…………
إسعاف المؤمنين
بنصرة خاتم المرسلين
تأليف / د.وسيم فتح الله
……………المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً. الحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى صراطه المستقيم بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله تعالى به الملة العوجاء وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صُمَّاً وقلوباً غُلفاً، أرسله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وأنزل عليه خير كتبه وآخر رسالاته وختم به النبوات فكان خير النبيين وخاتمهم عليه أفضل الصلاة والسلام. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبعد؛
فلقد تتابعت سهام الكفر والشرك على أمة الإسلام تترى، فتارةً تنال دماءَنا وتارةً تنال أموالَنا، وتارةً تنال نساءَنا وتارةً تنال أولادَنا، وتارةً تنال ديارَنا وتارةً تنال أوطانَنا، غير أن ذلك كله هينٌ إذا ما طالت سهام الكفر والغدر أحبَّ خلق الله تعالى إلينا وأكرم خلقه سبحانه وتعالى عنده، ذاك شمس النبوة ومصباح الهداية وقائد الأمة وشفيعها بإذن الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا نالت سهام الحقد النتنة مقام النبوة وتعرضت لجناب الرسالة هان عنده كل مصاب، وبات كل مصاب بعده جلل، فلا الديار ولا الأموال ولا النفوس ولا الأهلون تفي فداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إلى الله المشتكى من الخَوَر والخذلان، وإلى الله المشتكى ممن يرى ويسمع ولكن لا تُبصر له عين ولا تعي له أذن، بل كالحجارة الصماء والدواب البكماء، ولو استثيرت هذه الدواب في بعض ما فيه معاشها لهبَّت ونهضت واستنهضت، فلا نامت أعين الجبناء...(1/1)
ولئن كان مصابنا في سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاباً عظيماً، فإن الفاجعة تزداد ألماً وسوءاً عندما نرى ممن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاهلاً بحق النبي صلى الله عليه وسلم، تاركاً لسنته التي شرعها الله تعالى وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاقبة أمثال هؤلاء المجرمين، فإذا به لما جهل خطاب الشرع أو تجاهل عنه يلجأ إلى ما تمليه العقول والأفكار وينضبط بضوابط الأعراف و"البروتوكولات"؛ يغضب لكن بمقدار، ويُنكر لكن بعد إذن، ويزمجر ولكن بصمت، ويستنصر ولكن بأعداء الله، يدعو على الشاتم ولكن بعد موافقة ولي الأمر، ويتبرأ لكن ممن يريد حق الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدَق الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه حين قال:"إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأى فضلوا وأضلوا "1، وكما نبَّه رضي الله عنه على الداء فلقد نبَّه على الدواء فقال:"سيأتي أناسٌ سيجادلونكم بشبهات القرآن خذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله "2، نعم أصحاب السنن، سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الراضين المرضيين هم أعلم بكتاب الله وبحكم الله، ولمَّا لم يكن سبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم جريمةً مبتدعة اليوم بل كانت جريمةً قديمةً قِدم الرسالة والبعثة، فتارة رموه بالسحر وتارة بالجنون، وتارة نظموا في هجائه الشعر، وتارة حثُّوا القيان على التغني بسبِّه، فلا بد وأن يكون الوحي قد نطق بحكم هؤلاء قرآناً وسنةً، والأمر كذلك، فكان لا بد من المصير إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء، إذ لا يخفى أن صدرونا لم تشفَ وغيظ قلوبنا لم يذهب بتلك البيانات الهزيلة والاستنكارات الخافتة، والدعوات الغريبة لإقامة مؤتمرات التقارب وغير ذلك من الترَّهات، لم يذهب شيءٌ من ذلك بما في قلوبنا من غيظٍ وكمدٍ تجاه أولئك المجرمين، ولن يذهب غيظ قلوبنا حتى نرى حكم(1/2)
الله تعالى فيهم نافذاً إنه خير مأمول وأكرم مسؤول.
ثم إني قرأت كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي المتوفى عام 544 هجرية، وهو كتاب نافع ماتع جمع فيه مؤلفه عليه رحمة الله الواسعة فصولاً نفيسة شاملة لحقوق النبي صلى الله عليه وسلم وما يجب علينا تجاهه في حياته وبعد مماته، مع بيان حكم من تجرأ بسبه وشتمه، كما طالعت كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول3 لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هجرية رحمه الله برحمته الواسعة، فوجدته سِفراً نفيساً لم يُسبق إليه ولم يُكتب على شاكلته، انتصب فيه رحمه الله للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان حكم الله تعالى فيمن سبَّه حيث حصل ذلك في حياته رحمه الله، وكان مما قال في مقدمته:"أما بعد، فإن الله تعالى هدانا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته ويُمن سِفارته خير الدنيا والآخرة، وكان مِن ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها، وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيِّها وصمتِها، فاقتضاني لحادثٍ حدث أدنى ما له من الحق علينا بله ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطِن، وحفظه وحمايته من كل مؤذٍ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسلَه بالغيب، ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب أن أذكر ما شرع من العقوبة لمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم مِن مسلمٍ وكافر وتوابع ذلك ذكراً يتضمن الحكم والدليل، ونقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وإرداف القول بحظِّه من التعليل، وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل، فأما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل، وإنما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به(1/3)
المفتي، ويقضي به القاضي، ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه، والله هو الهادي إلى سواء السبيل"4، قلت: وكذلك فعل رحمه الله في هذا السِفر العظيم فلقد أجاد وأفاد وجمع وفصَّل وردَّ بما لم يُسبق إليه، فرحمه الله برحمته الواسعة.
ولما رأيت ما في الهمم من قصور وتقاصر عن استقراء مثل هذه الكتب الجليلة عزمت بعد أن استخرت الله عز وجل على تأليفٍ موجزٍ مختصر يتسع وقتُ كل مسلم غيور على دينه وعِرض نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأه ويتعلم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء ليدين لله تعالى به وليعمل - كما أشار شيخ الإسلام - منه بحسب إمكانه، إذ واجبٌ على الأمة ذلك، ولم ألتزم بذكر جميع مسائل وأدلة واستدلالات الكتابين، وإنما ذكرت ما تيسر على سبيل الاختصار دون إخلالٍ بالمقصود، وأوصي من اتسع له الوقت وأسعفه الجهد أن يعود إلى الأصلين لا سيما طلاب العلم فإن فيهما من النفائس الشيء الكثير.
ولقد رتبتُ مادة هذا الكتاب في فصولٍ خمسة، عرضت في الأول منها شيئاً من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة عند المؤمنين، وتناولت في الثاني بعض ما صان الله تعالى به جناب النبوة، وتكلمت في الثالث على صفة سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة وأقوال أهل العلم على كفر شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله في الفصل الرابع، وأما الفصل الخامس فتناولت فيه بعض الشبهات المتعلقة بهذا الحكم ثم ذيلت بالخاتمة، وسميته إسعاف المؤمنين بنصرة خاتم المرسلين، حيث تتوالى الخطوب تترى فلا بد من مرجعٍ وجيزٍ يشفي الصدور ويأتي على المجرمين بالهلاك والثبور بإذن الله، ويسر الله جمعه في أواخر رمضان وإتمامه في غرة شوال فأسأله تعالى القبول.(1/4)
ولا بد من بيان أننا رغم ما يكتنف قلوبنا من الغيظ والألم تجاه هؤلاء المارقين، فإننا ثقة كل الثقة بأن الله تعالى منجز وعده وناصر جنده وهازم حزب عدوه، لا نماري في ذلك كما لا نماري في طلوع الشمس في وضح النهار، ولكنها سنة الله في الابتلاء قبل التمكين، ولعل ما ينتابنا اليوم من الشعور بالأمل الممتزج مع الألم قريبٌ من شعور أهل الثغور الذي نقله شيخ الإسلام حين كانوا يتألمون لما يسب به بعض أهل الكفر المحاصَرين الممتنعين النبي صلى الله عليه وسلم، فيستبشرون بفتح الله تعالى عليهم، فإذا بالحصن يُفتح والعدو يُقهر وكلمة الذين كفروا سافلة وكلمة الله تعالى هي العليا كانت ولم تزل، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وأخيراً فإني أتقدم بخجل شديد من سيدي وقائدي وحبيبي وشفيعي بإذن الله يوم القيامة وفرطي على الحوض الرسول الكريم بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه بهذا الدفاع المتواضع عن عرضه وجنابه، وأسأل الله تعالى أن يكون ما في القلب من حبه صلى الله عليه وسلم جابراً لما في العمل في الدفاع عنه من تقصير وما أشده، سلواي في ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتمراً قبل أن يفتحها وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلُّوا بني الكفار عن سبيله ……اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيلة ……ويُذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة، في حَرَم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" خلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لَكلامه أشدُّ عليهم من وقع النبل"5، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه وكان يهجو المشركين ويرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هجاه المشركون:"اهجهم أو هاجهم وجبريل معك"6.(1/5)
وأسأل الله تعالى التسديد لما يرضيه من الأقوال والأفعال، اللهم ما وافق الحق مما كتبت فمنك وحدك وبفضلك وجودك وكرمك، وما خالف الحق فمني وأنا منه بريء، والحمد لله رب العالمين.
وكتب أفقر خلق الله
وسيم فتح الله
5شوال 1427 هجرية
الفصل الأول : مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة في قلوب المؤمنين
إن أول واجبٍ يتعين على المرء تحقيقه في مقام الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم هو تحديد مكان النبي صلى الله عليه وسلم من قلوبنا وأنفسنا وأزواجنا وأولادنا وأهلونا وجميع دنيانا. وإن النصوص الشرعية مستفيضة في هذا المقام، ولا بد من سرد ما يتيسر منها على كثرتها لأن كلاً منها يحقق معنىً إضافياً وتشريفاً واجباً وتعزيراً لازماً لمقام النبوة، بحيث لا يمكن لمؤمن أن يستغني عن كل إضافة لحقٍ النبي صلى الله عليه وسلم يضيفها نصٌ شرعي أو خطابٌ تكليفي، ولست أخشى إطالةً في السرد إذ لا مكان لما يُخشى منه في العادة من حدوث الإملال بالإطناب، فإن هذا المحذور منتفٍ في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ، بل على من تململ من شيء من خصوصياته أن يخشى على قلبه المرض وعلى دينه الضياع، نسأل الله السلامة والعافية. أما المؤمن فدأبه عند كل نصٍ شرعي متعلق بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن اثنين : أي حقٍ يضيفه هذا الخطاب إلى حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وهل أنا ملتزم بأداء هذا الحق على قلة بضاعتي وتقصيري فيه ؟ فدأب التابعِ المحبِّ لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يدور بين هاتين المسألتين أعني التعرف على حقوقه صلى الله عليه وسلم والسعي الجاد في أدائها، لا يمنعه عن تعرف حقوقه صلى الله عليه وسلم كلٌّ ولا فتور، لا يثنيه عن أداء هذا الحق تعبٌ ولا قصور، والله المستعان.
أولاً: مكان الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم :(1/6)
قال الله تعالى :" الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم"7، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (وآمنوا بما نُزل على محمد):" عطف خاصٍ على عام، وهو دليلٌ على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم"8، وقال الإمام البيضاوي رحمه الله :"تخصيصٌ للمنزَّل عليه مما يجب الإيمان به تعظيماً له وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه وأنه الأصل فيه"9، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار"10، وجاء في ترجمة الحديث (باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته)، ورواه البزار عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار"11، فقال (يؤمن بي)، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وترجم للحديث الإمام النسائي بقوله تعالى :"ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده"12"13، والحاصل من هذا كله أن تحقيق مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الواقع تحقيق مكان التوحيد؛ فلا معقد لأصل الإيمان في قلب امرئٍ بغير الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، هذا ما عليه عهد الأنبياء من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما عليه العهد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، أما عهد الأنبياء فقوله تعالى:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّقٌ لما معكم لتؤمنُنَّ به ولتنصُرُنَّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين"14، وأما بعد بعثته(1/7)
فلا تنفع شهادة أن لا إله إلا الله حتى يتمها بشهادة أن محمداً رسول الله، قال القاضي عياض رحمه الله :"فالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واجبٌ متعيِّن لا يتم إيمانٌ إلا به، ولا يصح إسلامٌ إلا معه، قال تعالى:"ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً"15"16. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النفيس الصارم المسلول على شاتم الرسول :" فإذا قال (لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، (وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول بما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار"، ثم ذكر الأصل الآخر الذين لا بد منه وهو الانقياد فقال رحمه الله :" فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذبٌ له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرٌ صريح"17. والحاصل هنا أن من لم يؤمن تصديقاً وانقياداً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى وغيرهم فمات على ذلك، فإنه خالدٌ في نار جهنم خلود الكفار كما تقدم في حديث أبي هريرة وأبي موسى رضي الله عنهما، إذ ببعثته صلى الله عليه وسلم أكمل الله تعالى الدين ونسخ ما سبقه من الشرائع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن مَثَلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"18، فعُلم أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم هو معقد التوحيد، وسبيل النجاة، وبالله التوفيق.
ثانياً: مكان النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين :(1/8)
قال الإمام البيضاوي رحمه الله في قوله تعالى :" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"19 :" في الأمور كلها؛ فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذُ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها"20، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دَيناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه"21، فقد جعل نفسه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه مولى للمؤمنين يسد عنهم ويحمل عنهم، وأمره يسري علينا بلا ترددٍ أو نظر، لأن نظره بنا أرفق ونظره لمصالح ديننا ودنيانا أتم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"ومِن ذلك أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يُوقى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى:"ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه"22"23، فمكانه صلى الله عليه وسلم فوق مكاننا، بل فوق مكان المخلوقين، وقد روى مسلم في صحيحه في باب (تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع"24، ولقد كانت الجمادات تعرف ذلك وتُنزل الرسول صلى الله عليه وسلم منزله وتعرف له قدره، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسَلِّم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن"25، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو حديث طويل وفيه:"(1/9)
سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح26، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته، فاتبعتُه بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرَ شيئاً يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال:"انقادى عليَّ بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش27 الذي يصانع قائدَه حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال:" انقادى عليَّ بإذن الله" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف28 مما بينهما لَأَمَ بينهما - يعني جمعها- فقال:" التئما عليَّ بإذن الله" فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أُحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيبتعد - وقال محمد بن عباد فيتبعد - فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق"29، نعم، الحجر والشجر يعرفان مكانة النبي صلى الله عليه وسلم فيسلِّم الحجر عليه وينقاد الشجر لأمره في حين تُسوِّل تلك النفوس الخبيثة لأصحابها الهلكى التطاول على مقام النبوة، ألا تباً لهم من تعساء وتباً لهم من هلكى. ولعمري لئن كان هذا حال الحجر والشجر مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيليق بالمؤمن أن يكون في توقيره صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره أقل حالاً من الحجر والشجر، لا والله لا يليق.
ثالثاً: مكان محبة النبي صلى الله عليه وسلم :(1/10)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" ومن حقه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه:"قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنٌ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"30"31، وقال الشيخ السعدي رحمه الله :" هذه الآية الكريمة أعظم دليلٍ على وجوب محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد على مَن كان شيءٌ من المذكورات أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، وعلامةُ ذلك أنه إذا عُرض عليه أمران؛ أحدهما يحبه الله ورسوله وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ولكنه يفوِّت عليه محبوباً لله ورسوله أو يُنقصه، فإنه إن قدَّم ما تهواه نفسه على ما يحبه الله دل على أنه ظالمٌ تاركٌ لما يجب عليه"32.(1/11)
وعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر"33، قال الحافظ العيني رحمه الله :"قوله (حتى أكون) أي لا يكمل إيمانك حتى أكون، قوله (الآن) يعني كمل إيمانك"34، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"35، قال الحافظ العيني رحمه الله:" قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام، إذ أقسام المحبة ثلاثة؛ محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلةٍ واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضاً، فجمع عليه السلام ذلك كله"36، قلت: فمكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب المؤمن أولى وأعلى من مكان غيره في أقسام المحبة كلها؛ أما محبة الشفقة والرحمة فتلك التي يضحي لأجلها المحب بكل نفيسٍ وغالٍ في سبيل محبوبه، ولئن كان أحدنا يضحي بنفسه وماله وراحته في سبيل ولدٍ لا يدري أيكون له فتنة ونقمة أم رحمة ونعمة، فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النعمة المسداة من رب العالمين، وهو طريقنا إلى محبة الله ومرضاته وجنته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بلوازم هذا الحب من أبنائنا وبناتنا، وهو كذلك، وأما محبة الإجلال والإعظام فلئن كان أحدنا يبذلها لوالديه وحقيقٌ بهما ذلك لما لهما من حق وسابقة نعمة وفضل، فلعمر الحق لا أحد أولى بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدانيه في منزلة تعظيمه وتوقيره ملِكٌ معظَّم ولا أميرٌ مبجّل ولا والد والدة ولا صاحب فضل ولا نعمة، كيف وكل نعمة نعيشها في ظلال(1/12)
الإسلام قد تفيأنا ظلها بفضل الله تعالى عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بمحبة التعظيم والتوقير وأولى بلوازم هذه المحبة من آبائنا وأمهاتنا وهو كذلك، وأما محبة المشاكلة والاستحسان فلا تخرج عن أن تكون فرعاً عن محبوبٍ أعظم أو أن تكون دوراناً في فلك المصالح ، وإذا كان الأمر كذلك فأي محبوب أعظم من الله تعالى وأي فرع أقرب لهذه المحبة من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الدوران مع المصلحة فأي مخلوقٍ أنفع لنا بمصلحة دين أو دنيا حتى نقدم حبه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شك إذاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذه المحبة أيضاً وهو أولى بلوازمها من غيره، فإذا عُلم ما تقدم فقد اجتمعت الدواعي على تقديم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أقسام المحبة، وطرح كل ما سواه من المخلوقين جانباً، وهو كذلك.(1/13)
ولقد تكلم القاضي عياض رحمه الله بكلامٍ نفيس عن علامة محبته صلى الله عليه وسلم فذكر منها لزوم اتباعه وموافقته والرغبة في سنته وامتثال أمره وترك نواهيه والتأدب بأدبه في عُسره ويسره صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"ومنها بغض من أبغضَ الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته، قال الله تعالى :" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله"37، وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبد الله بن عبد الله بن أُبي : لو شئت لأتيتك برأسه، يعني أباه"38. قلت: فلا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم معاداة مبغِضِه، وأن من ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلن ببغضه وحربه لمن أبغض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب، ونسبته إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم نسبة كاذبة، فحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدَّى بالأرواح والأولاد والأهلون والأموال والأوطان، وها هو خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه حين أراد المشركون قتله، "فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوبٌ نادوه وناشدوه: أتحب محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه، فضحكوا"39، نعم إن من لا يفهم حقيقة هذا الحب يضحك لجهله، أما من أُشرب في قلبه حب محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفتدي نفسه بشوكة في قدمه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا حب محمد صلى الله عليه وسلم، فهل من محبين...
رابعاً: مكان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم :(1/14)
لم يجعل الله تعالى لأحد من الخلق متابعة مستقلة منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا له، فقال سبحانه وتعالى:"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً"40، ففرض الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وردَّ الناس إلى الله ورسوله - أي الكتاب والسنة - عند التنازع، ثم أكدت الآيات هذا المعنى بالتحذير من عواقب نقيضه وهو الإعراض عن طاعته صلى الله عليه وسلم وترك متابعته، وجعل الله تعالى المتابعة والانقياد والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حداً للإيمان؛ فمتى وُجد ذلك وُجد الإيمان ومتى فُقد فُقد، فقال تعالى:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً"41، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلوا :"فليحذرِ الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة"42 ..الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلوا هذه الآية :"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"43"44. وروى ابن خزيمة في صحيحه عن أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر :"إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال عبد الله: يا ابن أخي، إن الله عز وجل بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل"45، قلت: وهذه هي المتابعة التي يسعد بها المرء في الدنيا والآخرة، فلله دَرُّهم مِن صحبةٍ اختارها الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. لقد علم الصحابة(1/15)
رضوان الله عليهم أن الخير كل الخير في اتباع سنته، وأن المحبة صدق المحبة في التزام هديه صلى الله عليه وسلم، فقال أفضل الصحابة وخيرهم بل خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه:"لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ"46.قلت: صدق الصدِّيق رضي الله عنه، فإنما هما أمران لا ثالث لهما؛ اتباع سنةٍ وهدى، أو ترك سنة وزيغ وضلال، وليس ذلك لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلٌ يؤخذ منه ويُرد إلا هو بأمي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
خامساً: مكان النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/16)
عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال:" لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"47، قال الإمام النووي رحمه الله:"وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته فى أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته، ونفى التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلُّمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع فى سنته أوتعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك"48، وقال القاضي عياض رحمه الله :" وقال أبو بكر الآجري وغيره: النصح له يقتضي نصحين؛ نصحاً في حياته، ونصحاً بعد مماته. ففي حياته نصحَ أصحابُه له بالنصر والمحاماة عنه، ومعاداة من عاداه، والسمع والطاعة له، وبذل النفوس والأموال دونه، كما قال تعالى:"رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نَحبَه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً"49، وقال:"وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"50، وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال، وشدة المحبة له، والمثابرة على تعلم سنته، والتفقه في شريعته، ومحبة آل بيته وأصحابه، ومجانبة مَن رغب عن سنته وانحرف عنها وبغضه والتحذير منه، والشفقة على أمته، والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره وآدابه والصبر على ذلك"51. قال أبو عبدالله المروزي رحمه الله :"قال بعض أهل العلم: جِماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له مَن كان، وهى على وجهين أحدهما فرض والآخر نافلة"52 ثم قال :"وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فبذل المجهود في(1/17)
طاعته ونصرته ومعاونته وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته، وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره ولزوم القيام به، وشدة الغضب والإعراض عن من يدين بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا وإن كان متديناً بها، وحُبُّ من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه ولباسه"53.
فهذه أقوال أهل العلم متضافرة على وجوب النصيحة له صلى الله عليه وسلم، والنصيحة في اللغة الإخلاص، وهي لرسولنا صلى الله عليه وسلم الإخلاص في متابعته بحيث تكون مجردةً له صلى الله عليه وسلم لا يدخل على هذه المتابعة شيء من البدعة والحدث والرأي والهوى، وهذا كما جاء في الأثر :"جعل رجلٌ يقول لابن عمر رضي الله عنهما: أرأيت أرأيت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، إنما هي السنن"54.
سادساً: مكان الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن الله تعالى قد افترض علينا الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى:"إن الله وملائكته يصلُّون على النبي يأيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً"55، وهذه الصلاة كما قال أبو العالية:"صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"56، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:"والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً" 57.(1/18)
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليه، ففي الحديث عن كعب بن عجرة رضي الله عنه:"...إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"58، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" قلنا: يا رسول الله، هذا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم"59، وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا:"يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"60، وهذه الصلاة فرضٌ على الجملة، ولها أوقات فضيلة واستحباب، ومن أوقاتها الخاصة ما بعد التشهد الأخير في الصلاة، وعند الدعاء، وعند ذكره صلى الله عليه وسلم وسماع اسمه أو كتابه، ويوم الجمعة، وعند دخول المسجد، وعند الأذان، وغيرها من المواطن ذكرها القاضي عياض رحمه الله تعالى61.
ولقد ورد الذم صريحاً فيمن ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" رغِم أنف رجلٍ ذُكرت عنده فلم يصلِّ علي"62، وعن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" البخيل الذي ذُكرت عنده فلم يُصلِّ عليَّ"63.
سابعاً: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة رضوان الله عليهم:(1/19)
لقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنموذج الذي اختاره الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا مصداقاً حقيقياً لوصف القرآن :" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومَثَلُهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقِه يعجب الزُرَّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالجات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً"64، لقد أحاط الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسياج المحبة والحرص، والتوقير والتعظيم، فلم يكونوا يصدرون إلا عن أمره، ولا يتقدمون بين يديه، وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في مرض موته قال :" ...وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أَجَلَّ في عينَي منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينَي منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عينَي منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة"65، وعن أسامة بن شريك يقول:" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير"66، وأرسلت قريش عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية:" فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه؛ لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنى جئت كسرى في مُلكه، وجئت قيصر والنجاشي في مُلكهما، والله ما رأيت مُلكاً قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً"67، قلت: فما بالنا اليوم نُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخذله أمام شرذمة حقيرة من زبالات البشر...
ثامناً: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :(1/20)
عن عائشة رضي الله عنها قالت:" تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوِّذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوِّذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى. ومرَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستناً، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة"68،
وعن عائشةرضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله وبكى، ثم قال:" بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مِتَّها"، قال الزهري : وحدثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر:" أما بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله:" وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل" إلى قوله "الشاكرين"69، وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال:" والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات"70،(1/21)
وعن أنس قال:" لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة عليها السلام:" واكرب أباه" فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. فلما دُفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب"71،
وعن عائشة قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح:" إنه لم يُقبض نبيٌ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَيَّر. فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال:" اللهم الرفيق الأعلى". فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكانت آخر كلمة تكلم بها :"اللهم الرفيق الأعلى"72،
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشراً،73، وعن عائشة رضي الله عنها:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو ابن ثلاث وستين"74.
فصلوات الله وسلامه عليك يا نبي الله، يا رسول الله، أشهد أنك قد بلَّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
الفصل الثاني: صيانة الله عز وجل لجناب النبوة(1/22)
قال الله تعالى :" إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتُعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً"75، فضرب الله تعالى حول رسوله صلى الله عليه وسلم سياجاً منيعاً من الحفظ والصون، وجعل لشخصه الكريم حريماً76 يصون به جنابَه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره أن هذه المنزلة فوق منزلة المحبة؛ لأنه ليس كل مُحَبٍّ معظَّماً، فالوالد يحبُ ولده ولكن حبَّه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه، والولد محبُّ والده يجمع له بين التكريم والتعظيم، فعُلم أن التعظيم رتبةٌ فوق المحبة، ولئن كان الداعي إلى المحبة ما يفيض عن المحبوب على المحِب من الخيرات، فإن الداعي إلى التعظيم ما يجب للمُعَظَّم في نفسه من الصفات العلية.77 ثم قال رحمه الله بعد أن بيَّن أن التعزير هو التعظيم، :"فأبان أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون مُعزَّزاً موَّقراً مهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يعاملُ الأكفاء بعضهم بعضاً78، قلت: وسيأتي تفصيل ذلك قريباً بإذن الله.(1/23)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معقد بيان ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خصوصية التعزير والتوقير والتشريف :"إن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدةً على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدةً على مجرد التصديق به سبحانه، وحرَّم سبحانه لحرمة رسوله مما يُباح أن يُفعل مع غيره أموراً زائدةً على مجرد التكذيب بنبوته"79، قلت: وإن معرفة وفهم هذه الواجبات التي فرضها الله تعالى صوناً لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرٌ لازمٌ لكل مؤمن، ليعلم أن أحداً من المخلوقين ليس له مكانته صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن تعدياً على جنابه صلى الله عليه وسلم ليس كاعتداء على أحد، والله المستعان.
ولنشرع في بيان جملةٍ من التشريفات التي وضعها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يستيقن المؤمن ويتعرف الجاهل على قدر هذا النبي بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وحتى يُعذر كل امرئ تسول له نفسه الخبيثة التطاول على مقام النبوة أو انتهاك حريمها، ألا فليعلم أن الله تعالى هو الذي وضع وأوجب هذه التشريفات لنبيه العظيم وأنه تعالى هو المتكفل بالانتقام ممن تطاول عليه صلى الله عليه وسلم، فلقد قال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين"80، فحسبُ نبينا صلى الله عليه وسلم كفاية الله تعالى له عدوه وشانئه ومبغضه، والله المستعان.
أولاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله"81:(1/24)
لقد صان الله تعالى جناب نبيه صلى الله عليه وسلم فمنع أحداً من أن يُدلي بقول أو رأي أو مشورة أو فعل قبل أن يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، وهذه الآية الكريمة أصلٌ في هذا الباب، بل هو أصلٌ من أصول الدين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشرِّع، ومن تقدَّمه بقول أو رأي فقد شرَّع معه، وكأن فاعل ذلك يقول بلسان حاله : لا حاجة لي ببعثة اللهِ تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبلغ أحكامه ويشرع لأهل ملته ويسن طريق شريعته، وهذا غاية البطلان وطريق الخسران. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية:"لا تعجلوا بقضاء أمرٍ في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، مَحكيٌ عن العرب: فلانٌ يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه"82. وقال البخاري رحمه الله :"وقال مجاهد (لا تقدموا) :لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه"83، وفي سبب نزول هذه الآية أخرج البخاري رحمه الله عن ابن أبي مليكة:" أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى - أو إلا- خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدَي الله ورسوله" حتى انقضت الآية"84، فهذان خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم يسبقون بين يديه بمشورة في أمر من الأمور فينزل القرآن ناهياً زاجراً عن ذلك، مخوِّفاً مَن عاد إليه بحبوط العمل، قال القاضي عياض رحمه الله :" ونهى عن التقدم بين يديه بالقول، وسوء الأدب بسبقه بالكلام"85، قلت: ولئن كان السبق بين يديه بالكلام منهياً عنه فالنهي عن سبقه صلى الله عليه وسلم بالتصرف والفعل من باب أَولى.(1/25)
فهذا أول سورٍ ضربه الله تعالى حول حمى النبوة، إجلالاً وتعظيماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا السور حراماً حتى على أقرب صحابته وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم. ولا يفوت محلُّ هذا الأمر بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل النهي عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم يكون بعدم تقديم رأي أو اجتهاد على السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام المروزي رحمه الله:"فنهى الله المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم أو يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض إعظاماً له وإجلالاً، وأعلمَ أن ذلك يحبط أعمالهم، فكيف بمن جعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وغيرَه في دين الله وأحكامه مِلَّتين، ثم يؤخِّر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمه86؛ إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يوافقه قال هذا منسوخ، فإذا حدث عنه بما لا يعرفه قال هذا شاذ، فمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنسوخ ومنه الناسخ، ثم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاذ ومنه المعروف، ومِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتروك ومنه المأخوذ"87، ولابن قيم الجوزية رحمه الله كلامٌ نفيسٌ في هذا المعنى أيضاً حيث قال:"فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدَّم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به"88، قلت: لا شك أن هذا غاية الخسران، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.(1/26)
ثانياً: باب قوله تعالى :" لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً"89:
نعم فلقد قال الله تعالى بأسلوب الحصر :"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معَه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم. لا تجعلوا دعاءَ الرسولِ بينَكم كدعاء بعضِكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم"90، فهذا أدبٌ جامع في الاستئذان منه صلى الله عليه وسلم وفي دعائه أي ندائه صلوات الله وسلامه عليه. ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم محتاجون إلى مخالطة ومجالسة ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنهم يحتاجون إلى مخالطة ومخاطبة غيره، فهل يسوي الله تعالى بين مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجلس غيره، وبين ندائه ودعائه صلى الله عليه وسلم ودعاء غيره، كلا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"وهذا أيضاً أدبٌ أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، لاسيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين"91، وقال رحمه الله:"قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يامحمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فقولوا يانبي الله، يا رسول الله، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يُهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يُبَجَّل وأن يُعظَّم وأن يُسَوَّد"92.(1/27)
فهذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه عظمته وجلالة قدره صلوات الله وسلامه عليه، وتأمل كيف منعت الشريعة من تعاطي أي سببٍ قد يؤدي إلى سوء أدب أو تصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بدون قصد، فعن حميد عن أنس قال:" نادى رجلٌ رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لم أعنِك، إنما دعوت فلاناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي"93، قلت: ولا شك أن المقصود هنا النهي عن نداء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مدعاة للغلط والالتباس كما حدث في سبب ورود الحديث، أو يكون مدخلاً لاستهزاء ضعاف القلوب والمنافقين بحيث ينادونه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق ثم يعتذرون بأنهم لم يقصدوه وإنما قصدوا غيره، فإن قيل: فلم لم يمنع من التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن المؤمنين قد نُهوا عن ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً فلا يرد مثل هذا المحذور، فهم منهيون عن قولهم: يا محمد، بل يقولون : يا رسول الله ، يا نبي الله، وهكذا.
والحاصل هنا أن هذا سورٌ آخر ضربه الله تعالى حول حرم النبوة، فلا يتحدث أو يدخل أو ينصرف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، ومن احتاج أن يناديه أو يخاطبه التزم الأدب في ذلك فناداه بما يليق وبما لا يلتبس مع غيره ، فيقول : يا رسول الله ، يا نبي الله، قال أبو القاسم ، فعل أبو القاسم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله مزيد احتياط واعتناء من الله عز وجل بصفيِّه وخليله وصفوة خلقه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
ثالثاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا"94:(1/28)
إن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة كانوا لا يستطيعون كتمان ما في صدورهم من حقدٍ وحسدٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتحينون فرص التعريض به كلما استطاعوا، فنبَّه الله تعالى المؤمنين لذلك كي لا يقعوا في مثل فعل يهود، وقال سبحانه وتعالى في تحريم التعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم :"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم"95، قال القاضي عياض رحمه الله :" وذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد؛ أي : أرعِنا سمعك، واسمع منا، ويُعرِّضون بالكلمة يريدون الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها، لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبِّه والاستهزاء به"96. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية :"ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبَّاً قبيحاً بلغة اليهود، قال: كان المسلمون يقولون: راعنا يارسول الله وارعنا سمعك، يعنون من المراعاة، وكانت هذه اللفظة سباً قبيحاً بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما بينهم: كنا نسبُّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - سراً فأعلِنوا له الآن بالشتم. وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لأن سمعتها من رجلٍ منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله:" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، لئلا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب ولغة العبرانيين، وأن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم، فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها، وأعلموهم أن ذلك(1/29)
ناقضٌ لعهدهم ومبيحٌ لدمائهم"97.
ولقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على مثل هذا التعريض حين كشف تعريض اليهود عليهم لعنة الله بالسلام، فعن ابن عمر رضي الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: عليك"98، قلت: والسام هو الموت، فكان اليهود عليهم لعنة الله يعرِّضون بالسلام ويريدون الموت كأنهم يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبه صلى الله عليه وسلم على هذا وأمر الصحابة برد المثل عليهم.
فإذا تأملنا النهي الوارد في الآية الكريمة عن قول كلمة (راعنا) مع العلم بأن الصحابة رضوان الله عليها كانوا يقولونها يريدون معناها في اللغة العربية قولاً واحداً، وأنهم لا يقصدون بها حاشاهم تعريضاً أو سباً خفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نهوا عن استعمال هذه اللفظة تبرؤاً من سلوك أهل الكتاب الكفار أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسداً لذريعةٍ قد تؤدي إلى تعريضٍ بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تأملنا ذلك كله أدركنا مدى عناية الله تعالى بصيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ جنابه عن ذريعة الأذى ناهيك عن الأذى نفسه، وكيف أمر سبحانه بالبراءة من سلوك المتطاولين على مقام النبوة قولاً كان أو فعلاً، فلله الحمد في الأولى والآخرة على ما اختار لنبينا صلى الله عليه وسلم من التشريف والكرامة، وعلى ما فرضه له سبحانه وتعالى من الإجلال والهيبة صلوات الله وسلامه عليه.
رابعاً: باب قوله تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي "99:(1/30)
قال تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون"100، وقال تعالى :"إنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم"101، ولقد أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة قال:"كاد الخَيِّران أن يهلكا؛ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجلٍ آخر - قال نافع لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله :"يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم" الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر"102، قلت: فإذا كان هذا حال خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما، حيث ارتفعت أصواتهما عن غير قصد أذيةٍ أو تهوينٍ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أنزل الله تعالى في ذلك من القرآن ما أنزل، وفيه الوعيد الشديد بحبوط الأعمال، ومعلوم أنه لا يحبطُ العمل إلا الشرك والكفر، وكأن التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أو رأي هو من جنس ذلك، لأنه يجعل عقله مشرعاً مع الله ورسوله فكان أشبه بالشرك فأوجب حبوط العمل، إضافةً إلى ما في ذلك من تهاون في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وتوقيراً وهيبةً وتعظيماً. وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه(1/31)
وسلم فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى103: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"104، قال البيهقي رحمه الله :"فكان بعد ذلك إذا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخفض صوته حتى ما يكاد يسمع الذي يليه، فنزلت فيه "إن الذين يغُضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم"105"106، فهذا صحابيٌ آخر سمع تحذير الله عز وجل المؤمنين من رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكر ما كان يبدر منه عن غير قصد سوءِ أدبٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم فأيقن أنه هالكٌ محبط العمل، حتى جاءت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم فهدأ روعه وعلم أنه ليس هو المقصود، غير أن القصد صار لاغياً فيما بعد وصارت مجرد صورة رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم مَناطاً لحبوط العمل بنص الآية، ولم يعد يُستفصل في سبب رفع الصوت أو مقصود صاحبه، ولا يخفى أن ترك الاستفصال هذا مرده إلى أن ترك عموم رفع الصوت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم هو المطلوب بغضِّ النظر عن قصدِ صاحبِه إجلالاً وهيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا إذاً بابٌ رابعٌ فيما فرضه الله تعالى لصيانة مقام النبوة، وحفظ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى أو أن يتصرف معه بما لا يليق قولاً وبطريق الأولى فعلاً، والله أعلم.
خامساً: باب قوله تعالى:" إن ذلكم كان يؤذي النبيَّ فيستحيي منكم واللهُ لا يستحيي من الحق"107:(1/32)
قال الله سبحانه وتعالى:"فإذا طَعِمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبيَّ فيستحيي منكم واللهُ لا يستحيي من الحق"108، قال الخلال :" ولقد بلغ من قدرِه109 عند الله عز وجل أنه لما دخل بأم سلمة أو زينب أرسل ضعفاء أصحابه فأولم عليهم، فجلسوا للحديث، وعلم الله عز وجل أنه أراد الخلوة بأهله فمنعه الحياء منهم أن يخرجهم، فأنزل الله تبارك وتعالى :"إذا دُعيتم فادخلوا فإذا طَعِمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم"110"111، وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثةُ نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله :"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي"112 الآية"113، فهذا بابٌ في تأديب الله عز وجل المؤمنين في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس في بيته، فمنع سبحانه وتعالى من الدخول بدون إذن، ومنع من ترقُّب وقت الحاجة من طعام ونحوه وتحيُّن الدخول عند ذاك، ونهى عن الجلوس فوق قدر الحاجة لئلا يُحرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكلمهن صاحب حاجة إلا من وراء حجاب وبقدر ما تنقضي الحاجة، فهذه كلها أسوارٌ منيعةٌ ضُربت لصيانة جناب النبي صلى الله عليه وسلم وفرض حرمته على المؤمنين جميعاً، وما ذلك إلا لعظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه وتعالى.
سادساً: باب قوله تعالى:"وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله"114:(1/33)
قال تعالى:"وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ الله ولا أن تنكحوا أزواجَه مِن بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً"115، قال الشيخ السعدي رحمه الله :" (وما كان لكم) يا معشر المؤمنين؛ أي غير لائقٍ ولا مستحسنٍ منكم، بل هو أقبح شيء (أن تؤذوا رسول الله) أيَّ أذية قولية أو فعلية بجميع ما يتعلق به، (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى الله عليه وسلم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته بعده مُخِلٌّ بهذا المقام، وأيضاً فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته، (إن ذلكم كان عند الله عظيماً)، وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر واجتنبت ما نهى الله عنه منه، ولله الحمد والشكر"116، قلت: وليس هذا لأحد من المؤمنين غير النبي صلى الله عليه وسلم، وما هذا إلا إمعاناً في إجلاله وتوقيره صلوات الله وسلامه عليه. وليس أحد من نساء المؤمنات تحرم بعد وفاة زوجها على غيره من غير المحارم إلا زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم،كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ومن ذلك أنه حرَّم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباحٌ أن يعامل به بعضهم بعضاً تمييزاً له مثل نكاح أزواجه من بعده"117، وقال رحمه الله :"وقد قال الله تعالى:"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم"118،وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم"119، وقال في موضعٍ آخر:"فحرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه مِن بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته، وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة"120. قلت: وما هذا التحريم إلا لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن أصول الشريعة لا تقتضي(1/34)
هذا التحريم من جهة المحرمية وإنما اقتضته من جهة حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريم أذاه بقول أو فعل أو غير ذلك، وهذا كله يدل على عظيم قدره سبحانه وتعالى، بل إن الأحكام الشرعية الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لتدل أيضاً على اختصاص الله عز وجل له بما يليق بقدره وعظيم مكانته صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: باب قوله تعالى:" عسى ربُّه إن طلقكنَّ أن يبدِلَه أزواجاً خيراً منكن"121:
لقد بلغ من عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم أن انتصر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى مما يجري عادة بين الأزواج، فلقد نبه الله تعالى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بما لهن وعليهن من ميزاتٍ وواجباتٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هن اخترن البقاء معه، فقال تعالى :" يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالَين أمتعكنّ وأُسرحكنّ سراحاً جميلاً. وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً"122، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"هذا أمرٌ من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ماعنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة"123. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:" دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يُؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً. قال: فقال: لأقولنَّ شيئاً أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة(1/35)
فقمت إليها فوجأتُ عنقها124! فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:" هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده. ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية:"يا أيها النبي قل لأزواجك" حتى بلغ "للمحسنات منكن أجراً عظيماً"125، قال فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبَوَي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً"126. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى من بعض تصرفات نسائه صلى الله عليه وسلم وعادة المرأة أن تتقوى بأهلها على مطالبة زوجها فإذا بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان بمطالب ابنتيهما عرض الحائط وينهرانهنَّ أشد ما يكون إعظاماً لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بزوج النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض عليها التخيير لا تفكر ولاتستشير بل تضرب بالدنيا كلها عرض الحائط إيثاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشاهد في هذا كله أن القرآن الكريم نبه بعد مطالبة بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة على حُرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الأذى المعنوي والمادي، إذ أن هذا هو مقتضى التخيير؛ فإما أن يصبرن على حال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقدير النفقة دون تضجر أو تبرم أو عودة للمطالبة بشيء، وهذا هو مقتضى تشريف وتعظيم وإجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يسرحهن(1/36)
سراحاً جميلاً وهذا مقتضى عدل الله تعالى وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً)، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
ثامناً: باب قول الله تعالى :"إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً"127:
بعد أن نبه الله تعالى المؤمنين على آداب التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداءً وخطاباً واستئذاناً وهجراً لذرائع سوء الأدب معه وحفظاً لواجبات الزوجية على الوجه اللائق بمقام النبوة، نجد أن القرآن الكريم يفضح أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلنين بأذاه حتى يتميز عنهم فريق المؤمنين الذين قد كان يقع بعضهم في سوء تصرف عن غير قصد ومع ذلك ينكر الله تعالى على مثل ذلك التصرف، فإذا بالحال مع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل التنبيه اللطيف أو التعليم الرفيق، وإنما هو الزجر والوعيد والبطش الشديد بمن تسول له نفسه الإعلان بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد قول الله تعالى:"لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنُغرينَّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقِفوا أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً. سنَّة الله في الذين خَلَوا من قبل ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً "128، ونجد الله تعالى يفرق بين أذية سائر المؤمنين وأذية رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"ومن كرامته - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالقول أنه فرَّق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال تعالى:"إن الذين يؤذون الله ورسولَه لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"129"130، وتأمل كيف أن الله تعالى قرن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى الله تعالى، كما قرن طاعته بطاعته، قال ابن تيمية(1/37)
رحمه الله:"وفي هذا وغيره بيانٌ لتلازم الحقين، وأن جهة حرمه الله ورسوله جهةٌ واحدةٌ، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يَصِلُون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفرق بين الله ورسوله في شئ من هذه الأمور"131. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:"والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله" ثم ذكر حديث عبد الله بن المغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"132، 133. فهذا دليلٌ صريح علىاقتران أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى الله عز وجل، ولذلك رتب القرآن الكريم من الوعيد على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يرتبه على إيذاء غيره من المؤمنين؛ فإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تترتب عليه اللعنة في الدنيا والآخرة مع العذاب المهين، في حين ترتب على إيذاء غيره صلى الله عليه وسلم من المؤمنين والمؤمنات ترتب الإثم وحدُّ القذف. كما أننا نجد هذا التفريق بين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاء غيره من المؤمنين في موضع آخر من القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى :"إن الذين يرمون المحصَنات الغافلات المؤمنات لُعِنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم"134، وقوله تعالى :"والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم"135، فالآية الأولى على قولٍ عند أهل التفسير هي في أزواج النبي صلى(1/38)
الله عليه وسلم حيث يترتب على مَن قذفهنَّ لعنة الدنيا والآخرة مع الوعيد بالعذاب الأليم وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن قذف أزواجه رضي الله عنهن أذى له صلى الله عليه وسلم، أما الآية الثانية فهي في قذف غيرهن من المؤمنات حيث ترتب على ذلك حد القذف مع التنبيه على أن باب التوبة مفتوح لهؤلاء في حين لم تذكر الآية الأولى ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثيرٍ من أهل العلم، فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا136 شيخ من بني كاهل قال: فسر ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية:" إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات"137 إلى آخر الآية قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمةٌ ليس فيها توبة، ومَن قذف امرأةً مؤمنةً فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ :"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" إلى قوله "إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا"138، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فَهَمَّ رجلٌ أن يقوم فيُقبِّل رأسه مِن حُسن ما فَسَّر. وقال أبو سعيد الأشج: ثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما :"إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات" نزلت في عائشه رضى الله عنها خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بيَّن ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإنَّ قذفَ المرأة أذى لزوجها"139، قلت: والشاهد هنا التفريق بين قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواج غيره من المؤمنين، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آكد في تقرير حرمة مقام النبوة، ووآكد في صيانة الله عز وجل لشخص نبيه صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.(1/39)
تاسعاً: باب قوله تعالى:" إلا تنصروه فقد نصره الله"140:
إنَّ تعرُّضَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لشيءٍ من الأذى من أعدائه عليهم لعنة الله لَيمثل داعياً قوياً للمؤمنين الأوفياء للقيام بواجب الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفديته بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نعمَ الأنموذج يُحتذى في هذا المقام، غير أن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى نصرة أحد ولا مفتقراً إليها رغم تأكد وجوبها عليهم؛ فنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة علينا وهو صلى الله عليه وسلم غير مفتقرٍ إليها بما أغناه الله تعالى عنها بل عن الخلق أجمعين، ألم تر إلى قوله تعالى :" والله يعصمك من الناس"141، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله"142. وقال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين"143 ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ومن سنة الله أن من لم يمكِّن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله، فان الله سبحانه ينتقم منه لرسوله- صلى الله عليه وسلم - ويكفيه إياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفترى، وكما قال سبحانه:"فاصدَع بما تُؤمر وأعرِض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين"144، والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً مِن هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السِيَر والتفسير وهم على ما قيل نفرٌ من رؤوس قريش، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسلم، لكن قيصر أكرمَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمَ رسولَه فثبت ملكُه، فيقال إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم،(1/40)
وكسرى مزَّقَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله اللهُ بعد قليل، ومزَّق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك"145. وقد أخرج الطبراني رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :"إنا كفيناك المستهزئين"قال:المستهزئون الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بنى أسد بن عبد العزى، والحارث بن غيطل السهمي، والعاص بن وائل السهمي، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أبجله146 فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه الحارث بن غيطل السهمي فأومأ إلى بطنه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه العاص بن وائل السهمي فأومأ إلى أخمصه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً147 له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمي فمنهم من يقول عمى كذا، ومنهم من يقول نزل تحت شجرة فجعل يقول: يا بني لا تدفعون عني قد هلكت أطعن بشوك في عينى، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه148 من فيه فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً حتى دخل في رجله شبرقة149 حتى امتلأت منها فمات"150، فهذه بعض نماذج انتقام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكتب السير طافحة بمثل هذا، وقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً في كتابه النفيس الشفا بتعريف حقوق المصطفى بعنوان (عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته مَن آذاه) ذكر فيه نماذج مثل ماتقدم151.(1/41)
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركَتهُ القائلة وهو في وادٍ كثير العضاة152، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلّق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌ قاعدٌ بين يديه فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتاً153 قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه154 ثم قعد فهو هذا. قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم"155، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ووقع في رواية بن إسحاق بعد قوله (قال: الله) : فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد. قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولَّى قال: أنت خير مني"156. والأحاديث في مثل هذا كثيرة، والشاهد فيها عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتجريد افتقاره لله تعالى وحده مع ما فرض على المؤمنين من نصرته، ليُعلم أن نصرة المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرفٌ لهم لا حاجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقضونها، وليُعلم أن التخاذل عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم منقصةٌ للمتخاذلين لا تضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيء وقد كفاه الله تعالى حيث قال سبحانه:"أليس الله بكافٍ عبده"157، قال القاضي عياض رحمه الله:"قيل: بكافٍ محمداً صلى الله عليه وسلم أعداءه المشركين"158. قلت: فليُعلم إذاً أن قوله تعالى :"إلا تنصروه فقد نصره الله"159 كما أنه خبر عن نصرة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وكفايته إياه، فإن فيه معنى الوعيد والتهديد لمن تخاذل عن نصرته صلى الله عليه وسلم، لأنه متى أُعلن بأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تمحض فسطاطان؛ أحدهما فسطاط عداوته والآخر فسطاط نصرته، فمن لم يهرع لفداء النبي صلى الله عليه وسلم(1/42)
بكل ما يملك فقد اختار لنفسه فسطاط العداوة ولو بمجرد الصمت وما أخبثه من صمت، فلما ركن إلى أهل العداوة والتحق بفسطاطهم أصبح في عداوةٍ مع الله عز وجل لأن الله تعالى أخبر وهو أصدق القائلين أنه ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة، فتأمل هذا وارثَ لحال من اختار خذلان نبي الله صلى الله عليه وسلم وعداوة الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.
عاشراً: بابٌ جامعٌ لقوله تعالى :"واصبر لحُِكم ربِّك فإنك بأعيننا"160:(1/43)
هذا بابٌ جامعٌ لكل ما تقدم، فإذا تأملت أدركت رعاك الله كيف أحاط الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بسياج الحفظ والمنعة، وضرب من حوله فسطاط العظمة والتوقير والإجلال، فنهى ومنع من التقدم برأيٍ أو كلامٍ بين يديه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وُجِد داعي التخاطب معه صلى الله عليه وسلم منع من مناداته باسمه ومنع من التسمي بلقبه حتى لا يلتبس النداء ويتمكن العدو الغادر من الاستهزاء، وقصر نداءه صلى الله عليه وسلم على مثل يا رسول الله ، يا نبي الله، والموفَّق من قدَّم بين يدي ذلك بالتفدية بالنفس والأهلون، حتى إذا جاء الإذن بالكلام في حضرته صلى الله عليه وسلم كان النهي والمنع من رفع الصوت إجلالاً وتوقيراً لمجلسه من أن يعلو فيه صوتٌ فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ثم إذا كان الإذن بالكلام مَنع من تناول ألفاظٍ قد تكون مدعاة إساءة في الخطاب وسوء أدب في السلوك معه صلى الله عليه وسلم، بل أمر بهجر ألفاظٍ لا لشيء إلا لأنها قريبة من ألفاظ يكيده بها أعداؤه صلى الله عليه وسلم لتكتمل بذلك البراءة من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا جاء الكلام بهذه القيود والضوابط منع من الانبساط والاسترسال في المجلس حتى لا يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بتعب أو ملل، ولكن هيهات أن يؤذن لأحد بقيامٍ من مجلسه صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، فإذا كان الإذن كان الانصراف مسموحاً به، وهم لا ينصرفون عنه صلى الله عليه وسلم إلا بأجسادهم أما قلوبهم فمعلَّقة به صلى الله عليه وسلم، ثم حذَّر سبحانه وتعالى أحداً أن ينال جناب النبوة بأذى، ولو كان من أزواجه بشيء تستدعيه طبيعة النساء وهنَّ مَن هنَّ في الورع والتقوى وخشية الله عز وجل وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه بهذا الأدنى على المحذور والمحظور الأعلى وهو أذى أعدائه من المنافقين المبغضين الشانئين، ولما لم يكن يكفي هؤلاء التنبيه والتحذير كان الوعيد الشديد لهم بالعذاب(1/44)
الأليم في الدنيا تقتيلاً وفي الآخرة في النار تخليداً، ولما كان وقوع الأذى والكيد داعياً للمؤمنين لنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أكد سبحانه وتعالى على أن مقام النبوة أعز عند الله تعالى من أن يُحيجَ نبينا صلى الله عليه وسلم لأحد، فتكفل بنصرته سبحانه وتعالى وإعلاء شأنه وقطع دابر شانئه وبتره وُجوداً وذِكراً، لتكتمل بهذا المشهد الجليل معالم صيانة الله تعالى لجناب النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، ألا فليعلم أن من شتم مِن هذا مكانه عند الله تعالى فقد اختار لنفسه أن يُؤذِنَه اللهُ تعالى بحربٍ ينتصر بها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلبئس ما اختار الهالك المعتدي على مقام صفوة خلق الله أجميعن، ولنعم ما نصر الله تعالى وأعز به مقام نبيه صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين.(1/45)
ثم اعلم أن كل ما تقدم وصفُه مما أوجبه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حياته فإن مِثلَه باقٍ بعد مماته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحدٍ أن يتقدم برأي بين يدي الكتاب والسنة، وإذا أحوجه الموقف إلى إعمال فكر واجتهاد تنبه لئلا يعلو رأيُه فوق قول الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم ليعرف للنبي صلى الله عليه وسلم فضله ومكانه فلا يذكره باسمه مجرداً ولا يترك الصلاة والسلام عليه أبداً مهما تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم، ثم ليتخير من الكلام واللفظ ما ينأى به عن تحريف مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرغبة عن سنته أو الابتداع في شريعته، ثم لينتبه من أن يسترسل مع داعي رأيه بزعم الاجتهاد فيبتعد عن شاطئ السنة ويضيع في محيط الوساوس والرأي المذموم، وليحذر من أن يسيء وهو لا يدري لمقام النبوة بنسبة قولٍ باطلٍ أو مذمومٍ لشريعته صلى الله عليه وسلم؛ فلا يرميها بنقصٍ أو عدم مجاراةٍ للواقع ولتغير الزمان والمكان فإن هذا غاية سوء الأدب مع مَن بعثه الله تعالى بشريعةٍ كاملةٍ إلى يوم يبعثون، وليراقب بحذر كل من تسول له نفسه التنقص عمداً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأولئك الهلكى من المستشرقين وأذنابهم من بني جلدتنا الذين يتطاولون على مقام النبوة بتكذيب حديثٍ أو توهين سنةٍ أو تقديم عقلٍ دعِّيٍ على سنةٍ نبويةٍ ثابتةٍ صحيحة، وليعلم أن مقامه من هؤلاء الهلكى مقام الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم بدفع شبهة إن كانت هي الغالب أو قطع اللسان والوتين إن كان السبُّ المجرَّد، وليعلم أن الله تعالى ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم سواء نصره الأتباع أم لا، فليتخير من يدَّعي الانخراط في صفوف الجندية المحمدية أن يكون ممن يسلَّ السيف ذوداً عن جناب النبوة أو أن يكون من القابعين مع الخوالف والمنافقين، وهكذا فلن تعدم أدباً وتعزيراً وتوقيراً برَّ به صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيَّهم عليه(1/46)
الصلاة والسلام في حياته، إلا وجدت مِن جنسه ما تبره به صلى الله علبه وسلم بعد مماته، والحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث: جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم
إن مما لا يخفى على عاقل فضلاً عن مسلم أن تنقُّصَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورميهم بشيء من الأذى قولاً كان أم فعلاً إنما هو جريمة بشعة لا تصدر إلا عن سفهٍ وحقدٍ وخبثٍ في النفس. ذلك أن الله تعالى إنما بعث رسله وأنبياءه رحمةً للعالمين، وجعلهم للبشرية هداةً مهتدين، يمسكون الناس برفق يحجزونهم عن النار ويسيرون بهم إلى طريق طاعة الله موصلين مَن شاء الله تعالى أن يستنقذه بهم إلى جنة الرضوان، فكان الاعتداء على هؤلاء الرسل الكرام خبثاً في الطبع وحقداً في النفس وقبحاً في القول والفعل، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من ذلك. فإذا تأملت ما تقدم مِن فضلِ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تيقنت أن من تطاول على مقامه صلوات الله وسلامه عليه بشيءٍ من هذا الأذى والسب هو أشد خبثاً وأكثر حقداً وأسوأ قبحاً في ذلك كله، لأنه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه خيرُ رسل الله أجمعين وخاتم النبيين وإمام المرسلين أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، فكان حقه التجريد في المتابعة والإخلاص في المحبة والمبالغة في التعظيم والتوقير والتعزير والتفدية بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، وكان غاية الخبث أن تمتد ألسنة الباطل بسبِّه أو لمزِه أو تنقُّصِه صلوات الله وسلامه عليه، وسوف يأتي لاحقاً بيان أن هذا الفعل الخبيث أشد سوءاً من الكفر بغيره من الأفعال والأقوال.(1/47)
وهذا الفصل معقودٌ لبيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ما هو في حقه شتمٌ وتنقُص وإساءة، ثم التنبيه على الفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر المجرد عن ذلك، حتى تتحرر هذا المسألة تحريراً جيداً قبل الانتقال إلى الفصل التالي الذي نبين فيه حكم هذا الساب المعادي لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: بيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو في حقه صلوات الله وسلامه عليه شتم وتنقُص وإساءة:(1/48)
إن الكلام هنا مما يتعاظم في النفس ذِكره، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"التكلُّم في تمثيل سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين، لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك"161، قلت: هذا غاية الأدب والورع فالمؤمن لا يستطيع أن يحكي هذا السب ولو ناقلاً لثقله واختلاج القلب دونه، وهذا بطبيعة الحال ما يجده المؤمن في قلبه، أما من حكى هذا الكلام ولو ناقلاًَ دون أن يتعاظم في نفسه ذلك فليبكِ على نفسه وليخشَ عليها الموت والران، بل لقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً كاملاً في حكم الناقل والحاكي لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن ما يجوز منه (على سبيل الشهادة على الشاتم أو التعريف به أو التعليم أو الفتوى)، وما لا يجوز من هذا النقل فقال رحمه الله :"فأما ذكرها على غير هذا162 من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطُرَف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمين ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال وما لا يغني فكل هذا ممنوع، وبعضه أشد في العقوبة والمنع من بعض"163، قلت: وهذا مما ينبغي التنبيه عليه اليوم إذ أن بعض الغيورين أصلحهم الله يسارعون في نقل وتناقل هذا السباب والشتم بغية التعريف بجريمة المجرم فإذا بهم يصبحون وسيلة لنشر هذا الإزراء والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث على مواقع الشبكة العالمية الحاسوبية وغير ذلك، فينبغي التورع عن هذا ويكفي التعريف بالساب والإشارة إلى جنس السب ونوعه مُجملاً دون نقل تفاصيله، لا سيما وأن المقام هنا في الغالب ليس مقام شهادة أمام القضاء، وإنما تعريفٌ بهؤلاء المجرمين السفهاء ، فلينتبه إلى هذا والله الموفق.(1/49)
أما صفة السب فليس لها حدٌ معينٌ في الشرع، بل المحتكم فيه العرف وفق القاعدة الفقهية المعروفة: العادة محكَّمة164، فكل ما كان في عُرف مجتمعٍ من المجتمعات سباً أو تنقصاً أو شتماً فهو كذلك إذا نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى سبيل المثال نجد أن من أنواع السب التي لم تكن معهودة في القديم استعمال الرسوم فيما يدعى اليوم بالرسوم التشخيصية165 للاستهزاء والسخرية أو النقد أو الاستخفاف أو الامتهان، وقد تطاولت بعض الأيدي - قطعها الله - من قريب بمثل هذا الأذى على مقام خبر البرية صلوات الله وسلامه عليه، ولا تزال هذه الأيدي قطعها الله طليقةً اليوم نسأل الله تعالى أن يقيض لها من يقيمُ حكمَه فيها. والشاهد هنا أن صور السب لا تقتصر لا ما تعارف عليه الناس قديماً أو أُثر من هجاء شعر ونحوه، فربما درس مثل هذا النوع وظهرت أنواع أخرى، فلا يتقيد الحكم بما أُثر من صفات وأنواع السب قديماً بل يشمل كل ما تعارف عليه الناس اليوم أنه استهزاء وسخرية وشتم وسب، نسأل الله السلامة من ذلك.
والسبُّ مُطلقاً لا يخرج عن قسمين اثنين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهما الدعاء والخبر. وفيما يلي بيان ذلك:
النوع الأول من السب : الدعاء
فهذا النوع من السب مثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبَّحه الله أو أخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سبٌ للأنبياء ولغيرهم. وكذلك لو قال عن نبيٍ : لا صلى الله عليه أو لا سلَّم أو لا رفع الله ذِكره أو محا الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضررٌ عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة
فهذا كله اذا صدر من أحدٍ فهو سبٌ يترتب عليه حكمه الشرعي على ما نبينه في الفصل التالي.(1/50)
أما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إبطاناً يُعرف من لحن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قول (السام عليكم) إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول (السلام عليكم) ولم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحية والسلام لفظاً وحالاً، وحذفوا اللام حذفاً خفياً يفطن له بعض السامعين، وقد لا يفطن له الأكثرون، فهذا قد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن اليهود إذا سلَّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم. فقولوا: عليك"166، فجعل هذا شرعاً باقياً في حياته وبعد موته حتى صارت السنة أن يُقال للذمي إذا سلم :وعليكم أو عليكم. وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال: أتدرون ماقال؟ إنما قال: السام عليكم. ولو كان هذا من السب الذي هو سبٌ لوجب أن يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجَلد، وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى:"وإذا جاؤوك حيَّوك بما لم يحيِّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"167، فجعل الله تعالى عذاب الآخرة حسبهم، فدل على أنه لم يشرع على ذلك عذاباً في الدنيا، وهذا لأنهم لو قُرروا على ذلك وسئلوا عنه لقالوا :إنما قلنا السلام وإنما السمع يخطئ، وأنتم تتقولون علينا. فموجبات العقوبات لابد أن تكون ظاهرةً الظهور الذي يشترك فيه الناس، وإن إتيان السب على هذا الوجه الخفي غاية ما يكون من الكتمان والإخفاء ونحن لا نعاقبهم على ما يُسرونه ويخفونه من السب وغيره. والحاصل من هذا أنه يحتاج أن يجتمع في السب أن يكون من جنس السب وأن يكون ظاهراً لا خفاء فيه حتى تُقام البينة بوضوح لا خفاء فيه. قلت: وهنا نكتة لطيفة وهي أن الذي يُبطن السب ويُلحن القول فيه ويُغلفه بالسلام وغيره من الأقوال الظاهرة المتعامل بها بين الناس إنما يتكتم بهذا على هذا النحو لنوع مذلةٍ وقمعٍ يعيشه وهذا هو المطلوب، أعني أن تكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا،(1/51)
فالسبُّ المبطَّن لا يترتب عليه الانتقاص من الدين والرسول صلى الله عليه وسلم الحاصل بإعلان السب وإطهاره، والعقوبة الشرعية في الدنيا شرعت لمن أظهر السب وأعلن به، ولهذا قال تعالى فيمن أبطن السب وأضمره وأخفاه مقموعاً ذليلاً :" حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"168، وهذا غاية العدل لأن مَن كان السب منه ظاهراً وباطناً عاقبناه في الدنيا وعاقبه الله في الآخرة، ومن كان السب منه باطناً ولم يظهره إظهاراً تقوم به الحجة عليه في الدنيا عومل بظاهره في الدنيا وعاقبه الله تعالى في الآخرة وحسبه جهنم وبئس المصير، فلم يكن لنا أن نتقدم بين يدي لله تعالى بعقوبة غير التي قرر سبحانه وتعالى أنها حسب هؤلاء، فإن مثلهم مثل الفئران في جحورها إن ظهرت ظهرت سريعاً وعادت إلى جحورها سريعاً فلم يكن هناك من داعٍ لتعقبها وقتلها خارج جحورها بل يُصار إلى تسميم جحورها لتموت وتتعفن فيها، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
النوع الثاني من السب: الخبر :(1/52)
فكل ما عهده الناس شتماً أو سباً أو تَنَقُصاً فإنه سبٌ يترتب عليه حكمه وعقوبته الشرعية حتى لو كان السب يوافق معتقد الكافر الذي يُبطنه في قلبه، فان الكفر ليس مستلزماً للسب، وقد يكون الرجل كافراً ليس بسابٍّ والناس يعلمون علماً عاماً أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه، وقد يضم إلى ذلك مسبته. والحاصل أنه ليس كل ما يُحتمل اعتقاداً يُحتمل قولاً، وليس كل ما يُحتمل أن يُقال سراً يُحتمل أن يُقال جهراً، والمعنى أن أهل الذمة مثلاً يُقرون على دينهم بشرط عدم المجاهرة به ونحن نعلم أن من دينهم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا المعتقد نحتمله منهم في السر والباطن ولا نقبل ولا نحتمل ولا نرضى منهم إظهار ذلك والإعلان به والقول به جهراً، فليس على ذلك العهد بيننا وبينهم، هذا في أهل الذمة، فما بالك بالمحارب والمستأمن! والكلمة الواحدة تكون في حالٍ سباً وفي حالٍ ليست بسب، فمن ذكر في مناظرة أنه لا يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم حاكياً معتقده ليس كمن تكلم بتكذيب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على وجه التنقص والاستهزاء وأنه حاشاه صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لاختيار الله له تلك المنزلة، فالأول ليس بسب والثاني سبٌ واضح لا مرية فيه. فعُلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، وإذا لم يكن للسب حدٌ معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عُرف الناس؛ فما كان في العرف سباً فهو للنبي سب وهو الذي يجب أن ينزل عليه حكم الصحابة والعلماء في الساب، وما لم يكن في العرف سباً فلا. وهذه جملةٌ من أقسام السب الخبري نذكرها للمثال لا حكايةً عن سب الرسول صلى الله عليه وسلم :
1. إظهار التنقص والاستهزاء :كالتسمية ببعض أسماء الحيوانات، أو الوصف بالمسكنة والخزي والمهانة أو الإخبار بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك.(1/53)
2. إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذَّب: مثل وصفه بأنه ساحرٌ خادعٌ محتال، وأنه يضر من اتبعه، وأن ما جاء به كله زور وباطل وشر ونحو ذلك، فإن نظم ذلك شِعراً كان أبلغ في الشتم، فإن الشعر يُحفظ ويروى وهو الهجاء، وربما يؤثر في نفوسٍ كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين، فإن غنَّى به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره، وأما إن أخبر عن مُعتَقَدِه بغير طعنٍ فيه مثل أن يقول: أنا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا أرضى دينه ونحو ذلك، فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصاً، لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الأسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي، خلاف ما إذا قال: مَن كان! ومن هو! وأي كذا وكذا هو! ونحو ذلك من الاستهزاء والاستخفاف، وإذا قال لم يكن رسولاً ولا نبياً ولم ينزَّل عليه شيء ونحو ذلك، فهو تكذيبٌ صريح، وكل تكذيبٍ فقد تضمن نسبتَه إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب، فهناك فرق بين من لا يُقر بأنه صلى الله عليه وسلم نبي وبين من يقول هو كذَّاب؛ فليس مَن نَفى عن غيره بعض صفاته نفياً مجرداً كمن نفاها عنه ناسباً له إلى الكذب في دعواها، والمعنى الواحد قد يؤدَّى بعباراتٍ بعضها يُعد سباً وبعضها لا يُعد سباً، فيُنظر في هذا كله إلى السياق وقرائن الأحوال للحكم على قائل ذلك.
3. في عصرنا هذا تصوير الصور والرسوم على سبيل الاستهزاء والسخرية: فهذا مما لا يُشك في كونه سبَّاً وتنقصاً وشتماً للنبي صلى الله عيه وسلم ، بل إننا لا نقبله منسوباً لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
4. الطعن في العرض: كنسبة الأم إلى الفاحشة ونسبة الزوج إلى الفاحشة فهذا كله طعن في مقام النبوة وسب وشتم يترتب عليه موجبه من الحكم الشرعي والعقوبة الشرعية بلا خلاف.(1/54)
5. ذكر ما تعرض إليه من ابتلاءات على سبيل السخرية والتعريض : كأن يقول مستخفاً : مرض وضُرب وأوذي وسقط من على فرسه ، وسُحر وحُبس عن أزواجه ، ولم يجد النفقة على أزواجه فمن حكى شيئاً من ذلك مستخفاً فهو سابٌ يترتب على مسبته الحكم والعقوبة الشرعية.
وجماع ما تقدم أن ما يعرف الناس أنه سبٌ فهو سب، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر أُلحق بنظيره وشَبَهه والله سبحانه أعلم.169
ثانياً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر والردة:
هذا المبحث من أهم المباحث التي تناولها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالعرض والجواب، ولقد أبدع وأجاد وأفاد رحمه الله في ذلك، وأنا أوجز وأختصر ما تيسر من كلامه رحمه الله لشدة الحاجة إليه في هذا المقام، رب يسِّر وأعن:
إنَّ سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جناية وجريمة فوق باقي الجنايات، وإن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم جريمة زائدة على جريمة الردة والكفر والحراب، وبدايةً لا بد من تحرير أوجه الحقوق المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حرر ذلك ابن تيمية رحمه الله تحريراً نفيساً فقال:" إن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:
1. حق الله سبحانه: من حيث كفرَ - أي الساب - برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفةٌ على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعنٌ في المرسِل، وتكذيبه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى، وإنكارٌ لكلامه وأمره وخبره وكثيرٍ من صفاته.(1/55)
2. حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم: فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسِفارته، فالسب له أعظم عندهم مِن سبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.
3. حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه: فإن الإنسان تؤذيه الوقيعةُ في عِرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهرَ للناس كمالُ عِرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده مِن قتله، فإن قتلَه لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عِرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُفره عنه وسوء الظن به ما يُفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.
فعُلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة، وهذا ظاهرٌ إن شاء الله تعالى."170 قلت: إذا تأملنا في هذه الحقوق تبينت أوجه الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الجنايات على النحو التالي:
أولاً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الله سبحانه وتعالى: إن مما لا يحتاج إلى تقرير أن سب الله عز وجل أعظم مقاماً من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن هذا لا يمنع من وجود فرق بين سب الله تعالى وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يترتب فرق في الآثار المترتبة على هذا السب من حيث قبول التوبة من عدمه171، فإذا تبين هذا فالفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الله تعالى من وجوه:(1/56)
1. إن سبَّ الله تعالى حقٌ محضٌ لله، وذلك يسقط بالتوبة، وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان؛ حقٌ لله وحقٌ للعبد، فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة، إلا أن يعفو.
2. إن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق، وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم، وكذلك يُثابون على سبِّهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضاً على ما أصابهم من المصيبة بالشتم، فمن سبَّه فقد انتقص حرمته صلى الله عليه وسلم. والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك، فإنه منزَّهٌ عن لحوق المنافع والمضار به، كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فنتفعوني"172، وإذا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤثِر انتقاصَه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم، وربما كان سبباً للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته، شُرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبِّه فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم، وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يُقتل. ويؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى، ثم لم يُشرع عليه حدٌ مقدَّر كما شُرع على الرمي بالزنى، وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنى، لأنه بما يُظهر من الإيمان يُعلَم كذب القاذف، وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرَّة، بخلاف الزنى فإنه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه، ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة، فكذلك ساب الرسول يُلحق بالدِين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسبِّ الله ظاهراً معلوماً لكل أحدٍ علماً يشترك فيه كل الناس، بمعنى أن أثر سب الله تعالى لا يظهر بالنسبة لله تعالى.(1/57)
3. إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يُسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة، وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داعٍ من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله، ومن جهة المخالفة في دينه، ومن جهة التكبر عن الانقهار تحت حكم دينه وشرعه، ومن جهة المراغمة لأمته، وأما سبُّ الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافاً واستهانةً وإنما يقع تديُّناً واعتقاداً، وليس للنفوس في الغالب داعٍ إلى إيقاع السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيماً وتمجيداً، وهذا كمن يدعي أن الله اتخذ ولداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهذا من جنس السب بل هو شتم صريح كما جاء في الحديث القدسي، ومع ذلك فحكمه حكم الكفر إلا أن يتوب.
4. إن مفسدة سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزول بإظهار التوبة، بخلاف مفسدة سب الله تعالى، ولهذا إذا نظرت إلى جريمة القتل والزنى وإلى جريمة الردة وجدت أن حد القتل والزنى لا يسقط لأنه لا يمكن إزالة مفسدتهما التي وقعت، بخلاف حد الردة فإنه يسقط بالإسلام لأن مفسدة وقوع الردة تزول بعودته للإسلام.(1/58)
والحاصل أن حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم أُلحقت بحرمة الله من جهة التغليظ، لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه، ولكن هذا الحق أشبه بحقوق الآدميين من جهة بقاء حقه في استيفاء العقوبة من الساب، فهو صلى الله عليه وسلم من المخلوقين الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة، لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه، ولئن كان من حقه صلى الله عليه وسلم العفو عمن شاء ممن له عليه حق في حياته فقد انقطع هذا بموته صلى الله عليه وسلم ولم يعد إلا تغليظ العقوبة وبطلان سقوطها بالتوبة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يتألم بأذى مَن سبه وشتمه، فله أن يعاقب من آذاه تحصيلاً لمصلحة نفسه صلى الله عليه وسلم، كما له أن يأكل ويشرب، ومعلوم أن الله تعالى غني عن ذلك كله، ولهذا فان تمكين البشر من استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم ممن بغى عليه من جملة مصالح المؤمنين، ولولا ذلك لماتت النفوس غمّاً من وقوع أذاه وعدم الانتصار له صلى الله عليه وسلم.173
ثانياً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب سائر المؤمنين:
ولا أراني محتاجاً إلى كثير بسطٍ واستدلال على هذه البدهية، غير أننا نحتاج إلى استحضارها كي يستبين للمؤمنين أن قياس الأَولى تغليظُ عقوبة من ارتكب جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم لتكون أشد زجراً وردعاً وإيلاماً وإرهاباً لمن تطاول على مقام النبوة منها لمن سب أحداً من سائر المؤمنين.(1/59)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"إن سب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون من حيث هو سب بمنزلة سبِّ غيرِه من المؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم يباين سائر المؤمنين من أمته في عامة الحقوق مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس، ووجوب تعزيره وتوقيره على وجهٍ لا يساويه فيه أحد، ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى. وفي سبه إيذاءٌ لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده، وأقل ما في ذلك أن سبَّه كفرٌ ومحاربة، وسب غيره ذنبٌ ومعصية، ومعلوم أن العقوبات على قدر الجرائم، فلو سوّى بين سبه وسب غيره، لكان تسوية بين الشيئين المتباينين وذلك لا يجوز"174.
يبين ذلك أن المؤمن حق الإيمان يؤلمه ويؤذيه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يؤلمه سب غيره من المؤمنين بما فيهم نفسه، ومن لم يجد هذا في نفسه فليخش عليها، فإن الإيمان لا يكمل بدون تقديم النبي صلى الله عليه وسلم على النفس وعلى سائر المخلوقين في المحبة والتفدية والمتابعة والانتصار والغضب لمن يزعجه ويسخطه صلى الله عليه وسلم، ولقد تقدم ذلك في مبحث مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمن، فإذا كان الأمر كذلك لم يستسغ العقل أن يكون رد المؤمن على من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كرده على من يشتمه هو أو يشتم غيره من المؤمنين، وهذا كما قلت لا يحتاج إلى كثير تقريرٍ واستدلال، والله أعلم.(1/60)
وخلاصة هذا الفصل أن نميز أوجه السب التي يعتبر صاحبها ساباً للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينتبه المؤمن إلى أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم جناية عظيمة وجريمة بشعة لها خصوصيتها واستقلاليتها عن غيرها من الجرائم، وأن الكفر مع ما فيه من إجرام ليس وحده كالكفر مع سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فليعلم هذا كل مؤمن، وليعلم أن أولوية إعلان الحرب على الكافر المحارب الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والترصد له بالقتل المتعين فوق أولوية محاربة غيره من الكفار، وسيأتي بيان ذلك في الفصل التالي بإذن الله، والله أعلم.
الفصل الرابع: حكم سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم
إن معرفة حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة دينية لا غنى لمسلم عنها اعتقاداً وعملاً، أما الاعتقاد فبالكامل، وأما العمل فعلى قدر الاستطاعة، وإن هذه الضرورة أكثر تمحضاً اليوم من الأمس القريب إذ لم نعهد حتى القريب مثل هذه الحملة الشعواء الشرسة لأكابر مجرمي الأرض ممن يتجرأون على مقام النبوة وجناب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليكن مقام أحدنا مِن تعلُّم حكم هؤلاء المجرمين مقام المصحح لعقيدته والمقوِّم لانحراف أمته المجاهد في سبيل إعلاء دينه، والحذر كل الحذر من أن ينجرف أحدنا إلى مهاوي الخذلان والتهالك فيكون حاله حال من وصفهم الله تعالى فقال:" ولِيَعلمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون"175.
وقبل الخوض في تفاصيل هذا المبحث لا بد من مقدمة للتعريف بأقسام الناس من حيث الإسلام والكفر حيث إن تفريع بعض الأحكام المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم ينبني عليه، فنقول وبالله التوفيق:(1/61)
الناس إما مسلمون وإما كفار. والكفار أصنافٌ أربعة هي كما ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله :"الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل الذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان"176. وهذه نبذة عن كل نوع منهم:
1. أهل الذمة: فهم الذين دخلوا مع المسلمين في عقد الذمة بحيث رضوا بأن يكونوا تحت حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مقيمين في دار الإسلام مضروباً عليهم الجزية والصغار في مقابل إقرارهم على دينهم فيما بينهم مع حماية الدولة الإسلامية لهم،كما قال الله تعالى :" قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينُون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون"177وعقد الذمة عقدٌ مؤبد ما لم ينقضه الذمي بناقضٍ من نواقض العهد المعروفة.
2. أهل الهدنة: ويعرفون أيضاً بأهل العهد وأهل الصلح وهم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم - أي دار الكفار - لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم:" فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"178
3. أهل الأمان: المستأمَن هو الكافر يدخل دار الإسلام من غير استيطان لها أو إقامة فيها يدخلون بأمان المسلمين، وهؤلاء إما رسل وسفراء أو تجار أو مستجيرين يدخلهم المسلمون حتى يسمعوا كلام الله تعالى ويُعرَض عليهم الإسلام كما قال الله تعالى:"وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون"179 فإن أسلموا فبها، وإن لم يسلموا بُلِّغوا مأمنهم بعد قضاء الغاية من زيارتهم لبلد الإسلام، ولا تضرب عليهم الجزية ولا يقتلوا، فإذا عاد إلى دار الحرب عاد حكمه حربياً.(1/62)
4. أهل الحرب: هم كل الكفار ما عدا الأصناف المذكورة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:" كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام"180، فأهل الكفر في الأصل محاربون، فإن عقد المسلمون معهم صلحاً كانوا أهل هدنة، وإن عقدوا معهم الجزية كانوا أهل ذمة، وإن دخلوا مستأمنين كانوا أهل أمان، والله تعالى أعلم.181
ثم إن أهل الذمة قد عاهدوا المسلمين على الامتناع عن أمور إن هم تعاطوها نقضوا العهد وترتبت على نقض العهد أحكام شرعية وعقوبات شرعية بحسب هذا الناقض، وهذا كله مبسوط في مظانه182، وأذكر في هذا المقام بعض ما ورد في الشروط العمرية التي صالح عليها المسلمون نصارى الشام وشرط النصارى على أنفسهم في مقابل الذمة والصلح شروطاً وفيها :" ولا نُظهر شركاً، ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً"183، فكتب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المسلمين :" أن أمضِ لهم ما سألوا وألحِق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده"184، فتأمل جيداً هذه الشروط:
1. أن لا نُظهر شركاً: فلا يجوز لهم أن يعلنوا ويظهروا على الملأ شعائر دينهم الشركية كإظهار الصليب أو التحديث ببنوة عيسى لله تعالى سبحانه وتعالى عما يشركون، ونحو ذلك مما فيه أذى لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قد أُقروا عليه فيما بينهم في مقابل دفع الجزية وجريان حكم الله ورسوله عليهم.
2. ولا نرغِّب في ديننا: فلا يدعون أحداً إلى دينهم الباطل لأن هذه الدعوة معناها تفضيل دينهم على دين الإسلام وهو مخالف لما عاهدناهم عليه من خضوعهم لحكم الإسلام.
3. ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده: فإذا كانت هذه هي حرمة المسلم فحرمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من باب أولى.(1/63)
فإذا تأملت هذه الشروط وجدت أنها تدل بقياس الأَولى على حرمة ومنع التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب والإساءة والشتم والتعريض، فلا يخفى ولا يحتاج إلى تقريرٍ صريح أن وقوع مثل هذا ناقض للعهد مع ما يستجره من عقوبة على ما نبين لاحقاً. وإنما كان التفصيل في هذه الأصناف محتاجاً إليه في موضوع هذا الكتاب لما كان من وجود أهل الذمة في أرجاء الدولة الإسلامية مع ما لهم وعليهم من حقوق وواجبات، وما يحتاج لمعرفته من أحكام الشريعة الجارية عليهم فيما يقع منهم من إخلال بالعهد أو اقتراف جناية كزنى وقتل وحرابة أو سب للدين ولله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أحكام المستأمنين فإن عهدهم أقل توثيقاً من عهد أهل الذمة فنقضه بمثل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وأما المحارب فلا عصمة لدمه أصلاً والمقاتلةُ منهم يُخيَّر الإمام فيهم بين القتل والرق والفداء والمن، أما غير المقاتلة فلا يجوز قتلهم كالنساء والرهبان ومَن في حكمهم إلا أن يقاتلوا، وأحكام هذا كله مبسوطة في كتب الفقه والسياسة الشرعية فليرجع إليه.
ويمكننا أن نقسم الناس اليوم بخصوص ما يتعلق بمسألة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين اثنين فقط هما : مسلم وكافر، بغض النظر عن وضع الكافر من حيث الأقسام المذكورة آنفاً، لأن أقوى هذه الأقسام عهداً وتوثيقاً وأماناً - أعني أهل عقد الذمة - غير موجودين اليوم على الصفة الشرعية المذكورة، فكل ما سوى ذلك من أقسام الكفار أقل درجةً من حيث عصمة الدم والأمان، وكل ما تكلم فيه الفقهاء قديماً عن انتقاض عهد أهل الذمة وترتُّب عقوبة جريمة سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الساب منهم يقع على غير أهل الذمة من الكفار بطريق الأولى على تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى.(1/64)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم السابِّ ؛ يُقتل على ما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك مَن لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسُخفٍ من الكلام وهُجر، ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا"185
رحم الله القاضي عياض، وجعل كل حرف من هذه الأحرف وكل مَن عمل بها من بعده إلى يوم القيامة في ميزان حسناته، وهكذا فليكن انتصار العلماء الربانيين للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فالأمة بغنى عن عالم متعالم لا يزمجر بمثل هذه الكلمات في أرجاء الكون حتى ترتعد فئران الكفر والضلال وتموت كمداً في جحورها أو دهساً تحت أقدام الموحدين، رحم الله القاضي عياض رحمةً واسعة ينور بها قبره ويعلي بها قدره بين العلماء العاملين.
وإن كلامنا في هذا المبحث يتعلق بما يلي :
1. بيان الأدلة الشرعية المتضافرة على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله.
2. بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه
3. بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب.(1/65)
واعلم أن استطرادنا في عرض الأدلة ليس لترددٍ في صدورنا أو اختلاجٍ تجاه حكم الله تعالى في هؤلاء، فإن الفطرة السليمة لا تقبل لهذا المجرم عقوبةً دون القتل، ولكننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا نصدر عن انفعالاتنا ولا عن عقولنا بل نصدر عن الوحي، فما جاء به صلى الله عليه وسلم سمعنا وأطعنا، وما لم يأتِ به توقفنا حتى يأتي أو يستبين لنا أمره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
المطلب الأول: بيان الأدلة الشرعية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
لقد تضافرت أدلة الشرع قرآناً وسنةً وإجماعاً وقياساً على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتقض إيمانه إن كان مسلماً وأمانه إن كان كافراً معاهداً ووجب قتله أياً ما كان. وعلى هذا الحكم الشرعي استقر العقل السليم واطمأنت الفطرة التي لم تلوثها شوائب الضلال، والحمد لله من قبل ومن بعد، يقص الحق وهو خير الفاصلين. وفيما يلي عرض هذه الأدلة بتوفيق الله وفضله :
أولاً : الأدلة القرآنية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
فصَّل مَن كتب في هذا قديماً بين أدلة القرآن على انتقاض عهد الذمي بالسب ووجوب قتله، وأدلة كفر المسلم بالسب ووجوب قتله، ولن أفصل في هذا التقسيم بل أذكر الأدلة مجتمعةً لتداخل أوجه الدلالة ولقلة الحاجة إلى هذا التفريق اليوم، وأفصِّل فيما يحتاج إلى تفصيل عند الكلام عل كل دليل ووجه الدلالة منه والله الموفق.(1/66)
1. قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون اللهَ ورسولَه لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"186، ووجه الدلالة من هذه الآية لا يحتاج كثير نظر وتدبر وهو من وجوه، (أولها) أن الله تعالى قرن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذاه، كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم187، و(منها) أن الله تعالى صرح بلعن الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والسب أذى فالساب ملعون، و(منها) أن هذا اللعن حاصلٌ في الدنيا والآخرة مما يشير إلى أن العذاب المتوعَّد به واقعٌ بمن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، قال ابن تيمية رحمه الله في معرض الكلام على انتقاض عهد الذمي بالسب وترتب القتل عليه:"كذلك هنا سبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث هو جنايةٌ منفصلةٌ عن نقض العهد، له عقوبةٌ تخصه في الدنيا والآخرة زائدةٌ على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته، والدليل عليه قوله سبحانه :"إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"، فعلَّق اللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب المهين بنفس أذى الله ورسوله فعُلم أنه موجِب ذلك"188 قلت: أي سبب قتل الساب هو نفس السب لا مجرد الكفر أو انتقاض العهد، و(منها) أن وصف العذاب بالمهين يجري في القرآن الكريم وعيداً للكفار مما يدل على كفر من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و(منها) أن الآيتين فرقتا في العقوبة بين أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى سائر المؤمنين إذ قرن الأول بأذى الله مباشرة ورتب عليه اللعنة في الدنيا والآخرة في حين رتب الإثم على أذية المؤمنين وذلك أن أذية المؤمنين فسقٌ كما في الحديث:"سباب المسلم فسوق"189، والآية فرقت بين أذى المؤمنين وأذى رسول الله صلى الله(1/67)
عليه وسلم فلا يبقى إلا أن يكون أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل إثماً وهذا باطل فلم يبق إلا أن يكون أعظم إثماً وليس فوق الفسق إلا الكفر، وهو المطلوب.
2. قوله تعالى:" ومنهم الذين يؤذون النبيَّ ويقولون هو أُذن قل أُذُن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةٌ للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسولَ الله لهم عذابٌ أليم. يحلفون بالله لكم لِيُرضوكم والله ورسولُه أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادِدِ اللهَ ورسولَه فأنَّ له نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ العظيم"190، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) توعُد الله تعالى من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم، والسبُّ أذى بالقول كما لا يخفى، و(منها) أنه رتب على وصف الأذى وصف المحادة لله ورسوله، قال ابن تيمية:"فعُلم أن إيذاء رسول الله محادةٌ لله ولرسوله، لأن ذِكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلاً فيه"191، وقال رحمه الله:"المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفرٌ ومحاربةٌ فهو أغلظ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً عدواً لله ورسولِه محارباً لله ورسوله"192، و(منها) أن هذه الآية نزلت فضيحةً للمنافقين ومعلومٌ أن المنافق يعامَل معاملة المسلم في الظاهر، ولكن لما فضح الله سريرته وكشف باطنه صار حكمه حكم الكافر، لأنه بإظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم يكون قد وافق ظاهرُه باطَنه من حيث الكفر، وانتفى السبب الذي كان مانعاً من إجراء حكم الكافر عليه وهو تستره بالإسلام في الظاهر، والحاصل أنَّ إظهار السب دليلٌ ظاهر على الكفر فلم نعد محتاجين إلى الكشف عن السريرة والباطن، وهتِك الستر الظاهر الذي كان مانعاً من التكفير والقتل، فتأمل هذا فإنه دقيق.(1/68)
3. قول الله تعالى مبيناً مصير المحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم :" إن الذين يُحادُّون الله ورسوله أولئك في الأذلين"193، وقال تعالى:" إن الذين يُحادُّون الله ورسوله كُبتوا كما كُبت الذين مِن قبلهم"194، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) أن المحاد لله ورسوله كافرٌ معادٍ لله تعالى كما تقدم، و(منها) أنه وصف هؤلاء بالأذلين وهذا من أدنى دركات الذل الذي يتنافى مع بقاء الإيمان، وإنما يتماشى مع وصف الكفر والمحاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدل على انتقاض الإيمان وتحقق أدنى دركات الكفر،قال ابن تيمية رحمه الله :"والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبوا الرسل قط "195،و(منها) أن وصف الكبت يدل على شدة الغيظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يغتاظ منه إلا كافرٌ مغرقٌ في الكفر والعداوة، قال ابن تيمية رحمه الله:"يبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين، فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم، لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قُتلوا فيجب أن يكون كل محادٍّ كذلك"196، فالساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محادٌ لله ولرسوله وهو مستحقٌ لكل أوصاف ونعوت الذل والكبت الواردة في الآية المختصة بالمنافقين والكفرة الفاجرين.(1/69)
4. قول الله تعالى:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخِر يوادُّون مَن حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم "197، فهذه الآية تدل على كفر مَن سب الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاض إيمانه إن كان قبل السب مسلماً وأمانه إن كان معاهداً، ووجه الدلالة من باب قياس الأولى حيث قال ابن تيمية رحمه الله:"فإذا كان من يوادّ المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه، وقد قيل إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصدِّيق قتلَه، وأن ابن أُبي تنقَّص النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحاد كافرٌ حلال الدم، وأيضاً فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله"198، قلت: والسب والشتم من أعظم المحادة والعداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى. وقال الإمام البغوي رحمه الله في هذه الآية:"أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار، وأن مَن كان مؤمناً لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته"199، قلت: وهذا صريح في أن المحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأذى أو سب أو شتم أو غيره من أنواع العداوة فإنه كافر لا تجوز موالاته كما لا تجوز موالاة سائر الكفار، بل هنا آكد لمكان العداوة والمحاربة الظاهرة لله والرسول صلى الله عليه وسلم.(1/70)
5. قوله تعالى:" يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورةٌ تبنئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرجٌ ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولنّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفةٍ منكم نعذب طائفةً بأنهم كانوا مجرمين"200 ، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) أن الآية دلت صراحةٌ على أن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم كفر، قال ابن تيمية رحمه الله:"وهذا نصٌ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كُفرٌ، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كلَّ مَن تَنَقَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر"201، و(منها) أن السب هو الكفر الظاهر الموافق للكفر الباطن، حيث قال تعالى إنه مُخرجٌ ما يخفيه المنافقون في قلوبهم من الكفر، وكان هذا الإخراج بفضيحتهم وإعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء الحاصل منهم تجاه الله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الاستهزاء - والسب منه - هو من أعمال وأقوال الكفر الظاهر التي تحكي الكفر الباطن،و(منها) الحكم بالعذاب على المستهزئ وهذا يشمل العقوبات الشرعية بالقتل في الدنيا وعقوبة الآخرة في نار جهنم و(منها) أن الآية وصفت الاستهزاء بالجريمة وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو أشد، قال ابن جرير الطبري رحمه الله:"وأما قوله (بأنهم كانوا مجرمين) فإن معناه: نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم"202، قلت : وهذا صريح في أن الاستهزاء كفر وأولى منه سب الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/71)
6. قوله تعالى:" لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنُغريَنَّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً"203، هذه الآية بيَّنت أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض يُخفونه وهو الطعن في دين الله والاستهزاء بآياته وبرسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم مستحقون للعن، بل هم إن اللعن وصفٌ ثابتٌ عليهم، ثم بيَّنت هذه الآية ما يترتب على هذا اللعن من التقتيل وهي صيغة مبالغة من القتل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق الكلام على قوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)204:"أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومَن طََرَدَه عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً، فإن المؤمن يقرُب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمةٌ عظيمة من الله، فلا يثبت في حقه، ويؤيد ذلك قوله :"لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقُتّلوا تقتيلاً"، فإنَّ أخْذهم وتقتيلهم والله أعلم بيانٌ لصفة لعنهم، وذُكِر لحكمةٍ - فلا موضع له من الإعراب وليس بحالٍ ثانية- لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيدٌ لهم، بل تلك اللعنة ثابتةٌ قبل هذا الوعيد وبعده، فلابد أن يكون هذا الأخذ والتقتيل من آثار اللعنة التي وُعدوها، فثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والآخرة"205، قلت: وهذا كما قدمنا غاية العدل لأن المنافق الذي أبطن الكفر وأظهر الإسلام عومل وفق ذلك فحُقن دمه في الدنيا بما أظهره من الإسلام وعُذب في نار حهنم خالداً فيها يوم القيامة بما أبطن من الكفر، أما إذا تسرب إلينا من باطن كفره ما ظهر لنا به كفره قولاً كان كالسب والشتم أو(1/72)
فعلاً كالإرجاف والتخذيل والدلالة على عورات المسلمين رجع حكمه في الدنيا إلى الأصل وعومل معاملة الكافر الحربي المعادي لله ورسوله المحاد لهما والمشاق لهما فأُخِذ وقُتل جزاءً وفاقاً، وبهذا يتبين أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ينقض الإيمان والأمان ويوجب القتل واللعن على هؤلاء المجرمين، وهو المطلوب.
7. قوله تعالى :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً"206، ووجه الدلالة من هذه الآية هو أيضاً من قياس الأولى حيث بينت الآية بشكل صريح أن مَن أعرض عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقبول بحكمه قد انتفى عنه الإيمان، وقال الإمام أحمد:"نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلوا :"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة"207 الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك! لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلوا هذه الآية :"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"208، وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله:"فأقسم سبحانه بنفسه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم رسولَه في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه فلا يبقى منها حرج، ونسلِّم لحكمه تسليماً، فلا نعارضه بعقلٍ ولا رأيٍ ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يُقدِّمون العقل على ما جاء به الرسولُ، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه"209، قلت: فإذا كان الإيمان منفياً عمن لم ينشرح صدره لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بمن سبَّه وشتمه وآذاه بفحشٍ من القول وزور من الكلام. قال ابن تيمية رحمه الله:" فإذا كان النفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا تركٌ محضٌ وقد يكون سببه(1/73)
قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب"210، قلت: أي أن كون السب والشتم سبباً في نفي الإيمان أولى وأقوى، لأن الساب لم يقتصر على الترك والإعراض الذي هو بحد ذاته كفر، بل ضم إلى ذلك التنقص والشتم فهو متعاطي لأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التعاطي للإيذاء فوق الترك المحض فكان أولى بنفي الإيمان واستحقاق العقوبة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه دحيم في تفسيره عن عتبة بن ضمرة :حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحِقِّ على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، وقد ذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضي لي. فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبُه أن يرضى. قال: فأتيا عمر بن الخطاب، فأتياه فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر فقال أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرضى، فسأله عمر، فقال كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله:" فلا وربك لا يؤمنون " إلى آخر الآية211. قلت: فكيف يفعل الصحابة إذاً بالساب والشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يجدر بالمؤمن أن يفعل!(1/74)
8. قوله تعالى:" ومنهم من يَلمِزُك في الصدقات فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعطَوا منها إذا هم يَسخَطون"212 ، ووجه الدلالة من هذه الآية يجمع أموراً مما تقدم (فأولها) يتعلق بصفات المنافقين وسلوكهم الظاهر الدال على كفرهم الباطن وهو في هذه الآية الفاضحة لمزُ النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات، قال ابن تيمية رحمه الله :"واللمز: العيب والطعن، قال مجاهد: يتهمك، يسألك، يزرأك، وقال عطاء: يغتابك"213، قلت : وكل هذا من جنس أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسب أشد منه لكونه صريحاً معلناً فحكمه حكم اللمز من حيث الحكم بالنفاق والكفر كما لا يخفى، و(ثانيها) أن من صفات المنافين الكفار في الباطن أنهم لا يرضون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقسيم الأموال وفي غيره من الأمور الدينية والدنيوية وهو ما تقدم تحريره في الدليل السابق، ويقوي هذا المعنى ويوضحه ما رواه الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:" بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم214 جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه. قال: دعه، فإن له أصحاباً يحقِر أحدُكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية215 ..إلى أن قال : فنزلت فيه :"ومنهم من يلمزك في الصدقات"216، قلت: وهذه الآية والحديث الذي يروي سبب نزولها صريحان في أن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي حكمه وقضائه كفرٌ يبيح دم قائله حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ عمر بن الخطاب على حكمه على الرجل بالقتل، ولكن منعه لسبب آخر ولمصلحة راجحة - وهذا حقٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته حيث يعفو عن حقه هو لما يراه مناسباً، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يجرؤ على إسقاط حق رسول الله صلى الله عليه وسلم!(1/75)
9. قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالُكم وأنتم لا تشعرون"217، ووجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم وعن الجهر له بالقول كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يُفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر، فإنه علَّل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلبِ سلامة العمل عن الحبوط، وبيَّن أن فيه من المفسدة احتمال حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك، وما قد يُفضي إلى حبوط العمل يجب تركُه غاية الوجوب، والعمل يحبط بالكفر قاله سبحانه :"ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"218، وقال تعالى:" ومن يكفر بالإيمان فقد حبِط عمله"219، وقال:" ولو أشركوا لَحَبِط عنهم ما كانوا يعملون"220، وقال :"لئن أشركتَ ليحبطنَّ عملُك"221، وقال:"ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل اللهُ فأحبط أعمالهم"222، وقال :"ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخطَ اللهَ وكرهوا رضوانَه فأحبط أعمالهم"223، كما أن الكفر إذا قارنه عملٌ لم يُقبل لقوله تعالى :"إنما يتقبل الله من المتقين"224، وقوله:"الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالَهم"225، وقوله :"وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله"226، وهذا ظاهرٌ ولا تحبط الأعمال بغير الكفر، لأن من مات على الإيمان فإنه لابد من أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عملُه كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمالَ مطلقاً إلا الكفر، وهذا معروفٌ من أصول أهل السنة، نعم قد يبطلُ بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى:"لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى"227 ولكن لا يحبط كلُّ عمل المرء بذلك، ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر(1/76)
له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لايشعر، ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لِما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولِما أنَّ رفعَ الصوت قد يشتمل على أذى له أو استخفاف به وإن لم يقصد الرافعُ ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً، فيكون الأذى والاستخفاف المقصود والسب والشتم المتعمد كفراً بطريق الأَولى228. قلت: هذا غاية الفقه منه رحمه الله فقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المبحث النفيس مسائل من أصول الدين لا ينفك المسلم يحتاج إليها، منها أن المعاصي لا تحبط الإيمان كله وإنما ينقص بها الإيمان، وأن حبوط كامل العمل رديف الكفر، وأن كل ما دل دليل الشرع على أنه يؤدي إلى حبوط كامل العمل فهو كفر وهذا كما مثَّل وذكر كسب النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن رحمه الله أن مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم وإيذائه من متعلقات أصول الدين وأنه ليس مجرد ذنب عارض بل هو جريمة كبرى، ولكن هل من سامع أو مجيب.(1/77)
10. قوله تعالى :" فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذاب أليم"229، ووجه الدلالة هنا أن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مفضٍ إلى الفتنة وهي الكفر، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"أمرَ مَن خالف أمرَه أن يحذر الفتنة؛ والفتنة الردة والكفر"230، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"أي فليحذر وليخشَ من يخالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً (أن تصيبهم فتنة) أي في قلوبهم مِن كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعة، (أو يصيبهم عذابٌ أليم) أي في الدنيا؛ بقتلٍ أو حدٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك"231، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجه الدلالة من الآية :"فإذا كان المخالف عن أمره صلى الله عليه وسلم قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ولما كان معلوماً أن إفضاءه إلى العذاب بسبب مجرد فعل المعصية، عُلِم أن إفضاءه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، وهذا كما فعل إبليس حيث استخف بحق الآمر واستكبر عنه فكفر بذلك لا لمجرد المعصية، فكيف لما هو أغلظ من ذلك الاستحفاف كالسب والشتم والانتقاص ونحوه"232، قلت: فلا شك أن السب والشتم أشد إفضاءً إلى الكفر من إفضاء مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم المقترنة بالاستخفاف به صلى الله عليه وسلم،وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، والله الموفق.(1/78)
11. قوله تعالى:" وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ الله ولا أن تَنكِحوا أزواجَه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً"233، ولقد تقدم الكلام عن هذه الآية وبيان منع معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض ما يجوز للمسلمين أن يتعاملوا به بينهم حفظاً لجنابه وتوقيراً وتعظيماً لمقامه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الله تعالى منع مِن تزوُّج أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وسمى ذلك أذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعظَّم قدر هذا الأذى مُشعراً بالوعيد الشديد لفاعله، فإنَّ ترتب هذا الوعيد على الشاتم من باب أولى، قال ابن تيمية رحمه الله:"فحرَّم على الأُمة أن تنكح أزواجَه من بعده لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته. وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة. ثم إنَّ مَن نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاءً له بما انتهك من حرمته فالشاتم له أولى"234، قلت: وسيأتي دليل هذا أعني قتل من تزوج أحداً من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مبحث أدلة السنة إن شاء الله.(1/79)
12. قوله تعالى:" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"235، تقدم معنا في تقديم هذا المبحث صفة أهل الذمة وأن حقن دماءهم بدخولهم في عقد الذمة مترتبٌ على أمرين هما؛ دفع الجزية للمسلمين، وانقيادهم لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام، وذكرنا بعض الشروط التي يشترط التزام أهل الذمة بها لسريان عقد الذمة وحقن دمائهم، وأن لازمها عدم الطعن في الإسلام وفي الله سبحانه وتعالى وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة من هذه الآية من وجهين (أولهما) أن الأصل في التعامل مع الكفار هو قتالهم، ومن حلَّ قتاله حلَّ قتله، ثم إن قتله يتعين بتعين الجريمة المستوجبة للقتل كما نبين لاحقاً، و(الآخر) أن من أعلن وأظهر سبه النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملتزماًً بشروط العهد من الكف عن الطعن في دين الإسلام والتزام حال الصغار بالانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام، قال ابن تيمية رحمه الله:" فمن المعلوم أن من أظهر سبَّ نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملأ منا، وطعن في ديننا في مجامعنا، فليس بصاغرٍ لأن الصاغر الذليل الحقير، وهذا فعلُ متعززٍ مراغم، بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة"236، وقال الإمام الشافعي رحمه الله:" الصَغَار والله أعلم أن يجري عليهم حكم الإسلام"237، قلت: ولا يخفى أن إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم مخالفٌ لجريان حكم الإسلام عليهم، قال القاضي عياض رحمه الله :" لأنا لم نعط الذمة أو العهد على هذا"238 أي على إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا كله بالنسبة للكافر الذمي، فإذا تأملنا أنه غير موجود اليوم كان حال الكافر المستأمن أو الحربي إذا أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الحكم وهو انتقاض أمانه إن كان(1/80)
مستأمناً وتعين قتله إن كان حربياً وظُفر به، والله أعلم.
13. قوله تعالى:" كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"239، فهذه الآية الكريمة تبين حكم الكافر الحربي وأنه لا عهد له ولا أمان من الله ورسوله، بل يقاتَل حتى يسلم أو يعطي الجزية إن كان من أهلها أو يهادن على تفصيل مبسوط في كتب الفقه، ثم استثنى الله تعالى مَن كان له عهدٌ سابق مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستقيماً على شروط العهد ومقتضياته، قال الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله:" ولما قدم المدينة - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم؛ فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم"240، ومن المعلوم أن المجاهرة بسب النبي صلى الله عليه وسلم ليست من الاستقامة على العهد في شيء، قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر الآية الكريمة:" نفى سبحانه أن يكون لمشركٍ عهدٌ ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم إلا قوماً ذكرهم، فإنه جعل لهم عهداً ما داموا مستقيمين لنا، فعُلم أن العهد لايبقى للمشرك إلا ما دام مستقيماً، ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وديننا وكتابنا يقدح في الاستقامة، كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد، بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولا يُجهر في ديارنا بشيء من أذى الله ورسوله، فاذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين فكيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما"241، قلت: تأمل فقه هذا الإمام العظيم، حيث جعل محاربة المشركين لنا بقتالنا واستباحة دمائنا أهون الأمرين وجعل سب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الأمرين وهو كذلك، هذا - كما قال رحمه الله - إن كنا مؤمنين، تأمل هذا الكلام النفيس ثم ابكِ على(1/81)
ما يظنه البعض اليوم نصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم من دعوة لحوار الأديان وتخوفٍ من المبالغة في النكير على الشاتمين خشية تعثر عجلة التقدم في تعايش الأديان وتجاور الحضارات، فلا ينتهي العجب من هذا، نسأل الله السلامة والعافية.
14. قوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانَهم مِن بَعد عهدِهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمةَ الكفر إنهم لا أَيمان لهم لعلهم ينتهون"242، وإن الآية الكريمة تدل على انتقاض الإيمان والأمان ووجوب القتل من وجوه، (أولها) أن مجرد نكث الأيمان أي نقضها موجبٌ لانتقاض الأمان، و(منها) أن الطعن في الدين جريمة مستقلة زائدة على مجرد نقض العهد، و(منها) تسمية من ضم إلى نقض العهد طعناً في دين الإسلام إماماً في الكفر وهذا يستدعي قدراً زائداً من العقوبة الزاجرة الرادعة لأن إمام الكفر معلنٌ بمحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وداعية إلى الكفر فلا بد من كف أذاه عن الناس وهذا لا يتحقق إلا بقطع دابره، قال الإمام البيضاوي رحمه الله في قوله تعالى (فقاتلوا أئمة الكفر) :"أي فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل، وقيل: المراد بالأئمة رؤساء المشركين، فالتخصيص إما لأنَّ قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم"243، قلت: أي المنع من مراقبة العهد فيهم لأنهم أولى مَن نكث العهد بالقتل لعظيم خطرهم و(منها) توكيد الآية على أنه لا أمان لهؤلاء الكفار الطاعنين في الدين فيعودون إلى حكم الأصل من وجوب قتالهم، و(منها) تعليل هذا القتال برجاء انتهائهم عن الطعن في الدين والذي دلت عليه التجربة أن طعن هؤلاء في الدين لا ينتهي ولا ينقطع إلا بقطع دابرهم، و(منها) أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أعظم الطعن في الدين لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الواسطة بين الله عز وجل وبين الناس فبه بلَّغ الله تعالى دينه وعرَّف الناس أوامره ونواهيه، فمن طعن(1/82)
في نبينا صلى الله عليه وسلم بالسب فقد طعن في الله الذي أرسله ونقض أصل الدين، وفاعل هذا إمامٌ في الكفر لا بد من أن يُستراح منه، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (وطعنوا في دينكم):" أي عابوه وانتقصوه؛ ومن ههنا أُخذ قتلُ من سب الرسول ضلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص"244. والحاصل أن هذه الآية أصلٌ عظيم في مسألتنا لأنها جامعة في الدلالة على كل أوجه المطلوب وهو انتقاض الإيمان والأمان وتعين القتل على هؤلاء المجرمين، والله أعلم.(1/83)
15. قوله تعالى:"ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمُّوا بإخراج الرسول"245، وهذه الآية تالية في الترتيب للآية السابقة، وفيها مزيد تهييج للمؤمنين على قتال هؤلاء الطاعنين في دين الله وفي الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التهييج والإغراء بهم يؤكد على أن المطلوب قتلهم واستئصال شأفتهم، بل إنك لتستشعر نوع عتاب في الآية لمن تردد في قتلهم، وكأن في الآية : كيف لا تقتاتلون هؤلاء الذين أرادوا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأوه وإياكم القتال ونكث العهود! قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية:"وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا باخراج الرسول من مكة"246، وقال ابن تيمية رحمه الله:"فجعل همَّهم بإخراج الرسول من المحضضات على قتالهم، وما ذاك إلا لما فيه من الأذى، وسبُّه أغلظ من الهم بإخراجه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عفا عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه ولم يعفُ عمَّن سبَّه، فالذمي إذا أظهر سبَّه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله"247، قلت: فهذا حال الذمي فما بالك اليوم بالكافر الحربي الذي لم ينعقد له أمان ولا عهدٌ أصلاً وهو يبارز النبي صلى الله عليه وسلم بالسب والشتم والتنقص والوقيعة في عرضه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أيكون نصيبه من العقوبة دعوة إلى مؤتمر حوار أديان وتحذيره من مغبة الاستمرار في الشتم لئلا يعكر جو حوار الحضارات والتعايش السلمي بين الأديان، أم يكون نصيبه ضرباً فوق الأعناق وضرباً لكل بنان، تأمل هذا يا ما تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمله جيداً ثم اختر لنصرة نبيك صلى الله عليه وسلم حالاً من هاتين.(1/84)
16. قوله تعالى:"سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بَنان. ذلك بأنهم شاقُّوا الله ورسولَه ومن يشاقق اللهَ ورسولَه فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذابَ النار"248، ووجه الدلالة من هذه الآية أن تعليل الضرب فوق الأعناق وهو القتال كان بسبب مشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم والأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله ورسوله، فكل من شاقَّ الله ورسوله يستوجب ذلك، والمؤذي للنبي مشاقٌ لله ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك"249، قلت: وهذا صريح واضح لا يحتاج إلى كثير بسطٍ وبيان.
17. قوله تعالى:" ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذَّبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقُّوا الله ورسوله ومن يُشاقِّ الله فإن الله شديدُ العقاب"250، فهذا مصير هؤلاء من أهل الذمة الذين نقضوا عهدهم بمشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن تيمية رحمه الله :"فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا ولِعذاب النار في الآخرة هو مشاقَّة الله ورسوله، والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُشاقٌّ لله ورسوله كما تقدم، والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من عنده أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال وفراق الأوطان"251، قلت: فهذا أيضاً صريح في أن من شاق الرسول صلى الله عليه وسلم بسب وشتيمة وغيرهما من أنواع الاذى فإنه مستحقٌ للعقوبة في الدنيا والنار في الآخرة، وما من عقوبة في الدنيا تليق بهذا الشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القتل على ما نبينه لاحقاً إن شاء الله، أما انتقاض إيمانه وأمانه فلا إشكال فيه بحمد الله.(1/85)
18. قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوَّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودةِ وقد كفروا بما جاءكم مِن الحق يُخرجون الرسولَ وإياكم أن تؤمنوا بالله ربِّكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل"252، ووجه الدلالة من هذه الآية من وجوه (أولها) أن الله تعالى قرن عداوة المؤمنين بعداوته سبحانه وتعالى ولا شك أن أولى المؤمنين وسيدهم وإمامهم في هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فمن عاداه فقد عادى الله ومن عادى الله استحق الحرب والقتل، و(منها) أن الله تعالى نهى عن موالاة هؤلاء الأعداء الآتية صفتهم في الآية، ونهي المؤمنين عن الموالاة إنما يكون مع الكافر لأن المؤمن لا يُنهى عن موالاة المؤمن كما هو مقررٌ ومستفيض في آيات القرآن، و(منها) أن هذه العداوة جاءت منعوتة موصوفة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من بلده وهذا نوع أذى، فكل أذى مِن جنسه أو أشد منه كالسب والشتم يكون أبلغ في تقرير العداوة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (يُخرجون الرسول وإياكم) :"هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بين أظهرهم كراهةً لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده"253، قلت: فكيف بمن يسبه ويشتمه ويقع في عِرضه صلى الله عليه وسلم، و(منها) أن تعليق الجهاد في سبيل الله وهو القتال على قطع الموالاة مع هؤلاء الأعداء الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد أن هؤلاء كفارٌ لا إيمان لهم ولا أمان لأن الجهاد أي القتال في سبيل الله وتقصُّد قتلهم ينصرف إلى هؤلاء. والحاصل أن هذه الآية قد قطعت كل وشيجة وصلة بين المؤمنين وبين من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الأذى سواء أكان ما صرحت به(1/86)
الآية من إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة أم كان غيره من أنواع الأذى كالهجاء والسب والتنقص بل هذا أولى كما لا يخفى.
19. قوله تعالى:" وأعِدُّوا لهم ما استطعتم مِن قوةٍ ومِن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ الله وعدوكم"254 ، قال الإمام الطبري رحمه الله :"يقول تعالى ذِكره: وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما استطعتم من قوة، يقول: ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم من السلاح والخيل، (ترهبون به عدو الله وعدوكم) يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين"255، قلت : وهذا لا يخفى أنه إعداد للقتال والقتل لأولئك المحاربين الناقضين للعهد والناكثين للإيمان والأيمان، وأي عداوة أشد من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان ذلك وإظهاره على الملأ في كل ما تيسر لهؤلاء المجرمين من وسائل الإعلان المسموع والمقروء والمرئي جهاراً نهاراً، ينفثون كل حقدهم ضد من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وشرفه على سائر خلقه أجميعن، أليس هذا المجرم الساب والشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذاً أولى الناس بأن يعيش حال الخوف والإرهاب وهو يعلم تربص المؤمنين به لقتله ودحره وقطع دابره. ولئن لم يصدق على ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاتمه ومتنقصه والطاعن فيه والواقع في عرضه وفي أزواجه الطاهرات المطهرات أنه عدو لله وعدو للمؤمنين فعلى من يصدق وصف العداوة؟ بل ما بقاء المؤمنين بعد شتم نبيهم إذا لم ينتصروا له صلى الله عليه وسلم بتربص الشاتم والساب بكل ما يملكون من أسباب القوة والرهبة، حتى إذا ظفروا به أخذوه أخذاً وبيلاً وقتَّلوه تقتيلاً ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.(1/87)
20. قوله تعالى:" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيدِيهِم وأرجُلُهُم مِن خِلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا"256، وهذه الآية أصلٌ في حدِّ الحرابة، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"المحاربة: هي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر"257، وقال رحمه الله :"وليست تُحرز - أي تمنع - هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحد الذي أصاب"258، قلت: أي ولو تاب فإن التوبة تُسقط حق الله عز وجل ولا تُسقط حق العباد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر الآية :"فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فساداً الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلماً أو معاهداً، وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب، فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن أُخذ وقُدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه، وحدُّه القتل فيجب قتله سواءٌ تاب أو لم يتب"259، قلت: وسيأتي مزيد بيان لمسألة عدم استتابة شاتم النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المقصود هنا بيان وجه دخول الساب في المحاربين لله ورسوله مع ما يترتب على ذلك من النكال العظيم، ولا يماري عاقل فضلاً عن مسلم في أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أشد المحاربة لله ورسوله ومن أعظم الإفساد في الأرض، فلا تردد في دخوله في وعيد هذه الآية والله تعالى أعلم.(1/88)
فهذه عشرون دليلاً من القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تدل دلالة صريحة صحيحة على أن من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبٍ أو شتمٍ فقد انتقض إيمانه وزال أمانه ووجب قتله فهو كافر محارب يستحق وعيد الدنيا والآخرة جزاءً وفاقاً على ما اجترأ عليه من جريمة شنعاء قبيحة.
ثانياً: أدلة السنة النبوية على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
إن ما تقدم من الأدلة القرآنية شافٍ كافٍ في تقرير مسألتنا، غير أن السنة النبوية المطهرة جاءت شارحةً للقرآن مبينةً لمبهمه، ومفصلةً لمجمله، ومخصصة لعمومه، ومقيدةً لمطلَقِه، ومؤكدةً لأحكامه، ومُشرِّعةً لأحكام مستقلةٍ، ولما كان هذا شأن السنة فمن المهم النظر في أدلتها المتعلقة بمسألتنا كي تستبين لنا الضوابط الشارحة لتطبيق ما تقدم تقريره بالأدلة القرآنية، حتى لا تبقى شائبة أو شبهة في ذهن المكلف، ولينظر كيف كان تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأدلة القرآنية. وكما قدمت آنفاً فإني لن أفصل في عرض هذه الأدلة بين ما يتعلق بالمسلم والمعاهد والمحارب بل نسرد الأدلة ونذكر وجوه الدلالة منها على المطلوب في موضعها مع الإشارة إلى خصوصيات كل دليل حسب الحاجة إن شاء الله.(1/89)
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله قال: مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"260، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"قال الفاكهاني: في هذا تهديدٌ شديد لأن من حاربه اللهُ أهلكه، وهو من المجاز البليغ لأن مَن كَرِهَ مَن أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه"261. وقال ابن تيمية رحمه الله :"فإذا كان من عادى واحذاً من الأولياء قد بارز اللهَ بالمحاربة، فكيف بمن عادى صفوة الله من أوليائه، فإنه يكون أشد مبارزةً له بالمحاربة، وإذا كان محارباً لله لأجل عداوته للرسول، فهو محارب للرسول بطريق الأولى، فثبت أن الساب للرسول محاربٌ لله ورسوله"262، قلت: فإذا ثبت هذا تبين أن الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منتقض الإيمان منتقض الأمان مستحق للقتل، وهو المطلوب.(1/90)
2. عن أنس رضي الله عنه قال:" كان رجلٌ نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله فدفنوه فأصبحَ وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فِعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه"263، قال العيني رحمه الله :"وفي رواية ثابت: فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم"264، قلت: أي في قومه من النصارى الكفار لأنه لحق بهم بعد أن ارتد، وكان يطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ويزعم أن ما كان يأتي به صلوات الله وسلامه عليه من الوحي إنما علَّمه إياه هو، وواضحٌ ما في هذا من نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الطعن والتنقص والإزراء به صلوات الله وسلامه عليه، ورواه مسلم في صحيحه أيضاً عن أنس بن مالك قال:"كان منا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه؛ قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد، فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً"265، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه، بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمرٌ خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل(1/91)
هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يُمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مراتٍ متعددة في حصار الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا، حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحه وتيَّسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين"266، قلت: ولا بد من الحذر من الركون إلى مثل هذه البشارات مع ترك تعاطي أسباب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمل كيف أن أهل الثغور كانوا يستبشرون بنصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بتعجيل هذه الحصون التي يحاصرونها لا أن أحدهم يقعد في بيته مع الخوالف ينتظر نصر الله من السماء دون أن يتعاطى أسبابه في الأرض من إعداد عدة وصدق عزيمة وإخلاص نية الخروج في سبيل الله تعالى. والشاهد هنا أن الله تعالى لا يفضح ولا يخزي عبداً بمثل هذا الخزي والفضيحة بحيث تلفظه الأرض ولا تقبل نتنه إلا وقد احتوى قلبه من النتن والحقد الكثير الكثير حتى ضاق به صدره فظهر على جوارحه ولسانه فأخذ يتجرأ على مقام النبوة بشتى أنواع السباب والشتم، فهذا قد انتقض إيمانه وأمنه وهو بين عذابين؛ عذاب القتل بأيدينا أو عذاب الله(1/92)
تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو.
3. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلقٌ بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه"267، قلت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه واستثناه ونفراً آخرين من الأمان الذي أعطاه لأهل مكة عام الفتح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"واستدل به- أي بالحديث - على جواز قتل الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر، لأن ابن خطل كان حربياً ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانه لأهل مكة، بل استثناه مع من استثنى وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجاً واحداً، فلا دلالة فيه لما ذكره، انتهى. ويمكن أن يُتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييدٍ بكونه ذمياً، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب"268، قلت: هذا الذي ذكره ابن حجر جيد أعني عدم التقييد بالساب الذمي لأن ابن خطل كان مرتداً ولمن يكن من أهل الذمة، ولكن يبقى الدليل قوياً من الحديث على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إن كان في المسلم المرتد بالسب مؤكداً ففي الذمي الناقض للعهد بالسب من باب أولى، وأما قوله رحمه الله إن ابن خطل قارف موجبات القتل الأخرى فلقد حرر ذلك شيخ الإسلام تحريراً نفيساً بحيث بيَّن أن الموجب الذي بسببه أباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه إنما هو السب لا غير، حيث قال رحمه الله:"وقد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه - أي جريمة ابن خطل - أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على الصدقة وأصحبه رجلاً يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاماً أمره بصنعه فقتله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل فارتد واستاق إبل الصدقة، وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنِيّا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم؛ قتل النفس(1/93)
والردة والهجاء. فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يُقتل قَوَداً، والمقتول من قبيلة خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قُتل قَوَداً أن يُسلَّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، وهذا ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه لم يُقتل قوداً، وكذلك لم يُقتل لمجرد الردة لأن المرتد يُستتاب واذا استنظر أُنظر، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت عائذاً به طالباً للأمان تاركاً للقتال ملقياً للسلاح حتى يُنظر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يُقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض بل يُقتل قبل الاستتابة، ولا يُؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة"269، قلت: وهذا تحريرٌ نفيس للمسألة وقد تبين منه أن موجب إهدار دمه كان السب دون غيره من موجبات القتل، وهو المطلوب.(1/94)
4. حديث ابن عباس رضي الله عنهما :"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول270 فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جَعَلَت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"ألا اشهدوا أن دمها هدر"271، قال الشيخ العظيم آبادي :"وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله، قاله السندي"272. وقال ابن تيمية رحمه الله:"وهذه المرأة إما أن تكون كانت زوجة لهذا الرجل أو مملوكةً له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزاً لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية إن لم تكن مملوكةً له. فلما قال: اشهدوا أن دمها هدر، والهدر الذي لا يُضمن بقَوَد273 ولا دية ولا كفارة، عُلم أنه - أي قتلها - كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلم أن السبَّ أباح دمها لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السب، فعُلم أنه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك"274. قلت: نعم، القصة ظاهرة الدلالة على ذلك لمن أراد أن يصدر عن سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما من أراد أن يصدر عن داعية هواه ويسير وراء عقله(1/95)
المزعوم ومبتغاه، يداهن ويماري ويختلق الشبه والأعذار فما تغن النذر والآيات عن هؤلاء شيئاً والله المستعان.
5. حديث الشعبي عن علي رضي الله عنه:" أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها"275، أي أهدره، قال الإمام الشوكاني رحمه الله :"وفي حديث ابن عباس - وهو المتقدم معنا - وحديث الشعبي دليلٌ على أنه يُقتل مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً وجب قتله"276. وسواء أكانت القصة في هذين الحديثين نفسها أم لا فالدلالة منهما واضحة على إهدار دم شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/96)
6. أمر النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بقتل أفراد بعينهم مع كفه عمن سواهم، كما روى البيهقي في الحديث وفيه :"وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحداً إلا مَن قاتلهم، وأمر بقتل أربعة نفر منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحارث بن نقيذ، وابن خطل ومقيس بن صبابة، وأمر بقتل قينتين277 لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم"278، ثم قُتلت إحدى القينتين واستخفت الأخرى حتى استؤمن لها279، قال ابن تيمية رحمه الله:"فوجه الدلالة أن تعمُّدَ قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، ثم قال :"إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء النسوة كن معصومات بالأنوثة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن لمجرد أنهن كنَّ يهجينه وهنَّ في دار حرب، فعُلم أن مَن هجاه وسبَّه جاز قتلُه بكل حال"280، قلت: هذا الدليل من الأهمية بمكان لانطباق كافة أوصاف المعيَّن فيه على كثير ممن يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم اليوم ممن هم في بلاد الكفر كأوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها من الدول الصليبية، فأهل هذه الدول كفار محاربون في دار الحرب تماماً كما كان حال هاتين القينتين، ثم إن مَن كان من الشاتمين اليوم من الكفار المحاربين امرأة فدخولها في الحديث واضح لا إشكال فيه حيث انطبقت كل الصفات، ومَن كان رجلاً فمن باب أَولى لأن الذكورة ليست عاضمة لدم الكافر الحربي، فاستقام انطباق هذا الدليل على طائفة كبيرة من أكابر مجرمي هذه الدول الصليبية الكافرة التي يتطاول بعض أفرادها بسب النبي صلى الله عليه وسلم ويسكت الآخرون إما سكوت تقرير أو سكوت تبرير، فيما تستمر استجداءات بعض البيانات الإعلامية الهزيلة لبعض المسلمين يحسبون أنهم ينتصرون بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بيننا وبين الانتصار له حقيقةً إلا استنهاض الهمة تحريضاً(1/97)
على الظفر بهؤلاء المجرمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتتبع هاتين المجرمتين ولو كنَّ في حرم مكة شرفها الله، ثم إنزال حكم الله تعالى فيهن بعد الظفر بهن، وكذلك يجب السعي للظفر بكل مجرم دنيء يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُقام فيه حد الله تعالى أعني القتل لا غيره، والله الموفق وله الحمد على ما هدانا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
7. حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فائذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل281 قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا282 وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً، والله لتملُنَّه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً283 أو وسقين. - وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقاً أو وسقين فقلت له: فيه وسقاً أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقاً أو وسقين284- فقال: نعم ارهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيُسبُّ أحدهم فيقال رُهن بوسق أو وسقين هذا عارٌ علينا، ولكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة - وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة - وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة- إن الكريم لو دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين - قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم. قال عمرو: جاء معه برجلين وقال(1/98)
غير عمرو أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر - قال عمرو: جاء معه برجلين فقال: إذا ما جاء فإني قائلٌ بشعره فأشمه285، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، - وقال مرة ثم أشمكم- فنزل إليهم متوشحاً وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً أي أطيب - وقال غير عمرو قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب - قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه"286، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف كان شاعراً وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش"287، قلت: فهذا صريح في أنه كان يسب ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجوه، (أولها) أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى قتل من يؤذيه والأذى كما بينت باقي الروايات وكما هو معروف مستفيض في قصة كعب بن الأشرف كان بالسب والشتم والهجاء، و(منها) أن كعب بن الأشرف كان معاهداً ذمياً ومع ذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتله دون أن ينبذ إليه عهده، فدل على أن مجرد السب والشتم والهجاء ناقض للأمان، و(منها) أن الصحابة احتالوا عليه لقتله وأوهموه الأمان حتى استمكنوا منه، فدل على أن قتله ليس لمجرد الكفر لأن الكفار لا بد من أن يُعرض عليهم الإسلام قبل القتال والقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"الوجه الثاني من الاستدلال به أن النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين؛ محمد بن مسلمة، وأبا نائله وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلامٍ يُظهرون به أنهم قد أمنوه ووافقوه ثم يقتلوه، ومن المعلوم أن من أظهر لكافرٍ(1/99)
أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم أمَّنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً"288، ثم قال رحمه الله:"وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله، ومَن حَلَّ قتلُه بهذا الوجه لم يُعصم دمُه بأمان ولا بعهد، كما لو أمَّن المسلمُ مَن وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل زِناه أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الاسلام ونحو ذلك، ولا يجوز أن يُعقد له عقد عهدٍ سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حدٌ من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً289، قلت: وهذه القصة من الوضوح بمكان وإنما عرضنا بعض هذه الوجوه لتحرير صفات المجرم الساب وليُعلم تناول الحكم من هذه صفته ممن قد يشتبه على البعض أن له عصمة أو أمان يقيه القتل، والله الموفق.(1/100)
8. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمَّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينُ عليه، وكان في حصنٍ له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلقٌ ومتلطفٌ للبوّاب لعلّي أن أدخل. فأقبلَ حتى دنا من الباب، ثم تقنع290 بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلقَ الباب ثم علّق الأغاليق291 على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِه صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت عليَّ مِن داخل، قلت: إنِ القوم نُذِرُوا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، فقلت: يا أبا رافع! قال: مَن هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ابسط(1/101)
رجلك، فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكها قط"292، وفي هذا الحديث الصحيح جملة نافعة من الفوائد جمعها الحافظ ابن حجر ولمعظمها تعلق بمسألتنا مع دخول مسألتنا في جملة هذه الفوائد حيث قال رحمه الله:"وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرّ، وقتلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده - يعني بمقاتلته - أو ماله - يعني بدعم من يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لسانه - يعني بالسب والأذى والتحريض ونحوه ، وجواز التجسيس على أهل الحرب، وتطلُّب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرُّض القليل من المسلمين للكثير من المشركين، حيث أرسل سرية من نفر يسير إلى حصن من حصون الكفار، والحكم بالدليل والعلامة حيث استدل ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتمد على صوت الناعي بموته والله أعلم"293. قال ابن تيمية رحمه الله :" فقد تبين من هذه القصة أنما تسرى المسلمون بقتله بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب أذاه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاداته له، وأنه كان نظير ابن الأشرف وقد تقدمت قصته، لكن ابن الأشرف كان معاهداً فآذى اللهَ ورسولهَ فندب المسلمين إلى قتله، وهذا لم يكن معاهداً. فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه من الكفار، فإنه كان يقصد قتلَه ويحض عليه لأجل ذلك، وكذلك أصحابه يفعلون ذلك بأمره، مع كفِّه عن غيره من الكفار ممن هو على مثل حاله في أنه كافرٌ غير معاهد، بل مع أمانه لأولئك الكفار غير السابين ولا الشاتمين أو إحسانه إليهم من غير عهدٍ بينه وبينهم"294، قلت: أي أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار حتى الحربيين منهم غير المؤذين باللسان والسب والشتم والتحريض كانت سيرة معاملة بإحسان ولو لم يكن بينه وبينهم عهد، فعُلم أن معاملة القتل وإرسال السرايا وراء أمثال أبي رافع إنما كان لمعنى زائد عن(1/102)
الكفر وهو أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب.
9. قصة قتل أبي عفك اليهودي: روى ابن سعد رحمه الله في طبقاته :"ثم سرية سالم بن عمير العمري إلى أبي عفك اليهودي في شوال على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخاً كبيراً قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهودياً وكان يحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول الشعر. فقال سالم بن عمير - وهو أحد البكائين وقد شهد بدراً - : عليَّ نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء وعلم به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله فثاب إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه"295، فهذا آخرٌ ممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر والهجاء ويحرض عليه، قد نذر أحد الصحابة قتله وفعل ذلك من غير نكير من الله سبحانه وتعالى296 ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إيمان له ولا أمان وإنما له السيف يقتل مهدور الدم كما تقتل البهائم، بل إن البهائم فيها ضمان القيمة على من أتلفها وليس على قاتل مثل هذا المجرم شيء، فتأمل.(1/103)
10. عن أنسٍ أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:" اذهب فاضرب عنقه. فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ما له ذَكَر"297، قال أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله:" هذا خبرٌ صحيح، وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وجبَ قتلُه، وإن كان لو فعل ذلك برجلٍ من المسلمين لم يجب بذلك قتله"298. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعملون بهذا التحريم، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تقدم عليه، وقيل أنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال عمر : ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها299. فوجه الدلالة أن الصدِّيق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك، فعُلم أنهم - أي الصحابة - كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم"300. قلت: فإذا كانوا يرون هذا فيمن نكح أحد أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا مما يجوز معاملة المسلمين بعضهم بعضاً به لكن حرمه الله تعالى عليهم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة له كما تقدم، فكيف بمن سبه وآذاه وشتمه وتنقصه وطعن في عرضه ونسبه إلى الكذب أو(1/104)
الشر أو الفحش حاشاه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أليس القتل والتحريق لهؤلاء المجرمين بالجزاء المناسب لهم في الدنيا، ونكلهم إلى عذاب الله في الآخرة.
فهذه عشرة أحاديث وآثار ما بين صحيح وحسن يدل كل منها منفرداً على حكم ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بها مجتمعة، وكيف بها منضمة إلى ما تقدم من آياتٍ قرآنية لاتدع مجالاً لريبة أو شك إلا عند من تمكنت الريبة والشك من قلبه فهو أشبه بمريض أعضل مرضه فبات مستعصياً على الدواء، لا لعلةٍ في الدواء وإنما لفسادٍ في نفسه وخبثٍ في سريرته نسأل الله السلامة والعافية من ذلك كله. هذا مع العلم بأن السنة لا تزال طافحة بعشرات الأمثلة من جنس ما قدمنا، غير أني اقتصرت على المذكور بغية الاكتفاء بما لا مقال في ثبوته من جهة السند ولا غموض في دلالته من جهة المتن، واجتناباً للتطويل حيث وضعنا هذا الكتاب على الاختصار كما بينا. وأشير إلى أن من أراد تفصيلاً زائداً عما قدمنا بالنسبة للأحاديث أو أوجه الدلالة منها أو رد شبهات مثارة عليها فليعد إلى كتاب الصارم المسلول فإنه لم يترك شاردة ولا واردة مما ذكرنا، وهو أليق بطالب العلم الذي يهتم بوجوه الاستدلال والاستنباط ونحوها، فليرجع إليه من احتاج، والله الموفق.
ثالثاً: دليل الإجماع على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
لقد دل دليل الإجماع أيضاً على أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم حلال الدم لا إيمان له ولا أمان، ولئن كان الإجماع المنضبط هو إجماع عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فحسبنا به إجماعاً في مسألتنا هذه، فهم أعلم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص على حبه وأصدق في تفديته بالأرواح والأهلون والعشائر والأوطان، وفيما يلي بعض أقوال أهل العلم في هذه المسألة:(1/105)
1. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه خكم السابِّ ؛ يُقتل على ما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك مَن لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسُخفٍ من الكلام وهُجر، ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا"301
2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله، وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار".302، فذكر رحمه الله إجماع الصحابة والتابعين على هذه المسألة.
3. قال ابن حزم الظاهري رحمه الله:" فصح بهذا أن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافرٌ مرتدٌ يُقتل ولا بد، وبالله تعالى التوفيق"303
4. قال ابن المنذر رحمه الله :" وأجمعوا على أن على من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل"304(1/106)
5. قال ابن عبد البر رحمه الله:" وقد روي عن ابن عمر أنه قيل له في راهبٍ سب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لو سمعته لقتلته. ولا مخالف له من الصحابة علمته"305، فهذا حكاية إجماع الصحابة على قتل الساب للنبي صلى الله عليه وسلم.وقال رحمه الله أيضاً:"وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً أنزله الله أو قتل نبياً من أنبياء الله وهو مع ذلك مقرٌ بما أنزل الله أنه كافر"306.
ونقل عن غيرهم من العلماء ذلك، ومن الجدير بالذكر أن الإجماع المقصود هنا هو إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، ثم نُقل خلافٌ بين الفقهاء يتعلق بالذمي وهو خلافٌ يعود إلى مسألة انتقاض العهد وموجبات ذلك، مع ملاحظة اتفاق الجميع على انتقاض العهد، ولقد قدمنا من الآيات والأحاديث ما فيه غنية ومستند لما قرره العلماء من انتقاض إيمان وأمان من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإهدار دمه والحض على قتله بما أغنى عن الإعادة، ثم عندما تقوم دولة الإسلام من جديد وتتمحض لنا فئة أهل الذمة بالوصف الشرعي الصحيح فيمكن النظر في تعدد أقوال العلماء في موجبات انتقاض عهد الذمي بالسب وهل يُقتل حداً أو تعزيراً على تفصيل مبسوط في مظانه من كتب الفقه، أما وحالنا اليوم حال الفسطاطين؛ فسطاط المسلمين وفسطاط الكافرين فلسنا ممن يتوقف في حكم الكافر الحربي الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم في أمثال هؤلاء المجرمين، والله الموفق.(1/107)
وبهذا يكون قد اجتمع بفضل الله تعالى ومنته دليل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع السب والشتم والأذى المعنوي فإنه كافرٌ لا إيمان له ولا أمان وهو حلال الدم مهدره والشريعة تحرض على قتله والسنة دالة على جواز تعرض الفئة القليلة من المسلمين للفئة الكبيرة من الكافرين تحصيلاً للظفر بالساب وقتله والوصول إليه بكل حيلة، وهذا ما ندين لله تعالى به ونراه حقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، والله أعلم.
المطلب الثاني : بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه:
لقد تبين مما تقدم أمران ؛ أحدهما أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كافرٌ لا إيمان له ولا أمان بغض النظر عن حاله قبل وقوع السب مسلماً كان أم ذمياً أم مستأمناً أم حربياً، فقد صار حاله بعد السب حالاً واحداً وهو الكفر وانتقاض الأمن والإيمان، وثانيهما إهدار دمه عقوبةً له على هذه الجريمة. ولما كان حكم الإمام المسلم في الكافر التخيير بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، كما كان حال المرتد المبدِّل لدينه المفارق للجماعة الاستتابة قبل القتل كان من المهم بيان عدم تناول هذه الخيارات للساب وذلك لعظم جريمته كما تقدم. ونبين هنا أن القتل هو العقوبة الوحيدة المناسبة والمتعينة على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم في المطلب الثالث عن حكم استتابة وتوبة الساب بإذن الله .(1/108)
ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على مسألة تعيُّن قتل الذمي الساب فأجاد وأفاد رحمه الله، ونحن لن نفصل كثيراً في دقائق أحكام أهل الذمة وتعدد أقوال الفقهاء فيهم فإن ذلك مبسوط في مظانه، ولكن نتكلم إن شاء الله على الأدلة التي تحتم قتل الساب وعدم مناسبة غيره من العقوبات كالجلد أو الاسترقاق وعدم جواز غير ذلك من التصرفات الجائزة للإمام المسلم مع الأسرى الكفار غير السابين والشاتمين للنبي صلى الله عليه وسلم كالمن والفداء، وأنبه هنا على أن الخلاف بين الفقهاء خلاف متأخر عن عصر الصحابة كما قدمنا في مبحث الإجماع، كما أنه خلاف حول تحتم القتل لا حول جواز القتل فلينتبه إلى هذا الفارق حتى لا يظن ظان أن ثمة خلاف في جواز قتل الساب وإهدار دمه كما تقدم من أدلة القرآن والسنة.
أدلة تحتم قتل الساب وتعيُّن هذه العقوبة:
إن كل ما نذكره في هذا الموضع من الأدلة أو من وجوه الاستدلال على المطلوب فهو بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة في المطلب الأول، حيث إن الأدلة المتقدمة كلها تفيد الدلالة على المطلوب لمن تأملها جيداً، ونزيدها بما يلي :(1/109)
1. قول الله تعالى:" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصُركم عليهم ويَشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين. ويُذهب غَيظَ قلوبهم"307، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الآية فقال:"والتعذيب بأيدينا هو القتل، فيكون الناكث الطاعن مستحقاً للقتل، والسابُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكثٌ طاعنٌ كما تقدم فيستحق القتل. ولقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح دم الذين باشروا هجاءه ولم يُهدر دم الذين سمعوا الهجاء، وهذا يدل على أن موجب هدر الدم أمر زائد على مجرد الكفر وهو هنا سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى (ويشف صدور قومٍ مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم) دليلٌ على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن، وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من أثر الطعن أمرٌ مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول، ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم مِن أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماءَ بعضهم وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، فالمؤمن المسدَد لايغضب هذا الغضب إلا لله، والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه (أحدها) أن مجرد تعزيره وتأديبه بغير القتل يُذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحداً من المسلمين أو فعل نحو ذلك، فلو أذهب غيظ قلوبهم في حال شتم الرسول صلى الله عليه وسلم لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل، فلا بد أن تكون عقوبة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فوق التعزير وهذه العقوبة هي القتل، و(الثاني) أن شتمه أعظم عندهم من أن يُؤخذ بعض دمائهم، ثم لو قتل الذمي واحداً منهم لم يشف صدورهم إلا قتله، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، وإلا لم يكن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد علينا من قتل(1/110)
بعضنا، و(الثالث) أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء، والأصل عدمُ سببٍ آخر يحصله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا، و(الرابع) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة - وهم القوم المؤمنين- من بني بكر الذين قاتلوهم ونكثوا العهد معهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس، فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس، فدل على أن شفاء الصدور وذهاب غيظ القلوب من نكث العهد وما هو أشد منه كسَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل إلا بقتل الناكث الطاعن الساب، وهو المطلوب"308، قلت: هذا الذي حرره ابن تيمية في غاية الحسن، وهو الذي يجده سليم الفطرة وسليم القلب وهو أنه لا يذهب غيظ قلبه عند سماع نبأ الشاتم إلا بقتل الشاتم ، وهذا يعرفه أحدنا لأنه أول ما يتمناه أن يمكنه الله من الشاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، ومن لم يجد هذا في نفسه فليبكِ على نفسه أو ليجد لنفسه متبوعاً آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.(1/111)
2. قول الله تعالى:"إن شانئك هو الأبتر"309،قال الإمام الطبري رحمه الله بعد ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية:"وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذِكره أخبر أن مُبغضَ رسول الله هو الأقل الأذل المنقطع عقبُه، فذلك صفة كلِ من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه"310، قلت: فمن كان بغضه مستوراً مبطناً عامله الله بذلك وعاملناه بظاهره، ومن أظهر بغضه للنبي صلى الله عليه وسلم وشنآنه كأن يسبه أو يشتمه عاملناه بذلك، وتعاطينا أسباب بتره وقطع عقبه حساً ومعنى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر؛ والبتر القطع، يقال: بتر يبتر بتراً، وسيفٌ بتار إذا كان قاطعاً ماضياً، ومنه في الاشتقاق الأكبر تبَّره تتبيراً إذا أهلكه، والتبار الهلاك والخسران. وبيَّن سبحانه أنه هو - أي المبغض للنبي صلى الله عليه وسلم - الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، لأنهم قالوا إن محمداً صلى الله عليه وسلم ينقطع ذِكره لأنه لا ولد له، فبيَّن الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو، والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر، ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده، وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر مَن أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف"311، قلت: وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان فالبتر القطع، فمن أظهر لنا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشتمه وسبه بترناه وقطعنا ذكره وطمسنا سيرته بأيدينا والحمد لله.(1/112)
3. قوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون"312، قال القاضي عياض رحمه الله :" واستدل بعض شيوخنا على قتله - أي الذمي الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم " وذكر الآية ثم قال رحمه الله :"وأيضاً فإن ذمتهم لا تُسقط حدود الإسلام عنهم، من القطع في سرقة أموالهم، والقتل لمن قتلوه منهم، وإن كان ذلك حلالاً عندهم، فكذلك سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يُقتلون به"313، وقال ابن تيمية رحمه الله:"إن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا، لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدب عليه، فعُلم أنه لم يعاهَد عليه، لأنا لو عاهدنه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه، وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا، فقد نكث في يمينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية"314. وقال رحمه الله :"وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره"315. فهؤلاء المجرمون ليس حالهم كحال الكافر الحربي الذي تجرد عن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وقد تقدم تقرير ذلك، وعُلم أن هذا القدر الزائد على مجرد الكفر أعني السب والشتم والتنقص من مقام النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لأجله أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء من قارف ذلك مع كونهم متلبسين بموجبات أخرى للقتل، وهذا الطعن هو الذي جعل هؤلاء أئمة في الكفر، بحيث حثَّت الآية هنا على قتلهم خصوصاً مما يشعر بقدر جنايتهم الزائد على مجرد الكفر، وهذا كله واضح بحمد الله وتوفيقه.(1/113)
4. قوله تعالى :" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله"316، ووجه الدلالة أن إعلاء كلمة الله وتطهير الأرض من الطاعنين في دينه ورسوله مطلوبٌ شرعاً كما بينت الآية، وهذا المطلوب متعذرٌ بغير قتل الساب. وتحقيق ذلك كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية:" أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبٌ حسب الإمكان، لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبُّه ولم يُنتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهراً ولا كلمة الله عالية، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة؛ لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين بجريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة، بل هو من ظهور الدين وإعلائه لأنهم يقَرُّون على دينهم بالذمة صاغرين منقادين لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خلافاً للساب"317.
5. الأحاديث المتقدمة التي قتلت فيها نساء كافرات بسبب السب مع أن الكافرة لا يحل قتلها لمجرد كفرها: وقد تقدم حديث قتل الأعمى لأم ولده لأنها شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم أهدر دمها، وكذلك أمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل القينتين اللتين كانت تغنيان بهجائه، وهذه الأحاديث من أقوى الأدلة على أن تعين القتل هو لخصوص السب والشتم، فإن المرأة الكافرة لا يجوز قتلها فهي معصومة بالأنوثة318، فلما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء هؤلاء النسوة وحث على قتلهن تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده السبب المتمحض لقتل هؤلاء النسوة لا مجرد الكفر، فتأمل هذا فهو عظيمٌ في بابه.(1/114)
6. إن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من مجرد الردة: ذكر ابن تيمية هذا الدليل فقال:" إن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام، فإنه مِن المسلمِ ردةٌ وزيادة كما تقدم تقريره، فإذا كان كفر المرتد قد تغلَّظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عيناً، فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أَولى أن يتغلَّظ فيوجب القتل عيناً، لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة. وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها، ونحن قد قدمنا نصوصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية، والمرتد يستتاب من الردة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتلِه أولى"319. قلت: وهذا قد تقدم تقريره مراراً، ويمكن تخريج هذه المسألة على قاعدة إهدار الضرر الخاص منعاً للضرر العام؛ وتوجيهه أن الكافر المعيَّن إن اقتصر في كفره على ما في باطنه فإنه لا يضر إلا نفسه، أما إن تعدى بكفره الباطن وأظهر الطعن على الدين والسب والشتم للنبي صلى الله عليه وسلم فإن ضرره يتعدى، بسبب ما قد يؤدي إليه سبه للنبي صلى الله عليه وسلم من نفور بعض الناس عن الدين، وتوهم نسبة النقص إليه حاشاه صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا حصل فلا شك أنه ضرر عام، وفي الشريعة احتمال الضرر الخاص - وهو هنا قتل الكافر الساب الطاعن على النبي صلى الله عليه وسلم - منعاً للضرر العام وهو إعراض الناس عن دعوته صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة إن استعراض الأدلة على هذا يطول وفيما ذكرنا مضموماً إلى ما تقدم من أدلة القرآن والسنة والإجماع في المطلب الأول كفاية لمن أراد تعرف الحق، والله الموفق.
المطلب الثالث : بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب:(1/115)
تبقى مسألة الاستتابة والتوبة، وبدايةً نبين أن المرتد عموماً يُستتاب وتُقبل توبته من الردة، ويبقى النظر في المرتد الساب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مسألتنا هنا، والمسألة الثانية هي عصمة دم الكافر بإسلامه ويبقى النظر في الساب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أسلم..
المسألة الأولى: استتابة وتوبة المرتد عن الإسلام الساب للنبي صلى الله عليه وسلم :
لقد دل الدليل على قتل هذا الساب المرتد بغير استتابة وبغير قبول توبة، كما في حديث قتل ابن خطل، قال ابن تيمية رحمه الله قال في تعليقه على قصة إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دم ابن خطل320 :"وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين يُقتل وإن أسلم حداً، واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقُتل لذلك، وجوابه أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً قد ألقى السلم كالأسير، فعُلم أنَّ مَن ارتد وسبَّ يُقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط. يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة، وكان ممن أهدر دمه دون غيره، فعُلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب"321. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة"322.(1/116)
والنكتة في هذه المسألة تدور حول أمرين أولهما أن الغرض من القتل هو الزجر عن استحلال حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يحصل إلا بقتل الساب بغض النظر عن توبته، فلم يكن لاستتابته أثرٌ في منع القتل عنه فلم تجب، والثاني أن أثر الردة المجردة عن السب يمكن زواله بتوبة المرتد وعودته إلى الإسلام بل هو المطلوب، أما أثر سب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزول بالتوبة فلم يكن هناك بد من قتل الساب زجراً وردعاً وإحاطةً لحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم بسور المنعة والعزة والتوقير والتعظيم والإجلال. ثم إن هو تاب بينه وبين الله حقيقة فهو إلى الله تعالى إن قبل توبته نفعه ذلك في الآخرة.
وبطريق أخرى يمكن القول إن قتل الساب هو حد سب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حق لله وحق للآدمي؛ فإن فرضنا قبول التوبة سقط بذلك حق الله تعالى، ولم يسقط حق الآدمي وهو حق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا من السنة المستفيضة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب حقه ويهدر دم الساب ويحرض على قتله دون استتابة، هذا مع علمنا أنه كان يعفو أحياناً عمَّن سبه فأكد هذا على أن القتل هو لأجل حقه صلى الله عليه وسلم لا لمجرد الردة، إذ ليس للإمام أن يُسقط حداً لله تعالى ثبت موجبه، فإذا عُلم هذا تبين أن العفو عن حد القتل لسب النبي صلى الله عليه وسلم هو حق النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وقد تعذر إسقاطه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع دلالة الشرع المستفيضة على وجوب نصرته وتوقيره وتعزيره صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من هذه النصرة في شيء العفو عن سابِّه وشاتمه ولو تاب، فلم يكن للاستتابة معنى، والله أعلم. ولكن مِن أهل العلم من يقول بالاستتابة وقبول التوبة بناء على معاملة الساب معاملة المرتد دون نظر إلى خصوص جريمة السب، وقد بيَّنا ضعف هذا وقصوره عمَّا يجب علينا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/117)
ثم إن المرتد الساب إذا فُتح له باب التوبة فيحقن دمه، ثم يسب ثم يتوب أصبح هذا أشد استهزءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو طريق الزندقة، وقد كشف لنا هذا الساب عن خبث سريرته، فلم نعد نقبل منه ستر باطنه الخبيث بظاهرٍ مصطنع تبين كذبه، وهذا كحال المنافقين الذين فضحهم الله تعالى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في المنافق أن يُعامل بالظاهر، ولكن لما افتضح باطنه عاملناه به، وكذلك الزنديق، قال ابن تيمية:"فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل - أي المرتد الساب للنبي صلى الله عليه وسلم - قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له، فإظهاره الإقرار برسالته الآن - أي بعد الاستتابة والتوبة ظاهراً - ليس فيه أكثر مما كان يُظهره قبل هذا - أي من الإسلام - وهذا القدر قد بطلت دلالته بسبب الشتم فلا يجوز الاعتماد عليه، وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق"323.
والذي يترجح في هذه المسألة والعلم عند الله أن المرتد بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يستتاب، ولا تقبل توبته في الدنيا، بل يُقتل صيانةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم وزجراً للنفوس عن استحلال حرمته، وإمعاناً في تعزيره وتوقيره وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه، وأما توبته إن كان صادقاً فيما بينه وبين الله تعالى فتنفعه في الآخرة والله أعلم.
المسألة الثانية: عصمة إسلام الكافر الساب للنبي صلى الله عليه وسلم لدمه من القتل:(1/118)
إذا أسلم الكافر قُبِل إسلامه وليس النظر في هذا،وإنما النظر في استصحاب تحتم وتعيُّن قتل الكافر إذا أسلم وكان قد سب النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأفاد في عرض أدلة هذه المسألة حيث بيَّن بأكثر من عشرين طريقة، وبما لا يترك مجالاً للشك أن حكم الكافر الأصلي الساب للنبي صلى الله عليه وسلم هو كحكم المرتد الساب يُقتل لموجب السب مع قبول إسلامه. والدليل على ذلك مجمل الأدلة المتقدمة في المسألة الأولى بل في الكتاب كله، إذ أنها إذا كانت نافذة في المرتد مع ما له من سابقة الإسلام فلأن تنفذ في الكافر الأصلي ذمياً كان أم مستأمناً أم حربياً أحرى وأولى، ونضيف إلى ما سبق ما يلي من الأدلة:
1. قول الله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر"324، قال ابن تيمية في هذه الآية :"وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر، لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف"325. قلت: وهذه الآية خبرٌ من الله تعالى بمآل مَن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم وشانه، وهذا الخبر كما أنه مجمول على الواقع بالنسبة لأعيانٍ انتقم الله تعالى منهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه محمولٌ أيضاً على الطلب من المؤمنين الموحدين أتباع محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه بأن يجدّوا في تعاطي أسباب قطع دابر كل من تسول له نفسه التطاول بالسب والشتم والأذى على النبي صلى الله عليه وسلم.(1/119)
2. قصة أنس بن زنيم الديلي : قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فأنشده: لاهم إني ناشدٌ محمداً عهدَ أبينا وأبيه الأتلدا ..الأبيات، ثم قال: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم هجاك، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغه ذلك فقدم عليه معتذراً، وأنشده أبيات مدحه بها، وكلَّمه فيه نوفل بن معاوية الديلى فعفا عنه، وهكذا أورد الواقدي والطبري القصة لأنس بن زنيم"326، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن أنس بن زنيم الديلي الذي ذُكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدةً تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهداً، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل أنس يسأل العفو عنه حتى عفا عنه، فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد مستحقة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه، ولا احتاج إلى العفو عنه، ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم عليه حقاً يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه، كما لم يكن يحتاج أن يعفو عمن أسلم ولا تبعة عليه، وهذا الحديث لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم"327، قلت: فلقد صح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"328، فهذا الحديث يدل على أن مجرد الإسلام يعصم الدم فلا يحتاج معه إلى عفو، فلما أتى أنس النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً كان الأصل يقتضي أن يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم منه بذلك فيحقن دمه، ولكنه جاء مسلماً ومعتذراً عن الهجاء حتى تكلم بعض الصحابة في عفو النبي صلى الله عليه وسلم، فدل(1/120)
هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ مَن سبه لا يسقط بمجرد إسلام الكافر أو المعاهد، وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم إسقاطاً لحق نفسه، وهذا العفو متعذرٌ تحققه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فنبقى على الأصل من وجوب قتل الساب الكافر وإن أسلم، وينفعه إسلامه في الآخرة عند الله تعالى إن كان صادقاً مخلصاً فيه، والله أعلم.
3. عن مصعب بن سعد عن سعد قال:" لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"329، فهذا جاء مسلماً تائباً ومع ذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعته ينتظر أن يقوم إليه أحد أصحابه فيقتله بسبب ما كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن إظهار الإسلام لا يمنع قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ،قال ابن تيمية رحمه الله :"إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ونذر بعضُ المسلمين ليقتلنه. ثم حبسه عثمان أياماً - يعني يوم الفتح - حتى اطمأن أهل مكة، ثم جاء به تائباً ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره. ففي هذا دلالة على أن المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح، وإن جاء تائباً مِن كفره وفِريته، لأن قتله لو كان حراماً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما(1/121)
قال، ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله! وعبد الله بن سعد إنما جاء تائباً ملتزماً لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، بل جاء بعد أن أسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه كان مريداً لقتله، وقال للقوم: هلا قام بعضكم إليه ليقتله، و هلا وفيت بنذرك في قتله. فعُلم أنه قد كان جائزاً له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار، وإن جاء مظهراً للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه، وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام والتوبة"330. قلت: وهذا الحديث يكاد يكون نصاً في الباب، فصورته هي عين المسألة التي بين أيدينا، والحقيقة إن من تأمل المسألة من جهة حق النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكافر الأصلي والذمي والمسلم إن وقع من أحدهم سب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثلاثة أدلة مستقلة تضاف إلى ما تقدم من أدلة من القرآن والسنة الدالة على تحتم قتل الساب، وهي هنا تكاد تكون نصاً في مسألة الساب الكافر إن جاء مسلماً. والذي يترجح والعلم عند الله تعالى أن الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء مسلماً، فإنه يُقتل بسبب سب النبي صلى الله عليه وسلم لا فرق بينه وبين المرتد كما تقرر وتقدم آنفاً، والنكتة هنا كالنكتة هناك من حيث تعلق السب بحق النبي صلى الله عليه وسلم ولا مسقط له بعد موته، ومن حيث واجب التعظيم والتوقير والإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حيث دلالة حوادث السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريداً قتل هؤلاء مع ما عُلم من سنته من العفو عند المقدرة، والله تعالى أعلم.(1/122)
والحاصل هنا أننا لم نفرق بين المرتد والكافر الأصلي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتحتم قتله متى أمكن ذلك، إذ لا معنى للتفريق بين نوعي الكفار، ولئن تنزلنا مع القول بأن للذمي نوع عهد وأمان يوجب له حقاً فإن حقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأعظم وأحرى أن يراقَب من الحق المزعوم لذلك الساب، والحمد لله.
الفصل الخامس: رد شبهات حول حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم
إننا مع كل ما قدمنا من أدلة نجد أنفسنا اليوم أمام تراكماتٍ من الشبهات وسُحب التضليل التي تريد أن تتقدم بين يدي الله ورسوله برأي، وأن تواجه نصوص الشريعة باجتهاد تزين لها أنفسها أنه أنسب لروح العصر وأوفى بمتطلباته وأليق بحضارته، وحسبنا في هذا المقام أن نضع نصب أعيننا منهج الصحابة رضوان الله عليهم في التعامل مع نصوص الوحي ولو كان حديث النفس وداعية الرأي على خلافها، ففي الصحيح عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال:"يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"331، أي ومع ذلك لم أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب332 وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضاً للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة"333، قلت: وهذه قاعدة كلية يجدر بالمسلم أن يعيها ويعمل بها : اتهم الرأي إذا خالف السنة.(1/123)
إن ما تقدم من أدلة مستفيضة متضافرة تدل دلالة محكمة لا ريب فيها على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم منتقض الأمن والإيمان مستحق للقتل ليس رأياً لنا نزينه للناس، وليس رأياً شاذاً استخرجناه من خفايا الكتب والشروح، بل هو دليل القرآن الذي نتلوه صباح مساء، ودليل السنة المطهرة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم نقيةً بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ولقد بيَّنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي قولاً وفعلاً للأصول القرآنية الدالة على هذا، وليس بعد السنة الشارحة المبينة للقرآن قولاً وفعلاً مجال للتقدم برأي أو تأويل أو تفسير لكتاب الله تعالى. بقي أننا في زمان تراكمت فيه الشبهات إما لجهلٍ أو ضلال أو تضليل فمنعت صدور الموحدين من تلقي نور الوحي، فلم تنقدح في قلب المؤمن عقيدةُ لا إله إلاالله محمد رسول الله على الوجه الذي انقدحت به في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا بهم يسودون العالم فاتحين ومحررين للإنسان كل الإنسان من عبودية الطاغوت إلى عبودية الرحمن الرحيم، ولا بد لنا اليوم ونحن نجابه هذه الحملة الشرسة على الإسلام، والتي يتمحور كثير منها حول الطعن في نبي الرحمة ومصباح الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام، من أن ننتصر لنبينا صلى الله عليه وسلم حباً وفداءً له، وقياماً بواجب الجهاد في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته ونشر سنته صلى الله عليه وسلم، وتحقيقاً لمصداقيتنا المفقودة أمام الأمم إذ ندَّعي أننا أتباع خير الأنبياء ثم نتقاصر عن تفديته بالأموال والدماء. ولما كان الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المذكور تنتابه بعض الشبهات رأيت من المناسب استعراض شيء من ذلك استعراضاً سريعاً كي نتحرر من كل الموانع التي تعوق نهضتنا لنصرة خاتم الأنبياء على الوجه الذي سنه لنا صلوات الله وسلامه عليه، لا سيما وأن معظم هذه الشبهات مما له علاقة بواقعنا المعاصر؛ واقع الخذلان أقول لا واقع الضعف، فإن ما(1/124)
نحن فيه اليوم خذلان لا ضعف عند النظر والتأمل، ولن نستطيع أن ننهض من هذا الواقع إلا بهبة رجل واحد ننتصر فيها لنبينا صلى الله عليه وسلم ونقطع دابر كل متطاول خبيث على مقام خير خلق الله أجمعين،والله المستعان.
الشبهة الأولى :التنصل من حكم الإسلام في قتل هؤلاء المجرمين بحجة نفي الإرهاب والعنف عن الإسلام وبحجة عدم القدرة على هؤلاء مما يثير الفتنة والبلابل ويشوه صورة الإسلام:
جواب الشبهة الأولى: هذا كله هراءٌ محض، أما الحجة الأولى فمردودة لأن أحكام الإسلام لا يضرها أن يسميها الجهلة ما يريدون، ولقد ثبت بالقرآن والإجماع وجوب قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم334، وتقدمت الأدلة على ذلك. ولقد سمى الكفار قديماً رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحراً ومجنوناً وشاعراً حاشاه صلوات الله وسلامه عليه فلم يمتنع عن دعوة الناس وتبليغ رسالة رب العالمين بذريعة منع تسمية الكفار له بذلك! وأما الحجة الثانية فمردودة أيضاً لأن عدم التمكن من إقامة الحكم شيء وإنكار الحكم شيء آخر، وهذا على فرض عدم التمكن من إقامة الحكم في هؤلاء الصعاليك المجرمين. فنحن نتكلم في المقام الأول عن بيان حكم الله ورسوله في هؤلاء المجرمين ثم يُنتقل إلى تطبيق الحكم، ولو صدقنا الله تعالى في السعي إلى ذلك ليسره الله تعالى لنا، ومن يزعم اليوم أننا في واقع ضعف فهو بين واهمٍ ومرجفٍ مخذِّل؛ إن واقعنا اليوم واقع خذلان لا واقع ضعف، والدليل أننا نجد من انتصارنا لأنفسنا ولدنيانا ومرادات نفوسنا حكاماً ومحكومين أضعاف أضعاف ما نجد من انتصارنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان هذا حاله كان خاذلاً متخاذلاً، ولم يكن ضعيفاً مقهوراً اللهم إلا أمام شهوته وطاغوته ووليه من دون الله.(1/125)
ولا بد لنا هنا من كلمة حول مسألة العنف في الإسلام ومعالجة الإسلام لبعض الظاهر بالقوة والسيف بدلاً من الحجة والبرهان. فإن مَثلَ هذا مثل من كان في جسده مرضٌ فنظر الطبيب في نوع مرضه ليقرر العلاج النافع له؛ فمن كان مرضه ضعفاً عاماً في الجسد مع سلامة الجسد من الآفات الخبيثة وصف له ما يقوي بدنه ويقيم صلبه، ومن كان مرضه ناجماً عن انعقاد مادة سمية في الجسد وصف له ترياقاً ناجعاً يقاوم السم ويُذهب أثره، ومن كان مرضه نتناً خبيثاً كالغرغرينا والسرطان لم يصف له الطبيب إلا بتراً لذاك العضو المصاب بذلك، وهذا البتر مع ما فيه من ضرر وشدة فهو العلاج الوحيد الناجع لاستنقاذ بقية البدن، ومن كان مرضه وباءً يفتك به وينتشر إلى غيره لم يكن بد من حجره وإبعاده عن الناس مع ما في ذلك من الإضرار به.. فمثل المريض الأول المؤمن الذين تنتابه حالات ضعف وفتور في إيمانه لِغَلَبةِ شهوة فهذا ينفع معه تقوية الإيمان بالاستزادة من الطاعات والأذكار الشرعية، ومثل المريض الثاني مثل من شابت قلبه شائبة شبهة أو تأويل فاسد مانع من قبول الحق، فإذا نفيت عنه الشبهة وبينت له وجه الحق انتقع بذلك ما كتب الله تعالى له الانتفاع، ومثل المريض الثالث مثل المعاند الجاحد الذي عرف الحق فرفض الانقياد له عناداً وجحوداً فلم ينجع في ردعه إلا التهديد بالسيف أو إنفاذ ذلك السيف فيه إن لم يرعوي، كتارك الصلاة لا عن شبهة ولكن عن عناد وإصرار ، وأما المريض الرابع فمثله مثل أئمة الكفر المعاندين الجاحدين المحاربين ولكن لم يكتفوا بذلك حتى أصبحوا ينشرون أذاهم بين الناس يدعون إلى سبيل الباطل فهؤلاء لا بد من استئصال شأفتهم رأفة بالناس من حولهم، وهذا هو حال الطاعن الساب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو العنف والإرهاب في الإسلام يوضع في موضعه الصحيح، تماماً كما يضع الطبيب مِشرطه ومِبضعه من العضو النتن لينقذ حياة المريض، وكما يضع الحاكم سيفه على المجرمين(1/126)
قطاع الطرق حفظاً للأمن العام، والله الموفق.
الشبهة الثانية: ادعاء أن سب النبي صلى الله عليه وسلم جزء مما يعتقده الكافر الذمي وهو من دينه، وقد أقررناه بعقد الذمة على دينه فكيف نقتله بجزء مما يعتقده؟
جواب الشبهة الثانية:
هذه الشبهة شبهة سقيمة بل شبهة مشبوهة، لأننا ما أقررنا أهل الذمة بعقد الذمة على إظهار ما يدينون به، وإنما أقررناهم على دينهم بالجملة فيما بينهم فلا يظهرون منه شيئاً علانية لا سيما ما يتنقص به من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سبق بيان أن شرط الذمة بذل الجزية والانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خرق أياً من الشرطين خلع الذمة ونقض العهد، فكيف بمن أظهر سب نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي عياض رحمه الله :"قال محمد بن سحنون: فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه وسلم ومِن دينهِ سبه وتكذيبه؟ قيل: لأنا لم نعطه العهد على ذلك ولا على قتلنا وأخذ أموالنا، فإذا قتل واحداً منا قتلناه وإن كان من دينه استحلاله، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه وسلم"335 .هذا كله قاله العلماء في أهل الذمة فما بالك بمن لا ذمة له اليوم ولا عهد من الكفار المحاربين المستبيحين لحرمات الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أي هراء هذا الذي لا يقبله أحدنا مع نفسه، وأي منا يقبل إذا سمع أحداً يسبه ويشتمه أن يسكت عنه لأن الساب والشاتم يعتقد في قلبه ودينه أنه مستحق لهذا السب والشتم، هذا إلى كلام المجانين أقرب منه إلى كلام العقلاء الفاهمين، ولكنها ضلالات الشيطان تتردى بأهلها في مهاوي الجهل وظلمات الهوى، نسأل الله العافية من ذلك.
الشبهة الثالثة: ادعاء أن سب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم سببه عدم معرفتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتقصير المسلمين في ذلك:
جواب الشبهة الثالثة:(1/127)
وهذه الشبهة من أعجب ما رأيت وسمعت، ولقد تناولتها بالرد في مقال مفرد336 أوجز منه ما يناسب موضوعنا هذا مستعيناً بالله عز وجل؛
لقد ظهر بعض الكلام في معرض ردود الأفعال تجاه بعض جرائم السب المعاصرة التي تناولت بها بعض الأيدي والألسن قطعها الله مقام نبينا صلى الله عليه وسلم بالسخرية والاستهزاء ما يفسر هذه الجرائم بتقصير المسلمين في تعريف الغير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبتقصير المسلمين في التعريف بالإسلام ونحوه. وإن أحداً لا ينازع في أننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اليوم مقصرون في القيام بأمر الإسلام، غير أن هذا لا يمكن قبوله تفسيراً لجرائم القوم ولا تبريراً لمهادنتهم. نعم لو كان المشتوم نحن المسلمين لقبلنا ذلك، ولو كان المتنازَع فيه بيننا وبينهم سوء فهم مبدأ من مبادئ الإسلام، أو نسبة أمرٍ مغلوطٍ إليه لكان للحجاج والجدل بالتي هي أحسن موضع، أما وقد شتموا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما لا تتعلق به شبهة عقلية، ولا تتعلق به حرية اعتقادية، ولا تتناوله مساحات التأويل العقلي الفاسد. فإن غاية ما يتعلق به كفر الكافر استكبارٌ عن قبول الحق أو فسادٌ في فهمه، وإن غاية ما تتيحه مساحة الاختيار للمكلفين هو تصديق الشرع والانقياد له أو الجحود له والإعراض عنه، كما بيَّن الله تعالى في قوله :" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"337، وهذا التخيير كما لا يخفى للتهديد، كما قال الإمام الطبري رحمه الله :" وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع بأن العرب تُخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"338، والحاصل أن هذه هي مساحة الاختيار للمكلف وهو اختيار تكليف يترتب عليه وعدٌ ووعيد، لا اختيار حرية ينجو المرء فيه باختياره ويسعد كائناً ما كان اختياره. فغاية ما يُقال في شأن الكافر أنه أعرض عن الشرع جهلاً أو تأويلاً أو(1/128)
جحوداً أو استكباراً،فالجاهل يُعلَّم، والمتأول يُفهَّم، والجاحد يُذَكّر، والمستكبر يُخوَّف، فإن زالت عوارض الكفر ففضلٌ من الله وإن لم تزُل فلا عدوان إلا على الظالمين. وليس من لازم أي واحد من العوارض السابقة إيقاع الشتم والعدوان على مُبلِّغ الرسالة صلى الله عليه وسلم حتى يُعتذر عن هذا الشتم بالكفر أو بجهالة حق المبلِّغ ومقامه وفضله صلى الله عليه وسلم، فعُلم ضرورة عقلية ما هو معلومٌ ضرورةً شرعية أن الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم جريمة مستقلة لها اتصال بجريمة الكفر من وجه، ولها انفصال من وجه آخر، وهذا الموضع هو الذي يستزل قدم بعض المخلصين أو الغيورين أو أصحاب النوايا الحسنة من المسلمين إلى مهادنة هؤلاء المجرمين بحجة الخطاب الهادئ والحوار الناجع339، ولعمري إن المقام هنا مقام انفكاك في الجهة بين جريمة الشتم وجريمة الكفر، يدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل كعب بن الأشرف :" مَن لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال: نعم "340، قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب :"ووجَّه إليه مَن قَتَلَهُ غيلةً دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل قتله بأذاه له، فدل على أن قتله إياه لغير الشرك، بل للأذى"341، قلت: رحم الله القاضي العياض ما أفقهه، وهل الفقه إلا الوقوف عند كلام الله ورسوله، فلقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعلة القتل هنا وهي الأذى، فلم يعد هناك مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله برأي وتبرير وتفسير، وعُلم أن الشتم والأذى جريمة مستقلة عن جريمة الكفر من هذا الوجه.(1/129)
ثم إن العجيب ممن يقول إن شتم هؤلاء المجرمين للنبي صلى الله عليه وسلم سببه تقصيرنا وجهلنا في التعريف به، وكيف يسب أحد شخصاً لا يعرفه؟ فمن أين لهم إذاً تحديد اسمه وصفته ونسبة دين الإسلام إليه ونشأته في جزيرة العرب ونسبة ما جاء به صلى الله عليه وسلم إلى التخلف الحضاري لعرب الجزيرة ونحو ذلك من المعلومات التي لا بد لحصولها في ذهن الشاتم من اطلاع على شيء من حياة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن مثل هذا مثل من جاء إلى أحدنا فشتم أباه باسمه فقال له : إنك تشتم أبي لأنك لا تعرفه ولأني قصرت معك في تعريفك بمناقب أبي فهلا تفضلت بالجلوس معي حتى أستطيع أن أعرفك بذلك كله عسى أن تكف عن شتم أبي ؟ أي عاقل يقبل مثل هذا في حظ نفسه وأبيه حتى نقبله في حق أكرم الخلق على الله تعالى، سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن من شتم محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عرف محمداً، نعم، قد لا يكون عرفه حق المعرفة، لكنه لم يتوجه بسبه وشتمه إلى معدومٍ في ذهنه، ولم يتوجه بحقده ولؤمه إلى وهمٍ في مخيلته، وإن مَن هذا حاله مظنة قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"342، فليعش هؤلاء المجرمون كالفئران يفرون من جحر إلى جحر، ويهلعون لرؤية مسلم يخشون انقضاضه عليه، أو أي جندٍ آخر من جند الله عز وجل، وما يعلم جنود ربك إلا هو، أما أن يهنأ هؤلاء بمهرجانٍ ثقافي سخيف أو بدعوة لحضور مؤتمر حوار أديان، أو أن يكون غاية انتصارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعض مأكولاتهم ومشروباتهم، فليس مما ننتصر به لرسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، بل ليس مما يقبله أحدنا انتصاراً لنفسه أو أبيه أو قومه ، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا فليُفق هؤلاء وليُعلم أن المقام مع هؤلاء مقام ردعٍ وترهيب لا مقام دفع شبهات وتعليم، وقد قال الشاعر :(1/130)
ووضع الندى في موضعِ السيفِ بالعلا……مُضِرٌ، كوضع السيف في موضع الندى
والحاصل أنَّ مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه مكانه صلى الله عليه وسلم من الدين وإلا لم يتوجه بالسب إليه إغاظةً لنا، ومثل هؤلاء يحتاجون أن يُعرفوا بحقه بإرغام أنوفهم لأنهم ليسوا من جنس المتأول صاحب الشبهة فيتوجه إليه بالبيان، وإنما هم من جنس المحارب المعلن ببغضه فيتوجه إليه بالسنان، في حين تتوجه الدعوة بالبيان والتعريف به وبسيرته صلى الله عليه وسلم للكفار الجهال جهلاً محضاً متجرداً عن إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
الشبهة الرابعة: أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر إذا كان مستحلاً للسب أما إذا لم يكن مستحلاً له فإنه يفسق فقط ولا يكفر:
جواب الشبهة الرابعة: لقد استقصى شيخ الإسلام هذه الشبهة الواهية والقول الشاذ وفنده أحسن ما يكون، وأنا أوجز من كلامه ما تمس الحاجة إليه بإذن الله، حيث قال رحمه الله برحمته الواسعة:
"يجب أن يُعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلةٌ منكرة وهفوةٌ عظية، وانما مرد مثل هذه الشبهة والهفوة إلى مقولة الجهمية الإناث343 الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتضِ عملاً في القلب ولا في الجوارح. ومن المقرر المعلوم أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح كما هو مذهب الأئمة كلهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة،وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنما الغرض التنيبه على ما يخص هذه المسألة أي بيان فساد وبطلان تعليق كفر الساب على الاستحلال، وذلك من وجوه:(1/131)
(أحدها) إن هذا القول قول شاذ مأثور عن بعض المتكلمين ممن لا يُعد قوله قولاً، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل في كفر الساب بالاستحلال، بل الفتوى على أن نفس السب كفر، (الثاني) أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال، واعتقاد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب، ولكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي عُلم أن الله تعالى قد حرَّمها، فإن من فعل شيئاً من هذه المحرمات مستحلاً كفر، مع أنه لايجوز أن يُقال: مَن قذف مسلماً أو اغتابه كفر ثم يقول إنه يعني بذلك اذا استحله، فتبين أن فعل المحرَّم شيء واستحلاله شيء آخر، ولا تلازم بين الأمرين؛ فقد يفعل الحرام معتقداً تحريمه فلا يكفر، وقد يستحلّه ولا يفعله فيكفر، وقد يكون نفس الفعل كفراً ولا يحتاج إلى النظر في استحلال فاعله له كما هو حال سب النبي صلى الله عليه وسلم، (الثالث) أن اعتقاد حل السب كفرٌ سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن، وعلى هذا لا أثر للسب في التكفير وجوداً وعدماً وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من أن السب بنفسه كفر، (الرابع) يلزم من هذا القول الفاسد وهو زعم أن المكفِّر هو اعتقاد الحل أن لا يكون في السب نفسه ما يدل على أن الساب مستحلٌ فيجب أن لا يُكفَّر، لا سيما إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرام وإنما قلته غيظاً وسفهاً أو عبثاً أو لعباً، كما قال المنافقون:"إنما كنا نخوض ونلعب"344، فإن قيل: لا يكونون كفاراً فهو خلاف نص القرآن، وإن قيل يكونون كفاراً فهو مناقض لزعمهم عدم وجود أثر لنفس السب إذا لم يجعل نفس السب مكفراً وهذا باطل، فلزم أن يكون نفس السب كفراً كما نص القرآن الكريم، ولهذا قال سبحانه وتعالى:"لا(1/132)
تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم"345 ،ولم يقل :قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، فبيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بنفس هذا الخوض واللعب، وهذا واضح.
وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخَلَف أن السب بنفسه كفر استحله الساب أو لم يستحله، فالدليل على ذلك جميع ما تقدم من الدليل على كفر الساب من الآيات والأحاديث والآثار، فإنها أدلة بيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً، إذ لو كان الكفر المبيح للدم هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفير الساب وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهوراً تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء، وهذا خلاف ما تقدم من الأدلة. والحقيقة أن منشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم أنهم رأوا أن الإيمان هو مجرد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به دون الانقياد له، وظنوا أن اعتقاد صدقه صلى الله عليه وسلم لا ينافي السب والشتم بالذات، وغاب عن هؤلاء أن السب إهانة واستخفاف، وأن الانقياد للأمر إكرامٌ وإعزاز، ومُحالٌ أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، وهذا هو بعينه كفر إبليس؛ فإنه سمع أمر الله له فكان مصدقاً للخبر، ولكنه لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً، وهذا موضعٌ زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره مِن أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هُدوا لما هدي اليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قولٌ وعمل، فيصدق القلب أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقاً يوجب حالاً في القلب وينقاد لأمره ويستسلم، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين: التصديق بالخبر والانقياد للشرع، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم(1/133)
وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد إنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق. ألا ترى أن مَن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً، فإنه يحتاج إلى مقامٍ ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله؛ فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: وأشهد أن محمداً رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله وانقياده لأمره، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الاقرار، ويلزم الأصل الآخر وهو الانقياد. والشاهد هنا أن هذا مما يبين أن الاستهزاء بالله ورسوله بالسب والشتم ينافي الانقياد له والطاعة منافاةً ذاتية، ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره صلى الله عليه وسلم، فإن الانقياد إجلالٌ وإكرام، والاستخفاف إهانةٌ وإذلال، وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعُلم أن الاستخفاف والاستهانة نفسها تنافي الإيمان منافاة الضد للضد"346.(1/134)
قلت: والحاصل أن محل هذه الشبهة عند من اختل مفهوم الإيمان لديه، وهذا يستدعي المسارعة إلى تصحيح هذا الخلل لأنه على حافة جرف خطير جداً، فالإيمان الذي هو تصديق الخبر والانقياد للشرع له آثار في الظاهر تحتم وجود بعض أنواع القول والفعل وهي التي بها ينعقد أصل الإيمان وتوجب بعض أنواع القول والفعل وهي التي يتحقق بها الإيمان وتحث على بعض أنواع القول والفعل وهي التي يكمل بها الإيمان، وفي المقابل لا بد أن يمتنع ظهور بعض أنواع القول والفعل وهو الذي يقدح في أصل الإيمان، ويمتنع ظهور أنواع أخرى من القول والفعل وهو المخل بالإيمان، وتحث على ترك أنواع من القول والفعل وهي التي تنافي كمال الإيمان، وأنت إذا نظرت إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم جزمت أنه من نوع القول والفعل الذي لا بد أن يمتنع من انعقد أصل الإيمان في قلبه من أن يظهر على لسانه وجوارحه، وبالله التوفيق.
هذه بعض الشبهات التي رأيت من المناسب التعرض إليها، ولقد ذكرت في الجواب عليها ما تمس الحاجة إلى معرفته، وأنضح من أراد الاستزادة بالعودة إلى الأصل أعني كتاب الصارم المسلول لتفصيل الجواب فيما لا يحتمل مقامنا هنا التفصيل فيه، والله تعالى أعلم.
الخلاصة(1/135)
إن حال الأمة اليوم لا يخفى على أحد، ولكن خيرية هذه الأمة وبقاء الطائفة المنصورة فيها إلى أن يأتي أمر الله لا يخفى على أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولقد سلك الغيورون من أتباع هذا النبي الكريم بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه مسالك شتى في التعامل مع صعاليك الكفر المتجرأين على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست أنازع في حسن نية المخلصين نحسبهم والله حسيبهم، ولكننا ننازع في مسلك اللين والمفاوضة بالحجة والبرهان مع من حقه المقارعة بالسيف والسنان، فلما وجدنا هذا التنازع التزمنا بأمر الله تعالى حيث قال:"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً"347، فتحاكمنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوجدنا فيه حكم هؤلاء تكفيراً وتقتيلاً فالتزمنا به عقيدةً ندين لله تعالى بها وننصر نبينا صلى الله عليه وسلم بها، ونحن ندعو كل مسلم إلى اعتقاد حكم الله تعالى في هؤلاء ونشره على الملأ كي يتسنى لنا الاجتماع على تعاطي أسباب تطبيق هذا الحكم، ولربما كان من بركة النبوة أن يكون الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم عقيدةً وعملاً بداية عودة إلى تحكيم دين الله وشريعته عقيدةً وعملاً، فإذا بنور النبوة يشرق في نفوسنا من جديد لتضيء الدنيا بشمس الرسالة كما أضاءت منذ أربعة عشر قرناً، ولتتراجع كائنات الظلام إلى جحورها، وينقطع دابر الكفر ويُقمع طواغيته من جديد. ولعمر الحق إذا لم نجتمع اليوم على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به صلى الله عليه وسلم فمتى نجتمع؟ وإذا أخضعنا غضبنا اليوم للنبي صلى الله عليه وسلم لبروتوكولات الأمم الطاغوتية والأعراف الدولية فمتى يتحرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد؟(1/136)
ثم ما بال البعض منا اليوم يشكك في أهمية بث العقيدة الصحيحة والموقف الصحيح بحجة تعذر العمل؟ ومن قال إن انعقاد حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القلب ليس عملاً، ومن قال إن هذا الانعقاد لا يورث من العز والمنعة ما يظهر معه أثره باللسان والجوارح، فإذا بعقيدة الإيمان تزمجر في أرجاء الكون، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبيٍ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"348، قلت: فهذا صريح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدنى مراتب الإيمان اعتقاد الحكم بالقلب ثم يكون السعي بنشر الحكم باللسان ثم يكون تطبيقه باليد، ولئن تعذر الأخيران لظرف ما، فما العذر في عدم انعقاد القلب على حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل! ولئن كان الجهاد باللسان واليد مقدراً بالاستطاعة فإن جهاد القلب وغضبه للحق لا يكون إلا تاماً كاملاً لا تردد فيه ولا اختلاج، ولا مراعاة ولا مداهنة، فمن لم يجد في قلبه الغضب الكامل تجاه انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليخشَ على نفسه، فإن هذا لا يتقدر بالاستطاعة إذ لا مُكرِه لقلبه ولا سيطرة لأحد عليه إلا الله عز وجل، والله تعالى لا يحول بين المرء وبين الإنكار القلبي التام أعني بطبيعة الحال قلب المرء المؤمن.(1/137)
غير أننا ننبه على أمر دقيق هنا، وهو أن إهدار دم شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم يفتح الباب واسعاً أمام كل واحدٍ من جند الرسول صلى الله عليه وسلم للفوز بشرف نصرته، وقد تقدم معنا في الأدلة أن من الصحابة من تقدم بقتل شاتمة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الرجوع إلى (الحاكم) فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنهم من نذر قتل الساب مع أنه ليس من السلطة المخولة بإقامة وتنفيذ الحدود الشرعية فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنهم من استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالحيلة والمكر وصولاً إلى الإغارة على الكافر الساب في عقر داره متوهماً أمانه فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ومنهم من خرج بأمر (الدولة) دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية صغيرة تغزو عقر دار الكافرين المتفوقين عدداً وعدةً فيما يشبه اليوم فرق المغاوير349 لتنفيذ حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قتل شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم كائناً من كان وفي أي مكان كان، ومنهم من كُسرت ساقه في سياق ذلك، ومنهم من فدى بنفسه وأمه في ذلك فأقرهم الوحي على ذلك كله، روي عن حسان بن عطية قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم ابن رواحة وخالد، فلما صافّوا المشركين أقبل رجلٌ منهم يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من المسلمين: أنا فلان بن فلان، وأمي فلانة، فسبَّني وسب أمي وكُفَّ عن سب رسول الله. فلم يزده ذلك إلا إغراءً، فأعاد مثل ذلك، وأعاد الرجل مثل ذلك، فقال لئن عدت الثالثة لأرحلنك بسيفي، فعاد فحمل عليه الرجل، فولى الرجل مدبراً فأتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه، فأحاط به المشركون فقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعجبتم من رجلٍ ينصر الله ورسوله"، ثم إن الرجل برأ من جراحته فأسلم وكان يسمى الرحيل"350، نعم، أعجبتم من رجلٍ ينصر الله ورسوله، ويفدي بعرضه عرض محمد صلى الله(1/138)
عليه وسلم، ويخترق صفوف الكفار موقناً بالهلاك متتبعاً ذلك المجرم الساب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: لن تعدم أمة الإسلام اليوم أمثال هذا، فانظر يا رعاك الله في سيرة الصدر الأول من الصحابة والتابعين كيف كان هديهم في الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اعقد القلب على متابعتهم وأعد العدة للعمل على سننهم دون انتظار إذن أحد، فتلك علامة صدق القلب، قال تعالى:" إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون. ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عُدةً ولكن كرِه الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"351، فلا يكن حالنا كحال المنافقين وليكن دأبنا دأب خير القرون الذين آووا ونصروا ووقَّروا وعزَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا خير الحواريين لخير رسل الله أجمعين.(1/139)
وختاماً، فهذا جهد المُقصِّر وزاد المُقِل، فأسأله سبحانه وتعالى أن يجبر الكسر ويعفو عن الزلل، وأن يجعل ما كتبناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وأن يجعله من جنس الانتصار لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وها نحن نعلن على الملأ أننا جنده المخلصون رهن أمره وإشارته، متى أمرنا ببذل نفوسنا بذلناها، ومتى أمرنا بسفك الدماء سفكناها، ننتهي بنهيه، ونأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم، ولا نتقدم بين يديه بشيء من تفاهات عقولنا ولا شهوات نفوسنا، وكل غالٍ في سبيل توقيره وتعظيمه وإجلاله رخيص، وكل أمر الدنيا في مقابل أن يُشاك بشوكة في قدمه حقير، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين مِن قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم في الأولين وصلى الله عليه وسلم في الآخرين، وصلى الله وسلم عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
وكتب أفقر خلق الله
وسيم فتح الله
5 شوال 1427 هجرية
الموافق 27 تشرين الأول 2006 ميلادية
…………فهرس الموضوعات
العنوان…………………………الصفحة
المقدمة …………………………1
الفصل الأول : مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة في قلوب المؤمنين………… 4
الفصل الثاني: صيانة الله عز وجل لجناب النبوة …………… …13
الفصل الثالث: جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم ……………… 26
أولاً: بيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما هو في حقه صلوات الله وسلامه عليه شتم وتنقُص وإساءة………… 26
ثانياً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر والردة………… 29
الفصل الرابع: حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم……………… 33
المطلب الأول:بيان الأدلة الشرعية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله … 36(1/140)
أولاً : الأدلة القرآنية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله……… 36
ثانياً: أدلة السنة النبوية على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله…… 48
ثالثاً: دليل الإجماع على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله…… 56
المطلب الثاني :
بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه………… … 58
المطلب الثالث :
بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب……… 62
المسألة الأولى: استتابة وتوبة المرتد عن الإسلام الساب للنبي صلى الله عليه وسلم ……… …62
المسألة الثانية: عصمة إسلام الكافر الساب للنبي صلى الله عليه وسلم لدمه من القتل…… …63…
الفصل الخامس: رد شبهات حول حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم ……… …66
الشبهة الأولى :التنصل من حكم الإسلام في قتل هؤلاء المجرمين بحجة نفي الإرهاب
والعنف عن الإسلام وبحجة عدم القدرة على هؤلاء مما يثير الفتنة والبلابل ويشوه صورة الإسلام……67…
الشبهة الثانية: ادعاء أن سب النبي صلى الله عليه وسلم جزء مما يعتقده الكافر الذمي
وهو من دينه، وقد أقررناه بعقد الذمة على دينه فكيف نقتله بجزء مما يعتقده؟ ……… …68
الشبهة الثالثة: ادعاء أن سب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم سببه عدم معرفتهم
بالرسول صلى الله عليه وسلم وتقصير المسلمين في ذلك…………… …68
الشبهة الرابعة: أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر إذا كان مستحلاً للسب
أما إذا لم يكن مستحلاً له فإنه يفسق فقط ولا يكفر…………… …70
الخلاصة …………………………73
1 اعتقاد أهل السنة - اللالكائي - 1/123
2 اعتقاد أهل السنة - 1/123(1/141)
3 وقد قام فضيلة الدكتور صلاح الصاوي حفظه الله بتقريب الكتاب بعنوان (تقريب الصارم المسلول) فرتب أبوابه وفصوله فجاء مفيداً لمن أراد الإطلاع على الكتاب الأصلي، فجزاه الله خير الجزاء، ولقد استفدت منه كثيراً.
4 الصارم المسلول - ابن تيمية - 2/7-9
5 صحيح ابن خزيمة - 4/199
6 صحيح البخاري - 5/2279
7 سورة محمد - آية 1-2
8 تفسير ابن كثير - 4/173
9 تفسير البيضاوي - 5/188
10 صحيح مسلم - 1/134
11 مسند البزار - 8/58
12 سورة هود - آية 17
13 السنن الكبرى - النسائي - 6/363
14 سورة آل عمران - آية 81
15 سورة الفتح - آية 13
16 الشفا بتعريف حقوق المصطفى - القاضي عياض - 2/260
17 تقريب الصارم المسلول - صلاح الصاوي - 1/283
18 صحيح البخاري - 3/1300
19 سورة الأحزاب - آية 6
20 تفسير البيضاوي - 4/364
21 صحيح البخاري - 4/1795
22 سورة التوبة - آية 120
23 تقريب الصارم المسلول - صلاح الصاوي - 1/ 258
24 صحيح مسلم - 4/1782
25 صحيح مسلم - 4/1782
26 أفيح : واسع
27 البعير المخشوش : الذي يُجعل في أنفه خشاش وهو عود حتى ينقاد به البعير ويذلل
28 أي في منتصف المسافة بين الشجرتين
29 صحيح مسلم - 4/2306-2307
30 سورة التوبة - آية 24
31 تقريب الصارم المسلول - صلاح الصاوي - 1/259
32 تفسير السعدي - 1/332
33 صحيح البخاري - 6/2445
34 عمدة القاري - العيني - 23/169
35 صحيح البخاري -1/14
36 عمدة القاري- العيني - 1/144
37 سورة المجادلة - آية 22
38 الشفا- القاضي عياض - 2/278
39 المعجم الكبير - الطبراني - 5/261، وقال الهيثمي :"رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف"( مجمع الزوائد 6/201)، وذكره الحافظ ابن حجر من رواية أبي الأسود عن عروة (الفتح ، 7/384).
40 سورة النساء - آية 59
41 سورة النساء - آية 65
42 سورة النور - آية 63
43 سورة النساء - آية 65
44 الصارم المسلول على شاتم الرسول - ابن تيمية - 2/116(1/142)
45 صحيح ابن خزيمة - 2/72
46 صحيح البخاري - 3/1126
47 صحيح مسلم - 1/74
48 شرح النووي على صحيح مسلم - 2/38
49 سورة الأحزاب - آية 23
50 سورة الحشر - آية 8
51 الشفا - القاضي عياض - 2/ 283
52 تعظيم قدر الصلاة - المروزي - 2/691
53 تعظيم قدر الصلاة - المروزي - 2/693
54 الإبانة الصغرى - ابن بطة - 1/143
55 سورة الأحزاب - آية 56
56 صحيح البخاري - 4/1802 معلقاً تعليقاً جازماً
57 تفسير ابن كثير - 3/508
58 صحيح البخاري - 5/2338
59 صحيح البخاري - 5/2339
60 صحيح البخاري - 5/2339
61 الشفا - القاضي عياض - 2/ 305-309
62 سنن الترمذي - 5/550، وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه
63 سنن الترمذي - 5/551، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب
64 سورة الفتح - آية 29
65 صحيح مسلم - 1/112
66 السنن الكبرى - النسائي - 3/445
67 مسند الإمام أحمد - 4/324
68 صحيح البخاري - 4/1617
69 سورة آل عمران - آية 144
70 صحيح البخاري - 4/1618
71 صحيح البخاري - 4/1619
72 صحيح البخاري - 4/1620
73 صحيح البخاري - 4/1620
74 صحيح البخاري - 4/1620
75 سورة الفتح - آية 8-9
76 الحريم : الأرض الممنوعة تكون حماية لما حولها من الملك
77 شعب الإيمان - البيهقي - 2/193، بتصرف
78 شعب الإيمان - البيهقي- 2/194. والمقصود بالأكفاء الذين هم متكافئون في الرتبة فهؤلاء يسترسلون في الحديث مع بعض وينبسط أحدهم في المجلس مع من يراه مكافئاً له، وهذا ما لا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم.
79 الصارم المسلول - 3/801
80 سورة الحجر- آية 95
81 سورة الحجرات - آية 1
82 تفسير الطبري - 26/116
83 صحيح البخاري - 4/1832
84 صحيح البخاري - 4/1834
85 الشفا - القاضي عياض - 2/284
86 أي يقدم غيره
87 تعظيم قدر الصلاة - المروزي - 2/660 قلت: تأمل كيف جعل رحمه الله من يتقدم برأيه على السنة كأته جاء بملة غير ملة الإسلام!
88 الصواعق المرسلة - 3/997
89 سورة النور - آية 63(1/143)
90 سورة النور - آية 62-63
91 تفسير ابن كثير - 3/307
92 تفسير ابن كثير - 3/307، وفي معنى قوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) قول ثانٍ ذكره ابن كثير رحمه الله فقال:"والقول الثاني في ذلك أن المعنى في ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا"(تفسير ابن كثير - 3/308)، قلت: ومناسبة هذا المعنى على القول به للأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة؛ إذ أن سوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلبةٌ لسخطه ودعائه على من أساء الأدب معه، وهو دعاء مستجاب فليحذره من تسول له نفسه التطاول على جناب النبوة، والله أعلم.
93 صحيح مسلم - 3/1682
94 سورة البقرة - آية 104
95 سورة البقرة - آية 104
96 الشفا - 2/426
97 الصارم المسلول - 2/447-448
98 صحيح مسلم - 4/1706
99 سورة الحجرات - آية 2
100 سورة الحجرات - آية 2
101 سورة الحجرات - آية 3
102 صحيح البخاري - 4/1833
103 هو الراوي عن أنس رضي الله عنه
104 صحيح البخاري - 4/1833
105 سورة الحجرات - آية 3
106 شعب الإيمان - البيهقي - 2/196
107 سورة الأحزاب - آية 53
108 سورة الأحزاب - آية 53
109 أي قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم
110 سورة الأحزاب - آية 53
111 السنة - الخلال - 1/242
112 سورة الأحزاب - آية 53
113 صحيح البخاري - 4/1799
114 سورة الأحزاب - آية 53
115 سورة الأحزاب - آية 53
116 تفسير السعدي - 1/670- 671
117 الصارم المسلول - 3/807
118 سورة الأحزاب - آية 6
119 منهاج السنة - ابن تيمية - 4/369، وقال رحمه الله :" ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه" (منهاج السنة 4/369)
120 الصارم المسلول - 2/120
121 سورة التحريم - آية 5
122 سورة الأحزاب - آية 28-29(1/144)
123 تفسير ابن كثير - 3/481
124 وجأً : أي طعن، وقاله أبو بكر رضي الله عنه على سبيل إضحاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
125 سورة الأحزاب - آية 28-29
126 صحيح مسلم - 2/1104
127 سورة الأحزاب - آية 57
128 سورة الأحزاب - آية 60-62
129 سورة الأحزاب - آية 57-58
130 الصارم المسلول - 3/807
131 الصارم المسلول - 2/87
132 رواه الترمذي في سننه وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (5/696)، والإمام أحمد في مسنده ( 5/54)،
133 تفسير ابن كثير - 3/518، وقال ابن كثير رحمه الله :" ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين" (تفسير ابن كثير - 3/518-519)
134 سورة النور - آية 23
135 سورة النور - آية 4-5
136 ثنا : اصطلاح عند المحدثين معناه : حدثنا
137 سورة النور - آية 23
138 سورة النور - آية 4-5
139 الصارم المسلول - 2/93-95
140 سورة التوبة - آية 40
141 سورة المائدة - آية 67
142 سنن الترمذي - 5/251، وقال الترمذي : هذا حديث غريب
143 سورة الحجر - آية 95
144 سورة الحجر - آية 94-95
145 الصارم المسلول - 2/316-317
146 الأبجل : عرق في اليد
147 يريش نبلاً: أي يهيء النبال لتصلح للرمي
148 أي فضلات أمعائه
149 شبرقة: شوكة
150 المعجم الأوسط - الطبراني - 5/173-174، وقال الهيثمي :"رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن عبدالحكيم النيسابوري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات"(مجمع الزوائد - 7/47)
151 الشفا - القاضي عياض - 1/232-237(1/145)
152 العضاة: كل شجر يعظم له شوك، والقائلة : وقت القيلولة وهي الراحة وقت العصر
153 صلتاً : مجرداً من غمده
154 شام السيف إذا وضعه في غمده
155 صحيح البخاري - 4/1516
156 فتح الباري - ابن حجر - 7/427
157 سورة الزمر - آية 36
158 الشفا - 1/232
159 سورة التوبة - آية 40
160 سورة الطور - آية 48
161 الصارم المسلول - 3/1005
162 أي على غير الوجوه الجائزة من شهادة على الساب أو تعريف به وإنكار عليه أو فتيا وتعليم
163 الشفا - 2/449
164 هذه إحدى قواعد الفقه الكلية الكبرى التي يقوم عليها الفقه الإسلامي، وهي تقضي بالتحاكم إلى العرف في تقدير صفات ما لم يحدده الشرع مما له تعلق بالأحكام الشرعية كمهر المثل ونفقة الزوجة والمعاشرة بالمعروف وعرف أصحاب المهن وغير ذلك.
165 أي الرسوم الكاريكاتيرية بلغة الغرب
166 صحيح مسلم - 4/1706 ، وفي رواية : فقولوا : وعليك. وأخرجه البخاري (6/2539) واللفظ لمسلم
167 سورة المجادلة - آية 8
168 سورة المجادلة - آية 8
169 الصارم المسلول - 3/1005- 1012 بتصرف واختصار
170 الصارم المسلول - 2/531-533 باختصار وتصرف بسيط
171 إن سب الله سبحانه وتعالى جريمة لا توصف، غير أن هذا السب ينقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلق باعتقادات الكفار كعقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله تعالى فقد صرح الحديث القدسي بكونه شتماً لله تعالى ، ولكن هذه الاعتقادات لا يقصد أصحابها منها الشتم وإنما يقصدون منها تنزيه وتعظيم الله تعالى وفق معتقدهم الفاسد والإسلام قد يقرهم على معتقدهم هذا طالما لم يُظهروه وطالما التزموا حكم الله تعالى عليهم بضرب الجزية والذل والصغار عليهم، فهذا النوع لا يدخل في ما نحن فيه، والقسم الثاني ما هو سب محض والقول فيه إما على إيقاع العقوبة الشرعية عليه سواء أسلم أم لم يسلم أو القول بقبول توبته إن أسلم، والله تعالى أعلم.
172 جزء من حديث قدسي - صحيح مسلم - 4/1994(1/146)
173 الصارم المسلول - 3/926- 930 باختصار وتصرف
174 الصارم المسلول - 2/537-538
175 سورة آل عمران - آية 167
176 أحكام أهل الذمة - ابن قيم الجوزية - 1/335
177 سورة التوبة - آية 29
178 سورة التوبة - آية 7
179 سورة التوبة - آية 6
180 سورة التوبة - آية 7
181 راجع غير مأمور أحكام أهل الذمة - 1/335-336
182 ومن أنفس ما كُتب في هذا كتاب (أحكام أهل الذمة) للحافظ ابن قيم الجوزية رحمه اله برحمته الواسعة.
183 أحكام أهل الذمة - 2/113
184 أحكام أهل الذمة - 2/113
185 الشفا - 2/428
186 سورة الأحزاب - آية 57-58
187 الصارم المسلول - 2/86
188 الصارم المسلول - 2/526-527
189 صحيح البخاري - 1؟27
190 سورة التوية - آية 61-63
191 الصارم المسلول - 2/58
192 الصارم المسلول - 2/58
193 سورة المجادلة - آية 20
194 سورة المجادلة - آية 5
195 الصارم المسلول - 2/59
196 الصارم المسلول - 2/52
197 سورة المجادلة - آية 22
198 الصارم المسلول - 2/59-60
199 تفسير البغوي - 4/312
200 سورة التوبة - آية 64-66
201 الصارم المسلول - 2/70
202 تفسير الطبري - 10/174
203 سورة الأحزاب - آية 60-61
204 سورة الأحزاب - آية 57
205 الصارم المسلول - 2/87-88
206 سورة النساء - آية 65
207 سورة النور - آية 63
208 الصارم المسلول - 2/116
209 الصواعق المرسلة - ابن قيم الجوزية - 3/828
210 الصارم المسلول - 2/81(1/147)
211 عمدة القاري - الحافظ العيني - 12/203، والسيوطي في الدر المنثور(2/585)، وذكره ابن تيمية في الصارم المسلول وأشار إلى إرساله فقال:"وهذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار، قال ابن دحيم حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال:" اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى لأحدهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم انطلقوا إلى عمر. فانطلقا فلما أتيا عمر قال الذي قضي له: يا ابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لي، وإن هذا قال ردنا الى عمر فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أكذلك للذي قضي عليه. قال: نعم. فقال عمر: مكانك حتى أخرج فاقضي بينكما فخرج مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله قتل عمر صاحبي ولولا ما أعجزته لقتلني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن عمر يجتري على قتل مؤمن ،فأنزل الله تعالى :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" فبرّأ الله عمر من قتله" (الصارم المسلول 2/83-85)
212 سورة التوبة - آية 58
213 الصارم المسلول - 2/75
214 أي يقسم الأموال
215 هذا النعت والوصف هو لفرقة الخوارج الذين فارقوا أهل السنة والجماعة في أصول أهمها تكفير مرتكب الكبيرة وهي فرقة ضالة كما لا يخفى (انظر الملل والنحل للشهرستاني، والفصل بين الفرق للبغدادي)
216 صحيح البخاري - 6/2540
217 سورة الحجرات - آية 2
218 سورة البقرة - آية 217
219 سورة المائدة - آية 5
220 سورة الأنعام - آية 88
221 سورة الزمر- آية 65
222 سورة محمد - آية 9
223 سورة محمد - آية 28
224 سورة المائدة - آية 27
225 سورة محمد - آية 1
226 سورة التوبة - آية 54
227 سورة البقرة - آية 264(1/148)
228 الصارم المسلول - 2/113-115، بتصرف يسير.
229 سورة النور - آية 63
230 الصارم المسلول - 2/115
231 تفسير ابن كثير - 3/308
232 الصارم المسلول - 2/117 بتصرف
233 سورة الأحزاب - آية 53
234 الصارم المسلول - 2/120
235 سورة التوبة - آية 29
236 الصارم المسلول - 2/32- 33
237 أحكام القرآن - الشافعي - 2/79
238 الشفا - 2/464
239 سورة التوبة - آية 7
240 هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - ابن قيم الجوزية - 1/12
241 الصارم المسلول - 2/34-35
242 سورة التوبة - آية 12
243 تفسير البيضاوي - 3/133
244 تفسير ابن كثير - 2/340
245 سورة التوبة - آية 13
246 تفسير ابن كثير - 2/340
247 الصارم المسلول - 2/43
248 سورة الأنفال - آية 13-14
249 الصارم المسلول - 2/61
250 سورة الحشر - آية 3-4
251 الصارم المسلول - 2/61
252 سورة الممتحنة - آية 1
253 تفسير ابن كثير - 4/348
254 سورة الأنفال - آية 60
255 تفسير الطبري - 10/29
256 سورة المائدة - آية 33
257 تفسير ابن كثير - 2/48
258 تفسير ابن كثير - 2/49
259 الصارم المسلول - 3/709
260 صحيح البخاري - 5/2384
261 فتح الباري - 11/342-343
262 الصارم المسلول - 3/728
263 صحيح البخاري - 3/1325
264 عمدة القاري - 16/150
265 صحيح مسلم - 4/2145
266 الصارم المسلول - 2/ 233-234
267 صحيح البخاري - 2/655
268 فتح الباري - 4/62
269 الصارم المسلول - 2/265- 266 بتصرف يسير
270 المغول سيف قصير
271 سنن أبي داود - 4/129 وسكت عنه، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه (4/394)، والنسائي في الكبرى ( 2/304)، والبيهقي في الكبرى (7/60).
272 عون المعبود شرح سنن أبي داود - العظيم آبادي - 12/11
273 القود : القصاص من القاتل في القتل بشروطه
274 الصارم المسلول - 2/145(1/149)
275 سنن أبي داود (4/129) وسكت عنه، وأخرجه الضياء في المختارة وقال إسناده منقطع،(2/169)، قلت: يريد الخلاف في سماع الشعبي من أمير المؤمنين علي ، وعلى فرض عدم السماع فإن الشعبي صحيح المراسيل عند المحدثين، قال ابن تيمية :"ثم إن كان فيه إرسالاً لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقاً، لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل، لايعرفون له مرسلاً إلا صحيحاً ، ثم هو من أعلم الناس بحديث علي وأعلمهم بثقات أصحابه (الصارم المسلول - 2/127)، وحديث ابن عباس المتقدم شاهد قوي لصحة هذاالمرسل على فرض الإرسال. وأخرج هذا الحديث الييهقي في الكبرى (7/60)،
276 نيل الأوطار - الشوكاني - 7/380
277 القينة : الغانية ، والجارية تتخذ للغناء
278 سنن البيهقي الكبرى - 9/120
279 دلائل النبوة - البيهقي - 5/41
280 الصارم المسلول - 2/253، 260
281 يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول من الصحابي لكعب بن الأشرف على وجه الحيلة وهو القول الذي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتال به ليصل إلى كعب بن الأشرف ويتمكن منه كما سيأتي في باقي الحديث
282 عنانا: أي أثقل علينا وأتعبنا
283 الوسق ستون صاعاً، والصاع من المكاييل
284 هذه الجملة معترضة من التعدد في أوجه الرواية
285 أي آخذ بشعر رأسه كأني أريد شم طيبه
286 صحيح البخاري - 4/1481
287 فتح الباري- 7/337
288 الصارم المسلول - 2/179-180
289 الصارم المسلول - 2/ 182
290 تقنع :أي تغطى
291 الأغاليق: المفاتيح
292 صحيح البخاري - 4/1482-1483
293 فتح الباري - 7/345 بتصرف
294 الصارم المسلول - 2/295-296 بتصرف يسير
295 الطبقات الكبرى - ابن سعد - 2/28
296 هذا على فرض أن نذره لم يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن الله تعالى يعلمه فلما سكت الوحي عن نذره وعن فعله كان إقراراً عليه، وهذا المسلك خاص بالصحابة زمن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل انقطاع الوحي كما لا يخفى.(1/150)
297 صحيح مسلم - 4/2139،وأم الولد : السرية توطأ وتلد لسيدها، والركي: البئر، والمجبوب: من ليس له ذَكَر
298 المحلى - ابن حزم - 11/413
299 وأخرج القصة ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة (8/88)
300 الصارم المسلول - 2/123-124
301 الشفا - 2/428
302 الصارم المسلول - 2/32
303 المحلى - ابن حزم - 11/414
304 الإجماع - ابن المنذر - مسألة رقم 720
305 التمهيد - ابن عبد البر - 6/168
306 التمهيد - 4/226
307 سورة التوبة - آية 14-15
308 الصارم المسلول - 2/44-48 باختصار وتصرف
309 سورة الكوثر - آية 3
310 تفسير الطبري - 30/330
311 الصارم المسلول - 3/862-863
312 سورة التوبة - آية 12
313 الشفا - 2/462
314 الصارم المسلول - 2/38
315 الصارم المسلول - 2/36
316 سورة البقرة - آية 193
317 الصارم المسلول - 2/539 بتصرف
318 وتأمل هذا الحكم الشرعي الذي جعل الأنوثة عصمة للنساء الكافرات من القتل ثم تأمل في التصرفات الهمجية للدول الصليبية والملحدة التي تنادي بحقوق المرأة وهي تنتهك دماء وأعراض النساء ليل نهار في بلادها وفي بلادنا، ثم تأمل في تلك النساء اللواتي يأبين إلا أن يخلعن ثوب الأنوثة ليكتسين بثوب الرجولة الملعون في حقهن، نسأل الله السلامة والعافية.
319 الصارم المسلول - 2/539
320 وقد تقدمت القصة في مبحث أدلة السنة على انتقاض إيمان وأمان الساب ووجوب قتله
321 الصارم المسلول - 2/265- 266 بتصرف يسير
322 فتح الباري - 12/281
323 الصارم المسلول - 3/650 بتصرف يسير
324 سورة الكوثر - آية 3
325 الصارم المسلول - 3/862-863
326 الإصابة في تمييز الصحابة - ابن حجر - 1/122
327 الصارم المسلول - 3/790-791 بتصرف يسير جداً
328 صحيح البخاري - 1/17(1/151)
329 المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري - 3/47 وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه، وقال الحافظ ابن حجر:" أخرجه الحاكم من هذا الوجه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات من مرسل سعيد بن المسيب أخصر منه، وزاد فيه: وكان رجل من الأنصار نذر إن رأى بن أبي سرح أن يقتله، فذكر بقية الحديث نحو حديث ابن عباس، وأخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن يربوع، وله طرق أخرى يشد بعضها بعضاً" (الفتح 11/9)
330 الصارم المسلول - 3/ 779-781 باختصار
331 صحيح البخاري - 6/2665
332 يشير هنا إلى قوله رحمه الله:" وقد جاء عن عمر نحو قول سهل ولفظه: اتقوا الرأي في دينكم، أخرجه البيهقي في المدخل هكذا مختصراً، وأخرجه هو والطبري والطبراني مطولاً بلفظ: اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهاداً فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبى جندل حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تراني أرضى وتأبى" (فتح الباري - 13/289)
333 فتح الباري - 13/288
334 حكى هذا الإمام ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول، وحكاه القاضي عياض رحمه الله في الشفا
335 الشفا - 2/464
336 المقال بعنوان: من شتم محمداً فقد عرف محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد سبق نشره في بعض مواقع الشبكة العالمية الحاسوبية.
337 سورة الكهف - آية 29
338 تفسير الطبري - 4/238(1/152)
339 وهذه الفئة المخلصة لا نشك في وجودها مع وقوع الزلل منها فيما ذكرنا، وتوجد مع هذه الفئة فئة أخرى مندسة بين أظهرنا هي إلى الزندقة والنفاق أقرب إليها من الإيمان لا تنفك توجد الأعذار والمبررات لأعداء الله عز وجل في اعتداءاتها السافرة على حرمات المسلمين دماءً وأموالاً وأعراضاً وبلداناً ثم هي اليوم توجد مثل هذه الأعذار لمن تناول كتاب الله تعالى وشخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالامتهان لتبرر سلوك أعداء الله تنفيذاً لمؤامرات أوليائهم من الطاغوت ولستر عوارتهم المفضوحة نتيجة تعاونهم العميل مع أعداء الله في هدم دين الله من الداخل، ولكن هيهات هيهات، إن ربك لبالمرصاد.
340 صحيح البخاري - باب الكذب في الحرب - حديث 3031
341 الشفا بتعريف حقوق المصطفى -2/ 433
342 سورة الأحزاب - 57
343 هذا الوصف مبالغةٌ منه رحمه الله في الإنكار على مقولة الجهمية التي نقضوا فيها الدين وعطلوا عقيدة التوحيد فعطلوا صفات الله وأبطلوا عقيدة القدر وقالوا بالإرجاء في الإيمان وهو أن الإيمان مجرد المعرفة دون استلزام العمل وهي عقيدة فاسدة ضالة ليست من الإيمان في شيء. انظر اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية، والصواعق المرسلة على المعلطة والجهمية له أيضاً، والفرق بين الفرق للبغدادي (1/199)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/132)، والرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد رحمه الله، والملل والنحل للشهرستاني (1/86) وغيرهم.
344 سورة التوبة - آية 65
345 سورة التوبة - آية 66
346 الصارم المسلول - 3/ 960- 973 ياختصار وتصرف
347 سورة النساء - آية 59
348 صحيح مسلم - 1/69
349 ويسمون بالأجنبية : الكوماندوز
350 مكارم الأخلاق - ابن أبي الدنيا - 1/62
351 سورة التوبة - آية 45-46
??
??
??
??
5(1/153)