إرشاد العباد
إلى
سبيل الرشاد
لزين الدين عبد العزيز
المليباري الفناني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرشدنا إلى طاعته، وزجرنا عن معصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله إقراراً بوحدانيته، وأشهد أن محمداً رسول الله اعترافاً بنبوّته، والصَّلاة والسَّلام على من أرسله الله لإرشاد العباد، وعلى آله وصحبه المهتدين إلى سبيل الرشاد.
(وبعد) فهذا كتاب انتخبته من كتَابَيْ: الزواجر، ومرشد الطلاب، لشيخي مشايخ الإسلام وملكي العلماء الأعلام، شيخنا الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، وجدّنا زين الدين بن علي المعبري رضي الله عنهما وحشرنا في زمرتهما، وزدت فيه ما يسر من الأحاديث والمسائل الفقهيات، والمواعظ والحكايات، وسميته (بإرشاد العباد إلى سبيل الرشاد) راجباً من الله الجواد أن يرشدني به وجميع العباد إلى دار الخلود، إنه كريم ودود.
روى الشيخان البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإنَّما لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى، فمن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُها أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُها فَهِجَرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ".
{باب الإيمان}(1/1)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} (سورة البقرة: 21) أي وحدوا {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: 21) عقابه {الَّذِي جَعَلَ} (سورة البقرة: 22) أي خلق {لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} (سورة البقرة: 22) أي بساطاً يفترش {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} (سورة البقرة: 22) سقفاً {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ} (سورة البقرة: 22 ) أنواع {الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} (سورة البقرة: 22) {فَلا تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً} (سورة البقرة: 22) أي شركاء في العبادة {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 22) أنه لخالق ولا يخلقون، ولا يكون إلهاً إلَّا من يخلق، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} (سورة الفتح: 13) أي ناراً شديدة.(1/2)
وأخرج مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله: "الإسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إله إلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَتُقِيمَ الصَّلاة، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قال صدقت. قال فعجبنا له يسأله ويصدّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخَرِ، والقَدَرِ خَيْرهِ وَشَرِّهُ مِنَ الله تعالى" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قال: فأخبرني عن الساعة، أي عن زمن وجود يوم القيامة قال: "ما المَسْؤولُ عَنْها بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِلِ". قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: "أنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها" أي سيدتها، يعني يكثر عقوق الأولاد لأمهاتهم فيعاملونهنّ معاملة السيد أمته من الإهانة والسبّ "وَأَنْ تَرَى الحُفَاةُ العُرَاةَ العَالَة رعاءَ الشَّاء يتطاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ" يعني يصير الأسافل كالملوك "ثم انطلق فلبثت ملياً أي زماناً كثيراً، ثم قال: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلِ؟ قُلْتُ الله ورسوله أعلم. قال: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أتَاكُمْ يُعَلَمُكُمْ دِينَكُمْ".(1/3)
قال التاج السبكي: الإسلام أعمال الجوارح، ولا يعتبر إلَّا مع الإيمان والإيمان تصديق القلب، ولا يعتبر إلَّا مع التلفظ بالشهادتين. ونقل النووي في شرح مسلم اتفاق أهل السنة من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين على أن من آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه مع قدرته كان مخلداً في النار انتهى.
واعلم أنه يشترط في إسلام كل كافر التَّلَفُّظُ بالشهادتين لا الإتيان بلفظ: أشهد، فالأظهر الاكتفاء بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو مقتضى كلام الروضة، لكن الذي اعتمده بعض المتأخرين اشتراطه، وهو مقتضى كلام العباب فعليه لو قال: أعلم أو أسقطهما. فقال لا إله إلَّا الله محمد رسول الله لم يكن مسلماً. ولبعض أئمتنا رأي ثالث، وهو اشتراط أشهد أو مرادفها كأعلم، فينبغي لكل من يسلم الاحتياط بأن يقول: أشهد أن لا إله إلَّا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ومعنى أشهد أعلم وأبين، ويشترط ترتيبهما فلا يصحّ الإيمان بالنبي قبل الإيمان بالله، لا الموالاة بينهما ولا العربية وإن أحسنها، لكن يشترط فهم معنى ما تلفظ به، وهو أنه لا معبود بحق في الوجود إلا الله المنفرد بالألوهية، وأن يزيد المشرك: كفرت بما كنت أشركت به، وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام، فلا يصير المشرك مؤمناً حتى يضم إلى الشهادتين ذلك، كما في الروضة والعباب، وقيل: لا يجب زيادة ذلك.(1/4)
واعلم أن الإيمان بالله اعتقاد أنه واحد لا نظير له في ذاته وصفاته ولا شريك له في الألوهية وهي استحقاق العبادة، وأنه قديم لا ابتداء لوجوده، وباقٍ لا انتهاء لأبديته، وبالملائكة اعتقاد أنهم مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون صادقون فيما أخبروا به، وبالكتب اعتقاد أنها كلام الله الأزلي القائم بذاته المنزه عن الحرف والصوت، وأن كل ما تضمنته حق، وأن الله تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظ حادثة في ألواح أو على لسان الملك، وبالرسل اعتقاد أن الله أرسلهم إلى الخلق ونزههم عن كل وخيمة ونقص، فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوّة وبعدها، وباليوم الآخر، وهو من الموت إلى آخر ما يقع اعتقاد وجوده، وما اشتمل عليه من سؤال الملكين ونعيم القبر أو عذابه، والبعث والجزاء والحساب والميزان، والصراط والجنة والنار، وبالقدر اعتقاد أن ما قدّره الله في الأزل لا بد من وقوعه، وما لم يقدره يستحيل وقوعه، وأنه تعالى قدر الخير والشرّ قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره(1/5)
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال رسول الله: "جَدِّدُوا إيْمَانَكُمْ" قيل: قيل وكيف نُجَدِّدُ إيمانَنَا يا رَسولَ الله؟ قال: "أكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إله إلا الله". والشيخان عن عثمان بن مالك "إنَّ الله قَدْ ححَرَّمَ عَلى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله إلَّا الله يَبْتَغِي بِذلِكَ وَجْهَ الله". وابن عساكر عن عليّ رضي الله عنه عن النبي: "حَدَّثَنِي جبْرِيلُ، قَالَ: يَقُولُ الله تَعالى: لا إله إلَّا الله حِصْنِي فَمَنْ دَخَلَهُ أَمِنَ مِنْ عَذَابِي". والطبراني عن أبي الدرداء: "لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ لا إله إلَّا الله مائة مرة إلا بَعثَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ولم يرفَعْ لأحَدٍ يَوْمَئِذٍ عَملٌ أفْضَلُ مِنْ عَمَلِهِ إلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ أوْ زَادَ". وابن ماجه عن أم هانىء: "لا إله إلَّا الله لا يسبقها عمل ولا تترك ذنباً" والترمذي والنسائي عن جابر: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إله إلَّا الله، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لله". والنسائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي. قال: "قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا رَبُّ عَلِّمني شَيْئاً أذْكُرُكَ بِهِ، فَقَالَ قُلْ لا إلهَ إلَّا الله. فَقَالَ يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هذا إنَّما أُرِيدُ شَيْئاً تَخصُّنِي بِهِ، فَقَالَ يَا مُوسَى لَو أنَّ السمواتِ السَّبْعَ وعامرهنَّ غيري والأرضين السَّبْعَ جُعِلَتْ في كفةٍ ولا إله إلا الله في كفةٍ لَمَالَتْ بهنّ لا إله إلا الله".(1/6)
وأبو يعلى عن أبي بكر رضي الله عنه وعن ذريّته "عَلَيْكُمْ بلا إله إلا الله وَالاسْتِغْفَارِ وَأَكْثِرُوا مِنْهُما فَإِنَّ إبْلِيسَ قال: أُهْلِكَتِ النَّاسُ بالذُّنُوبِ وَأَهْلَكونِي بِلا إله إلَّا الله والاسْتِغْفَار، فَلمّا رَأَيْتُ ذلِكَ أَهْلَكْتُهُم بالأَهْوَاءِ وَهُمْ يَحْسبُونَ أنَّهُمْ مُهْتَدُونَ". وابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "حَضَرَ مِلِكُ الْمَوْتِ رَجُلاً يَمُوتُ فَشَقَّ أَعْضَاءَهُ فَلَم يَجِدْ عَمَلاً خَيراً. ثُمَّ شَقَّ قَلْبَهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ خَيْراً فَفَكَّ لَحييْهِ فوجدَ طرفَ لِسانِهِ لاصِقاً بحنكِهِ يَقولُ: لا إله إلَّا الله فَغُفِرَ لَهُ بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ". وأبو داود وأحمد عن معاذ: "مَنْ كَانَ آخرُ كلامِهِ لا إله إلا الله دَخَلَ الجَنَّةَ" نسأل الله الكريم الودود أن يختم كلامنا بكلمة التوحيد.(1/7)
وحكى إمامنا محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قال: رأيت بمكة نصرانياً يدعى بالأسقف، وهو يطوف بالكعبة، فقلت له: ما الذي رغبك عن دين آبائك؟ فقال: بدلت خيراً منه، قلت: فكيف كان ذلك؟ فحكى لي أنه ركب البحر. قال: فلما توسطنا فيه انكسرت المركب، فسلمت على لوح، فما زالت الأمواج تدافعني حتى رمتني في جزيرة من جزائر البحر فيها أشجار كثيرة، ولها أثمار أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وفيها نهر جارٍ عذب. قال: فقلت الحمد لله على ذلك آكل من هذا الثمر، وأشرب من هذا النهر حتى يأتي الله تعالى بالفرج، فلما ذهب النهار وجاء الليل خفت على نفسي من الدوابِّ، فعلوت شجرة ونمت على غصن، فلما كان في وسط الليل، وإذا بدابة على وجه الماء تسبِّح الله تعالى بلسان فصيح: لا إله إلا الله الغفار،محمد رسول الله النبي المختار.فلما وصلت الدابة إلى البرّ إذا رأسها رأس نعامة ووجهها وجه إنسان، وقوائمها قوائم بعير، وذنبها ذنب سمكة، فخفت على نفسي الهلكة، فنزلت من الشجرة ووليت هارباً، فالتفتت إليّ وقالت: قف وإلا هلكت، فوقفت فقالت لي: ما دينك؟ فقلت النصرانية. فقالت: ويحك يا خاسر ارجع إلى الحنيفية. فإنك قد حللت بفناء قوم من مؤمني الجنّ لا ينجو منهم إلا مسلم، فقلت: وكيف الإسلام؟ قالت: تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فقلتها، ثم قالت الدابة: تريد المقام هنا أم الرجوع إلى أهلك؟ فقلت الرجوع إلى أهلي، فقالت: امكث مكانك حتى يجتاز بك مركب، فمكثت مكاني ونزلت الدابة في البحر، فما غابت عن عيني حتى مرّ مركب وركاب، فأشرت إليهم فحملوني فإذا في المركب اثنا عشر رجلاً كلهم نصارى، فأخبرتهم خبري وقصصت عليهم قصتي فأسلموا كلهم.(1/8)
وحكى الشيخ عبد الله اليافعي رحمه الله في كتابه (روض الرياحين): أنه كان في الأمم الماضية ملك تمرّد على ربه فغزاه المسلمون، فأخذوه أسيراً فقالوا: بأيّ قتلة نقتله فاجتمع رأيهم على أن يجعلوا له قمقماً عظيماً ويجعلوه فيه، وتوقد تحته النار، ولا يقتلوه حتى يذيقوه طعم العذاب، ففعلوا ذلك به،فجعل يدعو آلهته واحداً بعد واحد: يا فلان إنما كنت أعبدك أنقذني مما أنا فيه، فلما رأى الآلهة لا تغني عنه شيئاً رفع رأسه إلى السماء وقال: لا إله إلَّا الله، ودعا مخلصاً فَصَبَّ الله عَلَيْهِ مَشْعَبَ ماءٍ من السماء فاطفأ تلك النار، وجاءت ريح فاحتملت ذلك القمقم، وجعلت تدور به بين السماء والأرض، وهو يقول: لا إله إلا الله فقذفته إلى قوم لا يعبدون الله عزّ وجلّ، وهو يقول: لا إله إلا الله فاستخرجوه وقالوا: ويحك مالك؟ فقال أنا ملك بني فلان كان من أمري وخبري كيت كيت، وقصّ عليهم القصة فآمنوا.
وحكى أيضاً فيه عن الشيخ أبي زيد القرطبي قال: سمعت في بعض الآثار أن من قال: لا إله إلا الله سبعين ألف مرة كانت له فداء من النار، فعملت على ذلك رجاء بركة الوعد فعملت منها لأهلي وعملت منها أعمالاً ادخرتها لنفسي وكان إذ ذاك يبيت معنا شاب يقال إنه يكاشف في بعض الأوقات بالجنة والنار، وكانت الجماعة ترى له فضلاً على صغر سنه، وكان في قلبي منه شيء، فاتفق أن استدعانا بعض الإخوان إلى منزله، فنحن نتناول الطعام والشاب معنا إذ صاح صيحة منكرة، واجتمع في نفسه وهو يقول: يا عم هذه أمي في النار، وهو يصيح بصياح عظيم لا يشك من سمعه أنه عن أمر، فلما رأيت ما به من الانزعاج قلت في نفسي اليوم أجرب صدقه فألهمني الله السبعين ألفاً، ولم يطلع على ذلك أحد إلا الله، فقلت في نفسي: الأثر حق، والذين رووه صادقون: اللهم إن السبعين ألفاً فداء هذه المرأة أمّ هذا الشاب، فما استتمت الخاطر في نفسي إلا أن قال: يا عمّ ها هي أخرجت الحمد لله.
((1/9)
فصل): في الردة. هي أفحش أنواع الكفر. قال الله تعالى: {إنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِك بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (سورة النساء: 116) وقال تعالى: {إنَّهُ مَنْ يُشْرِك بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأَوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (سورة المائدة:72) - وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أبي الدرداء. قال: "أوصاني خليلي رسول الله أن لا تُشْرِكَ بِالله شَيْئاً وَإِنْ قُطِعْتَ أَوْ حُرِقْتَ، وَلا تَتْرك صَلاةً مَكْتُوبَةً مُتَعمِّداً، فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّداً فَقد بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلا تَشَرَبِ الخَمْرَ فإنَّهُ مفْتَاحُ كُلِّ شَرَ والطبراني: "مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ وَلا يَقْبَلُ الله تَوْبَةَ عَبْدٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلامِهِ" أي ما دام مصرّاً على كفره. والشافعي والبيهقي: "مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فاضْرِبُوا عُنقَهُ" أعاذنا الله منها بمنه وكرمه.(1/10)
واعلم أن من أنواعها: أن يعزم مكلف مختار على الكفر في زمن قريب أو بعيد، أو يتردد فيه، أو يعلقه باللسان أو القلب على شيء ولو محالاً عقلياً فيكفر حالاً، أو يعتقد ما يوجبه أو يفعله، أو يتلفظ بما يدل عليه مع اعتقاد أو عناد أو استهزاء: كأن يعتقد قدم العالم أو الروح أو حدوث الصانع، أو ينفي ما هو ثابت لله تعالى بالإجماع: كالعلم والقدرة، أو يثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كاللون، أو يعتقد وجوب غير واجب كصلاة سادسة وصوم غير رمضان، أو يشك في تكفير اليهود والنصارى، وكأن يسجد لمخلوق كصنم وشمس، أو يمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها، أو يلقي ورقة فيها شيء من القرآن أو العلم الشرعي أو اسم الله تعالى أو اسم نبي أو ملك في مستقذر، ولو طاهراً كبزاق أو مخاط أو يلطخ ذلك، أو مسجداً بنجس ولو معفوّاً عنه، وكأن ينكر نبوّة نبي أُجمع عليها، أو إنزال كتاب كذلك: كالتوراة والإنجيل وزبور ماود وصحف إبراهيم أو آية من القرآن مجمعاً عليها كالمعوَّذتين، أو ينكر وجوب واجب، أو ندب مندوب أو تحريم حرام، أو تحليل حلال أجمع عليها، وعلم من الدين ضرورة كركعة من إحدى المكتوبات، وصوم رمضان، وكالرواتب وصلاة العيد، وكشرب الخمر، والزنى واللواط ووطء الحائض، وإيذاء مسلم، وأخذ مكس وربا ورشوة، وصلاة بلا وضوء، وكالبيع والنكاح أو ينكر إعجاز القرآن، أو صحبة أبي بكر رضي الله عنه، أو البعث أو الجنة أو النار، أو كأن يكذِّب نبياً، أو يستخف به أو بملك، أو يسبهما ولو تعريضاً، أو يقذف عائشة رضي الله عنها أو يدّعي النبوّة أو يصدق مدعيها، وكأن يرضى بالكفر كإكراه مسلم عليه، أو إشارته عليه به، أو إشارته على كافر بأن لا يسلم، وإن لم يستشره، وكمنع تلقين كافر كلمة الإسلام إذا طلبه، واستمهاله منه ولو ساعة خلاف الدعاء، بنحو: لا رزقه الله الإيمان، أو سلبه عن فلان المسلم إن أراد تشديد الأمر لا الرضا به، وكأن يفضل الوليّ على النبي، أو(1/11)
يجوّز بعثة نبيّ بعد نبينا، وكأن يقول إنه رأى الله عياناً في الدنيا، أو كلمه شفاهاً، أو أن الله يحلّ في صورة حسنة، أو أنه يطعمه ويسقيه، أو أسقط عنه التمييز بين الحلال والحرام، أو أن العبد يصل إلى الله من غير طريق العبودية، أو أنه وصل رتبة سقط عنه التكليف بها. وكذا يكفر من سخر باسم الله تعالى أو نبيه أو بأمره أو نهيه أو بوعده، أو وعيده أو صغَّر اسم الله أو وصفه كالله مليّ، أو غيَّر شيئاً من القرآن، أو زاد كلمة فيه معتقداً أنها منه، أو بسمل عند شرب خمر أو زنى استخفافاً باسم الله، أو قال: لو أمرني الله أو رسوله بكذا لم أفعله، أو أنه لو أعطاني الجنة ما دخلتها استخفافاً أو عناداً أو: لو آخدني بترك الصلاة مع ما بي من الشدّة والمرض ظلمني أو: لو شهد عندي نبيّ أو ملك ما صدقته أو قال: المؤذن يكذب أو صوته كالجرس، وأراد تشبيهه بناقوس الكفرة، أو الاستخفاف بالأذان ومن قال: مستخفاً: شبعت من القرآن أو الصلاة أو الذكر، أو لا أخاف القيامة، أو أيّ شيء: المحشر أو جهنم، أو أيّ شيء عملت، وقد ارتكب معصية، أو أيّ شيء أعمل بمجلس العلم، وقد أمر بحضوره أو قصعة ثريد خير من العلم، أو لعنة الله على كل عالم إن لم يرد الاستغراق، وإلا لم يشترط استخفاف لشموله الأنبياء والملائكة، أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا، أو يلعبوا استخفافاً، أو ألقى فتوى عالم، أو قال: أيّ شيء هذا الشرع وقصد الاستخفاف.(1/12)
ومن تمنى كفراً ثم إسلاماً حتى يعطى دراهم مثلاً، أو أن لا يحرم الله ما لم يكن حلالاً في زمن قط كالزنى والظلم والقتل، أو نسب الله إلى الجور في التحريم، أو قال في المكس ونحوه: إنه حق السلطان معتقداً أنه حق، ومن لبس زيّ كافر ميلاً لدينه، أو ضلل الأمة، أو سبّ الشيخين أو الحسن والحسين، ومن قيل له: ما الإيمان؟ فقال: لا أدري استخفافاً، أو، ألست مسلماً؟ فقال: لا عمداً أو لم تأمر بالمعروف؛ فقال: ما لي بهذا الفضول، أو قلم أظفارك فهو سنة، فقال: استهزاء بها لا أفعل، وإن كان سنة ومن قال لمحوقل: الحوقلة لا تغني من جوع، أو لمن شمت كبيراً بيرحمك الله: لا تقل هكذا، قاصداً أنه غني عن الرحمة أو أجلّ من أن يقال له ذلك أو لمن فعل قبيحاً شرعاً كقتل السارق، وضرب المسلم ظلماً أحسنت، أو لزوجته أنت أحب إليّ من الله ورسوله، وأراد محبة التعظيم لا الميل، أو لمسلم: يا كافر بلا تأويل، أو: دع العبادات الظاهرة الشأن في عمل الأسرار؛ ومن قال إنه يوحى إليه، وإن لم يدع نبوّة، أو أنه يدخل الجنة، ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور قبل موته، أو أن النبيوة مكتسبة، أو أن مرتبتها تنال بصفاء القلب، أو أن صدق الأنبياء فيما قالوه نجونا، أو الله يعلم أني فعلت كذا، وهو كاذب فيه، أو مطرنا بنجم كذا مريداً أن للنجم تأثيراً فيه؛ ومن قال إن نبينا محمداً كان أسود، أو ليس بقرشي أو عربي أو إنسي أو لا أدري، أهو الذي بعث بمكة أو مات بالمدينة، أعاذنا الله من الكفر وحمانا مما يجرّ إليه.(1/13)
وروى مسلم عن صهيب قال: قال رسول الله: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي كَبِرْتُ فَابْعَثْ إلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمُهُ السِّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ وَكَانَ فِي طَرِيِقِهِ إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كَلامِهِ، وَكَانَ إذَا أتَى السَّاحِرُ مَرّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا أتَى السَّاحِرُ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذلِكَ إلىَ الرَّاهِبِ، فَقَالَ إذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإذا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذلِكَ إذْ أَتَى عَلَى دَابَةٍ عَظِيمَةٍ قَدَ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَال: اليَوْمَ اعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمُ الرَّاهِبُ أَفْضَل؟ فَأَخَذَ حَجَراً فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِهِ الدَّابَّةِ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ فَرَمَاهَا فَقَتَلَها وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، وإنِ ابْتُلِيتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الغُلامُ يُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِر الأدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسُ المَلِكِ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ إنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ إنِّي لا أَشْفِي أَحَداً، إنَّمَا يَشْفِي الله، فَإِنْ آمَنْتَ بِالله دَعَوْتُ الله فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِالله فَشَفَاهُ الله، فَأَتَى المَلِكَ فَجَلَسَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ. فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي.(1/14)
قَالَ أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ رَبِّي وَرَبُّكَ الله، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ فَجِيءَ بِالغُلامِ. فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِىءُ بِهِ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إنِّي لا أَشْفِي أَحَداً إنَّما يَشْفِي الله تَعَالَى، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبهُ حَتَّى دَلَ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بالرَّاهِبِ فَقِيلَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى: فَدَعا بِالمِنْشَارِ، فَوُضِعَ المِنْشَارُ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ المَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوُضِعَ المِنْشَارُ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالغُلامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصحَابِهِ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إلَى جبل كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دَينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمُ الجَبَلُ، فَسَقطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ ما فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ الله فَدَفَعَهُ إلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قرقورٍ وَتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإِنْ رَجِعَ عَنْ دِينِهِ، وإلَّا فَاقْذِفُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فانكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ.(1/15)
فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ الله، فَقَالَ لِلْمَلِكِ إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلِبُنِي عَلى جِذْعٍ؛ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ القَوْسِ؛ ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ الله رَبَّ الغُلامِ؛ ثُمَّ ارْم فَإِنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ. ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ القَوْسِ؛ ثُمَّ قَالَ بِسْمِ الله رَبِّ الغُلام، ثُمَّ رَمَاه فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَّنَا بِرَبِّ الغُلامِ، فَأَتَى المَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُهُ قَدْ وَالله نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ فأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأُضْرِمَ فِيها النِّيرَانُ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتقَاعَسَتْ فَقَالَ الغُلام: يا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ".(1/16)
وحكى ابن الجوزي عن أبي علي البربري قال: "إنَّ ثَلاثَةَ إخوةٍ من الشّام كانوا يغزون وكانوا فرساناً شجعاناً، فأسرهم الروم مرة. فقال الملك: إني أجعل فيكم الملك، وأزوجكم بناتي وتدخلون في النصرانية، فأبوا وقالوا: يا محمداه، فأمر بثلاث قدور فصبَّ فيها الزيت، ثم أوقد تحتها النار ثلاثة أيام يُعْرَضُونَ في كلِّ يوم على تلك القدور، ويُدْعَوْنَ إلى النصرانية، فيأبُونَ فألقى الأكبر في القدر، ثم الثاني ثم أدنى الأصغر، فجعل يفتنه عن دينه بكل أمر، فقام إليه علج فقال: أيها الملك أنا أفتنه عن دينه قال: بماذا؟ قال: قد علمت أن العرب أسرع شيء إلى النساء، وليس في الروم أجمل من بنتي فادفعه إليّ حتى أخليه معها، فإنها ستفتنه، فضرب له أجلاً أربعين يوماً، ودفعه إليه فجاء به، فأدخله مع ابنته وأخبرها بالأمر فقالت له: دعه فقد كفيتك أمره، فأقام معها نهاره صائم وليله قائم حتى مضى أكثر الأجل، فقال العلج لابنته: ما صنعت؟ قالت: ما صنعت شيئاً هذا رجل فقد أخويه في هذه البلدة، فأخاف أن يكون امتناعه من أجلهما كلما رأى آثارهما، ولكن استزد الملك في الأجل، وانفني وإياه إلى بلد غير هذا، فزاده أياماً فأخرجها إلى قرية أخرى، فمكث على ذلك أياماً صائم نهاره، وقائم الليل حتى إذا بقي من الأجل أيام قالت له الجارية ليلة: يا هذا إني أراك تقدس رباً عظيماً، وإني قد دخلت معك في دينك، وتركت دين آبائي، قال لها فكيف الحيلة في الهرب؟ قالت: أنا أحتال لك، وجاءته بدابة فركبا، وكانا يسيران الليل ويكمنان النهار، فبينما هما يسيران ليلة إذ سمعا وقع خيل، فإذا بأخويه ومعهما ملائكة رسلاً إليه، فسلم عليهما وسألهما عن حالهما فقالا: ما كانت إلا الغطسة التي رأيت حتى خرجنا في الفردوس، وإن الله أرسلنا لنشهد تزويجك بهذه الفتاة، فزوّجوه إياها ورجعوا، وخرج إلى بلاد الشام فأقام معها،، ثبتنا الله بالقول الثابت وحمانا من الكفر والنفاق.
[(1/17)
تنبيهات]: أحدها أن من ارتكب مكفراً يحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها وينفسخ النكاح حالاً ولو بعد الدخول عند جماعة من الأئمة: كأبي حنيفة بل عند إمامنا الشافعي رضي الله عنهما أن ثواب العمل يحبط، لكن لا يحبط نفس العمل: أي من حيث إنه لا يجب القضاء، وإن النكاح ينفسخ حالاً إن كان قبل الدخول، وبعد العدة إن كان بعده. الثاني: أنه يجب على الإمام أو نائبه استتابته فوراً، ويحرم إمهاله فإن تاب قبل منه على الأصح، وإلا فيقتله بضرب عنقه لا بنحو إحراق، ولا يدفن في مقبرة المسلمين. وثالثها: أنه يشترط في صحة توبته النطق بالشهادتين، فلا يحصل إسلامه ككافر أصليَ إلا بذلك ويزيد حتماً من كفر بإنكار معلوم من الدين بالضرورة اعترافه بما كفر بإنكاره، وندب لكل مرتد الاستغفار.
{باب العلم}
قال الله تعالى: {يَرْفَعُ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوْتُوا العِلْمَ درجاتٍ} (سورة المجادلة: 11) أي ويرفع درجات العلماء منهم خاصة، وقال الله عزّ وجلّ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (سورة الزمر: 9) أي لا يستويان.(1/18)
وأخرج ابن عبد البر عن أنس قال: قال رسول الله: "اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ، فَإِنَّ طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إنّ المَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضَا بِما يَطْلُبُ". والديلمي عن ابن عباس: "طَلَبُ العِلْمِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَطَلَبُ العِلْمِ يَوْماً خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ". والترمذي عن سَنْجَرَةَ: "مَنْ طَلَبَ العِلْمَ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى" والشيرازي عن عائشة رضي الله عنها: "مَن انْتَقَلَ ليَتَعَلمَ عِلْمَاً غُفِرَ لَهْ قَبْلَ أَنْ يَخْطُو". وابن عساكر والديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "خُيِّرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَ المالِ وَالمُلْكِ والعِلْمِ فَاخْتَارَ العِلْمَ فَأُعْطِيَ المُلْكَ وَالمالَ لاخْتِيَارِهِ العِلْمَ". والطبراني عن أبي أمامة: "أيُّمَا نَاشِىءٍ نَشَأَ فِي طَلَبِ العِلْمِ وَالعِبَادَةِ حَتَّى يَكْبرَ أَعْطَاهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ثَوَابَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَدِّيقاً". وابن النجار عن أنس: "العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الحِيتَانُ في البَحْرِ إذا ماتوا يَوْمَ القيامَةِ". والبخاري عن معاوية: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة: "مَا عُبِدَ الله بِشَيْءً أَفْضَلَ مِنَ الفِقِه فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ هذا الدِّينِ الفِقْهُ". وابن النجار عن محمد بن علي: "رَكْعَتانِ مِنْ عالِمٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً مِنْ غَيْرِ عَالِمِ".(1/19)
وأبو نعيم والخطيب عن أبي هريرة: "خِيَارُ أُمّتِي عُلَمَاؤُهَا وَخَيْرُ عُلَمائِهَا رُحَمَاؤُها، ألا وَإِنَّ الله تَعَالَى لَيَغْفِرُ لِلْعَالِمِ أَرْبَعِينَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يَغْفِرَ لِلْجَاهِلِ ذَنْباً وَاحِداً. ألا وَإِنَّ العَالِمَ الرَّحِيمَ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَإِنَّ نورَهُ قَدْ أَضَاءَ يَمْشِي فِيهِ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، كَمَا يُضِيءُ الكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ". والديلمي عن ابن عباس: "إذَا مَاتَ العَالِمُ صَوَّرَ الله عِلْمَهُ فِي قَبْرِهِ يُؤْنِسُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَدْرَأُ عَنْهُ هَوَامّ الأرْضِ". وأبو الشيخ والديلمي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "إذَا اجْتَمَعَ الْعَالِمُ وَالعَابِدُ عَلَى الصِّرَاطِ، قِيلَ لِلْعَابِدِ: أدْخُلِ الْجَنَّةَ وَتَنْعَّمْ بِعِبَادَتِكَ، وَقِيلَ لِلْعَالِمِ قِفْ هُنَا ففَاشْفَعْ لِمَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ لا تَشْفَعُ لأحَدٍ إلَّا شَفَعْتَ فَقَامَ مَقَامَ الأنْبِيَاءِ". والخطيب عن عثمان رضي الله عنه: "أوّلُ مَنْ يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العُلَمَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ". وعن أنس: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ كَفَضْل النَّبِيِّ عَلَى أُمَّتِهِ". وعن جابر: "أَكْرِمُوا العُلَمَاءَ فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ فَمَنْ أَكْرَمَهُمْ فَقَدْ أَكْرَمَ الله وَرَسُولَهُ". وابن عساكر عن أبي سعيد: "مَنْ عَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله أو باباً مِنْ عِلْمٍ أنْمَى الله أَجْرَهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". وابن ماجه عن معاذ بن أنس: "مَنْ عَلَّمَ عِلْماً فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ وَلا يَنَقْصُ مِنْ أَجْرِ العَامِلِ". وأحمد عن معاذ: "لَأنَ يَهْدِي الله وبِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها".(1/20)
وابن النجار عن ابن عباس: "الغُدوُّ والرّوَاحُ إلى المَسَاجِدِ فِي تَعْلِيمِ العِلْمِ أَفْضَلُ عِنْدَ الله مِنَ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ الله". والطبراني عن ابن مسعود: "أَيُّمَا رَجُلٌ آتَاهُ عِلْماً فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نَارٍ". والنسائي عن أبي هريرة: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مما يَبْتَغِي بِهِ وَجهَ الله لا يَتَعَلَّمهُ إلا لِيُصِيبَ غَرَضاً مِنَ الدُّنْيا لَمَ يَجِدْ عُرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" يعني ريحها. وابن ماجه عنه: "مَنْ تَعَلَّمَ العِلْمَ ليُباهي بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ الله جَهَنَّمَ". وابن أبي الدنيا والبيهقي عن الحسن مرسلاً: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إلَّا الله سَائِلُهُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ ما أرادَ بها" قال: فكانَ مالك بن دينار إذا حدّث بهذا بكى، ثم يقول: أتحسبون عيني تقرّ بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به، فأقول: أنت الشهيد على قلبي لو لم أعلم أنه أحبّ إليك لم أقرأ على اثنين أبداً.(1/21)
وقال شيخنا شيخ مشايخ الإسلام والمسلمين قطب الزمان شمس دائرة العرفان، لسان الملكوت القدسي في عالم التمكين زين العابدين أبو بكر محمد بن أبي الحسن البكري الصدِّيقي رضي الله عنه فيما أوصاني به: اجعل الإخلاص فيما تفيده وتستفيده شعارك، والأدب مع الله فيما تعلمه وتتعلمه دثارك، ولا تبخل على طالب بتعليم ما علمه الله إياك متحرّياً فيه تحرّي من يعلم أن الله يراه انتهى. رزقنا الله الإخلاص في طلب العلم ونشره، وفي جميع الطاعات. وفي الغاية للحصني قال السيد الجليل ضرار بن عمرو: إنّ قوماً تركوا العلم ومجالسة أهل العلم، واتخذوا محاريب وصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه خالفوا فهلكوا، والذي لا إله غيره ما عمل عامل على جهل إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وصفهم بالهلاك.
[تنبيه]: إنّ أول واجب على الآباء للأولاد تعليمهم أن النبيّ بعث بمكة ومات ودفن بالمدينة.
اعلم أن أوّل ما يلزم المكلف تعلم الشهادتين ومعناهما وجزم اعتقاده، ثم تعلم ظواهر علم التوحيد وصفات الله تعالى، وإن لم يكن عن الدليل، ثم ما يحتاج إليه لإقامة فرائض الدين كأركان الصلاة والصوم وشروطهما، والزكاة إن ملك مالاً نصاباً، ولو كان هناك ساعٍ، والحجّ إن كان مستطيعاً له، ثم علم الأحكام التي يكثر وقوعها إن أراد أن يباشر عقداً بيعاً كان أو غيره كالأركان والشروط، ولا سيما في الرَّبَويَّات لمن خاض فيها، وكواجبات القسم بين الزوجات والقيام بالمماليك، ويجب أيضاً تعلم دواء أمراض القلب: كالحسد والرياء والعجب والكبر واعتقاد ما ورد به الكتاب والسنة.
{باب الوضوء}(1/22)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله: "لا يَقْبَلُ الله صَلاة أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ". وأبو الشيخ عن ابن مسعود: "أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله تَعَالَى يُضْرَبُ فِي قَبْرِهِ مائَة جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً واحدةً، فَامَتَلأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ ناراً، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ قَالَ: عَلامَ جَلَدْتُمُونِي؟ قَالُوا: إنَّكَ صَلَّيْتَ صَلاةً بغير طهور، ومَرَرْتَ بِمَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ". والبيهقي عن سلمان: "إذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ هذِهِ الشَّجَرَةِ". ومسلم عن أبي هريرة "إذا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ أَوْ المُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الماءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطر الماءِ، فَإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْها يَدَاهُ مَعَ الماءِ أَوْ مَعَ آخر قَطَرِ المَاءِ، فإذا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَ مِنْ رَجُلَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاهُ مَعَ الماءِ أَوْ مَعَ آخَرِ قَطرِ الماءِ حَتَّى يَخْرُج نَقِياً مِنَ الذُّنوبِ". وأبو داود عن ابن عمر: "مَنْ تَوضَأَعَلى طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسناتٍ".
وحكى الغزالي: أنه رئي بعض الموتى في المنام فقيل له: كيف حالك؟ فقال: صليت يوماً بلا وضوء، فوُكِّل عليّ ذئب يروّعني في قبري فحالي معه في أسوإ حال.(1/23)
وحكى أنه رمدت عين الجنيد مرّة. فقال الطبيب: إن ترد عينيك فلا توصل إليهما ماء، فلما ذهب الطبيب توضأ وصلى ونام فبرئت عينه فسمع هاتفاً يقول: ترك الجنيد عينه في رضاي. فلو طلب مني الجهنميين بذلك العزم لأجبت. فلما جاء الطبيب ورأى العين صحيحة قال: ما فعلت؟ قال: توضأت وصليت، وكان الطبيب نصرانياً، فآمن في الحال. وقال: هذا علاج الخالق لا المخلوق وكنت أنا أرمد وكنت أنت الطبيب.
وحكى اليافعي عن سهل بن عبد الله قال: أول ما رأيت من العجائب والكرامات أني خرجت يوماً إلى موضع خالٍ، فطاب لي المقام فيه، ووجدت من قلبي ميلاً إلى الله عزّ وجلّ، وحضرت الصلاة وأردت الوضوء، وكانت عادتي من صباي تجديد الوضوء لكل صلاة، فكأني اغتممت لفقد الماء، فبينما أنا كذلك، وإذا دبّ يمشي على رجليه كأنه إنسان معه جرّة خضراء قد أمسك بيده عليها، فلما رأيته من بعيد توهمت أنه آدمي حتى دنا مني وسلم عليّ، ووضع الجرّة بين يديّ فجاءني أعراض العلم. فقلت: الجرة والماء من أين هو؟ فنطق الدبّ وقال: يا سهل إنا قوم من الوحوش قد انقطعنا إلى الله تعالى بعزم المحبة والتوكل، فبينما نحن نتكلم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إن سهلاً يريد ماء لتجديد الوضوء، فوضعت هذه الجرَّة بيدي، وإذا بجنبي ملكان فدنوت منهما وصبا فيها هذا الماء من الهواء، وأنا أسمع خرير الماء. قال سهل: فغشي عليّ فلما أفقت إذا بالجرّة موضوعة، ولا أعلم بالدبّ إلى أين ذهب، وأنا متحسر إذ لم أكلمه وتوضأت، فلما فرغت أردت أن أشرب منها فنوديت من الوادي: يا سهل لم يأذن لك في شرب هذا الماء بعد فبقيت الجرة تضطرب وأنا أنظر إليها فلا أدري أين ذهبت.
(فصل) في أحكام الوضوء. شروطه: ماء مطلق وظن أنه مطلق، وإسلام، وتمييز، وعلم فرضيته، وعدم ظن فرضه نفلاً وعدم حائل، ولا مغير للماء على العضو تحت ظفر، وكزعفران وصندل، وجري الماء عليه، ودخول وقت لدائم حدث.(1/24)
وفروضه: نية أداء فرض الوضوء، أو الطهارة لاستباحة الصلاة عند غسل أول جزء من الوجه. وغسل الوجه واليدين مع المرفقين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين والترتيب.
(فرع) لو شك في تطهير عضو قبل الفراغ من الوضوء طهره، وما بعده أو بعد الفراغ لم يؤثر.
وسننه: التسمية، قال رسول الله: "لا صَلاةَ لِمَنْ لا وُضُوءَ لَهُ وَلا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسمَ الله عَلَيْهِ" رواه أحمد وأبو داود، ثم غسل الكفين ثم السواك بكل خشن إلا لصائم بعد الزوال. قال رسول الله: "لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ" رواه مالك والشافعي. ثم المضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما لمفطر، وجمعهما بثلاث غرف والاستنشار ومسح كل الرأس والأذنين ظاهراً أو باطناً، وتخليل شعر كثيف من لحية، وعارض وأصابع اليدين بالتشبيك، والرجلين من أسفل بخنصر يده اليسرى.
قال رسول الله: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إذَا تَوضأْتَ فَخَلِّلْ لِحْيَتَكَ" رواه ابن أبي شيبة وقال: "خَلِّلُوا بَيْنَ أَصَابِعِكُمْ لا يُخَلِّل الله بَينها بالنَّارِ ثُمَّ قَالَ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" رواه الدارقطني، ودلك الأعضاء وأن يقول ثلاثاً: آخره مستقبلاً إلى القبلة رافعاً يديه وبصره إلى السماء ولو أعمى: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وسلم، وأن يقرأ إنا أنزلناه بعده كذلك.(1/25)
قال رسول الله: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لا إِله إلَّا الله وَحْدَهُ إِلى آخره، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّها شَاءَ" رواه مسلم. وقال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَقَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إني أَتُوبُ إلَيْكَ كُتِبَ في رَقَ ثُمَّ جُعِلَ في طَابِعٍ فَلَمْ يُكْسَرْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ" رواه الحاكم. وقال "مَنْ قَرَأَ سورةَ إنا أنزلناهُ فِي أثَرِ وضوئِهِ مَرَّةً كانَ من الصدِّيقينَ وَمَنْ قَرَأَها مَرَّتَيْنِ كُتِبَ فِي دِيوانِ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثلاثاً حَشَرَهُ الله مَعَ الأَنْبِياءِ" رواه الديلمي وتثليث كلّ والتوجه للقبلة في كلّ، وقرن النية بأوّل السنن المتقدمة على غسل الوجه ليثاب عليها والتلفظ بها سرّاً. وتعهد الغضون، وكذا الموق واللحاظ بالسبابة إذا لم يكن فيهما رمص يمنع وصول الماء إلى محله وإلا فوجب وأخذ ماء الوجه بكفيه معاً وعدم لطمه به والبداءة فيه بأعلاه وفي اليدين والرجلين بالأصابع، وإن صبّ عليه غيره، وفي الرأس بمقدمه، وإطالة الغرة والتحجيل.
قال رسول الله: "إنَّ أُمّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرَّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" رواه الشيخان. وقال: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المؤمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءِ" رواه مسلم، والتيامن والولاء وترك التكلم والاستعانة والتنشيف والنفض بلا حاجة، وتوقي الرشاش ووضع ما يغترف منه عن يمينه، وما يصبّ منه عن يساره، والشرب من فضل وضوئه والاجتهاد في إسباغ الوضوء.(1/26)
قال رسول الله: "لا يُسْبِغُ عَبْدٌ الْوُضُوءَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" ورشّ ماء بين إزاره بعده كبعد استنجاء. قال رسول الله: "أتَانِي جِبْرِيلُ فِي أَوَّلِ مَا أُوحِيَ إليَّ فَعَلَّمَنِي الوُضُوءَ، فَلَمَّا فَرَغَ الوُضُوءُ أَخَذَ غَرْفَةً مِنَ الماءِ فَنَضَحَ بِها فَرْجَه" رواه أحمد والحاكم لا مسح الرقبة ودعاء الأعضاء. أما حديثهما فموضوع أو شديد ضعفه فلا يعمل بهما.
(فرع) يقتصر حتماً على الواجب لضيق وقت عن إدراك الصلاة كلها فيه وإدراك جماعة أولى من التثليث، وسائر سنن الوضوء غير الدلك ما لم يرجِّ جماعة أخرى.
(ومكروهاته) الإسراف في الماء وتقديم اليسرى على اليمنى، والنقص عن الثلاثة والزيادة عليها من غير ماء موقوف، فمنه حرام قال رسول الله: "هكَذَا الوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هذا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ" رواه أبو داود.
وحكى الشيخ معين الدين حسن السجزي: أنه كان مع الشيخ أجل سري يوماً فحضر وقت الصلاة، فجدد الشيخ أجل سري الوضوء، وسها عن تخليل الأصابع، فهتف هاتف: يا أجل تدّعي محبة محمد، وتكون من أمته وتترك سنته، فحلف الشيخ أجل: لا أترك سنة من سننه عليه الصلاة والسلام من وقتنا هذا إلى وقت الموت. وقال الشيخ معين الدين: كنت إذا رأيت الشيخ أجل رأيته كأنه ينام، فسألته عنه فقال: أنا من ذلك الوقت الذي نسيت تخليل الأصابع إلى هذا الوقت في الحيرة، كيف ألاقي بهذا الوجه محمداً ؟
وحكي عن الفضيل بن عياض أنه نسي في الوضوء غسل اليد مرتين، فلما صلى ونام في تلك الليلة رأى النبي فقال: يا فضيل العجب منك إنك تترك في الوضوء سنتي. فانتبه الفضيل من هيبته وجدد الوضوء من أوله، ووظف على نفسه خمسمائة ركعة إلى سنة كفارة لذلك نفعنا الله به وبسائر الأولياء ورزقنا اتباعهم.
((1/27)
ونواقضه) تيقن خروج غير منيه ولو ريحاً من فرج، وغلبة على العقل لا بنوم ممكن مقعده، ومس فرج آدمي ببطن كفه، وتلاقي بشرتي ذكر وأنثى بكبر لا مع محرمية، ويحرم بالحدث صلاة وطواف وسجود ومسّ وحمل ما كتب فيه قرآن لدراسة لا مع تفسير، زاد عليه ولا قلب ورقه بعود إن لم ينفصل عليه، ويجب على نحو الولي منع غير مميز مصحفاً، ولوحاً فيه قرآن ولو بعض آية لا مميز لحاجته.
{باب الغسل}(1/28)
أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "إذَا الْتَقَى الخَتانَانِ وَغَابَتِ الحشفَةُ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ". والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَرَأَى بَلَلاً وَلَمْ يَرَ أنَّهُ احْتَلَمَ اغْتَسَلَ، وإذا رأى أنه احْتَلَمَ وَلَمْ يَرَ بَللاً فَلا غُسْلَ عَلَيْهِ" وسمويه عن أنس: "إذَا وَجَدَتِ المَرْأَةُ فِي المَنَامِ مَا يَجِدُ الرَّجْلُ فَلَتْغْتَسِلْ" والطبراني عن ابن عباس: "إنَّ المَلائِكَةَ لا تَحْضُرُ الجُنُبَ وَلا المُتَضَمِّخَ بِالخُلُوقِ حَتَّى يَغْتَسِلا" وأبو داود والنسائي: "لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بيتاً فيه صُورَةٌ ولا كَلْبٌ وَلا جُنُبٌ" وأحمد وأبو داود عن عليّ رضي الله عنه: "مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْها فَعَلَ بها كذا وكذا مِنَ النَّارِ" قال عليّ: فمن ثم عاديت شعر رأسي وكان يجزّ شعره. وابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة: "إنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جنابَةً فاغْسِلوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا البَشَرَةَ" وهما عن ابن عمر: "لا يَقْرَأُ الجُنُبُ وَالحَائِضُ شَيْئاً مِنَ القُرْآنِ" والنسائي عن عائشة رضي الله عنها: "وَجِّهُوا هذِهِ البيوتَ عَنِ المَسْجِدِ فإني لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلا جُنُبٍ" وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/29)
"من أتى حائضاً في فَرْجها أو امرأة في دُبُرِها أو كاهناً؛ فقد كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلى محمدٍ " والشيخان عن عائشة رضي الله عنها: "كانَ رسول الله إذَا كَانَ جُنُباً وَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وَضُوءَهُ لِلصَّلاةِ" ومسلم عن أبي سعيد الخدري: "إذَا أتى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَأْ بَيْنَهُمَا" والبزار عن ابن عباس: "إنَّ الله ينهاكم عن التَّعَرِّي فاسْتَحْيُوا مِنْ مَلائِكَةِ الله الَّذِينَ لا يُفَارِقُونَكُمْ إلَّا عِنْدَ ثلاثِ حَالاتٍ: الغائط والجَنابة والغُسْل، فإذا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالعرَاءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ أَوْ بجذمةِ حائطٍ أوْ ببعيره" وعبد الرزاق عن ابن جريح قال: بلغني "أنَّ النَّبيَّ خَرَجَ فإذا هو بأجير له يغتسلُ عارياً فقال: "لا أرَاكَ تَسْتَحِي مِنْ رَبِّكَ خُذْ إجَارَتَكَ لا حَاجَةَ لَنَا بِكَ".
وحكى أبان بن عبد الله البجلي: هلك جار لنا فشهدنا غسله وحمله إلى قبره، فإذا فيه شبيه بالهرّة فزجرناه فلم ينزجر، فضرب الحفار جبهته ببيرمه، فلم يبرح فتحوّلوا إلى قبر آخر، فلما ألحد فإذا هو فيه فصنعوا به مثل ما صنعوا، فلم يلتفت فقال القوم: إن هذا الأمر ما رأينا مثله فادفنوا صاحبكم فدفنوه؛ فلما سوّي عليه اللبن سمعنا قضقضة عظامه فذهب عمي وغيره إلى امرأته فقالوا: ما حال زوجك؟ وحدّثوها بما رأوا. فقالت كان لا يغتسل من الجنابة.
وحكى الغزالي: أنه رؤي رجل في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: دعني فإني لم أتمكن من غسل يوماً من الجنابة، فألبسني الله ثوباً من النار أتقلب فيه.(1/30)
وحكى اليافعي: أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام احتلم في ليلة باردة فأتى إلى الماء، وهو جامد فكسره واغتسل، وكادت روحه تخرج من شدّة البرد؛ ثم احتلم في ليلة ثانياً فأتى إلى الماء واغتسل، فغشي عليه فسمع ما يقال له: لأعوّضنك بها عزّ الدنيا والآخرة؛ أعزنا الله معه في الدارين.
(فصل): موجب الغسل. جنابة بخروج منيه أو دخول حشفة أو قدرها فرجاً وحيض ونفاس، ونحو ولادة وموت. وشروطه: ماء مطلق وعدم حائل ولا مغير للماء على العضو: كوسخ تحت ظفر وكزعفران وصندل وسدر؛ وجري الماء عليه. وفروضه: نية أداء فرض الغسل أو رفع نحو الجنابة، وتعميم ظاهر البدن حتى ما تحت القلفة من الأقلف بالماء.
(فرع) لا يجب تيقن عموم الماء، بل يكفي فيه كالوضوء غلبة الظن بالعموم. وسننه: تسمية؛ وإزالة قذر؛ ثم وضوء وتخليل، وبعهد غضون وموق ولحاظ، ودلك وتيامن، وتوجه للقبلة وترك استعانة في صبَ والشهادتان بعده وتثليب وولاء. ومكروهاته: إسراف في الماء وترك وضوء ومضمضة واستنشاق.
{باب فضل الصلاة المكتوبة}
قال الله تعالى: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنينَ كِتَاباً}(سورة النساء: 103) أي: مفروضاً - {مَوْقُوتاً} (سورة النساء: 103) أي مقدراً وقتها فلا تؤخر عنه وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} أي: الصلوات الخمس: {وَمن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} (سورة المنافقون: 9)(1/31)
وأخرج الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله: "أوَّلُ مَا افْتَرَضَ الله عَلَى أُمّتِي الصَّلَوَاتُ الخَمْسَ، وَأَوّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَأَوَّلُ مَا يَسأَلُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، فَمَنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيْئاً مِنْها يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: انْظُرُوا هَلُ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صَلاةٍ تُتِمُّونَ بِهَا ما نَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ وَانْظُرُوا فِي صِيَامِ عَبْدِي شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيئْاً مِنْهُ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صِيَامٍ تَتِمُّونَ بِهَا مَا نَقَصَ مِنَ الصِّيَامِ وَانْظُرُوا فِي زَكَاةِ عَبْدِي فَإِنْ كَانَ ضَيَّعَ شَيئاً مِنْهَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي نَافِلَةً مِنْ صَدَقَةٍ تُتِمُّونَ بِهَا مَا نَقَصَ مِنَ الزَّكَاةِ فَيُؤْخَذُ ذلِكَ عَلَى فَرَائِضِ الله وَذلِكَ بِرَحْمَةِ الله وَعدْلِهِ فَإِنْ وَجَدَ فَضْلاً وَضَعَ فِي ميزَانِهِ وَقِيلَ لَهُ ادْخُلِ الجَنَّةَ مَسْرُوراً وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ، أُمِرَتْ بِهِ الزَّبانِيَةُ تَأْخُذُهُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ يُقْذَفُ بِهِ فِي النَّارِ" ومسلم عن جابر: "مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ عَذْبٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا يُبْقَي ذلِكَ مِنَ الدَّنَسِ" وأحمد عن أبي ذرّ: "أنّ النبي خرج زمن الشتاء والورق يتهافت، فأخذ بغصنين من شجرة قال: فجعل ذلك يتهافت. قال: فقال: يا أبا ذرّ، فقلت: لبيك يا رسول الله فقال: إنَّ العَبْدَ المُسْلِمَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ الله، فَتَهَافَتَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَهَافَتُ هذا الوَرَقُ عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ".(1/32)
والطبراني والبيهقي عن ابن عمر: "إنَّ العَبْدُ إذَا قَامَ يُصَّلِّي أَتَى بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا فَوُضِعَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَعَاتِقَيْهِ فَكُلَّمَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ تَسَاقَطَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ" ومسلم عن عثمان رضي الله عنه: "ما مِنْ امرىءٍ مُسْلِمٍ يَحْضُرُهُ صلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسنُ وُضُوءَها وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إلَّا كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يَأْتِ كَبِيرةً، وَذلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ" والبيهقي عن أنس: "مَا مِنْ حَافِظَين يَرْفَعانِ إلى الله تعالى بَصَلاةٍ رَجُلٍ مَعَ صلاةٍ إلا قالَ اللَّهُ تعالى: أُشْهِدُكُمَا أَنِي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَهُمَا" وفي كتاب الزواجر لشيخنا خاتمة المحققين أحمد بن حجر الهيتمي رضي الله عنه قال بعضهم ورد في حديث: "مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلاةِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِخَمْسِ خِصالٍ يَرْفَعُ عَنْهُ ضِيقَ العَيْشِ، وَعَذَابَ القَبْرِ، ويعطيه اللَّهُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ويمرُّ عَلَى الصِّرَاطِ كَالبَرقِ، وَيَدَخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنْ تهَاوَنَ عَنِ الصَّلاةِ عاقبَهُ اللَّهُ بِخَمْس عَشَرَةَ عُقُوبَةً خَمْسَةٌ فِي الدُّنْيا وثَلاثَة عِنْدَ المَوْتِ، وَثَلاثَة فَي قَبْرِهِ، وَثَلاثَةٌ عِنْدَ خرُوجِهِ مِنَ القَبْرِ".
فَأمّا اللواتي في الدنيا: فالأولى ينزعُ البرَكة مِنْ عمرِهِ، والثانية يمحي سيما الصَّالحِينَ مِنْ وجهِهِ، وَالثَّالِثة كُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ لا يَأَجُرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، والرابعة لا يَرْفَعُ لَهُ دُعاء إلى السَّمَاءِ، والخامسة لَيْسَ لَهُ حَظُّ في دعاءِ الصَّالحين.(1/33)
وأما التي يُصيبُه عِنْدَ المَوْتِ فالأولى أنَّهُ يَموتُ ذَليلاً، والثانية يموتُ جَائعاً، والثالثة يَموتُ عَطْشان ولو سقي بحارَ الدُّنيَا ما روِيَ مِنْ عطشِهِ. وأما التي تصيبه في قبره: فالأولى يضيقُ عَلَيْهِ القَبْرُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ، والثانية يُوقَدُ عَلَيْهِ القَبْرُ ناراً يتقلبُ على الجَمْرِ ليلاً ونهاراً، والثالثة يُسَلَّطُ عَلَيْهِ في قبرِهِ ثُعْبَانٌ اسمُهُ الشُّجاعُ الأقْرَعُ عيناهُ من نار، وأظفارهُ مِنْ حَديدٍ كُلُّ ظُفْرٍ مَسِيرَة يَوْمٍ يُكَلِّمُ المَيتَ فيقول: أنَّا الشُّجَاعُ الأقْرَعُ وَصَوْتُهُ مِثْلُ الرَّعْدِ القاصِفِ يقول: أَمَرَنِي الله أَنْ أَضْرِبَكَ عَلَى تَضْييعِ صلاةِ الصُّبحِ إلى طلوعِ الشَّمْسِ، وَأَضْرِبَكَ عَلَى تَضْييعِ صَلاةِ الظُهْرِ إلى العَصْرِ، وأضْربَكَ على تضيِيعِ صَلاةِ العَصْرِ إلى المَغْرِبِ، وَأَضْربَكَ عَلى تَضْييعِ صَلاةِ المَغْرِبِ إلى العشَاء، وَأَضْربَكَ عَلى تَضيِيعِ صَلاةِ العَشَاءِ إلى الفَجْرِ، فَكُلَّمَا ضُرِبَ ضَرْبَةً يَغُوص في الأرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً فَلا يَزَالُ في الأرْضِ مُعَذَّباً إلى يَوْم القِيَامَةِ.(1/34)
وأما التِي تُصِيبُهُ عِنْدَ الخُرُوجِ مِنَ القَبْرِ في مَوْقِفِ القِيَامَةِ، فَشدّةُ الحِسَابِ وَسخطُ الرَّبِّ ودخُولُ النَّارِ" وفي رواية "فَإِنَّهُ يَأَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلى وَجْهِهِ ثَلاثَة أَسْطُرِ مَكْتُوبَاتٍ فِي السَّطْر الأوّلِ: يَا مُضَيعَ حَقِّ الله، والسطر الثاني: يا مخْصوصاً بِغَضَبِ الله، والسَّطر الثالث: ضَيَّعَكَ الله كَمَا ضَيَّعْتَ في الدُّنْيا حَقَّ الله، فَايأَس اليَوْمَ أَنْتَ مِنْ رَحْمَةِ الله" وروي "أنَّ فِي جَهَنّمَ وَادِياً يُقَالُ لَهُ لَمْلُم فِيهِ حَيَّاتٌ كُلُّ حَيَّةٍ بِثُخْنِ رَقْبَةِ البَعِيرِ طولَها مَسِيرَةُ شَهْرٍ، تَلْسَعُ تارِكَ الصَّلاةِ، فيغلي سَمُّها في جسمِهِ سبعينَ سَنَةً ثُمَّ يَتَهرّى لحْمُهُ" وروي أيضاً "إنَّ امرَأَةً مِنْ بِني إسْرَائِيلَ جَاءَتْ إلى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. فقالت: يا نبيَّ الله أذْنَبْتُ ذنباً عظِيماً وَقَدْ تُبْتُ إلى الله تَعَالَى، فَادْعِ الله أَنْ يَغْفِرَ لِيَ ذَنْبِي وَيَتُوب عَلَيّ. فقالَ لَها موسَى: وَمَا ذَنْبُكِ؟ قَالَتْ: يا نبيَّ الله زَنَيْتُ وولدْتُ ولداً وَقَتَلْتُهُ. فقال موسى عليه السَّلامُ: اخْرُجي يا فَاجِرةُ لئَلا تَنْزِلَ نارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتحرقنَا بِشُؤْمِكِ، فَخَرَجَتْ مِنْ عِنْدِهِ مُنْكَسِرَةَ القَلْبِ، فَنَزِلَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وقال: يا مُوسَى الرَّبُّ تَعَالَى يَقُولُ لَكَ: لمَ رَدَدْتَ التَّائِبَةَ يا موسَى أَمَا وَجَدْت شَرَّاً مِنْها؟ قالَ موسَى: يَا جِبْرِيلُ وَمَنْ شَرٌّ مِنْها؟ قَالَ مَنْ يَتْركَ الصَّلاةَ عَامِداً مُتَعَمِّداً" انتهى.(1/35)
وأخرج أحمد وابن حبان: "مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ كَانَتْ لَهُ نُوراً وَبُرْهَاناً وَنجاةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يُحافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ ولا برهانٌ ولا نَجَاةٌ، وكانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَان وأُبيّ بن خَلَفِ" ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه: "بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ" والترمذي: "بَيْنَ الكُفْرِ وَالإيمَانِ تَرْكُ الصَّلاةِ". وأبو داود: "بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ". وأحمد والترمذي والنسائي وابنا ماجه وحبان والحاكم عن بريدة: "العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم الصَّلاةُ، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ". والطبراني: مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ جِهاراً. وفي رواية سندها حسن: عُرا الإسلامَ، وقواعد الدين ثلاث عليهنّ أسس الإسلام من ترك واحدة منهنّ فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أنّ لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان.
وفي رواية أخرى سندها حسن أيضاً: من ترك واحدة منهنّ فهو بالله كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حلّ دمه وماله، والترمذي: كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفْر غير الصلاة. وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه موقوفاً على عليّ رضي الله عنه قال: من لم يصلِّ فهو كافر. ومحمد بن نصر وابن عبد البر موقوفاً على ابن عباس: من ترك الصلاة فقد كفر. وابن عبد البرّ موقوفاً على جابر: من لم يصلِّ فهو كافر. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح عن النَّبيِّ: أن تارك الصلاة كافر. وقال ابن حزم: قد جاء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن من ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتدّ.
((1/36)
تنبيه) قال جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بكفر تارك الصلاة وإباحة دمه منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وأبو الدرداء وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم. ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحاكم وابن عيينة وأيوب السختياني، وأبو داود والطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن حبيب وغيرهم. وقال الشافعي رضي الله عنه وآخرون: إنّ تارك الصلاة يكفر إن استحلّ الترك أو جحد الوجوب، إلا يقتل بترك أداء صلاة واحدة حتى يخرج وقت الجمع بضرب عنقه بالسيف إن لم يتب بعد استتابته، كتارك الصلاة، وقيل: يضرب بالعصا. وقيل: ينخس بحديدة إلى أن يصلي أو يموت، وقال الغزالي: لو زعم زاعمٌ أن بينه وبين الله حالة أسقطت عنه الصلاة، فلا شك في وجوب قتله، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر. وقال أحمد بن حنيل: لا يصح نكاح تاركة الصلاة، ولكن في مذهبنا أن نكاح الذمية أولى من نكاح تاركتها.
((1/37)
فصل): في تحريم تأخير الصلاة عن وقتها عمداً واستحباب تعجيلها لأوّل الوقت قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (سورة الماعون: 504) قال النَّبي: "هُم الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتها: وَالوَيْلُ شِدّةُ العَذَابِ. وَقيل وادٍ فِي جَهَنَّمَ لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيا لَذَابَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ فَهُوَ مَسْكَنُ مَنْ يُؤَخِّرُ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِها" وأخرج الحاكم والترمذي عن ابن عباس. قال: قال رسول الله: "مَنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلاتَيْنِ فَقَدْ أَتَى باباً مِنْ أَبْوَابِ الكَبَائِرِ" وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمر: "ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ الله تعَالَى مِنْهُمْ صَلاةً: الرَّجُلُ يَؤُمُّ قَوْماً وهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَالرَّجُلُ لا يَأْتِي الصَّلاةَ إلا دباراً" والدبار أن يأتيها بعد أن يفوتها "وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ محرراً أيْ جَعَلَهُ عَبْداً" وروى الذهبي أنه قال: "إذَا صَلَى العَبْدُ الصَّلاةَ في أوّلِ الوقتِ صَعِدَتْ إلى السَّمَاءِ وَلَهَا نُورٌ حَتَّى تنتهي إلى العَرْشِ، فَتَسْتَغْفِرُ لِصاحِبها إلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَتَقُولُ لَهُ: حَفِظَكَ الله كَمَا حَفِظَنِي، وَإذَا صَلَّى العَبْدُ الصَّلاةَ في غَيْرِ وَقتِها صَعِدَتْ إلىَ السَّمَاءِ وعليها ظُلْمَةٌ. فإذا انْتَهَتْ إلى السَّمَاءِ تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلقُ، وَيُضْرَبُ بِهِا وَجْهُ صَاحِبها" وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر: "فَضْلُ الوَقْتِ الأوّلُ عَلَى الآخِرِ كَفَضْلِ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيا" والترمذي عنه: "الوَقْتُ الأوّلُ مِنَ الصَّلاةَ رِضوانُ الله وَالوَقْتُ الآخِرُ عَفْوُ الله" والطبراني عن أمّ فروة: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلى الله تَعْجِيلُ الصَّلاةِ لأوّلِ وَقْتِها".(1/38)
روى البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي. فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. قال الكرماني والمراد بتضييعها تأخيرها عن الوقت المستحب، لا أنهم أخروها عن وقتها بالكلية: وروي عن عقيل بن أبي طالب: كنت أمشي مع رسول الله. فإذا جمل يعدو حتى بلغ رسول الله وقال: يا رسول الله الأمان، فلم يلبث حتى جاء خلفه أعرابي ومعه سيف مسلول. فقال النَّبي: "مَاذَا يُرِيدُ مِنْ هذَا المِسكِينِ؟ قَالَ يا رسول الله اشتريته بثمن كثير، وليس هو يطيعني فأريد أن أذبحه وأنتفع بلحمه. فقال النبي للجمل: لِمْ تَعْصِيه؟ فقال: يا رسول الله لَسْتُ أعصيه، لأني لست أقدر على العمل، ولكن أعصيه لأن القبيلة التي أنا فيها ينامون عن صلاة العشاء الأخيرة، فلو عاهدك أن يصلي العشاء الأخيرة عاهدتك أن لا أعصيه ما دمت حياً، فإني أخاف أن ينزل عليهم عذاب من الله عز وجل فأكون فيهم فأخذ النبي العهد على الأعرابي أن لا يترك الصلاة وسلم إليه الجمل فرجع إلى أهله".
وحكي عن بعض السلف: أنه دفن أختاً له ماتت فسقط منه كيس فيه مال في قبرها، ولم يشعر به حتى انصرف عن قبرها، ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبشه بعد ما انصرف الناس، فوجد القبر يشتعل عليها ناراً فردّ التراب إليها، ورجع إلى أمه باكياً حزيناً. فقال: يا أماه أخبريني عن أختي، وما كانت تعمل؟ قالت: وما سؤالك عنها؟ قال: يا أمي رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً. قال: فبكت وقالت: يا ولدي كانت أختك تتهاون بالصلاة، وتؤخرها عن وقتها، فهذا حال من يؤخر الصلاة عن وقتها، فكيف حال من لا يصلي؟ فنسأل الله تعالى أن يعيننا على المحافظة عليها بكمالاتها في أوقاتها، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
((1/39)
تنبيهات: أحدها) أن إخراج الصلاة عن وقتها بلا عذر من أكبر الكبائر المهلكة، فيجب على من فوّتها بغير عذر القضاء فوراً وصرف جميع زمنه للقضاء، ما عدا الوقت الذي يحتاج لصرفه في تحصيل ما عليه من مؤنة نفسه وعياله، وكما يحرم الإخراج عن الوقت يحرم تقديمها عنه عمداً. وثانيها أن الصلاة تجب أوّل الوقت وجوباً موسعاً، فله التأخير عن أوّله إلى وقت يسعها ما لم يظنّ فوتها، بشرط العزم على فعلها فيه، وإلا عصى بالتأخير كمن نام بلا غلبة بعد دخول الوقت، وقبل فعلها حيث لم يظنّ الاستيقاظ قبل ضيق الوقت أو إيقاظ غيره له. وثالثها أن فضيلة أوّل الوقت تحصل باشتغاله بأسباب الصلاة كطهارة وستر أوّل الوقت ثم يصليها، ورابعها أنه يندب تأخير الصلاة عن أوّل الوقت لمن تيقن جماعة أثناءه، وإن فحش التأخير ما لم يضق الوقت، وكذا لمن ظنها إذا لم يفحش التأخير بحيث لا يزيد على نصف الوقت، ولا يندب التأخير مطلقاً لمن شك فيها.
(فصل): في أحكام الصلاة. شروطها: ستر رجل وأمة ما بين سرة وركبة، وحرّة غير وجه وكفّ من الأعلى والجوانب بما لا يحكي اللون إن قدروا عليه، وتوجه للقبلة إلا في صلاة شدّة الخوف، ونفل سفر مباح، ومعرفة دخول وقت، ولو ظناً ومعرفة كيفية الصلاة بأن يعرف فرضيتها، ويميز فرائضها من سننها إلا في حق العامي إذا لم يقصد النفل بما هو فرض، وطهارة عن حدث، وطهارة بدن وملبوس، ومكان عن نجس لا عن دم نحو برغوث ودمل وحجم، وإن كثر بغير فعله، ولا عن قليل دم أجنبي غير نحو كلب ودم نحو حيض، ولا عن روث وبول نحو خفاش، وإن كثر، ويعفى عن ذرق طيور في المسجد، وإن كثر ما لم يتعمد ملاقاته من غير حاجة، ولم يكن هو أو مماسه رطباً.(1/40)
وفروضها: نية فعلها مع تعيين ذات وقت أو سبب، ومع نية الفرض فيه كأصلي فرض الظهر، ويجب قرنها بأوّل التكبير واستصحابها إلى آخرها، كما في الروضة وأصلها، والمختار الاكتفاء بالمقارنة العرفية بحيث يعدّ مستحضراً للصلاة وتكبيرة تحرّم، وتعين فيه الله أكبر، ويجب إسماع التكبير نفسه إن كان صحيح السمع، ولا عارض من لفظ ونحوه، وكذا كل ركن قوليّ وقيام لقادر في فرض والعاجز عنه، ولو بنحو دوران رأس في سفينة قعد، ثم اضطجع ثم استلقى، وقراءة الفاتحة مع البسملة كل ركعة إلا ركعة مسبوق، ويجب رعاية حروفها ومخارجها وتشديداتها، وإعرابها المخلّ للمعنى وموالاتها كالتشهد، فإن تخلل سكوت طال أو قصد به قطع القراءة، أو ذكر قطع الموالاة، فإن تعلق بالصلاة كتأمينه وسجوده لقراءة إمامه، وفتحه عليه فلا وترتيبها، ولو شك في حرف أو آية قبل فراغها لا بعده، أو هل قرأ استأنفها، وكالفاتحة في ذلك سائر الأركان، ويحرم وقفة لطيفة بين السين والتاء من نستعين، وتعمد تشديد مخفف ثم قدرها من بقية القرآن، فمن ذكر أو دعاء ثم وقفة بقدرها وركوع بانحناء بلغ راحتيه ركبتيه، واعتدال يعود لبدء وسجود مرتين بوضع بعض الجبهة مكشوفاً إن أمكن على غير محمول يتحرّك بحركته، والركبتين وبطن الكفين وأصابع القدمين ويجب أن ينال مسجده ثقل رأسه، ويرتفع أسافله على أعاليه وجلوس بينهما، ولا يطوله ولا الاعتدال وطمأنينة فيها، ويجب أن لا يقصد بالركن غيره، وتشهد أخير: التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وصلاة على النبي بعده اللهم صلّ على محمد، وتسليمة أولى: السلام عليكم وقعود للثلاثة، وترتيبها كما ذكر.(1/41)
وسننها نوعان: هيآت منها الإضافة إلى الله تعالى والتعرّض للاستقبال، وعدد الركعات والأداء والقضاء، وإن لم يكن عليه فائتة مماثلة للمؤدّاة والنطق بالمنويّ، ونظر موضع سجوده مطرقاً رأسه قليلاً، ثم رفع يديه بكشف حذو منكبيه مع ابتداء تحرّم وركوع، ورفع منه ومن تشهد أوّل، ووضع يمين على كوع يساره تحت صدره، وتفريق قدميه قدر شبر في القيام، وافتتاح سرّ المتمكن إن لم يتعوّذ أو يجلس مع إمامه، وهو - وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين - ثم تعوذ له بكلّ ركعة سرّاً، ووقف على رأس كل آية من الفاتحة حتى البسملة، ويكره الوقف على أنعمت عليهم، وتأمين بتخفيف ومدّ ولمأموم سمع قراءة إمامه معه، ولو تركه الإمام. قال رسول الله: "إذَا أَمَّنَ الإمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ غفر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" رواه الشيخان ثم قراءة شيء من القرآن ولو آية، والأولى ثلاث آيات في الأوليين لغير مأموم سمع قراءة إمامه، وفهمه، فتكره له كجهر خلفه، وتحصل بإعادته الفاتحة إن لم يحفظ غيرها، وبتكرير سورة واحدة في الركعتين وسورة كاملة أفضل من البعض، وإن طال في غير التراويح وكون السورتين متواليتين ما لم تكن التي تليها أطول، وعلى ترتيب المصحف وقراءة: {آلَمَ تَنْزِيلُ} و {هَلْ أَتَى} في صبح جمعة {والجمعة والمنافقين} أو {سَبِّح} و {هَلْ أَتَاكَ} فِيها وَفِي عَشَائِها.(1/42)
و {الكَافِرُونَ} و {الإِخْلاص} في مغربها وفي صبح المسافر، والمعوّذتين وفي مغرب السبت، وجهر وإسرار في محليهما وتدبر قراءة، وذكر وتكبير في كلّ خفض ورفع من غير ركوع، ومدّه إلى أن يصل إلى الركن المنتقل إليه، ووضع راحتيه على ركبتيه وتسوية ظهر وعنق في الركوع، وأن يقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثاً، وفي رفعه منه: سمع الله لمن حمده. وفي اعتداله: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ورفع اليدين في القنوت حذو منكبيه وجهر إمام به، وتأمين مأموم سمع قنوت إمامه سماعاً محققاً للدعاء منه، والصلاة على النبي وآله فيه، وإتيان إمام بصيغة جمع فيه.(1/43)
وفي دعاء التشهد فيكره تخصيص نفسه، ووضع ركبتيه مفرّقتين بقدر شبر، ثم كفيه مكشوفتين حذو منكبيه ناشراً أصابعه مضمومة للقبلة، ثم جبهته وأنفه معاً وتفريق قدميه بشبر منصوبتين، موجهاً أصابعهما للقبلة وإبرازهما من ذيله في السجود، وأن يقول فيه: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً، ومجافاة ذكر عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه فيه، وفي ركوع وضمّ غيره وافتراش في جلوس بين السجدتين، ووضع كفيه قريباً من ركبتيه ناشراً أصابعه، وأن يقول فيه: رب اغفر لي ثلاثاً وارحمني واجبرني وارفعني وارزقني واهدني وعافني، وجلسة الاستراحة، وافتراش فيه وفي تشهد أوّل، واعتماد على الأرض ببطن كفيه عند نهوضه من سجود وقعود، وتورّك في تشهد أخير لا يعقبه سجود سهو، ووضع كفيه في تشهديه على طرف ركبتيه ناشراً أصابع يسراه بضم، وجاعلاً أصابع يمناه كعاقد ثلاثة وخمسين، ورفع مسبحتها عند همزة إلا الله منحنية قليلاً، وإبقاؤها مرفوعة إلى القيام أو السلام، وأن لا يجاوز بصره إشارة، ونظر إليها حال رفعها، وأن يأتي في التشهدين بأكمل التشهد، وهو التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وبعد تشهد أخير بأكمل الصلاة على النبي، وهو: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ثم بالدعاء المأثور: اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني.(1/44)
أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وتسليمة ثانية وزيادة ورحمة الله فيهما، والتفات بوجهه يميناً وشمالاً في تسليمته، ناوياً السلام على من التفت إليه من ملائكة ومؤمني إنس وجنّ وينويه على من خلفه وأمامه بأيهما شاء، ومأموم الردّ على من سلم عليه، وإدراجه بلا مدّ، ونية خروج من الصلاة بالتسليمة الأولى.(1/45)
وأبعاض: وهي تشهد أوّل وقعود له وصلاة على النبي بعده، وعلى آله بعد التشهد الأخير، وقنوت في اعتدال آخر صبح ووتر نصف أخير من رمضان: كاللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك، ويجزىء آية فيها دعاء إن قصده، وكذا يجزىء دعاء محض، ولو غير مأثور وقيام له وصلاة على النبي وعلى آله بعده لا قبله، فلو ترك شيئاً من هذه الأبعاض، ولو عمداً أو شك في تركه سجد سجدتين ندباً قبيل السلام كمن سها ممن يبطل عمده كتطويل ركن قصير، وقليل كلام وأكل وتكرير ركن فعليّ أو نقل قولياً إلى غير محله، أو شك فيما صلاه واحتمل زيادة. ومن السنن المتقدّمة عن الدخول في الصلاة الأذان والإقامة فسنتان لمكتوبة ذكر، وإن بلغه أذان غيره، وإقامة لامرأة ويجيب سامعهما، ولو تالياً ومتوضئاً ويحوقل ويصدّق إن حيعل، وثوّب ويقول بعدهما: اللهم صلِّ وسلم على محمد اللهم ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. لما روى الشيخان: إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكن أحدكم.(1/46)
وابن النجار عن أبي هريرة: ثلاث لو يعلم الناس ما فيهنّ ما أخذن إلا بسهم حرصاً على ما فيهنّ من الخير والبركة: التأذين بالصلاة، والتهجير بالجماعات، والصلاة في أوّل الصفوف، وابن أبي شيبة والبيهقي عن سلمان الفارسي موقوفاً، قال: إذا كان الرجل في أرض فأقام الصلاة صلى خلفه ملكان، فإذا أذن وأقام صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، ويؤمِّنون على دعائه، وأحمد ومسلم: "إذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ فقولوا مِثْلَ مَا يَقولُ، ثُمَّ صَلوا عليَّ فإنَّهُ مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً، ثُمَّ سَلوا الله لِي الوَسِيلَةَ، فإنَّهَا مُنَزِلَةٌ فِي الجَنَّةِ لا تنبغي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَة.(1/47)
وروي: من تكلم في وقت الأذان خيف عليه زوال الإيمان والارتداء، والتعمم والاستياك عند القيام إلى الصلاة لما روى الشيخان: "لا يُصَلّيَنْ أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الواحِدِ لَيْسَ على عاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" وابن عساكر: صلاة تطوّع أو فريضة بعمامه تعدل خمساً وعشرين صلاة بلا عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بلا عمامة. والشيخان: "لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ" وابن زنجويه وصححه الحاكم: "صَلاةٌ بِالسِّوَاكِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صلاةٍ بِغَيْرِ سِواكٍ". قال النووي في المجموع: "يُسَنُّ أَنْ يُجْعَلَ في عَاتِقِهِ ثوباً، فإن لم يَجِدْهُ جَعَلَ حبلاً عَلَيْهِ حَتَّى لا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ وَيُكْرَهُ تَرْكُ ذلِكَ كَكَشْفِ رأسٍ. وقال شيخنا ابن حجر: إنّ التعمم والاستياك يستحبان ولو بعد الدخول في الصلاة إن أمكن فعلهما بفعل قليل، واتخاذ سترة، وهي شاخص طوله ثلثا ذراع وبينهما ثلاثة أذرع، فبسط المصلي فخط أمامه طولاً، فندب دفع مارّ مكلف وحرم مرور حينئذ. وقال البغوي في شرح السنة: إذا بيَّن الإمام موضع صلاته بعصا أو غيرها لا حاجة للمأمومين إلى غرز العنزة وغيرها. لما روى أبو داود: إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ تلقاء وَجْهِهِ شيئاً فَلْيَنْصبْ عَصا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصا فَلْيُخَطِّطْ بِيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ لا يضرهُ مَا مَرَ أمَامَهُ. والشيخان: إذَا صَلى أَحَدُكُمْ إلى شيء يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاس، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطانٌ: وهما: لَوْ يَعْلَمُ المارِّ بَيْنَ يَديّ المصلي إلى السترة ماذا عَلَيْهِ مِنَ الإثْم، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً، خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.(1/48)
والطبراني: إنَّ ستْرَةَ الإمَام ستْرَةٌ من خلفه: وَتَسْبِيحٌ وَتَحْمِيدٌ وتَكْبِيرٌ وتهليلٌ، واستغفارٌ عَشْراً عَشْراً إذَا أَرَادَ القِيَامَ إلَى الصَّلاةِ لما روى ابنُ السَّني عن أمِّ رافعِ أنها قالت: يا رسول الله دلني على عمل يأجرني الله عزّ وجلّ عليه. قال: "يَا أُمَّ رَافِعٍ: إذَا قُمْتِ إلَى الصَّلاةِ فَسَبِّحِي الله تَعَالَى عَشْراً وَهَلِّلِيهِ عَشْراً واحْمدِيهِ عَشْراً وَكَبِّريهِ عَشْراً، واسْتَغْفِريهِ عَشْراً، فَإِنَّكِ إذا سَبَّحْتِ قالَ الله تَعالى: هذا لي، وإذا هَلَّلْتِ قالَ الله تَعَالَى: هذا لي، وإذا حَمدْتِ قال الله تَعَالَى: هذا لي. وإذا كَبَّرْتِ قال الله تَعَالَى: هذا لي، وإذا اسْتَغْفَرْتِ قَالَ الله تَعَالَى: قد فعلت ذلك.
ومكروهاتها: ترك كشف يديه عند تحرّمه وسجوده وإلصاق قدميه، وتقديم إحداهما واعتماد عليها في القيام وجهر بمحل إسرار وعكسه، وخفض رأس في ركوع، ومخالفة ترتيب ذكرناه في وضع أعضاء السجود، وبسط الذراعين على الأرض، وترك وضع الأنف فيه وترك رجل مجافاة فيه وفي الركوع، وترك تعوّذ وسورة وتكبير انتقال، وأقلّ تسبيح ركوع وسجود، وذكر اعتدال وجلوس بين السجدتين، وتعوذ بعد تشهد أخير، وإسراع وتخصيص إمام نفسه بالدعاء، وتخلف مأموم لجلسة استراحة تركها الإمام وكفّ شعر وثوب، ومسح وجهه من نحو غبار، وترويح على نفسه وبصق أماماً ويميناً وإشارة مفهمة وتثاؤب واختصار واعتماد على اليد اليسرى في الجلوس، وتقليب اليدين عند التسليمتين.
((1/49)
فائدة) يحرم الالتفات في الصلاة على ما قاله المتولي والحليمي، ورفع البصر عن موضع سجوده على ما قاله الأذرعي، قال رسول الله: "مَنْ قَامَ فِي الصَّلاةِ فَالْتَفَتَ رَدّ الله عَلَيْهِ صَلاتهُ" رواه الطبراني. وقال: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ فِي صَلاتِهِمْ" فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال: "لِيَنْتَهنّ عَنْ ذلِكَ أَوْ لِتَخْطَفنَّ أَبْصَارَهُمْ" رواه البخاري وروى أن سبب ابتلاء يعقوب بابنه يوسف عليهما السلام أنه التفت في صلاته إليه وهو نائم محبة له. ويكره تحريماً صلاة عند الاستواء إلا يوم جمعة، وبعد أداء صبح وعصر حتى ترتفع وتغرب شمس إلا لسبب غير متأخر كركعتي تحية ووضوء، وكفائتة لم يقصد تأخيرها إليها، وتنزيهاً صلاة بمدافعة حدث وبحضرة طعام يتوق إليه، وبطريق في بنيان ومقبرة سواء أصلى إلى القبر أم عليه أم بجانبه.
(ومبطلاتها:) نطق بحرفين ولاء، ولو في تنحنح أو حرف مفهم من كلام سبق بشر لا يسير كلام لسانه إليه أو نسي أو جهل تحريمه فيها، وقرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء ولا يتنحنح لتعذر ركن قولي، وإن كثر ولا ضحك وبكاء وسعال وعطاس إن غلبت وقلت، وفعل فاحش كوثبة أو كثير يقيناً من غير جنسها كثلاث خطوات، وتحريك كف ثلاثاً بحك لغير شدة جرب ولاء بحيث يعد كلّ متصلاً على ما قبله ولو سهواً، لا خفيف وإن كثر متوالياً كتحريك أصابعه وأجفانه ومفطر وتعمد تكرير ركن فعليّ وإطالة فعلي قصير عمداً، وإخلال شرط من شروطها وترك ركن من أركانها.(1/50)
وحكي عن الشيخ معين الدين أنه قال: كان الشيخ أحمد الغزنوي ساكناً في غار قريب من الشام فزرته، فإذا ما عليه إلا الجلد والعظم، وهو جالس على سجادة، وبين يديه أسدان، فقال لي: من أين تصل؟ قلت: من بغداد. قال مرحباً وأكثر خدمة الفقراء حتى يعظم أمرك، وإني سكنت في هذا الغار منذ أربعين سنة، واعتزلت الخلق، ولكن ما استرحت من البكاء منذ ثلاثين سنة لأجل خوف شيء، قلت: ما هو؟ قال: الصلاة إذا صليت نظرت فيها مفكراً وبكيت. وقلت: لو اختلت ذرّة من الشروط ضاعت جميع أعمالي وضرب بطاعتي على وجهي، فإن كنت يا فقير تقدر أن تخرج من عهدة الصلاة فعلت أمراً وإلا ذهب العمر بالغفلة وضاع. وأخرج الطبراني وابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما: "أن رسول الله رأى رجلاً لا يتمّ ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي فقال: لو مات هذا على حاله مات على غير ملة محمد".(1/51)
ثم قال: "مَثَلُ الَّذِي لا يُتِمّ رُكُوعَهُ وَيَنْقُرُ في سُجُودِهِ مَثَلُ الجَائِعِ يَأْكُلُ التَّمْرَةَ أوِ التَّمْرَتَيْنِ لا يُغْنِيانِ عَنْهُ" وأحمد: "لا يَنْظُرُ الله إلَى عَبْدٍ لا يُقِيمُ صُلْبَهُ مِنْ سُجُودِهِ وَرُكُوعِهِ" والطبراني: "مَنْ صلَّاها لِغَيْرِ وَقْتِهَا وَلَمْ يُسْبِغْ وُضُوءَهَا وَلَمْ يُتِمَّ لها خُشُوعَهَا وَلا رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا خَرَجَتْ وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ تَقُولُ: ضَيَّعَكَ الله كَمَا ضَيَعْتَنِي حَتَّى إذَا كَانَتْ حَيْثُ شَاءَ الله لُفَّتْ كَمَا يُلَفُّ الثوبُ الخَلِقُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا وَجْهَهُ" ومسلم: "يا فُلانُ ألا تُحسِّنُ صَلاتَكَ ألا يَنْظُرُ المُصَلِّي إذا صَلى كَيْفَ يُصَلِّي فإنَّمَا يُصَلي لِنَفْسِهِ" والديلمي وحسنه الحافظ ابن حجر: "اذْكُرِ المَوْتَ فِي صَلاتِكَ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذا ذَكَر المَوْتَ لَحريٌّ أنْ يُحَسِّنَ صَلاتَهُ، وصلِّ صَلاةَ رَجُلٍ لا يظنُّ أنهُ يُصَلِّي صَلاةً غَيْرها" وأبو داود عن عبد الله بن الشخير قال: رأيتُ رسول الله يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرجل من البكاء.
(فائدة) قال السيد معين الدين الصفوي في تفسيره جوامع التبيان: والأصح أن الخشوع من فرائض الصلاة؛ وقال سفيان الثوري: من لم يخشع فسدت صلاته؛ وقال سيدي القطب العارف بالله محمد البكري رضي الله عنه ونفعنا به: وإنما يورث ذلك إطالة الركوع والسجود؛ وقال شيخ مشايخنا زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: إنّ نظر موضع السجود أقرب إلى الخشوع.(1/52)
وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه في بعض الحروب الجهادية أصيب بسهم ثم جذب السهم من عضوه الشريف، وبقي النصل فيه فقالوا: إذا لم يجرح العضو لا يمكن استخراج النصل منه، ونخاف من إيذاء أمير المؤمنين وقطع عضوه؛ فقال رضي الله عنه: إذا اشتغلت بالصلاة فاستخرجوه، فافتتح الصلاة وهم قطعوا أم جرحوا العضو، واستخرجوا النصل وهو رضي الله عنه لم يتغير في صلاته، فلما فرغ قال: لم لم تستخرجوه؟ فقالوا: قد استخرجناه. فانظر إلى إقباله على ربه حتى لم يحسّ بجرح العضو واستخراج النصل من جوف اللحم، فنحن إذا عضنا قملة أو برغوث، بل إذا وقع علينا ذباب نتشوّش ولا يبقى لنا حضور، فأين نحن من تلك الحالات والمقامات.(1/53)
وحكي عن زين العابدين عليّ بن الحسين: أنه كان إذا توضأ اصفرّ لونه، وإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة فقيل له: مالك؟ فقال: ويحكم أتدرون بين يدي من أقوم ولمن أريد أن أناجي؟ وأنه وقع حريق في بيته وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه فقيل له في ذلك لما رفع رأسه فقال: ألهتني عنها النار الكبرى؛ فانظر أيها الغافل في الصلاة بين يدي من تقوم ومن تناجي؛ واستحي أن تناجي مولاك بقلب غافل وصدر مشحون بوساوس الدنيا، وخبائث الشهوات؛ أما تعلم أنه مطلع على سريرتك، وناظر إلى قلبك، وإنما يتقبل من صلاتك بقدر خشوعك وخضوعك وتواضعك وتضرّعك، فاعبده في صلاتك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك؛ فإن لم يحضر قلبك بما ذكرنا، ولم تسكن جوارحك لقصور معرفتك بجلال الله تعالى، فقدّر أن رجلاً صالحاً من وجوه أهل بيتك ينظر إليك كيف صلاتك، فعند ذلك تحضر قلبك، وتسكن جوارحك، ثم ارجع إلى نفسك وقل: ألا تستحيين من خالقك ومولاك الذي هو مطلع عليك، وناظر إلى قلبك؛ أهو أقلّ عندك من عبد من عباده، وليس بيده ضرّك ولا نفعك فما أشدّ طغيانك وجهلك، وما أعظم عداوتك لنفسك؛ فعالج قلبك بهذا فعسى أن يحضر معك في صلاتك، فإنه انعقد إجماع العلماء على أنه لا يكتب لك من صلاتك إلا ما عقلت منها؛ وأما ما أتيت به مع الغفلة، ولو حكم بصحته ظاهراً فهو إلى الاستغفار أحوج لأنه إلى العقوبة أقرب.
قال الفقيه إسماعيل المقرىء رحمه الله:
تُصَلِّي بِلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِها >< يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجباً لِلْعُقُوبَةِ
تَظَلُّ وَقَدْ أَتْمَمْتَها غَيْرَ عَالِمٍ >< تزيدُ احْتِياطاً ركْعَةً بَعْدَ ركْعَةِ
فَوَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ تُنَاجِيهِ مُعْرِضاً >< وَبَيْنَ يَدَي مَنْ تَنْحَنِي غَيْرَ مخبتِ
تخاطِبُهُ إيّاكَ نَعْبُدُ مُقْبلاً >< عَلَى غَيْرِهُ فِيها لِغَيْرِ ضَرُورَةِ(1/54)
وَلَوْ رَدَّ مَنْ نَاجاكَ لِلْغَيْرِ طَرْفَهُ >< تَمَيَّزْتَ مِنْ غَيْظٍ عَلَيْهِ وَغَيْرةِ
أمَا تَسْتَحِي مِنْ مالِكِ المُلْكِ أنْ يَرَى >< صُدُودَكَ عَنْهُ يا قَليلَ المُروءَةِ
إلَهِي اهْدِنا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا >< إلى الحَقِّ نَهْجاً في سَواءِ الطَّرِيقَةِ
{خاتمة}: في الأذكار المأثورة بعد الصلاة المكتوبة(1/55)
روى الترمذي عن أبي أمامة: قيل لرسول الله: أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات." قال النووي: أجمع العلماء على استحباب الذكر والدعاء بعد الصلاة، فمن الذكر المأثور ما خرّجه ابن السني وأبو يعلى عن البراء. قال: قال رسول الله: "مَنِ اسْتَغْفَرَ الله دُبُر كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثَ مَراتٍ. فقال: أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إله إلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ وأتوبُ إلَيْهِ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وَإنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ" ويزيد فيه العظيم بعد الصبح والمغرب. ومسلم: كان رسول الله، إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلالِ وَالإكْرَامِ: لا إلهَ إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مانِعَ لما أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت ولا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِالله العلي العظيمِ، لا إله إلا الله وَلا نَعْبُدُ إلَّا إيّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثناءُ الحسن، لا إله إلا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ. وهو أيْضاً قال رسول الله: مَنْ سَبَّحَ الله فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وَثلاثينَ وَحَمدَ الله ثلاثاً وَثلاثين وَكَبَّرَ الله ثلاثاً وثلاثين؛ وَقَالَ تمامَ المائَةِ: لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ.(1/56)
والرافعي قال رسول الله: "إذَا صَلَّيْتُمْ صَلاةَ الفَرْضِ فَقُولُوا فِي عَقِبِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرَ مَرّاتِ: لا إله إلَّا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيِءٍ قَدِيرٌ يُكْتَبُ لَهُ مِنَ الأجْرِ كَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً" ويزيد فيها يحيى ويميت بيده الخير بعد الصبح والعصر والمغرب، والحرث بن عمر عن رسول الله: "إنَّ فَاتِحَة الكِتَابِ وآيَةَ الكُرْسِي وشهد الله إلى الإسْلامِ وَقُلْ اللَّهمَّ إلى حِسَاب معلقاتٍ ما بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الله حِجَابٌ قُلْنَ يَا رَبُّ أَتُهْبِطُنَا إلى أَرْضْكَ، وإلى مَنْ يَعصيك قال الله تَعَالَى: بِيَ حَلَفْتُ لا يَقْرَؤكُنَّ أَحَدٌ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ إلا جَعَلَتُ الجَنَّةَ مَثْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَأَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ القُدسِ، وَنَظَرْتُ إلَيْهِ بِعَيْنِي المَكْنُونَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ سبعينَ مرَّةً، وقضيتُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ سبعينَ حاجةً أَدْنَاهَا المَغْفِرَةُ، وَأَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عدوَ وَحَاسِدٍ وَنَصَرْتُهُ" والنسائي وابن حبان قال رسول الله: "مَنْ قَرأَ آيَةَ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ إلا أنْ يَمُوتُ" وأبو يعلى قال رسول الله: "ثَلاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَ مَعَ الإيمانِ دَخَلَ مِنَ أيّ أبوابِ الجَنَّةِ شاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الحُورِ العينِ حَيْثُ شَاءَ: مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ وَمَنْ أدّى دَيْناً خَفِيَّاً وَمَنْ قَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ" وأبو داود والترمذي عن عقبة بن عامر قال: أمرني رسول الله أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة. وورد التهليل عشر مرات.(1/57)
وحكي عن الحفار بن يزيد المشهور بالفضل والصلاح أنه احتفر قبراً، فإذا رجل قاعد على منبر وعنده طبق رطب قال: فقال لي: أقامت القيامة؟ فقلت: لا. فقلت له بالذي أحلك هذه المحلة بمَ نلت هذا؟ قال: كنت أقول دبر كل صلاة: لا إله إلا الله أرضي بها ربي: لا إله إلا الله أفني بها عمري، لا إله إلا الله أقطع بها دهري. لا إله إلا الله أونس بها قبري، لا إله إلا الله ألقى بها ربي، لا إله إلا الله أعدّها لكل شيء يجري. ومن الدعاء المأثور ما خرّجه أبو داود والنسائي عن معاذ: أن رسول الله أخذ بيدي وقال: "يَا مُعَاذ وَالله إنِّي لأَحبُّكَ "فَقَال: أوصِيكَ يا مُعَاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" وابن السني عن أبي أمامة: ما دنوت من رسول الله في دبر كل صلاة مكتوبة، ولا تطوع إلا سمعته يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ ذُنُوبِي وَخَطَايَاي كلها: اللَّهُمَّ أنعِشْني وأجْرِني واهْدِني لِصَالِحِ الأَعْمَالِ والأَخْلاقِ إنَّهُ لا يهدي لِصَالِحها ولا يَصْرِفُ سيئها إلَّا أنْتَ". وهو أيضاً عن أنس: كان النبي يقول إذا انصرف من الصلاة: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخرَهُ وَخَيْرَ عملي خَوَاتِمَهُ، واجْعَلْ خَيْرَ أيامي يَوْمَ ألْقَاكَ" وعن أبي بكرة. قال: كان رسول الله يقول في دبر الصلاة: "اللَّهُمَّ إني أعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ والفَقْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ" وأحمد عن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا صلى الصبح قال: "اللَّهُمَّ إني أسْأَلُكَ عِلْماً نافِعاً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَرِزْقاً طَيِّباً" وهو عن صهيب أن رسول الله كان يحرك شفتيه بعد صلاة الفجر بشيء.(1/58)
فقلت: يا رسول الله ما هذا الذي تقول قال: "اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ وَبِكَ أُصَاوِلُ وَبِكَ أُقَاتِلُ" وأبو داود عن مسلم بن الحرث التميمي عن رسول الله: أنه أسرّ إليه فقال: "إذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلاةِ المَغْرِبِ فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَجِرنْي مِنَ النارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إذا قُلْتَ ذلِكَ ثُمَّ متَّ لَيْلَتَّكَ كُتِبَ لَكَ جَوازٌ مِنْها، وإذا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فَقُلْ كذلك، فإنَّكَ إذا مت مِنْ يَوْمِكَ كُتِبَ لَكَ جَوَازٌ مِنْها".
(فائدة) يسن لغير إمام يريد تعليم المأمومين إسرار بالذكر والدعاء وجهر بهما لإمام يريده، ولداع غير مصلَ وخطيب رفع يديه الطاهرتين حذو منكبيه، ومسح وجهه بهما بعد الفراغ، ورفع بصره إلى السماء، وافتتاحه بحمد الله والصلاة على النبي وختمه بهما، وبالتأمين واستقبال القبلة إن كان منفرداً أو مأموماً. أما الإمام فيستقبل المأمومين بوجهه في الدعاء، ولكلَ جلوس ذاكراً الله تعالى بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. قال رسول الله: "مَنْ صَلَّى الفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله تَعالى حَتَّى تَطُلَعُ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلّى ركعتينِ كانَتْ لَهُ كَأَجرِ حُجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ" رواه الترمذي وحسنه. وقال: "مَنْ قَعَدَ في مُصلاه حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ حَتَّى يُسَبِّحَ ركعتي الضُّحى لا يَقُولُ إلا خيراً غَفَرَ لَهُ خَطَايَاهُ، وإن كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ" رواه أبو داود. وقال: لأن أجلس مع قوم يذكرون الله عز وجل من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أحب إليّ من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل عليه السلام. أعتق الله رقابنا من النار، وغفر ذنوبنا وخطايانا، وأصلح ما فسد من أعمالنا، وتقبلها بمنه منا آمين.
{باب صلاة التطوع}(1/59)
أخرج أحمد والترمذي عن أبي أمامه قال: قال رسول الله: "مَا أذِنَ الله لِعَبْدٍ في شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ركعتين، وإنَّ البر ليذرُّ فَوْقَ رَأْسِ العَبْدِ مَا كَانَ فِي الصَّلاةِ، وَمَا تَقَرَّبَ عَبْدٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ" والطبراني عنه: ما أوتي عَبْدٌ في هذه الدُّنْيا خيراً له مِنْ أَنْ يؤذن لَهُ في رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا. ومسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. والبيهقي عن أبي هريرة: لا يحافظ على ركعتي الفجر إلا أوّاب. وأبو داود والترمذي عنه: "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ ركْعَتَيْ الفَجْرِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأيْمَنِ" والبيهقي عن عائشة: "نِعْمَ السُّورتان هُمَا تُقْرآنِ في الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ {قُلْ يَا أَيُّها الكَافِرُونَ} {وَقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وابن السني عن والد أبي المليح: "أنَّ رسول الله صلى ركعتين خفيفتين ثم سمعته يقول وهو جالس: "اللَّهُمَّ رَبَّ جبريلَ وَإسْرَافيلَ وَمِيكائيلَ ومحمد النبي أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ ثَلاث مَرَّاتٍ" وأبو داود والترمذي عن أم حبيبة: "مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكْعَاتٍ قَبُلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ. والطبراني عن ابن عمر: مَنْ صَلَّى قَبْلَ العَصْرِ أَرْبعاً حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ. وأحمد وأبو داود عن عبد الله المزني: صَلّوا قَبل المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ شَاءَ. وعبد الرزاق عن مكحول مرسلاً: مَنْ صَلّى بَعْدَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ كُتِبَتَا في عَليينَ. والبيهقي عن حذيفة: عَجلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ لِتُرْفَعَا مع العَمَلِ.(1/60)
وابن السني عن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله إذا انصرف من صلاة المغرب يدخل بيته فيصلي ركعتين، ثم يقول فيما يدعو: (يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي علَى دِينِكَ).والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: مَنْ صَلّى بَعْدَ المَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمَ فِيما بَيْنَهُن بِسُوءٍ عَدَلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ ثنتي عَشرَةَ سَنَةً. وابن نصر عن ابن عمر: مَنْ صَلّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ المَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ خَمْسينَ سَنَةً. وابن نصر عن محمد بن المنكدر: مَنْ صَلّى مَا بَيْنَ الغُرُوبِ والعشَاء فَإِنَّهَا صَلاةَ الأوّابين. والشيخان عنه: صَليت مع النبي ركعتين بعد العشاء. قال النووي في المجموع: يُسَنُّ رَكْعَتَانِ قَبْلَ العَشَاءِ لخبر: بَيْنَ كُلِّ أذانين صَلاة. وقال أيضاً فيه: يجب في سنة الظهر التعيين بالتي قبلها أو التي بعدها وإن لم يؤخر المقدّمة، وكذا كل صلاة لها سنة قبلها وسنة بعدها. وأبو داود والترمذي عن أبي أيوب: الوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يوتِرَ بِثَلاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوْتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ. والبيهقي والحاكم: أوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ إِحدَى عَشَرَةَ. ومسلم والترمذي عن جابر: مَنْ خَافَ أَنْ لا يقومُ آخِرَ اللَّيْلِ فليوتِر أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَليوتِر آخِرَ اللَّيْلِ، فإنَّ صَلاة آخِر اللَّيْلِ مَشْهودَةٌ وَذلِكَ أَفْضَلُ. والنسائي وابن ماجه: سئلت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يوتر رسول الله ؟ قالت: كان يقرأ في الأولى: {سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} والمعوّذتين.(1/61)
ويسنّ أن يقرأ في كل من أولى الوتر بالإخلاص. وأبو داود والترمذي عن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله إذا سلم في الوتر قال: "سُبْحَانَ المَلِكِ القُدوسِ ثَلاثَ مرات يرفع في الثالثة صوته". وهما عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله كان يقول في آخر وتره: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ". وأحمد والترمذي عن أبي هريرة: مَنْ حَافَظَ عَلى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ، وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ. وأبو الشيخ عن أنس: رَكْعَتَانِ مِنَ الضُّحَى تَعْدِلانِ عِنْدَ الله بِحُجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مُتَقَبَّلَتَيْنِ. وسمويه عن سعد: مَنْ سَبَّحَ سَبْحَةَ الضُّحَى حَوْلاً محولاً كُتِبَ لَهُ بَراءةٌ مِنَ النَّارِ. والطبراني عن أبي هريرة: إنَّ في الجَنَّةِ باباً يقال له الضُّحى، فإذا كانَ يَوْمَ القِيَامَةِ نَادَى منادٍ: أيْنَ الَّذِينَ كانوا يُدِيمُونَ عَلَى صَلاةِ الضُّحَى هذا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ الله. والديلمي عن عبد الله بن جراد: المُنَافِقُ لا يُصَلّي صَلاةَ الضُّحَى وَلا يَقْرَأُ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ. والشيخان عن أم هانىء رضي الله عنها قالت: إن رسول الله دخل بيتي يوم فتح مكة، فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أرَ صلاة قط أخف منها غير أنه يتمّ الركوع والسجود وذلك ضحًى. وابن حبان عن عقبة بن عامر: صَلُّوا رَكْعَتَيْ الضُّحَى بِسُورَتَيْهِمَا {وَالشَّمْسُ وضُحَاهَا} {والضُّحَى}. وورد في حديث رواه العقيلي: كان رسول الله يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} {وَقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وورد بعد الضحى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ مائة مرة.(1/62)
ومسلم عن أبي هريرة: أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ. والديلمي عن جابر: رَكْعَتَانِ في جَوْفِ اللَّيْلِ تُكْفِّرانِ الخَطَايا. وأحمد والترمذي عن بلال: عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَقُرْبَةٌ إلى الله تَعالى وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإثْمِ وَمَكْفرَةٌ للسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ للدّاءِ عَنِ الجَسَدِ. وابن نصر عن حسان بن عطية مرسلاً. رَكعتان يَرْكَعُهُمَا ابنُ آدمَ في جَوْفِ الليلِ الآخِرِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا، وَلَوْلا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمّتِي لَفَرَضْتَهُمَا عَلَيْهِمْ. ومسلم عن جابر: إنَّ في اللَّيْلِ لَسَاعَةٌ لا يوافقها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ الله تعالى فيها من أمر الدنيا والآخرة إلا أَعْطَاهُ وذلك كُلَّ لَيْلَة. والشيخان: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ أَمْرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْل الآخِرِ فيقولُ: مَنْ يَدْعُوني فَاسْتَجيبُ لَهُ وَمَنْ يَسَأَلُنِي فَأُعْطيهِ وَمَنْ يَسْتَغْفِرني فَأَغْفِرُ لَهُ؟ وأحمد وأبو داود عن أبي هريرة: رَحِمَ الله رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلَ فَصَلَّى، وأيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتَ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الماءَ، وَرَحِمَ الله امرأة قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى. فَإِنْ أبى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الماءَ، وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: إذا استيقظ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَصَلَّيَا ركعتينِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذاكراتِ. وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها: مَا مِنِ امْرِىءٍ يَكُونُ لَهُ صَلاةً بِاللَّيْلِ فيغلِبُهُ عليها نَوْمٌ إلا كَتَبَ الله لَهُ أَجْرَ صَلاتِهِ، وكان نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً.(1/63)
والشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص: يا عَبدَ الله لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ كَانَ يَقومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ.
وحكى اليافعي عن الشيخ أبي بكر الضرير. قال: كان في جواري شاب حسن يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام فجاءني يوماً وقال: يا أستاذي إني نمت عن وردي الليلة، فرأيت كأن محرابي قد أنشق، وكأني بجوارٍ قد خرجن من المحراب، لم أر أحسن وجهاً منهنّ، وإذا فيهنّ واحدة شوهاء فوهاء لم أر أقبح منها منظراً، فقلت: لمن أنتُنّ ولمن هذه؟ فقلْنَ: نحن لياليك التي مضين. وهذه ليلة نومك، ولو متّ في ليلتك هذه لكانت هذه حظك، فشهق شهقة وخرّ ميتاً. رحمه الله.
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال: رأيت سفيان الثوري في النوم بعد موته، فقلت له: كيف حالك يا أبا سعيد؟ فأعرض عني وقال: ليس هذا زمان الكنى؟ فقلت له: كيف حالك يا سفيان؟ فأنشأ يقول:
نَظَرْتَ إلى رَبِّي عَيَاناً فَقَالَ لِي >< هَنِيئاً رِضَائِي عَنْكَ يَا ابْنَ سَعيدِ
لَقَدْ كُنْتَ قَوَّاماً إذا اللَّيْلُ قَدْ دَجَى >< بِعَبْرَةَ مُشْتَاقٍ وَقَلْبِ عَمِيدِ
فَدُونَكَ فاخْتَرْ أيَّ قَصْرٍ تُرِيدُهُ >< وَزُرْنِي فإني عَنْكَ غَيْرُ بَعِيدِ(1/64)
وأبو داود والحاكم عن ابن عباس وصححه ابن خزيمة وحسنه الحافظ ابن حجر "أنّ رسول الله قال للعباس بن المطلب: "يَا عَبَّاس يَا عَمّاه ألَا أعْطِيكَ ألَا أَمْنَحُكَ ألَا أَحْبُوكَ ألَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خصالٍ إذا أنْتَ فَعَلْتَ ذلكَ غَفَرَ الله لَكَ ذَنْبَكَ أَوّلَهُ وآخِرَهُ وَقَديمَهُ وحَدِيثَهُ، وخطأَهُ وَعَمْدَهُ وصغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، وَسِرَّهُ وعلانيتَهُ: أن تصلي أَرْبَعَ رَكعاتٍ تَقْرَأُ في كل رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وسورةً فإذا فَرَغْتَ مِنَ القِرَاءَةِ في أوّلِ رَكْعَةِ وَأَنْتَ قَائِمٌ، قُلْتَ: سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لله ولا إله إلَّا الله وَالله أَكْبَرُ خَمْسَ عَشرةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ فتقولها وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْراً، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكوعِ فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها وأنت ساجِدٌ عَشْراً، ثم ترفع رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فتقولها عَشْراً وأنتَ جَالِسٌ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُها وَأَنْتَ سَاجِدٌ عشراً، ثم تَرْفَعُ رَأْسَكَ من السجود فتقولها عشراً، فذلك خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَرْبَعٍ رَكَعَاتٍ، إن اسْتَطَعْتَ أنْ تُصَلِّيهَا فِي كُلِّ يَوْمِ مَرةً فافعل، فَإن لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّة، فإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمْرِكَ مَرَّةً".
واعلم أن صلاة التسبيح مرغب فيها يستحبّ أن يعتادها في كلّ حين ولا يتغافل عنها، هكذا قال عبد لله بن المبارك وجماعة من العلماء.(1/65)
وقال تاج الدين السبكي: صلاة التسبيح من المهمات في الدين فينبغي الحرص عليها، فمن سمع ما ورد فيها من عظيم الفضل، ثم تغافل عنها بتركها، فهو متهاون بالدين غير مكترث بأعمال الصالحين، لا ينبغي أن يعدّ من أهل الخير في شيء. وقال ابن أبي الصيف اليمني يستحب صلاة التسبيح عند الزوال يوم الجمعة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {التكَاثُر} وفي الثانية {والعصر} وفي الثالثة {الكافرون} وفي الرابعة {الإخلاص}، فإذا كملت الثلاثمائة تسبيحة قال بعد فراغه من التشهد وقبل أن يسلم: اللهم إني أسألك توفيق أهل الهدى، وأعمال أهل اليقين ومناصحة أهل التوبة وعزم أهل الصبر وجدّ أهل الخشية وطلب أهل الرغبة وتعبد أهل الورع وعرفان أهل العلم حتى أخافك. اللهم إني أسألك مخافةً تحجزني عن معاصيك حتى أعمل بطاعتك عملاً استحق به رضاك، وحتى أناصحك في التوبة خوفاً منك، وحتى أخلص لك النصيحة حباً لك، وحتى أتوكل عليك في الأمور كلها، وأحسن الظن بك سبحان خالق النور - ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير - برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم يسلم ثم يدعو حاجته.(1/66)
وأبو داود عن زيد بن خالد: "مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يَسْهُو فِيهما غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" ومسلم عن عقبة بن عامر: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ" وقال شيخنا ابن حجر: إن رَكْعَتي الوُضوءِ تَفُوتَانِ إذا أَخَّرْهُمَا بِحَيْثُ لا تُنْسبان إلَيْهِ عُرْفاً، وبحث بعض المتأخرين امتداد وقتهما ما بقي الوضوء ويسن أن يقرأ في الأولى - {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤوكَ} (سورة النساء: 64) إلى رحيماً - وفي الثانية - {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} (سورة النساء: 110) إلى رحيماً - وقيل: تفوتان بجفاف الأعضاء وابن حبان عن أبي ذرّ قال "دخلت المسجد فإذا رسول الله جالس وحده فقال: "يَا أَبَا ذَرَ إنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا، فقمت فركعتهما ثم عدت" وقال النووي في التحقيق: إنَّ تَحِيَّة المَسْجِد تَفُوتُ بالجُلوسِ مَا لَمْ يَسْهَ أَوْ يَجْهَلْ وقصر الفصل. وقال شيخنا ابن حجر: وَيَلْحَقُ بهما عَلَى الأَوْجَهِ ما لَوِ احْتَاجَ للشُّرْبِ فَيَقْعُدَ لَهُ قليلاً ثم يأتي بهما.
واعلم أن ركعتي التحية والوضوء تتأديان بغيرهما من فرض أو نفل آخر، وإن لم ينوهما معه، نعم الأوجه أن لا يحصل فضلهما إلا إذا نويتا. ويسن أن يقرأ في التحية وسنة المغرب وصلاة الاستخارة، والإحرام والطواف:الكافرون والإخلاص. وقال النووي في الأذكار: قال بعض أصحابنا: من دخل المسجد، ولم يتمكن من صلاة التحية لحدث أو شغل أو نحوه، فيستحبّ له أن يقول أربع مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.(1/67)
وأبو داود والترمذي عن أبي بكر رضي الله عنه: "لَيْسَ عَبْدٌ يُذْنِبُ ذَنْباً فَيَقُومُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ الله إلَّا غُفِرَ لَهُ" غفر الله ذنوبنا وقبل توبتنا. وأحمد عن أبي هريرة: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" والديلمي عن ابن عباس: العيدانِ واجِبانِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وصح أيضاً أنه كان يواظب على صلاة العيدين. فهي سنة مؤكدة عندنا واجبة كالأعيان عند أبي حنيفة، ويكفر من أنكر مشروعيتها وأبو داود عن زيد بن ثابت: "صَلاة أَحَدِكُمْ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي مَسْجِدِي هذا إلَّا المَكْتُوبَةَ" وابن أبي شيبة عن رجل: "تَطَوُّعُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ يَزيدُ عَلَى تَطَوُّعِهِ عِنْدَ النَّاسِ كَفَضْلِ صَلاةِ الرَّجُلِ في جَمَاعَةٍ عَلَى صَلاتِهِ وَحْدَه" وابن عساكر عن جابر: "مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ في خَلاءٍ لا يراهُ إلَّا الله وَالمَلائكةُ كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ" كتب الله لنا البراءة من النار وعذاب القبر آمين. وفي كتاب ابن السني عن أبي أمامة قال: "ما دنوت من رسول الله في دبر كل صلاة مكتوبة ولا تطوّع إلا سمعته يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطَايَايَ كُلَّهَا" إلى آخره.
(فائدة) ومن البدع المذمومة التي يأثم فاعلها، ويجب على ولاة الأمر منع فاعلها صلاة الرغائب اثنتا عشرة ركعة بين العشاءين ليلة أول جمعة من رجب. وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وصلاة آخر جمعة رمضان سبع عشرة ركعة بنية قضاء الصلوات الخمس الذي لم يتيقنه، وصلاة يوم عاشوراء أربع ركعات أو أكثر، وصلاة الأسبوع. أما أحاديثها فموضوعة باطلة، ولا تغترّ بمن ذكرها، وفقنا الله لاجتلاب الفضائل واجتناب الرذائل.
{باب صلاة الجماعة}(1/68)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "صَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزيدُ عَلَى صَلاتِهِ فَي بَيْتِهِ وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْساً وعشرينَ دَرَجَةً، وذلك أنَّ أَحَدَكُمْ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوضوءَ، ثم أتى المَسْجِدَ لا يُريدُ إلا الصَلاةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَ الله لَه بها درَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِها خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ، فإذا دَخَلَ المَسْجِدَ كانَ فِي صلاةٍ ما كَانَتْ الصَّلاةَ تَحْبِسُه وتصلي المَلائِكَةُ عَلَيْهِ ما دامَ في مَجْلِسِهِ الذي صَلّى فيه يقولونَ اللهمّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ما لَمْ يُؤْذِ مِنْهُ أَوْ يَحَدِّثُ فِيهِ" وفي رواية لهما: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ على صَلاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" وأحمد وابن حبان عن أبي ذر: "أنَّ الرَّجُلَ إذا صَلَّى مَع الإمَامِ حَتَّى ينصرفَ الإمَامُ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَة" والطبراني والضياء عن أنس: "مَنْ مَشَى إلى صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي الجَمَاعَةِ فَهِي كَحجَّةٍ.(1/69)
وَمَنْ مَشَى إلى صَلاةِ تَطَوُّعٍ فَهِيَ كَعُمْرَةٍ نَافِلَةٍ" والترمذي عن أنس: "مَنْ صَلَّى أرْبَعَينَ يوماً في جَمَاعَةٍ يُدْرِكَ التَّكبيرَةَ الأولى كُتِبَ لَهُ براءتان: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّار وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفاقِ" ومسلم وأحمد عن عثمان رضي الله عنه: "مَنْ صَلَّى العِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكَ التَّكْبِيرَةَ الأولى كانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ في جماعةٍ فَكَأَنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ" وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه: "مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أربعينَ لَيْلَةً لا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ الأولى مِنْ صَلاةِ العِشَاءِ كَتَبَ الله لَهُ بِهَا عَتْقاً مِنَ النَّارِ" والطبراني عن أبي عبيدة: "لَيْسَ مِنَ الصَّلاةِ صَلاةً أَفْضَلُ مِنْ صلاةَ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمْعَةِ فِي الجَمَاعَةِ وَمَا أَحْسَبُ مَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ إلا مغفوراً لَهُ" وهو ومالك عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر عمد إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أر سليمان في الصبح، فقالت: أنه بات يصلي فغلبته عيناه، فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليّ من أن أقوم ليلة. وأحمد وأبو داود عن أبيَ: "إنَّ هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ يعني العِشَاءَ والصُّبْحَ مِنْ أَثْقَلِ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقينَ وَلَوْ يَعْلَمُونَ فَضْلَ مَا فيهما لأَتوهُمَا وَلَوْ حَبواً.(1/70)
عَلَيْكُمْ بالصَّفِّ المقدّم فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الملائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لابْتَدَرْتُمُوهُ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلاتِهِ وَحْدَه، وَصَلاتَهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلاتهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلى الله" وأبو داود والحاكم عن يزيد بن الأسود: إذا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ أَدْرَكَ الإمامَ، وَلَمْ يَصَلِّ فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فإِنَّها نَافِلَةٌ، والشيخان عن أبي هريرة: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَتُقَامُ، ثُمَّ آمُرُ رَجُلاً فَيَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ أنْطَلِق مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الجَمَاعَةَ فَأَحرقْ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بالنَّارِ.
وأحمد والطبراني عن معاذ بن أنس: الجَفَاءُ كُلُّ الجَفَاءِ وَالكُفْرُ وَالنِّفَاقُ مَنْ يَسْمَعُ منادي الله يُنَادِي الصَّلاةَ فَلا يُجِيبُهُ.
وأبو داود عن ابن أمّ مكتوم أنه أتى النبي، فقال: يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع وأنا ضرير البصر شاسع الدار، أي بعيدها ولي قائد لا يلازمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال: "هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاء؟ قَال: نَعَم، قَالَ: فَأَجِبْ فَإِنِّي لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً" وهو من سمع المنادي بالصلاة، فلم يمنعه من اتباعه عذر، قيل: وما العذر؟ قال: "خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلاةُ الَتِي صَلّى" يعني في بيته وسئل ابن عباس عمن يصوم النهار ويقوم الليل، ولا يصلي في الجماعة ولا يجمع؟ فقال: إن مات هذا فهو في النار.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر خرج إلى بستان، فرجع وقد صلى الناس العصر، فقال: {إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} (سورة البقرة: 156) فاتتني صلاة العصر في الجماعة أشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة، أي ليكون كفارة لما ضيع.(1/71)
قال حاتم الأصم: فاتتني مرة صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق النجاري وحده. ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس، لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا، وأنه لو مات لي الأبناء جميعاً، لكان أهون عليّ من فوات هذه الصلاة في الجماعة.
وحكى الناشري عن محمد بن سماعة أنه قال: أقمت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً ماتت فيه أمي ففاتتني صلاة واحدة عن الجماعة، فقمت فصليت خمساً وعشرين صلاة أريد بذلك التضعيف. فغلبتني عيني فأتاني آتٍ. فقال يا محمد قد صليت خمساً وعشرين. ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟ وأخرج الطبراني: من أمّ قوماً فليتَّقِ الله وليعلم أنه ضامن مسؤول لما ضمن، وإن أحسن كان له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وما كان من نقص فهو عليه.
وأبو الشيخ عن أبي هريرة: "الرَّحْمَةُ تَنْزِلُ عَلَى الإمَامِ، ثُمَّ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ الأَوَّلُ فَالأوَّلُ. والطبراني عن طلحة: أيُّمَا رَجُلٍ أمّ قَوْماً وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ لَمْ تُجَاوِزْ صَلاتُهُ أُذُنَيْهِ. وهو عن مرثد الغنوي: إنْ سَرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ صَلاتُكُمْ فَلْيَؤمَّكُمْ عُلَماؤُكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ. ومسلم عن ابن مسعود: يَؤُمُّ القَوْمَ أقرؤهم لكتابِ الله، فَإِنْ كانوا في القِرَاءَةِ سَواءً فَأَعْلَمَهُمْ بِالسُّنَّةِ، فإنْ كانوا في السُّنَّة سواء فَأَقْدَمُهُمْ هجْرَةً فَإِنْ كَانُوا في الهجْرَةِ سواءً فَأَقْدَمهُمْ سِناً، وَلا يُؤمَنَّ رَجُلٌ رَجُلاً في سُلْطَانِهِ، وَلا يَجْلِسْ في بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلا بِإذْنِهِ. والعقيلي عن ابن عمر من أمّ قوماً وفيهم من هو أقرأ منه لكتاب الله، وأعلم لم يزل في سفال إلى يوم القيامة.(1/72)
ومسلم عن أبي هريرة: "إذا ثُوِّبَ للصَّلاةِ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَونَ وَائْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فما أدْرَكْتُمْ فَصلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذا كَانَ يَعْمُدُ إلى الصَّلاةِ فَهُوَ فِي الصَّلاةِ. وأحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم عن البراء إنَّ الله تعالَى وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأوّل. وأحمد عن أبي أمامة: إنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأوّلِ، فَسوّوا صُفُوفَكُمْ وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ، وَلَيِّنُوا بِأَيْدِي إخْوانِكُمْ وَسُدُّوا الخَلَلَ فإِن الشَّيْطانَ يَدْخُلَ فيما بَيْنَكُمْ مِثْلَ الحَذْفِ. وأحمد عن عائشة: "إنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يصلونَ عَلَى الَّذِينَ يصلونَ الصُّفُوفَ، وَمَنْ سَدَّ فُرْجَةً رَفَعَهُ الله بِهَا دَرَجَةً. وفي رواية مَنْ سَدَّ فُرْجَةً غُفِرَ لَهُ. والنسائي والحاكم عن ابن عمر: مَنْ وَصَلَ صَفّاً وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَ صَفاً قَطَعَهُ الله. والطبراني عن وابصة: أيُّها المُصَلِّي وَحْدَهُ ألا وَصَلْتَ إلى الصَّفّ فَدَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوْ جَرَرْتَ إلَيْكَ رَجُلاً إنْ ضَاقَ بِكَ المَكَانُ فَقَامَ مَعَكَ أعِدْ صَلاتَكَ، فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لَكَ. وابن ماجه: لا صَلاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ. والشيخان عن أبي هريرة: أمَا يَخْشَى أَحَدَكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أَنْ يَجْعَلَ الله رَأْسَهُ رأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ الله صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ. وابن قانع عن شيبان: مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإمَامِ أَوْ وَضَعَهُ فَلا صَلاةَ لَهُ. وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها لا يَزالُ قَوْمٌ يَتأَخَّرونَ عَنِ الصَّفِّ الأوّلِ حَتَّى يؤخِّرَهُمُ الله فِي النَّارِ.(1/73)
وهو وابنا ماجه وحبان عنها: إنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على مَيَامِنِ الصُّفُّوفِ.
(تنبيه) إن الجماعة في أداء مكتوبات الرجال الأحرار المقيمين فرض كفاية على الأرجح في مذهبنا، وفرض عين عند أحمد بن حنبل وعطاء والأوزاعي وأبي ثور، وابن المنذر وابن خزيمة وشرط لصحة الصلاة عند داود، وينبغي تسوية الصف، وهي سدُّ الفرج فيه، وإتمام الصف الأول فالأول، فتسويته مستحب في تأدية الجماعة، وشرط لنيل فضلها وصلاة من تركها صحيحة على الأصح لكن جزم ابن حزم بوجوبها وببطلان صلاة تاركها، وعدم مسابقة الإمام برفع الرأس أو قيام أو هويّ قبله، فمسابقته مكروهة على المرجح. ويسن العود إلى الإمام إن كان باقياً في ذلك الركن وحرام على ما جزم به بعض المتأخرين والاعتناء بالوقوف في الصف الأول، فالمحافظة عليه أولى من المبادرة إلى الإحرام لإدراك الركوع مع الإمام في غير الركعة الأخيرة.
(فرع) يندب قطع النافلة وقلب فريضة مؤداة نفلاً لخوف فوت جماعة.
((1/74)
فصل): شروط الاقتداء عدم تقدمه على إمامه بعقب، ونية الاقتداء بالإمام الحاضر مع تحرم، وشرط في جمعة نية إمامة معه، وهي سنة في غيرها وعلمه بانتقالات الإمام، واجتماعهما بمكان، فلو كانا في بناءين، شرط عدم حائل، أو وقوف واحد حذاء منفذ فيه، ولو وقف في علوَ وإمامه في سفل أو عكسه، لم يشترط محاذاة بعض بدنه بعض بدنه على طريق العراقيين التي رجحها النووي، وتوافق صلاتيهما نظماً لا نية وعدداً وموافقة في سنن تفحش مخالفة فيها فعلاً وتركاً كتشهد أول، وقنوت وتبعية بأن يتأخر إحرامه، وأن لا يتعمد مع علم تحريم تقدماً بتمام ركنين فعليين، ولو قصيرين أو تخلفا بهما بلا عذر، فإن خالف بطلت صلاته أو بأربعة طويلة بعذر أوجبه نحو بطء، أو شك في قراءة لا وسوسة، فليوافق في الرابع، ويقطع مسبوق الفاتحة، فإن قرأ ففاته الركوع لغت ركعته، وتخلف بلا عذر، فإن اشتغل بسنة أو سكت أو استمع قراءة الإمام قرأ وجوباً قدرها بعد ركوع الإمام، وعذر، فيتخلف ويدرك الركعة ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان طويلة على ما قاله الشيخان كالبغوي، فإن ركع بدون قراءة بقدرها بطلت صلاته، ولا يصح اقتداؤه بمن يعتقد بطلان صلاته، ولا قارىء بأمي يخل بحرف من الفاتحة كأرتّ بألثغ، ولو اقتدى بمن ظنه قارئاً أو غير مأموم، فبان أمياً أو مأموماً أعاد، وكذا ممن جهله في الجهرية إن أسرّ، لا إن بان ذا حدث أو نجاسة خفية على المأموم، بحيث لو تأملها لم يرها، ويكره اقتداء بفاسق ومبتدع، وإن لم يوجد أحد سواهما، وكره تعمد مقارنة الإمام بالأركان حتى السلام والتخلف عنه إلى فراغ الركن، وانفراد عن الصف، ووقوف الذكر الفرد عن يسار الإمام، ووراءه ومحاذياً له ومتأخراً لا كثيراً.(1/75)
اعلم أن الجماعة تتأدّى أي يسقط إثم تركها مع هذه المكروهات، لكن لا يحصل الثواب عليها مع سائر ما يكره من حيث الجماعة؛ وقال بعضهم: انتفاء الفضيلة يلزمه الخروج عن المتابعة حتى يصير كالمنفرد، ولا تصح له الجماعة.
{باب صلاة الجمعة}
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ للصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرَوا البَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِروا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا الله كثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الجمعة: 9 – 10). وأخرج القضاعي وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله: "الجُمُعَةُ حَجُّ الفُقَرَاءِ". والشافعي وأحمد عن سعد بن عبادة: "سَيِّدُ الأيَّامِ عِنْدَ الله يَوْمُ الجُمُعَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمِ الفِطْرِ" وفيه خمس خصال: فيه خلق الله آدم، وفيه أهبط من الجنة إلى الأرض، وفيه توفي وفيه ساعة لا يسأل العبد فيها شيئاً إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثماً أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، ومامن ملك مقرّب ولا سماء ولا أرض ولا ريح ولا جبل ولا حجر، إلا وهو مشفق من يوم الجمعة؛ ومسلم وأبو داود عن أبي موسى الأشعري أنه سمع رسول الله يقول: "إنَّ سَاعَةَ الإجَابَةِ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإمَامُ إلى أَنْ تُقْضَى الصَّلاةُ".(1/76)
وأحمد والترمذي عن ابن عمر: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ إلا وَقَّاهُ الله تَعَالَى فِتْنَةَ القَبْرِ" أعاذنا الله منها، والطبراني عن أبي سعيد: "إنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُم الجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هذَا فِي سَاعَتِي هذِهِ في شَهْرِيَ هذا في عَامِي هذا إلى يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَها بِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ إمامٍ عَادِلً، أَوْ إمَامٍ جَائِرٍ فَلا جُمِعَ لَهُ شَمْلُهُ ولا بُورِكَ لَهْ فِي أَمْرِهِ،أَلا وَلا صَلاةَ لَهُ، ألا وَلا حَجَّ لَهُ، أَلا وَلا بَرَّ لَهُ وَلا صَدَقَةً لَهُ". وأبو داود والحاكم عن طارق بن شهاب: "الجُمُعَةُ حَقُّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: عَبْدٌ مَمْلوكٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ" وأحمد ومسلم عن أبي هريرة: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ الوُضُوء؛ ثُمَّ أَتَى الجُمُعَةَ وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمْعَةِ الأخْرَى، وَزِيادَةَ ثَلاثَة أَيامٍ وَمَنْ مَسّ الحَصَى فَقَدْ لَغَا". وأحمد والحاكم عن أبي الجعد: "مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمَعٍ مُتَهاوِناً بِها طَبَعَ الله عَلَى قَلْبِهِ" والطبراني عن أسامة بن زيد: "مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمُعَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كُتِبَ مِنَ المُنَافِقِينَ".
وحكى الدّينوري عن الأوزاعي قال: كان عندنا صياد، وكان يخرج في الجمعة لا يمنعه مكان الجمعة من الخروج فخسف به وببغلته في الأرض، فخرج الناس وقد ذهبت بغلته في الأرض فلم يبق منها إلا أذنها وذنبها.
وحكى ابن أبي شيبة عن مجاهد: أن قوماً خرجوا في سفر حين حضرت الجمعة، فاضطرم عليهم خباؤهم ناراً من غير نار يرونها. قال اليافعي: بلغنا أن الموتى لا يعذبون ليلة الجمعة تشريفاً لهذا الوقت.(1/77)
وحكى الأوزاعي عن ميسرة بن جليس؛ أنه مرَّ بمقابر باب توماء وقائد يقوده، وكان مكفوفاً فقال: السلام عليكم أهل القبور أنتم لنا سلف. ونحن لكم تبع، ورحمنا الله وإياكم وغفر لنا ولكم، وردّ الروح في رجل منهم فأجابه، فقال: طوبى لكم يا أهل الدنيا حين تحجون في الشهر أربع مرات. قال وإلى أين يرحمك الله؟ قال: إلى الجمعة أفما تعلمون أنها حجة مبرورة متقبَّلة.
(تنبيهان: أحدهما) أن أداء صلاة الجمعة مع الجماعة على غير ذوي الأعذار فرض عين إجماعاً، فمن استحلّ تركها وهو مخالط للمسلمين كفر، ومن ثم لو قال إنسان أصلِّي ظهراً لا جمعة قُتل على الأصحّ.(1/78)
وثانيهما: أنه يحرم على من تلزمه الجمعة كمقيم لم يتوطن إنشاء سفر بعد فجرها ولو للطاعة. وأخرج أحمد وابن حبان عن ابن عباس: "اغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُؤوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُباً وَمُسُّوا مِنَ الطِّيِبِ" وابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ فَإِذا أَخَذَ فِي المَشْي كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً" . والديلمي عن أبي هريرة: "الغُسْلُ فِي هذه الأيامِ وَاجِبٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَوْمَ الفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ". وأبو داود والترمذي عن أوس بن أنس: "مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكّرَ وابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإمَامِ واسْتَمَعَ فَأَنْصَتَ، وَلَمْ يَلَغ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يخطوها مِنْ بَيْتِهِ إلى المَسْجِد عَمَلُ سَنَةٍ أُجْرَ صِيامِها وَقِيَامِها". وأحمد وأبو داود عن أبي سعيد: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ واسْتاكَ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتي المَسْجِدَ وَلَمْ يَتَخَطّ رِقَابَ النَّاس ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ الله أنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ أَنْصَتَ إذَا خَرَجَ الإمامُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صلاتِهِ كَانَ كفَّارَةً لِمَا بَيْنَها وَبَيْنَ الجُمُعَةِ التي قَبْلَها" والبزار: كان رسول الله يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل الخروج إلى الصلاة.(1/79)
والطبراني عن أبي الدرداء: "إنَّ الله وَملائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى أَصْحَابِ العَمَائِمِ يَوْمَ الجُمُعَةِ" والشيخان عن أبي هريرة: "إذا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسَاجِدِ مَلائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ الأوّلَ فالأَوَّلَ، فَإذا جَلَسَ الإمَامُ طَوَوْا الصُّحُفَ، وجاؤوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ. وَمَثَلُ المهجر كَمَثَلِ الذي يَهدِي بِدْنَةً، ثُمَّ كالذي يَهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كالذي يَهْدِي الكَبْشَ، ثُمَّ كالذي يَهْدِي الدَّجَاجَةَ، ثُمَّ كالذي يَهْدِي البَيْضَةَ" وأحمد والطبراني عن الأرقم: "إنَّ الذي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدَ خُروجِ الإمامِ كالجَارِّ قَصَبَه" أي أمعاءه "في النار". والترمذي وابن ماجه: "مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ اتخذَ جِسْراً إلى جَهَنَّمَ" وأحمد وأبو داود عن سمرة: "احْضروا الجُمُعَةَ وادْنُوا مِنَ الإمام فإنَّ الرَّجُلَ لا يَزَالُ يَتبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا" وأحمد عن ابن عباس: "مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ مَثَلَ الحمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً والَّذِي يَقُولُ لَهُ أنْصُتْ لا جُمُعَةَ لَهُ". وأبو داود والترمذي عن معاذ بن أنس: نهى رسول الله عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب.(1/80)
وابن أبي شيبة عن كعب قال: "الصَّدَقَةُ تُضَاعِفُ يَوْمَ الجُمُعَةِ" وابن زنجويه عن المسيب بن رافع قال: "مَنْ عَمِلَ خَيْراً في يَوْمَ الجُمُعَةِ ضُعِّفَ لَهُ بِعَشَرَةِ أَضْعَافٍ في سَائِرِ الأيّامِ؛ وَمَنْ عَمِلَ شَرَّاً فَمِثْلَ ذلِكَ" والبيهقي عن أبي سعيد؛ "مَنْ قَرَأَ سُورَة الكَهْفِ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ أضاء لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ العَتيقِ" وهو عن أبي هريرة: "مَنْ قَرَأَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ {حم الدخان} و {يس} أَصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ" وابن زنجويه عن وهب بن منبه قال: "مَنْ قَرَأَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ سُورة البقرة وآل عمرانَ كَانَ لَهُ نُورٌ مَا بَيْنَ غَريباً وَعَجيباً" وغريباً العرش، وعجيباً أسفل الأرضين وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها: "أَلا أَخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ مَلأَتْ عَظَمَتُها مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلِكَاتِبِها مِنَ الأجْرِ مِثْلُ ذلك. وَمَنْ قَرَأَها يَوْمَ الجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخْرَى وَزِيَادَةَ ثلاثَة أيامٍ وَمَنْ قَرَأَ الخَمْسَ الأوَاخِرَ مِنْها عِنْدَ نَوْمِهِ بَعَثَهُ الله أيّ الليل شَاءَ، وهي سُورَةُ أَصْحابِ الكَهْفِ. والدارمي عن مكحول: مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عُمْرَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ الملائِكَةُ إلى اللَّيْلِ وهو عن كعب: اقرؤوا سُورَةَ هُودٍ يَوْمَ الجُمُعَةِ. والطبراني عن أبي أمامة: مَنْ قَرَأَ حم الدخان في ليلةِ جُمُعةِ أَوْ يَوْمَ جُمُعَةٍ بنى الله لَهُ بيتاً في الجَنَّةِ. وابن أبي شيبة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "مَنْ قَرَأَ بَعْدَ الجُمُعَةِ فَاتِحَةَ الكِتَابِ و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} سَبْعَ مَرَّات حَفِظَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى.(1/81)
وفي رواية ضعيفة: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِر. وابن السني عن أنس: مَنْ قَالَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الجُمُعَةِ قَبْلَ صَلاةِ الغَدَاةِ أسْتَغْفِرُ الله الذِي لا إله إلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّات غَفَرَ الله تَعَالى لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ. وهو عن ابن عباس: مَنْ قَالَ بَعْدَمَا يَقْضِي الجُمُعَةَ: سُبْحَانَ الله العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ مائَةَ مَرَّةٍ غَفَرَ الله تَعَالَى لَهُ مائَةَ أَلْفِ ذَنْبٍ، وَلِوَالِدَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ. والخطيب عن جابر: لو دُعِي بِهذا الدُّعاءِ عَلَى شَيْء بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ في سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، يعني ساعة الإجابة إلَّا اسْتُجيبَ لِصَاحِبهِ: لا إله إلا أنْتَ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ يَا بَدِيعَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ. والبيهقي عن أبي هريرة: أكثروا من الصَّلاة عليّ في كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَإِنَّ صَلاةَ أُمّتِي تُعْرَضَ عَلَيّ فِي كُلِّ يَومِ جُمُعَةٍ، فَمَنّ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلاةً كانَ أَقَرَبَهُمْ إليَّ منزلةً. والدارقطني وحسنه العراقي: مَنْ صَلَّى علَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثَمَانِينَ مَرَّةً غَفَرْتُ لَهُ ذُنُوبَ ثَمانِينَ سَنَةٍ. قيل: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال تقول: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ النَّبي الأُمِّي وَتَعْقِدُ وَاحِدَةً، وأبو نعيم: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ مائَةَ مَرَّةً جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَعَهُ نُور لَوْ قُسِمَ ذلك النُّورُ بَيْنَ الخَلْقِ كُلِّهمْ لَوَسَعَهُمْ.(1/82)
والبيهقي: أكْثِرُوا مِنَ الصَّلاةِ عَليَّ يَومَ الجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ كُنْتُ لَهُ شَهيداً أَوْ شَفِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ. وفي رواية: مَنْ صَلَّى صَلاة العَصْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَكَانِهِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبي الأميّ وَعَلَى آلِهِ وَسَلِّمَ تَسْلِيماً ثَمانينَ مَرَّةَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُ ثَمانِينَ عَاماً، وَكُتِبَتْ لَهُ عِبَادَةُ ثمانينَ سَنةً. والبيهقي: أكْثِرُوا مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ وَيَوْمَ الجُمُعَةِ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلّى الله عَلَيْهِ بِها عَشْراً. وأبو داود والنسائي: إنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ.
وحكي أن خلاد بن كثير كان في النزع فوجد تحت رأسه رقعة مكتوب فيها: هذه براءة من النار لخلاد بن كثير فسألوا أهله: ما كان عمله؟ فقال أهله: كان يصلي على النبي كل يوم جمعة ألف مرة: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمد النَّبي الأمي. نسأل الله القَدِيرَ بِجَاهِ النَّبي البشير أن يَكْتُبَ لنا البراءة من النار والخلود في دار القرار.
((1/83)
فصل): في شروط صحة الجمعة. شروط صحتها ستة: وقوعها جماعة بنية إمامة واقتداء، وبأربعين مكلفاً ذكراً حرّاً متوطناً وبأبنية مجتمعة، ووقوع الصلاة كلها في وقت ظهر، وعدم تعدّد إلا لعسر اجتماع، وتقديم خطبتين بالعربية، وإن لم يفهموا. وأركانهما: حمد الله وصلاة على النبي بلفظهما، ووصية بالتقوى، ولو أطيعوا الله في كلَ، وقراءة آية مفهمة في إحداهما ودعاء للمؤمنين بأخروي في ثانية، وشرط جلوس بينهما بطمأنينة وموالاة عرفاً بين أركانهما وبينهما وبين الصلاة، وطهر وستر وقيام لقادر، ويجب إسماع الأربعين الذي تنعقد بهم الجمعة أركانهما، وأن يتأخر إحرام من لا تنعقد بهم الجمعة عن إحرام من تنعقد بهم.
(فرع) من له مسكنان ببلدين، فالعبرة بما كثرت فيه إقامته فيما فيه أهله وماله، فإن استويا في الكل فبالمحل الذي هو فيه حالة إقامة الجمعة.
{باب ما يحرم على الرجل من استعمال حرير صرف وحليّ نقد ومن تشبَّه بالنساء}(1/84)
أخرج أبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه: "رَأيت رسول الله أخذ حريراً فجعله عن يمينه، وذهباً فجعله عن يساره ثم قال: "إنَّ هذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أمتي" والحاكم: "مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخِرَةِ، وَمَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيا لَمْ يَشْرَبْهُ في الآخِرَةِ، وَمَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ لَمْ يَشْرَبْ بِهَا فِي الآخِرَةِ، ثم قال: لِبَاسُ أَهْلِ الجَنَّةِ أي الحَرِيرُ، وشَرَابُ أَهْلِ الجَنَّةِ أي الخَمْرُ، وَآنِيَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ، آنِيَةَ النَّقْدِ. والشيخان: لا تَلْبِسُوا الحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبسَهُ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخِرَةِ. وروى النسائي. قال ابن الزبير: مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيا لَمْ يَدْخلِ الجَنَّةَ. قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} (سورة الحج: 23) وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله عنه: "إنَّمَا يَلْبِسُ الحِريرَ في الدُّنْيا مَنْ لا خِلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ. والبزار عن حذيفة موقوفاً: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ حريرٍ أَلْبَسَهُ الله ثَوْباً مِنَ النَّارِ يوماً لَيْسَ مِنْ أيامِكُمْ، وَلَكِنْ مِنْ أَيَّامِ الله الطوَالِ. وأحمد: لا يَسْتَمْتِعُ بِالحَرِيرِ مَنْ يَرْجُو أيَّامَ الله: أي لقاءه وحسابه، وهو: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِرَ، فَلا يَلْبِسُ حريراً ولا ذهباً. والنسائي: أن رجلاً قدم من نجران إلى رسول الله، وعليه خاتَمٌ من ذهب فأعرض عنه رسول الله وقال: "إنَّكَ جِئْتَنِي وَفِي يدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نارٍ" ومسلم: أنه رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: "يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله: خذ خاتمك انتفع به. فقال: والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله.(1/85)
والبخاري: "لَعَنَ رسولُ الله المُخَنثينِ مِنَ الرِّجَالِ والمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النساء" والأوّل جمع مخنث بفتح النون وكسرها، وهو من فيه الانخناث أي التكسر، والتثني كما تفعله النساء، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى، والثاني المتشبهات من النساء بالرجال. وأبو داود والنسائي: "لَعَنَ رَسُولَ الله الرَّجُلَ يَلْبَسُ لَبْسَةَ المَرْأَةِ، وَالمَرْأَةَ تَلْبَسُ لَبْسَةَ الرَّجُلِ" والطبراني: أن امرأة مرّت على رسول الله متقلدة قوساً. فقال: "لَعَنَ الله المُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ" وأبو داود أتي رسول الله بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء. فقال رسول الله: "مَا بَالُ هذَا؟ قَالُوا: يتشبَّه بالنساء فأمر به فنفي إلى البقيع.
وحكي عن القطب عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه عطش في بعض سياحاته فرأى إناءً من فضة معلقاً في السماء، فأدلى عليه في سحابة وسمع صوتاً داخلها: اشرب يا عبد القادر، قد أبحنا لك المحرّمات وأسقطنا عنك الواجبات. فقال رضي الله عنه ونفعنا به: اجتنبنا يا ملعون لست أكرم على الله من نبيه محمد: فإنه لم يفعل له شيء من ذلك.
(تنبيهات: أحدها) أنه يحرم على الرجل استعمال الحرير وما أكثره وزناً منه لا ظهوراً، ولو باتخاذه بطانة، بافتراشه بلا حائل أو اتخاذه ستراً، وكذا تزيين البيوت والمساجد به، أو بصورة وبغيرهما مكروه وكالحرير المزعفر والمعصفر.
(فرع) لو لم يجد الرجل إلا ثوب حرير لزمته الصلاة فيه. قال الإسنوي: يلزم قطع ما زاد من الحرير على قدر العورة إن لم ينقص أكثر من أجرة الثوب، ويقدم الثوب المتنجس على الحرير في ستر العورة في غير الصلاة، ويحرم إنزال ثوبه أو إزاره عن كعبيه بقصد الخيلاء وإلا كره.(1/86)
وثانيها: أنه يحرم عليه استعمال حلي ذهب أو فضه إلا خاتماً من فضة، فيجوز بل يسنّ، ويحرم تمويهه بالذهب، وإن لم يحصل منه شيء بالعرض على النار، وكذا جعل شيء من ذهب داخل فضة الذي غطي بنحو بلور صاف، ويحرم على المكلف ولو امرأة استعمال وتزيين بإناء، وإن صغر جداً ومكحلة ومرود وخلال وما يخرج به وسخ الأذن من ذهب أو فضة، وكذا اقتناؤها.
وثالثها: أنَّ تشبُّه الرجال بالنساء فيما يختص بهنّ عرفاً غالباً من لباس أو كلام أو حركة وعكسه حرام، فمن التشبه المحرّم خضب الرجل يده ورجله بالحناء بغير عذر، واستعمال الرجل الثياب والكوافي التي فيها خيوط القصب، ولو يسيراً، لأنه من زينة النساء المختصة بهن، فمن فعله من الرجال صار متشبهاً بهنّ ملعوناً على لسان نبيه، ومحروماً من حلية الجنة. ألبسنا الله تعالى بمنه وكرمه حلية الجنة.
{باب عيادة المريض}
أخرج مسلم: إنَّ الله تَعَالَى يَقولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدنِي. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ العَالَمِينَ؟ قَال: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فلاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، أي لَوَجَدْتَ عِنْدَهُ ثوابي الَّذِي لا نِهَايَةَ لِعِظَمِهِ. والطبراني: "إنَّ العائِدَ يظلُّهُ الله بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ" والبخاري في الأدب: "ثَلاثٌ كُلهُنَّ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. عِيَادَةُ المَرِيضِ وَشُهُودُ الجَنَازَةِ وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ إذا حَمدَ الله تَعَالَى" وأحمد: "إذَا عَادَ الرَّجُلُ أخاه المُسْلِمَ فإنْ كَانَ غَدْوَة صلّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتّى يُمْسِي، وَإِنْ كَانَ عَشِياً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ".
((1/87)
تنبيه) إن العيادة مطلوبة إجماعاً. وأنها سنة عين عند الجمهور، وفرض كفاية عند بعض قدماء المالكية، وصرح البخاري بوجوبها، ولا يسنّ عيادة الفاسق المتجاهر بفسقه، بل يكره أو يحرم لتصريحهم بحرمة إيناسه، ولو بالجلوس معه، ويكره عيادة بدعة دينية لا من عالم يترتب على عيادته له إغراء العامة على اتباعه وحسن طريقته، فيحرم عليه ذلك، وضابط المرض الذي يسنّ العيادة منه ما يبيح ترك الجمعة، ولو رمداً بأن يكون مشقة الخروج والمشي معه، كمشقة المشي في الوحل فلا أثر لصداع ووجع ضرس خفيفين، وقال متأخِّرو أئمتنا: إن العيادة يوم الجمعة أفضل منها في غيره، ويسنّ للعائد أن يطيب نفسه بذكر بعض ثواب المرض، والصبر عليه أن يحصل مشتهاه إن لم يضره، وأن لا يعترض عليه في الأنين، وقد غلَّطوا من أطلق كراهته، نعم إن أمكنه أن يرشده بلطف إلى أن الذكر أولى فعل، وأن يسأل المريض الدعاء له لصحة الخبر بالأمر به، وأنه كدعاء الملائكة. وصح أنه كان إذا دخل على مريض قال: "لا بَأْسَ طَهُورٌ، إنْ شَاءَ الله" أي مرضك يطهر من الذنوب. وصح أيضاً أن من قال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعافيك ويشفيك سبع مرات عند مريض، لم يحضره أجله عافاه الله من مرضه. وينبغي فتح الكاف في المؤنث مريداً الشخص اتباعاً للفظ الوارد.
((1/88)
خاتمة): في ثواب المريض. أخرج الشيخان "مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ أي تَعَبٍ وَلا وَصَبٍ أي مَرَضٍ وَلا هَمَ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكّها إلا كَفَّرَ الله بِها مِنْ خَطَايَاهُ" وأبو داود: "إنَّ المُؤْمِنَ إذا أصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ عافاهُ الله مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لما مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَةً لَهُ يُسْتَقْبَلُ، وإنَّ المنافِقَ إذا مَرِضَ ثُمَّ عُوفي كانَ كالبَعيرِ عَقَلَهُ أَهَلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلَمْ يَدْرِ لم أَرْسَلُوهُ" والبخاري: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" أي يوجه الله إليه مصيبة أو بلاء.(1/89)
والطبراني: "يُؤْتِى بالشَّهِيدِ يَوْمَ القِيَامَةِ فيوقفُ لِلحِسَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمُتَصَدِّقِ فَيُنْصَبُ لِلحسَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ البَلاء لا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ وَلا يُنْصَبُ لَهُمْ دِيوانٌ، فَيُصَبُّ عَلَيهم الأجرُ صَبّاً حتى أنَّ أَهْلَ العافِيَةِ لَيَتَمَنَّوْنَ فِي المَوْقِفِ أنَّ أَجْسَادَهُمْ قُرِضَتْ بالمقَاريضِ مِنْ حُسْنِ ثوابِ الله" وهو: "إذَا مَرِضَ العَبْدُ ثَلاثَةَ أيام خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" وابن أبي الدنيا: "مَنْ كَتَمَ حُمَّى يَوْم أَصَابَتْهُ أَخْرَجَهُ الله مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَكَتَبَ الله لَهُ بَراءةً مِنَ النَّارِ وَسَتَرَ عَلَيْهِ كَمَا سَتَرَ بلأَ الله فِي الدُّنْيا" وأحمد والطبراني: "إنَّ الصُّدَاعَ والليلةَ لا يزالان بالمُؤْمِنِ، وإنَّ ذُنُوبَهُ مِثْلَ أَحُدٍ فَمَا يَدَعَانِهِ وَعَلَيْهِ من ذنوبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ" والقضاعي "الحُمَّى كيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ فنحُّوها عَنْكُمْ بِالماءِ البارِدِ" وأحمد والترمذي والنسائي: "مَنْ قَتَلَهُ بطْنُهُ لَمْ يُعَذَبْ فِي قَبْرِهِ" وصحّ: "مَنْ أصيبَ بِمُصِيبَةٍ بِمَالِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ فَكَتَمَها وَلَمْ يَشْكهَا إلى النَّاسِ كان حَقاً على الله أنْ يَغْفِرَ لَهُ".
(تنبيه) اعلم أن الأئمة اختلفوا في أن ثواب المريض هل على الصبر على مرضه، أو على نفس مرضه؟ والأصح في ذلك أنه إن صبر أثيب على المرض والصبر، وإلا لم يُثَب. هذا ما دلت عليه الأحاديث، قال عزّ الدين بن عبد السلام: إنّ المصائب لا ثواب فيها، لأنها ليست من كسب العبد، بل الثواب في الصبر عليها لا غير، نعم فيها التكفير، وإن لم يصبر إذ لا يشترط في المكفر أن يكون كسباً.
{باب النياحة وتوابعها واستماعها}(1/90)
أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري أنه قال: أنا بريء ممن برىء منه رسول الله، إن رسول الله برىء من الصالقة: أي الرافعة صوتها بالندب والنياحة، والحالقة: أي لرأسها عند المصيبة، والشاقَّة: أي لثوبها. وهما عن عبد الله بن مسعود: ليس منا من لطم الخدود وشقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. والحاكم وابن حبان: ثَلاثَةٌ مِنَ الكَفْرِ بِالله: شُقُّ الجَيْبِ أي طوق القميص والنِّياحَةُ والطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وابن ماجه النِّيَاحَةُ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ النَّائِحَةَ إذَا مَاتَتْ وَلَمْ تَتُبْ قَطَعَ الله لَهَا ثِياباً مِنْ قَطْران، وَدِرْعاً مِنْ لَهَبِ النَّارِ. والطبراني إنَّ هذه النوائحَ يُجْعَلْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ صَفَّيْنِ في جَهَنَّمَ صَفٌّ عَنْ يَمِينِهِمْ، وَصَفٌّ عَنْ يَسَارِهِمْ فَيَنْبَحْنَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ كَمَا تَنْبَحُ الكِلابُ. وأبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: لعن رسول الله النائحة والمستمعة. وابنا ماجه وحبان عن أبي أمامة أن رسول الله لعن الخامشة وجهها، والشاقَّة جيبها، والداعية بالويل والثبور. وأبو داود عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله في المعروف الذي أخذ علينا رسول الله أن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً ولا ننتف شعراً. والشيخان: المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي القَبْرِ بِما نِيحَ عَلَيْهِ. والترمذي: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيقومُ بَاكِيهِمْ فيقول: واجَمَلاهُ واسَنَدَاهُ ونحو ذلك، إلَّا وَكَّلَ الله بِهِ مَلَكَيْنِ يلهزمانه: أهكذا كُنْتَ. والبخاري عن النعمان بن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي واجملاه واكذا واكذا تعدد عليه، فقال لها حين أفاق ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذلك، فلما مات لم تبك عليه.(1/91)
وفي رواية رواها الطبراني فقال: يا رسول الله أغمي عليّ فصاحت النساء واعزاه واجملاه فقام ملك معه مرزبة فجعلها بين رجليّ فقال: أنت كما تقول قلت: لا. ولو قلت: نعم، ضربني بها.
وروي: مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ، فَخَرَقَ عَلَيْهَا ثَوباً أَوْ لَطَمَ خَدّاً أوْ شَقَّ جَيْباً أوْ نَتَفَ شَعْراً فَكَأَنَّمَا أَخَذَ رُمْحاً يُريدُ أنْ يُحَارِبَ بِهِ رَبَّهُ. قال صالح المري: نمت ليلة جمعة بمقبرة فرأيت الأموات خرجوا من قبورهم وتحلقوا، ونزلت عليهم أطباق مغطاة، وفيهم شاب يعذب فتقدمت فسألته فقال: لي والدة جمعت النوادب، فأنا معذب بذلك فلا جزاها الله عني خيراً وبكى، ثم أمرني أن أذهب إليها، وأعلمني بمحلها وأن أناشدها بترك هذا العذاب العظيم الذي تسببت له فيه، فلما أصبحت ذهبت إليها، ورأيت عندها تلك النوادب، ووجهها قد أسودّ من كثرة اللطم والبكاء، فذكرت لها ذلك المنام فتابت وأخرجت النوادب، وأعطتني دراهم لأتصدّق بها عنه، فأتيت المقبرة ليلة الجمعة على عادتي، وتصدّقت عنه بتلك الدراهم، فنمت فرأيته وهو يقول لي جزاك الله عني خيراً أذهب الله عني العذاب، ووصلت إليّ الصدقة فأخبرْ أمي بذلك، فاستيقظت فذهبت إليها، فوجدتها ماتت فحضرت الصلاة عليها، ودفنت بجنب ولدها.
((1/92)
تنبيه) قد أجمعت الأئمة على تحريم الندب وهو تعديد محاسن الميت كواجملاه، والنوح وهو رفع الصوت بالندب ومثله إفراط رفعه بالبكاء، وإن لم يقترن بندب، ولا نَوح وضرب نحو الخدّ والصدر وشق نحو الجيب ونشر الشعر وحلقه ونتفه وتسويد الوجه، وإلقاء الرماد على الرأس والدعاء بالويل والثبور، أي الهلاك وكل شيء فيه تغيير للزيّ كلبس ما لا يعتاد لبسه أصلاً أو على تلك الصفة وكترك شيء من لباسه والخروج بدونه على خلاف عادته. أما البكاء السالم من كل ذلك، فهو جائز قبل الموت وبعده، لكن الأولى تركه بعده، وما مر من أن الميت يعذب ببكاء أهله اختلف الأئمة فيما يحمل عليه؟ والصحيح عندنا أنه محمول على ما إذا أوصى بذلك، بخلاف ما إذا سكت، فلم يأمر به ولم ينهَ، وقيل: إنه إذا سكت ولم ينههم عن نحو النوح يعذب بذلك أيضاً، لأن سكوته رضاً منه به، فعذب به كما لو أمر فمن أراد الخروج من ورطة هذا القول، ينبغي إذا نزل به مرض أن ينهاهم عن بدع الجنائز، وغيرها من المحرمات الشنيعة والقبائح الفظيعة، وفقنا الله لمرضاته.
((1/93)
فصل) فيما يقوله المريض للنجاة من العذاب. أخرج الترمذي والنسائي وابنا ماجه وحبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله: "مَنْ قَالَ لا إله إلَّا الله وَالله أَكْبَر صَدَّقَهُ رَبُّهُ فقال: لا إله إلَّا أنَا وَأَنَا أَكْبَرُ، وإذا قالَ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ الله لا إلهَ إلاّ أَنَا وَحْدي لا شَرِيكَ لي، وإذا قَالَ: لا إلهَ إلاّ الله لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ قَالَ الله لا إله إلَّا أنا لِيَ المُلْكُ وَلِيَ الحَمْدُ، وإذا قالَ لا إله إلا الله ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِالله قَالَ الله لا إله إلا أنَا وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِي مَنْ قَالَها في مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ" وابن عساكر عن علي كرّم الله وجهه عن النبي: "كَلِمَاتٌ مَنْ قَالَهُنَّ عِنْدَ وَفَاتِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ: لا إله إلَّا الله الحَلِيمُ الكريمُ ثلاثاً والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ ثلاثاً تَبَارَكَ الَّذِي بيدِهِ المُلْكُ يحيي ويميتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" والحاكم عن سعد بن أبي وقاص عنه: "أيُّمَا مُسْلِم قَالَ فِي مَرَضِهِ لا إلهَ إلَّا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِي كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ في مَرَضِهِ ذلِكَ أُعْطِيَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ. وإنْ بَرِيءَ وَقَدْ غُفِرَتْ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ" والطبراني: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي يَمُوتَ فِيهِ مائَةَ مَرَةٍ لَمْ يُفْتَنْ فِي قَبْرِهِ وَأَمَنَ مِنْ ضَغْطَة القَبْرِ وَحَمَلَتْهُ المَلائِكَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَجْنحَتِها حَتَّى يُجيزونَهُ مِنَ الصِّرَاطِ إلى الجَنَّةِ"(1/94)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ألا أَخْبِرُكَ بَأَمْرٍ حَقَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فِي أَوّلِ مَضْجَعِهِ منْ أَمَرَضه نَجّاهُ الله مِنَ النَّارِ قُلْتُ بَلَى قَالَ: لا إله إلا الله يَحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العِبَادِ وَالبِلادِ، والحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ عَلى كُلِّ حالٍ الله أَكْبَرُ كِبْرياء رَبِّنَا وَجَلالَهُ، وَقَدْرَتُهُ بِكُلِّ مَكانِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أَمْرَضْتَنِي لِقَبْض رُوحِي في مَرَضِي هذا فَاجْعَلْ رُوحِي في أَرْوَاحِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْكَ الحُسْنَى، وَأَعْذْنِي كَمَا أَعَذْتَ أَولئِكَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الحُسْنَى إنْ متُّ في مَرَضِكَ ذلِكَ، فإلى رَضْوانِ الله والجنةِ، وإنْ كُنْت قَدِ اقْتَرَفْتَ ذنوباً تابَ الله عَلَيْكَ" وعن معاذ: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إله إلَّا الله دَخَلَ الجَنَّةَ" وعن ابن عباس افْتَتِحُوا على صِبْيَانِكُمْ أَوَّلَ كَلِمَة بلا إله إلَّا الله ولقِّنُوهُمْ عِنْدَ المَوْتِ لا إله إلَّا الله فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَوّلَ كَلامِهِ لا إله إلا الله وآخِرَ كَلامِهِ لا إله إلا الله ثُمَّ عَاشَ ألْفَ سَنَةٍ ما سُئِلَ عَنْ ذَنْبٍ وَاحِدٍ" وعن معقل بن يسار عن النبي: "اقْرَؤُوا على مَوْتَاكُمْ يس" وروى: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إلا هَوَّنَ الله عَلَيْهِ. وَيُسَتَحَبُّ إذا احْتَضَرَ المَيِّتُ أنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ أيضاً سُورَةَ الرَّعْدِ فَإِنَّ ذلِكَ يُخَفِّفُ عَنِ المَيِّتِ سَكْرَةَ المَوْتِ وَإِنَّهُ أَهْوَنُ لِقَبْضِهِ وَأَيْسَرُ لِشَأْنِهِ، وذكر جماعة أن السواك يسهل خروج الروح لاستياكه عند موته" وروى أنس عن النبي: "مَنْ أتَاهُ مَلُكَ المَوْتِ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ أُعْطِيَ الشَّهَادَةَ".
((1/95)
فصل): في الصبر على المصائب. أخرج الشيخان: "أنَّ بنتاً له أَرْسَلَتْ إلَيْهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَهَا فِي المَوْتِ، فَقَالَ للرسول ارْجِعْ إلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى فَمُرْها فَلْتَصْبِرَ وَلْتَحْتَسِبْ والبخاري: "مَا لِعَبْدِي المُؤْمِن إذَا قَبَضْتُ صَفِيّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ أَحْتَسِبُهُ إلَّا الجَنَّةَ" وفي حديث: "مَنْ أُصيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذُكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا أَعْظَمُ المَصَائِبِ" وكأنَّ القاضي حسيناً من أكابر أئمتنا أخذ من هذا قوله الذي أقروه عليه: يجب على كلّ مؤمن أن يكون حزنه على فراق أبويه، كما يجب عليه أن يكون النبيُّ أحبّ إليه من نفسه وأهله وماله، وفي آخر: "إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى" أي إنما يحمد الصبر عند مفاجأة المصيبة، وأما فيما بعد فيقع السلوُّ طبعاً، ومن ثم قال بعضهم: ينبغي للعاقل أن يفعل بنفسه أوّل أيام المصيبة ما يفعله الأحمق بعد خمسة أيام. وفي آخر: "إنَّ الضَّرْبَ عَلَى الفَخْذِ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُحْبِطُ الأجْرَ" وورد في حديث: "مَنْ قَدَّمَ ثَلاثَةً مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ كانُوا لَهُ حُصْناً مِنَ النَّارِ. فَقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قدمت اثنين قال: واثنين. قال آخر: إنِّي قَدَّمْتُ وَاحِداً. قال وواحداً وَلكِنْ ذلك في أوّل صَدْمَةٍ" وفي حديث مسلم: "إنَّ الأَطْفَالَ دَعاميصُ الجَنَّةِ أي حُجَّابُ أَبْوَابها يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أبَاهُ أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، أَوْ قَالَ بِيَدِهِ فَلا يَنْتَهي حَتَّى يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ" وفي خبر مسلم: "أنَّهُ مَاتَ ابنٌ لأبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سليمٍ.(1/96)
فَقَالَتْ لا يُحَدِّثُهُ إلَّا أنا، فَلَمَا جَاءَ قَرَّبَتْ إلَيْهِ عَشَاءَهُ فَأَكَلَ وَشَرِبَ ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ ما كَانَتْ تَتَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَا رَأَتْهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْها. قَالَتْ: يَا أبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْماً أَعاروا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ فَطَلَبُوا عاريتَهُم لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لا قَالَتْ أُمُّ سَلِيمٍ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، فَغَضِبَ وأَتى إلَى رَسُولِ الله فَأَخْبَرَهُ، فقال بارَكَ الله لَكُمَا في لَيْلَتِكُمَا".
وروي أن ابن عمر ضحك عند دفن ابنه فقيل له: أتضحك؟ فقال: أردت أن أرغم الشيطان. وقال أبو علي الرازي صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً ولا مستبشراً إلا يوم مات ابنه علي فقيل له في ذلك. فقال: إن الله أحب أمراً فأحببته.(1/97)
وحكى اليافعي عن أبي الحسن السراج قال: خرجت حاجَّاً إلى بيت الله الحرام، فبينما أنا أطوف وإذا بامرأة قد أضاء حسن وجهها، فقلتُ: والله ما رأيت اليوم قط نضارة وحسناً مثل هذه المرأة وما ذاك إلا لقلة الهمّ والحزن، فسمعت ذلك القول مني، فقالت: كيفما قلت يا هذا الرجل؟ والله إني لوثيقة بالأحزان ومكلومة الفؤاد بالهموم والأشجان ما يشركني فيها أحد، فقلت لها: وكيف ذلك؟ قالت: ذبح زوجي شاةً ضحَّى بها ولي ولدان صغيران يلعبان، وعلى ثديي طفل يرضع، فقمت لأصنع طعاماً إذ قال ابني الكبير للصغير: ألا أريك كيف صنع أبي بالشاة؟ قال: بلى، فأضجعه وذبحه وخرج هارباً نحو الجبل فأكله ذئب، فانطلق أبوه في طلبه فأدركه العطش، فمات فوضعت الطفل وخرجت إلى الباب أنظر ما فعل أبوه، فدبّ الطفل إلى البرمة، وهي على النار فألقى يده فيها وصبها على نفسه وهي تغلي، فانتثر لحمه على عظمه، فبلغ ذلك ابنة لي كانت عند زوجها فرمت بنفسها إلى الأرض فوافقت أجلها، فأفردني الدهر من بينهم. فقلت لها: فكيف صبرك على هذه المصائب العظيمة؟ فقالت: ما من أحد ميز الصبر والجزع إلا وجد بينهما منهاجاً متفاوتاً، فأما الصبر بحسن العلانية، فمحمود العاقبة، وأما الجزع فصاحبه غير معوّض.
وحكي عن بعض المشايخ أنه رأى سفيان الثوري في المنام، فقال له: كيف رأيت الموت؟ فقال: أما الموت فلا تسأل عن عظمته وشدّته. فقال: أي الأعمال وجدته أنفع؟ فقال: كل عمل صالح أنفع، ولكنني نجوت من الحساب باسترجاعي وصبري عند مصيبة بولد لي مات. فقال سبحانه وتعالى أنسيت وقد قبضت ثمرة فؤادك، فاسترجعتَ وحمدتني اذهب فقد غفرت لك سيئاتك، وضاعفت حسناتك، ورفعت درجاتك. غفر الله سيئاتنا وضاعف حسناتنا ورفع درجاتنا.
((1/98)
خاتمة): قال أصحابنا وغيرهم يتأكد لمن ابتُلي بمصيبة بميت أو في نفسه أو أهله أو ماله، وإن خفت أن يكثر {إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} (سورة البقرة: 156)، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف عليّ خيراً منها لما وعد الله تعالى من قال ذلك بأن عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأنهم هم المهتدون، أي للترجيح أو للجنة والثواب. ولخبر مسلم: "إنَّ مَن قَالَ ذلِكَ آجَرَهُ الله وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً" وأحمد: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلا مُسْلِمَةٍ أَصيبَ بِمُصِيبَةٍ فَتَذَكَرَهَا وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا، فَيَسْتَرْجِعُ إلَّا جَدَّدَ الله عِنْدَ ذلِكَ، فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِها يَوْمَ أُصِيبَ" وقال ابن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعطه غيرهم - إنا لله وإنا إليه راجعون - ولو أوتوه لقاله يعقوب عليه السلام ولم يقل: - يا أسفاً على يوسف - جعلَنا الله من الصابرين في الضراء والشاكرين في السراء.
(فصل): في التعزية. أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: "مَنْ عَزَّى مُصَاباً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ" وهو عن أبي برزة: "مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بِرِدَاءٍ" وابن ماجه والبيهقي عن عمرو بن حزم: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِلَلِ الكَرَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
((1/99)
تنبيه) إن التعزية وهي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه، ويهوّن مصيبته مستحبة قبل مضي ثلاثة أيام من بعد الدفن وتكره بعد مضيها، ويسنّ أن يعمّ بالتعزية جميع أهل الميت وأقاربه الكبار والصغار والرجال والنساء، ويكره لهم الجلوس لها وصنع طعام يجمعون الناس عليه لما روى أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة. ويستحب لجيران أهل الميت ولو أجانب ومعارفهم، وإن لم يكونوا جيراناً وأقاربه الأباعد، وإن كانوا بغير بلد الميت أن يصنعوا لأهله طعاماً يكفيهم يوماً وليلة. وأن يلحوا عليهم في الأكل، ويحرم صنعه للنائحة، لأنه إعانة على معصية.
(فصل): في زيارة القبور. أخرج العقيلي عن أبي هريرة قال أبو رزين: يا رسول الله إن طريقي على الموتى فهل لي كلام أتكلم به إذا مررت عليهم؟ قال: "قُل السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُؤمِنينَ أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تُبَعٌ وَإِنَّا إنْ شَاءَ الله بِكُمْ لاحِقُونَ". قال أبو رزين: هل يسمعون؟ قال: يَسْمَعُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يُجيبوا: أي جواباً يسمعه الحي، قال: يا أبَا رزين، ألا تَرْضَى أنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ بِعَدَدِهِمُ المَلائِكَةُ".
وابن أبي الدنيا والبيهقي عن محمد بن واسع قال: "بَلَغَنِي أنَّ المَوْتَى يَعْلَمُونَ بِزُوّارِهِمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَوْماً قَبْلَهُ وَيَوْماً بَعْدهُ" والبيهقي عن محمد بن النعمان مرسلاً: "مَنْ زَارَ قَبْرَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ غُفِرَ لَهُ وَكُتِبَ بَارّاً.(1/100)
وروي عن النبي أنه قال: "آنَسُ مَا يَكُونَ المَيِّتُ فِي قَبْرِهِ إذا زَارَهُ مَنْ كَانَ يُحِبَّهُ في الدُّنْيا" وأخرج مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله خرج إلى المقبرة. فقال: السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَار قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وإنَّا إنْ شاءَ الله بِكُمْ لاحِقُونَ. وزاد ابن السني عن عائشة رضي الله عنها: اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلا تَفُتْنَا بَعْدَهُمْ. وابن أبي شيبة عن الحسن قال: من دخل المقابر، فقال: اللهم ربّ الأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا، وهي بك مؤمنة أدخل عليها روحاً من عندك وسلاماً متى استغفر له كل مؤمن مات مذ خلق الله آدم. وأخرجه ابن أبي الدنيا بلفظ: كتب الله له بعدد من مات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات. والبيهقي عن بشر بن منصور قال: كان رجل يختلف إلى الجبانة فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر فقال: آنس الله وحشتكم ورحم الله غربتكم وتجاوز الله عن سيئاتكم، وقبل الله حسناتكم لا يزيد على هؤلاء الكلمات. قال ذلك الرجل: فأمسيت ذات ليلة، فانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر، فبينما أنا نائم إذا أنا بخلق كثير جاؤوني، قلت: من أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر وقد عوّدتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك. قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها، قلت: فأنا أعود لذلك؟ قال: فما تركتها بعد. وقال محمد بن أحمد المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والإخلاص والمعوّذتين، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم. فالاختيار أن يقول القارىء بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان.(1/101)
وحكى بعض أهل العلم أنّ رجلاً رأى في النوم أهل القبور في بعض المقابر قد خرجوا من قبورهم إلى ظاهر المقبرة، وإذا بهم يلتقطون شيئاً ما يدري ما هو، قال: فتعجب من ذلك، ورأيت رجلاً منهم جالساً لا يلتقط معهم شيئاً فدنوت وسألت: ما الذي يلتقط هؤلاء؟ فقال يلتقطون ما يهدي إليهم المسلمون من قراءة القرآن والصدقة والدعاء، فقال: فقلت له: فلم لا تلتقط أنت معهم؟ أنا غنيّ عن ذلك، فقلت: بأي شيء أنت غنيّ؟ قال: بختمة يقرؤها ويهديها إليّ كل يوم ولدي يبيع الزلابية في السوق الفلاني، فلما استيقظت ذهبت إلى السوق حيث ذكر، فإذا شاب يبيع الزلابية ويحرّك شفتيه، فقلت: بأي شيء تحرّك شفتيك؟ قال: أقرأ القرآن وأهديه إلى والدي في قبره، قال: فلبثت مدّة من الزمان ثم رأيت الموتى قد خرجوا من القبور كما تقدّم، وإذا بالرجل الذي كان لا يلتقط صار يلتقط فاستيقظت وتعجبت من ذلك، ثم ذهبت إلى السوق لأتعرّف خبر ولده، فوجدته قد مات.
وحكي أن بعض النساء توفيت فرأتها في المنام امرأة تعرفها، فإذا عندها تحت السرير آنية من نور مغطاة فسألتها: ما هذه الأوعية؟ فقالت: فيها هدية أهداها إليّ أبو أولادي البارحة، فلما استيقظت المرأة ذكرت ذلك لزوج الميتة فقال: قرأت البارحة شيئاً من القرآن وأهديته إليها.
(خاتمة): أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
ومسلم: لأنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ، فَتَحْرِقَ ثِيَابَه فَتَخْلُصَ إلى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلى قَبْرٍ. وابن منده عن القاسم بن مخيمرة قال: لأنْ أَطأَ عَلى أَسْنَانِ رُمْحٍ مَتَى تبيد مِنْ قَدَمي أَحَبُّ إليّ مِنْ أَنْ أَطأَ عَلَى قَبْرٍ، وإنَّ رَجُلاً وَطِىءَ عَلَى قَبْرٍ، وإنَّ قَلْبَهُ لَيَقْظَانُ إذ سَمِعَ صَوْتاً مِنَ القَبْرِ: إلَيْكَ عَني وَلا تُؤْذِني.
((1/102)
تنبيهان): أحدهما قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء والشهداء والعلماء تبركاً بذي القبر وإعظاماً له، وإيقاد السراج على القبور وتبركاً وتعظيماً به وإن قلّ. وثانيهما قال جماعة من أصحابنا، وتبعهم النووي في شرح مسلم بحرمة الجلوس والوطء على القبر، وجزم آخرون كالنووي وغيره بالكراهة بلا حاجة، وفقنا الله لطاعته، وأنالنا من سوابغ رضاه وهباته، وحمانا من موجبات سخطه وأليم عقوباته آمين.
{كتاب الزكاة}
قال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (سورة فصلت: 6 - 7) سماهم المشركين؛ وقال تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ} (سورة آل عمران: 180) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يَنْفِقُوها فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يَحْمي عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمِ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكَنِزُونَ} (سورة التوبة: 34 - 35).(1/103)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لا يؤدّي مِنْهَا حَقَّهَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ صَفَحْتُ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأَحْمي عَلَيْه في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوى بِها جَنْبُهُ وَجَبِينُه وَظَهْرُهُ" أي يوسع جسمه لها كلها وإن كثرت "كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمسينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يَقْضِي بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إمّا إلى الجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ، قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: وَلا صَاحِبَ إبْلٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقِّهَا وَمِنْ حَقِّها يَوْمَ وُرودِها إلَّا إذا كانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بُطِحَ لَها بِقَاع قَرْقَر أوفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنها فَصيلاً واحِداً تَطَؤهُ بأَخْفَافِها، وتَعَضُّهُ بأَفْواهِها كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ أولاها رَدّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا في يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتى يُقْضَى بَينَ العِبَادِ، فيرى سَبيلَهُ إمّا إلى الجَنَّةِ وإمَا إلى النَّارِ.(1/104)
قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: وَلا صَاحِبَ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يؤدّى مِنْهُمَا حَقَّهُمَا إلَّا إذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَطَحَ لَها بِقاعٍ قَرْقَرَ لا يَفْقِدُ شَيئاً لَيْسَ فِيها عَقْصَاء، وَلا جَلْحَاءُ ولا عَصْبَاءُ تَنْطَحُهُ بقرونها، وَتَطَؤهُ بأظلافِها كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أَوْلاهَا، ردّ عَلَيْهِ أُخراها في يَوْمٍ كانَ مقدارُهُ خمسينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيَرَى سبيلَهُ إما إلى الجَنَّة وإمّا إلَى النَّارِ" والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: مَنْ آتَاهُ الله مَالاً فَلَمْ يؤدِّ زَكاتَهُ مَثُلَ لَهْ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجاعاً أَقْرَعَ لَهُ زبيبتان يُطوّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بلهزمتيه، أي شُدْقَيْهِ، ثم يقولُ: أنَا مَالك أنا كَنْزُكَ. والشيخان عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل حسن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغص كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، فيتزلزل. ثم ولى، فجلس إلى سارية وتبعته وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت. قال: إنهم لا يعقلون شيئاً. والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها: مَا خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ أَوْ قَالَتِ الزَّكَاةُ مَالاً إلَّا أَفْسَدَتهُ، أي ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته. والطبراني عن أنس: مَانِعُ الزَّكَاةِ يَوْمَ القِيَامَةِ في النَّارِ. وصح عن ابن مسعود: أُمِرْنَا بِإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكَاةِ وَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلا صَلاةَ لَهُ، وفي رواية عن عبد الله: مَنْ أَقَامَ الصَّلاةَ، وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ، فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يَنْفَعُهُ عَمَلْهُ.(1/105)
وروي عن ابن عباس: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبْلِغُهُ حَجَّ بَيْتِ الله، وَلَمْ يَحُجَّ أَوْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَلَمْ يَزُكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ المَوْتَ، فقال له رجل: اتقِ الله يا بن عباس فإنما يسأل الرجعة الكفار، فقال ابن عباس سأتلو عليك بذلك قرآناً. قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِي أَحَدَكُمْ المَوْتِ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} أي أؤدّي الزكاة وأَكُنْ مَعَ الصَّالحِينَ (سورة المنافقون: 10) أي أحج.(1/106)
وحكى شيخنا ابن حجر رحمه الله تعالى: أن جماعة من التابعين خرجوا لزيارة أبي سنان، فلما دخلوا عليه وجلسوا عنده، قال: قوموا بنا نزور جاراً لنا مات ونعزيه، قال محمد بن يوسف الغرباني فقمنا معه ودخلنا على ذلك الرجل، فوجدناه كثير البكاء والجزع على أخيه، فجعلنا نعزيه ونسليه، وهو لا يقبل تسلية ولا عزاء، فقلنا له: أما تعلم أن الموت سبيل لا بدّ منه قال: بلى، ولكن على ما أصبح وأمسى فيه أخي من العذاب فقلنا له قد أطلعك الله على الغيب؟ قال: لا ولكن لما دفنته وسوّيت عليه التراب، وانصرف الناس عنه، وجلست عند قبره، وإذا صوت من قبره يقول: آه أفردوني وحيداً أقاسي العذاب قد كنت أصوم قد كنت أصلي. قال: فأبكاني كلامه فنبشت التراب عنه لأنظر ما حاله، وإذا القبر يلمع فيه نار، وفي عنقه طوق من نار، فحملتني شفقة الأخوّة ومددة يدي لأرفع الطوق من رقبته، فاحترقت أصابعي ويدي، ثم أخرج إلينا يده فإذا هي سوداء محترقة قال: فرددت عليه التراب، وانصرفت فكيف لا أبكي على حاله وأحزن عليه؟ فقلنا: فما كان أخوك يعمل في الدنيا؟ قال: كان لا يؤدي الزكاة من ماله قال: فقلنا: هذا تصديق قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيطوَّقونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ} (سورة آل عمران: 180).
((1/107)
خاتمة): في ذم البخل. أخرج ابن عدي: "لا يَجْتَمِعُ الإيمانُ والبُخْلُ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَبَداً" وأبو يعلى: ما محق الإسلام مَحْقَ الشح شيءٌ. والخطيب يقولون: أو يقول قائلكم الشحيح أغدر من الظالم، وأيّ ظلم أظلم عند الله من الشح يحلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله أن لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل. والديلمي: الوَيْلُ كُلُّ الوَيْلِ لِمَنْ تَرَكَ عِيَالَهُ بِخَيْرٍ، وَقَدِمَ عَلَى رَبِّهِ بِشَرَ. والطبراني والبيهقي صَلاحُ أوّلِ هذِهِ الأُمّةِ بالزُّهْدِ واليَقِينِ، وَيَهْلَكُ آخِرُهَا بِالبُخْلِ والأمَلِ.
(فصل): في زكاة الذهب والفضة. اعلم أنه تجب الزكاة في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ففيهما يجب ربع عشرهما إذا تمّ حول بعد أن ملكهما، وأنه لا يجوز له تأخيرها بعد تمامه، لما روى أحمد وابن خزيمة وحبان وأبو يعلى عن ابن مسعود إن لاوي الزكاة، أي مؤخرها من جملة الملعونين عن لسان محمد. ومن ثم جزم بعضهم بعدّه كبيرةً، فإن أخرها وهو قادر على أدائها ضمنها. ولو امتنع من أدائها جاحداً وجوبها كفر وقتل بكفره كما يقتل المرتد، وإن منعها بخلاً بها أخذت منه قهراً وعزّر، فإن امتنع بمنعة قاتله الإمام، وأنه يشترط في صرف الزكاة نية زكاة المال أو صدقة المال المفروضة عند دفعها، أو عزلها أو إعطائها الوكيل، فلو تصدّق بجميع ماله، ولم ينوِ الزكاة لم تسقط زكاته وإعطاؤها للمستحقين، فلو أعطاها لكافر أو عبد غير مكاتب أو مكفي بنفقة زوج أو قريب، أو غني ملك كفاية العمر الغالب، أو وجد كسباً لائقاً حلالاً يقع موقعاً من حاجته، أو لهاشمي أو مطلبي أو مواليهما لم يقع عن الزكاة.
وحكى الحصني: أنه كان بعض الناس يخرج زكاته ثلاث مرات ويقول: يحتمل أن الذي أخذها غير مستحق، ومن يقدر على هذه العقوبات، فبادر يا ابن آدم إلى تخليص ذمتك بأداء زكاة مالك قبل أن يأتي بغتة عذاب ربك.
((1/108)
فصل): في صدقة التطوّع. أخرج الطبراني عن أنس قال: قال رسول الله: "تَصَدَّقُوا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ فَكَاكُكُمْ مِنَ النَّارِ". والشيخان عن عدي بن حاتم: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". والقضاعي عن أبي هريرة: "الصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مِيتَةَ السُّوءِ". والطبراني عن عقبة بن عامر: "إنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِىءُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ، وإنَّمَا يَسْتَظِلُّ المؤمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ". والبيهقي عن أبي هريرة: "مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ المُسْلِمَ شَهْوَتَهُ حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ". والنسائي والحاكم عن ابن عمر: "مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ الخُبْزَ حَتَّى يُشْبِعَهُ وَسَقَاهُ مِنَ الماءِ حَتَّى يرويَه بَعَّدَهُ الله مِنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ كُلُّ خَنْدَقٍ سَبْعمائَةِ عَامٍ" وفي رواية: "مَا بَيْنَ كُلِّ خنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسمائَةِ عَامٍ". والنسائي عن ابن عباس: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِماً ثوباً إلا كَانَ في حِفْظِ الله تعالى مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ خِرْقَةٌ". والعقيلي عن ابن عمر: "كَمْ مِنْ حَوْرَاءَ عَيْناً مَا كَانَ مَهْرُهَا إلَّا قَبْضَةً مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مِثْلَهَا مِنْ تَمْرٍ". وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري: "أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِناً على جُوعٍ أَطْعَمَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِناً عَلى ظَمَإٍ سَقَاهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الرَّحيقِ المَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِناً عَلَى عرْى كَسَاهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حُلَلِ الجَنَّةِ" وأبو داود وابن حبان عن أبي سعيد: "لأنْ يَتَصَدَّقُ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمالِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ".(1/109)
والشيخان عن حارثة: "تَصَدَّقُوا فَسَيأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَيقولُ الذي يأتيه بها لَوْ جِئْتَ بالأمْسِ لَقَبِلْتُها، فَأَمَّا الآنَ فَلا حَاجَةَ لِي فِيها فَلا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُها" والبيهقي عن أبي هريرة: "مَا فَتَحَ رَجُلٌّ بَابَ عَطِيَّةٍ بِصَدَقَةٍ أَوْ صِلَةٍ إلَّا زَادَهُ الله بِها كَثْرَةً، وَمَا فتح عَبْدٌ باب مَسْألَةٍ يُرِيدُ بِها كَثْرَةً إلا زَادَهُ الله بِها قلةً". والطبراني عن أبي أمامة: "لَوْلا أنَّ المَسَاكِينَ يَكَذِبُونَ مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُمْ". والبيهقي عن ابن عمر: "مَنْ سُئِلِ بِوَجْهِ الله فَأَعْطَى كُتِبَ لَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً". وأحمد والترمذي عن سلمان بن عامر: "الصَّدَقَةُ عَلَى المَسَاكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحْمِ ثِنتانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ". وابن حبان: "صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ وَصِلَةُ الرَّحْمِ تُزِيدُ في العُمْرِ، وَفِعْلُ المَعْرُوفِ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ". وابن عدي عن أبي هريرة: "أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ" وهو عن جابر: "إذَا أَتَاكُمُ السَّائِلُ فَضعُوا في يَدِهِ وَلَوْ ظِلْفاً مُحرِقاً". وابن عساكر عن ابن عمر: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ لِلَّهِ صَدَقَةَ تَطَوُّع أَنْ يَجْعَلَها عَنْ وَالِدَيْهِ إذا كانَا مُسْلمَين، فَيَكُونُ أَجْرُهَا لَهُمَا، وَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِما بغير أن يُنْقِصَ مِنْ أُجورهما شيئاً". والبزار: "سَبْعٌ تجري للعَبْدِ وهُوَ فِي قَبْرِهِ، مَنْ عَلَّمَ عِلْماً أَوْ أَجْرَى نَهْراً أَوْ حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَس نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً أوْ وَرّثَ مُصْحَفاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً، يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ".(1/110)
ومسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: "بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِن الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذلِكَ السَّحابُ فَأَفْرغَ مَاءَهُ فِي حَرّةٍ، فَإِذا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَد اسْتَوْعَبَتْ ذلِكَ الماءَ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فَإذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حديقتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسْحَاتِهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلانٌ الاسْمَ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله لِمَ تَسْأَلني عَن اسْمِي؟ قَالَ: إني سَمِعْتُ صَوْتاً في السَّحَابِ الذي هذا ماؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ الاسْم، فَمَا تَصْنَعُ فِيها؟ قَالَ: أمَا إذْ قُلْتَ هذا فإنِي أَنْظُرُ إلى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيالِي ثُلثاً وَأَردُّ فِيها ثُلُثاً". وابن صصري عن ابن عباس أن النبي قال: "أتَى سَائِلٌ امْرَأَةً وفي فَمِها لُقْمَةٌ، فَأَخَرَجَتِ اللُّقْمَةَ فَنَاوَلَتْها السَّائِل، فَلَمْ تَلْبَثْ أنْ رُزِقَتْ غُلاماً، فَلما تَرَعْرَعَ جَاءَ ذِئِبٌ، فاحْتَمَلَهُ فَخَرَجَتْ تَعْدُو في أثَر الذِّئْبِ، وهي تقول ابني ابني، فَأَمَرَ الله تَعَالَى مَلَكاً لَحِقَ الذِّئْبَ، فَجَذَبَ الصَّبِيَّ مِنْ فِيهِ وَقَالَ: قُلْ لأُمّهِ الله يُقْرئُكَ السَّلامَ وَقُلْ لَهَا هذِهِ لُقْمَةٌ بِلُقْمَةٍ".(1/111)
وابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: "كَانَ فيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ يَأْتِي وَكرَ طَائِرٍ كلَّمَا أَفْرَخَ يَأْخُذُ فَرْخَيْهِ فَشَكَا ذلِكَ الطَّائِرُ إلى الله تَعَالَى مَا يَفْعَلُ بِهِ، فَأَوْحَى الله تَعَالَى إلَيْهِ إنْ عَادَ فَسَأُهْلِكُهُ، فَلَما أَفْرَخَ خَرَجَ ذلِكَ الرَّجُلُ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ، فَلَمَا كَانَ في طَرِيقِ القَرْيَةِ لَقِيهُ سَائِلٌ، فَأَعْطَاهُ رَغِيفاً كَانَ مَعَهُ يَتغَذاهُ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أتَى الوِكْرَ فَوَضَعَ سلَّمَهُ. ثُمَّ صَعَدَ فَأَخَذَ الفَرْخَيْنِ وَأَبَوَاهُما يَنْظُرانِ إلَيْهِ فَقَالا: رَبَّنَا إنَّكَ لا تَخْلِفُ الميعادَ وَقَدْ وَعَدْتَنَا أَنَّكَ تُهْلِكُ هذَا إذَا عَادَ، وَقَدْ عَادَ فَأَخَذَ فَرْخَيْنَا، وَلَمْ تُهْلِكْهُ فَأَوْحَى الله إلَيْهِمَا أَلَمْ تَعْلَمَا أني لا أُهْلِكُ أَحَداً تَصَدَّقَ فَي يَوْمِهِ بِمَيتَةِ سُوءٍ".(1/112)
وحكى اليافعي عن جعفر بن سليمان قال: مررت أنا ومالك بن دينار بالبصرة، فبينما نحن ندور فيها مررنا بقصر يُعمَل وإذا شاب جالس ما رأيت أحسن وجهاً منه، وإذا هو يأمر ببناء القصر وهو يقول افعلوا واصنعوا؛ فقال لي مالك أما ترى إلى هذا الشاب وحسن وجهه وحرصه على هذا البناء، ما أحوجني إلى أن أسأل ربي يخلصه، فلعله يجعله من شباب أهل الجنة، يا جعفر ادخل بنا إليه؛ قال جعفر: فدخلنا وسلمنا فردّ السلام، ولم يعرف مالكاً، فلما عرفه قام إليه فقال: ما حاجتك: قال: كم نويت أن تنفق على هذا القصر؟ قال: مائة ألف درهم؛ قال: ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه، وأضمن لك على الله عز وجل قصراً خيراً من هذا القصر بولدانه وخدمه وقبابه وخيمه من ياقوتة حمراء مرصعاً بالجواهر، ترابه الزعفران وملاطه المسك، أفسح من قصرك هذا لا يخرب، لم يمسه يدان ولم يبنه بانٍ قال له الجليل: كن فكان؛ فقال: فخلني الليلة وبكر عليّ غداً، فقال: نعم قال جعفر: فبات مالك وهو يفكر في الشاب، فلما كان وقت السحر دعا فأكثر من الدعاء، فلما أصبحنا غدونا، فإذا بالشاب جالس، فلما عاين مالكاً هش إليه ثم قال: ما تقول فيما قلت بالأمس؟ قال: تفعل، قال: نعم فأحضر البدر ودعا بدواة وقرطاس. ثم كتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان بن فلان إني ضمنت لك على الله قصراً بدل قصرك بصفته كما وصفت، والزيادة على الله، واشتريت لك بهذا المال قصراً في الجنة أفسح من قصرك في ظلِّ ظليل بقرب العزيز الجليل. ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الشاب وحملنا المال، فما أمسى مالك حتى ما بقي عنده فوق مقدار قوت ليلة، وما أتى على الشاب أربعون يوماً حتى وجد مالك كتاباً موضوعاً في المحراب عندما انفتل من صلاة الغداة، فأخذه ونشره فإذا في ظهره مكتوب بلا مداد: هذه براءة من الله العزيز الحكيم لمالك بن دينار، ووفينا الشاب القصر الذي ضمنت له وزيادة سبعين ضعفاً.(1/113)
قال: فبقي مالك متعجباً وأخذ الكتاب، فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب، فإذا الباب مسدود والبكاء في الدار، فقلنا: ما فعل الشاب؟ قالوا: مات بالأمس، فأحضرنا الغاسل فقلنا له: أنت غسلته؟ قال: نعم. قال مالك: فحدّثنا كيف صنعت؟ قال: قال لي قبل الموت إذا أنا متُّ وكفنتني فاجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني، فجعلت الكتاب بين كفنه وبدنه ودفنته معه، فأخرج مالك الكتاب، فقال الغاسل هذا الكتاب بعينه، والذي قبضه لقد جعلته بين كفنه وبدنه بيديّ. قال فكثر البكاء فقام شاب آخر فقال: يا مالك خذ مني مائتي ألف دينار واضمن لي مثل هذا. قال: هيهات كان ما كان وفات ما فات والله يحكم ما يريد. قال: فكان مالك كلما ذكر الشاب بكى ودعا له.
وحكي أيضاً عن جعفر بن خطاب قال: وقف على بابي سائل فقلت لزوجتي هل معك شيء؟ قالت: أربع بيضات، فقلت: ادفعيهنّ للسائل ففعلت، فلما انصرف السائل أهدى إليّ بعض إخواني مخلاة فيها بيض فقلت لزوجتي؛ كم فيها من بيضة؟ فقالت: ثلاثون بيضة. فقلت لها: ويحك أعطيت السائل أربع بيضات، وجاءك ثلاثون أين حساب هذا. فقالت: هي أربعون إلا أن عشراً مكسورات، وقيل في هذه الحكاية كانت ثلاث من البيض الذي أعطت السائل صحيحات، وواحدة مكسورة فجاء بكل واحدة منهنّ عشر على صفتها.(1/114)
وحكي أيضاً عن الشبلي قال: خرجت ذات يوم أريد البادية فرأيت شاباً صغير السنّ نحيل الجسم أشعث أغبر عليه ثياب رثة، وهو جالس في الجبانة يمرغ خديه بين القبور، وجعل يرمق السماء تارة بعد تارة، ويحرك شفتيه وتسيل الدموع من عينيه، وهو مستغرق في الدعاء والذكر والاستغفار، ولا يشغله شاغل عن التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد والتعظيم، فلما رأيت الشاب على تلك الحالة مالت نفسي إليه، وطابت على لقائه، فتركت الطريق التي أروح عليها وقصدت نحوه، فلما رآني أقبلت إليه انتهض من مكانه، وقام يمشي هارباً مني، فنهَّضت نفسي في اتباعه لعلي ألحقه، فلم أقدر على إدراكه فقلت له: رفقاً يا وليّ الله فقال: الله، فقلت بحقه إلا ما صبرت، فأشار بأصبعه لا أفعل. وقال: الله فقلت: إن كان حقاً ما تقول، فأرني صدقك مع الله تعالى فنادى بصوت عالٍ يا الله: فوقع في الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه وحركته، فإذا هو ميت من ساعته، فوهمت من ذلك، وتعجبت من حاله، وصدقه مع الله تعالى، وقلت: يختص برحمته من يشاء - وقلت: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.(1/115)
ثم تركته في موضعه وسرت إلى حيَ من أحياء العرب لآخذ في جهازه وإصلاح شأنه، فلما رجعت إليه حجب عني فطلبته في المكان، فلم أجد له أثراً ولا سمعت له خبراً فبقيت متحيِّراً، وقلت: حجب عني هذا الشاب، ومن سبقني إليه فسمعت قائلاً يقول لي: يا شبلي قد كفيت أمر الفتى وما تولاه إلا الملائكة، فعليك أنت بعبادة ربك وأكثر الصدقة من مالك، فما بلغ الفتى ما بلغ إلا بصدقته يوماً في الدهر، فقلت: سألتك بالله إلا أخبرتني بصدقته يوماً في الدهر ما هي؟ فقال: يا شبلي إن هذا الفتى كان في أوّل عمره مذنباً عاصياً فاسقاً زانياً، فعرض الله عليه رؤيا أفزعته وأقلقته، وهي أنه رأى في المنام إحليله قد رجع ثعباناً ودار بفيه، ثم إنه أطلق من فيه لهب النار، فأحرقته حتى عاد كالفحمة السوداء، فقام فزعاً مرعوباً وخرج فارَّاً بنفسه مشتغلاً بعبادة ربه، وله اليوم منذ رجع إلى طاعة ربه اثنتا عشرة سنة، وهو على حالة التضرّع والخشوع، فلما كان أمس وقف له سائل سأله قوت يومه، فخلع ثيابه وسلمها إليه، ففرح السائل بذلك، وبسط كفيه، ودعا له بالمغفرة، فأجاب الله دعاءه فيه ببركة الصدقة التي فرَّحه بها كما جاء في الحديث: اغْتَنِمُوا دَعْوَةَ السَّائِلِ عِنْدَ فَرْحَةِ قَلْبِهِ بِالصَدَّقَةِ.
((1/116)
خاتمة): في مدح السخاء والجود. أخرج البخاري والبيهقي: السَّخَاءُ شَجَرَةٌ مِنْ أَشْجَارِ الجَنَّةِ، أَغْصَانُها مُتَدَلِيَّاتٌ في الدُّنْيَا. فَمَنْ يَأْخُذُ بِغُصْنٍ مِنْهَا قَادَهُ ذلِكَ الغُصْنُ إلى الجَنَّةِ. والبُخْلُ شَجَرَةٌ مِنْ أَشْجَارِ النَّارِ، أَغْصَانُها مُتَدَلِّيَاتٌ إلى الدُّنْيا، فَمَنْ يَأْخُذُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِها قَادَهُ ذلِكَ الغُصْنُ إلَى النَّارِ. وابن عدي: الجَنَّةُ دَارُ الأَسْخِيَاءِ. والطبراني: إنَّ فِي الجَنَّةِ بَيْتاً، يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الأَسْخِيَاءِ. والترمذي والبيهقي: السُّخِيُّ قَريبٌ مِنَ الله، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ. والبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ الله، بعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ. والجاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إلى الله مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ وقال سلمان الفارسي: إذا مَاتَ السَّخِيُّ قَالَتِ الأرْضُ والحفظة: يا رب تجاوز عن عبدك بسخائه في الدنيا. وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما في يده من الدنيا. وقد صح: أن رسول كان أجود من الريح المرسلة. وصح أيضاً: أنه لما مرض كان عنده سبعة دنانير، فأمر عائشة أن تعطيها لعليّ ليتصدق بها، فاشتغلت بإغمائه فكان كلما أفاق أمر بذلك حتى أعطتها لعليّ، فأمست ليلة موته، وليس عندها شيء فاحتاجت لمصباح. فأرسلت إلى امرأة من نسائه تطلب منها سمناً، وقال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله: "مَا أبْقَيْتَ لأَهْلِكَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ" فأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله. فقال رسول الله: "مَا أَبْقَيْتَ لأهْلِكَ" ؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: لا أُسَابِقُكَ بِشَيْءٍ أبداً.(1/117)
وروى الطبراني: أن عمر رضي الله عنه أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار لأبي عبيدة بن الجراح، وأمره بالتأني ليرى ما يصنع فيها، فذهب بها إليه وأعطاها له، وتأنى يسيراً ففرقها كلها. فرجع الغلام لعمر فأخبره. فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذبن جبل، فأرسلها معه إليه، وأمره بالتأني كذلك ففعل، ففرقها فاطلعت زوجته وقالت: نحن والله مساكين فاعطنا. فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأعطاهما لها. فرجع الغلام لعمر وأخبره فسرّ بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. وجاء بسند حسن: إن زوجة طلحة بن عبيد الله رأت منه ثقلاً فقالت له: ما لك؟ لعله رابك منا شيء فنعتبك. قال: لا ولنعم حليلة المرء المسلم أنت، ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع؟ قالت: وما يغمك منه. ادع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام عليّ بقومي. فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف.(1/118)
وفي الرياض النضرة أعطى طلحة أعرابياً سأله ثلاثمائة ألف، وباع أرضاً من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه. فلما جاء بها قال: إن رجلاً يبيت عنده هذه في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله. فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم. وبعث عبد الله بن الزبير إلى عائشة رضي الله عنها بمال في غرارتين عدته ثمانون ومائة ألف درهم وهي صائمة. فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فقالت لجاريتها: هلمي فطوري. فجاءت بخبز وزيت فقالت لها الجارية: فما استطعت فيما قسمت في هذا اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ قالت لا تعنفيني لو كنت ذكّرتني لفعلت. ووصل عبد الرحمن بن عوف أزواج النبي بمال بلغ أربعين ألفاً وأوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف. ولمن بقي من أهل بدر لكل رجل أربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها؛ وهي أيضاً بخمسين ألف دينار؛ وألف فرس في سبيل الله وباع أرضاً له من عثمان بأربعين ألف دينار؛ فقسم ذلك المال في رحمه بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وتصدّق على عهد رسول الله بشطر ماله أربعة آلاف درهم؛ ثم بأربعين ألف دينار، ثم خمسمائة فرس في سبيل الله؛ ثم وردت له قافلة من تجارة بالشام، فحملها إلى رسول الله ؛ فدعا له النبي بالجنة؛ فنزل جبريل فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرىء عبد الرحمن السلام وبشره بالجنة رضي الله عنهم وعنا معهم.
وحكي لما قدم إمامنا الشافعي رضي الله عنه من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقيل له: تشتري بها ضيعة؛ فضرب خيمة خارج مكة وصبّ الدنانير، فكل من دخل عليه أعطاه قبضة، فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب ولم يبق شيء. وقيل: إن أمه قالت له: لو دخلت ومعك درهم ما سلمت عليك. يا ابن آدم أنفق ينفق عليك ووسع يوسع عليك، ولا تقتر فيقتر عليك واشترِ بالفاني الباقي قبل أن تبلغ النفس التراقي.
((1/119)
فصل): في الضيافة. أخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله: " "إذَا دَخَلَ الضَّيْفُ على القَوْمِ دَخَلَ بِرِزْقِهِ وَإِذَا خَرَجَ خَرَجَ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ". وأبو الشيخ عن أبي قرصافة: إذا أراد الله تعالى لقوم خيراً أهدى إليهم هدية. الضيف ينزل برزقه، ويرتحل برزقه، وقد غفر الله لأهل المنزل. وابن أبي الدنيا عن حبان بن أبي جندة: إن أسرع صدقة إلى السماء أن يضع الرجل طعاماً طيباً، ثم يدعو إليه ناساً من إخوانه. والحكيم الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: إنَّ الملائِكَةَ لا تَزَالُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَتْ مَائِدَتُهُ مَوْضُوعَةً. والحاكم عن أبي هريرة: مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ المُسْلِمَ شَهْوَتَهُ حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ. وهو عن جابر: مَنْ ذَبَحَ لِضَيْفِهِ ذَبِيحَةً كَانَتْ فِدَاءً لَهُ مِنَ النَّارِ. والشيخان عن أبي هريرة: جاء رجل إلى النبي فقال: إني مجهود، فأرسل، إلي بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهنّ مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: مَنْ يُضيفُ هذا اللَّيْلَةَ؛ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله. وفي رواية: قال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء فإذا أرادوا العشاء فنوّميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله: فقال: "لَقَدْ عَجبَ الله بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ". فأنزل الله: {وَيؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (سورة الحشر: 9).(1/120)
وحكى اليافعي عن الشيخ أبي الربيع المالقي أنه قال: سمعت بامرأة من الصالحات في بعض القرى اشتهر أمرها. وكان من دأبنا أن لا نزور امرأة، فدعت الحاجة إلى زيارتها للاطلاع على الكرامة التي اشتهرت عنها، وكانت تدعى بالفضة. فنزلنا القرية التي هي فيها، فذكر لنا أن عندها شاة تحلب لبناً وعسلاً، فاشترينا قدحاً جديداً لم يوضع فيه شيء ومضينا إليها وسلمنا عليها. ثم قلنا لها: نريد أن نرى هذه البركة التي ذكرت لنا عن هذه الشاة التي عندكم، فأخذنا الشاة وحلبناها في القدح فشربنا لبناً وعسلاً. فلما رأينا ذلك سألناها عن قصة الشاة؟ فقالت: نعم كانت لنا شويهة، ونحن قوم فقراء ولم يكن لنا شيء. فحضر العبد فقال لي زوجي: وكان رجلاً صالحاً، نذبح هذه الشاة في هذا اليوم، قلت له: لا تفعل فإنه قد رخص لنا في الترك، والله يعلم حاجتنا إليها، فاتفق أن استضاف بنا في ذلك اليوم ضيف، ولم يكن عندنا قرى فقلت له: يا رجل هذا ضيف، وقد أمرنا بإكرامه، فخذ تلك الشاة فاذبحها قال: فخفنا أن يبكي عليها صغارنا، فقلت له: أخرجها من البيت إلى وراء الجدار فاذبحها. فلما أراق دمها قفزت شاة على الجدار فنزلت إلى البيت، فخشيت أن تكون قد انفلتت منه، فخرجت لأنظرها. فإذا هو يسلخ الشاة فقلت له: يا رجل عجباً وذكرت له القصة، فقال: لعل الله أبدلنا خيراً منها، فكانت تلك تحلب اللبن، وهذه تحلب اللبن والعسل ببركة إكرامنا الضيف.
(فصل): في الزهد. قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نُزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَما لهُ في الآخِرَةِ مِنْ نِصيبٍ} (سورة الشورى: 20).(1/121)
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: "أخذ رسول الله بمنكبي فقال: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرَيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبيلٍ" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي، قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ قال: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيا يُحِبُّكَ الله، وازْهَدْ فِيما فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ". والديلمي: "اتْرُكُوا الدُّنْيا لأهْلِهَا فَإنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ أُخِذَ مِنْ حَتْفِهِ وَهُوَ لا يَشْعُرُ" والترمذي: "الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيا لَيْسَ بِتَحْرِيمِ الحَلالِ وَلا إضَاعَة المَال، وَلكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيا أَنْ لا تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ بِمَا فِي يَدِ الله، وأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ المُصِيبَةِ إذَا أَنْتَ أُصِبْتَ، أَرْغَبَ مِنْكَ فِيها لَوْ أَنَّهَا لَكَ". والقضاعي: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيا يُرِيحُ القَلْبَ وَالبَدَنَ، والرَّغْبَةُ فِيها تُكْثِرُ الهَمَّ، والحُزْنُ والبَطَالَةُ تُقَسِّي القَلْبَ. والطبراني: تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فأنه من كانت الدنيا أكثر همه أفشى الله ضيعته وجعل الله فقره بين عينيه، ومن كانت الآخرة أكثر همه جمع الله تعالى أمره، وجعل غناه في قلبه، وما أقبل عبد بقلبه إلى الله، جعل الله قلوب المؤمنين تغدو إليه بالودّ والرحمة، وكان الله بكل خير إليه أسرع. والشيخان قالت عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.(1/122)
والترمذي قال عبد الله بن مسعود: نام رسول الله على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: "مَا لِي وَلِلدُّنْيا مَا أَنَا فِي الدُّنْيا إلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا". وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يمتلىء جوف النبي شبعاً قط، ولم يبث شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى، وإن كان ليظلّ جائعاً يلتوي طول ليلته من الجوع، فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، فأعطي، ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك، فيقول: "يَا عَائِشَةُ مَا لِي وَلِلدُّنْيا إخْوَاني مِنْ أُولِي العَزْمِ وَمِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا عَلَى مَا هُوَ أَشدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوا عَلَى حَالِهِمْ فَقَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتحِي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أَنْ يُقَصَّرَ بي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بِإِخْوَانِي، وَأَخِلائِي". قالت: فما أقام بعد إلا شهراً حتى توفي. وروي أن سليمان عليه السلام كان مع ما أعطى من الملك، لا يرفع بصره إلى السماء تخشُّعاً وتواضعاً لله، وكان يطعم الناس لذائذ الأطعمة ويأكل خبز الشعير، وقد قيل له: ما لك تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. وقال: عروة بن الزبير: لقد تصدّقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفاً وإن درعها لمرقع.(1/123)
وحكى اليافعي أن بعض ملوك الأمم السالفة بنى مدينةً وتأنق وتغالى في حسنها وزينتها، ثم صنع طعاماً ودعا الناس، وأجلس أناساً على أبوابها يسألون كل من خرج هل رأيتم عيباً؟ فيقولون: لا حتى جاء ناس في آخر الناس عليهم أكسية فسألوهم: هل رأيتم عيباً؟ قالوا: عيبين اثنين، فحبسوهم ودخلوا على الملك فأخبروه بما قالوا. فقال: ما كنت أرضى بعيب واحد، فائتوني بهم فأدخلوهم عليه، فسألهم عن العيبين ما هما؟ فقالوا: تخرب ويموت صاحبها. قال: أفتعلمون داراً لا تخرب ولا يموت صاحبها؟ قالوا له: نعم فذكروا له الجنة ونعيمها، وشوّقوه إليها، وذكروا النار وعذابها، وخوّفوه منها. ودعوه إلى عبادة الله عز وجل، فأجابهم إلى ذلك، وخرج من ملكه هارباً، إلى الله تعالى.
((1/124)
تنبيه) إن الزهد الحقيقي برودة الدنيا على قلب العبد، لأجل الله وعظيم ثوابه ومقدماته ترك طلب المفقود من الدنيا، وتفريق المجموع منها، وترك إرادتها واختيارها، فإذا أتى بها العبد أورثت تلك الزهد الحقيقي. ثم الباعث على الترك والتفريق وذكر آفات الدنيا وعيوبها. قال بعضهم: تركت الدنيا لقلة غنائها وكثرة عنائها، وسرعة فنائها وخسة شركائها. وقال الغزالي القول البالغ فيه ما قاله شيخنا أبو بكر الطوسي: إن الدنيا عدوّة الله عزّ وجلّ، وأنت محبه فمن أحبّ أحداً أبغض عدوّه جعلنا الله من المبغضين للدنيا والمحبين للآخرة. وروى الليث عن جرير قال: صحب رجل عيسى عليه السلام، وقال: يا نبيّ الله أكون معك، وأصحبك فانطلقا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين، وبقي رغيف، فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب، ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري فانطلق ومعه صاحبه، فرأى ظبية ومعها خشفان لها. قال: فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وشوى منه، وأكل هو والرجل. ثم قال للخشف: قم بإذن الله فقام فذهب، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية مَن أخذ الرغيف؟ قال: ما أدري، قال: ثم انتهيا إلى نهر فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء فلما جاوزا. قال: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، قال: فانتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى فجمع تراباً أو رملاً، وقال له: كن ذهباً بإذن الله فكان ذهباً فقسمه ثلاثة أثلاث. فقال: لي ثلث وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف، فقال: أنا أخذته، قال: فكلُّه لك، وفارقه عيسى، فانتهى إليه رجلان وهو في المفازة ومعه المال، فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه.(1/125)
فقال هو بيننا أثلاثاً قال: فابعثوا أحدكم إلى القرية ليشتري طعاماً، فقال الذي بعث لأي شيء نقاسم هذا المال، لأجعلنّ لهما في الطعام سماً فأقتلهما به، وآخذ هذا المال جميعه، فجعل فيه السم وقال صاحباه في غيبته: لأي شيء نقاسمه المال إذا جاء قتلناه، واقتسمنا المال نصفين فجاء فقتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا وبقي المال في المفازة، وأولئك الثلاثة قتلى حوله، فمرّ عيسى عليه السلام بهم، وهم على تلك الحالة فقال لأصحابه: هذه الدنيا فاحذروها.
((1/126)
خاتمة): في فضل الفقر والفقراء. أخرج ابن ماجه عن ابن عمر: "يَا مَعْشَرَ الفُقَرَاءِ أَلا أُبَشِّرُكُمْ أَنَّ فُقَرَاءَ المُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءَ بِنِصْفِ يَومٍ خَمسْمائَةِ عَامٍ". وأبو نعيم عن أبي سعيد: "ليُبَشَّر فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ بالفَوْزِ يَوْمٍ القِيَامَةِ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِمِقْدَارِ خَمسْمَائَةِ عَامٍ هؤلاءِ في الجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ وَهؤُلاءِ يُحَاسَبُونَ". ومسلم عن ابن عباس: "اطّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ وَاطّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ". وابن عساكر: "إنَّ أَطْوَلَكُمْ فِي الدُّنْيا حُزْناً أَطْوَلُكُمْ فَرَحاً فِي الآخِرَةِ وَإِنَّ أَكْثَرُكُمْ شَبَعاً فِي الدُّنْيا أَكْثَرَكُمْ جُوعاً فِي الآخِرَةِ". وهو وأبو نعيم عن أبي هريرة: "إنَّ مِنَ الذُّنُوبِ ذُنوباً لا يُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَلا الصِّيَامُ وَلا الحَجُّ وَلا العُمْرَةُ يُكَفِّرُهَا الهُمُومُ فِي طَلَبِ المَعِيشَةِ". وابن عساكر: "إنَّ الله تَعَالَى لمَّا خَلَقَ الدُّنْيا أَعْرَضَ عَنْها. ثُمَّ قَالَ وَعِزتِي وَجَلالِي لا أُنْزِلَنَّك إلاّ فِي شِرَارِ خَلْقِي". والترمذي: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سقى كَافِراً مِنْهَا شُرْبَةَ مَاءٍ". والبيهقي: "نَزَلَ جِبْرِيلُ في أَحْسَنِ مَا كَانَ يَأْتِيني صُورَةً. فقال: إنَّ الله تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلامَ يَا مُحَمَّدَ وَيَقول لَكَ: إني قَدْ أَوْحَيْتُ إلى الدُّنْيا أَنْ تمرَّرِي وَتَكْدَّرِي وَتَضيَّقي وَتَشدَّدي إلى أوليائي كَيْ يُحِبُّوا لِقَائِي فإنِي خَلَقْتُهَا سِجْناً لأوْلِيَائِي وَجَنَّةً لأعْدَائِي".(1/127)
ومسلم عن أبي هريرة قال: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي الله عنهما فقال: مَا أَخْرَجَكُمْا مِنْ بُيُوتِكُمَا هذِهِ السَّاعَةَ؟ قالا: الجوع يا رسول الله؟ قال: وَأَنَا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً. فقال لها رسول الله: "أَيْنَ فُلانٌ، قالت: ذهب يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله وصاحبيه ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَجِدُ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافاً مِني، فانطلق بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كُلُوا وأخذ المدية. فقال له رسول الله: "إيَّاكَ والحَلُوبَ" فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله لأبي بكر وعمر: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذًّ النَّعِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بِيُوتِكُمْ الجُوعُ ثُمَّ لَمْ تُرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ". والبخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه: أتي بطعام وكان صائماً. فقال: قتل أو توفي مصعب بن عمير وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطى بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا، ما بسط لنا، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا قد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، وهو عن أبي هريرة قال: لقد رأيتني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليّ فيجييء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون وما بي جنون، وما بي إلا الجوع وروي أنه كان يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء.(1/128)
وروي "أن جبريل عليه السلام نزل فقال للنبي: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أتحب أن أجعل هذا الجبل ذهباً، ويكون معك حيثما كنت؟ فأطرق ساعة ثم قال: "يَا جِبْرِيلُ الدُّنْيا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ وَمَالَ مَنْ لا مَالَ لَهُ يَجْمَعُهَا مَنْ لا عَقْلَ لَهُ فقال له جبريل: ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت". وروي عن الحسن البصري أنه قال قال النبي: "يُؤْتَى بالعَبْدِ الفَقِيرِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيعْتَذِرُ الله عَزّ وَجَلّ كَمَا يَعْتَذِرُ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ فِي الدُّنْيا فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي مَا زَوَيْتُ عَنْكَ الدُّنْيا لِهَوَانِكَ عَلَيَّ وَلكِنْ لِما أَعْدَدْتُ لَكَ مِنَ الكَرَامَةِ والفَضِيلَةِ اخْرُجْ يَا عَبْدِي إلى هذِهِ الصُّفُوفِ وَانْظُرْ إلى مَنْ أَطْعَمَكَ أَوْ كَسَاكَ وَأَرَادَ بِذلِكَ وَجْهِي فَخُذْ بِيَدِهِ فَهُوَ لَكَ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَدْ أَلَجَمَهُمُ العَرَقُ فَيَتَخَلَّلُ الصّفُوفَ وَيَنْظُرُ مَنْ فَعَلَ بِهِ ذلِكَ فِي الدُّنْيا فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ".
وحكى القشيري عن بعضهم أنه قال: رأيت كأنّ القيامة قد قامت، ويقال: أدخلوا مالك بن دينار ومحمد بن واسع الجنة، فنظرت أيهما يتقدّم، فتقدم محمد بن واسع فسألت عن سبب تقدّمه فقيل لي: إنه كان له قميص واحد، ولمالك قميصان.(1/129)
وحكى اليافعي عن الشيخ أبي محمد الجريري قال: دخل علينا الرباط بعد صلاة العصر شاب مصفرّ اللون أشعث الشعر حاسر الرأس حافي القدمين، فجدّد الوضوء وصلى، ثم جلس ووضع رأسه في جيبه إلى المغرب، فلما صلى معنا المغرب جلس كذلك، وإذا رسول الخليفة يستدعينا في دعوة فقمت إلى الشاب وقلت له: هل لك أن توافقنا إلى دار الخليفة، فرفع رأسه وقال: ليس لي قلب إلى دار الخليفة، ولكن أشتهي عصيدة حارة فاطَّرحت قوله حيث لم يوافق الجماعة والتمس شهوة وقلت في نفسي: هذا قريب العهد بالطريقة لم يتأدّب، ومضيت إلى دار الخليفة، وأكلنا وشبعنا وتفرقنا أخر الليل، فلما دخلت الرباط رأيت الشاب على تلك الحالة، فجلست على سجادتي ساعة، فلهجت عيناي بالنوم، وإذا جماعة وقائل يقول: هذا رسول الله والأنبياء كلهم عليهم السلام، فدنوت إليه وسلمت عليه، فولى وجهه عني معرضاً، فكرّرت عليه وهو يعرض عني، ولا يجيب فخفت من ذلك. فقلت: يا رسول الله ما الذي أذنبت حتى تعرض عني بوجهك؟ فقال: "فَقِيرُ أُمّتِي اشْتَهَى عَلَيْكَ شَهْوَةً فَتَهَاوَنْتَ بِهِ، فَاسْتَيْقَظْتُ مَرْعُوباً، وَقُمْتُ نَحْوَ الفَقِيرِ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَسَمعْتَ صَوْتَ البَابِ فَخَرَجْتَ فِي طَلَبِهِ. فإذا هو به قد خرج فناديته يا فتى اصبر حتى نحضر شهوتك التي طلبتها فالتفت إليّ وقال: إذَا اشْتَهَى فَقِيرٌ عَلَيْكَ شَهْوَةً فَلا تُوصِلْها إليه حتَّى يَتشفعَ إِلَيْكَ بِمائَةِ أَلْفِ نَبيَ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ألَفِ نبيَ فلا حَاجَةَ إلَيْها ومضى. حشرنا الله في زمرة المساكين وأدخلنا معهم الجنان آمين.
((1/130)
فصل): في المنّ بالصدقة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنِّ وَالأذَى كالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِر فَمَثَلُهُ كَمثلِ صَفْوَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَترَكَهُ صَلِداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبوا والله لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ} (سورة البقرة: 264) بين الله تعالى أنّ من تصدّق بشيء من أنواع الصدقات اشترط لنيله ذلك الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمتصدّقين أن تسلم صدقته من المنّ بها على المعطى والأذى. فالمن هو أن يعدّد نعمته على الآخذ، أو يذكرها لمن لا يحبّ الآخذ اطلاعه. وقيل: هو أن يرى لنفسه مزية على المتصدّق عليه بإحسانه، ولذلك لا ينبغي أن يطلب منه دعاء، ولا يطمع فيه لأنه ربما كان في مقابلة إحسانه فيسقط أجره.(1/131)
أخبرنا شيخنا قطب الوجود وشمس دائرة الشهود محمد البكري عن جدّته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها كانت إذا تصدقت على أحد أرسلت على أثره رسولاً يتبعه إلى مسكنه، ليتعرف هل يدعو لها، فتدعو له بمثل دعائه لئلا يكون دعاؤه في مقابلة الصدقة فينقص أجرها، فلذا قال أصحابنا: يستحب للمتصدَّق أن يدعوا للمتصدّق عليه بمثل ما دعا له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه: أي لكونه يتكلف لك قياماً ونحوه لأجل إحسانك إليه فكفَّ سلامك عنه. والأذى هو أن ينهره أو يعيِّره أو يشتمه، فهذا كالمنّ؛ مسقط للثواب كما أخبر الله تعالى. وأخرج مسلم: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمانّ الذي لا يعطي شيئاً إلا منةً والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. والحاكم: ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً عاقٌّ ومنان ومكذب بالقدر. والنسائي: لا يدخل الجنة خبٌّ ولا بخيل ولا منان.
((1/132)
مهمات): أخرج الطبراني: يَا أُمّةَ مُحَمَّدٍ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لا يَقْبَلُ الله صَدَقَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَهُ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ صِلَتَهُ وَيَصْرِفُهَا إلى غَيْرِهِمْ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَنْظُرُ إلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. وهو أيضاً: مَا مِنْ ذي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ فَيَسْأَلُهُ فَضْلاً أَعْطَاهُ الله إيَّاهُ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إلاّ أَخْرَجَ الله لَهُ مِنْ جَهَنَّم حَيَّةً يُقَال لَهَا شُجَاعٌ يَتَلَمَّظُ فَيُطوقُ بِهِ. والتلمظ: تطعم ما يبقى في الفم من آثار الطعام. والشيخان: ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلا يُزْكِّيهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِن ابنِ السَّبيلِ: وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً سِلْعَة بَعْدَ العَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِالله لأخْذها بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ؛ وَرَجُلٌ بَايَعَ إماماً لا يُبَايِعُهُ إلا لِدُنْيَا؛ فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وفى، وإنْ لَمْ يعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ. وفي رواية يقول الله:اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَل يَدُكَ. وابن ماجه قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "المَاءُ وَالمِلْحُ وَالنَّارُ". وأخرج أبو داود والحاكم: مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي أَنْ لا يَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئاً أَتَكَفَّلُ لَهُ الجَنَّةَ. وهما وأحمد: مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَها بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدّ فَاقَتُهُ وإنْ أَنْزَلَهَا بِالله أَوْشَكَ الله لَهُ بِالغِنَى، إمّا بِمَوْتِ آجِلٍ أوْ غِنىً عَاجِلٍ. وأحمد عن أبي ذرّ لا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئاً وَلا سَوْطُكَ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْكَ حَتَّى تَنْزِلَ إلَيْهِ فَتَأْخُذُهُ.(1/133)
والبيهقي لِيَسْتَغْنِ أَحَدُكُمْ عَنِ النَّاسِ بِقَضيبِ سِوَاكٍ". والترمذي إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لغنيَ، وَلا لذِي مرَّةٍ، أي قوّة سَوِي أي تِامِّ الخلق سالم من موانع الاكتساب إلاّ لَّذِي فَقرٍ مُدْقِعٍ، أي شديد أو غرم مفظع، وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيَثْرِي بِهِ مَالُهُ كَانَ خَمُوشاً في وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ورَصْفاً، أي حجارة محماة يأكله من جهنم، فَمَنْ شَاءَ، فَلْيُكْثِرْ ومَنْ شَاءَ فَلْيُقْلِلْ". وأبو داود مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ، فَإِنما يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ، قالوا: وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قَدْرَ مَا يُغَدّيِهِ وَيُعَشِّيهِ. يعني أن من وجد غداء يومه وعشاءه يحرم عليه أن يسأل صدقة التطوّع، وأما صدقة الفرض فلا يحرم سؤالها إلا على من عنده كفاية بقية العمر الغالب على الراجح عندنا فيهما.
قال بعضهم إنما يحرم سؤال الصدقة على من وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات، أي للمدة الطويلة، والزكاة على من وجد كفاية سنة.
وقال أبو حنيفة: يجوز دفع الزكاة إلى من يملك دون النصاب، وإن كان صحيحاً مكتسباً. لكن لا يحل السؤال لمن كان له قوت يومه.(1/134)
وأخرج البخاري عن عمر رضي الله عنه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه ومالاً فلا تتبعه نفسك. والشيخان عن عائشة رضي الله عنها: يَا عَائِشَةُ مَنْ أَعْطَاكِ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَأَقْبَلِيهِ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ عَرَضَهُ الله إلَيْكِ. والترمذي مَنْ صنَع إلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فقال لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ الله خَيْراً فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ، وابن ماجه إنَّ الله يَبْغُضُ السَّائِلَ المُلْحِفَ، أي الملحّ". والطبراني: مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ الله، وَمَلْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله، ثُمَّ مَنَعَ سَائِلَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ ههَجْراً: أي فحشاً أو أمراً قبيحاً لا يليق، ويحتمل أنه يراد ما لم يسأل سؤالاً قبيحاً بكلام قبيح". وأحمد "ألا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ البَرِيَّةِ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الَّذِي يُسْأَلُ بِالله وَلا يُعْطي". والطبراني: "أَلا أَحَدِّثُكُمْ عَنِ الخُضْرُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "بَيْنَمَا ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مُكَاتِبٌ. فَقَالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ بِارَكَ الله فِيكَ. فَقَالَ الخضرُ: آمَنْتَ مَا شَاءَ الله مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ مَا عِنْدِي شَيْء أُعْطِيكَهُ، فَقَالَ المِسْكِينُ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ الله لَمَا تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ، فَإِني نَظَرْتُ السَّماحَةَ فِي وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ البَرَكَةَ عِنْدَكَ. فَقَالَ: الخُضرُ: آمَنْتُ بِالله مَا عِنْدي شَيْءٌ أَعْطِيكَهُ إلَّا أنْ تَأْخُذَنِي فَتَبيعُنِي.(1/135)
فَقَالَ المِسْكِينُ: هَلْ يَسْتَقِيمُ هذا؟ قَالَ: نَعَمْ أَقُولُ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَا إني لا أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي بِعْنِي قال: فَقَدَّمَهُ إلى السُّوقِ فَبَاعَهُ بِأَرْبَعْمائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَكَثَ عِنْدَ المُشْتَرِي زَماناً لا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: إنَّمَا اشتريْتَنِي لالْتِمَاسِ خَيْرٍ عِنْدِي فَأَوْصِني بِعَمَلٍ. فقال: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ إنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ قال: لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ. قَالَ: قُمْ فَانْقُلْ هذهِ الحِجَارَةَ، وَكَانَ لا يَنْقُلُها دُونَ سَتّةِ نَفَرٍ في يوم، فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ الحِجَارَةَ فِي سَاعةٍ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ وَأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ تَطيقُهُ. ثُمَّ عَرَضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ فقال: إني أَحْسَبُكَ أَميناً فَاخْلِفْني في أَهْلِي خِلافَةً حَسَنَةً قَالَ: أَوْصِنِي بِعَمَلٍ قَالَ: إنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، قَالَ: لَيْسَ يشُقُّ عَلَيَّ قَالَ: فَاضْرِبِ مِنَ اللَّبِنِ لِبيتي حَتَّى أَقْدِمَ عَلَيْكَ. قَالَ: فَمَرَّ الرَّجُلُ لِسَفَرِهِ. قَالَ: فَرَجِعَ الرَّجُل وَقَدْ شَيَّد بِنَاءَهُ، قَالَ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ الله مَا سَبَبُكَ وَمَا أَمْرُكَ؟ قَالَ سَأَلْتَنِي بِوَجِهِ الله وَوَجْهُ الله أَوْقَعَنِي فِي هذِهِ العُبُودِيةِ.(1/136)
فَقَالَ الخضرُ: سَأُحَدِّثُكَ مَنْ أَنَا، أَنَا الخضرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِهِ سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَةً، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ أعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ الله، فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقْبَتِي فَبَاعَنِي وَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ: مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدرُ وَقَفَ يَوْمَ القِيَامَةِ جِلْدُهُ وَلا لَحْمَ لَهُ يَتَقَعْقَعُ، فَقَالَ الرَّجلُ: آمَنْتُ بِالله شَقَقْتُ عَلَيْكَ يا نَبيَّ الله لَوْ أَعْلَمُ، قَالَ: لا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ، فَقَالَ: الرَّجُلُ: بأبي وَأُمِي يَا نَبِيَّ الله احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا شِئْتَ، أَوِ اخْتَرَ فَأُخلي سَبيلَكَ. قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخلي سَبيلي فَأَعْبُدُ رَبِّي فَخَلّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ الخضرُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْثَقَنِي فِي العَبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنْهَا".اللهم اجعلنا من المحسنين إلى الإخوان والفائزين بالجنان آمين.
{باب الصوم}
قال الله تعالى: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلكم تَتَّقُون أياماً معدوداتٍ} (سورة البقرة: 183 – 184)(1/137)
وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله: "شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ كَتَبَ الله عَلَيْكُم صِيَامَهُ وَسننتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إيماناً وَاحْتساباً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْم وَلَدْتهُ أُمّهُ". وأحمد عن أبي هريرة: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيماناً واحتساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" وهو عنه: "مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ فَاتَهُ لا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ". وأبو يعلى عن ابن عباس: "عُرى الإسْلامِ وَقَوَاعِدُ الدِّين: ثَلاثَةٌ عَلَيْهُنَّ أُسِّسَ الإسلامُ مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ، حَلالُ الدَّم، شَهَادَة أنْ لا إله إلا الله، والصَّلاةُ المَكْتُوبَةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ" وفي رواية: "مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَة فَهُو بِالله كَافِرٌ وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ، وَقَدْ حُلّ دَمُهُ وَمَالُهُ". وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي وابنا ماجه وخزيمة عن أبي هريرة: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَان مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا الله لَهُ وَلا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهُ وإنْ صَامَهُ، قال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما: مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَان لا يَقْضِيهِ صَوْمُ الدَّهْرِ. قال النخعي: إنَّ مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَان يَجِبُ عَلَيْهِ ثَلاثَةُ آلافِ يَوْمٍ والذي عليه أكثر العلماء أنه يجزىء عن اليوم يوم ولو أقصر منه.
((1/138)
خاتمة): في سرد أحاديث تتعلق بالصوم. أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "إنّ رَبَّكُمْ يَقُولُ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمائَةِ ضعْفٍ والصَّوْمُ لِي وَأَنَا أجزي به والصَّوْمُ جَنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلخَلُوفِ فَم الصائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ المِسْك وَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ، وَللصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يَفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ". وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة: "إذَا كَانَ أَوّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صَعَدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقُ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنِادً كُلَّ لَيْلَةٍ: يَا بَاغِي الخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِي الشَّرِّ أَقْصِر، ولِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ". وابنا خزيمة وحبان: أنه صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين؛ قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر، فقلت آمين آمين آمين. فقال: "إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله قُلْ: آمين فَقُلْتُ آمين. وَمَنْ أدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهْمَا فَلَمْ يَبُرُّهُمَا فَمَاتَ؟ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبعَدَهُ الله: قُلْ آمين. فَقُلْتُ آمين، وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله قُلْ: آمين فَقُلْتُ آمين.". ومحمد بن منصور السمعاني عن أنس: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب. والطبراني والبيهقي عن عمر رضي الله عنه: ذاكر الله في رمضان مغفور له وسائل الله فيه لا يخيب.(1/139)
والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى: نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور. والحاكم عن ابن عمر: لكل عبد صائم دعوة مستجابة عن إفطاره أعطيها في الدنيا، أو ادّخر له في الآخرة.
وفي المسند عن واثلة بن الأسقع عن النبي أنه قال: "أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ في أوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتَ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإنْجِيلُ لِثَلاث عَشَرَةَ مَضَينَ مِنْ رَمَضَانَ؛ وَأُنْزِلَ الفُرْقَانُ لأرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ".(1/140)
وروي عن سعيد بن المسيب عن سلمان مرفوعاً قال: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ الله صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقَيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعاً مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخُصْلَةٍ مِنَ الخَيْرِ، كَانَ كَمْنَ أَدَّى فَرِيضَةً فِيما سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أدَّى سَبْعينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، والصَّبْرُ ثَوَابُهُ الجَنَّةُ، وَشَهْرُ المُوَاسَاةِ وَشَهْرٌ يُزادُ فِيهِ الرِّزْقُ، مَنْ فَطَّرَ فِيه صَائِماً كَانَ لَهُ مَغْفِرَةٌ لِذنُوبِهِ، وَعَتقُ رَقَبَةٍ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ" قَالوا: يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر الصائم. قال رسول الله: "يُعْطي الله هذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِماً عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شُرْبَةِ مَاءٍ أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرَهُ عَتْقٌ مِنَ النَّارِ. وَمَنْ خَفَّفَ عَن مَمْلُوكٍ غَفَرَ الله لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خِصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهما رَبَّكُمْ؛ وَخصلتينِ لا غِنًى لَكُمْ عَنْهُمَا: أمَّا الخصلتانِ اللَّتَانِ تُرْضَوْنَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، شَهَادَةُ أَنْ لا إله إلَّا الله وَتَسْتَغْفِرونَهُ. وَأَمَا اللتانِ لا غِنَى لَكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ الله الجَنَّةَ وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ؛ وَمَنْ سَقَى صَائِماً سَقَاهُ الله مِنْ حوضي شرْبَةً لا يَظْمَأُ بعدها أَبداً".(1/141)
وفي رواية: مَنْ فَطَّرَ صَائِماً في شهرِ رَمضَانَ مِنَ كَسْبِ حَلالٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ الملائِكَةُ لَيَالِي رَمَضَانَ كُلَّهَا، وَصَافَحَهُ جِبْريل عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَمَنْ صَافَحَهُ جبريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَرِق قَلْبُهُ، وَتَكْثُرُ دُموعُهُ.
وروى سلمة بن شبيب عن ابن عباس مرفوعاً: لله في كل ليلة من ليالي شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار، فإذا كان ليلة الجمعة أعتق الله في كل ساعة منها ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من الشهر أعتق في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أوّل الشهر إلى آخره أعتقنا الله من النار. وقال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه خير من ألف ركعة، والنفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، وَأَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً أَعْطَاهُ الله كِتَابَهُ جَهْراً، وَقَالَ لَهُ اقْرَأْ سِرّاً حَتى لا يَفضَحَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَيَقْرَأُ كِتَابَهُ سِرّاً فَلَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ فَتَقُولُ الملائِكَةُ: إلهنا هذِهِ عِنايَةٌ لَمْ تُسْبق لأحَدٍ مِنْ العُصَاةِ، وَقَدْ أَوْعَدْتَ مَنْ عَصَاكَ أَنْ تُعَذِّبَهُ وَتَحْرِقَهُ بالنَّارِ فَيقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعاَلى: يَا مَلائِكَتي إنِّي أَحْرَقْتُهُ فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الجُوعِ وَالعَطَشِ فِي الحَرِّ الشِّدِيدِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلا أَحْرقُهُ اليَوْمَ بالنيرانِ، وَقَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، وَغَفَرْتُ لَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الذنوبِ والعِصْيَانِ، وَأَنَا الكَرِيمُ المَنَّانُ.(1/142)
وحكي عن بعض أهل العلم أنه قال: كان عندنا رجل اسمه محمد، وكان لا يصلي إلا قطعاً، فإذا دخل شهر رمضان زين نفسه بالثياب الفاخرة والطيب، ويصوم ويصلي ويقضي ما فاته. فقلت له في ذلك. فقال: هذا شهر التوبة والرحمة والبركة، عسى الله أن يتجاوز عني بفضله فمات فرأيته في المنام. فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي لأجل حرمة شهر رمضان، غفر الله لنا ولجميع المسلمين.
(فصل): في أحكام الصوم. فرضه: نية ليلاً لكل يوم من رمضان، وأقلها نويت صوم رمضان، والأكمل نويت صوم غدٍ عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى والتلفظ بها وترك مفطر نهاراً.(1/143)
وسننه: السحور وبالتمر أحبّ، ويحصل ولو بجرعة ماء، ووقته من نصف الليل، وتأخيره أولى ما لم يقع في شك قال رسول الله: "السُّحُورُ كُلُّهُ بَرَكة فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أنْ يَجْرَعُ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ ماءٍ فَإِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على المُتَسَحِّرِينَ" رواه أحمد. وقال: "خَيْرُ خصَالِ الصَّائِمَ السِّوَاكُ" رواه البيهقي. قوال: "إذا صُمْتُمْ فاسْتَاكُوا بالغَداةِ وَلا تَسْتَاكوا بِالعَشيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بالعشيِّ إلَّا كَانَ نُوراً بَيْنَ عَيْنَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ" رواه الطبراني: وتعجيل فطر إذا تحقق الغروب وتقديمه على الصلاة، وكونه بثلاث رطبات فتمرات فحسوات ماء ودعاء بعده وهو: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وبك آمنت، وعليك توكلت ورحمتك رجوت، وإليك تبت ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. قال رسول الله عن ربه عزّ وجلّ قال الله: "أَحَبُّ عِبَادِي إليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْراً" رواه الترمذي. وقال: "لا تَزَالُ أُمّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ يَنْتَظِرُوا بِفِطْرِهِمْ طُلُوعَ النَّجْمِ" رواه الطبراني. ويسنّ في رمضان إكثار تلاوة القرآن وصدقة وتوسعة على العيال، وإحسان إلى الأقارب والجيران وتهجد واعتكاف، لا سيما عشر آخره ودعاء: اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعفُ عني في العشر الأواخر.
ويندب للصائم أن يكفَّ نفسه عن الشهوات المباحة من التلذذ بمسموع أو مُبَصَرٍ أو ملموس أو مشموم، كشمّ ريحان ونظر إليه ولمسه، وأن يغتسل لنحو جنابة قبل الفجر، وأن يحترز عن ذوق طعام أو غيره، ومضغ نحو الخبز لطفل، ولسانه عن الفحشاء.(1/144)
ومفسداته: وصول عين جوفه واستقاءة واستمناء ووطء في فرج مع تعمد واختيار وعلم بتحريمه، وبكونه مفطراً، ويجب مع القضاء الإمساك في رمضان على متعمد أفطر وتارك نية ليلاً، ومن تسحر ظناً بقاءه أو أفطر ظاناً الغروب، فبان خلافه ومن بان له يوم ثلاثي شعبان أنه من رمضان، ومن سبقه ماء المبالغة في المضمضة أو استنشاق لا على مسافر ومريض زال عذرهما بعد الفطر، ولا على امرأة طهرت من حيضٍ أو نفاس نهاراً، ومما يسن لهم الإمساك بقية النهار، فإن خالفوا ندب إخفاء أكلهم عمن يجهل عذرهم، ومما يبطل ثواب الصوم إجماعاً الكذب والغيبة والمشاتمة لما قال رسول الله: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رواه البخاري، وقال: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيامِهِ إلَّا الظَّمْأُ" رواه النسائي وورد في حديث: "لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفْثِ" قال الحافظ أبو موسى المديني هو على شرط مسلم، قال بعض السلف: أهون الصيام ترك الطعام والشراب وقال: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار.(1/145)
واعلم أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات، لا يكمل إلا بعد التقرب بترك المحرمات. فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض، ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لكن قال الأوزاعي: يفطر بالكذب والغيبة لما قال رسول الله: "خَمْسُ خِصَالٍ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ وَيَنْقُضْنَ الوُضُوءَ: الكَذِبُ والغَيْبَةُ والنَّمِيمةُ والنَّظْرَةُ بِشَّهْوَةٍ وَاليمينُ الكَاذِبَةُ" رواه الأزدي والديلمي عن أنس. وفي مسند الإمام أحمد: "أن امرأتين صامتا في عهد رسول الله فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا، فبعثتا إلى رسول الله تستأذنانه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً لهما قِيآ فيه ما أكلتما، فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً عريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فتعجب الناس من ذلك فقال رسول الله: "هَاتَانِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ الله لَهُما وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِما، فَغَدَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأخرى، فَجَعَلَتَا تَغْتَابَانِ النَّاسَ فَهذَا مَا أَكَلَتَا مِنْ لُحُومِهِمْ".
وروي عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: ما من عبد صام رمضان في إنصات وسكوت وذكر الله وأحل حلاله وحرّم حرامه، ولم يرتكب فيه فاحشة إلا انسلخ من رمضان يوم ينسلخ، وقد غفرت له ذنوبه كلها، ويبنى له بكلِّ تسبيحة وتهليلة بيت في الجنة من زمردة خضراء في جوفها ياقوتة حمراء في جوف تلك الياقوتة خيمة من درة مجوفة فيها زوجة من الحور العين.(1/146)
إخواني اهتموا بأمر صومكم واحذروا مما يبطله ويرده عليكم، فقد قيل: إذا تعلق مظلوم بحسنات صوم ظالمه، يقول الله سبحانه وتعالى: الصوم لي وأنا أجزىء به. فلا تفسدوا مثل هذا العمل بترك المبالاة بحدود الله عزّ وجلّ، واتركوا في رمضان المخالفة والجفاء، فإنه شهر الصفاء والمعاملة بالوفاء، فطوبى لأقوام صاموا عن الشهوات، وقاموا في الخلوات يتلون من آيات ذكره صحفاً، ضاعف الله لهم بصيامهم أجراً، ووعدهم في الجنة قصوراً وغرفاً:
شَهْر الصِّيَامِ لَقَدْ عَلَوْتَ مُكرَّماً >< وَغَدَوْتَ مِنْ بَيْن الشُّهورِ مُعَظَّما
يَا صَائِمِي رَمَضَانَ هذا شَهْركُمْ >< فِيهِ أَبَاحَكُمُ المُهَيْمِنُ مَغْنَما
يَا فَوْزَ مَنْ فِيهِ أَطَاعَ إلهَهُ >< مُتَقَرِّباً مُتَجَنِّباً مَا حَرَّما
فالويل كُلُّ الوَيْلِ لِلْعَاصِي الَّذِي >< في شَهْرِهِ أَكَلَ الحَرَامَ وَأَجْرَما
نسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا ممن حافظ على حدود صيام رمضان، ففاز بالفردوس والجنان، والقصور والحور العين الحسان.
((1/147)
فصل): في فضل العشر الأخير وليلة القدر والاعتكاف وإحياء ليلتي العيد وصدقة الفطر أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي إذا دخل العشر الأخير شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" وفي رواية لمسلم عنها قالت: "كان النبي يجتهد في العشر الأخير ما لا يجتهد في غيره" وكان النبي يخص العشر الأواخر في رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر. وأخرج الديلمي عن أنس: "إنَّ الله تَعَالَى وَهَبَ لأُمّتِي لَيْلَةَ القَدْرِ وَلَمْ يُعطِها مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ". والطبراني عن عبادة بن الصامت: "التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ فإنَّهَا وتْرٌ فِي إحْدَى وَعِشرينَ، أوْ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ أوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسعٍ وَعشرينَ أَوْ آخِر لَيْلَةٍ، فَمَنْ قَامَهَا إيماناً وَاحْتِساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخرَ". وهو عن واثلة: ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة ولا باردة ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح، ولا يرمي فيها بنجم من علامة يومها أن تطلع الشمس لا شعاع لها". والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قُولِي اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْو فَاعْفُ عَنِي".(1/148)
وأخرج الديلمي عن عائشة: "مَنْ اعْتَكَفَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحْتِساباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس: "المُعْتَكِفُ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجرَى لَهُ مِنَ الأجْرِ كَأَجْرِ عَامِلِ الحَسَنَاتِ كُلِّهَا". والشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رَسُولُ الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده". والبيهقي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: "مَن اعْتَكَفَ عَشْراً في رَمَضَان كَانَ كَحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ". والطبراني عن أبي أمامة: "تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْماً وَمَنْ رَابَطَ أرْبعينَ يَوْماً لَمْ يَبِع وَلَم يَشْتَرِ، وَلَمْ يُحْدِثَ خَرَجَ مِنْ ذُنوبِهِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أُمّهُ".
وأخرج ابن عساكر عن معاذ: مَنْ أَحْيَا اللَّيَالِي الأَرْبَعَ وُجبَتْ لَهُ الجَنَّةُ: لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ وَلَيْلَةَ عَرَفَةَ وَلَيْلَةَ النّحْرِ وَلَيْلَةِ الفِطْرِ".
وأخرج الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما: "زَكَاةُ الفِطْرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حرَ وَعَبْدٍ وَذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ المُسْلِمِينَ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعير". وهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: "زَكَاةُ الفِطْرِ طَهْرَةٌ للصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِين، مَنْ أدّاها قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أدَاها بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ". وابن صصرى عن جرير: "إنَّ شَهْرَ رَمَضانَ مُعلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا يُرْفَعُ إلاّ بِزَكَاةِ الفِطْرِ."(1/149)
إخواني مضى شهر رمضان وشهد على المسيء بالإساءة وعلى المحسن بالإحسان، وحصل كلٌ على ما قسم له من ربح وخسران، فيا حسرة المفرط لقد أضاع الزمان، ويا خيبة المسوّف كأنه أخذ من الموت الأمان أو علم أن القضاء يمهله إلى صوم رمضان ثانٍ، هذا شهركم قد انتصب لكم مودّعاً وسار مسرعاً فأين البكاء لرحيلة، وأين الاستدراك لقليله، وأين الاقتداء بفعل الخير ودليله، فلِلَّهِ ما كان أطيب زمانه من صوم وسهر وما كان أصفى أوقاته من آفات الكدر، وما كان ألذ الاشتغال فيه بالآيات والسور، فيا ليت شعري من قام بواجباته وسننه، ومن اجتهد في عمارة زمنه، ومن الذي أخلص في سره وعلنه، ومن الذي خلص من آفات الصوم وفتنه. رزقنا الله تعالى امتثال الفضائل واجتناب الرذائل ومنّ علينا بحسن القبول والثواب الجزيل آمين.
((1/150)
فصل): في صوم التطوّع. أخرج البيهقي عن جابر قال: قال رسول الله عن ربه عزّ وجلّ: "قَالَ الله تَعَالَى الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِها العَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ لي وَأَنَا أجْزِي بِهِ". والخطيب عن سهل بن سعد: "مَنْ صَامَ يَوْماً تَطَوُّعاً لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ لَمْ يَرْضَ الله لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ". والشيخان عن أبي سعد: "مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَن النَّارِ سَبْعِينَ خَريفاً". والترمذي عن عمارة: "الصَّائِمِ إذَا كَانَ عِنْدَهُ المَفَاطِيرُ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ". وأخرج أحمد ومسلم عن أبي أيوب: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتَبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوّال كَانَ كَصَوْمِ الدَّهْرِ". والطبراني عن عمر رضي الله عنه: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَالَ خَرَجَ مِنْ ذُنوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ". وأخرج مسلم عن أبي قتادة: "إنَّ صِيَّامَ يَوْم عَرَفَةَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سِتِّينَ سَنَةً مَاضِيَةً وَسَنَةً آتِيَةً". وأبو سعيد عن ابن عمر رضي الله عنهما: "مَنْ صَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ". والبيهقي عن الفضيل: "مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ غُفِرَ لَهُ مِنْ عَرَفَةَ إلَى عَرَفَةَ". وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة: "صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ هُوَ يَوْمٌ كَانَتِ الأنْبِيَاءُ يَصُومُونَهُ فَصُومُوهُ". ومسلم عن أبي قتادة: "سئل رسول الله عن صيام يوم عاشوراء فقال: يُكْفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ". وهو عن ابن عباس: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأصُومَنَّ التَّاسِعَ".(1/151)
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي ذرّ: "مَنْ صَامَ ثَلاثَةَ أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ". وهما وابن حبان عنه: "إذا صمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثاً فَصُمْ ثَلاث عَشرَةَ وَأَرْبع عَشرَةَ وَخَمْسَ عَشرَةَ". والطبراني عن ابن عباس: "كان رسول الله لا يدع صوم أيام البيض في سفر ولا حضر".
وأخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة: "كان النبي يصوم الاثنين والخميس فقيل: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس، فقال: إنَّ يَوْمَ الاثْنَيْن وَالخَمِيسِ يَغْفِرُ الله فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إلا المُتَهَاجِرَين يَقُولُ دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحا". والترمذي عنه: "كان يتحرى صوم الاثنين والخميس وقال: "تُعْرَضُ الأعْمَالُ فِيهِما فَأُحِبُّ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمالي وَأَنَا صَائِمٌ".
وأخرج الترمذي وابن ماجه عنه: "مَا مِنْ أيامٍ أَحَبّ إلى الله أَنْ يُتَعَبَّدُ لَهُ فِيها مِنْ عَشْر ذي الحِجَّةَ يعْدلُ كُلُّ يَوْمٍ مِنْها بِصِيامِ سَنَةٍ، وقيامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْها بِقيامِ لَيْلَةِ القَدْرِ". وأبو داود: "أنه كان يصوم تسع ذي الحجة" ومسلم عنه: "أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْد المَكْتُوبَةِ الصَّلاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْل، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمِ". والبيهقي عن أنس: "إنَّ فِي الجَنَّةِ نهراً يُقَالُ لَهُ: رَجَب أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ مَنْ صَامَ يَوْماً مِنْ رَجَب سَقَاهُ الله خَيْراً مِنْ ذلِكَ النَّهْرِ". وهو والترمذي عنه: "أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَان شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةٌ في رَمَضَانَ". والنسائي والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ النبي ذات يوم فقال: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْنَا لا، فَقَالَ: إنِّي إذاً صَائِمٌ".(1/152)
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: "يَخْرُجُ الصَّائِمُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعْرَفونَ بِعُرْفِ صِيَامِهِمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يَخْرُجُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، تُنْقَلُ إلَيْهِمُ المَوَائِدُ والأباريقُ مَخْتُومَةً أَفْوَاهُها بالمِسْكِ فَيُقَال لَهُمْ: كُلُوا فَقَدْ جُعْتُمْ حِينَ شَبِعَ النَّاسُ، واشْرَبُوا فَقَدْ عَطِشْتُمْ حينَ رَوِيَ النَّاسَ، واسْتريحوا فَقَدُ تَعِبْتُمْ حينَ اسْتَرَاحَ النَّاسُ. قال فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَسْتَريحُونَ، والناسُ مشغولون في الحِسَابِ في عَنَاءٍ وَظَمَأٍ".
عن أبي سليمان الداراني أنه صام يوماً في الحرّ، ثم نام فرأى قائلاً يقول: أتبيع ثواب صومك في هذا اليوم بمائة دينار؟ قال: لا، قال: وبمائة ألف قال: لا، قال: وبمائتي ألف قال: لا وعزة ربي وجلاله، قال: فبأيّ شيء تبيعه؟ فقال: لا أبيع الثواب بالدنيا وما فيها، ولكن أبيعه بالنظر إلى المولى، فقيل له: صم فسوف تراه إن شاء الله تعالى.(1/153)
وحكى اليافعي عن الشبلي أنه قال: كنت في قافلة بالشام، فخرج الأعراب فأخذوها وجعلوا يعرضونها على أميرهم، فخرج جراب فيه سكر ولوز وأكلوا منه، ولم يأكل الأمير فقلت له: لمَ لا تأكل؟ فقال: أنا صائم، فقلت: تقطع الطريق وتأخذ الأموال وتقتل النفس وأنت صائم؟ فقال: يا شيخ أترك للصلح موضعاً، فلما كان بعد حين رأيته يطوف حول البيت، وهو محرم كالشنّ البالي، فقلت: أنت ذلك الرجل؟ فقال: نعم ذلك الصيام أوقع الصلح بيننا رحمه الله ورحمنا معه، وهو أيضاً عن سعيد بن أبي عروبة قال: حج الحجاج بن يوسف، فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة، ودعا بالغداء وقال لحاجبه: انظر لي من يتغدى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر هو الجبل فإذا هو بأعرابي بين شمنتين نائم، فضربه برجله وقال: ائت الأمير فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغدّ معي، فقال: إنه قد دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصوم، فصمت. قال: في هذا الحرّ الشديد. قال: نعم صمت ليوم هو أشدّ حرّاً من هذا اليوم، قال: فأفطر وصم غداً، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد أفطرت، قال: ليس ذلك إليّ. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنه طعام طيب، قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ إنما طيَّبته العافية. رضي الله عنه وعنا.
((1/154)
خاتمة): في فضل عاشوراء. أخرج النسائي عن عليّ رضي الله عنه: إن كنت صائماً بعد شهر رمضان، فصم المحرم، فإنه شهر الله فيه يوم تاب الله على قوم ويتوب على آخرين. والشيخان عن ابن عباس: "إن رسول الله قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله: "ما هذا اليَوْمُ الذي تَصُومُونَهُ" فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله: "فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْكُمْ" فصامه رسول الله وأمر أصحابه بصيامه. ومسلم عن أبي قتادة: "سئل رسول الله عن صيام يوم عاشوراء. فقال: "يُكْفِّرُ السَّنَة المَاضيَةَ" والبيهقي: "صُومُوا التَّاسِعَ والعَاشِرَ وَلا تَشَبَّهُوا باليهودِ" ورؤي بعض العلماء المتقدّمين في المنام فسئل عن حاله، فقال: غفر لي بصيام يوم عاشوراء ذنوب ستين سنة.
وحكى اليافعي والناشري في إيضاحه: من أعجب ما ورد في عاشوراء أنه كان يصومه الوحوش والهوام.
وحكي عن فتح بن شحرف أنه قال: كنت أفتّ للنمل الخبز كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكله وأخرج أبو موسى المديني عن عبد الله بن عمر: "مَنْ صَامَ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ" وَمَنْ تَصَدَّقَ فِيهِ كَانَ كَصَدَقَةِ السَّنَةِ. والطبراني والبيهقي عن أبي سعيد: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ في سَنَتِهِ كُلِّهَا" قال سفيان بن عيينة: جرّبنا العمل بهذا الحديث خمسين سنة أو ستين سنة فوجدناه كذلك.(1/155)
وحكى اليافعي أنه كان في الريّ قاضٍ غنيَ، فجاءه فقير يوم عاشوراء فقال له: أعز الله القاضي أنا رجل فقير ذو عيال، وقد جئتك مستشفعاً بحرمة هذا اليوم لتعطيني عشرة أمنان خبز وخمسة أمنان لحم، ودرهمين، فوعده القاضي بذلك إلى وقت الظهر، فرجع فوعده إلى العصر، فلما جاء وقت العصر لم يعطه شيئاً، فذهب الفقير منكسر القلب، فمر بنصراني جالس باب داره فقال له: بحق هذا اليوم أعطني شيئاً فقال النصراني: وما هذا اليوم؟ فذكر له الفقير من صفاته شيئاً، فقال له النصراني: اذكر حاجتك فقد أقسمت بعظيم الحرمة، فذكر له الخبز واللحم والدرهمين، فأعطاه عشرة أقفزة حنطة ومائة من لحم وعشرين درهماً وقال: هذا لك ولعيالك ما دمت حياً في كلّ شهر، كرامة لهذا اليوم، فذهب الفقير إلى منزله، فلما جن الليل ونام القاضي سمع هاتفاً يقول: ارفع رأسك فرفع رأسه، فأبصر قصراً مبنياً بلبنة من ذهب ولبنة من فضة، وقصراً من ياقوتة حمراء يبين ظاهره من باطنه، فقال: إلهي ما هذان القصران؟ فقيل له: هذان كانا لك لو قضيت حاجة الفقير، فلما رددته صارا لفلان النصراني، قال: فانتبه القاضي مرعوباً ينادي بالويل والثبور، فغدا إلى النصراني فقال له: ماذا فعلت البارحة من الخير؟ فقال: وكيف ذلك؟ فذكر له الرؤيا ثم قال له: يعني الجميل الذي عملته مع الفقير بمائة ألف درهم، فقال: أيها القاضي كل مقبول غالٍ لا أبيع ذلك بملء الأرض كلها أتبخل عليّ بالقصرين؟ فقال: أنت لست بمسلم، فقطع الزنار وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وأن دينه هو الحق.(1/156)
وحكي أنه كان بمصر رجل تاجر في التمر يقال له عطية بن خلف وكان من أهل الثروة، ثم افتقر، ولم يبق له سوى ثوب يستر عورته، فلما كان يوم عاشوراء صلى الصبح في جامع عمرو بن العاص، ومن عادة هذا الجامع لا يدخله النساء إلا في يوم عاشوراء لأجل الدعاء فوقف يدعو مع جملة الناس، وهو بمعزل عن النساء جاءته امرأة ومعها أطفال فقالت يا سيدي: سألتك بالله إلا ما فرجت عني وآثرتني بشيء أستعين به على قوت هذه الأطفال، فقد مات أبوهم وما ترك لهم شيئاً وأنا شريفة، ولا أعرف أحداً أقصده، وما خرجت في هذا اليوم إلا عن ضرورة أحوجتني إلى بذل وجهي، وليس لي عادة بذلك. فقال الرجل في نفسه: أنا ما أملك شيئاً، وليس لي غير هذا الثوب، وإن خلعته انكشفت عورتي، وإن رددتها فأيّ عذر لي عند رسول الله فقال لها: اذهبي معي حتى أعطيك شيئاً فذهبت معه إلى منزله، فأوقفها على الباب ودخل وخلع ثوبه، واتزر بخلق كان عنده، ثم ناولها الثوب من شق الباب. فقالت له: ألبسك الله من حلل الجنة ولا أَحْوَجَكَ في باقي عمرك إلى أحد ففرح بدعائها وأغلق الباب، ودخل بيته يذكر الله تعالى إلى الليل، ثم نام فرأى في المنام حوراء لم يرَ الراؤون أحسن منها، وبيدها تفاحة قد عطرت ما بين السماء والأرض، فناولته التفاحة فكسرها، فخرج منها حلة من حلل الجنة لا تساويها الدنيا وما فيها، فألبسته الحلة وجلست في حجره. فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا عاشوراء زوجتك في الجنة. قال: فبم نلتُ ذلك؟ فقالت: بدعوة تلك المسكينة الأرملة والأيتام الذين أحسنت إليهم بالأمس، فانتبه وعنده من السرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد عبق من طيبه المكان، فتوضأ وصلى ركعتين شكراً لله تعالى، ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: إلهي إن كان منامي حقاً، وهذه زوجتي في الجنة فاقبضني إليك فما استتمّ الكلام حتى عجل الله بروحه إلى دار السلام.(1/157)
واعلم أن ما يفعله الناس يوم عاشوراء من الاغتسال ولبس الثياب الجدد والاكتحال، والتطيب والاختضاب بالحناء، وطبخ الأطعمة بالحبوب وصلاة ركعات بدعة مذمومة، فالسنة ترك ذلك كله، لأنه لم يفعله رسول الله وأصحابه، ولا أحد من الأئمة الأربعة وغيرهم، وما روي فيها من الأحاديث، فكذب موضوع وأن ما يفعل في كثير من البلدان من إيقاد القناديل الكثيرة في ليالٍ معروفة من السنة بدعة قبيحة منكرة. وفقنا الله لاكتساب الفضائل واجتناب الرذائل.
{باب الحج}(1/158)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً}(سورة آل عمران: 97) بوجدان الزاد والراحلة فاضلاً عن دين ومؤن من يمونه ذهاباً وإياباً. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "أيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفِثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ، وَالعُمْرَةُ إلى العُمْرَة كَفَارَةٌ لِما بَيْنَهُمَا والحجُّ المَبْرُورِ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاّ الجَنَّة" وأبو نعيم عن عبد الله بن مسعود: "مَنْ جَاءَ حَاجاً يريدُ بِهِ وَجْهَ الله فَقَدْ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَفَعَ فَيمَنْ دَعَا لَهُ" وأحمد وابن منيع وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله: "مَنْ قَضَى نُسُكَهُ وَسَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" والطبراني عن عبد الله بن جراد: "حُجُّوا فَإِنَّ الحَجَّ يَغْسِلُ الذُّنُوبَ كَمَا يَغْسِلُ المَاء الدَّرَنَ" والترمذي والبيهقي عن عليّ رضي الله عنه: "مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلة تُبْلِغُهُ إلى بَيْتِ الله وَلَمْ يَحج، فَلا عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ يَهودياً أو نصرانياً" وقال عمر رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كلّ من له جدة ولم يحجّ، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين. وقال سعيد بن جبير، مات لي جارٌ موسر لم يحج فلم أصلِّ عليه.(1/159)
وحكى اليافعي أنه ركب جماعة من التجار في البحر متوجهين إلى الحجّ فانكسر المركب وضاق وقت الحجّ وفيهم إنسان معه بضاعة بخمسين ألفاً، فتركها وتوجه إلى الحج فقالوا له: لو أقمت في هذا المكان لعله يخرج لك بعض بضاعتك. فقال: والله لو حصلت لي الدنيا كلها ما اخترتها على الحجّ ودعاء من يشهده من أولياء الله بعد أن رأيت منهم ما رأيت، قالوا: وما رأيت منهم؟ قال: كنا مرّة متوجهين إلى الحج، فأصابنا عطش في بعض الأيام، وبلغت الشربة كذا وكذا، ودرت في الركب من أوّله إلى آخره، فلم يحصل لي ماء ببيع ولا غيره، وبلغ العطش منا الجهد فتقدّمت قليلاً وإذا أنا بفقير معه عكازة وركوة، وقد ركن العكازة في ساقية بركة، والماء ينبع من تحت العكازة، ويجري في الساقية إلى البركة، فجئت إلى البركة، فشربت وملأت قربتي، ثم أعلمت الركب فاستقوا كلهم منها وتركوها وهي تطفح. قال: فهل يسمح بفوت مشهد يشهده هؤلاء القوم رضي الله عنهم. وهو أيضاً عن علي بن الموفق قال: جلست يوماً في الحرم، وقد حججت ستين حجة. فقلت في نفسي إلى متى أتردّد في هذه المسالك والقفار. ثم غلبتني عيني فنمت. فإذا أنا بقائل يقول: يابن الموفق هل تدعو إلى بيتك إلا من تحبّ فطوبى لمن أحبه المولى، وحمله إلى المقام الأعلى. وهو عن أبي عبد الله الجوهري قال: كنت سنة في عرفات؛ فلما كان آخر الليل نمت، فرأيت ملكين نزلا من السماء. فقال أحدهما لصاحبه: كم وقف هذه السنة؟ قال صاحبه: ستمائة ألف ولم يقبل منهم إلا ستة أنفس قال: فهممت أن ألطم وجهي وأنوح على نفسي. فقال له: ما فعل الله في الجميع، قال: نظر الكريم إليهم بعين الكرم، فوهب لكل واحد مائة ألف، وغفر بستة أنفس لستمائة ألف، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهو عن ذي النون أنه قال: رأيت شاباً عند الكعبة يكثر الركوع والسجود، فدنوت منه فقلت: إنك تكثر الصلاة. فقال: أنتظر الإذن في الانصراف.(1/160)
قال: فرأيت رقعة سقطت عليه مكتوباً فيها: من الله العزيز الغفور إلى العبد الصادق الشكور، انصرف مغفوراً لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر قبل الله حجَّنا وغفر ما تقدّم من كبائر ذنوبنا وما تأخر، وتحمل عنا تبعاتنا آمين.
(تنبيه) إن الحج والعمرة تجبان في العمر مرّة على كل مسلم مكلف حرّ مستطيع بوجدان الزاد والراحلة، ولو ببيع عقاره فاضلاً عن مؤنة لائقة لمن يمونه ذهاباً وإياباً، وعن دَيْن عليه مؤجلاً أو أمهل به إلى إيابه على التراخي بشرط عزمه على الفعل، فمن مات أو عضب، ولم يحج بعد الاستطاعة تبين فسقه في آخر سني الإمكان. وكذا فيما بعدها في المعضوب إلى أن يحج عنه، فما شهد به أو قضى فيها تبين بطلانه، وكذلك تزويج موليته. قال الغزالي: من استطاع فأخَّر حتى أفلس لزمه كسب مؤنته أو سؤالها من زكاة أو صدقة ليحج وإلا مات عاصياً، وقيل: يجب على القادر أن لا يتركه في كل خمس سنين لما قال رسول الله: "يَقُولُ الله عَزّ وَجَلّ إنَّ عَبْداً صَحَحْتُ لَهُ حِشْمَهُ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ في المَعِيشَةِ فمضى عليه خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَفِدْ إليّ لَمَحْرُومٌ" رواه البيهقي وابن حبان.
((1/161)
خاتمة): في بيان فضل الحج. روي عن رسول الله: "إنَّ الله تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَات المَلائِكَةَ يَقُولُ: يا مَلائِكَتِي انْظُرُوا إلى عِبَادِي شُعْثاً غبْراً أَقْبَلوا يَضْرِبُونَ إليَّ مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ، فَأَشْهَدَكُمْ أني قَدْ أَجبْتُ دُعَاءَهُمْ وَشَفعْتُ رَغْبَتهُمْ، وَوَهَبْتُ مُسِيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنيهِمْ جَميعَ ما سَأَلُونِي غَيْرَ التَّبِعَاتِ التي بَيْنَهُمْ. فإذَا أَفَاضَ القَوْمُ إلى جَمْعٍ ووقفوا وَعَادُوا في الرَّغْبَةِ، وَالطَّلَبِ إلى الله تَعَالَى يَقُولُ الله تَعَالَى يا مَلائِكَتِي عِبَادِي وَقَفُوا فِي الرَّغْبَةِ والطَّلَبِ فَأُشهِدُكُمْ أني قَدْ أَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ وَشَفَعْت رَغْبَتَهُمْ وَوَهَبْتُ مُسيئَهُمْ لِمُحْسِنِهِمْ، وَأَعْطَيْتُ مُحْسِنيهِمْ جميعَ مَا سَأَلُونِي، وَكَفَلْتُ عَنْهُمْ بالتَّبِعَاتِ التي بَيْنَهُمْ". تحمل الله تبعاتنا وغفر كبائر ذنوبنا.(1/162)
وروي: مَنْ أَمَّ البَيْتَ لا تَضَعُ نَاقَتُهُ خُفّاً وَلا تَرْفَعُهُ إلا كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَة، وَمُحِي عَنْهُ خَطِيئَةٌ، وَرَكْعَتا الطَّوَافِ كَعَتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بِني إسْماعِيلَ، والسَّعْيُ كَعَتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً، والوُقُوفُ يَغْفِر بِهِ الذُّنُوبَ، وَإِنْ كَانَت بِعَدَد الرَّمْلِ وَكَقَطْرِ المَطَرِ وَكَزَبَدِ البَحْرِ، بِكُلِّ حَصَاةٍ مِنَ الجِمَارِ تَكْفِيرُ كبيرةٍ مِنَ المُوبقَاتِ والنَّحْرُ مَدْخُورٌ عِنْدَ الله، وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ حُلِقَتْ حَسَنَةٌ وَمَحْوُ خَطِيئَةٍ، وَبِالطَّوَافِ بَعْدَ ذلِكَ يَضَعُ مَلَكٌ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَيقول: اعْمَلْ فِيمَا يُسْتَقبلُ وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى. غفر الله لنا ما قدمنا وما أخرنا.وروي: إذَا لَقِيتَ الحَاجَّ فَسَلِّمَ عَلَيْهِ وَصَافِحْهُ، وَمُرْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. وروي: إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أتى البَيْتَ ألْفَ آتِيةٍ مِنَ الهِنْدِ عَلَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَرْكَبْ قَطّ فِيهنَّ، وَمَا مِنْ نَبيَ إلا حَجَّ حَتَّى هودُ وَصَالِحُ.
وحكى القاضي عياض أن قوماً أتوا إلى سعدون الخولاني بالمنستير، فأعلموه أن كتامة قتلوا رجلاً وأضرموا عليه النار طول الليل، فلم تعمل فيه شيئاً وبقي أبيض اللون، فقال: لعله حج ثلاث حجج. قالوا: كيف ذلك؟ قال؛ حدثت أن من حج حجة أدّى فرضه، ومن حج ثانية داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرّم الله شعره وبشره على النار.(1/163)
وحكي عن محمد بن المنكدر أنه حج ثلاثاً وثلاثين حجة. فلما كان في آخر حجة حجها، قال: وهو واقف بعرفات: اللهم إني قد وقفت في موقفي هذا ثلاثاً وثلاثين وقفة، فواحدة عن فرضي والثانية عن أبي والثالثة عن أمي، وأشهدك يا رب أني قد وهبت الثلاثين لمن وقف موقفي هذا ولم يتقبل منه. فلما دفع بعرفات ونزل بالمزدلفة نودي في المنام: يا ابن المنكدر أتتكرم على من خلق الكرم، أتجود على من خلق الجود، إن الله تعالى يقول لك: وعزتي وجلالي لقد غفرت لمن وقف بعرفات قبل أن أخلق عرفات بألفي عام.
نسأل الله الكريم الجواد أن يغفر لنا كبائر ذنوبنا ويتحمل تبعاتنا ويقبل توبتنا.
(فصل): في أحكام الحج. أركانه؟ إحرامٌ بِنِيَّةٍ، نَوَيْتُ الحَجَّ وَأَحْرَمْتُ به. ووقوفٌ بِعَرَفَةَ، وطوافٌ سَبْعاً، وسَعْيٌ سبعاً مبتدئاً بالصَّفا إلى المروة وعائداً منها إلى الصفا، وإزالة شَعَرَاتٍ مِنْ رَأْسٍ، وأفضلُها الوقوفُ، وعند بعض المحققين الطَّواف، وغير الوقوف أركانٌ لِلْعُمْرَةِ.
وواجباته: إحرام من ميقات، ومبيت بمزدلفة لحظة من نصف أخير من ليلة النحر، ومبيت على ليالي التشريق ورمي أيامها سبعاً سبعاً إلى الجمرات، وطواف وداع لغير مكي ونحو حائض، ويجب بترك واحد منها فدية.
وشروط الطواف: طهارة وستر عورة، وابتداء بالحجر الأسود ومحاذاته بكل بدنه، وجعل البيت عن يساره.(1/164)
ومحرّمات الإحرام: وطء وقبلة ومباشرة بشهوة واستمناء ونكاح وتطيُّب ودهن شعر، وإزالته وتقليم ظفر واصطياد وأكل ما صيد له، ولبس رجل مخيطاً وستر رأسه وستر امرأة شيئاً من وجهها، فإن فعل شيئاً ناسياً أو جاهلاً بتحريمه، فإن كان إتلافاً كحلق شعر وقتل صيد وجبت الفدية أو تمتعاً كلبس وتطيب فلا. ونقل النووي في المجموع قول بعضهم: يندب أن يتشبه كل أحد بالمحرم في عشر ذي الحجة بعدم إزالة شعر وظفر وقول آخرين: يندب التعريف في يوم عرفة بالاجتماع بعد الظهر في أيّ بلد كان للذكر والدعاء تشبهاً بأهل عرفة. ونقل الإمام أحمد فعله عن الحسن وجماعة.
(فصل) في فضل مكة. قال الله تعالى: {إنَّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً للعَالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بيناتٌ مَقَامُ إبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (سورة آل عمران: 96 ـ 97)(1/165)
وروي أن رسول الله قال: {والله إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ الله وَأَحَبُّ أَرْضِ الله إلي وَلَوْلا أَنِي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ، وروى: مَا عَلَى وَجْهِ الأرْضِ بَلْدَةٌ يَرْفَعُ الله تعالى فِيها الحَسَنَة الواحِدَةَ بمائةِ أَلفِ حَسَنَةٍ إلَّا مَكَّةَ، وَمَنْ صَلّى فِيها صَلاةً رُفِعَتْ لَهُ مائَةَ أَلْف صلاة، وَمَنْ صَامَ فِيها يَوْماً كَتَبَ الله لَهُ مَائَةِ أَلفِ يَوْمٍ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ كَتَبَ الله لَهُ مائة أَلْفِ دِرْهَمٍ صَدَقَة، وَمَنْ خَتَمَ القُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَة كَتَبَ الله لَهُ مائَةَ أَلْفِ خَتْمَة، وَمَنْ سَبَّحَ الله تعالى فِيها مَرَّةً كَتَبَ الله لَهُ مائَةَ أَلْفٍ بغيرِها، وليَوْمٌ وَاحِدٌ في حَرَمِ الله وَأَمْنِهِ أَرْجَى لَكَ وَأَفْضَلُ مِنْ صِيامِ الدَّهْرِ وَقِيامِهِ في غَيْرِهَا مِنَ البلدانِ. وروي: مَنْ صَلّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَاتَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الحَسَنَاتِ بِعَدَدِ كُلِّ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ أضْعَافاً، وَأَمَّنَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ}. وروي: مَنْ طَافَ حَوْلَ بَيْتِ الله سَبْعاً في يَوْمٍ صَائِفٍ شَدِيدِ الحَرِّ حَاسِراً عَنْ رَأْسِهِ وَاسْتَلَمَ الحَجَرَ الأسْوَدَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤذِي أَحَداً، وَقَلَّ كَلامهُ إلَّا مِنْ ذِكْرِ الله كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ يَرْفَعُها سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْف سَيِّئَةٍ، وَرُفعَ لَهُ سَبْعونَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَفَضْلُ المَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ. وروي: مَنْ طَافَ بِالبَيْتِ خَمْسِينَ مَرةً يعني خَمْسينَ أسبوعاً خَرَجَ مِنْ ذُنوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أَمّهُ.(1/166)
وروي: إنَّ الحَجَرَ الأسْوَدَ يَشْهَدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا وَأَنَّهُ شَافِعٌ مُشْفِعٌ، وَأَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَوْلا ذلِكَ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلاّ شُفِيَ. وروي: لا يَدْخُلُ أَحَدٌ الكَعْبَةَ إلاّ بِرَحْمَةِ الله، وَلا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَّا بِمَغْفِرةِ الله عَزَّ وَجَلَّ. وروي: النَّظَرُ إلى الكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَمَنْ نَظَرَ إلى البَيْتِ إيماناً واحْتِساباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَرَ، وَحُشِرَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الآمِنينَ. وروي: مَنْ مَرِضَ بِمَكَّةَ يَوْماً وَاحِداً حَرَّمَ الله جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ. وروي: مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو عِنْدَ الرُّكْنِ الأسْوَدِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ وَكَذلِكَ عِنْدَ الرُّكْنِ اليَماني. وروي: مَا عَلى وَجْهِ الأرْضِ بَلْدَةٌ يُسْتَجَابُ فِيها الدُّعَاءُ في خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعاً إلاّ مَكَّةَ: أوّلُهَا جَوْفُ الكَعْبَةِ، والدُّعَاءُ فِيها مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ عِنْدَ الحَجَرِ الأسْوَدِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ عِنْدَ الرُّكْنِ اليَماني مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ تَحْتَ الميزابِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ في الحَجَرِ مُسْتَجَابٌ والدُّعَاءُ في المُلْتَزِمِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعاءِ خَلْفَ المقَامِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعاءِ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ مُسْتَجَابٌ، والدُّعاءُ عَلَى الصَّفا مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ عَلَى المَرْوَةِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ في المَوْقِفِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ مُسْتَجَابٌ، والدُّعَاءُ عِنْدَ الجَمَرَاتِ الثَّلاثِ مُسْتَجَابٌ.(1/167)
وروي: يَحْشُرُ الله تَعَالَى مِنْ مَقْبَرَةِ مَكَّةَ سَبْعِينَ أَلْفَ شَهِيدٍ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وُجُوهُهُمْ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، يَشْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ في سَبْعِينَ رَجُلاً فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يا رسولَ الله؟ فَقَالَ: الغُرَبَاء وَمَنْ مَاتَ في حَرَمِ الله تَعَالَى أَوْ حَرَمِ رَسُولِهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَاتَ بَيْنَ مَكَّةَ والمدينةِ حَاجّاً أَوْ مُعْتَمِراً بَعَثَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الآمِنينَ، ألا وإنَّ التَّصَلُّعَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ. كتب الله الكريم المنان البراءة لنا من النفاق والنيران، وقبض أرواحنا في أحد الحرمين، وحشرنا في زمرة شهداء حرمه الآمنين، وأدخلنا الجنة بغير حساب آمين آمين.(1/168)
وحكى اليافعي عن سهل بن عبد الله قال: مخالطة الوليّ للناس ذلّ وتفرّده عزّ قلما رأيت ولياً لله إلا منفرداً، وإنّ عبد الله بن صالح كان رجلاً له سابقة وموهبة جزيلة، وكان يفرّ من الناس من بلد إلى بلد حتى أتى مكة فطال مقامه، فقلت له: لقد طال مقامك بها، فقال لي: لم لا أقيم بها ولم أرَ بلداً ينزل فيه من الرحمة والبركة أكثر من هذا البلد، والملائكة تغدو فيه وتروح، إني أرى فيه عجائب كثيرة، وأرى الملائكة يطوفون بالبيت على صور شتَّى لا يقطعون ذلك، ولو قلت كل ما رأيت لصغرت عنه عقول قوم ليسوا له بمؤمنين. فقلت له: أسألك بالله إلا ما أخبرتني بشيءٍ من ذلك فقال: ما من وليّ لله تعالى صحت ولايته إلا وهو يحضر هذا البلد في كل ليلة جمعة لا يتأخر عنه، فمقامي هاهنا لأجل من أراه منهم، وقد رأيت رجلاً يقال له مالك بن القاسم الجيلي، وقد جاء ويده غمرة، فقلت له: إنك قريب عهد بالأكل، فقال لي: أستغفر الله فإني منذ أسبوع لم آكل، ولكن أطعمت والدتي وأسرعت لألحق صلاة الفجر، وبينه وبين الموضع الذي جاء منه تسعمائة فرسخ أقول: وقد شاهدت تصديق ذلك من شيخي قطب الزمان، وشمس دائرة العرفان أبي المكارم زين العابدين محمد البكري متَّعنا الله بطول بقائه، ونفعنا به وبدعائه وحشرنا تحت لوائه، وهو أنّ شيخي كان جالساً في ليلة من ليالي رمضان عام ستَ وستين وتسعمائة متوجهاً إلى بيت الله، وناظراً إليه وكنت أنا وجماعة من فقرائه، وراءه فقام الشيخ رضي الله عنه على هيئة المتواضع والمتأدّب وقمنا معه، وما رأينا عروض عارض للقيام ولا مجيء أحد إليه، ثم جلس بعد ساعة، فجلسنا فسألت بعض خواص أصحابنا الذي كان معنا في ذلك الوقت عن قيام الشيخ رضي الله عنه فقال: إنّ أولياء الله يحضرون بهذا البيت، ويجتمعون بأولياء الله تعالى، وهذا من ذلك أدام الله لنا النفع به في الدارين.(1/169)
واعلم أنّ السيئات تضاعف في مكة كما تضاعف الحسنات فيها على ما روى مجاهد عن ابن عباس، والمراد بالمضاعفة زيادة القبح والعذاب. وروى الثوري عن ابن مسعود: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ إلاّ تُكْتَبُ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً بِعَدَنٍ أبين همّ أن يَقْتُلَ رَجُلاً، بِهذا البَيْتِ لأذَاقَهُ الله عَزّ وَجَلّ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم. وقال جماعة من المفسرين تبعاً لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنّ من الظلم الذي يذيق الله صاحبه العذابَ الأليم شتم الخادم في الحرم.
وحكى شيخنا ابن حجر نفعنا الله به: أنه وقع لبعض من يعرفه الذي كان على هيئة جميلة
وفضل تام، وتصوّن بالغ زلة بتقبيل امرأة عند الحجر، فمسخ مسخاً كلِّياً وصار بأرثّ هيئة، وأقبح منظر، وأفظع حالة بدناً وديناً وعقلاً وكلاماً.
وحكي أنّ بعض الطائفين نظر إلى أمرد أو امرأة، فسالت عينه على خدّه، وإنّ بعضهم وضع يديه على امرأة فالتصقتا، وعجز الناس عن فكهما حتى دلهم بعض العلماء أنهما يرجعان إلى محل معصيتهما ويبتهلان إلى الله، ويصدقان في التوبة، ففعلا ذلك ففرّج الله عنهما.
وقصة إساف ونائلة مشهورة وهي أنهما زنيا في البيت فمسخهما الله حجرين. فنعوذ بالله من الزلات ونسأله أن يعصمنا من الفتن إلى الممات، إنه أكرم كريم وأرحم رحيم.
((1/170)
فصل): في زيارة قبر نبينا محمد وفضل المدينة النبوية. قال رسول الله: "مَنْ حَجّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي في حَيَاتِي" وقال: "مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي" وقال: "مَنْ حَجّ إلى مَكَة ثُمَّ قَصَدَنِي في مَسْجِدِي كُتِبَتْ لَهُ حَجَّتَانِ مَبْرُورَتَانِ" وقال: "مَنْ حَجّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي" وقال: "مَنْ زَارَنِي بِالمَدِينَةِ مُحْتَسِباً كُنْتُ لَهُ شَهِيداً يَوْمَ القِيَامَةِ" وقال: "لا يَصْبُرُ عَلَى لأوَاءِ المَدِينَةِ وَشِدَّتِها أَحَدٌ مِنْ أُمّتِي إلاّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ أَوْ شَهِيداً" وقال: "مَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا" نسأل الله الكريم أن يرزقنا شفاعة نبيه، والموت في حرمه آمين.
وحكى أبو الحسن الصوفي قال: وقف حاتم الأصمّ على قبر النبي فقال: يا ربّ إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا ما أذنا لك في زيارة قبر النبي إلا وقد طهرناك، ارجع ومن معك من الزوّار مغفوراً لكم، فإن الله عَزّ وَجَلّ قد رضي عنك وعمن زار قبر نبيه محمد، فارض اللهم عنا معهم.
{باب فضل القرآن}(1/171)
أخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "فَضْلُ القُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الكَلامِ كَفَضْلِ الرَّحْمنِ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ". والحاكم عن ابن مسعود: "مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ. أمْثَالِهَا، لا أقُولُ آلم حَرْفٌ وَلكِنْ ألِفُ حَرْف وَلام حَرْفٌ وَمِيمُ حَرْفٌ". وأحمد عن معاذ بن أنس: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالدَاهُ تَاجاً يَوْمَ القِيَامَةِ ضَوْؤُهُ أحسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنَّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَا". وأحمد عن تميم: "مَنْ قَرَأَ بِمائَةِ آيَةٍ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتَ لَيْلَةٍ" والحاكم عن أبي هريرة: "مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مائَةَ آيَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ".(1/172)
والديلمي عن عمرو بن شعيب: "إذَا خَتَمَ العَبْدُ القُرْآنُّ صَلّى عَلَيْهِ عِنْدَ خَتْمِهِ سِتُّونَ ألْفَ مَلَكِ"، وأبو داود والنسائي عن أنس: "مَثَلُ المُؤْمِن الَّذِي يَقْرَأَ القُرْآنَ كَمَثلِ الأتْرُجَّةِ ريحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يَقْرَأَ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعمُهَا طَيِّبٌ وَلا ريح لَهَا، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآن كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ ريحهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي لا يَقْرَأ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَة طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيِح لَهَا، وَمَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِح كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ إنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَكَ مِنْ رِيحِهِ، وَمَثَلُ الجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الكِيرِ إنْ لَمَ يُصِبْكَ مِنْ شَرَرِهِ شَيْءٌ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ"، وأحمد عن أبي هريرة: "مَن اسْتَمَعَ إلى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة مُضَاعَفَة، وَمَنْ تَلا آيَةً مِنْ كِتَابِ الله كَانَتْ لَهُ نوراً يَوْمَ القِيَامَةِ"، والطبراني عن أنس "مَنْ عَلَّمَ ابْناً لَهُ القُرْآنَ نَظَراً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَنْ عَلَّمَهُ إيَاهُ ظَاهِراً فَكُلَّمَا قَرَأَ الابنُ آيَةً رَفَعَ الله بِهَا لِلأبِ دَرَجَة حَتّى يَنْتَهي إلى آخِرِ مَا مَعَهُ مِنَ القُرْآنِ"، والديلمي عن أبي أمامة: "حَامِلُ القُرْآنِ حَامِلُ رَايَة الإسْلامِ، وَمَنْ أَكْرَمَهُ فَقَدْ أَكْرَمَهُ الله، وَمَنْ أَهَانَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله"، وأخرج الترمذي والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمّتِي حَتَّى القَذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْباً أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ(1/173)
القُرْآنِ أَوْ آيَةً أُوتِيهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيهَا" وأبو داود عن سعد بن عبادة: "مَا مِنْ امْرِىءٍ تَعَلَّمَ القُرْآنَ ثُمَّ نَسِيهُ إلاّ لَقِي الله يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمَ".
وحكى اليافعي أن الإمام أحمد بن حنبل قال: رأيت رب العزّة في منامي فقلت: يا ربِّ بمَ يتقرب إليك المتقربون؟ قال: بكلامي، فقلت: بفهم أو بغير فهم قال بفهم وبغير فهم.
(تنبيهات): أحدها: إن تلاوة القرآن أفضل من سائر أنواع الذكر العام الذي لم يخص بوقت أو محلَ، وهي نظراً، وفي الصلاة وبالليل ونصفه الأخير وبين العشاءين وبعد الصبح، وفي أفضل الأوقات أفضل.
(فرع) يسنّ ترتيلها حتى للأعجمي الذي لا يفهمه، وهو الانتقال من حرف إلى حرف آخر بتأنَ بلا وقفة، وحرف ترتيل أفضل من حرفي غيره. قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب، إليّ من أن أقرأ القرآن كله بغير ترتيل. قال بعضهم: يسنّ الوقوف على رأْس كل آية وعليه أبو عمرو القارىء. وينبغي أن يكون شأن القارىء الخشوع والتدبر والخضوع إذ هو المقصود والمطلوب، وبه تستنير القلوب. قال أنس بن مالك: رب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه. وورد في التوراة: يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك منه شيء، وهذا كتابي أنزلته إليك، أنظر كم فصلت لك من القول، وكم كرّرت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه أفكنتُ أهون عليك من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقص إليك بعض إخوانك، فتقبل عليه بكلّ وجهك، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كفّ، وها أنا ذا مقبل عليك، ومحدّث لك وأنت معرض عني بقلبك أجعلتني أهون عليك من بعض إخوانك؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
((1/174)
فائدة) قال في المجموع: الاشتغال بحفظ ما زاد على الفاتحة أفضل من صلاة التطوّع، وأفتى بعض المتأخرين بأن الاشتغال بحفظه أفضل من الاشتغال بفرض الكفاية من سائر العلوم دون فرض العين منها. وثانيها: أن نسيان آية أو حرف منه، ولو بالاشتغال بما هو أهمّ منه كتعلم العلم العيني كبيرة. وثالثها أنه يجب على من حفظه بعد البلوغ بصفة من إتقان أو توسط أو غيرهما، كأن يتوقف فيه أو يكثر غلطه أن يستمر على تلك الصفة التي حفظه عليها، فيحرم عليه نقصها من حافظته. ورابعها أنه يحرم تمزيق ما كتب فيه قرآن عبثاً وبلعه لا أكله ولا شرب محوه، وترك رفعه عن الأرض، ومدّ الرجل إليه ووضع نحو درهم فيه، وفي كتب علمٍ شرعي، ويندب القيام له كالعالم.
وحكى يوسف المالكي أن الإمام أبا بكر بن فورك ما نام في بيت فيه مصحف قط، وإذا أراد النوم انتقل عن المكان الذي فيه إعظاماً لكتاب الله عزّ وجلّ.
(فصل): في فضائل بعض السور والآيات التي ورد فضلها في الأحاديث غير الموضوعات(1/175)
أخرج عبد الله بن حميد عن ابن عباس قال: قال رسول الله: "فَاتِحَةُ الكِتَابِ تَعدِلُ بِثُلُثَيِ القُرْآنِ" وأحمد والترمذي عن أبي هريرة: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْزَلَ الله فِي القُرْآنِ وَلا فِي الزَّبُورِ وَلا فِي الإنْجِيلِ وَلا فِي الفرقانِ مِثْلَهَا: يَعْني أُمَّ القُرْآنِ وَإِنَّهَا السَّبْعَ المثاني والقُرْآنُ العَظِيمِ"، وأحمد عن أمامة: "اقْرَؤوا القرآن فإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامة شفيعاً لأَصْحَابِهِ: اقْرَؤوا الزّهْرَاوَيْنِ البَقَرَةَ وآل عمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا يَأْتيَانِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أوْ غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فُرْقَانٌ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَ تُحَاجَانِ عَنْ أَصْحَابِهِما، اقْرَؤوا سورة البَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَركَها حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ"، والبيهقي عن الصلصال: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ تُوِّجَ بِتَاجٍ فِي الجَنَّةِ"، وابن مردويه والشيرازي عن ابن مسعود: "أعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ الله آيَةُ الكُرْسِي وَأَعْدَلَ آيَةٍ فِي القُرْآنِ {إنَّ الله يَأْمُرَ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ} (سورة النحل: 9) إلى آخرها، وأخْوَفُ آيَة فِي القُرْآنِ: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَهْ وَمَنُ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهْ} (سورة الزلزلة: 7 ـ 8) وأرجى آية في القرآن {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} (سورة الزمر: 53)، والحاكم عن أبي ذرّ: إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهنّ وعلموهنّ نساءكم وأبناءكم، فإنها صلاة وقراءة ودعاء.(1/176)
والدارمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: "مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عمْرانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ"، وأحمد عن معاذ بن أنس: آية العز {وَقُل الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} (سورة الإسراء: 111) الآية. والبيهقي عن ابن عباس "سُورَةُ الكَهْفِ تُدْعَى فِي التَّوْرَاةِ الحَائِلَةُ تَحول بَيْنَ قَارِئِهَا وَبَيْنَ النَّارِ". ومسلم عن أبي الدرداء: "مَنْ قَرَأَ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ سورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجّالِ". وأحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن جابر: "كان النبي لا ينام حتى يقرأ: {الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ. و تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ}، والدارمي عن خالد بن معدان قال: "اقرؤوا المنجية وهي آلم تنزيل فإنه بلغني أن رجلاً كان يقرؤها ما يقرأ شيئاً غيرها، وكان كثير الخطايا، فنشرت جناحها عليه قالت: ربّ اغفر له فإنه كان يكثر قراءتي فشفعها الربّ تعالى، وقال: اكتبوا له بكل خطيئة حسنة، وارفعوا له درجة" وقال أيضاً: "إنها تجادل عن صاحبها في القبر تقول: اللهم إن كنت من كتابك فشفِّعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني عنه، وإنما تكون كالطير تجعل جناحها عليه، فتشفع له فتمنعه من عذاب القبر" وقال في: تبارك، مثله. وعن أبي سعيد: "مَنْ قَرَأَ يس مَرَّة فَكَأَنَّمَا قَرَأَ القُرْآنَ مَرَّتَيْنِ" وفي رواية البيهقي عن معقل بن يسار: "مَنْ قَرَأَ يَس ابتغاء وَجْهِ الله غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ فَاقْرَؤوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ". وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "مَنْ قَرَأَ يَس في لَيْلَةٍ أَصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ" والبيهقي عن أبي هريرة: "مَنْ قَرَأَ يَس كُلَّ لَيْلَةٍ غُفِرَ لَهُ" وفي رواية عنه: "مَنْ قَرَأَ يس فِي يَوْمٍ وَلَيْلةٍ ابْتَغَاءَ وَجْهِ الله تَعَالَى غُفرَ لَهُ".(1/177)
والدارمي عن عطاء بن أبي رباح قال: "مَنْ قَرَأَ يس في صَدْرِ النَّهَارِ قُضِيَتْ حَوَائِجُهُ" والبيهقي عن الخليل بن مرة قال: "الحَوَامِيمُ سَبْعٌ وَأَبْوَابُ جَهَنَّمِ سَبْعٌ يَجِيءُ كُلُّ حَامِيم مِنْهَا يَقِفُ عَلى بَابٍ مِنْ هذِهِ الأبْوَابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تُدْخِلْ هذا البابَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِي وَيَقْرَؤنِي". والترمذي عن أبي هريرة: "مَنْ قَرَأَ حَم الدّخَانُ فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سبعون أَلْفَ مَلَكٍ". وابن الضريس عن الحسن قال: "مَنْ قَرَأ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةٍ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". والبيهقي والديلمي عن فاطمة رضي الله عنها: "قارىء الحديد وإذا وقعت والرحمن يدعى في ملكوت السموات والأرض ساكن الفردوس". والبيهقي عن ابن مسعود: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الوَاقِعَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَداً" وابن عديّ عن أنس: "عَلِّمُوا نِسَائَكُمْ الوَاقِعَةَ فَإِنَّهَا سورَةُ الغِنَى". والترمذي والنسائي عن العرباض بن سارية: "كان النبي يقرأ المسبحات في كل ليلة قبل أن يرقد يقول: "إنَّ فِيهنَّ آيَةً خَيْرٌ مِنْ ألْفِ آيَةٍ" قال الحافظ بن كثير هي قوله: {هُوَ الأوّلُ وَالآخِرُ} إلى {عَلِيم} (سورة الحديد: 3). وقال أبي بن كعب: أفضل المسبحات سبح اسم ربك الأعلى. والبيهقي عن أبي أمامة: "مَنْ قَرَأَ خَوَاتِيمَ الحَشْرِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهارٍ فَقُبِضَ فِي ذلِكَ اليَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ أَوْجَبَ الله لَهُ الجَنَّةَ"، وأحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابنا عدي وحبان عن أبي هريرة: "إنَّ سُورَةً فِي القُرْآنِ ثَلاثِين آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ" وفي رواية أبي داود: "تَشْفَعُ".(1/178)
والترمذي عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان يقرأ فيه سورة تبارك الذي بيده الملك حتى ختمها؛ فأتى النبي فأخبره فقال: هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب الله. والحاكم عنه: وددت أن تبارك الذي بيده الملك في قلب كل مؤمن. والترمذي عن أنس: من قرأ: {إذَا زُلْزِلَتِ} عدلت نصف القرآن؛ ومن قرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} عدلت ربع القرآن، ومن قرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} عدلت له بثلث القرآن. والبيهقي عن ابن عمر: "ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: أما يستطيع أحدكم أن يقرأ {ألَهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد والطبراني والبزار وأبو عبيد عن عشرة من الصحابة: "قُلْ هُوَ الله أَحَد تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ". والعقيلي عن رجاء الغنوي: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا قَرَأ القُرْآنَ أَجْمَعَ"، وأحمد عن معاذ بن أنس: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى الله لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ" والبيهقي وابن عديّ عن أنس: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ مائَةَ مَرَّةٍ غَفَرَ الله لَهُ خَطَيئَةَ خَمْسينَ عاماً مَا اجْتَنَبَ خصالاً أَرْبعاً: الدِّمَاءَ وَالأمْوَالَ وَالفُروجَ وَالأشْرِبَة". والطبراني عن فيروز: "مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ مائَةَ مَرَّةٍ فِي الصَّلاةِ أَوْ غَيْرِهَا كَتبَ الله لَهْ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ" اللهم اكتب لنا البراءة من النار.(1/179)
وورد في سورة لم يكن: إن الله تعالى يقول لمن قرأها: أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى. وفي العاديات: إنها تعدل نصف القرآن، وفي سورة النصر: إنها تعدل ربع القرآن. وروى الجويني في تفسيره عن أبان بن أبي عياش. قال: حضرنا وفاة مورق العجلي، فلما سُجِّي وقلنا قد قضى رأينا نوراً ساطعاً قد سطع من عند رأسه حتى خرق السقف، ثم رأينا نوراً قد سطع عند رجليه مثل الأول، ثم رأينا نوراً سطع من وسطه فمكثنا ساعة، ثم إنه كشف الثوب عن وجهه فقال: هل رأيتم شيئاً؟ قلنا له: نعم، وأخبرناه ما رأيناه فقال: تلك سورة السجدة قد كنت أقرؤها كل ليلة، وكان النور الذي رأيتم عند رأسي أربع عشرة آية من أولها، والنور الذي رأيتم عند رجلي أربع عشرة آية من آخرها، والنور الذي رأيتم في وسطي آية السجدة بنفسها تشفع لي، وبقيت سورة تبارك تحرسني، ثم قضى.
وحكى اليافعي قال: سمعت من بعض الصالحين في بعض بلاد اليمن، أنه لما دفن بعض الموتى وانصرف الناس سمع في القبر ضرباً ودقاً عنيفاً، ثم خرج من القبر كلب أسود، فقال له الشيخ: ويحك إيش أنت؟ قال: أنا عمل الميت، فقال: هذا الضرب فيك أم فيه؟ قال: بل فيّ: وجدت عنده سورة يس وأخواتها فحالت بيني وبينه، وضربت وطردت. نسأل الله المنان أن يجنبنا عذاب القبر والنيران، وأن يرزقنا الحور والجنان ببركة القرآن آمين.
{باب أذكار الصباح والمساء}(1/180)
أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم قال: قال رسول الله: "مَنْ قَالَ قبل أَنْ يَنْصَرِفَ وَيَثْنِي رِجْلَيْهِ مِنْ صَلاةِ المَغْرِبِ والصُّبْحِ: لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْد يُحْيي وَيُمِيتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ. وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَحِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ إلاّ الشِّرْك، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلاً إلا رَجُلاً يَفْضُلُهُ يَقُول أَفْضَلَ ممَّا قَالَ".(1/181)
وزاد النسائي: مَنْ قَالَهُنَّ مِنْ صَلاةِ العصرِ أُعْطِيَ مِثْلَ ذلِكَ، وأحمد والبخاري: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إله إلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ، وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِها فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَها مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِها فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، وأبو داود والترمذي: "كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ إذا أصْبَحَ: اللَّهُمَّ بِكَ اَّصْبَحْنَا وَبِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وإلَيْكَ النّشُورُ، وَإذَا أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ بِكَ أَمْسَيْنَا وَبِكَ أَصْبَحْنَا وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإلَيْكَ المَصِيرُ"، وابن السني قال رسول الله لفاطمة رضي الله عنها: "مَا يَمْنَعُكِ أَنَّ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ تَقُولِي إذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، فَأَصْلِح لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلا تَكِلنِي إلى نَفْسي طَرْفَةَ عَيْنِ"، وأبو داود: "إذَا أصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلكُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذا اليَوْم فَتْحِه وَنَصْره وَنُوره وَبَرَكَتِه وَهُدَاهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما فِيهِ وَشَرِّ مَا قَبْلَه وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ"، وأبو داود: "دخل رسول الله ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة؛ فَقَالَ يَا أبَا أَمَامَةَ مَا لِي(1/182)
أَرَاكَ جَالِساً فِي غَير وَقْتِ الصَّلاةِ؟ قَالَ هُمُوم لَزِمَتْنِي وَدَيونٌ يَا رَسُولَ الله. قَالَ أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلاماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ الله هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحُزْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّينِ وَقَهْر الرِّجَالِ. قَالَ: فَقُلْتُ فَأَذْهَبَ الله تَعَالَى هَمِّي وَقَضَى عنِّي دَيْنِي". وابن السني جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال: يا أبا الدرداء قد احترق بيتك فقال: ما احترق لم يكن الله عز وجل ليفعل ذلك بكلمات سمعتهن من رسول الله من قالها أوّل نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت، وأنت ربّ العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شرّ نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم. وأخرجه من طريق آخر: أنه تكرر مجيء رجل إليه يقول أدرك دارك فقد احترقت وهو يقول ما احترقت، لأني سمعت رسول الله يقول: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ هذه الكلمات لم يصبه في نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه، وقد قلتها اليوم، ثم قال: انهضوا بنا فقام وقاموا معه فانتهوا إلى داره، وقد احترق ما حولها ولم يصبها شيء.(1/183)
وفي رواية أخرى له: من قالها ثم مات دخل الجنة، وهو أن رجلاً شكا إلى رسول الله أنه يصيبه الآفات، فقال رسول الله: "قُلْ إذَا أصْبَحْتَ: بِسْمِ الله عَلَى نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي فَإِنَّهُ لا يذهب لك شَيْءٌ" فقالهنّ الرجل فذهب عنه الآفا. ومسلم وأبو داود: أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شرّ ما خلق لم تضرّ.(1/184)
وفي رواية ابن ماجه: "ما ضرّه لدغ عقرب حتى يصبح"، وأحمد وأبو داود: "من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً كان حقاً على الله أن يرضيه"، وابن السني: "إذَا أصْبَحْت فَقُل: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا شَرِيكَ لَكَ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ لا شَرِيكَ لَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَإذَا أَمْسَيْتَ فَقُلْ مِثْلَ ذلك فَإِنَّهُنَّ يُكَفِّرْنَ مَا بَيْنَهُنَّ" والترمذي وأبو داود: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: ببِسم الله الرحمن الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ، وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمِ ثَلاثَ مَرَّاتِ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ" وفي رواية: "فَجاة بلاء"، والترمذي: "مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلاثَ مَرَّاتِ: أَعُوذُ بِكلِماتِ الله التاماتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضَرُّهُ حُمة تِلْكَ اللَّيْلَةَ"، وأبو داود من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم أني أصبحت أشهدك، وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرّتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله تعالى" وابن السني: "من قال في كل يوم حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة"، وابن حبان والحاكم: "مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ مائَة مَرَّةٍ، وإذَا أَمْسَى مائَة مَرَّةٍ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُه، وَإِن كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ" وفي رواية أبي داود: "سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ"، والترمذي: "مَنْ قَرَأَ حم المُؤْمِنُ إلى إلَيْهِ المَصِيرُ وآيَةَ(1/185)
الكُرْسِي حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِما حَتَّى يُصْبِحَ". وأبو داود: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلَى وَكذَلِكَ تَخرجون أدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذلِكَ وَمَنْ قَالهنّ حِينَ يُمْسِي أدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتهُ"، وابن السني عن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: وجهنا رسول الله في سرية، فأمرنا أن نقرأ إذا أمسينا وإذا أصبحنا: {أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تَرْجِعُونَ} (سورة المؤمنون: 115) وهو والترمذي: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكَلَّ الله تعالى به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة. وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن حبيب قال: "خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ فَطَلَبَ النَّبيُّ ليُصَلِّي بِنَا فَأَدْرَكْنَاهُ فَقَال: قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: قُلْ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: قُلْ قُلْتُ: يَا رَسُول الله مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ وَالمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاثَ مَرَّاتَ يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ".
{باب ما يقال عند النوم والاستيقاظ منه}(1/186)
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "وَكَلَنَّي رَسُول الله بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُوا مِنَ الطَّعَامِ وَذَكَرَ الحَدِيثَ وَقَالَ: إذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشك فَاقْرَأْ آيَة الكُرْسِي فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ الله حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبي: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ وَذَاكَ شَيْطَانٌ" والشيخان: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في لَيْلَةٍ كفتاه وهما: كان رسول الله إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسَدِهِ يفعل ذلك ثلاث مرات. وأبو داود والترمذي عن نوفل قال: "قَالَ لِي رَسُولَ الله: اقرأ {قُلْ يَا أَيُّها الكَافِرُونَ} ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِها فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ" أعاذنا الله من الشرك والنفاق، والترمذي: "مَنْ قَالَ حِينَ يأَوِي إلى فِرَاشِهِ أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لا إله إلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُّ وَأَتُوب إلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ الله تَعَالَى لَهُ ذُنُوبَه، وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَدَ النُّجُومِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالج، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيا"، وابنا حبان والسني: "مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلى فِرَاشِهِ: لا إله إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْك وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِالله العَلِيِّ الَعظِيمِ سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إله إلَّا الله والله أَكْبَرُ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ".(1/187)
والشيخان عن عليّ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله قَالَ لَهُ وَلِفَاطِمَةَ رضي الله عنهُمَا: إذَا أَوَيْتُما إلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبّحا ثَلاثاً وَثَلاثِينَ وَاحمدا ثلاثاً وثلاثين وَكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلاثِينَ، قال علي رضي الله عنه: ما تركته منذ سمعته منه قيل له ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. والبخاري "كان إذا أوى إلى فراشه قال: باسْمِكَ اللَّهُمَّ أحْيَا وَأَمُوت، بَاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ إنْ أَمْسَكْتَ نَفْسي فَأرْحَمْها، وَإنْ أَرْسَلْتَها فَاحْفَظْها بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحينَ". والشَّيْخَانِ؛ "إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأيْمَنِ وَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْك، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَأَ إلاّ إليك، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ: اللَّهُمَّ قِني عَذَابكَ يَوْمَ تَبْعَث عِبَادَكَ فَإِنْ متُّ مُتُّ عَلَى الفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ"، وابن السني: "مَنْ بَاتَ عَلَى طَهَارَةٍ ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ مَات شَهيداً". وأخرج البخاري كان رسول الله إذا استيقظ من النوم قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُورُ"، وابن السني: ما من رجل ينتبه من نومه فيقول: الحمد لله الذي خلق النوم واليقظة الحمد لله الذي بعثني سالماً سوياً أشهد أن لا إله إلا الله يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير إلا قال الله تعالى: صدق عبدي. وهو: ما من عبد يقول عند رد الله تعالى روحه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، إلا غفر الله تعالى ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر.(1/188)
وأحمد: "كَانَ رَسُولُ الله لا يَنَام إلَّا وَالسِّوَاكُ عِنْدَ رَأْسِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاك". ومسلم: "مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ فَقَرأهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ الظّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ".
{باب ما يقال في بعض الأحوال}(1/189)
أخرج ابن السني: "مَنْ لَبِسَ ثَوْباً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي كَسانِي هذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلا قُوَّةٍ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وهو والحاكم: "كَانَ رَسُولُ الله إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ بِسْمِ الله التَّكَلانُ عَلَى الله وَلا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلَّا بِالله". وابنا ماجه والسني كان إذا خرج من الخلاء قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأذَى وَعَافَانِي". والترمذي: "كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك". وأبو داود والترمذي "من أكل الطعام وقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورَزَقنيه مِنْ غير حولٍ منِّي ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه". والترمذي والحاكم: "مَنْ دَخَلَ السُّوق فقال: لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يحيي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْر، وَهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَرَفَعَ بِها صَوْتَهُ كَتَبَ الله لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئةٍ، وَرَفَعَ لَهُ ألْفَ دَرَجَةٍ". والترمذي: "مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ وَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنُ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِه ذلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلَّا أنْتَ أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ غَفَرَ الله لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسهِ ذلِكَ" غفر الله لنا ما تقدم وما تأخر من كبائر ذنوبنا وسيئات أعمالنا.
((1/190)
تنبيهات): أحدها: أنه يسنّ الأذكار الواردة أوّل النهار وآخره، وعند النوم واليقظة، فينبغي لمريد الخير الاعتناء بحفظها ومواظبتها، وقد استوفاها الجلال السيوطي في وظائف اليوم والليلة، وثانيها أن الاشتغال بالذكر الخاص بوقت أو محل بأن ورد الشرع به فيه، ولو من طريق ضعيف أفضل من تلاوة القرآن لتنصيص الشارع عليه، والذكر الخاص الوارد عن بعض الصحابة كالوارد عنه. وثالثها أنه ينبغي للذاكر والداعي أن يتدبر ما يذكر ويدعو به، ويتعقل معناه قال الإسنوي وغيره: من أتى بذكر أو دعاء مأثور غافلاً عن معناه المعلوم له لولا الغفلة لا يثاب عليه. وقال شيخنا ابن حجر تغمده الله برحمته في العامِّيّ الذي لم يفهم المعنى يحتمل أنه يثاب.
{باب في أذكار غير مقيدة بوقت}(1/191)
أخرج الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله: "ألا أُنْبِئُكُمْ بخير أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا في دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْر لَكُمْ مِنْ إنْفَاقِ الذِّهَبِ وَالوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقُوا عَدوكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؛ قَالوا: بَلَى قَالَ ذِكْرُ الله"، والترمذي والنسائي وابنا ماجه وحبان: "أفْضَلُ الذِّكْرِ لا إله إلَّا الله"، وأحمد ومسلم: "أحَبُّ الكَلامِ إلَى الله تَعَالَى أرْبَعٌ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله ولا إله إلا الله وَالله أَكْبَرُ لا يَضُرّكَ بَأَيّهُنّ بَدَأتَ"، وابن ماجه: "عَلَيْكُمْ سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إله إلَّا الله وَالله أَكْبَرُ فَإِنَّهُنَّ يَحْطُطنَ الخَطَايَا كَما تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"، وابن عدي: "أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَّا بِالله فَإِنَّهَا مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ"، ومسلم: "أن النبي خرج من عند جويرية رضي الله عنها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم.(1/192)
فقال النبي: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته"، والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ألا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إذَا أَنْتَ قُلْتَهُنَّ وَعَلَيْكَ مِثْلُ عَدَدٍ الذرِّ خَطَايَا غفر الله لَكَ: قُلْ لا إله إلَّا الله العَلِيُّ العَظِيمِ لا إله إلَّا الله الحَليِمُ الكَرِيمُ لا إله ألاَّ الله سُبْحَانَ الله رَبّ السَّمواتِ السَّبْعِ وَرَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمينَ"، وهو وأحمد والحاكم عنه قال: قال رسول الله: "أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَل ثَبيرِ ذنْباً أذَابَهُ الله عَنْكَ، قُل اللَّهُمَّ اكْفِنِي بحلالك عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِني بِفَضْلِكَ عَمّنْ سِوَاكَ". والشيخان: "مَنْ قَالَ لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في يَوْم مائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهْ عَدْل عَشْر رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهْ مائَةَ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مائَة سَيِّئَة وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حتى يُمْسِي، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ". والخطيب وأبو نعيم وابن عبد البرّ "من قال في يومه مائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين كان له أماناً من الفقر وأنساً من وحشة القبر، وفتحت له أبواب الجنة".(1/193)
والبيهقي: "ما من مسلم يقف عشية عرفة فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير مائة مرّة ثم يقرأ: قل هو الله أحد مائة مرّة، ثم يقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وعلينا معهم مائة مرة إلا قال الله تعالى: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا أشهدكم أني قد غفرت له وشفعته في نفسه، ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف. وروي عن ابن عباس قال: "الليل والنهار أربع وعشرون ساعة وحروف لا إله إلا الله محمد رسول الله أربعة وعشرون حرفاً، فمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله كفر كل حرف ذنوب ساعة، فلا يبقى عليه ذنب إذا قالها في كل يوم مرة، فكيف بمن يكثر من قول لا إله إلا الله ويجعلها شغله؟.(1/194)
إخواني إن كنتم عاصين فقولوا؛ لا إله إلا الله فإنها تكفر الذنوب والعصيان، وإن كنتم طائعين فجددوا إيمانكم بقول لا إله إلا الله، فإنها تجدد الإيمان وتورث الأمن والأمان، والعفو والغفران، وأخرج البغوي: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنِّي أسْتَغْفِرُ الله وَأَتُوبُ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمِ مائَةَ مَرَّةٍ" ومسلم: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ وَدَوَاءُ الذُّنُوبِ الاسْتِغْفَارُ" وابن السنى: "مَن اسْتَغْفَرَ الله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً غَفَرَ الله لَهُ سَبْعِمائَةَ ذَنْبٍ، وَقَدْ خَابَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ عَمِلَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمائَةِ ذَنْبٍ" وأحمد والحاكم: "مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ الله لَهُ مِنْ كُلِّ هَمَ فَرَجاً وَمِنْ كُلِّ ضِيْقٍ مَخْرَجاً وَرَزقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" وروى معروف الكرخي عن أنس بن مالك وابن عمر: أن رجلاً أتى النبي فقال؛ دلني على عمل يدخلني الجنة؟ قال: لا تغضب، قال: فإني لا أطيق ذلك. قال: فاستغفر الله عز وجل كل يوم بعد صلاة العصر سبعين مرة يغفر الله لك ذنوب سبعين عاماً. قال: فإن لم تأت عليّ ذنوب سبعين؟ قال: يغفر لأقاربك. غفر لنا الله ولأقاربنا.
وحكى اليافعي عن بعض الصالحين أنه عبد الله عزّ وجلّ أربعين سنة، فلما كان بعض الليالي أخذته دالة على الله عزّ وجلّ، فقال إلهي أرني ما قد أعددت لي من الحور العين، فما استتمّ الكلام حتى انشقّ المحراب، فخرجت منه حورية لو خرجت إلى الدنيا لفتنتها، فقال لها: إنسية أنت؟ فأنشأت تقول:
شَكَوْتَ إلَى المَوْلَى وَقَدْ عَلِمَ الشَّكْوَى >< وَأَعْطَاكَ مَا تَرْجُو وَقَدْ كَشَفَ البَلْوَى
وَأرسَلَني أُنْساً إلَيْكَ وَإِنَّنِي >< أُنَاجِيكَ طُولَ اللَّيْلِ لَوْ تَسْمَعُ النَّجْوَى(1/195)
فقال لها: يا جارية لمن أنت؟ قالت: أنا لك، فقال: كم لي مثلك جويرية. قالت: مائة جويرية ولكلّ جويرية مائة خادمة، ولكلّ خادمة مائة وصيفة، ولكلّ وصيفة مائة قهرمانة ففرح، وقال: يا جويرية هل أعطى أحداً أكثر مني؟ قالت: يا مسكين عطاؤك عطاء البطالين الذين يقولون: أستغفر الله فيغفر لهم، ثم يستغفرون الله عند غروب الشمس فيغفر لهم. غفر الله لنا ولوالدينا ولأحبابنا.
(تنبيه) اعلم أنّ أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأنه لا يساوي شيء من الأذكار هذا الذكر أصلاً كما أخبر به النبي، ولهذا اجتمعت المشايخ الشوامخ قدس الله أرواحهم على اختيار هذه الكلمة الشريفة، فعملوا بهما في السلوك والتسليك، وقالوا ينبغي للمبتدىء، أن يقتصر عليها بعد الفرائض والسنن، والرواتب من الصلوات، فيشتغل سائر أوقاته بها إلى ما لا بدّ منه. قال النووي: والصحيحة أن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من ذكر القلب وحده، والصحيح المختار أنه يستحب مدّ الذاكر قوله لا إله إلا الله لما فيه من التدبر، فالمراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله، وإذا ذكر الله تعالى وقلبه غافل عنه، فهو غير ذاكر له بل ناسٍ له بقلبه، ومعلق بلسانه فينبغي توبته من ذلك، ولزوم الاستغفار منه. وقال بعضهم من قال الله وقلبه غافل عن الله فخصمه في الدارين الله. وقال القطب المحقق سهل بن عبد الله التستري: لا أعرف المعصية أقبح منه. أعاذنا الله من الغفلة في الذكر والصلاة ورزقنا الإخلاص والحضور فيهما.
{باب فضل الصلاة على النبي}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسلِّمُوا تَسْلِيماً} (سورة الأحزاب: 56)(1/196)
أخرج التيمي أنّ رسول الله قال: "صَلُّوا عَليَّ فَإِنّ الصّلاةَ عَلَيَّ كَفَّارَةٌ لَكُمْ وَزَكَاةٌ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلّى الله عَلَيْهِ عَشْراً" وأحمد: "أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي عَزّ وَجَلّ فَقَالَ مَنْ صَلّى عَلَيْكَ مِنْ أُمّتِكَ صَلاةً كَتَبَ الله لَهُ بِهَا عَشْر حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيئَاتِ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وَرَدّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا"، والطبراني: "مَنْ صَلّى عَلَيَّ وَاحِدةً صَلّى الله عَلَيْه عَشْراً، وَمَنْ صَلّى عَلَيَّ عَشْراً صَلّى الله عَلَيْهِ مائَةً، وَمَنْ صَلّى عَلَيَّ مائَة كَتَبَ الله لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَرَاءةً مِنَ النِّفَاقِ وَبَرَاءَةً مِنَ النَّارِ وَأَسْكَنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الشّهَدَاءِ"، وابن عساكر: "أَكْثِرُوا الصَّلاةَ عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ عَلَيَّ مَغْفِرَةٌ لِذنُوبِكُمْ، وَاطْلُبُوا لِيَ الدَّرَجَةَ وَالوَسِيلَة، فَإِنَّ وَسِيلَتِي عِنْدَ رَبِّي شَفَاعَةٌ لَكُمْ"، والترمذي عن أبي بن كعب قال: كانَ النَّبيُّ إذَا ذَهَبَ ثُلُثا اللَّيْلِ قَامَ، فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا الله جَاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيه جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيِهِ، قَالَ أبيُّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ قَالَ مَا شِئْتَ قُلْتُ: الرُّبُعَ قَالَ مَا شِئْتَ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قُلْت: فَالنِصْفَ. قَالَ: مَا شِئْتَ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَقُلْتُ: فَالثّلُثَيْنِ. قَالَ: مَا شِئْتَ وَإِن زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَقُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ إذاً تكْفي هَمّكَ وَيُغْفُرُ لَكَ ذَنْبُكَ".(1/197)
الصلاة على رسول الله أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي أفضل من عتق الرقاب، وحب رسول الله أفضل من مهج الأنفس، أومن ضرب السيف في سبيل الله. والطبراني: "مَنْ قَالَ جَزَى الله عَنّا مُحَمَّداً بِمَا هُوَ أَهْلُهُ أَتْعَبَ سَبْعِينَ مَلَكاً ألْفَ صَبَاحٍ"، وروي أن النبي قال: "ثَلاثَة تَحْتَ ظِلِّ الرَّحْمنِ عَزّ وَجَلّ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلّهُ. قيل: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ فَرَّجَ عَنْ مَكْروبٍ مِنْ أُمّتِي وَمَنْ أَحْيَا سُنّتِي، وَمَنْ أَكْثَرَ الصَّلاة عَلَيَّ" وعنه قال: "مَنْ صَلّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزلِ المَلائِكَة يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ اسمي فِي ذلِكَ الكِتَابِ"، وروى التيمي عن زين العابدين أنه قال: علامة أهل السنة كثرة الصلاة على رسول الله.
وذكر ابن الجوزي في (سلوة الأحزان) أنّ آدم عليه السلام لما رام القرب من حوّاء طلبت منه المهر. فقال: يا رب ماذا أعطيها؟ قال: يا آدم صلِّ على صفيي محمد عشرين مرة ففعل. وقال كعب الأحبار: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام في بعض ما أوحى إليه يا موسى أتحبّ أن لا ينالك من عطش يوم القيامة؟ قال: إلهي نعم. قال: فأكثر الصلاة على محمد. وروي: أنّ مسرفاً من بني إسرائيل لما مات رموا به فأوحى الله لموسى عليه السلام أن غسِّله وصلّ عليه فإني قد غفرت له. قال: يا رب وبم ذلك؟ قال: إنه فتح التوراة يوماً فوجد فيها اسم محمد، فصلى عليه فغفر له بذلك. وفي شرف المصطفى لأبي سعيد: "أنّ عائشة رضي الله عنها كانت تخيط شيئاً في وقت السحر فضلت الإبرة وطفىء السراج، فدخل عليها النبي، فأضاء البيت بضوئه ووجدت الإبرة، فقالت: ما أضوأ وجهك يا رسول الله؟ قال: ويل لمن لا يراني. قالت: ومن لا يراك؟ قال: البخيل. قالت: ومن البخيل؟ قال: الذي لا يصلِّي عليّ إذا سمع باسمي.(1/198)
وذكر أبو نعيم في الحلية: "أنَّ رَجُلاً مرّ بالنَّبي وَمَعَهُ ظَبْيٌ قَدِ اصْطَادَهُ، فَأَنْطَقَ الله سُبْحَانَهُ الَّذِي أنْطَقَ كُلَّ شَيْء الظَّبيَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ الله: إنّ لي أوْلاداً وأنَا أُرْضِعُهُمْ، وَإِنَّهُمُ الآن جِيَاعٌ، فَأْمُرْ هذا أنْ يُخْلِينِي حَتَّى أذْهَبَ فَأُرْضِع أَوْلادِي وَأَعُود. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَعُودِي؟ قَالَتْ: إنْ لَمْ أَعُدْ فَلَعَنَنِي الله كَمَنْ تُذْكَر بَيْن يَدَيْهِ فَلا يُصَلِّي عَلَيْكَ. فَقَالَ النَّبيُّ أطَلِقْها وَأَنَا ضَامِنُها فَذَهَبَت الظَّبيَةُ ثُمَّ عَادَتْ، فَنَزِلَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ الله يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأنَا أَرْحَمُ بِأُمّتِكَ مِنْ هذِهِ الظَّبِيَةِ بِأَوْلادِهَا وَأَنَا أَرَدُّهُمْ إليْكَ كَمَا رَجعَتِ الظَّبْيَة إليك" الحمد لله الذي جعلنا من أمّة محمد وسلم تسليماً.
((1/199)
تنبيه): إنّ إكثار الصلاة على النبي مع السلام مطلوب مرغَّب فيه، فينبغي الحرص عليه كل حين ولو بأقلّ الصلاة، وهو: اللهم صلّ على محمد وآله وسلم ولا يسمع أحد بعظم فضلها ويتركها إلا متهاون بالدين وتحسينها مطلوب أيضاً: لما روى ابن مسعود عن النبي: "إذا صليتم عليّ فأحسنوا الصلاة فإنكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليّ" الحديث. والمراد بتحسينها أن يأتي الصلاة بأكملها وأفضلها، فمن أفضل الكيفيات الواردة في الصلاة على النبي وأجمعها الكيفية التي استنبطها، وجمعها شيخنا ابن حجر نفعنا الله به وهي: اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته، وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين، وذرّيته وأهل بيته، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وكما يليق بعظيم شرفه وكماله ورضاك عنه، وما تحبّ وترضى له دائماً أبداً عدد معلوماتك. ومداد كلماتك ورضاء نفسك، وزنة عرشك أفضل صلاة وأكملها وأتمها كلما ذكرك، وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، وسلم تسليماً كذلك وعلينا معهم. وقال شيخنا إنّ هذه الكيفية قد جمعت الوارد في معظم كيفيات التشهد التي هي أفضل الكيفيات، وسائر ما استنبطه العلماء من الكيفيات وزادت بزيادة بليغة فلتكن هي الأفضل على الإطلاق، وقال العلامة الحافظ الشرجي وغيره: إنّ جميع الأذكار لا تفيد ولا تقبل إلا مع حضور القلب إلا الصلاة على النبي، فإنها تقبل مع عدم حضور القلب.وقال الشيخ الكبير قطب الدوائر أبو الحسن البكري رضي الله عنه: ينبغي للمرء أن لا تنقص صلاته على رسول الله عن الخمسمائة في كل يوم وليلة ولو بأقلّ الصلاة، وقال أبو طالب المكي في قوت القلوب: ينبغي أن لا ينقص صلاته عليه من الثلاثمائة.(1/200)
وحكي أن رجلاً حج وكان يكثر الصلاة على النبي في مواقف الحج وأعماله، فقيل له: لمَ لمْ تشتغل بالدعاء المأثور؟ فاعتذر بأنه خرج للحج هو ووالده، فمات والده بالبصرة، فكشف عن وجهه، فإذا هو صورة حمار فحزن حزناً شديداً، ثم أخذته سنة فرآه، وتعلق به وأقسم ليخبرنه بقصة والده. فقال: إنه كان يأكل الربا وآكله يقع له ذلك دنيا وأخرى، ولكنه كان يصلي عليّ كل ليلة عند نومه مائة مرة، فلما عرض له ذلك أخبرني به الملك الذي يعرض عليّ أعمال أمتي، فسألت الله فشفعني فيه فاستيقظ فرأى وجه والده كالبدر، ثم لما دفنه سمع هاتفاً يقول له: سبب العناية التي حفت والدك الصلاة والسلام على رسول الله فآليت أن لا أتركها على أيّ حال كنت في أي مكان كنت.
وحكي أيضاً: أنه توفي تاجر عن مال وابنين وثلاث شعرات من شعره فاقتسما المال نصفين وشعرتين، وبقيت واحدة، فطلب الأكبر قطعها نصفين فأبى الأصغر إجلالاً له. فقال له الأكبر: أتأخذ الثلاث بحظك من المال؟ قال: نعم، ثم جعل الثلاث في جيبه وصار يخرجها ويشاهدها ويصلي على النبي، فعن قريب كثر ماله وفنى مال الأكبر. ولما توفي الصغير رآه بعض الصالحين، ورأى النبي. فقال له قل للناس من كانت له إلى الله حاجة، فليأت قبر فلان هذا ويسأل الله قضاء حاجته، فكان الناس يقصدون قبره حتى بلغ إلى أن كان كلّ من مرّ على قبره راكباً ينزل ويمشي راجلاً.
((1/201)
خاتمة): في ذكر منامات. رأى الشبلي رحمه الله في المنام جاراً له فقال: مرّت بي أهوال عظيمة، وذلك أنه أرتج عليّ عند السؤال، فقلت في نفسي: من أين أتى عليّ، ألم أمت على الإسلام فنوديت: هذه عقوبة إهمالك لسانك في الدنيا؟ فلما همّ بي الملكان حال بيني وبينهما رجل جميل طيب الرائحة، فذكرني حجتي فذكرتها، فقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال أنا شخص خلقت لكثرة صلاتك على النبي، وأمرت أن أنصرك في كل كرب. ورأت امرأة ولدها بعد موته يعذب، فحزنت لذلك وبكت ثم رأته بعد ذلك وهو في النور والرحمة فسألته عن ذلك. فقال: مرّ رجل بالمقبرة فصلى على النبي، وأهدى ثوابها للأموات فحصل نصيبي المغفرة، ورأى رجل من أهل شيراز أبا العباس أحمد بن منصور عليه حلة، وعلى رأسه تاج مكلل بالجواهر. فقال له: ما فعل الله بك فقال؛ غفر لي وأكرمني وتوّجني وأدخلني الجنة، فقال له: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي على رسول الله وكان بعض الصالحين جعل على نفسه عدداً معلوماً يصلي على النبي عند النوم. فأخذته عيناه ليلة، فرأى النبي داخلاً عليه فامتلأ بيته نوراً. فقال له: هات هذا الفم الذي يكثر الصلاة عليّ أقبله، قال فاستحييت فأدرت له خدّي فقبله، فانتبهت فإذا البيت يفوح مسكاً من رائحته، وبقيت رائحة المسك من قبلته في خدّي نحو ثمانية أيام. ورأى بعض الصالحين أبا حفص الكاغدي. فقال: ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي وأدخلني الجنة، فقيل له: بماذا؟ قال: لما وقفت بين يديه أمر الملائكة فحسبوا ذنوبي وصلاتي على النبي فوجدوها أكثر، فقال لهم المولى جلَّت قدرته: حسبكم يا ملائكتي لا تحاسبوه واذهبوا به إلى جنتي. اللهم أدخلنا الجنة بغير حساب بحق الشفيع العاقب عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون وسلم كذلك.
{باب الشرك الأصغر وهو الرياء}(1/202)
قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّه فليعمل عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادة ربِّه أَحَداً} (سورة الكهف: 110) أي لا يرائي بعمله.
وأخرج أحمد عن رسول الله: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشّرْك الأصْغَر وَهُوَ الرياءُ، يقولُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ لِلْمُرائين إذَا جَزَى الله النًّاسَ خَيْراً بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إلى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤونَ فِي الدُّنْيا انْظُروا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً". وابن حبان: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ علَى أُمّتِي الإشْرَاكُ بِالله، أَمَا إني لَسْتُ أَقُولُ تَعْبِدُونَ شَمْساً وَلا قَمَراً وَلا وثَناً، وَلَكِنْ أَعمالاً لِغَيْرِ الله وَشَهْوَةً خَفِيَّةً". والطبراني: "إنَّ أدْنَى الرّياءِ شِرْكٌ وَأَحَبُّ العَبِيد إلى الله الأَتْقِيَاء الأخْفِيَاء: أي المبالغون في ستر عبادتهم، وتنزيهها عن شوائب الأعراض الفانية، والأخلاق الدنية الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا: أي حضروا لم يعرفوا أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم". وأبو نعيم والديلمي: "إنَّ الله حَرَّمَ الجَنَّةَ عَلَى كُلِّ مُرَاء". والديلمي: "رِيحُ الجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسيرَةِ خَمْسمائَةَ عام ولا يَجِدُها مَنْ طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ". والطبراني: "إنَّ فِي جَهَنَّمِ وَادِياً تَسْتَعِيذُ جهَنَّمُ مِنْ ذلِكَ الوادِي فِي كُلِّ يَوِمٍ أَرْبَعْمائَةِ مَرَّةِ أُعِدُّ ذلِكَ الوَادِي للمُرائين مَنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ لِحَامِل كِتَابِ الله تَعَالَى، وَلِلْمُتَصَدِّقِ في غَيْرِ ذَاتِ الله وَلِلْحَاج، وَلِلْخَارِجِ فِي سَبيلِ غَيْرِ اللَّهِ" وهو والبيهقي: "مَنْ أَحْسَنَ الصَّلاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ أَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُوا، فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِها رَبَّهُ".(1/203)
وابن ماجه: "رُبَّ صائِمِ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيامِهِ إلا الجُوع، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ". والديلمي: "إيَّاكُمْ أنْ تَخْلِطُوا طَاعَةَ الله بِحُبِّ ثَنَاءِ العِبَادِ فتحبط أعْمَالكُمْ". ومسلم: قال الله تعالى: "أنَا أَغْنَى الشُّرَكَاء عَنِ الشِّرْكِ منْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشَرِكَه" وسمويه "إذَا كَانَ يَوْم القِيَامَةِ أتَى بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ تُنْصَبُ بَيْنَ يَدَي اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ الله لِمَلائِكَتِهِ: اقْبَلُوا هذَا وَأَلْقُوا هذا، فَتقُولُ المَلائِكَة وَعِزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا فِيهَا إلَّا خَيْراً، فَيَقُولُ: نَعَمْ لكِنْ كَانَ لِغَيْرِي، وَلا أَقْبَلُ اليَوْمَ إلاّ ما ابْتَغَى بِهِ وَجْهِي". وأحمد ومسلم: "إنَّ أَوّلَ النَّاسِ يَقْضِي عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ اسْتَشْهَدَ فَأَتَى بِهِ فَعرّفَهُ: أي الله نِعْمَتَهُ فعرفها. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالُ جَرِيءٌ: أي شُجَاعٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِي فِي النَّارِ، وَرَجُل تَعَلَّمَ العِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ فَأَتَى بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهِ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَال هُوَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ القُرْآن لِيُقَال هُوَ قَارِىءٌ فَقَدْ قيل، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَيُسْحَب عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّار، وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ، وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ المَالِ كُلِّهُ فَأتَى بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها.(1/204)
قَال: فَمَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفقَ فِيهَا لَكَ، قَالَ كَذَبْتَ، وَلكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَيُسْحَب عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ". والطبراني والبيهقي: "يُؤْمَرُ بِنَاسٍ يَوْمَ القِيَامَةِ إلى الجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَوا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إلى قُصُورِها، وإلى مَا أَعَدَّ الله لأهْلِهَا فِيها أنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا يَرْجعُ الأوّلُونَ والآخَرُونَ بِمِثْلها، فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تَرِينا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ، وَمَا أَعْدَدْتَ فِيها لأوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ، قَالَ: ذَاكَ أَرَدْتُ مِنْكُمْ يَا أشْقِيَاءُ كُنْتُمْ إذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتمُونِي بالعَظَائِمِ، وَإذَا لَقَيتُمُ النَّاسَ لَقَيتُمُوهُمْ مُخْبتِينَ تُرَاؤونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِكُمْ خِلافَ مَا تَعْطُونِي مِنْ قُلُوبِكُمْ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَم تهَابُونِي، وَأَجْلَلْتُم النَاسَ وَلَمْ تَجِلُّونِي وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ، وَلَمْ تَتْرِكُوا لِيَ فَاليَوْمَ أُذِيقُكُمُ العَذَابَ مَعَ مَا حَرَّمْتُمْ مِنَ الثَّوابِ" وروى الذهبي: "سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ الله فَقَالَ: مَا النَّجَاةُ غَداً؟ قَالَ: أنْ لا تُخَادِعِ الله، قَالَ: وَكَيْفَ نُخَادِع الله؟ قَالَ: أنْ تَعْمَلَ بِمِا أَمَرَكَ الله وَرَسُولُه وَتُرِيدُ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ الله" فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله، وأن المرائي ينادى عليه يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا حاضر ضلّ عملك وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن تعمل له يا مخادع.
((1/205)
تنبيهان): أحدهما: أن الرياء المذموم إرادة العامل بعبادته غير وجه الله تعالى كأن يقصد إطلاع الناس على عبادته حتى يحصل له نحو مال أو ثناء، وقد اختلف حجة الإسلام الغزالي وسلطان العلماء عزّ الدين بن عبد السلام فيمن قصد بعمله الرياء والعبادة. فقال الغزالي. إن غلب باعث للدنيا فلا ثواب له، أو باعث الآخرة فالثواب له، وإن تساويا تساقطا فلا ثواب أيضاً. وقال ابن عبد السلام لا ثواب مطلقاً، ورجحه الزركشي للأخبار الصحيحة كخبر "من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه هو للذي أشرك". وثانيهما: إن العبد إذا عقد عبادته على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء، فإن كان بعد تمام العمل لم يؤثر فيه، لأنه تم على الإخلاص، فإن تكلف إظهاره والتحدّث به قصداً للرياء. قال الغزالي فهذا مخوف، وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط العمل. ثم قال الأقيس أنه مثاب على عمله الذي انقضى ومعاقب على مراآته بطاعة الله ولو بعد فراغه منها.
وحكي أن رجلاً أضاف سفيان الثوري وأصحابه، فقال لأهله: هاتوا الطبق لا الذي أتيتُ به في الحجة الأولى، بل في الثانية. فقال سفيان الثوري: هو مسكين أفسد بهذا حجتيه، عافانا الله من الرياء. وورد أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: "الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْلِ وَسأدُلكَ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتَهُ أذْهَبَ الله عَنْكَ صِغَارَ الشِّرْك وَكِبَارَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أَشْرِكَ بِكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ وَأسْتَغْفِركَ لِمَا لا أعْلَمُ تَقُولَها ثَلاثَ مَرَّاتِ" وسئل بعض الأئمة من المخلص؟ فقال: الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، وسئل آخر ما غاية الإخلاص؟ قال: أن لا تحبّ محمدة الناس.(1/206)
وحكى الشيخ شرف الدين يوسف في مختصر الاحياء أن من أخلص لله في العمل، وإن لم ينوِ ظهرت آثار بركته عليه، وعلى عقبه إلى يوم القيامة كما قيل لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان لكل جنس بما يليق به، فجاءت طائفة من الظباء، فدعا لهنّ ومسح على ظهورهنّ فظهر فيهنّ نوافج المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قالوا من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا، ومسح على ظهورنا، فمضى الباقي إليه فدعا لهنّ ومسح على ظهورهنّ فلم يظهر لهنّ من ذلك شيء؛ فقالوا: قد فعلنا كما فعلتم فلم نر شيئاً مما حصل لكم فقالوا أنتم كان عملكم لتنالوا كما نال إخوانكم، وأولئك كان عملهم من غير شوب، فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة. اللهم ارزقنا الإخلاص واجعلنا من المخلصين.
{باب الكبر والعجب}
قال الله تعالى: {تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقبة لِلْمُتَّقينَ} (سورة القصص: 83)(1/207)
قال أبو حيان: علق الله حصول الدار الآخرة على مجرّد عدم إرادة العلوِّ فكيف بمن باشر؟ وقال ولا فساداً بذكر لا ليدل على أن كلّاً منهما مقصود لا مجموعهما. وعن علي كرّم الله وجهه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل أنه قرأها،ثم قال: ذهبت الأماني وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض. وأخرج مسلم وأبو داود عن رسول الله: "لا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةِ مِنْ خَردَلِ مِنْ إيمانٍ، وَلا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ كِبْرِ". وابن عساكر: "إيَّاكُمْ والكِبْرُ فَإِنَّ إبْلِيسَ حَمَلَهُ عَلَى الكِبْرِ أَنْ لا يَسْجُدَ لآدَمَ وَإِيَّاكُمْ وَالحِرْصَ فَإنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَمَلَهُ الحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنَ الشَّجْرَةِ وَإيَاكُمْ وَالحَسَد فَإِنَّ ابْنَي آدَمَ إنَّما قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَسَداً فَهُوَ أَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ". والنسائي والترمذي: "يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الدَّرّ فِي صُورَةِ الرِّجَال يَغْشَاهُمُ الذّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُسَاقُونَ إلى سِجْن فِي جهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَس يَعْلوهُمْ نَارُ الأنْيَارِ يُسْقَونَ مِنْ عُصَارَةِ أهْلِ النَّارِ وَمِنْ طِينَةِ الخبَالِ" وفي رواية: "يُسْقَونَ مِنْ طِينَةِ الخِبَالِ" وهو عصارة أهل النار. وأبو الشيخ: "شِرَارُ أُمّتِي المُعْجَبُ بِدِينِهِ المُرَائِي بِعَمَلِهِ المخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ الرِّيَاءُ شِرْكٌ".(1/208)
وأبو نعيم: "مَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ صَالِحِ فَقَدْ ضَلّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ" وقال رسول الله: "إنَّ فِي النَّارِ تَوَابِيت يُجْعَل فِيها المُتَكَبِّرُونَ فَيُغْلَقُ عَلَيْهِمْ" وقال رسول الله: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّار فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلٍ قَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَوْمٌ قِيامٌ" وقال أبو الدرداء: "لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشى خلفه". وقال سليمان بن داود عليهم الصلاة والسلام يوماً للجن والإنس والطير والبهائم: "اخرجوا فخرج في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن، فرفع حتى سمع زجل الملائكة في السموات، ثم خفض حتى مست قدماه البحر فسمع صوتاً لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته".
وسئل سليمان عليه السلام عن السيئة التي لا ينفع معها حسنة، فقال: الكبر وروي أن خليعاً من بني إسرائيل جلس إلى عابد ينتفع به، فأنف من مجالسته وطرده، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه غفر للخليع، وأحبط عمل العابد فالجاهل العاصي إذا تواضع وذلّ هيبة لله وخوفاً منه فقد أطاع، فهو أطوع من العالم المتكبر والعابد المعجب وقال الغزالي: كل من رأى نفسه خيراً من أحد خلق الله فهو متكبر. وقال حمدون من ظن أن نفسه خيراً من فرعون فقد أظهر الكبر. أعاذنا الله من الكبر وحمانا من العجب.
((1/209)
خاتمة): في ذم الخيلاء وفضل التواضع. أخرج البخاري: "بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنَ الخُيَلاءِ، فَخُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجْلْجَلُ في الأرْضِ إلى يَوْم القِيَامَةِ" وأحمد: "مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ وَاخْتَالَ فِي مشْيَتِهِ لَقي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" ومسلم: "إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلَى مَنْ يَجُرُّ إزَارَهُ بَطَراً، لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةِ مِنْ كِبْرٍ قَيلَ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ". وأخرج ابن أبي الدنيا: "التَّوَاضُعُ لا يُزِيدُ العَبْدَ إلا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُم الله وَالعَفْو لا يُزِيد العَبْدَ إلَّا عِزّاً فَاعْفُوا يُعِزّكُمُ الله، وَالصَّدَقَةَ لا تَزيدُ المَال إلَّا كَثْرَةً، فَتَصَدَّقُوا يَرْحَمْكُمُ الله عَزَّ وَجَلَّ" والترمذي والحاكم: "مَنْ تَرَكَ اللّبَاسَ تَوَاضُعاً لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ حَتَّى يُخيَّرَ مِنْ أيِّ حُلَلِ الإيْمَانِ شَاءَ يَلْبَسُها. والبيهقي والخطيب: "البَادِىءُ بِالسَّلامِ بَرِيءٌ مِنَ الكِبْر" وأبو نعيم: "تَوَاضَعُوا وَجَالِسُوا المَسَاكِينَ تَكُونُوا مِنْ كِبَارِ أَهْلِ الله وَتَخْرجُوا مِنَ الكبْرِ". والطبراني: "إنَّ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى الرضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ المَجَالِسِ" والبيهقي: "مَا اسْتَكْبَرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَادِمُهُ وَرِكبَ الحِمَار بِالأَسْوَاقِ وَاعْتَقَلَ الشَّاةَ فَحَلَبَهَا" وهو: من حمل سلعته فقد برىء من الكبر.(1/210)
وقال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة، فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار، فأفرغها في إنائها، ورئي أبو هريرة وهو أمير المدينة على ظهره حزمة حطب، وهو يقول طرقوا للأمير، وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعاً؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً ولا يرى أن في الخلق من هو شرّ منه. وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع والعز في التقوى والحرية في القناعة.
وحكى بعضهم: رأيت عند الصفا رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان يعنفون الناس، ثم رأيته ببغداد حافياً حاسراً طويل الشعر فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: ترفعت في موضع يتواضع الناس فيه، فوضعني حيث يترفع الناس، اللهم ارزقنا التواضع وارفعنا به مكاناً علياً.
{باب الحقد والحسد}
قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسِدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِنَ فَضْلِهِ} (سورة النساء: 54)(1/211)
وأخرج ابن ماجه عن رسول الله: "الحَسَدُ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" والديلمي: "الحَسَدُ يُفْسِد الإيمانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَلَ" والطبراني: "لَيْسَ مِنّي ذُو حَسَدِ وَلا نَمِيمَةٍ وَلا كَهَانَة وَلا أَنَا مِنْهُ". والحاكم والديلمي: "إنَّ إبْلِيِسَ يَقُولُ ابْغُوا مِنْ بَنِي آدَمَ البَغيَ الحَسَدَ، فَإِنَّهُمَا يَعْدِلانِ عِنْدَ الله الشّرْك". وأحمد والترمذي: "دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلكُمْ الحَسَدَ وَالبَغْضَاءُ هِيَ الحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّين لا حَالِقَةُ الشَعْرِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا تَدْخلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أفَلا أنْبِئُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ". وأخرج البيهقي: "إنَّ الله يَطْلُعَ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النصْف مِنْ شَعْبَان فَيَغفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَيَرْحَمُ المُسْتَرْحَمِينَ وَيُؤَخّر أَهْلَ الحِقْدِ كَمَا هُمْ عَلَيْهِ" وابن زنجويه: تعرض أعمال بني آدم على الله كل يوم اثنين وخميس فيرحم الله المسترحمين ويغفر للمستغفرين، ثم يذر أهل الحقد بحقدهم.(1/212)
وروي: "فِعْلُ المَعْرُوفِ يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ" وعظ بعض الأئمة بعض الأمراء فقال: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله تعالى به، ثم قرأ: {وَإذ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ} (سورة البقرة: 34 وغيرها) وإياك والحرص، فإنه أخرج آدم من الجنة، أسكنه الله جنة عرضها السموات والأرض، وقال: كلْ منها إلا شجرة واحدة نهاه الله عنها فمن حرصه أكل منها، فأخرجه الله من الجنة ثم قرأ: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} (سورة طه: 123) الآية، وإياك والحسد فإنه حمل ابن آدم على أن قتل أخاه حين حسده ثم قرأ: {وَاتَلْ عَلَيْهِمِ نَبَأ ابْنَي آدَمَ بِالحَقِّ إذْ قَرَّبا قَرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ: لأقْتُلنَّكَ قَالَ: إنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المُتَّقِينَ} (سورة المائدة: 27) . وقيل كان السبب في قتله له أن زوجة المقتول هابيل كانت أجمل من زوجة القاتل قابيل: فحسده عليها حتى قتله.(1/213)
وحكي أن بعض الصلحاء كان يجلس بجانب ملك ينصحه، ويقول له: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته فحسده على قربه من الملك بعض الجهلة، وعمل الحيلة على قتله فسعى به للملك؛ فقال له إنه يزعم أنك أبخر وأمارة ذلك أنك إذا قربت منه يضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج فدعا الرجل لمنزله وأطعمه ثوماً، فخرج الرجل من عنده وجاء للملك، وقال مثل قوله السابق: أحسن إلى المحسن إلى آخره كعادته فقال له الملك: ادن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا قد صدق. وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له بخطه لبعض عماله إذا أتاك صاحب كتابي هذا فاذبحه واسلخه، واحش جلده تبناً وابعث به إليَّ، فأخذ الكتاب، وخرج فلقيه الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خط الملك لي بصلة فقال: هبه لي فقال هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل: فقال العامل في كتابك أن أذبحك وأسلخك قال: إن الكتاب ليس هو لي الله الله في أمري حتى أراجع الملك. قال: ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً، وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ قال لقيني فلان واستوهبه مني فدفعته له، فقال الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال: ما قلت ذلك، قال: فلِمَ وضعت يدك على أنفك وفيك؟ قال: أطعمني ثوماً فكرهت أن تشمه. قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد لقي المسيىء إساءته. فتأملوا رحمكم الله شؤم الحسد وما جرّ إليه اللهم طهِّر قلوبنا من الحسد والحقد.(1/214)
وحكى أبو نعيم عن يحيى الجماني قال: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فاجتمع عليه ألف إنسان أو يزيدون أو ينقصون، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه فقال: قم حدّث القوم حديث الحية. فقال الرجل: أسندوني فأسندناه وسالت جفون عينيه. ثم قال: ألا فاسمعوا وعوا حدثني أبي عن جدي: أن رجلاً كان يعرف بمحمد بن حمير، وكان له ورع يصوم النهار، ويقوم الليل، فخرج ذات يوم يتصيد إذ عرضت له حية فقالت: يا محمد بن حمير أجرني أجارك الله، قال لها: ممن؟ قالت: من عدّو قد ظلمني قال لها وأين عدوك، قالت له: من ورائي؟ قال لها: ومن أيّ أمة أنت؟ قالت: من أمة محمد. قال: ففتحت ردائي وقلت: ادخلي فيه، قالت: يراني عدوّي فشلت طمري. فقلت: ادخلي بين طمري وبطني. قالت: يراني عدوّي، فقلت لها: فما الذي أصنع بك؟ قالت: إن أردت اصطناع المعروف فافتح لي فاك حتى أنساب فيه. قلت: أخشى أن تقتليني. قالت: لا والله ما أقتلك الله شاهد عليّ بذلك وملائكته وأنبياؤه وحملة عرشه وسكان سمواته إن أنا قتلتك، قال محمد بن حمير: ففتحت فيّ فانسابت فيه، ثم مضيت فعارضني رجل من صمصامة فقال لي: يا محمد. قلت: وما تشاء؟ قال: عدوّي. قلت: ومن عدوّك؟ قال: حية قلت: اللهم لا واستغفرت ربي من قولي لا مائة مرة، ثم مضيت قليلاً فأخرجت رأسها من فيّ وقالت: انظر مضى هذا الدوّ فالتفت فلم أر أحداً قلت: لم أر أحداً إن أردت أن تخرجي فاخرجي فقالت: الآن يا محمد اختر واحدة من اثنتين: إما أن أفتت كبدك، وإما أن أثقب فؤادك، فأدعك بلا روح فقلت: سبحان الله اين العهد الذي عهدت إليّ واليمين الذي حلفت ما أسرع ما نسيتيه قالت: يا محمد لم نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم حيث أخرجته من الجنة على أي شيء أردت اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قلت: لها: ولا بد أن تقتليني. قالت: لا بدّ من ذلك.(1/215)
قلت: فأمهليني حتى أسير إلى تحت هذا الجبل، فأمهد لنفسي موضعاً، قالت: شأنك قال محمد: فمضيت أريد الجبل، وقد أيست من الحياة، فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا لطيف يا لطيف الطف لي بلطفك الخفي، يا لطيف بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعرف العرش أين مستقرك منه إلا كفيتني هذه الحية، ثم مضيت فعرضني رجل طيب الرائحة نقيّ البدن قال لي؟ سلام عليك فقلت: عليك السلام يا أخي.
قال: ما لي أراك تغير لونك. قلت: من عدوّ قد ظلمني. قال: وأين عدوّك قلت في جوفي. قال لي: افتح فاك، ففتحت فمي فوضع فيه مثل ورقة زيتونة خضراء ثم قال؛ امضغ وابلع فمضغت وبلعت، فلم ألبث يسيراً إلا مغص بطني، ودارت في بطني فرميت بها من أسفل قطعة قطعة فتعلقت بالرجل فقلت له: من أنت الذي منّ الله عليّ بك فضحك؛ ثم قال: ألا تعرفني قلت: اللهم لا. قال: محمد بن حمير إنه لما كان بينك وبين الحية ما كان، ودعوت بذلك الدعاء ضجت ملائكة السموات السبع إلى الله عزّ وجلّ فقال: وعزّتي وجلالي رأيت بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي، وأمرني الله سبحانه وتعالى بالنزول إليك، وأنا يقال لي المعروف مستقري في السماء الرابعة أن انطلق إلى الجنة وخذ ورقة خضراء والحق بها عبدي محمد بن حمير يا محمد عليك باصطناع المعروف، فإن صنع المعروف يقي مصارع السوء، وإنه وإن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله عزّ وجلّ.
{باب الغضب}(1/216)
أخرج البيهقي وابن عساكر عن رسول الله أنه قال: "يَا مُعَاوِيَةُ إيَّاكَ والغَضَبَ فَإِنَّ الغَضَبَ يُفْسِدُ الإيمانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ العَسَل". والخرائطي: "إيّاكُمْ وَالبَغْضَاءَ فَإِنَّهَا الحَالِقَةُ". وابن شاهين يقول الله: "ابْنَ آدَمَ اذْكُرْني حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرْكَ حِينَ أَغْضَبُ وَلا أَمْحَقُكَ فِيمنُ أَمْحَقُ". والحاكم: "إنَّ الغَضَبَ مَيْسَمٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَضَعُهُ الله عَلَى نياطِ أَحَدِكُمْ ألا تَرَى أنَهُ إذَا غَضِبَ احْمَرّتْ عَيْنُهُ وَارْبَدَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ. والترمذي: "للِنَّارِ بَابٌ لا يسلكه إلَّا مَنْ شُفِي غَيْظُهُ بِسُخْطِ الله"، والطبراني: "مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ دَفَعَ الله عَنْهُ عَذَابَهُ"، وأحمد وأبو داود: "إنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارُ وَإِنَّما يُطْفَأُ بِالمَاءِ النَّار فَإذَا غضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأ"، والطبراني: "لَوْ يَقولُ أَحَدُهُمْ إذَا غَضِبَ: أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ غَيْظُهُ".(1/217)
وروي أن بعض الصحابة حمله الغضب على أن ارتد عن الإسلام ومات كافراً، فتأمل شر الغضب وما يحمل عليه والعياذ بالله. وعن وهب بن منبه: أن راهباً في صومعته أراد الشيطان أن يضله فعجز عنه، فناداه ليفتح له، فسكت فقال: إن ذهبت ندمت فسكت فقال: أنا المسيح فأجابه وقال: إن كنت المسيح فما أصنع بك ألست قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد، ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغير ذلك لم نقبله منك، فأخبره أنه شيطان جاء ليضله، فلم يستطع ثم قال له: سلني عما شئت أخبرك قال: ما أريد أن أسألك عن شيء فولى الشيطان مدبراً فقال له الراهب: ألا تسمع؟ قال: بلى قال: أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم. قال: الحدة إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة. أعاذنا الله من شر الشيطان وشركه.
(خاتمة): في فضل كظم الغيظ والعفو. أخرج أبو داود وابن أبي الدنيا: مَنْ كَظَمَ غَيْظَاً وَهُوَ يَقْدِر عَلى إنْفَاذِهِ مَلاء الله قَلْبَهُ أمْناً وإيماناً. وابن عساكر: وَجبَتْ مَحَبَّةُ الله عَلَى مَنْ أُغْضبَ فَحَلِمَ. وابن السني: مَا أُضِيفَ شَيْءٌ إلى شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ. وابن شاهين: مَا أَعَزَّ الله بِجَهْلٍ قَطُّ وَمَا أَذَلَّ الله بحلم قطُّ وَلا نَقَصَت صَدَقَةٌ شَيْئاً مِنْ مَالٍ قَطُّ. والترمذي: ألا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ النَّار؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَال: تُحَرَّمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ"، والخطيب: الحليم سيد في الدنيا وسيد في الآخرة كاد الحليم أن يكون نبياً. وقال أنس: كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدّة جذبته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت وضحك، ثم أمر له بعطاء.(1/218)
وحكى اليافعي: أنّ الشيخ أبا عثمان الحيري اجتاز بسكة وقت الهاجرة فألقى عليه رماد من سطح، فتغير أصحابه وبسطوا ألسنتهم في الملقى. فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئاً من استحق أن تصبّ عليه النار، فصُولِحَ على الرماد لم يجز له أن يغضب.
وحكي أيضاً: أنه كان لبعض النساك شاة فرآها على ثلاث قوائم قال من فعل هذا بها؟ فقال غلام له أنا. فقال: لمَ؟ قال: لأغمك بها. فقال: لا بل لأغمنّ من أمَرك بها اذهب فأنت حرّ.
وحكي أيضاً: أنه قيل للأحنف بن قيس، ممن تعلمت الخلق؟ فقال: من قيس بن عاصم المنذري. قيل: وما بلغ ذلك من خلقه قال: بينما هو جالس في داره إذ جاءت خادمة له بشواء فسقط من يدها على ابن له فمات فدهشت الجارية. فقال: لا روع عليك أنت حرّة لوجه الله.
نسأل الله الكريم أن يطهر قلوبنا من الذنوب الباطنة، ويرزقنا الأخلاق الحسنة آمين.
{باب الغيبة}
قال الله تعالى: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّن إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضَكُمْ بَعْضاً أيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأكل لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إنَّ الله تَوَّابٌ رَحيِمٌ} (سورة الحجرات: 12)(1/219)
أخرج البيهقي والطبراني وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا عن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله: "إِيَّاكُمْ وَالغَيْبَةَ فَإنّ الغَيْبَةَ أَشَدّ مِنَ الزَّنى، قيل له كيف؟ قال: إنّ الرجُلَ قَدْ يَزْني وَيَتُوبُ فيتَوبُ الله عَلَيْه، وإنّ صَاحِبَ الغَيْبَةِ لاَ يُغْفَرُ لَهُ حَتى يَغْفِرَ لَه صَاحِبُه"، وأبو يعلى: أتدرون أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم، ثم قرأ رسول الله: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} (سورة الأحزاب:58)، ومسلم وأبو داود: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته. وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصرها قال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته: أي لأنتنته وغيرت ريحه. وابن أبي الدنيا عن سمية قالت: قلت لامرأة مرة وأنا عند رسول الله إنّ هذه لطويلة الذيل، فقال الفظي الفظي: أي ارمي ما في فيك فلفظت مضغة: أي قطعة من لحم. وأبو الشيخ: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه يوم القيامة، فيقال له كله ميتاً كما أكلته حياً، فيأكله ويكلح ويضج. وابن أبي الدنيا: من اغتيب عنده أخوه المسلم. فلم ينصره وهو يستطيع نصره أذله الله في الدنيا والآخرة. وأحمد عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي، فارتفعت ريح منتنة فقال: أترون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين. وهو عن ابن عباس قال: ليلة أسري بنبي الله نظر في النار، فإذا قوم يأكلون الجيف، قال من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس. وقال الحسن: والله للغيبة أسرع فساداً في دين المؤمنين من الأكلة في الجسد.(1/220)
قال ابن عباس: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقيل: يؤتى العبد يوم القيامة كتابه ولا يرى فيه حسنة فيقول أين صلاتي وصيامي وطاعتي فيقال ذهب عملك كله باغتيابك الناس. وقيل للحسن البصري: إنّ فلاناً اغتابك، فبعث إليه طبق حلوى وقال: بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك فكافأتك.
وحكى القشيري عن أبي جعفر البلخي قال: إنه كان عندنا شاب من أهل بلخ، وكان يجتهد ويتعبد إلا أنه كان يغتاب الناس، ويقول فلان كذا وكذا، فرأيته يوماً عند المخنثين الغسالين، فخرج من عندهم، فقلت: يا فلان ما حالك؟ فقال: تلك الوقيعة في الناس أوقعتني إلى هذا، ابتليت بمخنث من هؤلاء وأنا هو ذا أخدمهم من أجله، وتلك الأحوال كلها قد ذهبت عني فادع الله لي لعلّ الله يرحمني.
وحكى اليافعي عن الجنيد أنه قال: كنت جالساً في مسجد الشونيزية أنتظر جنازة أصلي عليها فرأيت فقيراً عليه أثر النسك يسأل الناس، فقلت في نفسي لو عمل هذا عملاً يصون به نفسه عن المسألة كان أجمل له، فلما انصرفت إلى منزلي وكان لي شيء من الأوراد بالليل من البكاء والصلاة وغير ذلك فثقل عليّ جميع أورادي، فسهرت وأنا قاعد فغلبني النوم، فرأيت ذلك الفقير حتى جيء به على خوان كالشاة المشوية، فقيل لي: كل لحمه فقد اغتبته، وكشف لي الحال فقلت: ما اغتبته، وإنما قلت في نفسي شيئاً، فقيل لي: ما أنت ممن يرضى منك مثل هذا فاذهب واستحلّ منه، فلما أصبحت لم أزل في طلبه حتى رأيته في موضع يلتقط من الماء عند تردّد الماء أوراقاً من البقل مما تساقط من غسل البقل، فسلمت عليه فردّ عليّ، وقال: تعود يا أبا القاسم قلت لا. قال: اذهب غفر الله لنا ولك.
(تنبيه) إن الغيبة حرام إجماعاً، بل قال كثيرون إنها كبيرة، وقد نقل القرطبي المفسر وغيره الإجماع على أنها من الكبائر لما فيها من الوعيد الشديد، لكن حمله بعضهم على غيبة أهل العلم وحملة القرآن، وكذا استماعها والسكوت عليها مع القدرة على دفعها.(1/221)
واعلم أن حدّ الغيبة المحرّمة أن تذكر ولو بنحو إشارة وكتابة حتى بالقلب غيرك الغائب المحصور المعين للسامع حياً كان أو ميتاً بما يكره عرفاً أن يذكر به مما هو فيه بحضرته أو غيبته، ويجب على من اغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها، فيقلع ويندم ويستغفر للمغتاب إن لم يعلم بها وإلا استحله منها، فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبة استغفر الله له ولنفسه، ولا يكفي تحليل وارثه.
{باب النميمة}
قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَميم} (سورة القلم: 10 ـ 11)
أخرج الشيخان عن حذيفة قال: قال رسول الله: "لا يَدْخُل الجَنَّةَ نَمّامٌ" والطبراني: "ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه"، وأحمد: "خيار أمتي الذين إذا رأوا ذكر الله وشرار أمتي المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البرآء العيب"، وابن حبان في صحيحه: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة" وصححه الترمذي، ثم قال: ويروى عن النبي: "هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".
وروى كعب أنه أصاب بني إسرائيل قحط، فاستسقى موسى عليه الصلاة والسلام مرات، فما أجيب فأوحى الله إليه إني لا أستجيب لك، ولا لمن معك، وفيكم نمام قد أصر على النميمة، فقال: من هو حتى تخرجه من بيننا؛ فقال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً فتابوا بأجمعهم فَسُقُوا. وقال عبد الله بن المبارك: إن ولد الزنى لا يكتم الحديث فعدم كتمه المستلزم للمشي بالنميمة دليل على أن فاعل ذلك ولد الزنى. وقيل: عمل النمام أضرّ من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالوسوسة وعمل النمام بالمواجهة.
وحكي أنه نودي على بيع عبد ليس فيه عيب إلا أنه نمام، فاشتراه من استخف هذا العيب،(1/222)
فلم يمكث عنده أياماً حتى نمّ لزوجته أنه يريد التزوج بغيرك أو التسرّي، وأمرها أن تتخذ الموسى وتحلق بها شعرات من حلقه ليسحر بها فصدّقته، وعزمت على ذلك فجاء إليه، ونمّ له عنها أنها اتخذت له موسى، وتريد ذبحك الليل، فتناوم لترى ذلك فصدّقه فتناوم فجاءت لتحلق. فقال: صدق الغلام، فلما أهوت إلى حلقه أخذ الموسى منها وذبحها. فجاء أهلها فرأوها مقتولة، فقتلوه فوقع القتال بين الفريقين بشؤم ذلك النمام.
وحكي أيضاً أن رجلاً ماتت أخته، فلما دفنت سقط من جيبه في قبرها ذهب كان معه، فرجع ليلاً ونبش القبر فوجده ممتلئاً ناراً فرجع إلى أمه فقال لها: أخبريني ما كانت تفعل أختي من المنكر؟ فقالت له: لا أعرف منكراً إلا أنها كانت تخرج ليلاً فتستمع على أبواب الجيران ما يقولون وتنمّ به فيقع بذلك بينهم فتنة، فقال هو ذلك وأخبرها بالحال، عافانا الله من ذلك بمنِّه.
(تنبيه) قال الحافظ المنذري: أجمعت الأئمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله عزّ وجلّ، وقد اتفق العلماء على أنها من الكبائر، وهي نقل كلام بعض الناس إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، أما نقل الكلام نصيحة للمنقول إليه فواجب.
(خاتمة): في ذم النميمة. أخرج الشيخان: "وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"، والطبراني: "ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار"، وهو والأصبهاني: "من كان ذا لسانين جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار" وقال الغزالي: ذو اللسانين من يتردّد بين متعاديين، ويكلم كلاَ بما يوافقه، وقلّ من يتردّد بين متعاديين إلا وهو بهذه الصفة، وهذا عين النفاق والعياذ بالخلاق.
{باب الكذب}
قال الله تعالى: {فَنَجْعَلَ لَعْنَةَ الله عَلَى الكَاذِبينَ{ (سورة آل عمران: 61)(1/223)
وأخرج أحمد والشيخان والأربعة وغيرهم عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة صحيحة بلغت التواتر قالوا: قال رسول الله: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، والشيخان: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البرِّ والبرّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وَمَا زَالَ الرَّجُلَ يَصْدُقَ وَيَتحَرَّى الصّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صَدِّيقاً، وَإِياكُمْ وَالكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذبَ يُهْدِي إلى الفُجُورِ، والفُجُورُ يَهْدِي إلى النَّارِ، وَمَا زَالَ العَبْدُ يَتَحَرَّى الكذبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً" وهما: "أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خِصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خِصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"، وأحمد وأبو الشيخ: "إيَّاكُمْ وَالكَذِبَ فَإِنَّ الكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلإيمَانِ"، والترمذي وأبو نعيم: "إذَا كَذَبَ العَبْدُ كِذْبَةً تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلِكُ مِيلاً مِنْ نتن مَا جَاءَ بِهِ"، والحاكم: "كَفَى بِالمَرْءِ مِنَ الكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ وَكَفَى بِالمَرْءِ مِنَ الشُّحِّ أَنْ يَقُولَ: آخذُ حَقِّي لا أَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً"، وأحمد وأبو داود: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبَ ليُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ"، وأحمد: "خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَة، الشّرْكُ بِالله وَقَتْلُ النَفْسِ بِغَيْرِ حَقَ وَبَهْتُ المُؤْمِن وَالفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَيَمِينٌ صَابرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا، مَالاً بِغَيْرِ حَقَ" والبخاري: "مَنْ تَحْلَّمَ بِحِلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنِ اسْتَمَعَ إلى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ(1/224)
لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنكُ يَوْمَ القِيَامَةِ" وأحمد وابن أبي الدنيا: "مَنْ قَالَ لِصَبِيَ تَعَالَ هَاكَ ثُمَّ لَمْ يُعْطِهِ فَهِيَ كِذْبَةٌ"، وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله من الكذب ما اطلع على أحد من ذلك بشيء، فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه أحدث ثوبة.(1/225)
وحكى اليافعي عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن مقاتل قال: كنت عند الشيخ عبد القادر رحمه الله ونفعنا به، فسأله سائل: علامَ بنيت أمرك؟ قال: على الصدق وما كذبت قط قال رضي الله عنه: كنت صغيراً في بلادنا، فخرجت في يوم عرفة، وتبعت بقر حراثة، فالتفتت إليّ بقرة وقالت: يا عبد القادر ما لهذا خلقت، وما بهذا أمرت فرجعت فزعاً إلى دارنا، وصعدت سطح الدار، فرأيت الناس واقفين بعرفات، فجئت إلى أمي فقلت لها: هبيني لله عزّ وجلّ وائذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعلم وأزور الصالحين فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتها بخبري فبكت أمي وقامت إلى ثمانين ديناراً أورثها أبي، فتركت لأخي أربعين ديناراً، وخاطت في دلقي تحت إبطي أربعين ديناراً وأذنت لي بالمسير وعاهدتني على الصدق في كل أحوالي وخرجت مودّعاً، وقالت: يا ولدي اذهب قد أودعتك الله عزّ وجلّ، فهذا وجه لا أراه إلى يوم القيامة، وسرت مع قافلة صغيرة تطلب بغداد، فلما تجاوزنا همدان، وكنا بأرض كذا وكذا، بلاد سماها، خرج علينا ستون فارساً فأخذوا القافلة ولم يتعرّض لي أحدهم، فاجتاز بي أحدهم وقال لي: يا فقير ما معك فقلت له: أربعون ديناراً. فقال: وأين هي؟ قلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي، وظن أني استهزأت به فتركني وانصرف، ومرّ بي آخر وقال مثل ما قال الأول فأجبته بجواب الأول، وتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدمهم فأخبراه بما سمعاه مني، فقال عليّ به فأتى بي إليه. وإذا هم على تلّ يقسمون أموال القافلة. فقال لي: ما معك فقلت له: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ قلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي، وظن أني استهزأت به فتركني وانصرف، ومرّ بي آخر وقال مثل ما قال الأول فأجبته بجواب الأول، وتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدمهم فأخبراه بما سمعاه مني، فقال عليّ به فأتى بي إليه. وإذا هم على تلّ يقسمون أموال القافلة.(1/226)
فقال لي: ما معك فقلت له: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ فقلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي، فأمر بدلقي ففتح فوجد فيه الأربعين ديناراً. فقال لي: ما حملك على الاعتراف؟ قلت إن أمي عاهدتني على الصدق وأنا لا أخون عهدها فبكى المقدم، وقال أنت لم تخن عهد أمك، وأنا لي كذا وكذا سنة أخون عهد ربي فتاب علي يدي. فقال: أصحابه له: أنت كنت مقدمنا في قطع الطريق، وأنت الآن مقدمنا في التوبة، فتابوا كلهم على يدي وردوا على القافلة ما أخذوا منهم، فهو أوّل من تاب على يدي، نفعنا الله ببركته وحشرنا في زمرته.
(تنبيه) الكذب عند أهل السنة هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء أعلم ذلك وتعمد أم لا. وأما العلم والتعمد فإنما هما شرطان للإثم.(1/227)
واعلم أنه قد يباح وقد يجب، فالضابط أن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب وحده، فمباح إن أبيح تحصيل ذلك المقصود، وواجب إن وجب تحصيل ذلك كما لو رأى معصوماً اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه، فالكذب هنا واجب لوجوب عصمة دم المعصوم، وكذا لو سأله ظالم عن وديعة يريد أخذها، فيجب إنكارها وإن كذب، بل لو استحلف جاز له الحلف ويورّي، وإلا حنث يولزمه الكفارة، وقيل: يلزم الحلف ومهما كان لا يتم مقصود حرب أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، أو إرضاء زوجته إلا بالكذب فيه، فمباح ولو سأله السلطان عن فاحشة، وقعت منه سراً كزنى أو شرب خمر، فله أن يكذب ويقول: ما فعلت ذلك وله أن ينكر أيضاً سر أخيه، وحيث جاز الكذب فهل يشترط التورية أو يجوز مطلقاً؟ قال شيخنا ابن حجر: والذي يتجه عدم وجوب التورية مطلقاً. قال الغزالي: والأحسن أن يورّي، وهي أن يطلق لفظاً وهو ظاهر في معنى، وهو يريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ كما قال النخعي: إذا بلغ إنساناً عنك شيء قلته فقل الله يعلم ما فعلت من ذلك من شيء يفهم السامع النفي، ومقصوده بما أنها بمعنى الذي، وهو مباح إن دعت إليه حاجة، وإلا فمكروه وحرام إن توصل به إلى باطل أو دفع حق. قال الشافعي رضي الله عنه ومن الكذب الخفي أن يروي الإنسان خبراً عمن لا يعرف صدقه من كذبه. حشرنا الله في زمرة الصدّيقين، وأوليائه المقرّبين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
{باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر}
قال الله تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرونَ بِالمَعْروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} (سورة التوبة: 71)
قال الغزالي: أفهمت الآية أن من هجرهما خرج من المؤمنين، وقال القرطبي: جعلهما الله فرقاً بين المؤمنين والمنافقين.(1/228)
وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: "مَنْ رَأَىَ مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذلِكَ أَضْعَفُ الإيمانِ."، والبزار: الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام: أي الشهادتان سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له. والأصبهاني: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفُّوا بحقها قالوا يا رسول الله: وما الاستخفاف بحقها؟ قال: "يُظْهِرُ العَمَلَ بِمَعَاصِي الله فَلا يَنْكُرُ وَلا يُغَيِّرُ" وهو أيضاً: أيُّها النَّاس، مُرُوا بالمَعْرُوف وَانْهَوا عَن المُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا الله فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ وَقَبْلَ أنْ تَسْتَغْفِروهُ فَلا يَغْفِرُ لَكُمْ؟ إنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهي عَنِ المُنْكَرِ لا يَدْفَعُ رِزْقاً وَلا يُقَرِّبُ أَجَلاً، وَالأحْبَارُ مِنَ اليَهُودِ والرّهْبَانُ منَ النّصَارَى لَمَّا تَرَكُوا الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنّهي عَنِ المُنْكَرِ لَعَنَهُمُ الله عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ. ثم عُمُّوا بالبلاءِ. وأبو داود والترمذي: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. ورزين: إن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة، وهو لا يعرفه فيقول له مالك إليّ وما بيني وبينك معرفة، فيقول: كنت تراني على الخطأ والمنكر ولا تنهاني.(1/229)
والشيخان: يجاءُ بالرجل يوم القيامة فليقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول: قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه والبيهقي: أوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السلام: أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها. فقال: يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين. قال: فقال اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر فيَّ ساعة قط.
(تنبيه) اعلم أن الأمر بواجبات الشرع والنهي عن محرماته واجب على كل مكلف من حرّ وقنّ وذكر وأنثى، ولو غير مسموع القول وجوب كفاية، وقد يكون فرض عين كما إذا كان بمحل لا يعلمه غيره أو لا يقدر عليه غيره، وأنه ينكر باليد. ثم إن عجز فباللسان، فلو قدر واحد باليد وآخر باللسان تعين على الأوّل إلا أن يكون الرجوع لذي اللسان أقرب، أو أنه يرجع له ظاهراً وباطناً، ولا يرجع لذي اليد إلا ظاهراً فقط، فيتعين على ذي اللسان، فعليه أن يغيره بكل وجه أمكنه فلا يكفي الوعظ ممن أمكنه إزالته باليد، ولا كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان، فإن عجز عن الإنكار باللسان، أو لم يقدر على التعبيس والهجر والنظر شزراً لزمه ذلك، ولا يكفيه إنكار القلب، ولا يسقط الإنكار بالقلب عن مكلف أصلاً، إذ هو كراهة المعصية، وهو واجب على كل مكلف، بل ذهب جماعة، منهم أحمد بن حنبل، أن ترك الإنكار بالقلب كفر والعياذ بالله. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وأوليائك المقرّبين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون آمين يا رب العالمين.
{باب الكسب}(1/230)
أخرج أحمد والطبراني عن أبي بردة بن دينار. قال: قال رسول الله: "أَفْضَلُ الكَسْبِ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ"، والبيهقي عن معاذ: إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا. وإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدو لم يخلفوا؛ وإذا اشتروا لم يذموا؛ وإذا باعوا لم يطروا؛ وإذا كان عليهم لم يمطلوا؛ وإذا كان لهم لم يعسروا"، والأصبهاني والديلمي عن أنس: التَّاجرُ الصّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ العَرْشِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، وسعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن مرسلاً: تسعة أعشار الرزق في التجارة؛ والعشر في المواشي"، والطبراني عن ابن عمر: لو أذن الله تعالى في التجارة لأهل الجنة لاتَّجروا في البز والعطر. والخطيب عن أبي هريرة: عليك بالبز فإن صاحب البز يعجبه أن يكون الناس بخير وفي خصب. وابنا ماجه وحبان: يا معشر التجار إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرّ وصدق. والطبراني عن ابن عباس: من أمسى كالاً من عمل يديه أمسى مغفوراً له، وأحمد، والبخاري عن المقداد: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طعاماً خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"، وأحمد وابن ماجه عن عقبة بن المنذر: "إنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ آجَرَ نَفْسَهُ ثَماني سِنِينَ أَوْ عَشْراً عَلَى عِفّةِ فَرْجِهِ وَطَعَام بَطْنِهِ"، والخطيب وابن عساكر عن سهل بن سعد: "عَمَلُ الأبْرَارِ مِنَ الرِّجَالِ الخِّيَاطَةُ، وَعَمَلُ الأبْرَارِ مِنَ النِّسَاءِ المِغْزَل"، وأحمد وابن ماجه عن عائشة: "إذَا سَبَّبَ الله لأحَدِكُمْ رِزْقاً مِنْ وَجْهٍ فَلا يَدَغهُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَهُ".
((1/231)
خاتمة) أخرج الطبراني عن المقداد: "إذَا كَانَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لا بُدَّ لِلنَّاسِ فِيهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يُقِيمُ الرَّجُلُ بِهَا دِينَهُ وَدُنْيَاهُ" وابن عساكر عن أنس: "لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ وَلا آخِرَتَه لِدُنْياهُ حَتَّى يُصيبَ مِنْهُما جَمِيعاً، فَإِنّ الدُّنْيَا بَلاغٌ إلى الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا كَلاً عَلَى النَّاسِ".
(تنبيه) أفضل المكاسب التجارة. وقال بعض المحققين: أفضلها الزراعة، ثم الصناعة، ثم التجارة.
((1/232)
فصل): في أركان البيع. أركان البيع: عاقدان ومعقود عليه وصيغة وشرط فيها لفظ يدلّ على الإيجاب والقبول كبعتك وملَّكتك وهو لك ووهبتك بكذا وكاشتريت هذا، وتملكت ورضيت وقبلت بكذا بلا تخلل فصل طويل بينهما، ولا كلام أجنبي، و إن قلّ وينعقد بالكناية كخذه وجعلته لك بكذا، لا بمعاطاة، لكن اختار النووي كجمع متقدمين الانعقاد بكل ما يعده الناس بيعاً عرفاً. وفي العاقدين تكليف واختيار، وإسلام من يشتري له ما كتب فيه قرآن ولو آية، وإن أثبتت لغير الدراسة أو كتب علم شرعي أو رقيق مسلم أو مرتد، وعدم حرابة من يشتري له آلة حرب كترس ودرع وخيل، وفي المعقود عليه طهارته، فبيع نجس العين باطل، وإن أمكن طهره بالاستحالة، وكذا متنجس لا يطهر بالغسل، ويجوز نحو الصدقة بالمتنجس أو اقتناء الكلب لنحو حراسة وتربية الزرع بنجس والنفع، فيبطل بيع ما لا ينفع كحبتي نحو حنطة أو زبيب، ويحرم أخذ حبة وخلال من حق غيره، ويجب ردّهما وكفر مستحله، ولا يصح بيع السم إلا إن نفع قليله كالأفيون، والولاية على المعقود عليه بملك أو غيره، فيبطل بيع المرء مال غيره فضولياً، وإن أجازه المالك وقدرة تسليم المبيع، فلا يصح بيع مغصوب لغير قادر على انتزاعه وآبق وضال، وإن عرف مكانه ولا بيع السمك في بركة واسعة بحيث يحتاج آخذه منها إلى كثير كلفة، والعلم به، فبيع أحد نحو الثوبين باطل، ورؤية المتعاقدين ما عقد على عينه، فبيع ما لم يره أحدهما والشراء باطل، وإن بالغ في وصفه وكذا رهنه وإجارته وهبته.
((1/233)
فصل): في الربا. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ الله البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى الله وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيها خَالِدُونَ} (سورة البقرة: 278 ـ 279) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ فَإِنْ لَمَ تَفْعَلُوا فَائْذنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ} (سورة البقرة: 275) أي في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فيجب على حكام الشريعة إذا علموا من شخص تعاطي الربا أن يعزّروه بالحبس وغيره إلا إن يتوب، فإن كانت له شوكة ولم يقدروا عليه إلا بنصب حرب نصبوا آلة الحرب والقتال كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وأما في الآخرة فلا يعلم أنواع عذابهم إلا الملك المنتقم.(1/234)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الموِبقاتِ "قَالُوا يَا رَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِالله، وَالسّحْرُ، وَقَتْلُ النَفْسِ الَتي حَرّمَ الله إلاّ بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيم، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصِنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ"، وأحمد بسند صحيح والطبراني عن عبد الله بن حنظلة: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدّ عند الله من ستة وثلاثين زنية" وابن أبي الدنيا والبيهقي عن رجل من الصحابة قال: خطبنا رسول الله فذكر أمر الربا وعظم شأنه وقال: "إنَّ الدِّرْهَم يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ الله فِي الخَطِيئَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاثينَ زنْيَةٍ يَزْنِيها الرَّجُلُ"، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين والبيهقي: "الرِّبَا ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكَحَ الرَّجُلُ أُمّهُ" والطبراني: "إيَّاكُمْ وَالذُّنُوبَ التي لا تُغْفَرُ ـ الغَلُولَ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئاً أَتَى بِه يَوْمَ القِيَامَةِ؛ وَأَكَل الرِّبا: فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَجْنُوناً يَتَخَبَّطُ، ثم قرأ رسول الله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} إلى {المَسّ} ؟، والأصبهاني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "لَمّا أُسْرِي بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ رَجُل مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ البَيْتِ الضَّخْمِ قَدْ مَالَتْ بِهِمْ بُطُونُهُمْ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابلَةٍ" أي طريق آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوّاً وعشياً. قال: فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الإبِلِ المَنْهُومَةِ لا يَسْمَعُونَ وَلا يَعْقِلُونَ.(1/235)
فَإِذَا أَحَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ البُطُونِ قَامُوا، فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرحُوا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ، فَيَردُّونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، فَذلِكَ عَذَابُهُمْ فِي البَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا والآخِرَة. قال فقلت: "مَنْ هَؤُلاءِ يَا جبْرِيل؟ قَالَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا" وفي رواية له: "بُطُونُهُمْ كَالبيُوتِ فِيهَا الحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجَ بُطُونِهِمْ"، ومسلم عن جابر: "لَعَنَ رَسُولُ الله آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ وَهُمْ سَوَاءٌ".(1/236)
وروى أحمد عن كعب الأحبار أنه قال: "لأنْ أَزْنِي ثَلاثَةَ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً أحبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَماً ربَا" وقال ابن عباس: إنه لا يقبل من آكل الربا صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلة. قال أيضاً: من عامل بالربا استتيب، فإن تاب وإلا ضرب عنقه. وأخبرنا شيخنا ابن حجر نفعنا الله به أنه كان من صغره يتعاهد قبر والده للقراءة عليه، فخرج يوماً بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان، وقال: أظن أن ذلك كان في العشر الأخير بل في ليلة القدر، فلما جلس على قبره وقرأ شيئاً من القرآن ولم يكن في المقبرة أحد غيره فإذا هو سمع التأوّه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا بصوت أزعجه من قبر مبني بالنورة والجصّ، له بياض عظيم، فقطع القراءة واستمع فسمع صوت ذلك العذاب من داخله، وذلك الرجل المعذب يتأوّه تأوّهاً عظيماً بحيث يقلق سماعه القلب، ويفزعه فاستمع إليه زمناً، فلما وقع الإسفار خفى حسه عنه، فمر به إنسان فقال له الشيخ: هذا قبر من؟ فقال: هذا قبر فلان أدركه الشيخ وهو صغير، وكان الرجل المعذب على غاية من ملازمة المسجد والصلاة في أوقاتها، والصمت عن الكلام وهذا كله شاهده وعرفه منه، فكبر على الشيخ الأمر جداً لما علمه من الأحوال التي كان ذلك الرجل متلبساً بها في الظاهر، فسأل واستقصى الذين يطلعون على حقيقة أحواله، فأخبروه أنه كان يأكل الربا، فإنه كان تاجراً ثم كبر، وبقي معه شيء من الحطام، فلم ترضَ نفسه الظالمة الخبيثة أن تأكل من جنبه حتى يأتيه الموت، بل سوَّل له الشيطان المعاملة بالربا حتى لا ينقص ماله، فأوقعه في ذلك العذاب الأليم حتى في رمضان حتى في ليلة القدر. اتركوا عباد الله الربا الذي قال فيه نبيكم: "إنَّهُ كَالزِّنَى بَأَمِّه وَإِنَّهُ كَستَّةٍ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً وَإِنَّ آكِلَهُ لا يُغْفَرُ لَهُ" ولا تقتدوا بالأشقياء المغرورين، فإنهم غداً يعلمون ما يحل بهم من أنواع العذاب الأليم بشيء فانٍ يسير.(1/237)
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وأما أعلنا، واهدنا إلى الصراط المستقيم آمين.
(تنبيه) إن الربا حرام إجماعاً وهو من الكبائر المهلكة وكفر مستحله.
واعلم أنه إنما يجري في نقد وما قصد لطعم، فإن بيع رَبَوِيٌّ بجنسه شرط مماثلة وحلول وتقابض قبل التفرق، أو بغير جنسه واتحدا علة شرط الأخيران. وقال أبو القاسم بن عبد بن الوراق: رأيت عبد الله بن أبي أوفى في سوق الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة أبشروا قالوا بشرك الله بالجنة بمَ تبشِّرنا يا أبا محمد قال: قال رسول الله للصيارفة: أَبْشِرُوا بِالنَّار. وفي قرض شيء بشرط جرّ نفع للمقرض، فهذا هو المشهور الآن بين الناس واقع كثيراً. قال: قال رسول الله: "إذا أقرض أحَدُكُمْ أَخَاهُ قَرْضاً فَأَهْدَى إلَيْهِ طَبَقاً فَلا يَقْبَلُ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِه فَلا يَرْكَبُها إلَّا أنّ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذلِكَ" ورواه ابن ماجه والبيهقي.
وحكي أنه كان لأبي حنيفة على يهودي مال كثير قرضاً وأخذ يوماً شيئاً من طين جدار اليهودي وترّب به ورقة ناسياً دينه عليه، فلما تذكره أبرأه عن جميع ذلك المال حذراً من أن يكون ذلك رباً، وأن الحيلة في الربا وغيره حرام عند مالك وأحمد بن حنبل وقال بعضهم: ورد أن أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من أجل حيلتهم على أكل الربا كما مسخ أصحاب السبت حين تحيلوا على اصطياد الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت، فحفروا لها حياضاً تقع فيها يوم السبت حتى يأخذوها يوم الأحد، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله قردة وخنازير، وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله تعالى لا يخفى عليه حِيَلُ المحتالين والمخادعين.
((1/238)
فصل) في الاحتكار والتفريق بين الوالدة وولدها. أخرج أحمد والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله: "مَنِ احْتَكَرَ حَكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يَغْلِي بِهَا عَلَى المُسْلِمِينَ فَهُوَ خَاطِىءٌ: أي آثِمٌ، وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذمةُ الله وَرَسُولِهِ" وهما: من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برىء من الله وبرىء الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى. وابن عساكر: "مَنِ احْتَكَرَ طَعَاماً عَلى أُمّتِي أَرْبَعِينَ يَوْماً وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ" والطبراني: "بِئْسَ العَبْدُ المُحْتَكِرُ إنْ أَرْخَصَ الله الأسْعَارَ حَزِنَ وَإِنْ أغلاهَا فَرح"، والحاكم: "مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أسْعارِ المُسْلِمِينَ يَغْلِي عَلَيْهِمْ كَانَ حَقّاً عَلَى الله أَنْ يَقْذِفَهُ فِي جَهَنَّمَ رأسه أسفله"، والأصبهاني إن طعاماً ألقي على باب المسجد فخرج عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يومئذ. فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا أو علينا، فقال له بعض الذين معه: يا أمير المؤمنين قد احتُكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: احتكره فروخ وفلان مولى عمر بن الخطاب. فأرسل إليهما فأتياه، فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين، فقالوا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع، فقال عمر: سمعت رسول الله يقول: "مَنِ احْتَكَرَ عَلَى المُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ الله بِالجُذَامِ وَالإفْلاسِ" فقال عند ذلك فروخ: يا أمير المؤمنين فإني أعاهد الله وأعاهدك على أن لا أعود في احتكار طعام أبداً، فتحول إلى برّ مصر، وأما مولى عمر فقال: نشتري بأموالنا ونبيع فزعم أبو يحيى أحد رواته أنه رأى مولى عمر مجذوماً مشدوخاً.(1/239)
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي أيوب عن رسول الله: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ الله بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِه يَوْمَ القِيَامَةِ" وابن ماجه: "لَعَنَ الله مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الأخِ وَأُخْتِهِ".
(تنبيهان): أحدهما: أن الاحتكار المحرّم هو أن يمسك ما اشتراه في الغلاء لا الرخص من الأقوات ولو تمراً وزبيباً بقصد أن يبيعه بأغلى مما اشتراه عند اشتداد الحاجة إليه، وألحق الغزالي بالقوت كل ما يعين عليه كاللحم والفواكه، وصرح القاضي بكراهة الاحتكار في الثياب. وثانيهما: أن التفريق بين الوالدة وولدها الغير المميز لصغر أو جنون بنحو بيع لغير من يعتق عليه حرام، وإن رضيت الأم إلا بالعتق والوقف، ويبطل ذلك التصرف والأب والجد والجدة، وإن بعد كالأم عند فقدها، ويحرم التفريق أيضاً بالسفر بين الأمة وولدها الغير المميز وبين الزوجة وولدها بخلاف المطلقة، ويحرم بيع ولد البهيمة ما لم يستغن عن اللبن أو لم يقصد الذبح وبطل، وبحث السبكي حرمة ذبح أمه مع بقائه، ويحرم بيع نحو العنب ممن علم، أو ظن أنه يتخذه مسكراً للشرب والحشيشة، ممن يعلم أنه يستعملها والأمرد ممن عرف بالفجور به، ولو باستعاضة، والديك للمهارشة والكبش للمناطحة، وكل ما يؤدي إلى معصية ولو ظناً.
((1/240)
فصل): في الغش في البيع وغيره. أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاح فَلَيْسَ مِنّا وَمَنْ غَشّنَا فَلَيْسَ مِنّا" وهو والترمذي عنه: أنَّه مَرّ عَلَى صَبْرَةِ طَعَام، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيها، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: مَا هذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاء أي المَطَرُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: أَفَلا تَجْعَلَنَّهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاس؛ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنّا. وابن ماجه: "مَنْ بَاعَ عَيْبَاً لَمْ يُبيِّنهُ لَمْ يَزلْ فَي مَقْتِ الله وَلَمَ تَزَلِ المَلائِكَة تَلْعَنُهُ"، والبيهقي والأصبهاني عن أبي هريرة موقوفاً عليه: أنه مرّ بناحية الحرة، فإذا بإنسان يحمل لبناً يبيعه، فنظر إليه أبو هريرة، فإذا هو قد خلطه بالماء، فقال له أبو هريرة: كيف تكون إذا قيل لك يوم القيامة خلص الماء من اللبن؟.
وحكى الغزالي في الإحياء أن شخصاً كانت له بقرة يحلبها، ويخلط في لبنها ماء ويبيع، فجاء سيل فغرَّق البقرة، فقال بعض أولاده: إن تلك المياه المتفرقة التي صببناها في اللبن اجتمعت دفعة واحدة وأخذت البقرة.
وحكى شقيق البلخي: أنه كان لأبي حنيفة شريك في التجارة يقال له بشر، فخرج بشر في تجارته بمصر، فبعث إليه أبو حنيفة سبعين ثوباً من ثياب خزَ، فكتب إليه: إن في الثياب ثوب خزَ معيباً بعلامة كذا، فإذا بعته فبيِّن للمشتري العيب، قال: فباع بشر الثياب كلها ورجع إلى الكوفة، فقال أبو حنيفة: هل بيَّنت ذلك العيب الذي في الثوب الخزّ؟ فقال: بشر نسيت ذلك العيب، فقال: فتصدق أبو حنيفة بجميع ما أصابه من تلك التجارة الأصل والفرع جميعاً، قال: وكان نصيبه من ذلك ألف درهم، وقال مالٌ قد دخلت فيه الشبهة فلا حاجة لي به.
((1/241)
تنبيه) ضابط الغش المحرّم. أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشترٍ فيها شيئاً لو اطلع عليه من يريد أخذها لما أخذها بذلك المقابل، فيجب عليه أن يعلمه به، ويجب أيضاً على أجنبي علم بالسلعة عيباً أن يخبر مريد أخذها، وإن لم يسأل عنها كما يجب إذا رأى إنساناً يخطب امرأة وعلم بها أو به عيباً أو رأى إنساناً يريد أن يخالط آخر لمعاملة أو صداقة أو قراءة نحو علم، وعلم بأحدهما عيباً أن يخبره به، وإن لم يستشره فلا يكفي في تبيين العيب هو معيب مثلاً، ولا إنما اتهمته بالعيب.
(فصل): في إنفاق السلعة بالحلف الكاذب. أخرج مسلم عن أبي ذرّ: ثَلاثَةٌ لا يَنْظرُ الله إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقُلْتُ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: المُسْبِلُ وَالمَنَّانُ وَالمُنْفِقُ سِلْعَتُه بِالحَلْفِ الكَاذِبِ. والطبراني والبيهقي: ثَلاثَةٌ لا يَنْظُرُ الله إلَيْهِمِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: أَشْمَطُ زَانٍ، وَعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ الله بِضَاعَتَه لا يَشْتَرِي إلاّ بيمينه وَلا يَبِيعُ إلاّ بِيَمِينِهِ. ومسلم: إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلْفِ فِي البَيْع فَإِنَّهُ يَنْفُقُ ثُمَّ يَمْحَقُ. والطبراني: يَا مَعْشَر التجارِ إيَّاكُمْ والكذب. وابن حبان عن أبي سعيد قال: مَرَّ أَعْرَابِي بَشَاةٍ فَقُلْتُ: تَبِيعُهَا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ؟ فَقَالَ: لا وَالله، ثُمَّ بَاعَهَا فَذَكَرْتُ لِرَسُول الله. فَقَالَ: بَاعَ آخِرَتَه بِدُنْيَاهُ.
((1/242)
فصل): في بخس نحو الكيل والوزن والذرع. قال الله تعالى: {وَيْلٌ} أي شدّة عذاب أو وادٍ في جهنم من شرّ أوديتها، ولو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدّة حرّه ـ {لِلْمُطَفّفِينَ} الذين يزيدون لأنفسهم من أموال الناس ببخس الكيل أو الوزن {الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي منهم لأنفسهم {يَسْتَوْفُونَ} الكيل ـ وَإذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ـ أي اكتالوا أو وزنوا لهم {يخْسِرُونَ} أي ينقصون الكيل والوزن {أَلا يَظُنّ} أي يتيقن {أُوْلَئِكَ} الذين يفعلون ذلك {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ليومٍ عَظِيم} أي هوله وعذابه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِربّ العَالَمِينَ} (سورة المطففين: 1 ـ 6) أي من قبورهم حفاة عراة.(1/243)
قال السدّي: سبب نزول هذه الآية: أنه لما قدم المدينة كان بها رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله الآية، وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله لأصحاب الكيل والوزن: "إنَّكُمْ قَدْ وَلّيْتُمْ أَمْرَيْنِ هَلَكَ فِيهِمَا الأُمَمُ السالِفَةُ"، وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله فقال: "يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ خَمْسُ خِصَالٍ إذَا ابْتَلَيْتُمْ بِهُنّ وَأَعُوذُ بِالله أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ فَيُعْلِنُوا بِهَا إلاّ فَشَا فِيهِمُ الطّاعُون وَالأوْجَاع الّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوا، وَلَمْ يَنْقُصوا الكَيْلَ وَالمِيزَانَ إلاّ أَخَذُوا بِالسِّنِينَ: وَهِيَ العامُ المُقْحِط الَّذِي لا تَنْبُتُ الأرْضُ فِيهِ شَيْئاً وَقَعَ مَطَرٍ أَوْ لا، وَشِدَّةُ المُؤنَة، وَجَوْرَ السّلطَانِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إلاّ مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلا البَهائِمُ لَمْ يُمْطرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْد الله وَعَهْد رَسُولِهِ إلا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمِ عَدُواً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخذوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَحْكُمْ أَئِمّتُهُمْ بِغَيْرِ كِتَابِ الله وَتَخَيّروا فِيمَا أَنْزَلَ الله إلا جَعَلَ الله بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" وقال عكرمة: أشهد أن كل كيَّال ووزان في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيَّال ووزَّان. فقال: اشهدوا أنه في النار. وقال عليّ رضي الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكيال وألسن الموازين. وما أحسن قول من قال: الويل ثم الويل لمن يبيع بحبة ينقصها جنة عرضها السموات والأرض، ويشتري بحبة يزيدها وادياً في جهنم يذيب جبال الدنيا وما فيها.(1/244)
وحكى اليافعي عن مالك بن دينار: أنه دخل على جار له احتضر، فقال: يا مالك، جبلان من النار بين يديّ أكلف الصعود عليهما. قال مالك: فسألت أهله عن حاله فقالوا: كان له مكيالان يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فدعوت بهما فضربت أحدهما بالآخر حتى كسرتهما، ثم سألت الرجل، فقال: ما يزداد الأمر إلا شدّة فمات في مرضه.
وحكي أيضاً عن بعضهم: أنه قال لبعض الناس هو في النزع، وكان يعامل الناس بالميزان
قل لا إله إلا الله، فقال: ما أقدر أن أقولها لسان الميزان على لساني يمنعني من النطق بها. قال: فقلت له: أما كنت توفي الوزن؟ قال: بلى ولكن ربما كان يقع في الميزان شيء من الغبار ولا أشعر به. تفكروا عباد الله إذا كان هذا حال من لا يشعر في ميزانه بالغبار، فكيف حال من وزن ناقصاً، عجباً لمن يبيع جنة بحبة ينقصها ويشتري وادياً في جهنم بحبة يزيدها.
(تنبيه) إنّ البخس فيما ذكر حرام، بل هو كبيرة كما صرحوا به، ومن البخس المحرّم ما يعتاد فسقة التجار، والبزازين في ذرع الثياب ونحوها من طلب تشديد جرّها حين البيع وإرخائها حين الشراء، فهم داخلون في الوعيد الشديد.
(فصل): في السماحة وإقالة النادم. أخرج البخاري عن جابر عن رسول الله: "رَحِمَ الله عَبْداً سَمْحاً إذَا بَاعَ وَإِذا اشْتَرَى وَإِذا اقْتَضَى"، وأحمد والترمذي عنه: غَفَرَ الله لِرَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلاً إذَا بَاعَ، سَهْلاً إذَا اشْتَرَى، سَهْلاً إذَا اقْتَضى. والبيهقي: عَلَيْكَ بَأَوّل السَّوْمِ فَإِنَ الرِّبْحَ مَعَ السَّمَاحَةِ. وقال أبو عمر: كان الزبير تاجراً مجدوداً في التجارة يعني محظوظاً، فقيل له: بم أدركت في التجارة ما أدركت؟ قال: إني لم أشتر معيباً ولم أزد ربحاً والله يبارك ما يشاء.(1/245)
وحكي أنّ السري السقطي كان في ابتداء أمره في بغداد صاحب دكان، وكان لا يزيد في البيع والشراء إلا ربح نصف درهم لكل عشرة، واشترى بستمائة دينار لوزاً فغلا اللوز، فجاء الدلال وقال: بع بربح ثلاثة لكل عشرة. فقال: لا أزيد الربح فوق نصف درهم لكل عشرة، ولا أنقض عزمي، فقال الدلال: أنا أيضاً لا أجيز بيع متاعك بالناقص، فلا باع الدلال ولا نقض السري عزمه. وأخرج البيهقي: من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة.
وحكي عن بعض التجار الصالحين: أنه اشترى يوماً عسلاً بثلاثين ألف درهم، فلما كان الغد أضعف ثمنه ربح ثلاثين ألف درهم أخرى، فسمع ذلك البائع فندم على بيعه وتحسر، فقال له بعض إخوانه: أتحب أن نرجع إليك عسلك ولا يفوتك ربحه؟ فقال: إي والله. فقال تبكر غداً وتصلي مع الشيخ صلاة الصبح، فإذا سلم من صلاته وفرغ من دعائه فسلم عليه، وقل إني ندمت على بيعك العسل أمس ولا تزد على هذا شيئاً. فقال نعم، ثم بكر فصلى معه في المسجد، فلما فرغ قال له: إني ندمت على بيعك العسل. فقال لغلامه: قم وأعطه جميع عسله. فقال له بعض الحاضرين قد صار ثمنه ضعف ما وزنت أتردّه عليه. فقال: نعم إليك عني سمعت عن رسول الله أنه قال: "مَنْ أَقَالَ نادماً بَيعَتَهُ أقالَ الله عَثْرَتَهْ يَوْمَ القِيَامَةِ" أفلا أشتري إقاله عثرتي يوم القيامة بثلاثين ألف درهم، فأخذ منه ثلاثين ألفاً وردّ العسل إليه.
(خاتمة) واعلم أنه يحرم البيع على البيع، وهو بأن يقول للمشتري زمن الخيار ردّ هذا، وأنا أبيعك أحسن منه بمثل ذلك الثمن أو مثله بأنقص، والشراء على الشراء، وهو أن يقول للبائع زمن الخيار أفسخ لأشتري منك هذا المبيع بأزيد، والنجش وهو أن يزيد في الثمن لا لرغبة، بل ليخدع غيره، والسوم على سوم الغير بغير إذنه، وهو أن يزيد في الثمن بعد أن يصير المبيع للمشتري أو يبيعه بأرخص منه.
((1/246)
فصل): في الدَّين ومطل الغني. أخرج البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة عن رسول الله: "مَنْ أخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُريدُ أَدَاءَهَا أَدَّى الله عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلافَهَا أَتْلَفَهُ الله"، والديلمي: "صَاحِبُ الدَّيْنِ مَغْلُولٌ فِي قَبْرِهِ لا يَفُكُّهُ إلاّ قَضَاءُ دَيْنِهِ"، والطبراني: "مَن ادّانَ دَيْناً وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُؤّدِّيهِ أَدّاهُ الله عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنِ اسْتَدَانَ دَيْناً وَهُوَ لا يَنْوِي أَنْ يُؤَدِّيهُ فَمَاتَ. قَالَ الله عَزّ وَجَلّ يَوْمَ القِيَامَةِ أَظَنَنْتَ أني لا آخُذُ لِعَبْدِي بِحَقِّهِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَتُجْعَلُ فِي حَسَنَاتِ الآخَر، فإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الآخَرِ فَتُجْعَلُ عَلَيْهِ"، وابن عدي: "أيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَنَوَى أَنْ لا يُعْطِيهَا مِنْ صَدَاقِها شَيْئاً مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ زَانٍ، وَأَيُّما رَجُلٍ اشْتَرى مِنْ رَجُلٍ بَيْعاً، فَنَوَى أَنْ لا يُعْطِيهِ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ خَائِنٌ، وَالخَائِنُ فِي النَّارِ"، وابن ماجه: بإسناد حسن "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ أو دِينَارٌ قَضَى مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ"، والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي قتادة قال: "قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ الله صَابِراً مُحْتَسِباً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ يُكْفِّرُ الله عَنِّي خَطَايَاي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله: نَعَمْ؛ فَلَمَا أَدْبَرَ نَادَاهُ فَقَال: نَعَمْ إلاّ الَّذِينَ كَذلِكَ قَالَ جِبْرِيلُ. وقال: يُغْفَرُ لِلْشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلاّ الدَّيْنَ".(1/247)
وفي شرح السنة عن أبي سعيد الخدري قال: "أتي رسول الله بجنازة ليصلى عليها؛ فقال: هل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم؛ قال: هل ترك له من وفاء؟ قالوا: لا. قال: فصلوا على صاحبكم. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: عليّ دينه يا رسول الله، فتقدّم فصلى عليه وقال: فكّ الله رهانك من النار كما فككت رهان أخيك المسلم، ليس من عبد مسلم يقضي عن أخيه دينه إلا فكّ رهانه يوم القيامة" وفيه أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال ائتني بالشهداء أشهدهم؛ قال كفى بالله شهيداً؛ قال فائتني بالكفيل؛ قال كفى بالله كفيلاً؛ قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمَّى، فخرج بالبحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني سألت فلاناً ألف دينار؛ فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً فرضي بك؛ وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً؛ فرضي بك؛ وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وأني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف، وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي كان فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة. ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليّ شيئاً؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدّى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف الدينار راشداً.(1/248)
وأخرج الشيخان: "مُطْلُ الغَنِيّ ظُلْمٌ فإذَا أَتْبَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلىءٍ فَلْيَتَّبِعْ" وابن حبان والحاكم: "ليّ الواجِدِ" أي مطل القادر على وفاء دينه "يَحْلُ عرْضهُ وَعُقُوبَتهُ".
(خاتمة): في إنظار المعسر. أخرج أحمد عن ابن عباس عن رسول الله: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ لَهُ: أَي حَطَّ عَنْهُ دَيْنَهُ أَوْ بَعْضَهُ بِالبَرَاءَةِ مِنْهُ وَقَاهُ الله عَزّ وَجَلّ مِنْ فَيْحِ جهَنَّمَ"، وأحمد ومسلم: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلّهُ الله فِي ظِلّهُ يَوْمَ لا ظِلّ إلاّ ظِلّهُ"، وأحمد وابن ماجه: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلهُ صَدَقَة قَبْلَ أَنْ يَحِلّ الدَّيْن فَإِذا حَلّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مثلاهُ صَدَقَةً"، وأحمد والطبراني: "يَدْعُوا الله بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ فِيمَ أَخَذْتَ هذَا الدَّيْنَ؟ وَفِيمَ ضَيّعْتَ حُقُوقَ النَّاس؟ فَيَقُولُ: يَا رَبّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكلُ وَلَمْ أَشْرَبَ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَم أُضَيّعْ وَلَكِن إمّا حَرْقٌ، وَإمّا سَرْقٌ وإمّا وَضِيعَةٌ: أي بَيْعٌ بِأَقلّ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ فَيَقُولُ: صَدَقَ عَبْدِي أنا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ، فَيَدْعُو الله بِشَيءٍ فَيَضَعُهُ فِي كَفّةِ مِيزَانِهِ فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُه عَلَى سَيِّئاتِهِ فَيَدْخُلَ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ"، والشيخان عن حذيفة قال: سمعت رسول الله يقول: "إنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ المَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقَالَ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ، قِيلَ انْظُرْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ شَيْئاً غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاس فِي الدُّنْيا فَأَنْظُرُ المُوْسِرَ وَأَتَجَاوَز عَن(1/249)
المُعْسِر فَأَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ".
(تنبيهات): أحدها: إن الاستدانة مع نية عدم الوفاء أو مع عدم رجائه بأن لم يضطر، ولا كان له جهة ظاهرة يوفي منها، والدائن جاهل بحاله حرام. وثانيها أن مطل الغنى بعد مطالبته بالدين بغير عذر حرام، وصرح جماعة من أئمتنا بأن من امتنع من قضاء دينه مع قدرته عليه بعد أمر الحاكم له به للحاكم أن يشدّد عليه في العقوبة، فينخسه بحديدة إلى أن يؤدّي أو يموت. وثالثها أنه يحرم على من عليه دين حال السفر بغير إذن غريمه حيث لم يعلم رضاه، وإن كان به رهن أو ضمين، فلا يترخص كعبد آبق بقصر ولا جمع وإفطار وتنفل سائراً وسقوط جمعة، وأكل ميتة لاضطرار، ويجوز لغريمه ولو ذمياً منعه من السفر حتى يوفيه أو يوكل فيه من ماله الحاضر، لا إن كان الدين مؤجلاً، وإن قصر أجله. ورابعها أن من ثبت إعساره حرم حبسه، وملازمته، ووجب إنظاره إلى ميسرة.
[باب في ذم المكس}(1/250)
أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: "لا يَدْخُل الجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ"، وأحمد والطبراني عن أبي الخير قال: عرض مسلمة بن مخلد وكان أميراً على مصر على رويفع بن ثابت أن يوليه العشور، فقال: إني سمعت رسول الله يقول: "إنَّ صَاحِبَ المَكْسِ فِي النَّارِ"، وأحمد وابن عبد الحكم عن مالك بن عتاهية، قال: سمعت رسول الله يقول: "إذَا لَقِيتُمْ عَاشِراً فَاقْتُلُوهُ"، وأحمد عن الحسن بن أبي عامر أنه استعمل كلاب بن أمية على أيلة، وعثمان بن أبي العاص في أرضه فأتاه عثمان فقال: سمعت رسول الله يقول: "إنَّ بِاللَّيْلِ سَاعَةً يُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَيُنَادِي مُنَادٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيهِ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ" وإن داود عليه السلام خرج ذات ليلة، فقال: لا يسأل الله أحد حاجته إلا أعطاه إلا أن يكون ساحراً أو عشاراً فدعا كلاب بقرقور، فكرب فيه فانحدر إلى ابن عامر، فقال: دونك عملك قال لم؟ قال: حدثني عثمان بكذا وكذا. والطبراني عن عثمان بن أبي العاص عن النبي: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ فَيُنَادِي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفْرّج عَنْهُ فَلا يَبْقَى مُسْلِمٌ، فَيَدْعُوا بِدَعْوَةٍ إلَّا اسْتَجَابَ الله لَهُ إلَّا زَانِيَةً تَسْعَى بِفَرْجِهَا أَوْ عَشَاراً" وأبو نعيم عن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله في بعض سكك المدينة، فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني، فلا هو يذبحني فأستريح، ولا هو يتركني فأذهب ولي خشفان في البريّة، وقد تعقد هذا اللبن في أخلافي؛ فقال لها رسول الله: إن أطلقتك أترجعي؟ قالت: نعم وإلا عذبني الله عذاب العشار فأطلقها فذهبت ثم رجعت.(1/251)
وورد من حديث عليّ أخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: "إنَّ النَّبي لَعَنَ سُهَيْلاً ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُعَشِّرُ النَّاسَ فَمَسَخَهُ الله شِهَاباً" أنبئت عمن أنبىء عن أبي الحسن عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعَدُونَ} (سورة الأعراف: 86) قال نزلت في المكاسين، وأنشدكم لنفسي:
اقْتُلْ أُولي المَكْسِ وَلا تَكْتَرِثْ >< إنْ حَلّلُوا ذلِكَ أَوْ حَرَّمُوه
فَإِنَّ خَيْرَ الخَلْقِ أَوْصَى بِأَنْ >< إذَا لَقِيتُمْ عَاشِراً فَاقْتُلُوه
أعاذنا الله من شررهم وحمانا من فتنتهم. وذكر ابن الجوزي في كتاب مواعظ الملوك أن كسرى خرج في بعض أيامه للصيد، فانقطع عن أصحابه وأظلته سحابة، فمطرت مطراً شديداً حال بينه وبين جنده، فمضى لا يدري أن يذهب، فانتهى إلى كوخ فيه عجوز، فنزل عندها وأدخل فرسه، فأقبلت ابنتها ببقرة فدعتها فاحتلبتها، فرأى كسرى لبنها كثيراً. فقال: ينبغي أن نجعل على كل بقرة خراجاً فهذا حلاب كثير، ثم قامت في آخر الليل تحلبها، فوجدتها لا لبن فيها فنادت: يا أماه قد أضمر الملك لرعيته سوءاً قالت: وما ذلك؟ قالت: إن البقرة ما تبضّ بقطرة لبن؛ قالت لها: امكثي فإن عليك ليلاً فأضمر كسرى في نفسه العدل، والرجوع عن ذلك العزم؛ فلما كان آخر الليل قالت لها أمها: قومي احتلبي فقامت فوجدت البقرة حافلاً. فقالت: يا أماه قد والله زال ما في نفس الملك من الشرّ، فلما ارتفع النهار جاء أصحاب كسرى، فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمتما ذلك؟ قالت العجوز: إنا بهذا المكان منذ كذا وكذا، فما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا واتسع عيشنا؛ وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا، وانقطع مواد النفع عنا.
((1/252)
تنبيه) إن المكس حرام إجماعاً ويكفر من استحله أو قال: إنه حق السلطان معتقداً أنه حق وقال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام بأنه يحرم على من يعرف الكتابة، والحساب كتابة حساب المكس، إن قصد إعانة الظلمة الذين لعنهم الله ورسوله.
{باب الظلم}
قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} (سورة إبراهيم: 42) وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسيراً} (سورة النساء: 29 ـ 30) وقال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعِ} (سورة غافر: 18).(1/253)
وأخرج الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله قال في خطبته بمنى في حجة الوداع: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا فِي شَهْرِكُمْ هذَا فِي بَلَدِكُمْ هذَا وَسَتلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلا فلا تَرْجعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضِ"، ومسلم عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: "يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسي وَجعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنكُمْ فَلا تظَالمُوا" وأحمد والبيهقي عن ابن عمر: "اتَّقُوا الظُّلْمُ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَات يَوْمَ القِيَامَةِ"، والشيخان عن أبي موسى: "إنَّ الله لَيُمْلي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثم قرأ ـ وكَذلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" ومسلم عن أبي هريرة: "أَتدْرُونَ مَنِ المُفْلِسُ مِنْ أُمّتِي قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا متَاعَ. فَقَال: إنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ فَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هذا وَقَذَفَ هذَا، وَأَكَلَ مَالَ هذَا، وَسَفَكَ دَمَ هذَا، وَضَرَبَ هذَا، فَيُعْطِي هذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ". والطيالسي والبزار عن أنس: "الظُّلْمُ ثَلاثَة فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ وَظُلْمٌ لا يَتْركُهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ فَالشِّرْكُ. قال الله تعالى: {إنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (سورة لقمان: 13).(1/254)
وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله، فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض"، وأحمد والشيخان عن عائشة وعن سعيد بن زيد: "مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شبْرٍ مِنَ الأرْضِ: أي قَدْرَهُ طَوَّقَهُ مِنْ سَبْع أَرضينَ أيْ يخسف الله به الأرض، فتصير البقعة في عنقه كالطوق"، وأحمد وابن حبان عن يعلى بن مرة: "أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْراً مِنَ الأرْضِ كَلَفَّهُ الله أَنْ يَحْفِرَهَ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ سَبْعِ أَرضينَ، ثُمَّ يُطَوّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ"، وأحمد والطبراني: "مَنْ أَخَذ شَيْئاً مِنَ الأرْضِ بِغَيْرِ حقِّه طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرضِين لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ"، والديلمي عن حذيفة: "الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فِي النَّارِ" وأبو داود: "مَنْ حَمى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ آذاهُ بَعَثَ الله مَلكاً يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ" الحديث. والخطيب عن عليّ رضي الله عنه: "اتّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الله تَعَالَى حَقَّهُ وَإِنّ الله لا يَمْنَعُ ذَا حَقَ حَقَّهُ"، والطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "دَعْوَةُ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِراً فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ".(1/255)
وروي عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت رسول الله يقول: يُحْشَرُ العِبَادُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً فَيُنَادِيهمْ مُنَادٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أنَا المَلِكُ الدَّيّانُ الذي لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلبُهُ بِمَظْلَمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةَ فَمَا فَوْقَهَا وَلا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُل النَّارَ وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ حَتَّى اللَّطْمَةَ فَمَا فَوْقَها ـ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ـ قلنا: يا رسول الله كيف؟ وإنما نأتي الله حفاة عراة؟ قال: بِالحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ جَزَاءً ـ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ـ وَعن ابن عباس قال: يُؤْخَذُ بِيَدِ العَبْدِ أَو الأَمَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُنَادى بِهِ علَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ هذَا فُلان ابْنُ فُلان مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إلى حَقّهِ. قال: فَتفَرَحُ المَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَقٌّ عَلى ابْنِها أَوْ أَخِيها ثُمَّ قَرَأَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} (سورة المؤمنون:101) قال: فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً فيقضي فينصب العبد للناس، ثم يقول الله لأصحاب الحقوق: ائتوا إلى حقوقكم. قال: فيقول العبد: يا رب فنيت الدنيا، فمن أين أوتيهم حقوقهم، فيقول الله للملائكة خذوا من حسناته، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر طلبته، فإن كان ولياً لله وفضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخل الجنة بها، وإن كان عبداً شقياً، ولم يفضل له شيء، فتقول الملائكة: ربنا فنيت حسناته، وبقي طالبون فيقول الله خذوا من سيئاتهم فأضيفوه إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار.(1/256)
وحكى اليافعي عن بكير صاحب الشبلي. قال: لما حضرت الوفاة الشبلي. قال: عليّ درهم مظلمة تصدقت عنه بألوف فما علي شيء أعظم منه.
وحكي أيضاً عن عمرو بن دينار. قال: كان رجل من بني إسرائيل على ساحل البحر، فرأى رجلاً وهو ينادي بأعلى صوته: ألا من رآني فلا يظلمنّ أحداً، قال فدنا منه وقال: يا عبد الله ما خبرك؟ فقال: اعلم أني كنت رجلاً شرطياً فجئت يوماً إلى هذا الساحل، فرأيت صياداً قد صاد سمكة، فسألته أن يهبها مني، فأبى فسألته أن يبيعها مني فأبى، فضربت رأسه بسوطي، وأخذتها منه قهراً ومضيت بها. قال: فبينما أنا ماشٍ بها حاملها إذ عضت على إبهامي، فرمت أن أخلص إبهامي منها، فلم أقدر، فجئت إلى عيالي فعالجوا أن يخلصوا إبهامي منها فلم يقدروا إلا بعد تعب شديد. وقيل: إنما تعلقت بإبهامه عندما قدمت إليه ليأكلها قال: فأصبح إبهامي قد ورم وانتفخ، ثم انتفخت فيه عيون من آثار أنياب هذه السمكة، فذهبت إلى طبيب محسن، فلما نظر إلى إبهامي قال: هذه أكلة بلا شك، وإن لم تقطع إبهامك هلكت فقطعت إبهامي، ثم ضربت على يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدّة الألم فقيل لي: اقطع كفك فقطعتها وانتشر الألم إلى الساعد، وآلمني شديداً، ولم أطق القرار وجعلت أستغيث من شدّة الألم، فقيل لي: اقطعها من المرفق فقطعتها، فانتشر الألم إلى العضد وضربت عليّ عضدي أشدّ من الألم الأوّل، فقيل لي اقطع يدك من كتفك، وإلا سرى الألم إلى جسدك كله فقطعتها، فقال لي بعض الناس: ما سبب ألمك، فذكرت له قصة السمكة؟ فقال: لو كنت رجعت في أولّ ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة، فاستحللت منه واسترضيته، ولا قطعت من أعضائك عضواً فاذهب إليه الآن، واطلب رضاه قبل أن يصل الألم إلى بدنك.(1/257)
قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته، فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي، فقلت يا سيدي: سألتك بالله إلا عفوت عني فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا الذي أخذت منك السمكة غصباً، وذكرت ما جرى عليّ وأريته يدي، فبكى حين رآها وقال: يا أخي قد أحللتك منها لما قد رأيت بك من هذا البلاء، فقلت: يا سيدي سألتك بالله هل كنت دعوت عليّ لما أخذتها منك؟ قال: نعم قلت: اللهم هذا يقوي علي بقوته على ضعفي، فأخذ مني ما رزقتني فأرني فيه قدرتك، قلت قد أراك الله قدرته فيّ، وأنا تائب إلى الله عما كنت عليه.
وحكي أيضاً عن علي بن حرب قال: خرجت أنا وبعض شباب الموصل إلى الشط، فركبنا في زورق، فلما بعدنا من البلد وتوسطنا البحر إذا سمكة كبيرة طفرت من الشط إلى وسط الزورق، فقام الشباب، ونزلوا إلى حافة الشط ليجمعوا خطباً برسم السمكة، فنزلت معهم فبينما نحن نمشي على جانب الشط، وإذا بالقرب منا خربة، فذهبنا إليها ننظر آثارها، وإذا فيها شاب مكتوف وآخر مذبوح إلى جانبه، وبغل واقف عليه قماش. فقلنا للشاب: ما قصتك وما هذا المذبوح؟ فقال: إني كنت مكترياً مع هذا المكاري صاحب البغل، فعدل بي إلى هذا المكان، وكتفني كما ترون وقال: لا بدّ لي من قتلك، فناشدته الله تعالى، لا تظلمني ولا تربح إثمي ولا تعدمني روحي، بل تأخذ مني القماش وأنت في حلّ منه وحلفت له بالله تعالى إني لا أعلم به أحداً، وما زلت أناشده بالله تعالى، وهو لا يفعل فمدّ يده إلى سكين كانت في وسطه يجذبها، فتعسرت عليه أن تخرج من غلافها، فما زال يجذبها إلى أن خرجت بصعوبة، فما أخطأت حلقه، فذبحته فهو كما ترون وأنا على حالتي هذه. قال: فحللنا كتافه وأعطيناه البغل والقماش، وراح وعدنا إلى الزورق، فلما صعدنا طفرت السمكة إلى الشط.(1/258)
وحكي أيضاً أن امرأة إسرائيلية كان لها دار بجوار قصر الملك، وكانت تشين القصر وكلما رام الملك منها أن تبيع الدار أبت أن تبيعها منه، فخرجت المرأة في سفر فأمر الملك بهدمها، فلما جاءت المرأة من السفر قالت: من هدم داري؟ قيل لها: الملك فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي غبت أنا وأنت حاضر للضعيف معين وللمظلوم ناصر، ثم جلست فخرج الملك في موكبه، فلما نظر إليها قال لها؛ ما تنتظرين قالت؛ أنتظر خراب قصرك فهزأ بقولها وضحك منها، فلما جنح عليه الليل خسف به وبقصره، ووجد على بعض حيطان القصر مكتوب هذه الأبيات:
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزدَرِيهِ >< وَمَا يُدْرِيكَ مَا صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهَامُ اللَّيْلِ لا تُخْطِي وَلكِنْ >< لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْقِضَاءُ
وَقَدْ شَاءَ الإلَّهُ بِمَا تَرَاهُ >< فَمَا لِلْمُلْكِ عِنْدَكُمُ بَقَاءُ
حفظنا الله من شرور الظالمين، وحمانا من مكايد الكافرين.
(تنبيه) إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. وقيل التصرف في ملك الغير بغير إذنه. والغصب هو الاستيلاء على حق الغير، وهما حرامان بالكتاب والسنة والإجماع، فيكفر مستحلهما ولو لحبة إجماعاً.(1/259)
وروي أن عيسى عليه السلام مرّ بمقبرة، فنادى رجلاً منهم فأحياه الله فقال له: من أنت؟ فقال: كنت حمالاً أنقل للناس، فنقلت يوماً لإنسان حطباً، وكسرت منه خلالاً تخللت به فأنا مطالب به مذ متّ، ربنا اغفر لنا وتحمل تبعاتنا وارزقنا الإخلاص في كل أمورنا، وكما يحرم الظلم يحرم الإعانة عليه ولو بكلمة. قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيُعِينَهُ عَلَى ظُلْمِهِ أَزَلَّ الله قَدَمَيْهِ عَن الصِّرَاطِ يَوْمَ تدْحَضُ فِيهِ الأقْدَام" وقال أبو هريرة: "إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَينَ الظَّلَمَةُ وَإِخْوانُ الظَّلَمَةِ وَأشْيَاعُ الظَّلَمَةِ أيْنَ مَنْ لاقَ لَهُمْ دوَاةً وَبَرَى لَهُمْ قَلَماً. قَالَ فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ سِيقَ بِهِمْ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ إلى جَهَنَّمَ" ورفعه بعضهم إلى النبي.
قال الأئمة: بلغنا أنهم يرون أنه ليس أحد أشد عذاباً منهم لما يحل بهم من ضيق التابوت وشدّة العذاب، وذكر أبو شبرمة أن منكراً ونكيراً أتيا رجلاً إلى قبره، وقالا إنا ضاربوك مائة ضربة. فقال الميت: إني كنت كذا وكذا، وتشفع ببعض أعماله حتى حطَّا عنه عشراً، ثم لم يزل يتشفع حتى حطَّا الجميعَ إلا ضربة، فضرباه ضربة فالتهب القبر عليه ناراً: فقال: لم ضربتماني؟ فقالا مررت بمظلوم فاستغاث بك فلم تغثه.
فهذا حال من لم ينصر المظلوم مع قدرته على نصره فكيف حال الظالم؟ وقال بعضهم: رأيت في المنام رجلاً ممن يخدم الظلمة المكاسين بعد موته، وهو في حالة قبيحة. فقلت له: ما حالك؟ فقال: شرُّ حال. فقلت: إلى أين صرت؟ فقال: إلى عذاب الله؛ فقلت: ما حال الظلمة عند ربهم؟ قال: شرّ حال أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.(1/260)
وحكي أنه جاء خياط إلى سفيان الثوري. فقال: إني أخيط ثياب السلطان أفتراني من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم لكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط. ومن الظلم المحرّم أن تظلم المرأة من نحو صداق أو نفقة أو كسوة، وهو داخل في قوله: لَيُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته: أي شكايته وتعزيره بالحبس والضرب، وتأخير أجر الأخير، أو منعه منه بعد فراغ عمله الذي شرط عليه الأجرة. قال رسول الله: "قَالَ الله تَعَالَى ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ. وَرَجُلٌ بَاع حُرّاً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" وراه ابن ماجه. قال: "أَعْطُوا الأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفّ عَرَقُهُ" رواه الطبراني.
وحكي أنه حجم حجام داود الطائي فأعطاه دينارين فقالوا: أسرفت. فقال: لا دين لمن لا مروءة له.(1/261)
وحكى عن الشبلي قال: قال لي خاطري يوماً أنت بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فقال: بلى أنت بخيل فقلت: ما أنا بخيل. فقال: بلى أنت بخيل، فنويت أن أول شيء يفتح عليّ أعطيه أو فقير ألقاه، فما تمّ هذا الخاطر حتى دخل عليّ فلان سماه بخمسين ديناراً، فأخذتها وخرجت فأول من لقيني فقير ضرير أو قال أكمه بين يدي مزين يحلق شعره فناولته ذلك. فقال: فأعطها المزين فقلت: إنها دنانير فرفع رأسه إليّ وقال: أما قلنا لك إنك بخيل فناولتها المزين. فقال: منذ قعد بين يدي هذا الفقير عقدت مع الله عقداً أن لا آخذ على حلاقته شيئاً، قال: فأخذتها وذهبت إلى البحر فرميت بها فيه. واستعمال العارية في غير المنفعة التي استعارها لها، وإعارتها من غير إذن مالكها، واستعمالها بعد المدة المؤقتة بها، وقيل إنه رجع ابن المبارك من مرو ورجع إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس إلى البصرة لردّ تمرة إلى الشام وفي قلم استعاره فلم يرده على صاحبه، وكان حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً ولا يأكل سميناً، ولا يشرب بارداً ستين سنة، فرؤي في المنام بعد ما مات فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردّها.
(فصل): في أكل مال اليتيم. قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيراً} (سورة النساء: 10)(1/262)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوَبقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ الله وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِالله وَالسِّحْرُ، وَقَتَلُ النَفْسِ التي حَرَّمَ الله إلاّ بِالحَقِّ، وَأكلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، والتولِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذفَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المؤْمِنَاتِ" والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: أرْبَعٌ حَقٌّ عَلى الله أنْ لا يُدْخِلَهُم الجَنَّةَ وَلا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا: مُدْمِنُ خَمْرِ وآكِلُّ الرِّبَا وآكِلُ مَالِ اليَتِيم بِغَيْرِ حَقِّ، وَالعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ. والحاكم عن أبي موسى: ثَلاثَةَ يَدْعُونَ الله عزّ وَجَلَّ فَلا يُسْتَجابُ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ آخرَ مَالٌ فَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ آتى سَفِيهاً مَالَهُ، وقد قال الله تعالى: {لا تُؤتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} (سورة النساء: 5)
وفي تفسير القرطبي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَوْماً لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الإبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ مَشَافِرَهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي أَفْواهِهِمْ صَخْراً تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤلاءِ؟ قَالَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً".
(تنبيه) إن آكل مال اليتيم من الكبائر المهلكة اتفاقاً، وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين قليله وكثيره ولو حبة.
((1/263)
خاتمة): في كفالة اليتيم والشفقة والسعي على الأرملة. أخرج البخاري: "أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّة هَكَذَا". وابن ماجه: مَنْ عَالَ ثَلاثَةً مِنْ أَيْتَام، كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدا وَرَاحَ شَاهِراً سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ الله، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الجَنَّةِ إخْوَاناً كَمَا أَنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ، وَألصق أَصْبَعَيْهِ السَّبَابَةَ والوُسْطَى. والترمذي: "من قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر له" وفي رواية: "حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"(1/264)
وابن ماجه: "خَيْرُ بيتٍ فِي المُسْلِمينَ بَيْتٌ فِيه يَتِيمٌ يُحْسَنُ إلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي المُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إلَيْهِ"، وحمزة بن يوسف وابن النجار: "إنَّ فِي الجَنَّةِ دَاراً يُقَالُ لَهَا دَارُ الفَرَحِ لا يَدْخُلُها إلَّا مَنْ فَرَّحَ يَتَامَى المُؤْمِنينَ"، وأبو يعلى: "أنا أول من يفتح له باب الجنة إلا أني أرى امرأة تبادرني فأقول: ما لك ومن أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي"، والطبراني: "والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم وألان له في الكلام، ورحم يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله"، وأحمد: "من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا الله، كانت له في كل شعرة مرت يده عليها حسنات" وروي: "إن الله تعالى قال ليعقوب عليه السلام: إن سبب ذهاب بصره، وانحناء ظهره، وفعل إخوة يوسف به ما فعلوه أنه أتاه مسكين صائم جائع وقد ذبح هو وأهله شاة فأكلوها ولم يطعموه، ثم أعلمه الله أنه لن يحب شيئاً من خلقه حبه لليتامى والمساكين، وأمره أن يصنع طعاماً ويدعو المساكين ففعل" قال بعض السلف: كنت في بدء أمري متكبراً منكباً على المعاصي، فرأيت يوماً يتيماً فأكرمته كما يكرم الولد، بل أكثر. ثم نمت فرأيت الزبانية أخذوني أخذاً مزعجاً إلى جهنم، وإذا باليتيم قد اعترضني، وقال: دعوه حتى أراجع ربي فيه فأبوا، وإذا النداء خلوا عنه فقد وهبنا له ما كان منه بإحسانه إليه، فاستيقظت وبالغت في إكرام اليتامى من يومئذ.(1/265)
وحكي أن رجلاً من المنهمكين في الفساد مات في نواحي البصرة، فلم تجد امرأته من يعينها على حمل جنازته لكثرة فسقه وتجافي الناس له، فاستأجرت حمالين يحملونها إلى المصلى فما صلى عليه أحد، فحملوه إلى الصحراء ليدفنوه، وكان بالقرب من الموضع جبل فيه رجل من الزهاد الكبار، فنزل ذلك الزاهد للصلاة عليه، وانتشر الخبر في البلد، وقالوا: نزل فلان ليصلي على فلان فخرج الناس فصلوا عليه مع الزاهد وتعجبوا من صلاته عليه، فقال لهم إنه قيل لي في النوم انزل إلى الموضع الفلاني تَر فيه جنازة رجل ليس معها إلا امرأته فصلّ عليها، فإنه مغفور له، فزاد تعجب الناس فاستدعى الزاهد زوجته يسألها عن حاله، وكيف كانت سيرته، فقالت: كان كما سمعت طول النهار في الماخور مشغولاً بشرب الخمر، فقال: انظري هل يعرض له شيء من أفعال الخير؟ قالت: لا والله إلا أنه كان يفيق كل يوم من سكره عند صلاة الصبح، فيبدل ثيابه ويتوضأ ويصلي الصبح، ثم يعود إلى ماخوره يشتغل بشربه ولهوه، وكان لا يخلو بيته من يتيم أو يتيمين يفضله على ولده، وكان يفيق في أثناء سكره فيبكي ويقول: إلهي أيّ زاوية من زوايا جهنم تريد أن تملأها بهذا الخبيث، يعني نفسه. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة: الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر. وابن ماجه: الساعي على الأرملة كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار.(1/266)
وحكي أنه كان لبعض مياسير العلويين بنات من علوية، فمات واشتدّ بهن الفقر إلى أن رحلن من وطنهنّ خوف الشماتة، فدخلن مسجد بلد مهجور، فتركتهنّ فيه، وخرجت تحتال لهنّ على القوت فمرّت بكبير البلد وهو مسلم، فشرحت له حالها فلم يصدّقها، وقال: لا بدّ أن تقيمي عندي البينة بذلك، فقلت: أنا غريبة فأعرض، ثم مرّ بمجوسي فشرحت له حالها بذلك، فصدَّق وأرسل بعض نسائه فأتت بها وبناتها إلى داره، فبالغ في إكرامهنّ، فلما مضى نصف الليل رأى ذلك المسلم القيامة والنبي معقود على رأسه لواء الحمد، وعنده قصر عظيم، فقال: يا رسول الله لمن هذا القصر؟ فقال: لرجل مسلم، قال: أنا مسلم موحد، قال: أقم عندي البينة بذلك، فتحير فقصّ له خبر العلوية، فانتبه الرجل في غاية الحزن والكآبة إذ ردّها، ثم بالغ في الفحص عنها حتى دلّ عليها بدار المجوسي فطلبها منه فأبى، وقال: قد لحقني من بركاتهنّ، فقال: خذ ألف دينار وسلمهنّ إليّ فأبى، فأراد أن يكرهه فقال له: الذي تريده أنا أحق به، والقصر الذي رأيته في النوم خلق لي. فقال: أنت لست بمسلم؛ فقال: أتفخر علي بإسلامك فوالله ما نمت أنا وأهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية، ورأيت مثل منامك، وقال رسول الله: العلوية وبناتها عندك قلت: نعم يا رسول الله. قال: القصر لك ولأهل دارك فانصرف المسلم وبه من الكآبة والحزن ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
((1/267)
فصل): في الخيانة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنفال: 27) وقال تعالى: {إنَّ الله لا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ} (سورة يوسف: 52) وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "لا إيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا صَلاةَ لِمَنْ لا طَهُورَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا صَلاةَ لَهُ وَمَوْضِعُ الصَّلاةِ مِنَ الدينَ كَمَوْضِع الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ". وأحمد وابن حبان عن أنس: لا إيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِين لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ. والشيخان عن أبي هريرة: آيَةَ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمنَ خَانَ، وأبو الشيخ عن أنس: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ منَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلّى وَحَجّ وَاعْتَمَرَ وَقَالَ إنِّي مُسْلِمٌ: مَنْ إذَا حَدّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. وأبو يعلى والبيهقي عن النعمان بن بشير: من خان شريكاً فيما ائتمنه عليه واسترعاه فأنا بريء منه. والشيخان عن أبي حميد الساعدي، قال: اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ رَجُلاً مِنَ الأزْد يُقَالُ لَهُ ابنُ اللَّتبيَّةِ عَلى الصَّدَقَةِ.(1/268)
فَلَمَا قَدِمَ قَالَ هذَا لَكُمْ، وَهذَا أُهْدِي إليَّ فَقَامَ النَّبيِّ عَلَى المِنْبَرِ فَحَمَدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْه ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالنَا، فَيَقُولُ هذَا لَكُمْ، وَهذَا أُهْدِيَ إليَّ، فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمّه أَوْ بَيْتِ أَبِيهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً إلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعيراً لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً لَهَا يَعَارُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ. والبزار عن عليّ كرم الله وجهه قال: "كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبيِّ، فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ العَالِيَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَخْبزَنِي بِأَشَدّ شَيْءٍ فِي هذَا الدِّينِ وَأَلْيَنِه، فَقَالَ: أَلْيَنُهُ شَهَادَةُ أَنْ لا إله إلَّا الله وَأَنّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشَدُّهُ يَا أَخَا العَالِيَةِ الأمَانَةُ، إنَّهُ لا دِينَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا صَلاةَ وَلا زَكَاةَ" الحديث.(1/269)
والترمذي عنه: إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشَرَةَ خِصْلَةً حَلَّ بِهَا البَلاءُ: إذَا كَانَ المَغْنَمِ دُولاً وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً وَالزَّكَاة مَغْرَماً، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَته وَعَقَّ أَخَاهُ وَبَرَّ صَدِيقَهُ وَجَفَا أبَاهُ وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ فِي المَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهمْ وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الخُمُور، وَلُبِسَ الحَرِيرُ وَاتُّخِذَت القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَلَعَنَ آخِرُ هذِهِ الأُمّةِ أوّلَها، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذلِكَ ريحاً حَمْرَاءَ أَوْ خَسفاً أَوْ مَسْخاً. وصح عن ابن مسعود قال: القَتْل في سبيلِ الله يكفر الذنوب كلها إلاّ الخيانة.
وصح عنه أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الخيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ البَطَانَةُ".
{باب الوصية}
أخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً، وإذَا أَوْصَى جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهُ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وإنَّ الرَّجل لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ" والترمذي عنه: أنّ الرجل يعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار. وابن ماجه عن أنس: من فرّ من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة. وورد: من قطع ميراثاً فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة، وروى النسائي أنّ النبي قال: "الإضْرَارُ فِي الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ".
((1/270)
تنبيه) قد صرّح بأنّ ذلك من الكبائر، ومن ثم صرح جمع من أئمتنا وغيرهم بذلك، وقال ابن عادل في تفسيره: اعلم أن الإضرار في الوصية يقع على وجوه منها أنْ يوصي بأكثر من الثلث أو يقرّ بكل ماله أو بعضه لأجنبي، أو يقرّ على نفسه بدين لاحقية له دفعاً للميراث عن الوارث أو يقرّ بأن الدين الذي كان له على فلان قد استوفاه منه، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص أو يشتري شيئاً بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة، ومن الإضرار في الوصية أن يوصي على نحو أطفاله من يعلم من حاله أنه يأكل مالهم أو يكون سبباً لضياعه، لكونه لا يحسن التصرف فيه أو نحو ذلك. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
{باب النكاح}
قال الله تعالى: {فَانْكحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثَلاثَ وَرُبَاعَ} (سورة النساء: 3).(1/271)
وأخرج الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَاب مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ" والبيهقي عن أبي أمامة: "تَزَوَّجُوا فَإني مُكَاثرٌ بُكُمُ الأُمَمَ وَلا تَكُونُوا كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى" وهو عن أبي هريرة: "مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَسِنَّ بِسنَّتِي وَإِنَّ مِنْ سُنَّتِي النِّكَاحَ" وعن أنس: "إذَا تَزَوَّجَ العَبْدُ فَقَد اسْتَكْمَلَ نِصْفَ الدِّينِ، فَلْيَتَّقِ الله فِي النِّصْفِ البَاقِي". وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه: "نَهَى رَسُولُ الله عَن التَّبَتُّلِ" وابن عدي عن جابر: "أيُّمَا شَاب تَزَوَّجَ فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ عَجّ شَيْطَانُهُ يَا وَيْلَتِي عَصَمَ مِنّي دِينَهُ". وأحمد وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن عكاف بن وداعة أنه أتى النبي، فقال له: "أَلَكَ زَوْجَةٌ يَا عُكَافُ؟ قَالَ لا. قَالَ: وَلا جَارِيَةٌ. قَالَ لا. قَالَ: وَأَنْتَ صَحْيحٌ مُوسِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ الحَمْدُ لله. قَالَ: فَأَنْتَ إذَنْ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، إن كَنْتَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَالْحقْ بِهمْ وَإِنْ كُنْتَ مِنَّا فَاصْنَعْ كَمَا نَصْنَعُ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِي النِّكَاحَ شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ، وإنَّ أَراذِلَ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ وَيْحَكَ يَا عُكَافُ تَزَوَّجْ. فَقَالَ عُكَافُ: يَا رَسُولَ الله لا أَتَزَوَّجُ حَتى تُزَوِّجَنِي مَنْ شِئْتَ. قَالَ زَوَّجْتُكَ عَلَى اسْمِ الله وَالبَرَكَةِ الكَرِيمَةِ بِنْتَ كَلْثُومِ الحِمْيري" والديلمي وأبو داود: "مَنْ تَرَكَ التَزَوّجَ مَخَافَةَ العَيْلَةِ فَلَيْسَ مِنّا".(1/272)
وأحمد ومسلم عن ابن عمر: "الدُّنْيا كُلَهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِها المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ". وابن ماجه عن أبي أمامة: "مَا اسْتَفَادَ المُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى الله خَيْراً لَهْ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْها أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ". والطبراني عن ابن مسعود: "تزوّجوا الأبكار فإنهن أعذب أفواهاً وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير". وأبو داود عن معقل بن يسار: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فَإِنَّي مُكَاثِرٌ بُكْمُ الأُمَمَ" والبيهقي عن أبي سعيد وابن عباس قال: قال رسول الله: "مَنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ فَلْيُحْسِنِ اسْمَهُ وَأَدَبَهُ، وإذَا بَلَغَ فَلْيُزَوّجْهُ. فَإِنْ بَلَغَ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَصَابَ إثْماً فَإِنَّما إثْمُهُ عَلَى أَبِيهِ" وهو عن عمر رضي الله عنه: "مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ بَلَغَتْ لَهُ ابْنَةً اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُزَوِّجْها فَأَصَابَتْ إثْماً فَإِثْمُ ذلِكَ عَلَيْهِ". والطبراني وابن عساكر عن سلامة حاضنة السيد إبراهيم: "أما تَرْضَى إحْدَاكُنَّ أنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلاً مِنْ زَوْجِهَا وَهُو عَنْهَا رَاضٍ أَنَّ لَهَا مِثْلَ أَجْرِ الصَّائِمِ وَالقَائِمِ فِي سَبيلِ الله، وَإِنْ أَصَابَهَا الطَّلْقُ لَمْ يَعْلَمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالأرْضِ مَا أَخْفَى لَهَا مِنْ قُرّةِ أَعْيُنٍ، فَإِذَا وَضَعَتْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ لَبَنِهَا جُرْعَةٌ وَلَمْ يُمَصّ مِنْ ثَديِهَا مَصّةٌ إلاّ كَانَ لَهَا بِكُلِّ جُرْعَةٍ وَبِكُلِّ مَصّةِ حَسَنَةٌ، فَإن أَسْهَرَهَا لَيْلَةً كَانَ لَهَا مِثْلُ أَجْرِ سَبْعِينَ رَقَبَة تُعْتِقُهُمْ فِي سَبيلِ الله" وأبو داود عن ابن عمر: "أَبْغَضُ الحَلالِ إلى الله الطَّلاقُ".(1/273)
وحكى أبو العباس أحمد بن يعقوب أنه رؤي معروف الكرخيّ في النوم فقيل له: ما صنع الله بك؟ قال: أباحني الجنة غير أن في نفسي حسرة أني خرجت من الدنيا ولم أتزوج.
وحكى أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزوج فيأبى برهة من دهره، فانتبه من نومه ذات يوم وقال: زوجوني فزوجوه فسئل عن ذلك، فقال لعل الله يرزقني ولداً ويقبضه فيكون لي مقدمة في الآخرة، ثم قال: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكنت من جملة الخلائق في الموقف وبي من العطش والكرب ما كاد أن يقطع عنقي، وكذا الخلائق في شدّة العطش والكرب، فنحن كذلك إذا ولدان قد ظهروا بأيديهم أباريق من فضة مغطاة بمناديل من نور، وهم يتخللون الجمع، ويتجاوزن أكثر الناس، ويسقون واحداً بعد واحد، فمددت يدي إليهم وقلت لبعضهم: اسقني فقد أجهدني العطش فنظر إليّ وقال: ليس لك ولد فينا إنما نسقي آباءنا وأمهاتنا، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن أطفال المسلمين.
(فصل): في أركان النكاح. أركان النكاح أربعة:
الأول: الإيجاب والقبول: فالإيجاب كأنكحتك أو زوجتك لا أحللتك ابنتي. والقبول كنكحتها أو تزوجتها أو قبلت أو رضيت نكاحها، أو النكاح ولا يشترط فيهما العربية، ولو مع معرفتها، لكن يشترط أن يترجم بما هو صريح فيه في تلك اللغة، ويشترط أن لا يطول فصل بينهما.
الثاني: الزوجان فيشترط في المرأة خلوّها من نكاح وعدة وتصدّق فيه، حيث لم يعلم لها نكاح سابق، أو ادّعت موت زوج معين أو طلاقه وإلا فلا. وفي الزوج علمه بحلها له، وفيهما التعيين فزوجتك إحدى ابنتي أو زوجت بنتي أحدكما باطل ولو مع الإشارة.(1/274)
الثالث: الولي وهو أب ثم أبوه فيزوجان بكراً أو ثيباً بلا وطء، كمن زالت بكارتها بنحو أصبع من كفء موسر بمهر المثل مطلقاً بغير إذنها، حيث لا عداوة لا ثيباً بوطء إلا بإذنها نطقاً بعد بلوغها وتصدّق البالغة في دعوى الثيوبة قبل العقد بيمين، وإن لم تتزوج لا بعده ولو أثبتت، ثم أخ لأبوين ثم لأب ثم ابنهما كذلك، ثم عم لأبوين، ثم لأب ثم بنوهما، ثم عم الأب ثم بنوه كذلك، ثم معتق ثم عصبانة ثم معتقه ثم عصباته، فيزوج المذكورون البالغة بإذنها نطقاً إن كانت ثيباً، وإلا كفى سكوتها بعد استئذانها ولو لغير كفء، ثم إن عدموا أو غاب أقربهم مرحلتين، أو فقد أو عضل زوَّج قاض، أو نائبه بكفء بالغة في محلّ ولايته حال التزويج لا بغيره، وإن رضيت به فمحكم عدل ولته أمرها، أما تزويج اليتيمة فباطل اتفاقاً. قال رسول الله: "أيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَليِّها فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا باطِلٌ" وقال: "لا تُزَوِّجُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ ولا المرأةُ نَفْسَهَا فَإِنّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا".
الرابع: الشاهدان فيشترط كونهما رجلين حرّين عدلين بصيرين سميعين، يعرفان لسان المتعاقدين غير متعينين للولاية، ويصح ظاهراً بمستوري عدالة إذا عقد لهما غير الحاكم، ويندب استتابتهما قبل العقد احتياطاً، ويزول الستر بتفسيق عدل، ولو تاب الفاسق عند العقد لم يصحّ به حالاً، كما لا يصح تزويج عفيفة لفاسق تاب عند العقد قبل الاستبراء. قال رسول الله: "لا نِكَاحَ إلاّ بِوَلِيّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ".
((1/275)
فصل): في ذكر ما يجري بين الزوجين. أخرج مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري: "إنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّجُلُ يَفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ أَحَدُهُمَا سِرّ صَاحِبِهِ"ز وأحمد عن أسماء بنت يزيد: أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده فقال: "لَعَلّ رَجُلاً يَقُولُ مَا فَعَلَ بِأَهْلِهِ وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعْ زَوْجِهَا فَأَزِمَ القَوْمُ: أي سَكَتُوا، فَقُلْتُ: إيّ والله يَا رَسُولَ الله إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ وَإِنَّهُنَّ لَيَفْعَلْنَ، قَالَ: فَلا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مثل ذلِكَ مَثْلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً فَغَشَّها وَالنَّاسُ يَنْظُرونَ" وهو والبيهقي عن أبي الهيثم أنه قال: "السِّبَاعَ حَرَامٌ".
(تنبيه) إن إفشاء الرجل سرّ زوجته والمرأة سرّ زوجها بأن يذكر كل منهما ما يقع بينهما من أمور الاستمتاع، وتفاصيل الجماع حرام، وأما ذكر مجرد الجماع لغير فائدة فمكروه.
(فصل): في منع أحد الزوجين حق الآخر. قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ} (سورة النساء: 19) وقال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهُنَّ دَرَجَةٌ} (سورة البقرة: 228)(1/276)
قال ابن عباس: إني لأتزين لأمرأتي كما تتزيَّن لي لهذه الآية. وقال بعضهم: يجب أن يقوم بحقها ومصالحها، ويجب عليها الانقياد والطاعة له. والترمذي وصححه وابن ماجه: "أن رسول الله قال في حجة الوداع بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ: "أَلا فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ إلَّا أنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَة مُبِينَة، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً، ألا إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّاً، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً، فَحَقُّكُمْ عَلَيْهُنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فِي فَرْشِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذِنّ فِي بِيُوتِكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، أَلا وَحَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهُنَّ فِي كَسْوَتِهنَ وَطَعَامِهنَّ". والطبراني والحاكم: "حَقُّ المَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُطْعِمَهَا إذَا طَعَمَ وَيَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَى، وَلا يَضْرِب الوَجْهَ وَلا يُقْبِّحُ وَلا يَهْجُرُ" الحديث وهو: "أيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا قَلَّ مِنَ المَهْرِ أَوْ كَثرَ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُؤَديَ إلَيْهَا حَقّهَا خَدَعَهَا، فَمَاتَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَيْهَا حَقّهَا لَقِيَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُوَ زَانٍ، الحديث. والترمذي: "إنَّ مِنْ أَكْمَلِ المُؤْمِنِينَ إيماناً أَحْسَنَهُمْ خُلُقاً وَأَلْطَفَهُمْ بِأَهْلِهِ، خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ". وميسرة بن علي والرافعي: "إنَّ الرَّجُلَ إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَتهِ وَنَظَرَتْ إلَيْهِ نَظَرَ الله إلَيْهِمَا نَظْرَةَ رَحْمَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ بِكَفهَا تَسَاقَطَتْ ذُنُوبُهُمَا فِي خِلالِ أَصَابِعِهمَا".(1/277)
والطيالسي: "حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لا تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ، وَأَنْ لا تَصُومَ يَوْماً وَاحِداً إلاّ بإذْنِهِ إلاّ الفَرِيضَة، فَإِنْ فَعَلَتْ أَثمَتْ وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهَا، وَأَنْ لا تُعْطِي مِنْ بيتِهِ شَيْئاً إلَّا بِإذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ لَهُ الأجْرُ وَكَانَ عَلَيْهَا الوِزْرُ، وَأَنْ لا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ إلاّ بَإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَها الله وَمَلائِكَةُ الغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ وَإِنْ كانَ ظَالِماً". والطبراني: "المَرْأَةُ لا تُؤَدِّي حَقَّ الله حَتَّى تُؤَدي حَقَّ زَوْجِها كُلَّهُ، لَوْ سَأَلَهَا وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا". والحاكم وصححه: "إنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِلنَّبيِّ: إنَّ ابْنَ عَمي فُلاناً يَخْطِبُني فَأَخْبِرْنِي مَا حَقُّ الزَّوْجِ علَى الزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ شَيْئاً أُطَيْقُ تَزَوّجْتُهُ قَالَ: مِنْ حَقّهِ أَنْ لَوْ سَالَ مِنْ مِنْخَرَيْهِ دَمٌ أَوْ قَيْحٌ فَلَحَسَتْهُ بِلِسَانِهَا مَا أَدّتْ حَقّهُ، لَوْ كَانَ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لأمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُد لِزَوجِها إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا لما فَضَّلَهُ الله عَلَيْها. قَالَتْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا أَتَزَوَّجُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيا".(1/278)
وأحمد عن أنس رضي الله عنه قال: كان أهل البيت من الأنصار لهم جمل يسقون عليه، أي يستقون عليه الماء من البئر، وأنه استصعب عليهم، فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاؤوا إلى النبي فقالوا: إنه كان لنا جمل نسقي عليه الماء من البئر، وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل فقام رسول الله وقال لأصحابه: قوموا فقاموا فدخلوا الحائط، والجمل في ناحية فمشى النبي نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله صار مثل الكلب نخاف عليك صولته، قال: ليس عليّ منه بأس، فلما نظر الجمل إلى رسول الله أقبل نحوه حتى خرّ ساجداً بين يديه، فأخذ بناصيته أذلّ ما كانت قط حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك قال: "لا يصح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه".
وروي أنه قال: "مَنْ صَبَر عَلى سُوءِ خُلُقِ امْرَأَتِهِ أَعْطَاهُ الله مِنَ الأجْرِ مِثْلَ مَا أَعْطَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى بَلائِهِ، وَمَنْ صَبَرَتْ عَلَى سُوءِ خُلُقِ زَوْجِها أَعْطَاهَا الله ثَوَابَ آسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ".(1/279)
وروي أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه يشكو إليه خلق زوجته، فوقف ببابه ينتظر خروجه، فسمع امرأته تستطيل عليه بلسانها، وهو ساكت لا يرد عليها، فانصرف الرجل قائلاً: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين، فكيف حالي؟ فخرج عمر فرآه مولياً فناداه وقال: ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين جئت أشكو إليك خلق زوجتي واستطالتها عليّ، فسمعت زوجتك كذلك، فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟ فقال: يا أخي إني احتملتها لحقوق لها عليّ إنها طباخة لطعامي خبازة لخبزي غسالة لثيابي مرضعة لولدي، وليس ذلك بواجب عليها، ويسكن قلبي بها عن الحرام فأنا احتملها لذلك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وكذلك زوجتي، قال: فاحتملها فإنما هي مدّة يسيرة.(1/280)
وحكي أنه كان لبعض الصالحين أخ صالح، وكان يزوره كل سنة، فجاء مرّة لزيارته فطرق بابه، فقالت زوجته: من؟ فقال: أخو زوجك في الله جاء لزيارته، فقالت: ذهب يحتطب لا رده الله، وبالغت في شتمه وسبه؛ فبينما هو كذلك وإذا بأخيه قد حمَّل الأسد حزمة حطب، وهو مقبل به، فلما وصل أخاه سلم عليه ورحب به؛ ثم أنزل الحطب من على ظهر الأسد وقال له: اذهب بارك الله فيك؛ ثم أدخل أخاه وهي تسبه فلا يجيبها فأطعمه، ثم ودعه وانصرف على غاية التعجب من صبره عليها، ثم جاء في العام الثاني فدق الباب فقالت: من؟ قال: أخو زوجك جاء يزوره. قالت: مرحباً وبالغت في الثناء عليه، وأمرته بانتظاره، فجاء أخوه والحطب على ظهره فأدخله وأطعمه، وهي تبالغ في الثناء عليهما، فلما أراد مفارقته سأله عما رأى من حمل الأسد حطبه في زمن تلك البذية اللسان، ومن حمله الحطب هو على ظهره في زمن هذه السهلة اللينة فما السبب فيه؟ فقال: ياأخي توفيت تلك الشرسة وكنت صابراً على شؤمها وتعبها، فسخر الله تعالى لي الأسد الذي رأيت يحمل الحطب بصبري عليها؛ ثم تزوجت هذه الصالحة، وأنا في راحة فانقطع عني الأسد، فاحتجت أن أحمل على ظهري لأجل راحتي مع هذه الصالحة.
(فصل): في النشوز. قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتاتٌ حَافِظَات بِمَا حَفِظَ الله وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْربُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهُنَّ سَبيلاً إنَّ الله كَانَ عَلِياً كَبِيراً} (سورة النساء: 34).(1/281)
وروى الشيخان عن أبي هريرة: قال: "إذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَان عَلَيْهَا لَعَنَتْها المَلائِكَة حَتَّى تُصْبِحَ" وهما "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُوا امْرَأَتَهُ إلى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إلاّ كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ: أيّ أمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ سَاخِطاً عَلَيْها حَتَّى يَرْضَى عَنْها" أي زوجها. وابن حبان والبيهقي: "ثَلاثةٌ لا يَقْبَلُ الله لَهُمْ صَلاةً وَلا يَرْتَفِعُ لَهُمْ فِي السَّمَاءِ حَسَنَةٌ: العَبْدُ الآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ إلى مَوْلاهُ، وَالمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُها حَتَّى يَرْضَى، وَالسَّكْرَان حَتَّى يَصْحُو". والخطيب: "أيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِها بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا كَانَتْ فِي سَخَطِ الله حَتَّى تَرْجِع إلَى بَيْتِهَا أَوْ يَرْضَى عَنْهَا زَوْجُهَا" وفي رواية: لَعَنَهَا كُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ غَيْرُ الجِنِّ وَالإنْسِ حَتَّى تَرْجِعَ. وأحمد والطبراني والبيهقي والحاكم: أيما امرأة استعطرت ثم خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها، فهي زانية وكل عين زانية. وابنا عدي وعساكر: إذا قالت المرأة لزوجها: ما رأيت منك خيراً قط، فقد حبط عملها. وأبو داود والترمذي: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. وأبو داود وابن ماجه: لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته عليه.
وورد عنه أنه قال: "اطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءُ وَذلِكَ بِسَبب قِلَّةِ طَاعَتِهِنَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأزْوَاجِهِن وَكَثْرَةِ تَبَهْرُجِهنّ" والتبهرج هو إذا أرادت الخروج من بيتها لبست أفخر ثيابها، وتجملت وتحسنت وخرجت تفتن الناس بنفسها، فإن سلمت في نفسها لم يسلم الناس منها.(1/282)
ولهذا قال: "المَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَاحْبِسُوهُنَّ فِي البُيوتِ فَإِنَّ المَرْأَةَ إذَا خَرَجَتْ إلى الطَّرِيقِ قَالَ لَها أَهْلها: أيْنَ تُرِيدِينَ؟ قَالَتْ: أعُودُ مَرِيضاً وَأُشَيِّعُ جَنَازَةً، فَلا يَزَال بِها الشَّيْطَانُ حَتَّى تُخْرِجَ ذِرَاعها، وَما التَمَسَتِ المَرْأَةُ وَجْهَ الله بِمِثْلِ أَنْ تَقْعُد فِي بَيْتِهَا وَتَعْبُدَ رَبَّهَا وَتُطِيعَ بَعْلَها" وكان علي رضي الله عنه يقول: ألا تستحيون ألا تغارون يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها.
وروي عنه أنه قال: "يُسْتَغْفرُ لِلْمَرْأَةِ المُطِيعَةِ لِزَوْجِهَا الطّيَرُ فِي الهَوَاءِ وَالحِيتان فِي المَاءِ وَالمَلائِكَة فِي السَّمَاءِ والشَّمْسُ وَالقَمَرُ مَا دَامَتْ فِي رِضا زَوْجِهَا وَأَيُّما امْرَأَة غَضِبَ عَلَيْهَا زَوْجها فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ الله وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ كَلَحَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِها فَهِي فِي سُخْطِ الله إلى أن تُضَاحِكَهُ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ دَارِهَا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِها لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ" وجاء عنه أنه قال: "أَرْبَعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ فِي النَّارِ، امْرَأَةٌ بَذيَّةُ اللِّسَانِ عَلَى زَوْجِها إنْ غَابَ عَنْهَا زَوْجهَا لَمْ تَصُنْ نَفْسَهَا وَإِنْ حَضَرَ آذَتْهُ بِلِسَانِها، وَامْرَأَةٌ تُكَلِّفُ زَوْجَها مَا لا يُطِيقُ، وَامْرَأَةٌ لا تَسْتُرُ نَفْسَهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَتَخْرُجُ مِنْ بَيْتِها مُتَبَهْرِجَةً: أي متجملة بلبس أفخر ثيابها. وامْرَأَةٌ لَيْسَ لَها إلا الأكْلُ والشّرْبُ والنّوْم، وَلَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِي الصَّلاةِ وَلا فِي طَاعَةِ الله، وَلا فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَلا فِي طَاعَةِ زَوْجِهَا".(1/283)
وقال عليّ كرم الله وجهه: دخلت على النبي أنا وفاطمة، فوجدناه يبكي بكاء شديداً فقلت له: فداك أبي وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؛ قال: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء رأيت نساء من أمتي يعذبن من أنواع العذاب، فبكيت مما رأيت من شدّة عذابهنّ، رأيت امرأة معلقة بشعرها يغلي دماغها، ورأيت امرأة معلقة بلسانها والحميم يصب في حلقها، ورأيت امرأة قد شدّ رجلاها إلى ثديها ويدها إلى ناصيتها، ورأيت امرأة معلقة بثديها قد سلطت عليها الحيات والعقارب، ورأيت امرأة رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار عليها ألف ألف لون من العذاب، ورأيت امرأة على صورة الكلب والنار تدخل من فيها وتخرج من دبرها والملائكة يضربون رأسها بمقامع من نار، فقامت فاطمة الزهراء وقالت: يا حبيبي وقرّة عيني ما كان أعمال هؤلاء حتى وقع عليهنّ العذاب فقال: أما المعلقة بشعرها فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، وأما المعلقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها، وأما المعلقة بثديها فإنها كانت تؤذي فراش زوجها، وأما التي شدّ رجلاها إلى ثديها ويداها إلى ناصيتها وقد سلط عليها الحيات والعقارب، فإنها كانت لا تغتسل من الجنابة والحيض وتستهزىء بالصلاة، وأما التي رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار، فإنها كانت نمامة كذابة، وأما التي على صورة كلب والنار تدخل من فيها وتخرج من دبرها، فإنها كانت منانة حسادة، ويا بنية الويل لامرأة تعصي زوجها.
((1/284)
تنبيه) اعلم أن النشوز الذي عده جماعة من الكبائر يتحقق بمنعها الاستمتاع وطأً، أو غيره كلمس ولو بمو ضع عينه وبخروجها من المنزل بغير إذنه، ولو لموت أحد أبويها أو إلى مجلس ذكر، وتعلم فضيلة لا لتعلم أحكام الحيض والنفاس وسائر العلم العيني، بل يلزم عليها الخروج لتعلمها، ويحرم عليه منعها عنه إن لم يكن عالماً، وإلا علمها وجوباً وبامتناعها من النقلة معه، وبإغلاقها الباب حين أراد الدخول إليها، وبإدعائها الطلاق فمتى صدر منها شيء من المذكورات، ولو لحظة لا تستحق نفقة ذلك اليوم وكسوة ذلك الفصل ولا قسم منه، بل تستحق أن يهجرها الزوج في المضجع إلى أن تصلح، ولو بلغ سنين وأن يضربها ولو بسوط وعصا، وإن تلعنها الملائكة الأبرار الذين لا يعصون الله طرفة عين، وإن يعذبها الجبار في دار الهوان. قال رسول الله: "أيُّمَا امْرَأَة بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الجَنَّةَ" رواه الترمذي. وابن ماجه قال رسول الله: "إذَا صَلَّتِ المَرْأَةُ خَمْسَها وَصَامَتْ شَهْرَهَا وْحَصَّنَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الجَنَّةَ مِنْ أيّ الأبْوَابِ شِئْتِ" رواه أحمد وقال: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ فِي الجَنَّةِ؟ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: كُلُّ وَدُودٍ وَلُودٍ إذَا غَضِبَتْ أَوْ أُسِيءَ إلَيْهَا أَوْ غَضِبَ زَوْجُهَا قَالَتْ هذِهِ يَدِي في يَدِكَ لا أَكْتَحِلُ بِغَمضٍ حَتَّى تَرْضَى" رواه الطبراني. وقالت عائشة رضي الله عنها: يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحرّ وجهها. وينبغي لها أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في شيء من ماله إلا بإذنه، بل قال جماعة من العلماء إنها لا تتصرف أيضاً في مالها إلا بإذنه لأنها كالمحجورة له.(1/285)
وقال بعضهم: يجب على المرأة دوام الحياء من زوجها وغض طرفها قدَّامه، والطاعة لأمره، والسكوت عند كلامه، والقيام عند قدومه وعند خروجه، وعرض نفسها عليه عند النوم، والتعطر له وتعاهد الفم بالمسك والطيب، ودوام الزينة بحضرته وتركها في غيبته وترك الخيانة عند غيبته في فراشه أو ماله، وإكرام أهله وأقاربه ورؤية القليل منه كثيراً. وقال: وينبغي للمرأة الخائفة من الله أن تجتهد في طاعة زوجها وتطلب رضاه فهو جنتها ونارها.
(فصل): في القسم. أخرج مسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: "إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنَابرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين الَّذينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَمَا وَلَوا. والطبراني: "إنَّ الله تَعَالَى كَتَبَ الغَيْرَةَ عَلَى النِّسَاءِ وَالجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ إيماناً وَاحْتِساباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ. والترمذي والحاكم: مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقّهُ سَاقِطٌ. والنسائي: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ إلى إحْدَاهُما عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقّيْهِ مَائِلٌ. والمراد بقوله: يميل: الميل بظاهره بأن يرجح إحداهما في الأمور الظاهرة التي حرم الشارع الترجيح فيها لا الميل القلبي لخبر عائشة رضي الله عنها كان النبي يقسم بين نسائه، فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. يعني القلب.
{باب في التهاجر}(1/286)
أخرج أحمد والطبراني عن رسول الله أنه قال: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَن الحَقِّ"، أي مائلان عنه ما داما على صرامهما وأولهما فيئاً أي رجوعاً إلى الصلح يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم فلم يقبل وردّ عليه سلامه ردت عليه الملائكة، وردّ على الآخر الشيطان، فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعاً أبداً. وأبو داود والنسائي: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاث، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ". والشيخان: "لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هذَا وَيُعْرِضُ هذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ" وأخذ منه العلماء أن السلام يرفع إثم الهجر، ومسلم: "تُعْرَضُ الأعْمَال فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخميس، فَيَغْفُرَ الله عَزَّ وَجَلّ فِي ذلِكَ اليَوْمِ لامْرِىءٍ لا يُشْرِك بِالله شَيْئاً إلا امْرَءاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ يَقول: اتْرِكُوا هذَينِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" وفي رواية: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَيغْفرَ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِالله إلا رَجُلاً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْناءُ فَيَقُولُ: أنْظروا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظرُوا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أنْظروا هذِينِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".(1/287)
والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله، فوضع عنه ثوبيه ثم لم يستتم أن قام فلبسهما فأخذتني غيرة شديدة، فظننت أنه يأتي بعض صويحباتي، فخرجت أتبعه فأدركته بالبقيع بقيع الغرقد يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشهداء فقلت بأبي وأمي أنت في حاجة دينك، وأنا في حاجة الدنيا فانصرفت فدخلت حجرتي ولي نفس عال، ولحقني رسول الله فقال: ما هذا النفس يا عائشة؟ فقلت: بأبي وأمي أتيتني فوضعت عنك ثوبيك، ثم لم تستتم أن قمت، فلبستهما فأخذتني غيرة شديدة فظننت أنك تأتي صويحباتي حتى رأيتك بالبقيع تصنع ما تصنع. فقال: يا عائشة أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ أتاني جبريل عليه السلام، فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل إزاره، ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر. قالت: ثم وضع عنه ثوبيه، فقال: هذه ليلة النصف يا عائشة تأذنين لي في قيام هذه الليلة قالت: نعم بأبي وأمي فقام فسجد طويلاً حتى ظننت أنه قد قبض فقمت ألتمسه، ووضعت يدي على باطن قدميه، فتحرك ففرحت وسمعته يقول في سجوده: أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك جلّ وجهك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك؛ فلما أصبح ذكرتهنّ له فقال: يا عائشة تعلَّميهنَّ وعلميهنّ فإن جبريل علمنيهنّ وأمرني أن أرددهنّ في السجود.
(تنبيه) إن هجر أخيه المسلم فوق ثلاثة أيام حرام، بل قال جماعة من العلماء، إنه من الكبائر إلا لعذر شرعيّ كبدعة أو فسق ولو خفياً، وضابطه أنه متى عاد إلى صلاح دين الهاجر أو المهجور جاز وإلا فلا.
{باب عقوق الوالدين}(1/288)
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَينِ إحْسَاناً} (سورة النساء: 36) قال ابن عباس: يريد البرّ بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر عليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللاً لهما. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْساناً إمّا يَبْلُغُنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُما أفّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لهُمَا جنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (سورة الإسراء: 23 ـ 24) وقال: {أنِ اشْكُرْ لِيَ وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ المَصِيرُ} (سورة لقمان: 14) فانظر وفقني الله وإياك كيف قرن شكرهما بشكره، قال ابن عباس: "ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل الله منها واحدة بغير قرينتها إحداها قوله تعالى: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (سورة آل عمران: 32) فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. الثانية قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (سورة البقرة: 110) فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه. الثالثة قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِيَ وَلِوَالِدَيْكَ} (سورة لقمان: 14) فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه، ولذا قال: "رِضَا الله فِي رِضَا الوَالِدَيْنِ وَسُخْطُ الله فِي سُخْطِ الوَالِدَيْنِ" وصح: أن رجلاً جاء يستأذن النبي في الجهاد، فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد. فانظر كيف فضل برّ الوالدين وخدمتهما على الجهاد.(1/289)
وأخرج أحمد والبخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ بِالله وَعُقُوقَ الوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَاليمِينُ الغَمُوسُ". والطبراني عن ثوبان: "ثَلاثَة لا يَنْفَعُ مَعْهُنَّ عَمَلٌ الشّرْكُ بِالله وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وَالفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ". وأحمد والنسائي والحاكم عن ابن عمر: "ثَلاثَة حَرَّمَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمُ الجَنَّةَ: مُدْمِنُ الخَمْرِ وَالعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالدّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الخُبْثَ" أي الزنى فيهم مع علمه به. وقيل هو الذي لا يمنع الناس عن الدخول على زوجته، وقيل هو الذي يشتري جارية تغني للناس. والحاكم والأصبهاني: "كُلُّ الذُنُوبِ يُؤَخِّرُ الله مِنْهَا مَا شَاءَ إلى يَوْم القِيَامَةِ إلَّا عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ فَإِنَّ الله يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الحَيَاةِ قَبْلَ المَمَاتِ". والخطيب عن علي رضي الله عنه: "مَنْ أَحْزَنَ وَالِدَيْهِ فَقَدْ عَقّهُمَا" وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام يا موسى: "وقِّر والديك فإن من وقر والديه مددت له في عمره ووهبت له ولداً يبره؛ ومن عق والديه قصرت عمره، ووهبت له ولداً يعقه" وقال أبو بكر بن مريم: "قرأت في التوراة أن من يضرب أباه يقتل".(1/290)
وقال وهب في التوراة: "عَلَى مَنْ صَكَّ وَالِدَيْهِ الرَّجْمُ" وروي أن علقمة كان كثير الاجتهاد في الطاعة من الصلاة والصوم والصدقة، فمرض واشتد مرضه فأرسلت امرأته إلى رسول الله: إن زوجي علقمة في النزع، فأردت أن أعلمك إنه بحاله، فأرسل عماراً وبلالاً وصهيباً وقال: امضوا إليه فلقنوه الشهادة، فجاؤوا إليه فوجدوه في النزع، فجعلوا يلقنونه لا إله الله إلا ولسانه لا ينطق بها، فأرسلوا إلى رسول الله بذلك؛ فقال: هل من أبويه أحد حي؟ قيل: إن أمّ كبيرة السن، فأرسل إليها رسول الله يقول لها: إن قدرت على المسير إلى رسول الله وإلا فقرّي في المنزل حتى يأتيك، فجاء إليها الرسول وأخبرها بذلك؛ فقالت: نفسي لنفسه الفداء أنا أحق بإتيانه، فتوكأت وقامت على عصا، وأتت رسول الله وسلمت فردّ عليها السلام وقال لها: يا أم علقمة أصدقيني وإن كذبتني جاء الوحي من الله تعالى كيف حال ولدك علقمة؟ قالت: يا رسول الله كثير الصلاة كثير الصيام كثير الصدقة، قال رسول الله: فما حالك معه؟ قالت: يا رسول الله أنا عليه ساخطة. قال: ولم؟ قالت: يا رسول الله كان يؤثر زوجته، ويعصيني، قال: إن سخط أمّ علقمة حجب لسان علقمة عن الشهادة، ثم قال: يا بلال انطلق واجمع لي حطباً كثيراً قالت: وما تصنع به يا رسول الله قال أحرقه بالنار.(1/291)
قالت: يا رسول الله هو ولدي لا يحمل قلبي أن تحرقه بالنار بين يدي، قال: يا أم علقمة فعذاب الله أشدّ وأبقى، فإن سرك أن يغفر الله له فارضي عنه، فوالذي نفسي بيده لا ينتفع بصلاته ولا بصيامه ولا بصدقته ما دمت عليه ساخطة، فقالت: يا رسول الله فإني أشهد الله تعالى وملائكته، ومن حضرني من المسلمين أني قد رضيت على ولدي علقمة، فقال رسول الله: انطلق إليه يا بلال هل يستطيع أن يقول لا إله إلا الله أم لا؟ فلعلّ أم علقمة تكلمت بما ليس في قلبها حياء، فانطلق بلال فسمع علقمة يقول من داخل الدار: لا إله إلا الله، فدخل بلال فقال: يا هؤلاء إن سخط أم علقمة حجب لسانه عن الشهادة وإن رضاها أطلق لسانه، ثم مات علقمة في يومه، فحضره النبي، فأمر بغسله وكفنه، ثم صلى عليه وحضر دفنه، ثم قام على شفير قبره فقال: يا معشر المهاجرين والأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله صرفاً ولا عدلاً إلا أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ، ويحسن إليها ويطلب رضاها، فرضا الله في رضاها وسخط الله في سخطها.
وروي أن العوام بن حوشب قال: نزلت مرة حياً وإلى جانب ذلك الحي مقبرة. فلما كان بعد العصر انشقّ منها قبر، فخرج رجل رأسه رأس حمار وجسده جسد إنسان، فنهق ثلاث نهقات، ثم انطبق عليه القبر. فإذا عجوز تغزل شعراً أو صوفاً. فقالت لي: امرأة أخرى: ترك تلك العجوز؟ قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا؛ قلت: وما كان قصته؟ قالت: كان يشرب الخمر فإذا راح تقول له أمه يا بنيّ اتقِ الله إلى متى تشرب الخمر؟ فيقول لها إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار. قالت فمات بعد العصر قالت: فهو ينشقّ عنه القبر بعد العصر كل يوم فينهق ثلاث نهقات، ثم ينطبق عليه القبر والعياذ بالله من العقوق.
(تنبيه) إن عقوق الوالدين أو أحدهما وإن علا، ولو مع وجود أقرب منه من الكبائر المهلكة اتفاقاً.
((1/292)
خاتمة): في بر الوالدين. أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سَأَلْتُ رَسُولَ الله أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى الله؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِها. قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الوَالِدَيْنِ. قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله. وأبو يعلى والطبراني: أتى رَجُلٌ إلى رَسُولِ الله وَقَالِ: إنَّنِي أَشْتَهِي الجِهَادَ وَلا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: أمِّي. قال: قَاتِلْ لِلَّهِ فِي برِّهَا فَإِذَا فَعَلْتَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ". والرافعي عن ابن عباس: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ إلى وَجْهِ وَالِدَيْهِ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ إلاّ كَتَبَ الله لَهُ بِهَا حِجّةً مَقْبولةً مَبْرورةً". وابن ماجه والنسائي والحاكم: "جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ الله فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُو وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ. فَقَال: هَلْ لَكَ مِنْ أُمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَالْزمهَا فَإِنَّ الجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلهَا". وفي رواية: "أَلَكَ وَالدَانِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فالْزَمْهُمَا فَإِنَّ الجَنَّة تَحْتَ أَرْجُلِهِمَا". والشيخان: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ الله فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَال: أُمّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمّكَ. قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ". والترمذي وابن حبان والحاكم: "أتَى النَّبيَّ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً عَظِيماً فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمَ؟ فَقَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَبِرَّهَا". والديلمي: "دُعَاءُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ كَدُعَاءِ النَّبيِّ لأُمَّتِهِ".(1/293)
وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما: أي الدعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما.(1/294)
وحكى البغوي في معالمه أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهمّ أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات الرجل، فصارت العجلة في الغيضة عوناً، وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن كان بارّاً بوالديه، وكان يقسم ليله ثلاثة أثلاث يصلي ثلثاً، وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً، فإذا أصبح انطلق، فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق، فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدّق بثلثه، ويأكل ثلثه، ويعطي والدته ثلثه. فقالت له أمه يوماً: إن أباك ورّثك عجلة استودعها في غيضة كذا، فانطلق فادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردّها عليك، وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى تلك البقرة المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلمت البقرة وقالت: أيها الفتى البارّ بوالدته اركبني، فإنّ ذلك أهون عليك فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله، وينطلق معك لفعل لبرّك بأمك، فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك، ويشقّ عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليخبر الفتى برّه بوالدته، وكان الله به خبيراً. فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك: خذ ستة دنانير ولا تستأمر والدتك.(1/295)
فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي فردّها إلى أمه فأخبرها بالثمن. فقالت: فأرجعها فبعها بستة دنانير على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأمرت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا تنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها. فقال الملك: فإني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه، فأخبرها بذلك فقالت: إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل. فقال له الملك: اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة، فإنّ موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلا بملء مسكها دنانير، فأمسكها وقدّر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة على برّ والدته فضلاً منه ورحمة.(1/296)
وحكى اليافعي أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام: أن أخرج إلى ساحل البحر تبصر عجباً، فخرج سليمان بن داود ومن معه من الجنّ والإنس، فلما وصل الساحل التفت يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، فقال لعفريت: غص في هذه البحر، ثم ائتني بعلم ما تجد فيه، فغاص، ثم رجع بعد ساعة وقال: يا نبيّ الله إني ذهبت في البحر مسيرة كذا وكذا لم أصل إلى قعره ولا نظرت فيه شيئاً، فقال لعفريت آخر: غص في هذا البحر وائتني بعلم ما تجد فيه، فغاص ثم رجع بعد ساعة وقال مثل قول الأول، إلا أنه غاص مثل الأول مرتين. فقال لآصف بن برخيا وهو وزيره الذي ذكره الله تعالى في القرآن: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ} (سورة النمل:40) قال له: ائتني بعلم ما في هذا البحر، فجاء بقبة من الكافور الأبيض لها أربعة أبواب باب من درّ وباب من ياقوت وباب من جوهر، وباب من زبرجد أخضر، والأبواب كلها مفتوحة، ولا يدخل فيها قطرة من الماء، وهي في داخل البحر في مكان عميق مثل مسيرة ما غاص فيه العفريت الأول ثلاث مرات، فوضعها بين يدي سليمان عليه السلام، وإذا في وسطها شاب حسن الشباب نقيّ الثياب، وهو قائم يصلي، فدخل سليمان عليه السلام القبة وسلم على ذلك الشاب وقال: ما أنزلك في قعر هذا البحر؟ قال: يا نبي الله إنه كان أبي رجلاً مقعداً وكانت أمي عمياء، فأقمت في خدمتها سبعين سنة، فلما حضرت وفاة أمي قالت: اللهم أطل حياة ابني في طاعتك، ولما حضرت وفاة أبي قال: اللهم استخدم ولدي في مكان لا يكون للشيطان عليه سبيل، فخرجت إلى هذا الساحل بعد ما دفنتهما، فنظرت هذه القبة موضوعة، فدخلتها لأنظر حسنها، فجاء ملك من الملائكة، فاحتمل القبة وأنا فيها، وأنزلني في قعر هذا البحر.(1/297)
قال سليمان في أيّ زمان كنت أتيت هذا الساحل؟ قال: في زمان إبراهيم الخليل عليه السلام، فنظر سليمان عليه السلام في التاريخ، فإذا له ألفا سنة وأربعمائة سنة، وهو شاب لا شيبة فيه، قال: فما كان طعامك وشرابك داخل هذا البحر؟ قال: يا نبي الله يأتيني كل يوم طير أخضر في منقاره شيء أصفر مثل رأس الإنسان، فآكله فأجد فيه طعم كل نعيم في دار الدنيا، فيذهب عني الجوع والعطش والحرّ والبرد والنوم والنعاس والفترة والوحشة. فقال سليمان: أتحبّ أن تقف معنا أو تردّ إلى موضعك؟ فقال: ردّني إلى موضعي يا نبي الله. فقال: ردّه يا آصف فردّه، ثم التفت فقال: انظروا كيف استجاب الله تعالى دعاء الوالدين، فأحذركم عقوق الوالدين.
{باب قطع الرحم}
قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (سورة النساء: 1) أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (سورة الرعد: 25)(1/298)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "إنَّ الله تعالى خَلَقَ الخَلْق حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ قَالَتْ: هذَا مقامُ العَائِذِ بِكَ مِن القَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ أَما تَرْضِينَ أنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذلِكَ لَك، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله: اقْرؤوا إنْ شِئْتُمْ ـ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتَقْطَعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ـ وَهُمَا: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ:" أي قاطع رحم. والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ: أي أَحَقُّ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصَاحِبِهِ العُقُوبَة فِي الدُّنْيَا مَعْ مَا يَدَّخر الله لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحم". والطبراني عن جابر قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولَ الله وَنَحْنُ مُجْتَمِعُونَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ اتَّقُوا الله وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثَوَابٍ أَسْرَعُ مِنْ صِلَةِ الرَّحمِ، وَإِيَّاكُمْ والبَغْيَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ أَسْرَعُ مِن عقوبةِ بَغِيَ، وَإِيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ ريحَ الجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ ألْفِ عامٍ، وَالله لا يَجدهَا عَاقٌّ وَلا قَاطِعِ رَحِمِ وَلا شَيْخٌ زَانٍ وَلا جَارٌّ إزارَهُ خُيَلأَ، إنَّمَا الكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.(1/299)
وأحمد: إن أعمال بني آدَمَ تُعْرَضُ كلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَلا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمِ، والأصبهاني: كنا جلوساً عند النبي فَقَالَ: لا يُجَالِسُنَا قَاطِعُ رَحمٍ، فَقَاَمَ فَتىً مِنَ الخلقَةِ فَأَتَى خَالَةً لَهُ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الشَيْءِ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ عَادَ إلى المجْلِسِ فَقَالَ: إنَّ الرَّحْمَةَ لا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ.
وروي عن محمد الباقر أن أباه زين العابدين قال له: لا تصاحب قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع وذكر الآيات الثلاث السابقة.
وحكى شيخنا ابن حجر رحمه الله: أن رجلاً غنياً حج فأودع آخر موسوماً بالأمانة والصلاح ألف دينار حتى يعود من عرفة، فلما عاد وجده قد مات، فسأل ورثته عن المال فلم يكن لهم به علم، فسأل علماء مكة فقالوا: إذا كان نصف الليل فائت زمزم وانظره فيها، وناد يا فلان باسمه فإن كان من أهل الخير، فسيجيبك من أوّل مرة، فذهب ونادى فيها فلم يجبه أحد، فأخبرهم فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، نخشى أن يكون صاحبك من أهل النار، اذهب إلى أرض اليمن ففيها بئر تسمى برهوت يقال إنه على فم جهنم، فانظر فيها بالليل ونادِ فيها يا فلان فسيجيبك منها. فمضى إلى اليمن وسأل عن البئر فدلّ عليها، فذهب إليها ليلاً ونادى فيها يا فلان فأجابه. فقال: أين ذهبي؟ فقال: دفنته في الموضع الفلاني من داري، ولم أأتمن عليه ولدي فائتهم واحفر هناك تجده. فقال: ما الذي أنزلك هاهنا، وقد كنت أظنّ بك الخير. قال: كانت لي أخت فقيرة هجرتها، وكنت لا أحنو عليها فعاقبني الله بسببها، وأنزلني هذا المنزل وتصديق ذلك الحديث الصحيح: لا يدخل الجنة قاطع: أي قاطع رحمه وأقاربه.
((1/300)
تنبيه) قد نقل القرطبي في تفسيره اتفاق الأئمة على حرمة قطع الرحم ووجوب صلتها، والمراد بقطع الرحم قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان لغير عذر شرعي، فلو كان لم يصل منه إلى قريبه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك. ولا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه مع قريبه مالاً أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك، فقطع ذلك كله يعد فعله لغير عذر كبيرةً.
((1/301)
خاتمة): في صلة الرحم. أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ". وأبو يعلى عن رجل من خثعم: قال: أتيت النبي، وهو في نفر من أصحابه قلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: نعم. قلت يا رسول الله أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: الإيمان بالله. قلت: يا رسول الله ثم مه؟ قال: ثم صلة الرحم، قلت: يا رسول الله أيّ الأعمال أبغض إلى الله تعالى؟ قال: الشرك بالله، قلت: يا رسول الله ثم مه؟ قال: ثم قطيعة الرحم، قلت: يا رسول الله ثم مه؟ قال: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وابن ماجه: أسرع الخير ثواباً البرّ وصلة الرحم، وأسرع الشرّ عقوبة البغي وقطيعة الرحم. والطبراني وابن حبان عن أبي ذرّ: قال أوصاني خليلي رسول الله بخصال من الخير، وأوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين والدنوّ منهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق ولو على نفسي وإن كان مرّاً، وأوصاني أن أكثر من: لا حول ولا قوّة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة، والشيخان عن ميمونة: أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي. قال: أو فعلت؟ قالت: نعم، قال: أما إنك لو أعطيت أخوالك وأخواتك كان أعظم لأجرك. والطبراني والحاكم: ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حساباً يسيراً وأدخله الجنة برحمته قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: تعطي من حرمك. وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك تدخل الجنة.(1/302)
والبخاري: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمكَافِىءِ وَلكِنَّ الوَاصِلَ الَّذِي إذَا قَطَعْتَ رَحِمَهُ وَصَلَها". والشيخان: "مَنْ أَحَبّ أَنْ يُبْسِطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنَسَأَ: أي يُؤَخّرَ فِي أَثَرِهِ: أيْ أَجلِهِ فَلْيَصِلِ رَحمَهُ". وأبو يعلى: "إنَّ الصَّدَقَةَ وَصِلَةَ الرَّحِمِ يُزِيد الله بِهِمَا فِي العُمْرِ، وَيَرْفَعُ بِهِما مِيتةُ السُّوءِ، وَيَدْفَعُ بِهِمَا المَكْرُوهَ وَالمَحْذُورَ".
قال الضحاك في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (سورة الرعد: 39) قال: إن الرجل ليصل رحمه وما بقي من عمره إلا ثلاثة أيام، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيحطه الله إلى ثلاثة أيام.
وروي أن ملك الموت أخبر داود عليه السلام بقبض روح رجل بعد ستة أيام، فلما كان بعد مدّة طويلة وجد داود ذلك الرجل حياً، فسأل ملك الموت عنه، فقال: إنه لما خرج من عندك وصل رحماً قد كان قطعها، فمدّ الله في عمره عشرين سنة أخرى.
((1/303)
فصل): في حقوق المماليك. أخرج أحمد وابن ماجه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَيّىءُ المَلَكَة: أي الَّذِي يُسِيءُ الصَّنِيعَةَ إلى مَمَالِيكِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أنَّ هذِهِ الأُمّةَ أَكْثَرُ الأُممِ مَمْلُوكِينَ وَيَتامَى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَكْرِمُوهُمْ كَرَامَة أَوْلادِكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ. قَالُوا: فَمَا يَنْفَعُنا مِنَ الدُّنْيا؟ قَالَ: فرسٌ تَرْبطهُ تُقَاتل فِي سَبِيلِ الله، مَمْلُوكُكَ يَكْفِيكَ فَإِذَا صَلّى فَهُوَ أَخُوكَ". وأبو داود عن عليّ كرم الله وجهه قال: آخر كلام النبي: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ فَاتَّقُوا الله فِيمَا مَلَكَت أَيْمَانُكُمْ" وفي رواية كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: "الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى مَا يُقْبض لسَانُهُ". وأحمد والطبراني أنه قال في حجة الوداع: "أَرِقّاءَكُمْ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبِسونَ، فَإِنْ جَاؤوا بِذَنْبٍ لا تُرِيدُونَ أَنْ تَغْفِروهُ فَبِيعُوا عِبَاد الله وَلا تُعَذِّبُوهُمْ". ومسلم: كَفَى بالمرء إثْماً أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوَتَهُمْ" وهو عن أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلاماً بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم يا أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذ هو رسول الله فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله تعالى أقدر عليك منك على هذا الغلام فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله هو حرّ لوجه الله تعالى؛ فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار.(1/304)
والطبراني: "مَنْ ضَربَ مَمْلُوكَهُ ظُلْماً أَقِيدَ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" وأبو داود والترمذي: "يَا رَسُولَ الله كَمْ أَعْفُو عَنِ الخَادِمِ قَال: كُلَّ يَوْمٍ سَبْعينَ مَرَّةً". وأحمد عن عائشة رضي الله عنهما: أن رجلاً قعد بين يدي رسول الله فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله: "إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصُوكَ وَكَذَبُوكَ وَعِقَابُكَ إيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافاً لا لَكَ وَلاَ عَلَيْكَ، وَإنْ كَانَ عِقَابُكَ إيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلاً لَكَ، وَإنْ كَانَ عقابُكَ إيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الفَضْلُ، فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي فقال له رسول الله: أَمَا تَقْرَأْ قَوَلَ الله تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القَسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تظْلمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أَتَيْنَا بِها وَكَفَى بِنا حَاسِبِينَ} (سورة الأنبياء: 47) فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالله يَا رَسُولَ الله مَا أَجدُ لِيَ وَلِهَؤُلاءِ شَيْئاً خَيْراً مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أَشْهَدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ". وابن حبَّان والبيهقي: "مَا خَفّفْتَ عَنْ خَادِمِكَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ أَجْرٌ لَكَ فِي مَوَازِينِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ". والشيخان: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ الله بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ".(1/305)
وأبو داود وابن ماجه: "ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ الله مِنْهُمْ صَلاةً: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْماً وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلاةَ دِبَاراً وَرَجُلٌ اعْتَمَدَ مُحَرَّراً يَعْنِي أَعْتَقَهُ ثُمَّ كَتَمَ عِتْقَهُ أَوْ أَنْكَرَهُ". وروي: "أنَّهُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ الله فَقَالَتْ يَا رَسُولَ الله إنِّي قُلْتُ لأَمَّتِي يَا زَانِيَةُ: قَالَ هَلْ رَأَيْتِ عَلَيْهَا ذلِكَ؟ قَالَتْ لا، قَالَ: أَمَا إنَّهَا سَتقَيّدُك يَوْمَ القِيَامَةِ: فَرَجَعَتِ المَرْأَةُ إلَى جَارِيتِهَا فَأَعْطَتْهَا سَوْطاً وَقَالَتْ اجْلُدِينِي فَأَبَتِ الجَارِيَةُ فَأَعْتَقَتْها، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى رَسُولِ الله فَأَخْبَرَتْهُ بِعتقهَا فَقَالَ: عَسَى أيْ عَسَى، أنْ يُكَفِّرَ عِتْقُكِ إيَّاهَا ما قَذَفْتِيهَا بِهِ".
وحكي أنه دخل جماعة على سلمان الفارسي، وهو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله فقالوا: ألا تترك الجارية تعجن؟ فقال: أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملاً آخر.
وحكي أن عمر بن عبد العزيز قال يوماً لجاريته، روّحيني أنام فروّحته فنام، فغلبها النوم فنامت، فلما انتبه أخذ المروحة وجعل يروحها؛ فلما انتبهت ورأته يروحها صاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحرّ ما أصابني، فأحببت أن أروّحك كما روحتيني.
(فصل): في حقوق الجيران. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالدَيْنِ إحْساناً وَبِذِي القُرْبَى واليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجَنْبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ} (سورة النساء: 36).(1/306)
وأخرج الشيخان عن ابن عمر وعائشة قالا: قال رسول الله: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" والبخاري: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخر فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً" ومسلم: "مَنْ كَان يُؤْمِنُ بِالله فَلْيُحْسِنْ إلى جَارِهِ". وأحمد والبخاري: "وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ". وأحمد والبزار وابن حبان والحاكم قال رجل لرسول الله: "إنَّ فُلانَةَ تَذْكُرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّها تُؤْذِي جَارَها بِلِسَانِها. قال: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ الله إن فُلانَةَ تذْكُر مِنْ قِلَّةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِها، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأثْوَارِ: أي القَطَعَاتِ مِن الأقْطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا، قَالَ: هِيَ فِي الجَنَّةِ". ومسلم: "لا يَدْخُلُ الجَنَّة مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ". والبخاري: "كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ هذا أَغَلَقَ بَابَهُ دُونِي فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ عَني". والحاكم والبيهقي: "لَيْسَ المُؤْمِنُ الَّذِي يَشَبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلى جَنْبِهِ" والبزار والطبراني: "مَا آمَنَ بِيَ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ".(1/307)
والطبراني عن معاوية بن جندب قلت: "يَا رَسُولَ الله مَا حَقُّ الجَارِ عَلَى جَارِهِ؟ قَالَ: إنْ مَرضَ عُدْتَهُ، وإنْ مَاتَ شَيَّعتَهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنْ أَعْوَزَ سَتَرْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَلا تَرْفَعْ بِنَاءَكَ فَوْقَ بِنَائِهِ فَتَّسُدَّ عَلَيْهِ الرّيحَ، وَلا تُؤْذِهِ بِرِيحِ قِدْرِكَ إلَّا أَنْ تَغْرفَ لَهُ منها". والبيهقي: "أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ الله دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ حَتَّى إذَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الجَنَّة فَقَالَ: كُنْ مُحْسِناً فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيْفَ أَعْلَمُ أنّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: سَلْ جِيرَانَكَ فَإِنْ قَالُوا إنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِنْ قَالُوا إنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ". والبزار وأبو نعيم: "الجِيرَانُ ثَلاثَةٌ: فَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ وَهُوَ أَدْنَى الجِيرَانِ حَقّاً، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَجَارٌ مُشْرِكٌ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ حَقٌّ لِلإسْلامِ وَحَقٌّ لِلْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٍ ذُو رَحِمِ، حَقٌّ لِلإسْلامِ وَحَقٌّ لِلْجِوَارِ وَحَقٌّ لِلرَّحِمِ". والترمذي والنسائي: "يَا أَبَا ذَرِّ إذَا طبَخْتَ فَأَكْثِرِ المَرَقَ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ" والشيخان: "يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ لا تَحْقِرَنَّ جَارَةً لِجَارَتِهَا وَلَوْ فَرْسَنَ شَاةٍ" والبيهقي: "حَدّ الجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَاراً".(1/308)
وروي: أن سبب ابتلاء يعقوب بابنه يوسف عليهما السلام أنه اجتمع هو وابنه على أكل جمل مشويَ وهما يضحكان وكان لهم جار يتيم فشم ريحه واشتهاه، وبكى وبكت جدّة له عجوز لبكائه، وبينهما جدار ولا علم عند يعقوب وابنه، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف إلى أن سالت وابيضت عيناه من الحزن، فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه: ألا من كان مفطراً فَلْيَتَغَدَّ، عند آل يعقوب. اللهم حسن أخلاقنا ووسع أرزاقنا وقنا عذابك يوم تبعث عبادك.
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: فرغت من حج عاماً فنمت في الحرم، فرأيت ملكين نازلين من السماء فقال أحدهما للآخر: كم حج من الناس في هذا العام؟ فقال الآخر ستمائة ألف. قال: فكم قبل حجهم؟ فقال: لم يقبل حج أحد منهم. ثم قال: لكن رجل في دمشق يخصف النعل اسمه موفق لم يأت للحج، ولكن قبل حجه، وببركة الحج قبل حج الكل، فانتبهت فقصدت دمشق، ووصلت إلى بابه، فخرج إليّ رجل فسألته عن اسمه فقال موفق. فقلت: أيّ خير خرج منك حتى وجدت هذه الدرجة، فقال: كنت أرجو الحج، وما أمكنني لضيق يدي فحصلت ثلاثمائة درهم من خصف النعل، وقصدت الحج في هذا العام، وكانت امرأتي حاملاً فشمت ريح الطعام من دار جاري فاشتهت ذلك، فقصدت بيت الجار، فخرجت امرأة فأخبرتها، فقالت: لقد اضطررت إلى شرح الحال، فإن أيتامي لم يطعموا شيئاً ثلاثة أيام، فخرجت فرأيت حماراً ميتاً فقطعت منه قطعة وطبخته فهو حلال لنا وحرام عليكم، فجئت داري وأخذت الثلاثمائة درهم وجئت بها إلى دار جاري، وأعطيتها وقلت لها أنفقي على أيتامك. وقلت لنفسي: إن الحج في باب داري فأين أذهب.
{باب القتل}
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظيماً} (سورة النساء: 93)(1/309)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ أَي المُهْلِكَاتِ قِيلَ يَا رَسُولَ الله مَا هُنَّ: قَالَ الإشْرَاكُ بِالله وَقَتْلُ النَّفْسِ الّتِي حَرَّمَ الله إلا بِالحَقِّ" الحديث. والنسائي والحاكم وصححه عن معاوية قال: قال رسول الله: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ إلَّا الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِراً أَوْ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً". وأبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ إلَّا الرَّجُلَ يَمُوتُ مُشْرِكاً أَوْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً". وأبو داود والضياء عن عبادة: "مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً فَاغْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلا عدْلاً: أيْ فَرْضاً وَلا نَفَلاً". والنسائي والضياء عن بريدة: "قَتْلُ المُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله مِنْ زَوَالِ الدُّنْيا" والترمذي عن أبي هريرة: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأرْضِ اشْتَرَكوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأكَبَّهُمُ الله عَزّ وَجَلّ فِي النَّارِ". وابن ماجه عنه: "مَنْ أَعَانَ على قَتْل مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ الله مَكْتُوباً بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ الله" والنسائي عن ابن مسعود: أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، أوّل ما يقضى به بين الناس في الدماء. وأحمد: "قُسِّمَتِ النَّارُ سَبْعِينَ جُزْءاً فَلِلآمِرِ تِسْعٌ وَسِتُّونَ وَلِلْقَاتِلِ جِزْءٌ حَسبهُ" والبزار والطبراني يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق له عينان يبصر بهما وله لسان يتكلم به، فيقول: إني أمرت بمن جعل مع الله إلهاً آ خر وكل جبار عنيد، وبمن قتل نفساً بغير حق فينطلق بهم قبل سائر الناس بخمسمائة عام.(1/310)
وابن حبان في صحيحه: "إذَا أصْبَحَ إبْلِيسُ بَثّ جُنُودَهُ فَيَقُولُ مَنْ خَذَلَ اليَوْمَ مُسْلِماً أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ قَالَ: فَيَجِيءُ، هذا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَيَقُولُ يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَجِيءُ هذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أُشْرِكَ بِالله فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ وَيَجِيءُ هَذا، فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قُتلَ فَيَقُولُ: أَنْتَ أنْتَ، وَيُلْبِسُهُ التَّاجَ". والبخاري: "الَّذِي يَخْنِقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُها فِي النَّارِ وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يطعنُ نفسَهُ فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَقْتحِمُ يَقَتَحِمُ فِي النَّارِ". والشيخان: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةِ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِباً مُتَعَمِّداً فَهُوَ كَمَا قَالَ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرَ فِيمَا لا يَمْلِكُ، وَلَعْنُ المُؤْمِنُ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ". وفي كتابه إلى أهل اليمن: "إنَّ أَكْبَرَ الكَبَائِرِ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ الإشْرَاكُ بِالله وَقَتْلُ النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقَ" الحديث.(1/311)
وروي عن أبي حازم أنه قال: شاهدت عمر بن عبد العزيز، وقد رقد رقدة على أثر وجد وجده فبكى، ثم ضحك فلما انتبه قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين ما الذي عراك في منامك حتى ضحكت بعد البكاء قال: أرأيت ذلك؟ قلت: نعم وجميع من حولك. قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، وقد حشر الناس مائة وعشرين صفّاً أمة محمد منهم ثمانون صفّاً، وإذا منادٍ ينادي أين عبد الله بن أبي قحافة، فأجاب فأخذته الملائكة، فأوقفوه أمام ربه عزّ وجلّ فحوسب حساباً يسيراً، ثم نجا وأمر به وبصاحبه إلى الجنة، ثم نودي بعلي بن أبي طالب، فجيء به فحوسب حساباً يسيراً، ثم أمر به إلى الجنة.
قال عمر بن عبد العزيز: فلما قرب الأمر مني نودي أين عمر بن عبد العزيز؟ قال: فتصببت عرقاً ثم أخذتني الملائكة فأوقفوني أمام الحق سبحانه وتعالى، فسألني عن النقير والقطمير، وعن كل قضية قضيتها، ثم غفر لي فأمر بي ذات اليمين، فمررت بجيفة ملقاة فقلت للملائكة: ما هذه الجيفة؟ فقالوا: سَلْهُ يُجِبْكَ فتقدّمت إليه فسألته ووكزته برجلي، فرفع رأسه وفتح عينيه، فقلت: من أنت. فقال: من أنت؟ فقلت: أنا عمر بن عبد العزيز. فقال لي: ما فعل الله بك؟ فقلت: تفضل عليّ ورحمني وفعل بي كما فعل بمن سلف من الأئمة، فقال: ليهنك ما صرت إليه، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا الحجاج بن يوسف قدمت على الله عزّ وجلّ، فوجدته شديد العقاب والغضب، قتلني بكل قتيل قتلة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة، وها أنا بين يدي ربي أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم إما إلى الجنة وإما إلى النار.
((1/312)
تنبيه) قد أجمع العلماء على أن تعمدُّ قتل المكلف آدمياً محترماً بلا حق من أكبر الكبائر. وقال ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وحسن بن عليّ وزيد بن ثابت رضي الله عنهم: لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمداً، لكن ذهب أهل السنة إلى قبول توبته كالكافر؛ بل أولى ولا يتحتم، بل هو في خطر المشيئة ولا يخلد، وإن لم يتب وكلام الروضة وأصلها يدل على بقاء العقوبة الأخروية، وإن وجد قود وكفارة.
{باب الجهاد}
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبيِلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونْ يَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الفَوْزُ العَظِيمِ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبِشّرِ المُؤْمِنينَ} (سورة الجمعة: 10 ـ 13).(1/313)
وأخرج الشيخان وأبو داود عن أبي هريرة، قال رسول الله: "أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّ لا إله إلَّا الله وَأَنِّي رَسُولُ الله، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا منّي دَمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلى الله" وأبو داود وأبو يعلى عنه: "الجِهَاد وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ" والشيخان وأبو داود عن أبي موسى الأشعري: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبيلِ الله". والشيخان عن أبي هريرة: سئل رسول الله: أيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إيمَانٌ بِالله وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الجِهاد فِي سَبِيلِ الله، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ" وهما عنه: مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام، ولا صدقة حتى يرجع، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إذ يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر وغنيمة، والديلمي عنه: "سَاعَةٌ فِي سَبيل الله خَيْرٌ مِنُ خَمْسينَ حِجّةَ". والطبراني عن نعيم بن هبار: "الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فِي الصَّفِّ الأوّلِ، وَلا يَلْتَفِتُونَ بوجُوهِهِمْ حَتَّى يُقْتَلُونَ فأُولَئِكَ يَلْتَقُونَ فِي الغُرَفِ العُلَى مِنَ الجَنَّةِ يَضْحَكُ إلَيْهِمْ ربُّكَ، وَإِنَّ الله تَعَالَى إذَا ضَحِكَ إلَى عَبْدِهِ المُؤْمِنِ فَلا حِسَابَ عَلَيْهِ" والحاكم عن أبي هريرة: "الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلِّ السّيوفِ".(1/314)
والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله ستُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوّلِ دَفْعَةٍ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَار مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَر وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيها، وَيُزَوَّجُ ثِنتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ وَيَشْفَعُ فِي سَبْعينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ". ومسلم والترمذي عن ابن مسعود: "إنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأَوي إلى تِلْكَ القَنَادِيل فَاطَّلَعَ إلَيْهِمْ رَبَّهُمْ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئاً؟ قَالُوا: أيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي، وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ يَفْعَلُ بِهِمْ ذلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا. قَالْوا: يَارَبِّ نُرِيدُ أَنْ تُرَدّ أَرْوَاحُنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرّةً أُخْرَى، قَالَ: إنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُمْ إلَيْها لا يَرْجِعُونَ، قَالُوا: فَأَبْلِغْ عَنَّا إخْواننَا فَأَنْزَلَ الله تَعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} (آل عمران: 169).(1/315)
والطبراني بسندٍ رجالهُ ثقات عن عبد الله بن عمرو قال: "إذَا قُتِلَ العَبْدُ فِي سَبِيل الله فَأَوَّلُ قَطْرَةٍ تَقَعُ عَلَى الأرْضِ مِنْ دَمِهِ يُكفِّرُ الله ذُنُوبَه كُلَّهَا ثُمَّ يُرْسِلُ الله بِرَيطةٍ مِنَ الجَنَّةِ فَيَقْبِضَ فِيها نَفْسَهُ وَبجَسَد مِنَ الجَنَّةِ حَتَّى يُرْكَبَ فِيهِ روحهُ، ثُمَّ يَعْرِجُ مَعَ المَلائِكَةِ كَأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ مِنْذُ خَلَقَهُ الله حَتَّى يُؤتَى بِهِ الرَّحْمن فَيَسْجِدَ قَبْلَ المَلائِكَة ثُمَّ تَسْجُدُ المَلائِكَة بَعْدَهُ، ثُمَّ يَغْفِر لَهُ وَيُطَهرَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إلِى الشُّهَدَاءِ فَيَجدِهُمْ فِي رِيَاضٍ خُضْرِ وَقبَابٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَعندهُمْ ثَورٌ وَحُوتٌ يُلَعِّبَانهمْ كُلِّ يَوْمِ بِشَيْءٍ لَمْ يَلْعَبَاهُ بِالأمْسِ يَظَلُّ الحُوتُ فِي أَنْهَارِ الجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ مِنْ أَنْهارِ الجَنَّةِ، فَإِذَا أَمْسَى وَكَزهَ الثَّوْر بِقرنِهِ فَذَكَاهُ، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِ وَوَجدُوا فِي طَعْمِ لَحْمِهِ رَائِحَةً مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ، وَيَبِيتُ الثَّوْر نَافِشاً فِي الجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ؛ فَإِذَا أَصْبَحَ غَدا عَلَيْهِ الحُوتُ، فَذَكَاهُ بِذَنْبِهِ فَأَكَلُوا مِنْ لحمِهِ، فَوَجَدُوا فِي طَعْمِ لَحْمِهِ كلَّ ثَمْرَة فِي الجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إلى مَنَازِلِهِمْ يَدْعونَ الله بِقِيَامِ السَّاعَةِ". والعقيلي عن أبي هريرة: "الشُّهَدَاءُ عِنْدَ الله عَلَى مَنِابِرَ مِنْ يَاقُوتٍ فِي ظِلِّ عَرْشِ الله يَوْمَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلَّهُ عَلَى كُتُبِ مِسْك مِنْ فَيَقُولُ لَهُمْ الرَّبُّ أَلَمْ أَوْفِ لَكُمْ وَأَصْدُقُكُمْ فَيَقُولُونَ بَلَى وَرَبَّنَا".(1/316)
والأصبهاني عن عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الله ليدعو الجنة يوم القيامة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول الله سبحانه وتعالى: {أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَجَاهَدُوا؟ ادْخُلُوا الجَنَّة فَيَدْخلُونَهَا بِغَيْرِ حِساب فَتَأْتِي المَلائِكَة فَيَقُولُونَ رَّبِّنا نَحْنُ نُسْبِّحُ بِحَمْدِكَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار، وَنُقَدّسُ لَكَ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا، فَيَقُولَ الرَّبُّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبيلِي وَجَاهَدُوا، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمِ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبِرْتُمْ فَنِعْمَ عقْبي الدَّارِ}. والطبراني عن أنس: "إذَا وَقَفَ العَبْد لِلْحِسَابِ جَاءَ قَوْمٌ وَاضِعُوا سُيُوفَهُمْ عَلَى رِقَابِهمْ تَقْطُرَ دَماً فَازْدَحمُوا عَلَى بَابِ الجَنَّةِ وَالنَّاسَ فِي المَوْقِفِ؛ فَيُقَالُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قِيلَ: الشُّهَدَاءُ كَانُوا أَحْيَاءَ مرزوقينَ". وابن ماجه عن أبي هريرة: "مَا مِنْ مَجْرُوحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ الله، وَالله أَعْلَمُ بِمَنْ يُجْرَحُ فِي سَبيلِ الله إلاّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجُرْحُهُ كَهيْئِتِهِ يَوْم جَرِحَ اللَّوْن لَوْنُ دَمِ وَالرِّيِحُ رِيحُ مِسْكِ" ومسلم وأبو داود عنه: "لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتله فِي النَّارِ أَبَداً" والطبراني: "الشَّهِيدُ لا يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسَّ القَرْصَةِ". وأبو الشيخ: "عَضَّةُ نَمْلَةٍ أَشَدُّ عَلَى الشَّهِيدِ مِنْ مَسِّ السِّلاحِ، بَلْ هُوَ أشْهَى عِنْدَهُ مِنْ شرب مَاءٍ بَارِدٍ لَذِيذٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ" والطبراني: "مَنْ فَاتَهُ الغَزْوُ معي فَلْيَغْزُ فِي البحْرِ".(1/317)
وابن ماجه: "غَزْوَةٌ فِي البَحْرِ مِثْلُ عَشْرِ غَزَوَاتٍ فِي البَرّ، وَالّذي يَصْدُرَ فِي البَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ في دَمِهِ في سَبِيلِ الله" وهو: يغفر لشهيد البرّ الذنوب كلها إلا الَّدين؛ ولشهيد البحر الذنوب والدين. والطبراني: "أيُّمَا مُسْلِمٍ رَمَى فِي سَبِيلِ الله فَبْلَغَ مَخْطِئاً أَوْ مُصِيباً فَلَهُ مِنَ الأجْرِ كَرَقَبَةٍ أعْتَقَهَا مِنْ وَلَدِ إسْماعِيلَ، وَأَيُّما رَجُلٍ شَابَ فِي سَبِيلِ الله فَهُوَ لَهُ نُورٌ، وَأيُّما رَجُلٍ أَعْتَقَ مُسْلِماً فَكُلُّ عُضْوٍ مِنَ العِتْقِ بِعضْوٍ مِنَ المُعْتقِ فَدَاءً لَهُ مِنَ النَّارِ". والترمذي: "مَقَامُ أَحَدِكُمْ فِي سَبيلِ الله أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعينَ عَامَاً، أَلاَّ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفرَ الله لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الجَنَّة، اغزُوا فِي سَبيلِ الله مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ الله فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة". والطبراني والحاكم والبيهقي: "حَرَسُ لَيْلَةً فِي سَبيلِ الله عَزّ وَجَلّ أَفْضَلُ مِنَ ألْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا وَيُصَامُ نَهَارُهَا". ومسلم: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ أَحدٌ مْرَابِطاً جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ مِنَ الفِتَانِ". ومسلم وأبو داود: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحْدِّثَ بِهِ نَفْسه مَاتَ عَلَى شَعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ" والترمذي: "مَنْ لَقِيَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ الله تَعَالَى وَفِي إيمَانِهِ ثُلْمَةٌ".(1/318)
ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه: "مَنْ سَأَلَ الشَّهَادَةُ بِصِدْقٍ بَلَغَهُ الله مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" والطبراني: "مَنْ أْسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ" اللهم ارزقنا الشهادة بفضلك وأدخلنا الجنة بغير حساب برحمتك آمين.
وروى رافع بن عبد الله عن هشام بن يحيى الكتاني أنه قال لي: أحدثك حديثاً رأيته بعيني وشهدته نفسي ونفعني الله به فعسى أن ينفعك به. فقلت: حدثني يا أبا الوليد قال: غزونا أرض الروم في سنة ثمان وثمانين، وكان معنا رجل يقال له سعيد بن الحرث ذو حظ من العبادة يصوم النهار ويقوم الليل، فإن سرنا درس القرآن، وإن أقمنا ذكر الله تعالى، فجاءت ليلة خفنا فيها، فخرجت أنا وإياه نحرس ونحن محاصرون عند حصن من الحصون استصعب علينا أمره، فرأيت من سعيد من العبادة في تلك الليلة وصبره على النصب ما تعجبت منه، فلما طلع الفجر قلت له: يرحمك الله إن لنفسك عليك حقاً فلو أرحتها فبكى.(1/319)
قال يا أخي إنما هي أنفاس تعدّ، وعمر يفنى وأيام تنقضي، وأنا رجل أرتقب الموت، وأبادر خروج نفسي. قال: فأبكاني ذلك فقلت له: أقسمت عليك بالله إلا ما دخلت الخباء، واسترحت فدخل فنام، وأنا جالس ظاهر الخباء، فسمعت كلاماً في الخباء، فقلت ما فيه سواه فتقدّمت قليلاً فإذا به يضحك في نومه ويتكلم فحفظت من كلامه يقول: ما أحب أن أرجع، ثم مدّ يده اليمنى كأنه يلتمس شيئاً، ثم ردّها ردّاً رقيقاً وهو يضحك، ثم وثب من نومه، وهو ينتفض فاحتضنته إلى صدري ملياً، وهو يلتفت يميناً وشمالاً حتى سكن وعاد إليه فهمه، وجعل يهلل ويكبر، فقلت: ما الخبر؟ قال: نعم. قلت: حدّثني فقد سمعتك تقول ما أحب أن أرجع ورأيتك مددت يدك ثم رددتها، فقال: لا أخبرك فأقسمت عليه. قال: أو تكتم عني ما حييت؟ قلت: بلى. قال رأيت كأن القيامة قد قامت، وخرج الخلق من قبورهم شاخصين منتظرين أمر ربهم، فبينما أنا كذلك إذ أتاني رجلان لم أر أحسن منهما فسلما عليّ، فرددت عليهما السلام فقالا لي: يا سعيد أبشر فقد غفر ذنبك، وشكر سعيك، وقبل عملك، واستجيب دعاؤك، وعجل لك البشرى فانطلق معنا حتى نريك ما أعدّ الله لك من النعيم. قال: فانطلقت معهما حتى أخرجاني عن جملة الموقف، وإذا بخيل لا يشبه خيل الدنيا، إنما هو كالبرق الخاطف أو كهبوب الريح، فركبنا وسرنا فانتهينا إلى قصر شاهق ما يبلغ الطرف منتهاه كأنه صيغ من فضة وله نور يتلألأ.(1/320)
فلما وصلنا إليه فتح بابه من قبل أن نستفتح، فدخلنا فرأينا شيئاً لا يبلغه وصف واصف، ولا يخطر على قلب بشر، وفيه من الحور والوصائف والولدان بعدد النجوم فلما رأونا أخذوا في ألوان من القول الحسن بأنغام مختلفة وقائل يقول: هذا وليّ الله قد جاء فمرحباً به وأهلاً، فسرنا حتى انتهينا إلى مجالس ذات أسرة من ذهب مكللة بالجواهر محوطة بكراسي من ذهب، وعلى كل كرسي منها جارية لا يستطيع أحد من خلق الله أن يصفها، وفي وسطهنّ واحدة عالية عليهنّ في طولها وكمالها وجمالها. فقال الرجلان: هذا منزلك وهؤلاء أهلك وهنا مثواك، ثم انصرفا عني ووثبت الجواري بالترحيب والاستبشار كما يكون من أهل الغائب عند قدومه عليهنّ، ثم حملوني حتى أجلسوني على السرير الأوسط إلى جانب الجارية فقلن: هذه زوجتك ولك أخرى مثلها، وقد طال انتظارنا لك فكلمتها وكلمتني، فقلت: أين أنا؟ قالت: في جنة المأوى. وقلت: من أنت؟ قالت: أنا زوجتك الخالدة، قلت: فأين الأخرى.(1/321)
قالت: في قصرك الآخر، فقلت: أقيم اليوم عندك، وأتحوّل في غدٍ إلى الأخرى، ثم مددت يدي فردّتها ردّاً رفيقاً، وقالت: أما اليوم فأنت راجع إلى الدنيا وستقيم ثلاثاً، فقلت: ما أحب أن أرجع، فقالت: لا بدّ من ذلك وستفطر عندنا بعد الثلاث، ثم نهضت من مجلسها، ثم نهضت لوداعها فاستيقظت قال هشام: فغلبني البكاء، وقلت هنيئاً لك يا سعيد جدّد لله شكراً فقد كشف لك عن ثواب عملك، فقال: هل رأى أحد غيرك ما رأيت؟ قلت: لا، فقال: بالله اكتم عني ما دمت في الحياة، ثم قام فتطهر ومسّ الطيب وأخذ سلاحه وسار إلى موضع القتال وهو صائم فقاتل إلى الليل، ثم انصرف فتحدّث الناس بقتاله، وقالوا: ما رأيناه فعل مثل اليوم لقد كان يطرح نفسه تحت سهام العدوّ وحجارتهم وكل ذلك ينبو عنه، فقلت في نفسي: لو يعلمون لتنافسوا في مثل عمله، ثم مكث قائماً إلى آخر الليل، ثم أصبح صائماً فقاتل أشدّ من اليوم الأوّل، ثم مكث قائماً إلى آخر الليل، ثم أصبح صائماً فقاتل أبلغ من كل يوم.(1/322)
قال أبو الوليد: فانطلقت لأنظر ماذا يكون منه، فلم يزل يلقي نفسه في المهالك غالب النهار ولا يصل إليه شيء حتى إذا دنا غروب الشمس جاء سهمٌ في نحره فخرّ صريعاً وأنا أنظر إليه، فضجت الناس وبادروا إليه، وأخذوه وجاؤوا به يحملونه فلما رأيته، قلت له: هنيئاً ما تفطر عليه الليلة يا ليتني كنت معك. قال: فعضّ على شفتيه، وهو يضحك، ثم قال: الحمد لله الذي صدقنا وعده ثم مات. قال هشام: فصحت يا عباد الله لمثل هذا فليعمل العاملون واسمعوا ما أخبركم عن أخيكم هذا فأقبل الناس، فحدّثتهم بالحديث على وجهه، وما كان منه فما رأيت باكياً كالساعة، ثم كبروا تكبيرة اضطرب لها العسكر وشاع الحديث، وبلغ الخبر إلى مسلمة، فجاء وقد وضعناه لنصلي عليه، فقلت صلّ عليه أيها الأمير، فقال: بل يصلي عليه الذي عرف من أمره ما عرف في موضعه، وبات الناس يتحدّثون به، فلما طلع الصباح تذاكرنا حديثه، فصاحوا صيحة وحملوا على العدوّ، ففتح الله الحصن في ذلك النهار ببركته رحمة الله عليه.
وحكى اليافعي عن الشيخ عبد الواحد بن زيد. قال: بينما نحن ذات يوم في مجلسنا هذا قد تهيأنا للخروج إلى الغزو، وقد أمرت أصحابي أن تهيؤوا لقراءة آية، فقرأ رجل في مجلسنا {إنَّ الله اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (سورة التوبة: 111) فقام غلام في مقدار خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، وقد مات أبوه وورثه مالاً كثيراً، فقال: يا عبد الواحد بن زيد ـ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ـ فقلت: نعم حبيبي، فقال لي: أشهدك أني قد بعت نفسي ومالي بأن لي الجنة، فقلت له إنّ حدّ السيف أشدّ من ذلك، وأنت صبي، وإني أخاف أن لا تصبر وتعجز عن ذلك، فقال: يا عبد الواحد أبايع الله بالجنة ثم أعجز أنا أشهد الله أني قد بايعته أو كما قال رضي الله عنه.(1/323)
قال عبد الواحد: فتقاصرت إلينا أنفسنا وقلنا: صبي يعقل ونحن لا نعقل، فخرج من ماله كله تصدق به إلا فرسه وسلاحه ونفقته، فلما كان يوم الخروج كان أوّل من طلع علينا، فقال: السلام عليك يا عبد الواحد، فقلت: وعليك السلام ربح البيع؛ ثم سرنا وهو معنا يصوم النهار ويقوم الليل ويخدمنا ويخدم دوابنا، ويحرسنا إذا نمنا حتى إذا انتهينا إلى بلاد الروم؛ فبينما نحن كذلك إذا به قد أقبل، وهو ينادي واشوقاه إلى العيناء المرضية؛ فقال أصحابي: لعله وسوس هذا الغلام واختلط عقله؛ فقلت: حبيبي وما هذه العيناء المرضية، فقال: إني غفوت غفوة فرأيت كأنه أتاني آت. فقال لي: اذهب إلى العيناء المرضية فهجم بي على روضة فيها نهر من ماء غير آسن، وإذا على شط النهر جوار عليهنّ من الحليّ والحلل ما لا أقدر أن أصفه؛ فلما رأينني استبشرن وقلن هذا زوج العيناء المرضية، فقلت: السلام عليكنّ أفيكنّ العيناء المرضية؟ فقلن: نحن خدمها وإماؤها امضِ أمامك فمضيت أمامي، فإذا بنهر من لبن لم يتغير طعمه في روضة فيها من كل زينة، فيها جوار لما رأيتهنّ افتتنت بحسنهنّ وجمالهنّ، فلما رأينني استبشرن بي وقلن: والله هذا زوج العيناء المرضية؛ فقلت: السلام عليكنّ أفيكنّ العيناء المرضية فقلن: وعليك السلام يا وليّ الله نحن خدمها وإماؤها، فتقدم أمامك فتقدّمت؛ فإذا أنا بنهر من خمر وعلى شط الوادي جوار أنسينني من خلفت؛ فقلت: السلام عليكنّ أفيكنّ العيناء المرضية قلن: لا نحن خدمها وإماؤها امض أمامك فمضيت أمامي؛ فإذ بنهر آخر من عسل مصفى وجوار عليهن من النور والجمال ما أنساني ما خلفت؛ فقلت السلام عليكنّ أفيكنّ العيناء المرضية فقلن: يا وليّ الله نحن إماؤها وخدمها، فامض أمامك فمضيت إلى خيمة من درّة بيضاء، وعلى باب الخيمة جارية عليها من الحلي والحلل ما لا أقدر أن أصفه، فلما رأتني استبشرت ونادت في الخيمة أيتها العيناء المرضية هذا بعلك قد قدم.(1/324)
قال: فدنوت من الخيمة ودخلت. فإذا هي قاعدة على سرير من ذهب مكال بالدّر والياقوت؛ فلما رأيتها أفتتنت بها، وهي تقول: مرحباً بك يا وليّ الرحمن قد دنا لك القدوم عليها، فذهبت لأعتنقها فقالت: مهلاً فإنه لم يؤذن لك أن تعانقني لأن فيك روح الحياة، وأنت تفطر الليلة عندنا. قال: فانتبهت يا عبد الواحد ولا صبر لي عنها.
قال عبد الواحد: فما انقطع كلامنا حتى ارتفعت لنا سربة من العدوّ، فجعل الغلام فعددت تسعة من العدو قتلهم، وكان هو العاشر فمررت به، وهو يتشحَّط في دمه وهو يضحك ملء فيه حتى فارق الدنيا رضي الله عنه ونفعنا به آمين.
(فصل) في الإنفاق في سبيل الله. قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة: 261).
وأخرج ابن ماجه عن ثمانية من الصحابة قالوا: قال رسول الله: "مَنْ أَرْسَلَ بِنَفَقَةٍ فِي سَبِيلَ الله وأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمِ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بِنَفْسِهِ فِي سَبيلِ الله وَأَنْفَقَ فِي وَجْهِ ذلِكَ فَلَهُ بِكُلِّ دِرْهَمِ سَبَعمائَةِ ألْفِ دِرْهَمِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآية" {وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (سورة البقرة: 261).(1/325)
وعن زيد بن خالد الجهني: "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا" وأبو داود عن أبي أمامة: "مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجْهِّز غَازِياً أَوْ يخْلف غَازِياً فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ الله بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ". ومسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: "جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هذِهِ فِي سَبِيلِ الله، فَقَالَ رَسُولُ الله: لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ سَبُعُمائَةِ نَاقَةٍ كُلَّهَا مَخْطُومَةٌ". والترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: "شهدتَ النبي، وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان رضي الله عنه فقال: يا رسول الله عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه". وأحمد عن عبد الرحمن بن سمرة قال: "جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَانُ رَضِيَ الله عَنْهُ بِألْفِ دِينَارٍ فِي كُمّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَة، فَنَثَرَهَا في حِجْرهِ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا ضَرّ عُثْمَان مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ، يُرَدّدُهَا مِرَاراً". وعن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرساً.(1/326)
وعن حذيفة: "بَعَثَ النَّبيُّ إلى عُثْمَانَ فِي جَيْشِ العُسْرَةِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ عُثْمَانُ بِعَشرَةِ آلافِ دِينَارٍ فَصُبَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ النَّبيُّ يَقُولُ: بِيَدِهِ وَيَقَلِّبُهَا ظَهْراً لِبَطْنٍ وَيَقُولُ: غَفَرَ الله لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْم القِيَامَةِ مَا يُبَالِي الله مَا عَمِلَ بَعْدَهَا". وعن أنس: "بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِي بَيْتِها إذْ سَمِعَتْ رَجَّةً فَقَالَتْ: مَا هذَا؟ قَالُوا: عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَكَانَتْ سَبْعَمائَة بَعِيرٍ فَارْتَجَّتِ المَدِينَةُ مِنَ الصَّوْتِ، فَقَالَت عَائَشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمنِ يَدْخُلَ الجَنَّةَ حَبْواً فبلغ عبد الرحمن فقال: إن استطعت لأدخلنَّها قائماً فجعلها بأحمالها وأقتابها في سبيل الله عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {مَنْ فَدَى أَسِيراً مِنْ أَيْدِي العَدُوِّ فَأَنا ذلِكَ الأسِيرُ}.
(فصل): في الفرار من الزحف. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرِّقاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّراً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَمَأَوَاهُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرِ} (سورة الأنفال: 16).(1/327)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ: أي المُهْلِكَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولِ الله وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشّرْكُ بِالله وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَفْسِ التَي حَرّمَ الله إلَّا بِالحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَحْفِ وَقَذْفُ المُحْصنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ". وأحمد: "مَنْ لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ مُحْتَسِباً وَسَمِعَ وَأَطَاعَ فَلَهُ الجَنَّةُ أَوْ دَخَلَ الجَنَّةَ. وَخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشّرْكُ بِالله وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقَ وَبَهْتُ مُؤْمِنِ، وَالفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقَ". والطبراني: "ثَلاثَةٌ لا يَنْفَعِ مَعَهُنَّ عَمَلٌ: الشّرْكُ بِالله وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وَالفَرَارُ مِنَ الزّحْفِ" وأخرج أحمد والبزار: "الفَارُّ مِنَ الطَّاعُونِ كَالفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٌ". والشيخان عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سمعت رسول الله يقول: "إذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْها فِراراً مِنْهُ".
(تنبيه) إن الفرار من الزحف: أي من كافر أو كفار لم يزيدوا على الضعف لغير تحرّف لقتال أو تحيُّز إلى فئة يستنجد بها من الكبائر المهلكة.
(فصل): في الغلول. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيَ أَنْ يغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسِبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (سورة آل عمران: 161).(1/328)
وأخرج الطبراني عن المستورد قال: قال رسول الله: "رُدّوا المَخِيطَ وَالخِيَاط مَنْ غَلَ مَخِيطاً أَوْ خِيَاطاً كُلِّفَ يَوْمَ القِيَامَةِ أنْ يَجِيءَ بِهِ وَلَيْسَ بِجَاءٍ" وأبو داود والحاكم: "إذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ" والطبراني: "لا يَغِلُّ مُؤْمِنٌ". ومسلم عن عمر: لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله: فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة غلها. ثم قال: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ثلاثاً. قال: فخرجت فناديت ألا أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ثلاثاً". وأبو داود والطبراني: "أُتِيَ بِنطْعٍ مِنَ الغَنِيمَةِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هذَا لَكَ تَسْتَظِلُّ بِهِ مِنَ الشَّمْسِ، قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنْ يَسْتَظِلُ نَبِيُّكُمْ بِظِلَ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ". وأبو داود: "مَنْ كَتَمَ عَلَى غَالَ فَهُوَ مِثْلُهُ" والطبراني: "إنْ لَمْ تغلَّ أُمّتِي لَمْ يَقُمْ لَهُمْ عَدُوٌّ أبَداً" قال أبو ذر لخبيب بن مسلمة: هل يثبت لكم العدوّ حلْبَ شاة؟ قال: نعم وثلاث شياه غزر. قال أبو ذرّ: غللتم وربّ الكعبة. وأحمد والنسائي: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ الله وَلَمْ ينْوِ إلاّ عِقَالاً فَلَهُ مَا نَوَى". وأبو داود عن أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي غرضاً من أغراض الدنيا فقال النبي: لا أجر له، فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عد لرسول الله لعلك أن لا تفهمه، فقال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي غرضاً من أغرض الدنيا. قال: لا أجر له. فقالوا للرجل: عد لرسول الله فقال له: الثالثة فقال: لا أجر له.
((1/329)
تنبيه) إن الغلول هو اختصاص أحد الغزاة سواء الأمير وغيره بشيء من مال الغنيمة قبل القسمة من غير أن يحضره إلى أمير الجيش ليخمسه ويقسمه قسمة شرعية. وأن قلّ المأخوذ فهو حرام بل هو كبيرة كما صرحوا به.
(فائدتان): إحداهما أنه إذا حصل شيء من الغنيمة بيد أحد من الجند، فإن لم يخمس ولم يقسم الباقي قسمة شرعية وجب الخمس في الذي صار إليه، ولا يحلّ له الانتفاع بالباقي حتى يعلم أنه حصل لكل من الغانمين بقدر حصته من هذا، فإن تعذر صرف ما صار إلى مستحقه دفعه إلى القاضي العدل كسائر الأموال الضائعة، فإلى عالم موثوق به وأعلمه الحال ليصرفه إلى مصارفه. وثانيتهما أنه قال بعضهم كما يحرم الغلول من الغنيمة يحرم الغلول من الأموال المشتركة بين المسلمين، ومن بيت المال والزكاة، فلا فرق في غالِّ الزكاة بين أن يكون من مستحقيها وغيرهم، لأن الظفر ممنوع فيها إذ لا بدّ فيها من النية، بل لو أفرز من المال قدرها ونوى لم يجز الظفر أيضاً لتوقف ذلك على إعطاء المالك، فعند عدم إعطائه يتعذر الملك فكان باقياً على مالكه حتى يعطيه، فاتضح امتناع الظفر في مال الزكاة مطلقاً.
{باب الكهانة والعرافة والطيرة والتنجيم والسحر وإتيان أصحابها}(1/330)
أخرج البزار عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيّرَ أَوْ تُطيرَ لَهُ أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكِهِّنَ لَهُ أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فقد كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ " وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، كفر بما أنزل على محمد، والطبراني من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برىء مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم يقبل له صلاة أربعين يوماً. وهو: من أتى كاهناً فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدقه بما قال فقد كفر. وهو أيضاً: من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً يؤمن بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد. ومسلم: من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً. وأبو داود وابن ماجه: من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد. والشيخان عن أبي هريرة: اجَتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشّرْكُ بِالله وَالسّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الّتي حَرَّمَ الله إلَّا بِالحقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ. والنسائي عنه: من عقد عقدة، ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق بشيء يوكل إليه، أي من علق على نفسه الحروز والعوذ يوكل إليه. وأحمد عن عثمان بن العاص قال سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: كَانَ لِدَاوُدَ نِبيِّ الله سَاعةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ يَقُولُ: يَا آلَ دَاوُدَ قُومُوا فَصَلُّوا، فَإِنَّ هذِهِ السَّاعَةَ يَسْتَجيبُ الله فِيهَا الدُّعَاءَ إلَّا لِساحِرٍ أَوْ عَاشِرٍ.
((1/331)
تنبيه) الكهانة: هي الإخبار عن المغيبات في مستقبل الزمان، وادعاء الغيب، وزعم أن الجنّ تخبره بذلك. والعرافة: هي ادعاء معرفة السارق ومكان الضالة. والطيرة هي التشاؤم بالشيء. والتنجيم هو ادّعاء المنجم معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر والسيل وهبوب الريح، وتغير الأسعار ونحو ذلك، وهو يزعم أنه يدرك ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها، وظهورها في بعض الأزمان، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره، فمن ادّعى علمه بذلك فهو فاسق، بل ربما يؤدّي ذلك إلى الكفر. والسحر تخييل يؤثر في الأبدان بالأمراض والجنون والموت، فكل ما ذكر حرام إجماعاً، بل هو من الكبائر اتفاقاً يكفر في بعض الأحوال. وقال الشافعي: إنّ القتل بالسحر يوجب القصاص على من قتل به. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن الساحر يقتل مطلقاً إذا علم أنه ساحر بإقراره أو ببينة تشهد أنه ساحر، ويصفونه بصفة يعلم أنه ساحر، ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه. وسئل أبو حنيفة: لمَ لم يكن الساحر بمنزلة المرتدّ حتى تقبل توبته؟ فقال: لأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد، ومن كان كذلك يقتل مطلقاً.(1/332)
وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت: أنا ساحرة هل لي من توبة؟ قالت: وما سحرك؟ فقالت: سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت أطلب علم السحر، فقالا: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول ففكرت في نفسي فقلت: لا فعلت وجئت إليهما، فقلت: قد فعلت فقالا لي: ما رأيت لما فعلت. فقلت: ما رأيت شيئاً، فقالا لي: فاتقي الله ولا تفعلي، فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي، فذهبت وفعلت، فرأيت كأن فارساً مقنعاً بالحديد خرج من فرجي، فصعد السماء، فجئتهما فأخبرتهما. فقالا: ذاك إيمانك خرج منك، وقد أحسنت السحر. قلت: وما هو؟ قالا: لا تريدين بشيء فتُصوِّريهِ في وهمك إلا كان، فتصوِّريهِ نفسي حباً من حنطة فإذا أنا بحب. فقلت انزرع فانزرع، فخرج من ساعته سنبلاً. فقلت: انطحِن، فانطحن من ساعته وانخبز، وأنا لا أريد شيئاً أصوّره في نفسي إلا حصل. فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس لك توبة. وروى سفيان عن عامر الذهبي: أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في است الحمار، ويخرج من فيه فاستلّ جندب سيفه وقتله به، وهو جندب بن كعب الأزدي، وهو الذي قال النبي في حقه: يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بها بين الحق والباطل. فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل الساحر.
{باب الزنى}(1/333)
قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (سورة الإسراء: 32) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الّتِي حَرَّمَ الله إلَّا بِالحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ آثاماً} (سورة الفرقان: 68) أي عقوبة. قال مجاهد: هو اسم وادٍ في جهنم وقيل بئر فيها {يُضَاعَف لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدُ فِيهِ مُهَاناً إلَّا مَنْ تَابَ} (سورة الفرقان: 69) وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} (سورة النور: 2) أي في حكمه {إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ} (سورة النور: 2) هذا في غير المحصن.(1/334)
أما المحصن فيرجم إلى أن يموت لما ثبت في الخبر الصحيح. وأخرج الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال: سَأَلْتُ رَسُولَ الله: أيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله؟ قَالَ: أنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: إنَّ ذلِكَ تَعَظِيمٌ قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أيّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ. وأبو داود والترمذي: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقَ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" زاد النسائي: "فَإذَا فَعَلَ ذلِكَ خَلَعَ رِبْقَةَ الإيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ فَإِنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ". وأبو داود والبيهقي والترمذي: "إذَا زَنَى الرَّجُلُ خَرَجَ مِنْهُ الإيمَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ كَالظَّلَّةِ فَإِذَا أَقْلَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الإيمَانُ" والحاكم: "مَنْ زَنَى أوْ شَرِبَ الخَمْرَ نُزِعَ مِنْهُ الإيمَانُ كَمَا يَخْلَعُ الإنْسَانُ القَمِيصَ مِنْ رَأْسِهِ". وأبو داود والنسائي: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إله إلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله إلا فِي إحْدَى ثَلاثٍ: زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَمَنْ خَرَج مُحَارِباً بِالله وَرَسُولِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ أَوُ يُصَابُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الأرْضِ، وَمَنْ يَقْتُلُ نَفْساً فَيُقْتَلُ بِهَا". وابن أبي الدنيا: "مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لا يَحِلُّ لَهُ".(1/335)
وابن حبان في صحيحه أنه قال: "تَعَبّدَ عَابِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَعَبَدَ الله فِي صَوْمَعَتِهِ سِتِّينَ عَاماً، فَأَمْطَرَتِ الأرْضِ فَاخْضَرَّتْ فَأَشْرَفَ الرَّاهِبُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ: لَوْ نَزَلْتَ فَذَكَرْتَ الله تَعَالَى فَازْدَدْتَ خَيْراً، فَنَزَلَ وَمَعَهُ رَغِيفٌ أَوْ رَغِيفَانِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الأرْضِ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهَا وَتُكَلِّمُهُ حَتَّى غَشِيها، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ، فَوُزِنَتْ عِبَادَةُ سِتِّينَ سَنَةٍ بِتِلْكَ الزَّنْيَة، فَرَجَحَت الزَّنيَةُ، بِحَسَنَاتِهِ". والبزار: "إنَّ السَّمَواتِ السَّبْعَ وَالأرضينِ السَّبْعَ لَيَلْعَنَّ الشَّيْخَ الزَّانِي، وَإِنَّ فُرُوجَ أَهْلِ النَّارِ لَيُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ نَتْنُ رِيحهَا" والخرائطي وغيره: "المُقِيمُ عَلَى الزِّنَى كَعَابِدِ وَثَنٍ" أعاذنا الله منه. وأبو داود: "مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَةَ وَسَكَنَ مَعَهَا فَإِنَّهُ مِثْلُهَا" والبخاري: "رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ فَأَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ إلى أنْ قَالَ: فَانْطَلَقَا بِيَ إلَى ثُقْبٍ مِثْلَ التَّنُّورِ أَعْلاهُ ضَيّقٌ، وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإِذَا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أَنْ يَخْرجُوا، فَإِذا خَمَدَت رَجَعُوا فِيهَا وَفِيها رِجَالٌ وِنِسَاءٌ عُرَاةٌ" الحديث وفي آخره: "فَأَمّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي".(1/336)
وابن أبي الدنيا والخرائطي عن عليّ كرم الله وجهه قال: إن الناس يرسل عليهم يوم القيامة ريح منتنة حتى يتأذَّى منها كلّ برّ وفاجر حتى إذا بلغت منهم كلّ مبلغ ناداهم منادٍ يبلغهم الصوت فيقول لهم: هل تدرون هذه الريح التي آذتكم؟ فيقولون: لا ندري والله إلا أنها قد بلغت منَّا كل مبلغ، فيقال: إنها ريح فروج الزناة الذين لقوا الله بزناهم، ولم يتوبوا منه، ثم ينصرف عنهم.
وروي عن النبي: "إنَّ إِبْليسَ يَبُثُّ جُنُودَهُ فِي الأَرْضِ وَيَقُولُ: أيُّكُمْ أَضَلَّ مُسْلِماً أُلْبسُهُ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً فَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلان حَتَّى طَلّقَ امْرَأَتَهُ فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً سَوْفَ يَتَزَوَّجُ غَيْرَهَا، ثُمَّ يَجِيءُ الآخَرُ فَيَقُولُ لَمْ أَزَلْ بِفُلان حَتَّى أَلْقَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ العَدَاوَةَ، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً سَوْفَ يُصَالِحُهُ، ثُمَّ يَجِيءُ الآخَرُ فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِفُلانٍ حَتَّى زَنَى، فَيَقُولُ: إبْلِيسُ نِعْمَ مَا فَعَلْتَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَضَعُ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ" نعوذ بالله من شرّ الشيطان وجنوده، وعنه أيضاً: "إنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِياً يُقَالُ لَهُ جُبُّ الحُزْنِ فِيهِ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ، كُلُّ عَقْرَبٍ تَعْدِلُ البَغْلَ لَهَا سَبْعُونَ شَوْكَةٍ فِي كُلِّ شَوْكَةٍ زاوِيَةُ سَمَ تَضْرِبُ الزَّانِي، وَتُفْرِغُ سُمَّها فِي جِسْمِهِ يَجِدُ مَرَارَةَ وَجَعِهَا ألْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَتَهَرَّى لَحْمُهُ وَيَسِيلُ مِنْ فَرْجِهِ القَيْحُ والصَّدِيدُ".(1/337)
وورد: "إنَّ فِي الزّبُورِ مَكْتُوباً: إنَّ الزناة يعلقون بفروجهم في النار، ويضربون عليها بسياط من حديد، فإذا استغاث أحدهم من الضرب نادته الزبانية أين كان هذا الصوت وأنت تضحك وتفرح وتمرح ولا تراقب الله ولا تستحي منه؟" وورد أيضاً: "إنّ من زنى بامرأة مزوّجة كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة، فإذا كان يوم القيامة يحكم الله تعالى زوجها في حسناته هذا إذا كان بغير علمه، فإن علم وسكت حرّم الله عليه الجنة، لأنّ الله تعالى كتب على بابها إنك حرام على الديوث، وهو الذي يعلم الفاحشة في أهله ويسكت ولا يغار".
وورد أيضاً: من وضع يده على امرأة لا تحل له بشهوة، جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فإن قبلها قرضت شفتاه في النار، فإن زنى بها نطقت فخذاه وشهدت عليه يوم القيامة وقالت: أنا للحرام ركبت، فينظر الله إليه بعين الغضب فيقع لحم وجهه فيكابر ويقول: ما فعلت فيشهد عليه لسانه ويقول: أنا بما لا يحلّ لي نطقت وتقول يداه: أنا للحرام تناولت وتقول عينه: أنا للحرام نظرت وتقول رجله: أنا لما لا يحل لي مشيت، ويقول فرجه: أنا فعلت، ويقول الحافظ من الملائكة: وأنا سمعت. ويقول الملك الآخر: وأنا كتبت. ويقول الله تعالى: وأنا اطلعت وسترت، ثم يقول: يا ملائكتي خذوه ومن عذابي فأذيقوه قد اشتدّ غضبي على من قلّ حياؤه مني.
(تنبيه) الزنى أكبر الكبائر بعد القتل إجماعاً، ومن ثم قرنه تعالى بالشرك والقتل في الآية السابقة. وقيل هو أكبر من القتل فهو الذي يلي الشرك، وأفحش أنواعه الزنى بحليلة الجار، ويكفر مستحله، ومن تمنى أن لا يحرم.(1/338)
واعلم أن حدّ الزاني المحصن الرجم فقط إلى أن يموت، والمحصن هنا الواطىء أو الموطوءة في القبل في نكاح صحيح ولو مرة في عمره، ويجوز للمضطر قتله وأكله، كتارك الصلاة بلا عذر ولا قصاص على من قتلهما وحدّ غيره جلد مائة، وتغريب عام ولاء إن كان حراً، ومن زنى بكراً ثم محصناً يجلد ثم يرجم، وحدّ من فيه رقّ وتغريبه نصف الحرّ، وروى عن عمرو بن ميمون قال: كنت في حرث فرأيت قروداً كثيرة قد اجتمعن فرأيت قردة وقرداً اضطجعا، ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقها وناما، فجاء قرد آخر فغمزها فنظرت إليه، واستلت يدها من تحت رأس القرد، ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وأنا أنظر، ثم رجعت إلى موضعها، فذهبت تدخل يدها تحت عنق القرد فانتبه فشمّ دبرها. قال: فاجتمعت القردة، فجعل يشير إليها فتفرقت القردة، فلم ألبث أن جيء بذلك القرد بعينه أعرفه، فانطلقوا بها وبه إلى موضع كثير الرمل، فحفروا لها حفرة فجعلوهما فيها ثم رجموهما حتى ماتا.(1/339)
وعن ابن عباس أنه قال: كان في بني إسرائيل راهب متفرّد في صومعته دهراً طويلاً، وكان ملك يأتيه كل يوم غدواً وعشياً ويقول له: ألك حاجة وأنبت الله له في الحجر فوق صومعته كرماً يحمل له في كل يوم قطفاً من العنب، وكان إذا عطش مدّ يده، فيسكب فيها الماء من الهواء، فبينما هو كذلك إذا هو بامرأة ذات حسن وجمال مع العشاء، فنادته يا راهب أسألك بحقّ المعبود إلا ما بيتني عندك الليلة، فإن مكاني بعيد فقال: اصعدي، فلما صارت عنده رمت ثوبها، وقامت عريانة تجلو نفسها فغطى وجهه، ثم قال لها: ويلك استتري فقالت: والله لا بدّ لي منك أن تتمتع الليلة بي. فقال لنفسه: ما تقولين؟ فقالت: اتقّ الله، فقال لها: ويحك تريدين أن تذهبي بعبادتي وتذيقيني سرابيل القطران ومفظعات النيران، وأخاف عليكِ من نار لا تطفأ وعذاب لا يفنى، وأخاف أن يغضب ربنا فلا يرضى فراودته نفسه فقال لها: أعرض عليك ناراً صغيرة، فإذا صبرت عليها متعتك الليلة، فقام وملأ السراج زيتاً وغلظ فتيلته والمرأة تسمع وتبصر، ثم أخذ أصبعيه فأدخلهما في السراج، فصاح بها ملك من السماء أحرقي إبهامه فاكلت إبهامه، ثم رجعت إلى السبابة فأكلتها، ثم كذلك حتى أكلت يده، فصاحت المرأة صيحة فماتت، فسترها بثوبها وقام إلى الصلاة فلما أصبح وقف إبليس عند صومعته وصرخ به في المدينة: إن الراهب قد زنى بفلانة، وقتلها، فركب ملك المدينة في مملكته وصاح به، فأجابه فقال: أين فلانة؟ فقال: عندي، فقال: قل لها هل تنزل؟ قال: إنها ماتت.(1/340)
قال: فما رضيت بالزنى حتى قتلتها فخربوا الدير وهدموا الصومعة، وجعلوا في رقبته حبلاً وحملت المرأة، وجيء بالرجل موقف العذاب، وكان القوم يبشرون الزاني والزانية بالمناشير، ويده ملفوفة في كمه لا يعلمهم ولا يحدثهم بقصته، فوضع المنشار على رأسه، وقال لأصحاب العذاب جروا فجروا، وبلغ إلى عنقه فتأوّه فأوحى الله إلى جبريل: أن قل له لا تنطق بها أنا أنظر إليك فقد أبكيت حملة العرش وسكان سمواتي، وعزتي وجلالي لئن تأوهت ثانية لأهدمنّ السموات ولأخسفنّ بمن في الأرض.
قال ابن عباس: فرد الروح في المرأة فقامت وقالت: والله هو مظلوم، وما زنى بي وما قتلني وأنا بخاتم ربي، ثم قصت عليهم القصة فأخرجوا يده فإذا هي محرقة فقالوا: لو علمنا ما نشرناك وخرّ ميتاً، وخرّت المرأة ميتة فحفروا لهما قبراً فوجدوا فيه مسكاً وكافوراً، ثم غسلوهما وكفنوهما وصلوا عليهما ودفنوهما، فنادى منادٍ من السماء: إن الله تعالى قد نصب الميزان تحت العرش وأشهد ملائكته أني زوجته خمسين ألف عروس من الفردوس، وهكذا أفعل بأهل المراقبة نفعنا الله به.(1/341)
وحكي عن الحسن قال: كانت امرأة بغي في زمن بني إسرائيل لها ثلث الحسن لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وأنه أبصرها عابد فأعجبته، فذهب وعمل بيده، وعالج فجمع مائة دينار، ثم جاء إليها وقال: إنك أعجبتيني فانطلقت فعملت بيدي، وعالجت حتى جمعت مائة دينار. فقالت: ادخل فدخل وكان لها سرير من ذهب، فجلست على سريرها ثم قالت له: هلمّ، فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة ذكر مقامه بين يدي الله الرقيب لأعمال العباد فأخذته رعدة فقال لها: اتركيني أخرج ولك المائة دينار، قالت: ما بدا لك وقد زعمت أني أعجبتك، فلما قدرت عليّ فعلت الذي فعلت قال: فزعاً من الله ومن مقامي بين يديه، وقد غضب عليّ فأنت أبغض الناس إليّ فقالت: إن كنت صادقاً فمالي زوج غيرك، فقال: دعيني أخرج، فقالت: له: لا إلا أن تجعل لي أنك تتزوج بي، قال: افعل فتقنع بثوبه، ثم خرج إلى بلده، فارتحلت نادمة على ما كان منها حتى قدمت بلده، فسألت عن اسمه ومنزله فدلت عليه وكانت تعرف بالملكة، فقيل له: إن الملكة قد جاءت، فلما رآها شهق شهقة فمات رحمه الله. قال: فسقطت في يدها. وقالت: أما هذا فقد فاتني هل له من قريب؟ قالوا: له أخ رجل فقير، قالت: فأنا أتزوج به حباً لأخيه، فتزوجته فيسر الله تعالى منه سبعة أنبياء.(1/342)
وحكى اليافعي: أنه كان شابّ في بني إسرائيل لم يرَ في زمانه أحسن منه، وكان يبيع القفاف، فبينما هو ذات يوم يطوف بقفافه إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل، فلما رأته رجعت مبادرة، فقالت لابنة الملك إني رأيت شاباً بالباب يبيع القفاف لم أر شاباً أحسن منه فقالت لها: أدخليه فخرجت إليه وقالت: يا فتى ادخل معي نشتر منك، فدخل فأغلقت الباب دونه، ثم دخل باباً آخر، فكذلك حتى أغلقت عليه ثلاثة أبواب، ثم استقبلته بنت الملك كاشفة عن وجهها ونحرها فقال اشتروا حاجتكم. فقالت: إنا لم ندعك لهذا إنما دعوناك لكذا يعني تراوده عن نفسه. فقال لها: اتقي الله. قالت: إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت عليّ تكابرني عن نفسي، فوعظها فأبت فقال: ضعوا لي وضوءاً فقالت: يا جارية ضعي له وضوءاً فوق الجوشق مكاناً لا يستطيع أن يفرّ منه، قال: وكان من فوق الجوشق إلى الأرض أربعون ذراعاً، فلما صار في أعلى الجوشق قال: اللهم إني دعيت إلى معصيتك، وإني أختار أن أرمي بنفسي من الجوشق ولا أرتكب المعصية. ثم قال: بسم الله وألقى نفسه من أعلى الجوشق، فأهبط الله إليه ملكاً من الملائكة، فأخذ بضبعيه فوقع قائماً على رجليه، فلما صار في الأرض قال: اللهم إن شئت رزقتني رزقاً تغنيني به عن بيع هذه القفاف، فأرسل الله إليه جراداً من ذهب، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقاً رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه قال: فنودي إن هذا الذي أعطيتك جزء من خمسة وعشرين جزءاً من أجر صبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوشق، فقال: اللهم لا حاجة لي فيما ينقص مما لي عندك في الآخرة فرفع ذلك منه، وقيل للشيطان: هلا أغويته؟ يعني بارتكاب الفاحشة فقال: كيف أقدر أغوي من بذل نفسه لله؟ رضي الله عنه ونفعنا به.(1/343)
وحكي أيضاً عن بعض الصالحين قال: بينما أنا أطوف بالكعبة، إذا بجارية على عنقها طفل صغير وهي تنادي يا كريم يا كريم عهدك القديم قال: فقلت لها: ما هذا العهد الذي بينك وبينه؟ قالت: ركبت في سفينة ومعنا قوم من التجار، فعصفت بنا ريح فغرقت السفينة وجميع من فيها، ولم ينجُ منهم أحد غيري، وهذا الطفل في حجري وأنا على لوح ورجل أسود على لوح آخر، فلما أضاء الصبح نظر الأسود إليّ وجعل يدافع الماء بيده حتى لصق بي، واستوى معنا على اللوح وجعل يراودني عن نفسي، فقلت: يا عبد الله أما تخاف الله ونحن في بلية لا نرجو الخلاص منها بطاعته فكيف بمعصيته، فقال: دعي عني هذا فوالله لا بدّ لي من هذا الأمر، قالت: وكان هذا الطفل نائماً في حجري فقرصته فاستيقظ وبكى فقلت: يا عبد الله دعني أنوّم هذا الطفل، ويكون من أمرنا ما قدّر الله، فمدّ الأسود يده إلى الطفل ورمى به في البحر، فرمقت إلى السماء بطرفي وقلت: يا من يحول بين المرء وقلبه حل بيني وبين هذا الأسود بحولك وقوّتك، إنك على كل شيء قدير، فوالله ما استوعبت الكلمات حتى ظهرت دابة من دواب البحر ففتحت فاها، والتقمت الأسود وغاصت به في البحر، وعصمني الله منه بحوله وقدرته، وهو القادر على ما يشاء سبحانه وتعالى، قالت: وما زالت الأمواج تدافعني حتى رمتني إلى جزيرة من جزائر البحر، فقلت في نفسي: آكل من بقلها وأشرب من مائها حتى يأتي الله بأمره، فلا فرج لي إلا منه فمكثت أربعة أيام، فلما كان في اليوم الخامس لاحت لي سفينة في البحر على بعد، فعلوت على تلّ، وأشرت إليهم بثوب كان عليّ، فخرج إليّ منهم ثلاثة أنفس في زورق، فركبت معهم فلما دخلت السفينة الكبرى، إذا بالطفل الذي رمى به الأسود في البحر عند رجل منهم، فلم أتمالك أن تراميت عليه، وقبلت بين عينيه وقلت: والله ولدي وقطعة من كبدي.(1/344)
فقال لي أهل السفينة أمجنونة أنت أم خبل عقلك؟ فقلت: والله ما أنا بمجنونة ولا خبل عقلي، ولكن خبري كيت وكيت، وذكرت لهم القصة إلى آخرها، فلما سمعوا ذلك مني أطرقوا رؤوسهم وقالوا: يا جارية قد أخبرتينا بأمر تعجبنا منه، ونحن أيضاً نخبرك بأمر تعجبين منه: بينما نحن نجري بريح طيبة إذ بدابة قد اعترضتنا، ووقفت أمامنا وهذا الطفل على ظهرها، وإذا مناد ينادي إن لم تأخذوا هذا الطفل من على ظهرها وإلا هلكتم، فصعد واحد على ظهرها وأخذ الطفل، فلما دخل به في السفينة غاصت الدابة في البحر، وقد تعجبنا من هذا ومما أخبرتنا، وقد عاهدنا الله تعالى أن لا يرانا على معصية بعد هذا اليوم قال: فتابوا عن آخرهم. قلت: سبحان اللطيف جميل العوائد، سبحان مدرك الملهوف عند الشدائد، حمانا من الزنى الرب الودود وجعلنا من خير العباد.
((1/345)
خاتمة): في زنى العين واليد وفي الخلوة بالأجنبية. أخرج الشيخان عن أبي هريرة عن النبي قال: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى يُدْرِكُ ذلِكَ لا مَحَالَةَ، فَالعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ وَاللِّسانُ زِنَاهُ الكَلامُ، وَاليَدُ زِنَاهَا البَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الخُطَا، وَالقَلْبُ يَهْوَى ذلِكَ وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذلِكَ الفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ" وفي رواية لمسلم: "وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا البَطْشُ، وَالرِّجْلانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا المَشي، والفَمُ يزْنِي فَزِنَاهُ التَّقْبِيل" وأحمد والطبراني: "العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلانِ تَزْنِيَان والفَرْجُ يَزْنِي. وَهُمَا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى امْرَأَةٍ أَوّلَ رَمْقَةٍ ثُمَّ يَغَضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ الله تَعَالَى لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ" قال البيهقي: يعني إنما أراد أن يقع بصره عليها من غير قصد فيصرف بصره عنها تورعاً.(1/346)
والطبراني والحاكم: أنه قال يعني عن ربه عزّ وجلّ: "النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيس مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إيماناً يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ" والأصبهاني: "كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَّا عَيْنٌ غَضّتْ عَنْ مَحَارِمِ الله، وَعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي سَبيلِ الله، وَعَيْنٌ خَرَجَ مِنْهَا مَثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ الله" وهو أيضاً: "ثَلاثَةٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي ظِلِّ العَرْشِ آمِنِينَ وَالنَّاسُ فِي الحِسَابِ: رَجُلٌ لَمْ يَأْخُذْهُ فِي الله لَوْمَةُ لائِمٍ، وَرَجُلٌ لَمْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَا لا يَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلٌ لَمْ يَنْظُرْ إلَى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِ" والبيهقي عن الحسن مرسلاً قال: بلغني أن رسول الله قال: "لَعَنَ الله النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إلَيْهِ". ومسلم عن جرير: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله عَنْ نَظْرَةِ الفُجْأَةِ فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ" وصح: ما من صباح إلا وملكان يُنَادِيَانِ: وَيل للرّجالِ مِن النساءِ، وويلِ للنساء من الرجال.(1/347)
والطبراني عن معقل بن يسار: "لأَنْ يَطْعنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمَخِيطٍ أَوْ بِمسَلّةٍ مِنْ حَديدِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسّ امْرَأَةً لا تَحِلُ لَهُ" وهو: "إيَّاكُمْ وَالخَلْوَةَ بِالنِّساءِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلا رَجُلٌ بِامْرَأَةِ إلَّا دَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا، ولأنْ يَزْحَمَ رَجُلاً خَنْزِيرٌ مُتَلَطِّخٌ بِطِينٍ أَوْ حِمأ: أي طِينٌ أسْوَدٌ مُنْتِنٌ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْحَمَ منْكبَهُ مَنْكبَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ" وهو أيضاً: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِر فَلا يَخْلُونَّ بَامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مُحْرَمٌ" والحكيم: "إيَّاكُمْ وَمُحادَثَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لا يَخْلُو رَجُلٌ بَامْرَأَةٍ لَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ إلاّ هَمَّ بِهَا".(1/348)
وأحمد والبيهقي عن ابن سيرين قال: خرجنا فإذا بدابة فمن دنا منها قتلته. قال: فجاء رجل أعور قال: دعوني وإياها، فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها، فقالوا: حدثنا من أمرك، فقال: ما أصبت ذنباً قط إلا ذنباً واحداً بعيني هذه، فأخذت سهماً ففقأتها به. وروي عن كعب الأحبار قال: قحط بنو إسرائيل على عهد موسى عليه السلام، فسألوه أن يستسقي فقال: اخرجوا معي إلى الجبل فخرجوا، فلما صعدوا الجبل قال موسى: لا يتبعني رجل أصاب ذنباً، فانصرفوا جميعاً إلا رجلاً أعور يقال له برخ العابد، فقال له موسى: ألم تسمع ما قلت؟ قال: بلى قال: فلم تصب ذنباً قال: ما أعلمه إلا شيئاً أذكره، فإن كان ذنباً رجعت قال: ما هو؟ قال: مررت في طريق فإذا باب حجرة مفتوح فلمحت بعيني هذه الذاهبة شخصاً لا أعلم ما هو رجل أم امرأة؟ فقلت: لعيني أنت من بدني سارعت إلى الخطيئة لا تصحبيني بعدها، فأدخلت أصبعي فقلعتها فإن كان هذا ذنباً رجعت، فقال موسى: ليس هذا ذنباً. ثم قال له: استسق يا برخ، فقال: قدوس قدوس ما عندك لا ينفد وخزائنك لا تفنى وأنت بالبخل لا ترمى، فما هذا الذي لا تعرف به اسقنا الغيث الساعة الساعة. قال: فانصرفا يخوضان الوحل برحمة الله عزّ وجلّ.
وحكى الأصمعي قال: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام من طريق الشام، فبينما نحن سائرون إذ خرج علينا أسد عظيم الخلقة هائل المنظر، فقطع على الركب الطريق، فقلت لرجل إلى جانبي: أما في هذا الركب رجل يأخذ سيفاً، ويرد عنا هذا الأسد فقال: أما الرجل فلا أدري، ولكنني أعرف امرأة ترده بغير سيف فقلت: وأين هي؟ فقام وقمت معه إلى هودج قريب منا، فنادى يا بنية انزلي فردي عنا هذا الأسد، فقالت: يا أبت أيطيب قلبك أن ينظر إليّ الأسد، وهو ذكر وأنا أنثى، ولكن يا أبت قل للأسد ابنتي فاطمة تقرئك السلام، وتقسم عليك بالذي لا تأخذه سنة ولا نوم إلا ما عدلت عن طريق القوم.(1/349)
وحكى اليافعي عن بعض الصالحين قال: كان بالبصرة رجل يقال له ذكوان كان سيداً في زمانه؛ فلما حضرته الوفاة لم يبق أحد بالبصرة إلا شهد جنازته. قال: فلما انصرف الناس من دفنه نمت عند بعض القبور، وإذا ملك قد نزل من السماء وهو يقول: يا أهل القبور قوموا لأخذ أجوركم، فانشقت القبور عن أهلها، وخرج كل من فيها فغابوا ساعة، ثم جاؤوا وذكوان في جملتهم وعليه حلتان من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجوهر، وبين يديه غلمان يسبقونه إلى قبره، وإذا ملك ينادي هذا عبد كان من أهل التقوى فبنظرة واحدة وصلت إليه المحن والبلوى، فامتثلوا فيه أمر المولى فقرب من جهنم، فخرج إليه منها لسان أو قال ثعبان، فلدغ بعض وجهه فاسودّ ذلك الموضع، ونادى يا ذكوان لم يخف عن المولى من أمرك شيء هذه النفخة بتلك النظرة، ولو زدت لزدناك، فبينما هو كذلك، وإذا رجل قد أطلع رأسه من قبره، فقال: يا هؤلاء ما أردتم فوالله لقد متّ منذ تسعين سنة فما ذهبت حرارة الموت مني حتى الآن، فادعوا الله أن يعيدني كما كنت قال وبين عينيه أثر السجود.
((1/350)
تنبيه) اعلم أن زنى العين هو تعمد نظر شيء من الأجنبية المشتهاة، ولو منفصلاً منها كشعر وقلامة ظفر، أو كانت أمة عجوزاً فهو حرام على رجل، ولو مع أمن فتنة أو فقد شهوة، ويحرم نظر فرج صغيرة إلا على الأم زمن الرضاع والتربية، ونظر المرأة إلى الرجل ولو عبداً كعكسه، ويحل نظر فرج صغير ما لم يميز ويجب على المسلمة أن تحتجب عن الكافرة والفاسقة بزنى أو سحاق أو قيادة، وعن عبدها إن كانا فاسقين، ولو بغير الزنى، وأن زنى اليدين هو البطش، فحيث حرم نظر حرم مس، ويحرم غمز الرجل ساق محرمه أو رجلها وعكسه بلا حاجة، ويحرم تضاجع رجلين أو امرأتين عاريين في ثوب واحد، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش، ويجب التفريق بين ولد عشر سنين وأبويه وإخوته في المضجع، وكما يحرم نظر ومسّ شيء من أجنبية يحرم إصغاء لصوتها تلذذاً به، وأن الخلوة بالأجنبية حرام حيث لم يكن معهما محرم لأحدهما يحتشمه، ولا امرأة كذلك ولا زوج لتلك الأجنبية، ويحرم فعل هذه الثلاثة مع الأمرد الجميل.
((1/351)
فصل): في اللواط. أخرج ابن ماجه والترمذي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمّتِي عَمَلُ قَوْمِ لُوطَ" وأحمد والنسائي: "لَعَنَ الله سَبْعَةً مِنْ خَلْقِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَرَدّدَ اللَّعْنَةَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثلاثاً وَلَعَنَ كلّ وَاحِدٍ لَعْنَةً تَكْفِيهِ: مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطَ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى شَيْئاً مِنَ البَهَائِمِ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الأرْضِ، مَلْعُونٌ مَنِ ادّعَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ. وأحمد: "مَلْعُونٌ مَنْ سَبّ أبَاهُ مَلْعُونٌ مَنْ سَبّ أُمّهُ مَلْعُونٌ مَنْ غَيّرَ تُخْوْمَ الأرْضِ مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى، مَلْعُونٌ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوْطَ" والبيهقي: أرْبَعَةٌ يُصْبِحُونَ فِي غَضَبِ الله وَيُمْسُونَ فِي سُخْطِ الله، قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: المُتَشَبِّهُونَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتُ مِنَ النِّساءِ بِالرِّجَالِ، وَالَّذِي يَأتِي البَهِيمَةَ، وَالَّذِي يَأتِي الرِّجالَ، والترمذي والنسائي: لا يَنْطُرُ الله عَزّ وَجَلّ إلَى رَجُلٍ أتَى رَجُلاً أَو امْرَأَةً فِي دُبْرِها. والطبراني: ثَلاثَة لا يَقْبَلُ الله لَهُمْ شَهَادَةَ أَنْ لا إله إلَّا الله: الرَّاكِبُ وَالمَرْكُوبُ وَالرَاكِبَةُ وَالمَرْكُوبَةُ والإمَامُ الجِائِرَ. وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوط فَاقْتُلوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُول بِهِ.(1/352)
وقال ابن عباس: إنّ اللّوْطِي إذا مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ مُسِخَ فِي قَبْرِهِ خَنْزِيراً. وروي أنّ خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر أصحاب رسول الله فيهم عليّ كرم الله وجهه، فقال: إنّ هذا ذنب لم تعمل به الأمم إلا أمة واحدة، وقد علمتم ما صنع الله بها وأرى أن تحرقوه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار فحرقه خالد.
وروي أيضاً أن عيسى عليه السلام مرّ في سياحته على نار تتوقد على رجل، فأخذ ماء ليطفئها عنه، فانقلبت النار صبباً وانقلب الرجل ناراً، فتعجب عيسى من ذلك، فقال: يا رب ردّهما إلى حالهما في الدنيا لأسألهما عن خبرهما، فأحياهما الله تعالى، فإذا هما رجل وصبي فقال لهما عيسى عليه السلام: ما خبركما وما أمركما؟ فقال الرجل: يا روح الله إني كنت في الدنيا مبتلى بحب هذا الصبي، فحملتني الشهوة أن فعلت به الفاحشة: فلما متّ ومات الصبي صير الله الصبي ناراً تحرقني مرة، وصيرني ناراً أحرقه أخرى. فهذا عذابنا إلى يوم القيامة. نعوذ بالله من عذابه وحمانا من موجبات سخطه وأليم عقابه.
(تنبيه) قال البغوي اختلف أهل العلم في حدّ اللواط، فذهب قوم إلى أنه يحدّ الفاعل حدّ الزنى إن كان محصناً يرجم وإن لم يكن محصناً، يجلد مائة، وهو أظهر قولي الشافعي رضي الله عنه وعلى المفعول به عنده على هذا القول جلد مائة، وتغريب عام رجلاً كان أو امرأة محصناً أو غير محصن، وذهب قوم إلى أنّ اللواطي يرجم ولو غير محصن قول مالك وأحمد بن حنبل، والقول الآخر للشافعي أنه يقتل الفاعل والمفعول به كما جاء في حديث.
(فائدة) يحرم مصافحة الأمرد بشرطه ولو قدم من سفر، وقيل في هذه الأمة قوم يقال لهم: اللوطية وهم ثلاثة أصناف: صنف ينظرون وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل الخبيث. قال بعضهم: والنظر إلى المرأة والأمرد زنى لخبر صحيح فيه.
((1/353)
خاتمة): في السحاق
أخرج الطبراني: ثلاثة لا يقبل الله لهم قول شهادة أن لا إله إلا الله: الراكب والمركوب والراكبة والمركوبة والإمام الجائر. وروي عنه: "إذَا أَتَتِ المَرْأَةُ المَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ".
واعلم أنّ تساحق النساء حرام ويعزرن بذلك. قال القاضي أبو الطيب: وإثم ذلك كإثم الزنى، قال القاضي حسين: يكره للمرأة التي تميل إلى النساء النظر إلى وجوههنّ وأبدانهنّ، وأن تضاجعهنّ بلا حائل كما في الرجال. قال في العجالة وتشبيهه يقتضي تحريم النظر بشهوة والمضاجعة بلا حائل كما هما محرمان من الرجال.
(فصل): في قذف المحصن أو المحصنة بزنى أولواط. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً إنْ كَانَ حُرّاً فَغَيْرَهُ يُجْلَدُ أرْبَعِينَ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} (سورة النور: 4) أي ما دام مصرّاً على قذفه {وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحيمٌ} (سورة النور: 4 ـ 5) وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ الغَافِلاتِ} أي عن الفاحشة: {المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النور: 23 ـ 24).(1/354)
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أنّ رسول الله قال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشّرْكُ بِالله وَالسّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْس الّتي حَرَّمَ الله إلا بِالحَقِّ، وَأكْلُ مَالِ اليَتِيمِ وَالرِّبَا والتّوَلِّي يَوْمَ الزّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ والحاكم: أيما عبد أو امرأة قال أو قالت لوليدتها يا زانية، ولم يطلع منها على زنى جلدتهما وليدتهما يوم القيامة، لأنه لا حدّ لهنّ في الدنيا. وهما: من قذف مملوكه بالزنى يقام عليه الحدّ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال. وقال بعضهم: ومما عمت به البلوى قول الإنسان لقنِّه يا مخنث أو يا قحبة، وللصغير يا ابن القحبة، يا ولد الزنى، وكل ذلك من الكبائر الموجبة للعقوبة في الدنيا والآخرة.
(تنبيه) إنّ القذف حرام إجماعاً، بل هو من الكبائر المهلكة اتفاقاً وقد أجمع العلماء على أن المراد من الرمي في الآية الرمي بالزنى، وهو يشمل الرمي باللواط، كما يقول للمرأة يا زانية أو بغية أو قحبة، أو لزوجها يا زوج القحبة أو لبنتها يا بنت الزنى، أو للرجل يا زاني أو يا منكوح أو يا مخنث، فمن قذف محصناً غير فرع وقنّ له حدّ أو غيره عزر، والمحصن هنا مكلف حرّ مسلم عفيف عن زنى وعن وطء زوجة، أو مملوكة في دبرها فمن فعل وطأ يحدّ به أو وطىء حليلته في دبرها لم يجب على راميه بالزنى حدّ القذف وإن تاب وصلح حاله.
(فائدة) من قذف آخر بين يدي حاكم لزمه أن يبعث إليه، ويخبره ليطالب به إن شاء كما لو ثبت عنده حق ماليٌّ على آخر، وهو لا يعلم يلزمه إعلامه.
{باب}: شرب الخمر
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما الخَمْرُ وَالمَيْسرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(سورة المائدة: 90)(1/355)
وقال رسول الله: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" وراه الشيخان وأبو داود والنسائي. وقال: "أَلا فَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" رواه أحمد وأبو يعلى: ونهى عن كل مسكر ومفتر. رواه أبو داود. قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور، والخدر في الأعضاء، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أنّ النبي قال: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مؤمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَسْرِقُ السّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ". والطبراني: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ خَرَجَ نُور الإيمانِ مِنْ جَوْفِهِ". وأحمد بسند صحيح: "مُدْمِنُ الخَمْرِ إنْ مَاتَ" أي من غير توبة: "لَقِيَ الله كَعَابِدِ وَثَنِ" وابن حبان في صحيحه: "مَنْ لَقِيَ الله مُدْمِنَ خَمْرِ لَقِيَ الله كَعَابِدِ وَثَنٍ". والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلاً للشرك. والنسائي عن أبي موسى أنه كان يقول: ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية من دون الله: أي أنهما في الإثم متقاربان. والطبراني: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْها الخَمْرُ" وهو: "مَنْ شَرِبَ حَسْوَةً مِنَ الخَمْرِ لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ صِرْفاً، وَلا عَدْلاً، وَمَنْ شَرِبَ كَأْساً لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ صَلاةَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، وَمُدْمِنُ الخَمْرِ حَق عَلَى الله أنْ يَسْقِيَه مِنْ نَهْرِ الخَبَالِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَمَا نَهْرُ الخَبَالِ؟ قَالَ: صَدِيدُ أهْلِ النَّارِ".(1/356)
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ الله لَهُ صَلاةَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَإنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَل الله لَهُ صَلاةَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَإِنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ؛ فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ الله لَهُ صَلاةَ أرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ الله عَلَيْهِ وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الخَبَالِ" قيل لابن عمر راويه وما نهر الخبال؟ قال نهر من صديد أهل النار. والطبراني بسند صحيح والحاكم وقال على شرط مسلم عن ابن عمر قال: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وناساً جلسوا بعد وفاة رسول الله، ففكروا في أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم فأرسلوني إلى عبد الله بن عمر أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك، ووثبوا إليه جميعاً حتى أتوه في داره، فأخبرهم أن رسول الله قال: "إنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلاً فَخَيّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الخَمْرَ أَوْ يَقْتُلَ نَفْساً أَوْ يَزْني أَوْ يَأكُلَ لَحْمَ الخَنْزِيرِ أَوْ يَقْتُلُوهُ فَاخْتَارَ الخَمْرَ وَإِنَّهُ لَمّا شَرِبَ الخَمْرَ، لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ" وإن رسول الله قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْرَبُهَا فَيُقْبَلُ لَهُ صَلاةُ أرْبَعِينَ يَوْماً وَلا يَمُوتُ وَفِي مَثَانَتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا حُرِّمَتْ بِهَا عَلَيْهِ الجَنَّةُ، فَإِنْ مَاتَ فِي أرْبَعِينَ لَيْلَةً مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً".(1/357)
وأحمد وابن حبان في صحيحه: إن آدم لما أهبط إلى الأرض، قالت الملائكة: يا رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ: إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: 30) قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال تعالى لملائكته: هلموا ملكين من الملائكة فننظر كيف يعملان، قالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءاها فسألاها نفسها. قالت: لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك قال: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً، فذبت عنهما ثم رجعت إليهما ومعها صبيٌّ تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبيّ. فقالا: والله لا نقتله أبداً فذهبت، ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا وسكرا، فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا. قالت المرأة والله ما تركتما من شيء أبيتماه عليّ إلا فعلتماه حين سكرتما، فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا.(1/358)
وأبو داود وابن حبان في صحيحه: "إذَا شَرِبُوا الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إنْ شَرِبُوا فَاقْتلُوهُمْ" والترمذي: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَة فَاقْتُلُوهُ" وأبو داود: {إنَّ الله حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَها وَحرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا وَحَرَّمَ الخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ} وابن ماجة والترمذي: {لَعَنَ رَسُولُ الله فِي الخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَها وَشَارِبَهَا وَحَامِلَها وَالمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنها وَالمُشْتَرِيَ لَهَا وَالمُشْتَراة لَهُ} وجاء عنه أنه قال: {مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيا سَقَاهُ الله مِنْ سُمِّ الأسَاوِدِ شُرْبَةً يَتَسَاقَطُ لَحْمُ وَجْهِهِ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَهَا، فَإِذَا شَرِبَهَا تَسَاقَطَ لَحْمُهُ وَجِلْدُهُ يَتَأْذَّى بِهِ أَهْلُ النَّارِ، أَلا وَشَارِبُهَا وَعَاصِرُها وَمُعْتَصِرُها وَحَامِلُها وَالمَحْمُولَةُ إلَيْهِ وآكِلُ ثَمَنها شُرَكَاءُ فِي إثمِها، لا يَقْبَلُ الله مِنْهُمْ صَلاةً وَلا صِياماً وَلا حَجّاً حَتَّى يَتُوبُوا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ كَانَ حَقّاً عَلَى الله أَنْ يَسْقِيَهُ بِكُلِّ جُرْعَةٍ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيا مِنْ صَدِيدِ جَهَنَّمَ، ألا وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ}.(1/359)
وروي: "أنَّ شَرَبَةَ الخَمْرِ إذَا أَتَوا عَلَى الصِّرَاطِ تَخْطِفُهُمُ الزَّبَانِيَةُ إلَى نَهْرِ الخَبَالِ، فَيُسْقَوْنَ بِكُلِّ كَأْسٍ شَربُوهُ مِنَ الخَمْرِ شُرْبَهً مِنْ نَهْرِ الخَبَالِ، فَلَوْ أَنّ تِلْكَ الشُّرْبَةَ تُصَبُّ مِنَ السَّمَاءِ لاحْتَرَقَتِ السَّموَاتُ مِنْ حَرّهَا" نعوذ بالله منها. وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا مات شارب الخمر فادفنوه ثم اصلبوني على خشبة، ثم انبشوا عنه قبره، فإن لم تروا وجهه مصروفاً عن القبلة فاتركوني مصلوباً. وعن علي رضي الله عنه: لو وقعت قطرة من خمر في بئر، فبَن 2 ت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه. وعن ابن عمر لو أدخلت أصبعي فيه لم تتبعني: أي لقطعتها.
وحكي عن الفضيل بن عياض رحمه الله: أنه حضر عند تلميذ له حضره الموت، فجعل يلقنه الشهادة ولسانه لا ينطق بها فكرّرها. فقال: لا أقولها وأنا بريء منها ثم مات، وخرج الفضيل من عنده وهو يبكي، ثم رآه بعد مدة في منامة، وهو يسحب به إلى النار. فقال: يا مسكين بم نزعت منك المعرفة؟ فقال: يا أستاد كان بي علة فأتيت بعض الأطباء فقال: تشرب في كل سنة قدحاً من الخمر، فإن لم تفعل تبق بك علتك، فكنت أشربها في كل سنة لأجل التداوي، فهذا حال من شربها للتداوي، فكيف حال من شربها لغير ذلك؟ نسأل الله العافية من كل بلاء ومحنة.
وحكي أنه سئل بعض التائبين عن سبب توبته، فقال: كنت أنبش القبور، فرأيت فيها أمواتاً مصروفين عن القبلة، فسألت أهاليهم عنهم؟ فقالوا: كانوا يشربون الخمر في الدنيا وماتوا من غير توبة.
وحكي عن نباش أنه قال: نبشت قبراً فرأيت صاحبه قد حوّل خنزيراً، وقد شد بالسلاسل والأغلال في عنقه فخفت منه وأردت الخروج، وإذا بقائل يقول ألا تسأل عن عمله ولم يعذب؟ فقلت: لماذا؟ قال: كان يشرب الخمر في الدنيا ومات من غير توبة.(1/360)
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال: مات لي ولد، فلما دفنته رأيته بعد مدة في المنام وقد شاب رأسه، فقلت: يا ولدي دفنتك صغيراً فما الذي شيبك؟ فقال: يا أبي لما دفنتني دفن إلى جانبي رجل كان يشرب الخمر في الدنيا فزفرت النار لقدومه إلى قبره زفرة لم يبق منا طفل إلا شاب رأسه من شدّة زفرتها نسأل الله العصمة منها.
(تنبيه) إن شرب الخمر والنبيذ ولو قطرة منهما حرام، بل هو كبيرة إجماعاً ويكفر مستحلها وحدّ شاربها أربعون جلدة إن كان حراً وعشرون إن كان قناً، والنبيذ كالخمر فيحدّ شاربه، ولو حنفياً وإن لم ينكر عليه.
(خاتمة): في أكل الحشيشة والبنج
روى أحمد وأبو داود: نَهَى رَسُولُ الله عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ. قال الخطابي: المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وقال: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" وقال: "كَانَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ".
واعلم أن الحشيشة حرام كالخمر ويحدّ آكلها: أي على قولٍ قال به جماعة من العلماء كما يحدّ شارب الخمر، وقال ابن تيمية وأقرّه أهل مذهبه: من زعم حل الحشيشة كفر، وقيل: إنها نجسة كالخمر وهو الصحيح: أي عند الحنابلة وبعض الشافعية، وقيل: المائعة نجسة والجامدة طاهرة، وإنما لم يذكرها العلماء الأربعة، لأنها لم تكن في عهد السلف الماضين، وإنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد الإسلام، وذكر الماوردي قولاً: أن النباتات التي فيها شدّة مطربة يجب الحدّ على آكلها، ورأى آخرون من العلماء تعزير آكلها بالبنج. نسأل الله تعالى أن يجنبنا المسكرات ويحمينا من المخدرات.
{باب}: في اليمين الفاجرة(1/361)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون ويأخذون {بِعَهْدِ الله} أي بما عهد إليهم {وَأَيْمَانِهِمْ} أي الكاذبة {ثَمَناً قَلِيلاً} أي عرضاً يسيراً من الدنيا {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي لا نصيب لهم من نعيمها وثوابها {وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله} أي بكلام يسرّ {وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ} أي نظر رحمة {وَلا يُزَكِّيهِمْ} أي لا يريد لهم خيراً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة آل عمران: 77) أي مؤلم شديد الإيلام. وأخرج الشيخان عن ابن مسعود أن رسول الله قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حقِّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ الله" {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله} إلى آخر الآية. والطبراني والحاكم وصححه: "مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ شِرَاكاً". وابنا ماجه وحبان: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ آثِمةٍ عِنْدَ مِنْبَرِي هذَا فَلْيَتَبَوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ". والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نعدّ من الذنب الذي ليس له كفارة اليمين الغموس، قيل: وما اليمين الغموس؟ قال: الرجل يقتطع بيمينه مال الرجل. وهو والطبراني: "إنَّ الله جَلَّ ذِكْرُهُ أذِنَ لِي أَنْ أُحَدّثَ عَنْ دِيكٍ قَدْ مَزَّقَتْ رِجْلاهُ الأرْضَ وَعَنَقُهُ مُنْثَنٍ تَحْتَ العَرْشِ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَكَ رَبَّنَا؛ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا عَلِمَ بي مَنْ حَلَفَ كَاذِباً".(1/362)
والطبراني عن جبير بن مطعم: أنه افتدى بيمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: وربّ الكعبة لو حلفت صادقاً، وإنما هو شيء افتديت به يميني، وروي عن الأشعث بن قيس أنه اشترى يمينه مرة بسبعين ألفاً.
وحكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: ما حلفت بالله لا كاذباً ولا صادقاً.
(تنبيه) اليمين الفاجرة حرام بل هي كبيرة اتفاقاً.
{باب}: في شهادة الزور
أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: "كنا جلوساً عند رسول الله قال: "أَلا أَنُبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ ثَلاثاً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: الإشْرَاكُ بِالله وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ أَلا وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَشَهَادَةُ الزّورِ؛ وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَمَا زَالَ، يُكَرِّرُها حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ" وأبو داود والترمذي: "صَلّى بِنَا رَسُولُ الله صَلاةَ الصُّبْحِ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِماً فَقَالَ: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزّورِ الإشْرَاكَ بِالله ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلُ الزّورِ حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وأحمد: "مَنْ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ شَهَادَةً لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، فَلْيتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" والطبراني: "مَنْ كَتَمَ شَهَادَةً إذَا دعِي إلَيْها كَانَ كَمَنْ شَهِدَ بِالزّورِ".
(تنبيه) إن شهادة الزور وهي أن يشهد بما لا يتحققه حرام، بل صرحوا بأنها كبيرة قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وإذا كان الشاهد بها كاذباً أثم ثلاثة آثام: إثم المعصية وإثم إعانة الظالم وإثم خذلان المظلوم؛ وإذا كان صادقاً، أثم إثم المعصية لا غير لتسببه في إبراء ذمة الظالم وإيصال المظلوم إلى حقه.
{باب}: التوبة(1/363)
قال الله تعالى: {إنَّما التَّوْبَةُ عَلَى الله} أي التي كتب على نفسه قبولها بفضله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أي جاهلين إذا عصوا ربهم {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ} زمن ـ قَرِيبٍ ـ قبل أن يغرغر وقبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها أو في صحته قبل مرض موته {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} (سورة النساء: 17) لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ المَوْتُ قَالَ إني تُبْتُ الآن ـ فلا تنفعه ولا تقبل منه {وَلا لِلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كَفَّار} (سورة النساء: 18) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبَّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ} (سورة التحريم: 8) وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَه ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً} (سورة النساء: 110)(1/364)
وأخرج الشيخان والترمذي عن الحارث بن يزيد قال: قال ابن مسعود سمعت رسول الله يقول: "لله أَفْرَحُ بَتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ فِي أَرْضِ وَبِيئَةٍ مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْها طَعَامُهُ وَشرابُهُ، فَوَضعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ فَطَلَبَها حَتَّى إذَا اشْتَدّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ الله قَالَ أَرْجِعُ إلى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ فَالله أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ العَبْدِ المُؤْمِنِ مِنْ هذا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ" ومسلم: "يَا أَيُّها النَّاسُ تُوبُوا إلى الله فَإِني أَتُوبُ إلَيْهِ فَي يَوْمِ مائَةَ مَرّةٍ" وابن ماجه: "لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَطَايَاكُمُ السَّمَاءَ ثُمَّ، تُبْتُمْ لَتَابَ الله عَلَيْكُمْ" والطبراني والبيهقي: "صَاحِبُ اليَمِينِ أمِينٌ عَلى صَاحِبِ الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلَ العَبْدُ حَسَنَةً كَتَبَها بِعَشْرٍ أَمْثَالهَا وَإذَا عَمِلَ سَيّئَةً فَأَرَادَ صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَها، قَالَ لَهُ صَاحِبُ اليَمِينِ: أمْسِكَ فَيُمْسِكُ سِتَّ سَاعَاتٍ، فَإِنِ اسْتَغْفَرَ الله مِنْهَا لَمْ يَكْتُبْ عَلَيْهِ شَيْئاً وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرِ الله كَتَبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"، وابن أبي حاتم وابن مردوية: "التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَلْتَسْتَغْفِرِ الله ثُمَّ لا تَعُودُ إلَيْهِ أبَداً" والطبراني وأبو نعيم: "النَّدَامَةُ تَوْبَةٌ وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ وَالمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْب، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالمْسْتَهْزِىء بِربِّهِ"(1/365)
والترمذي: "إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ تتَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" ومسلم: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تطلعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ الله عَلَيْهِ" والشيخان عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله: "كَانَ فَيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعينَ نَفْساً، فَسأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعينَ نَفْساً فهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ مائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ لَهُ إنَّهُ قَتَلَ مائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إلَى أرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ فِيهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى، فَاعْبُدِ الله مَعَهُمْ وَلا تَرْجْعُ إلى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ فَانْطَلَقَ حَتَّى إذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتَاهُ المَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذَابِ، فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَنَا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إلى الله تَعَالَى. وَقَالَتْ مَلائِكَةَ العَذَابِ: لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِي، فَحَكَمُوهُ بَيْنَهُمْ.(1/366)
فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأرْضَيْنِ فَإلَى أَيَّتهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الّتي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ" وفي الحديث الصحيح أنه قال: "إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ نَكَتَ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صَقَلَ قَلْبَهُ، وَإنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُو قَلْبَهُ: أيْ تَغْشَاهُ وَتُغَطِّيهِ تِلْكَ النكْتَةُ السّوْدَاءُ، فَذلِكَ الرّانَ الَّذِي ذَكَرَهُ الله فِي كَتَابِهِ {كَلاّ بَلْ رَانَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (سورة المطففين: 14) اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إلَيْكَ، وَنَسْتَعِينُكَ عَلَى أَنْ لا نَعُودَ إلَى مَعَاصِيكَ.
(تنبيه) التوبة واجبة فوراً من كل ذنب ولو صغيراً فمن أخره زمناً يسعها كان عاصياً بتأخيرها. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكذلك يتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة المتسعة، فيحتاج إلى توبة عن تأخيرها، كما يحتاج إليها عن الذنب المتقدم، ويجب تجديد التوبة عن المعصية، كلما ذكرها بعد التوبة على ما زعمه القاضي أبو بكر الباقلاني. قال: فإن لم يجددها فقد عصى معصية جديدة تجب التوبة منها، ثم إن علم ذنوبه على التفصيل لزمه التوبة عن آحادها على التفصيل، ولا يكفيه توبة واحدة، فالتوبة من جملة الذنوب من غير ذكر تفاصيلها غير صحيحة قال الزركشي: وهذا ظاهر وقال ابن عبد السلام يتذكر من الذنوب السالفة ما أمكن تذكره وما تعذر فلا يلزمه ما لا يقدر عليه، وقال القاضي أبو بكر إن لم يتذكر تفصيل الذنب، فليقل إن كان لي ذنب لم أعلمه فإني تائب إلى الله. واعلم أن التوبة في نفسها طاعة وعد الثواب عليها. وأما زوال العقاب الأليم فهو مفوّض إلى الربّ الحليم التواب الرحيم.
((1/367)
فصل): في شروط التوبة المسقطة للإثم ظناً لا قطعا أن يندم على فعل الذنب من حيث المعصية، وأن يعزم على أن لا يعود إليه أو إلى مثله خالصاً لله تعالى، وأن يقلع عنه حالاً إن كان متلبساً به أو مصرّاً على المعاودة إليه، وأن يخرج من المظالم والزكاة إن كانت بردّها أو بدلها إن تلفت لمستحقها ما لم يبرئه منها، ومنه قضاء صلاة وصوم، وإن كثرا، فإن اختلّ شرط من الشروط المذكورة لم تصح توبته، وأن يستغفر الله تعالى من ذنبه بلسانه ظاهراً وبقلبه باطناً على ما زعمه القاضي حسين، والقاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهم، ويجب في التوبة عن قود أو قذف أن يعلم المستحق، ويمكنه من الاستيفاء ومن نحو غيبة أن يستحل المغتاب منها إن علم، وإلا استغفر لنفسه ودعا له كالحاسد، ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وتحمل تبعاتنا بمنك وكرمك آمين. اللهم إنا نستغفرك من كل ذنب أذنبناه استعمدناه أو جهلناه، ونستغفرك من كل ذنب تبنا إليك منه ثم عدنا فيه، ونسغفرك من الذنوب التي لا يعلمها غيرك ولا يمعها إلا حلمك، ونستغفرك من كل ما دعت إليه نفوسنا من قبل الرخص، فاشتبه ذلك علينا وهو عندك حرام، ونستغفرك من كل عمل عملناه لوجهك، فخالطه ما ليس لك فيه رضا لا إله إلا أنت يا أرحم الراحمين.
(خاتمة): في الخوف(1/368)
قال الله تعالى: {وَإيّايَ فَارْهَبُونِ} (سورة البقرة: 40) وقال تعالى: {وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} (سورة آل عمران: 175) فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في الإيمان فذلك لا يتصوّر أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه، وقال رسول الله: "أنَا أَعْلَمُكُمْ بِالله وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً" وقال: "رَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ الله" وقال عليه الصلاة والسلام: "قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَجْمَعُ علَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَلا أَجْمَعُ لَهُ أمْنَيْن فَإِنْ أمِنَنِي فِي الدُّنْيا أَخَفْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَإِنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيا أَمِنْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذَا اقْشْعَرّ جِلْدُ العَبْدِ مِنْ خَشيَةِ الله تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتحَاتُّ عَنِ الشَّجْرَةِ البَالِيَةِ وَرَقُهَا" وقال الحسن رضي الله عنه: إن الرجل ليذنب فما ينساه، ولا يزال متخوفاً حتى يدخل الجنة.(1/369)
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: إن رجلاً من بني إسرائيل أصاب ذنباً فحزن، فجعل يذهب ويجيء ويقول: بم أرضي ربي بم أرضي ربي؟ فكتب صدّيقاً. وقال الفضيل رحمة الله عليه: من خاف الله تعالى دله الخوف على كل خير. وسئل ابن جبير رضي الله عنه عن الخشية فقال: هي أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معاصيه. وفي صحيح البخاري، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ؛ وَإنَّ الفَاجِر يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكذا أيْ ذَبَّهُ بِيَدِهِ فَطَارَ. وقال رسول الله لعقبة بن عامر لما سأله: ما النجاة؟ قال: "أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" وقال: "لا يَلِجُ أي لا يَدْخُلُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشيَةِ الله تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضّرْعِ، وَلا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ الله وَدُخَانُ جَهَنَّمَ" وفي الصحيحين: أنه ذكر من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلا ظله، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابَّا في الله عزّ وجلّ، ورجل دعته امرأة ذات جمال، فقال إني أخاف الله؛ ورجل تصدّق بيمينه فأخفاها عن شماله ورجل تعلق قلبه بالمسجد، ورجل ذكر الله: أي وعيده وعقابه خالياً ففاضت عيناه. أي خوفاً مما جناه واقترفه من المخالفات والذنوب.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحبّ إليّ من أن أتصدق بألف دينار. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية حتى تسيل دموعي على وجنتي أحبّ إليّ من أن أتصدق بجبل ذهب.(1/370)
وقال عوف بن عبد الله: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان من خشية الله مكاناً من جسده إلا حرّم الله تعالى ذلك المكان على النار. وكان محمد بن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع.
وفي صحيح ابن حبان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمر على عائشة رضي الله عنها فقالت لعبيد بن عمر: قد آن لك أن تزورنا فقال: أقول يا أمت كما قال الأول: زُرْ غِبّاً تزدد حباً: فقالت: دعونا من مطالبكم هذه. فقال ابن عمر: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله قال: فسكتت. ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: يا عائشة ذريني أعبد الليلة ربي. قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت: فقام فتظهر، ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره، وكان جالساً فلم يزل يبكي حتى بلّ لحيته قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. وفي منهاج الغزالي: إن آدم صفيّ الله ونبيه خلقه بيده وأسجد له ملائكته، وحمله على أعناقهم إلى جواره لما أكل أكلة واحدة لم يؤذن له فيها، فنودي أن لا يجاورني من عصاني وأمر الملائكة الذين حملوا سريره يزجونه من سماء إلى سماء حتى أوقعوه بالأرض، ولم يقبل توبته فيما روى حتى بكى على ذلك مائتي سنة، ولحقه من الهوان والبلاء ما لحقه، وبقيت ذريته في تبعات ذلك على الأبد. ثم إن نوحاً شيخ المرسلين عليه السلام الذي احتمل في أمر دينه ما احتمل لم يقل إلا كلمة واحدة على غير وجهها إذ نودي: {فَلا تَسْأَلَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم إنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} (سورة هود: 46) حتى روي في بعض الأخبار أنه لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى أربعين سنة انتهى.(1/371)
وقال الحسن: إن آدم عليه الصلاة والسلام بكى حين أهبط من الجنة ثلاثمائة عام حتى جرت أودية سرنديب من دموعه. وقال وهب بن الورد: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما عاتبه الله في ابنه بكى ثلاثمائة عام حتى صار في خدّيه أمثال الجداول: أي الأنهار الصغار من البكاء، وقال مجاهد: بكى داود عليه السلام أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه حتى غطى رأسه، فنودي: يا داود أجائع أنت فتطعم أم ظمآن فتسقى أم عارٍ فتسكى، فنحب نحبة هاج منها العود فاحترق من حرّ جوفه. ثم أنزل الله عليه التوبة والمغفرة، فقال: يا ربي اجعل خطيئتي في كفي، فصارت خطيئته في كفه مكتوبة، فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته قال: وكان يؤتى بالقدح ثلثاه ماء فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه. وقال عبد الله بن عمرو: كان يحيى بن زكرياء عليهما السلام يبكي حتى تقطع خدّاه وبدت أضراسه فقالت له أمه: لو أذنت لي يا بنيّ حتى أتخذ لك قطعتين من لبود تواري بهما أضراسك عن الناظرين، فأذن فألصقتهما بخدّيه، فكان يبكي فكانتا تسيلان بالدموع فتجيء أمه فتعصرهما فتسيل دموعه على ذراعها. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: كان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.(1/372)
وقال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء. وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن. وقال عمر رضي الله عنه عند موته: الويل لعمر إن لم يغفر الله له؛ وبكى ابن عباس رضي الله عنهما حتى صار كأنه الشنّ البالي؛ وبكى تلميذه سعيد بن جبير حتى عمشت عيناه. وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت لزيد بن مرثد: مالي أرى عينك لا تجفّ؛ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به؛ قال: يا أخي إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حرياً أن لا تجفّ لي عين، قال: فقلت له فهكذا أنت في خلواتك، قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني بذلك، فقال والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، أي لإرادة وطئها فيحول ذلك بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يديّ فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله حتى تبكي امرأتي، وتبكي صبياننا ما يدرون ما أبكانا. وعن عمر بن زاذان قال: قال لي كهمس: يا أبا سلمة أذنبت ذنباً فإني أبكي عليه منذ أربعين سنة، فقلت: ما هو قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكاً بدانق، فلما أكل قمت إلى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده فأنا أبكي على ذلك منذ أربعين سنة.(1/373)
ودخل بعض أصحاب فتح الموصلي عليه فرآه يبكي ودموعه خالطها صفرة، فقال له: بكيت الدم. قال: نعم. قال: على ماذا؟ قال: على تخلفي عن واجب حق الله. ثم رآه في المنام بعد موته، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي. قال: ما صنع في دموعك؟ قال: قربني، فقال لي: يا فتح على ماذا بكيت؟ قلت: يا رب على تخلفي عن واجب حقك قال: فالدم؟ قلت: خوفاً أن لا يفتح لي، قال: يا فتح ما أردت بهذا كله وعزتي وجلالي لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه صاحب رسول الله يحلف بالله إن من أمن السلب عند موته سلب عند موته: أي جزاء لأمنه مكر الله. وقال عبد الرحمن بن مهدي: مات سفيان الثوري، فلما اشتد به النزع جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أتراك كثير الذنوب؟ فرفع رأسه وأخذ شيئاً من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت، وفي الروض الفائق عن سفيان الثوري أنه خرج إلى مكة حاجاً فكان يبكي من أول الليل إلى آخره في المحمل، فقال شيبان الراعي: يا سفيان بكاؤك إن كان لأجل المعصية فلا تعصه، فقال سفيان: أما الذنوب فما خطرت ببالي قط صغيرها ولا كبيرها، وليس بكائي يا شيبان من أجل المعصية، ولكن خوف الخاتمة لأني رأيت شيخاً كبيراً كتبنا عنه العلم، وعلم الناس أربعين سنة وجاور بيت الله الحرام سنتين، وكان يلتمس بركته ويسقي به الغيث، فلما مات حول وجهه عن القبلة، ومات على الشرك كافراً، فأنا أخاف من سوء الخاتمة. وقال سهل: رأيت في المنام كأني أدخلت الجنة فرأيت ثلاثمائة نبيّ فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا؟ فقالوا سوء الخاتمة.(1/374)
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة ونعوذ بك من سوئها، وأن تتوفانا على الإيمان والتوبة، وفي الصحيحين: قَامَ رَسُولُ الله حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ: {أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (سورة الشعراء: 214) فقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً يَا بَنيِ عَبدَ مُنَافٍ لا أُغْنَى عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ عَمّ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً، يَا صَفِيَّةُ عَمَّة رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً، يا فاطمة بنت مُحَمَّدٍ سَلِينِي منْ مَالِي مَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً، وَقَالَ كعب الأحبار رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ونزلت الملائكة فصارت صفوفاً فيقول يا جبريل ائتني بجهنم، فيأتي بها جبريل تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق، ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبيّ مرسل إلا جثا على ركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر، وتفزع العقول فيفزع كل امرىء إلى عمله، حتى أن إبراهيم الخليل يقول: بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى: بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي، وإن عيسى يقول بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني. وقال أيضاً: لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق، ورجل بالمغرب لغلي دماغه حتى يسيل من حرّها، أعاذنا الله منها. وروى عن النبي أنه قال: "يَا جِبْرِيلَ مَا أَرَى مِيكائِيلَ يَضْحَكُ.(1/375)
قَال: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مِنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ وَمَا جَفّتْ لِي عَيْنٌ مُنْذُ خُلِقَتْ جَهَنَّمُ مَخَافَةَ أَنْ أَعْصِي الله عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْعَلُنِي فِيها" فإذا كانت هذه حالة الأنبياء والملائكة المطهرين من الأدناس، فكيف حالي وحال أمثالي من عصاة الناس وأين بكائي لإصراري على المعاصي.
اللهم أني أسألك مخافة تحجزني عن معاصيك حتى أعمل بطاعتك عملاً أستحق به رضاك، وحتى أناصحك في التوبة خوفاً منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
(ختام): الخاتمة في الرجاء(1/376)
قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنِطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً} (سورة الزمر: 53) وفي قراءة رسول الله، ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول: أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنِطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ونحن أهل البيت: نقول أرجى آية في كتاب الله قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (سورة الضحى: 5) فلا يرضى محمد وأحد من أمّته في النار. وأخرج الشيخان وابن ماجه قال رسول الله: "لَمّا قَضَى الله الخَلْقَ كَتَبَ كِتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" وفي رواية: "غَلَبَتْ غَضَبِي" وأحمد وابن ماجه والبيهقي. قال الله عزَّ وَجَلَّ: "أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِيَ إنْ ظَنَّ خَيْراً فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرّاً فَلَهُ.(1/377)
والبيهقي: أَمَرَ الله جَلَّ وَعَلا بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ، فَلَمّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِها الْتَفَتَ، فَقَالَ: أمَا وَالله يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِكَ لَحَسَناً، فَقَالَ الله عَزّ وَجَلّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنّ عَبْدِي" والشيخان والترمذي: "إنَّ لله مائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ وَالإنْسِ وَالبَهَائِمِ وَالهَوَامِّ فِيها يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَيْرُ وَالوَحْشُ عَلَى أَوْلادِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِها عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" والشيخان: "قُدِمَ عَلَى النَّبيِّ بِسَبْي، فَإِذَا امْرأَةٌ مِنَ السّبْي قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيّاً مِنَ السّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِها وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ النَّبيُّ: أَتَرُونَ هذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لا وَهِيَ تَقْدِرَ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ، قَالَ: لله أَرْحَمُ بِالعِبَادِ مِنْ هذِهِ بِوَلَدِها" والنسائي عن عامر الرام قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول الله إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَرَرْتُ بِغَيْضَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخٍ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كَسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهُنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ فَهُنَّ أَوْلْاءَ مَعي.(1/378)
قَالَ: ضَعْهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إلاّ لِزُومَهُنَّ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله: أَتَعْجِبُونَ لِرَحْمِ أُمّ الفِرَاخِ فِرَاخَهَا؟ فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمّ الفِرَاخ بِفِرَاخِهَا، فَارْجِعْ بِهُنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ وَأُمَّهُنَّ مَعَهُنَّ فَرَجِعَ بَهنّ" والترمذي وحسنه عن أنس قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: "قَالَ الله تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي إلاّ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ. يَابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقرَابِ الأرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِيَ شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً" وأحمد والطبراني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله: "إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوّلُ مَا يَقُولُ الله تَعَالَى لِلْمُؤْمِنينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا أَوّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبّنَا. فَيَقُولُ: لِمَ؟ فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ، فَيَقُولُ: قَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمْ عَفْوِي وَمَغْفِرَتِي.(1/379)
اللهم إنا نرجو عفوك ومغفرتك ولقاءك، ونعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. اللهم إنا نسألك الراحة في الدارين. وأن لا تنزع منا ما وهبته لنا من الإيمان والعلم، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن توفقنا للعمل بما تحبه وترضاه، وأن لا تجعل علمنا حجة علينا، وأن تجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأن تؤمننا من الفزع الأكبر، وأن تظلنا في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأن ترزقنا الجنة بغير حساب، والنظر إلى وجهك بكرةً وعشياً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.(1/380)