاجئة أحياناً وهي تنفصل عن بنية تراكم الكيف، فكأنها ضربات دلالية تنبه مشاعرنا وأفكارنا إلى حدث هام ينفرز عن التردد الموسيقي الذي يسبقها. مما يترك صدى انبعاثياً في الواقع. ويؤسس لعملية إدراك جديدة فيه، وفي الرؤيا المتشكلة. ظهر ذلك عندما ميز السرد سلوك شبان الصخرة الجديد: فايد العقل، حواس الزير وعلي المشعل ص 145. أو في أثناء الحوار بين سليمة ودحام، الذي أبانت فيه سليمة عن وعي تتأجّح فيه عاطفة عميقة لاهفة مع منطق صلب، وهي تثني حبيبها من أن يسقطا معاً، أو يسقط أحدهما، وتؤسس لحياتهما في بنية الصحوة والحلم ص 88- 198. كما أن هذا الإيقاع المفاجئ كان يجسد تسارع النفس لدى المتلقي الذي يرغب في مداخلة لوقف ممارسات دحام باتجاه الهروب على الرغم من عذابه وقلقه، ويهب السرد فاصلة حادة فيها إمكانية الإنقاذ بعد إيقاع سريع ونزق وغنائي يتغلغل في صورة دحام الموطن النفس على السفر، وذلك كلما برزت سليمة أمامه في اللحظة المناسبة لكي تؤسس اتجاهاً جديداً نلهف إليه في الحوار، بخاصة عندما سقط معنى "إنقاذها" على الصخرة - التي غدت كرمز لها في اتجاه الخلاص من شللها ص 184- 188. وفي البنية التأسيسية أيضاً حركة إيقاع هادئ، دافئ، حميمي، يؤدي إلى إيصال المواقف الراسخة "يدخل حواس الزيد وعلي المشعل، يلقيان السلام، يطلبان السماح بالجلوس، نذير يستبشر بهما، يبدوان وهما يتحدثان أن كلاً منهما غدا صافياً نقياً وصل إلى قناعة راسخة أن مشاكل الصخرة لا يحلها إلا أهل الصخرة، وأن التعاون وحده سينقذ الناس.. نذير يعد الشاي، يحس خلال هذه اللحظات أنه حقق... الخ..(1/172)
ص 181" كان يتموج في هذه الحركة أصوات تبكيت أو تبريح تقابلها مشاركة لهفى من قبل نذير وهو يكشف المفارقة بين خيرات الجزيرة وبؤس أهلها ص 180 وحيث كانت تقطع السياق بين حين وحين فواصل مبهورة تستثير الخوف على مصير دحام واستطلاع موقفه النهائي، وبما أن هذه البنية تأسيسية، فقد شغل الحوار امتداداً في نسيج السرد، أحياناً في تبادل وديّ يحرص على بث الثقة في بنية الصحوة والحلم، وعلى فهم الأرضية التي تتحرك عليها.وأحياناً أخرى في شكل صدام تهربي لا يريد التفسير أو التسويغ أو الإصغاء من قبل دحام، مع مواجهة مهتاجة تصل إلى حد محاولة التدخل العنيف ترغب أن يتمّ بطريقها في قناعة غير مشوبة، تنوير يعتمد على اتخاذ موقف غير فردي.. وغير معزول عن وعي ذات المجموع المتمثلة في المعلم نذير ورفاقه، بحيث لم يعد مقبولاً أي سلوك لا يضع في حسابه المصير الجماعي الذي غدت هذه البنية مسؤولة عن تأسيسه ص 185- 186. وثمة أيضاً هذا الحوار الذي جرى بين دحام وسليمة، في مستوى عاطفي نابض يستبطن الحقيقة، والقلب ممتلئ بدم الحب، وفي مستوى دلالي يسقيه العقل وهو يطرح النفس باختيارها في مواجهة صادقة مع الواقع دون تهرب أو تأويل، والذي أفضى إلى استصدار موقف الوعي اللازم، وقامت هذه البنية أيضاً، على حوار ذاتي وحديث نفسي، مع بعض الاستحضارات التي كانت تزيد في تلوين الاضطراب الداخلي من دحام.
* الطرح المتحدد داخل القوة النابذة(1/173)
أما مفهوم الزمن في هذه البنية، فلم يتحدد بمسافة معينة جرت عليها أحداث في شريط أراده الكاتب ألا ينقضي، لأنه من البداية لم يأخذ اتجاهاً أفقياً، بل دفعه إلى امتدادات أخرى متصلة بالبداية في هيئة دائرية، فالمسألة الفلاحية هنا ليست قضية أو حدثاً تاريخياً مرّ، بل هي طرح متجدد، أعطته الرواية داخل القوة النابذة، محوراً مغايراً ومركزاً جديداً في العمق، سيكون له فضاء جاذبية قوية، بعد أن هُتكت الدوائر الأخرى، وانفطرت قوة مراكز الجذب الأخرى.
(4)
** خاتمة
- الشخصيات(1/174)
إن كثرة الشخصيات في بنية تراكم الكم، منعته من ملاحقتها الكافية، وذلك ينطبق على مجموعة ثانوية وافرة. أما التي أراد السياق أن يميزها في السرد، سواء هي ثانوية متقدمة أم أساسية متعددة أيضاً، فإن ضغط التعدد من جهة والانشغال بما يجب قوله ولو كان خاطفاً وأحياناً في الحد الأدنى- عن هذه الشخصيات الثانونية، أدى به إلى أن يقصر في تعميق بعض الشخصيات الأساسية في هذه البنية، فلم تبرز بشكل كاف نتوءاتها على المستوى الإنساني والنفسي، وظهرت أحياناً أشبه بالرسوم المتحركة (محمد الجاسم، المختار، المزارع، فايد العقل...) لكنه برع وبقوة أحياناً في سرد البعض الآخر، الأساسي منها والثانوي.. بحيث انطبعت شخصية فاطمة الضحى ككيان، وكبعد، لا تخوننا الذاكرة في استحضارها، وغدت من تلك الشخصيات التي لا تنسى، وتمكنت بضعة سطور تروي ولا تخبر بأن تكوّن سمات بارزة لشخصيات ثانوية أمثال عمشة، عماش عزاب الأعمى، حمدية، أم حسبان المشعل، أما في بنية تراكم الكيف، وفي بنية الصحوة والحلم، فقد بذل جهداً في رسم شخصية "دحام" كانت تصل أحياناً إلى درجة آسرة من العفوية والصدق والدقة لكنه أهمل تعميقاً استبطانياً لعلاقته مع حمدية التي تزوج زوجها فالح المطلق أمه. فبدا السرد مضطرباً بين رغبته الصادقة في زواجه منها لولا أنها متزوجة، وبين ما يدفعه من مسوغات لها اتصال بفالح المطلق نفسه الذي لم يكثف: لرؤيتها الشيء الذي يساعد على استكشافه، من الداخل "أكثر" كما أن أحاسيسه وأفكاره تجاه" سليمة" التي كان لها دور مهم فيما بعد، لم - تعش- في السياق قدر ما- تحدث عنها. أما المعلم نذير فقد استفرغ الكاتب في شخصيته محتويات الوعي التي أرادها في بنية تراكم الكيف، وكانت مقنعة، جسدت (الوعي الإيديولوجي) وبخاصة في المستوى النظري. فيما جسد دحام وسليمة في الأخير (الوعي الاجتماعي) بخاصة في المستوى العلمي.(1/175)
ويؤخذ على الكاتب هروبه من أن يترك المعلم نذير يعكس دلالات صدامه مع الجانب الانتكاصي مع مركز الحكومة المسيء لقوة التقدم والتغيير الحقيقية، كلما اقترب من - اللحظة الإرهابية- في الكتابة العربية. كما تقلص تحليل (انبثاقه) في بنية الصحوة والحلم.
* اللغة الروائية
- لغة الصخرة "أصيلة" برهنت على يناعة اللغة العربية في التعامل مع العبارات الشعبية المتداولة والألفاظ الدارجة لواقع "غير فصيح" له معجمه الخاص المتقوقع، فجاء وعي الرواية المعرفي لذلك في الواقع في مستوى الترابط مع أدوات اللغة اليومية المعبرة عن ذهنيات وممارسات محيط معين دون تسلط أو إبهام واقعي تقمصي، ذلك الشيء الذي نراه في محاولات أدبية كثيرة لتوهم بإقامة جسر الواقعية في المضمون، وأعتقد أن الكتابة العربية على مستوى اللغة، تحتاج إلى تنبه جاد، يباينها عن تلك الجاهزية الصياغية التقليدية أو المثاقفة دون خلق لغة العصر، داخل فذاذات أو إمكانيات خصوصية متعددة توالت في تاريخنا الأدبي للذات المضيء. فوعي اللغة جزء من وعي المعرفة التي تُبنى، وتشمل الرؤيا للذات الفردية والاجتماعية داخل هذا البناء الذي يؤسس إبداع الحياة، وأشير إلى أن الكاتب كان كسولاً، على العكس من المستوى الأول، في تحريك كوامن اللغة والمغايرة فيها، في أماكن غير قليلة، كلما تدخل ليسرد الشخوص بواسطته هو أو يخبر عنها، ولم يكن يمثل هذا الكسل في أثناء الوصف حين يبدو موظفاً بقوة داخل السياق الروائي على الخصوص. كما أن "يقول" خلال الحوار والتي كانت ترد بعد جملة القول كانت هجينة وأدت إلى "الإرباك".
* جواجز على طريق وعي الواقع(1/176)
الرواية تدلل في النهاية على وجود حواجز سوسيو- إيديولوجية في طريق الوعي، وهي تزعم ذلك بكل صدق، لكنها في الوقت نفسه تومئ - بقوة غنائية- إلى أن الحتمية التاريخية بفعل ذلك الإنسان الذي لا يملك بعدُ، إلا حق إحساساته الأولية في الحياة، إحساساته في الجوع والعطش والألم من أجل التحقق - ستهدم هذه الحواجز. الأمر الذي سوّغ اللجوء إلى التبنين الدائري للزمن. - وأدى كما سيؤدي في استمرار- إلى مقاد تقحمي عنيف (اعتبار دينامية جدل الوعي والواقع) ارتقى محتواه على مستوى الوعي والممارسة درجة أعلى - كما سيرتقي دائماً عند كل دورة له (في الممارسة). فثمة وحدة لا تنفصم بين المعرفة والممارسة حتى لا تتحول تنظيرات الثورة للواقع إلى مجرد إفراغات مثالية، وحسب ماوتسي تونغ" (من أين ترد الأفكار الصائبة؟).. "لكي تكتمل الحركة التي تفضي إلى معرفة صحيحة يجب أن تتكرر مراراً عملية الانتقال أو المرور من المادة إلى العقل، ومن العقل إلى المادة أي من الممارسة إلى المعرفة ثم من المعرفة إلى الممارسة.
((((
((
الفهرس
في نظرية النقد مراجعات في بنية المفهومية الاجتماعية في الأدب ...
نجيب محفوظ ...
"ثرثرة فوق النيل" لـ "نجيب محفوظ"* معنى الزمن والمصير والموت والعدم ...
( الإحالات ...
محمد زفزاف ...
قراءات في الأدب المغربي المعاصر الواقع العربي والعالم والهوية الضائعة
ورفض الزيف المحيط بنا في رواية "أرصفة وجدران". لـ :"محمد زفزاف". ...
واسيني الأعرج ...
"ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر"() لـ "واسيني الأعرج" ...
ليلى عثمان ...
التقاليد الظالمة، وظلمة المرأة الظالمة، والقهر، والقتل، والرغبات المحمومة، والتحدي داخل مكان مغلق.في رواية: "المرأة والقطة" لـ "ليلى عثمان"() ...
عبد النبي حجازي ...
سرد سوسيو - أيديولوجية: المسألة الفلاحية في رواية الصخرة()
لـ عبد النبي حجازي ...
** خاتمة ...
- الشخصيات ...
* اللغة الروائية ...
* جواجز على طريق وعي الواقع ...
(((1/177)
رقم الايداع في مكتبة الأسد - الوطنية
إشكالية الواقع والتحولات الجديدة في الرواية العربية:.دراسة وعي مجادلة الواقع/ دريد يحيى الخواجة -
دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2000- 143ص؛ 25سم..
1- 813.009 خ و ا إ ... ... ... 2- العنوان
3 - الخواجة
ع -168/2/2000 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(
هذا الكتاب
دراسة نقدية في الرواية العربية تعرض للشكل والمضمون، للبناء والمحتوى، للبعد الاجتماعي والفكري وللبعد الفني. وتنطلق من مقولات ومفاهيم شتى تتناسب مع كل رواية، وهي ذات أبعاد فكرية واجتماعية كما أنها ذات منطلقات بنيوية وطنية وأسلوبية ولغوية ونفسية متنوعة.
((((1/178)