إرشاد الطالب إلى أهم المطالب
تأليف الشيخ
سليمان بن سحمان رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ( أما بعد ) :-
فقد تأملت ما ذكره الأخ من المسائل التي ابتلى بالخوض فيها كثير من الناس من غير معرفة ولا إتقان ، ولا بينة ولا دليل واضح من السنة والقرآن ، وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام ، الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام ، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام ، ووضحوه في هذه المباحث التي لا يتكلم فيها إلا فحول الأئمة الأعلام وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم ، ونكتفي بما وضحوه من التعليم والتفهيم ، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم . وهذه المسائل التي أشرت إليها لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب . ونحن وإن كنا للسنا من أهل هذا الشأن ، ولا ممن يجري الجواد في مثل هذا الميدان . فإنما نسير على منهاج أهل العلم ونتكلم بما وضحوه في هذا الباب . ولولا ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوعيد في ذلك بقوله (( من سئل عن علم وهو يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار )) لضربت عن الجواب صفحاً ، ولطويت عن ذلك كشحاً ، ولكن مالا يدرك كله لا يترك كله ولا بد من ذكر مقدمة نافعة ليعلم من نصح نفسه وأراد نجاتها أن :
كفر الجحود وكفر العمل(1/1)
المبادرة بالتكفير والتفسيق والهجر من غير اطلاع على كلام العلماء لا يتجاسر عليه إلا أهل البدع الذين مرقوا من الإسلام ولم يحققوا تفاصيل ما في هذه المسائل المهمة العظام ، مما قرروه وبينوه من الأحكام ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في ( منهاج السنة ) بعد أن ذكر أقوال أهل البدع كالمعتزلة والخوارج والمرجئة وذكر كلاماً طويلاً ثم قال [ وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواؤهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ، ولهذا قال الشافعي : لأن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون . وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً- وقد يكون كفراً لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق _ والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله ] إلى آخر كلامه والمقصودان من مذاهب أهل البدع وطرائقهم أنهم يكفر بعضهم بعضاً . ومن ممادح أهل السنة أنهم يخطئون ولا يكفرون ، فإذا تحققت هذا وجعلته نصب عينيك أفادك الحذر كل الحذر من الغلو والتعمق ومجاوزة الحد في هذه المسائل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
( فصل )
( قال السائل – المسئلة الأولى ) ما الكفر الذي يخرج من الملة والذي لا يخرج من _ في قولهم الكفر كفران ، وكذا الفسق فسقان .
والجواب أن نقول هذه المسألة قد أجاب عنها شيخنا الشيخ الفاضل عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته للخطيب وذكر ما ذكره شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة فقال رحمه الله .
((1/2)
الأصل الرابع ) أن الكفر نوعان – كفر عمل ، وكفر جحود وعناد ، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله – جحوداً وعناداً – من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي اصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له وهذا مضاد للإيمان من كل وجه . وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه . وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر اعتقاد وكذلك قوله (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله (( من أتى كاهنا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به كافراً بما ترك العمل به .
المعاني المشتركة بين الكفر والظلم والفسق(1/3)
قال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } "البقرة: من الآية84" إلى قوله { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض } "البقرة: من الآية85" أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على الآية فأخبر سبحانه تصديقهم به . وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً آخرين وأخرجوهم من ديارهم وهذا كفر بما أخذ أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم ثم أخبر عليهم في الكتاب ، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق ، كافرين بما تركوه منه ، فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي ، وفي الحديث الصحيح (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) فقرن بين سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به ، والآخر كفراً ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العلمي لا الاعتقادي وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية ، والملة بالكلية ، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان ، وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم . والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار ، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا وهؤلاء جفوا ، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل . فهاهنا كفر دون كفر ، ونفاق دون نفاق ، وشرك دون شرك وظلم دون ظلم فعن ابن عباس في قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } "المائدة: من الآية44" قال : ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه . رواه سفيان وعبد الرزاق وفي رواية أخرى كفر لا ينقل عن الملة .(1/4)
وعن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق . وهذا بين في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً وسمى الكافر ظالماً في قوله { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } "البقرة: من الآية254" وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً وقال { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } "الطلاق: من الآية1" وقال يونس عليه السلام { إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } "الأنبياء: من الآية87" وقال آدم { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } "الأعراف: من الآية23" وقال موسى { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْت } "القصص: من الآية16" وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم وسمى الكافر فاسقاً في قوله { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } "البقرة: من الآية26"وقوله { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ } "البقرة:99" وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } "الحجرات: من الآية6" وقال في الذين يرمون المحصنات { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } "النور: من الآية4" وقال { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ } "البقرة: من الآية197" وليس الفسوق كالفسوق .
وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } "المائدة: من الآية72"
الاستدراك على كون الحكم بغير المنزل كفر عمليا(1/5)
وقال { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } "الحج: من الآية31" الآية وقال في شرك الرياء { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } "الكهف: من الآية110" وفي الحديث (( من حلف بغير فقد أشرك )) ومعلوم أن حلفه بغير الله ولا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - (( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل )) فانظر كيف انقسم الكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة والى مالا ينقل عنها .
وكذلك النفاق نفاقان نفاق عمل و نفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم تبارك وتعالى به الدرك الأسفل من النار ونفاق العمل جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ، وإذا ائتمن خان )) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف )) قال بعض الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فإن الإيمان ينهي عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصاً انتهى .(1/6)
فانظر رحمك الله إلى ما ذكره العلماء من أن الكفر نوعان كفر اعتقاد ، و جحود وعناد ، فأما كفر الجحود والعناد فهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه فهذا هو الذي يخرج من الملة الإسلامية لأنه يضاد الإيمان من كل وجه ، وأما النوع الثاني فهو كفر عمل وهو نوعان أيضا مخرج من الملة وغير مخرج منها ، فأما النوع الأول فهو يضاد الإيمان كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه والنوع الثاني كفر عمل لا يخرج من الملة كالحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أتى كاهناً فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد )) - صلى الله عليه وسلم - فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر إلى آخر ما ذكر رحمه الله . لكن ينبغي أن يعلم أن من تحاكم إلى الطواغيت أو حكم بغير ما أنزل الله واعتقد أن حكمهم أكمل وأحسن من حكم الله ورسوله فهذا ملحق بالكفر الاعتقادي [ بل هو منه لأنه اعتقد أن حكم الطاغوت خير من حكم الله ] المخرج من الملة كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة .
التحاكم إلى الطاغوت والجواب عنه
أما من لم يعتقد ذلك لكن تحاكم إلى الطاغوت وهو يعتقد أن حكمه باطل فهذا من الكفر العملي .(1/7)
فإذا تبين لك هذا فاعلم أن الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى أيماناً فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً كشعبة الشهادة ومنها مالا يزول بزواله إجماعاً كترك إماطة الأذى عن الطريق ويكون أقرب إليها أقرب ومنها ما يحلق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق . وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون أقرب إليها ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى الطريق ويكون إليها أقرب . والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها .(1/8)
وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر ، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام ، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف وبين من سرق أو زنى أو شرب أو انتهب أو صدر منه نوع من موالاة ( الكفار ) كما جرى لحاطب فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام أو سوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة خارج عن سبيل سلف الأمة داخل في عموم أهل البدع والأهواء وقد تبين لك مما قدمناه من كلام ابن القيم وكلام شيخنا الشيخ عبد اللطيف من أن الكفر كفران ، وإن الفسق فسقان ، والشرك شركان والظلم ظلمان ، والنفاق نفاقان على ما ذكراه من التفصيل وقررا عليه من الأدلة من الكتاب والسنة ، وذكرا أن هذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم ، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان ، فأولئك غلوا ، وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى ، والقول الوسط الذي في المذاهب كالإسلام في الملل .
( فصل)
( وأما المسألة الثانية – وهي قول السائل ) مالتحاكم إلى الطاغوت الذي يكفر به من فعله من الذي لا يكفر ؟
( فالجواب ) أن نقول قد تقدم الجواب عن هذه المسألة مفصلاً في كلام شمس الدين ابن القيم وكلام شيخنا فراجعه واعلم أن هذه المسائل مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، فعليك بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
(فصل)
(أما المسألة الثالثة – وهي قول السائل) ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام ؟ ما حكمه هل يطلق على كل معرض أم لا ؟
بيان ما يتحقق به الإعراض
((1/9)
فالجواب ) أن نقول : أن هذه المسألة هي مسألة الجاهل المعرض وقد ذكر أهل العلم أن الإعراض نوعان نوع مخرج من الملة ونوع لا يخرج من الملة ، فأما الذي يخرج من الملة فهو الإعراض عن دين الله لا يعلمه ولا يتعلمه كما هو مذكور في نواقض الإسلام العشرة وهذا المعرض هو الذي لا إرادة له في تعلم الدين ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه بل هو راض بما هو عليه من الكفر بالله والإشراك به لا يؤثر غيره ولا تطلب نفسه سواه . وأما الذي لا يخرج من الملة فهو المعرض العاجز عن السؤال والعلم الذي يتمكن به من العلم والمعرفة مع ارادته للهدى وإيثاره له ومحبته له لكنه غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد .(1/10)
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في ( الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية ) وفي طبقات المكلفين من كتاب طريق الهجرتين أن القسم الثاني من العاجزين عن السؤال والعلم الذي مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم المرشد فهذا حكمه حكم أرباب الفترات لم تبلغه الدعوة ( الثاني ) معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره وتطلب نفسه سواه ولا فرق بين حال عجزه وقدرته ، وكلاهما عاجز ، وهذا لا يجب أن يُلحق بالأول لما بينهما من الفرق فالأول لمن طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل بعد استفراغه الوسع في طلبه عجزاً أو جهلاً والثاني لمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض .(1/11)
هذا ملخص ما ذكره ابن القيم وقد ذكرناه بتمامه في جواب المسألة التي سأل عنها أحمد ابن دهش فراجعه فيها لكن ينبغي أولا أن يعلم أن العوام من المسلمين وكذلك البوادي ممن كان ظاهره الإسلام لا يكلفون بمعرفة تفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله ورسوله وتفاصيل الإيمان بالله ورسوله وتفاصيل ما شرعه الله من الأحكام لأن ذلك ليس في طاقتهم ولا في وسعهم و { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } بل يكتفي منهم بالإيمان العام المجمل كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في كتاب الإيمان وقال في ( منهاج السنة ) لا ريب أن يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن ونحو ذلك ، فما أوجبه على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم ، وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرتهم
إيمان عبد الله بن حمار وحاطب وذنبهما
وحاجتهم ومعرفتهم ، وما أمر به أعيانهم ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر ذلك ويجب على من سمع النصوص وفهمها على التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ، ويجب على المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك . انتهى والله أعلم .
(فصل)
(المسألة الرابعة – قول السائل ) ما الشخص الذي يحب جملة ومن الذي يحب من وجه ومن يبغض من وجه والذي يبغض جملة ؟
((1/12)
الجواب ) أن نقول الشخص الذي يحب جملة هو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام ، ومبانيه العظام ، علماً وعملاً واعتقاداً وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله وانقاد لأوامره وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله وأحب في الله ووالى في الله وأبغض في الله وعادى في الله وقدم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل أحد كائناً من كان إلى غير ذلك من القيام بحقوق الإسلام وشرائعه . وأما الذي يحب جملة من وجه ويبغض جملة من وجه آخر فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر ومن لم يتسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح وهلاكه أقرب إليه من أن يفلح .(1/13)
وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار وهو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )) مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله ورسوله وجاهد في سبيله لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يداً عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل الوحي بخبره وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً والزبير في طلب الظعينة وأخبرهما أنهما يجدانها في روضة خاخ فكان ذلك كذلك فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له ما هذا ؟ فقال يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيماني ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمي بها أهلي ومالي فقال - صلى الله عليه وسلم - (( صدقكم خلوا سبيله )) واستأذن عمر في قتله فقال : دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال (( وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم )) وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } "الممتحنة: من الآية1"الآيات فدخل حاطب في المخاطبة
موالاة المؤمن وإن عصى وظلم ضد ذلك(1/14)
اسم الإيمان ووصفه به وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إرادته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع من موالاة وأنه أبلغ بالمودة فإن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل لكن قوله (( صدقكم خلوا سبيله )) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولامرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قيل خلوا سبيله لا يقال قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) هو المانع من تكفيره لإنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } "لمائدة: من الآية5" وقوله تعالى { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } "لأنعام: من الآية88" والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا .(1/15)
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } "الحجرات من الآية 9"إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم } "لحجرات: من الآية10" فجعلهم اخوة مع وجود الاقتتال والبغي وأمر بالإصلاح بينهم ، وكان مسطح ابن أثاثة من المهاجرين والمجاهدين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ممن سعى بالإفك فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحد عليه وجلده وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لقرابته وفقره فآلى أبو بكر أن لا ينفق عليه بعد ما قال لعائشة ما قال فأنزل الله { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } "لنور: من الآية22" فقال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي ، فأعاد عليه نفقته . وأمثال هذا كثير لو تتبعناه لطال الكلام .(1/16)
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله فإذا كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية لقوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } " الحجرات من الآية 9 " إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة } "الحجرات من الآية 10" فجعلهم أخوة موجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك فان الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه الثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا
الموالاة والمعاداة ، والحب والبغض
للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون أن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له فى الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين"فتاوى ابن تيميه ج28/ص208- 209-210" .(1/17)
وقال رحمه الله في موضع آخر :من سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ، ويرحم الخلق ، ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه . هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم كما قد بسط هذا في موضعه والله أعلم .
فانظر رحمك الله إلى ما قرره شيخ الإسلام في مسئلة الهجر أن الرجل الواحد يجتمع فيه خير وشر ، وبر وفجور ، وطاعة ومعصية ، وسنة وبدعة ، فيستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجباً الأكرام والإهانة إلى آخر كلامه فمن أهمل هذا ولم يراع حقوق المسلم التي يستحق بها الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، وكذلك يراعى ما فيه من الشر والمعصية والفجور والبدعة وغير ذلك فيعامله بما يستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر – فمن ترك هذا[ قوله فمن ترك – أعاده لقوله : فمن أهمل – لبعده وهو مبتدأ خبره – سلك مسلك أهل البدع ] وأهمله سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط أو مستحقاً للعقاب فقط ، فإن هذا مخالف لما قاله أهل السنة والجماعة .
ثم انظر إلى غالب ما يفعله من يستعمل الهجر من الناس هل هو متبع لما عليه أهل السنة والجماعة أو متبع لما عليه أهل البدع من الخوارج وغيرهم ؟ وكذلك تأمل قوله رضي الله عنه ( ومن سلك طريق الاعتدال – إلى قوله – ويعلم أن الرجل الواحد يكون له حسنات وسيئات ، فيحمد ويذم ، ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ، إلى آخر كلامه . يتبين [ قوله يتبين لك الخ جواب لقوله : ثم انظر إلى غالب ما يفعله الخ ] معنى ما قدمته لك مما عليه أهل السنة والجماعة ومن خالفهم .(1/18)
وأما الذي يبغض جملة فهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأنه كافر بقضاء الله وقدره ، وأنكر البعث بعد الموت وترك أحد أركان الإسلام
الهجر المشروع ما كانت مصحلته راجحة
الخمسة ، وأشرك بالله سبحانه وتعالى في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين ، وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة كالحب والدعاء والخوف والرجاء ، والتعظيم والتوكل والاستغاثة ، والإستعاذة والإستعانة والذبح والنذر والإنابة ، والذل والخضوع والخشوع والخشية ، والرغبة والرهبة ، والتعلق على غير الله في جميع الطلبات ، وكشف الكربات وإغاثة اللهفات ، وجميع ما كان يفعله عباد القبور اليوم عند ضرائح الأولياء والصالحين وجميع المعبودات . وكذلك من ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة . وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها – وبالجملة فهو من ترك جميع المأمورات ، وارتكب جميع المحظورات . والله أعلم .
(فصل)
( المسألة الخامسة ) قول السائل : والهجر هل هو في حق الكافر أو المسلم ؟ وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله ؟ وهل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان ؟ وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
((1/19)
والجواب ) أن نقول : اعلم يا أخي أولا أن الهجر إن لم يقصد به الإنسان بيان الحق و، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحاً ، وإذا غلظ في ذم بدعه أو معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ، ليحذرها العباد ، كما في نصوص الوعيد وغيرها . وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيراً والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا التشفي والانتقام ، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون من الغزاة يعتذرون ويحلفون ، وكانوا يكذبون ، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق .
إذا تحققت هذا فالهجر المشروع إنما هو في حق العصاة والمذنبين لا في حق الكافر فإن عقوبته على كفره أعظم من الهجر ، وهجر العصاة المذنبين من أهل الإسلام إنما هو على وجه التأديب فيراعى في الهجر أو الترك منا سيأتي بيانه .
وهذه المسألة قد كفانا الجواب عنها شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه فقال : الهجر الشرعي نوعان أحدهما بمعنى الترك للمنكرات و الثاني بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } "الأنعام:68" { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } "النساء: من الآية140" يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك بخلاف من حضر عندهم
دعاة البدع وما يعاملون به(1/20)
للإنكار عليهم أو حضر بغير اختياره ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله وفى الحديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال - صلى الله عليه وسلم - المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان فانه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به ومن هذا قوله تعالى { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } "المدثر:5" النوع الثاني الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر الخير، وان كان منافقا فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر إنها بدع وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ولا يصلى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يناكحون فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية لأن الداعية اظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فانه ليس شرا من المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرب العامة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه )) فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين فى(1/21)
قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قوما ويهجر آخرين كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من اكثر المؤلفة قلوبهم لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان فى هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبنى على هذا الأصل ولهذا كان يفرق
الفرق بين الهجر لحق الله والهجر لحق النفس(1/22)
بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه وإذا عرف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لابد أن تكون خالصه لله أن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صوابا فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا عن هذا وما اكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز اكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه (( قال لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) فلم يرخص في هذا الهجر اكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة اكثر من ثلاث وفى الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((تفتح أبواب الجنة كل أثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا )) فهذا الهجر لحق الإنسان حرام و إنما رخص في بعضه كما رخص للزوج إن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به و الثاني منهي عنه لأن المؤمن أخوة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا المسلم أخو المسلم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في السنن (( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فان فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين )) وقال في الحديث الصحيح (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل(1/23)
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادى في الله ويوالى في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وان ظلمه فان الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } "الحجرات:9" إلى قوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } "الحجرات: من الآية10" فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك [يعني أن الإحسان في المعاملة الدنيوية لا يصح أن يكون سبباً لموالاة الكافر موالاة دينية كما عدته على كفره أو استحسانه منه وإقراره عليه ..(1/24)
وليس معناه أنه يجب أن يقابل الكافر على إحسانه المعاملة بالعداوة والإيذاء فإن هذا مخالف لقوله تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } "الممتحنة:8" الخ الآيات ، فالإسلام يأمر أهله بأن يكونوا فوق جميع الكفار فضلاً وإحساناً وبراً ويرشدهم إلى أن تكون لهم اليد على غيرهم ولا يكون لغيرهم يد عليهم وإحساناً وبراً ويرشدهم إلى أن تكون لهم اليد على غيرهم ولا يكون لغيرهم يد عليهم وللكافر الحربي معاملة غير معاملة المعاهد والذمي كم هو معروف في محله ]
الاعتدال في الهجر وترجيح المصلحة
فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة فيجتمع له من هذا وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه فلم يجعلوا الناس لا مستحقا للثواب فقط ولا مستحقا للعقاب فقط وأهل السنة يقولون إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه ثم يخرجهم منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته كما استفاضت بذلك السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . انتهى فتاوى ابن تيميه ( ج 28 / 403-410).
((1/25)
وأما قول السائل ) وإذا كان في حق المسلم العاصي فما القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله فنقول : القدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله هو ما تقدم ذكره من هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها ، لكن ينبغي أن يعلم أن المعاصي متفاوتة في الحد والمقدار فمنها ما هو من قسم الكبائر ومنها ما هو من قسم الصغائر ، فيهجر العاصي على قدر ما ارتكبه من الذنب { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } "الأنعام: من الآية132" ولا يسوى بين الذنوب في الهجر ويجعل ذلك باباً واحداً إلا جاهل . لأن هذا الهجر من باب التأديب ، والمقصود به بيان الحق ، ورحمة الخلق (( والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره )) وإذا أفضى ذلك إلى التقاطع والتدابر والتباغض والتحاسد لم يكن الهجر مشروعاً لأن مفسدته أرجح من مصلحته .
وقد بلغني أن بعض هؤلاء المهاجرين لمن يرتكب شيئاً من الذنوب والمعاصي إذا قال لهم المهجور : أستغفر الله وأتوب إليه وأقر على نفسه بالذنب وتاب إلى الله منه لا يقبلون منه بل يستمرون على هجره ومعاداته ، هذا خلاف ما شرعه الله ورسوله ، بل هذا من باب التفي والانتقام ، لا من باب الرحمة والإحسان بالمسلم . والواجب أن ينصح الرجل أخاه المسلم عن هذا الذنب فإن تاب منه فهو المطلوب ، وإن لم يتب واستمر على معصيته هجره حتى يتوب منها ، إن كانت المصلحة في حقه أرجح وإن لم ينزجر عنها وكانت المفسدة في حقه أرجح من المصلحة لم يكن الهجر مشروعاً كما ذكر ذلك شيخ الإسلام والله أعلم .
القاسطون في الهجر والبغض
وقوله هل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان ؟(1/26)
فأقول : نعم يفرق بين الأزمان فزمان يهجر فيه وزمان لا يهجر فيه وذلك إذا كان الناس حدثاء عهد بجاهلية فينبغي أن يراعى في حقهم الأصلح وهو التأليف وترغيبهم في الإسلام ودخولهم فيه وعدم تنفيرهم وليعلموا أن هذه الملة المحمدية حنيفية في الدين سمحة في العمل كما قال - صلى الله عليه وسلم - لما جاء الحشية يلعبون بحرابهم في المسجد فقام ينظر إليهم وقال (( لتعلم يهود أن في ديننا فسحة ، إني بعثت بحنيفية سمحة )) مسند أحمد " ج 6ص 116" ففي مثل هذه الأزمان لا يستعمل الهجر مع كل أحد لئلا يحصل بذلك عدم رغبة في الدخول في الإسلام وتنفير الناس عنه . وكذلك الأشخاص شخص يهجر وشخص لا يهجر كما قال شيخ الإسلام : خاصة وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين فى قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فان كان المصلحة فى ذلك راجحة بحيث يفضى هجره الى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وان كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف. فتاوى ابن تيميه "ج28/ص206" إلى آخر كلامه .(1/27)
وإذا كان ذلك كذلك فهجر القادة والأكابر الذين يخاف من هجرهم عدم قبول وانقياد أن في ذلك غضاضة عليهم ونقصاً في حقهم وربما يحصل بذلك منهم تعد بيد أو لسان فلا ينبغي هجرهم لأن من القواعد الشرعية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وكذلك الأحوال يراعى فيها الأصلح كما يراعى في الأزمان الأشخاص كما قال شيخ الإسلام . وهذا كما أن المشروع في العدو – القتال تارة والمهادنة تارة ، وأخذ الجزية تارة ، كل ذلك بحسب المصالح والأحوال إلى آخر كلامه فتأمله يزل عنك إشكالات طالما أعشت عيون كثير من خفافيش الأبصار الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام ، ولا اطلاع لهم على مذكرة أئمة أهل الإسلام والله المستعان .
(فصل)
إذا تحققت هذا وعرفت ما ذكره شيخ الإسلام من الهجر المشروع وغير المشروع فاعلم يا أخي أن كثيراً من الناس يهجرون على غير السنة وعلى غير ما شرعه الله ورسوله ويحبون ويوالون ويبغضون ويعادون على ذلك وذلك أن بعض الناس ممن ينتسب إلى طلب العلم والمعرفة أحدث لمن يدخل في هذا الدين شعاراً لم يشرعه الله ولا رسوله ولا ذكره المحققون من أهل العلم لا في قديم الزمان ولا في حديثه وذلك أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه ويسمونها بالعمامة وأن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن لبسها كان من الإخوان الداخلين
الرد على من التزم لباساً لا يتعداه
في هذا الدين ومن لم يلبسها فليس منهم لأنه لم يلبس السنة . وهذا لم يقل به أحد من العلماء ولا شرعه الله ولا رسوله بل هذا استحسان منهم وظن أنه من السنة وليس هذا من السنة في شيء وبيان ذلك من وجوه .
((1/28)
الوجه الأول ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث في النبوة أربعين سنة ولباسه لباس العرب المعتاد من الأزر والسراويل [ لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يلبس السراويل بل ورد في روايات ضعيفة ولكن اشتراه وأمر بلبسه ولهذا أطلق ابن القيم في الهدى أن يلبسه وقيل أن هذا سبق قلم منه ] والأردية والعمائم ثم لما أكرمه الله بالرسالة والنبوة ورحم الله الخلق ببعثته ودخل الناس في دين الله أفواجاًً وشرع الشرائع وسن السنن لأمته لم يشرع لهم لباساً غير لباسهم المعتاد ولا جعل للمسلمين شعاراً يتميز به المسلمون من الكفار بل استمروا على هذا اللباس المعروف المعتاد إلى انقراض القرون الأربعة وما شاء الله بعدها لم يحدثوا لباساً يخالف لباس العرب [ أي لم يحدثوا زياً خاصاًً بالمسلمين ولكنهم لبسوا ما كان يلبس العرب في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية وفي صحيح مسلم أنه لبس الطيالسة الكسروية أي لبيلن الجواز ثم تفنن المسلمون في الأزياء في أيام حضارتهم في تلك القرون ولكن لم يجعلوها شعاراً دينياً .] ولم يكن من عادتهم لبس المحارم والغتر والمشالح والعبي كما هو لبس العرب اليوم من الحاضرة والبادية .
( الوجه الثاني ) أن هذه العصائب على المحارم والغتر والشمغ وغيرها التي يسمونها العمائم أن كان المقصود بجعلها على الرؤوس وعلى المحارم الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لباسه فهذه لم تكن هي العمائم التي كان يلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر العرب يلبسونها بل تلك كانت لجميع الرأس وعلى القلانس كما قال - صلى الله عليه وسلم - (( فرق ما بيننا وبين الأعاجم على القلانس )) والقلنسوة هي الطاقية في عرفنا وعادة العرب في العمامة أنهم يجعلونها محنكة فلأي شيء لم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا اللباس على هذا الوضع إن كان المقصود الاقتداء به .
((1/29)
الوجه الثالث) أن يقال لمن أحدث هذه العصائب لو كانت هي العمائم المعروفة على ما وصفنا : ما وجه تخصيص هذه العمائم بالسنية من بين سائر لباس النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأردية والقمص والسراويل [ أخذ المؤلف هذا من كتاب الهدى للعلامة ابن القيم كما تقدم وأنه نسب فيه إلى اللهو كما قال أبو عبد الله الحجازي في حاشيته على الشفاء والخطب سهل .] والأزر وغيرها وكان اللائق بالمقتدى أن يلبس جميع ما يلبسه - صلى الله عليه وسلم - ولا يجعل بعضه مسنوناً وبعضه مهجوراً متروكاً .
( الوجه الرابع ) أنه لما أحدث بعض الفقهاء من الحنابلة وغيرهم شعاراً يتمتيز به المصاب من غيره فيعزى أنكر ذلك المحققون من أهل العلم الذين لهم قدم صدق في العالمين كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في عدة الصابرين : وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوباً يعرف به قالوا لأن التعزية سنة وفي ذلك تيسير لمعرفته حتى يغزى ففيه نظر وأنكره شيخنا ولا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا القول وقد كره إسحاق بن راهويه أن يترك الرجل لبس ما عادته شيئاً من زيهم قبل المصيبة ولا يتركون ما كانوا يفعلونه ، فهذا مناف للصبر والله أعلم .
فتبين مما ذكره ابن القيم إن إحداث هذا الشعار عند المصيبة لم يكن السلف يفعلون شيئاً من ذلك ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين فكذلك هذه العصائب المحدثة التي زعموا أنه يتميز بها من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه أحداث شعار في الإسلام لم يفعله الصحابة ولا التابعون من بعدهم من العلماء ومن زعم ذلك فعليه الدليل وليبين لنا من ذكره من العلماء في أي زمان وفي أي كتاب وفي أي باب من أبواب العلم ؟
((1/30)
الوجه الخامس ) أن لبس العمائم والأردية والأزر وغيرها هو من العادات التي هي من قسيم [ في الأصل قسيم بالياء وقد تكرر هذا فيه ولعله من سهو الناسخ فالقسم من الشيء الجزء منه وقسيم الشيء مقابله الذي يدخل معه في مقسم واحد فكل من الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح قسم للآخر ، والعادات المذكورة من قسم المباح الذي هو قسيم الواجب وغيره من الأحكام الخمسة .] المباحات التي لا يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها لا من قسيم العبادات كالسنن التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها وقد أنكر بعض الجهمية من أهل عمان على المسلمين لبس المحارم وشرب القهوة وزعم أن هذا بدعة فأجابه شيخنا الشيخ عبد اللطيف بقوله وهذا من أدلة جهله وعدم معرفته للأحكام والمقاصد النبوية فإن الكلام في العبادات لا في العادات والمباحث الدينية نوع ، والعادات الطبيعية نوع آخر . فما اقتضته العادة من أكل وشرب ومركب ولباس ونحو ذلك ليس الكلام فيه والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولم يرد بها دليل شرعي من هديه - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه وأما ماله أصل كإرث ذوي الأرحام وجمع المصحف والزيادة في حد الشارب وقتل الزنديق ونحو ذلك فهذا وإن لم يفعله في وقته - صلى الله عليه وسلم - فقد دل عليه الدليل الشرعي وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام .
وقال رحمه الله أيضا في رده على البولاقي صاحب مصر في قوله : وها أنتم قد تفعلون كغيركم حوادث قد جاءت الأب والجد كحرب ببارود وشرب لقهوة وكم بدع زادت عن الحد والعد
لبس العقال هل يباح أو يمنع ؟
قال رحمه الله تعالى :
وأعجب شيء أن عددت لقهوة مع الحرب بالبارود في بدع الضد
وقد كان في الإعراض ستر جهالة غدوت بها من أشهر الناس في البلد
فما بدع في الدين تلك وإنما يراد بها من الأحداث في قرب العبد(1/31)
فتبين بما ذكره الشيخ أن العادات الطبيعية كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب وغيرها نوع ، وأن المباحث الدينية والمقاصد النبوية نوع آخر لا يجعل ما هو من قسيم العادات الطبيعية ، من العبادات الشرعية الدينية ، إلا جاهل مفرط في الجهل .
وقد بلغني عن بعض الإخوان أنهم ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من لبس العقال سواء كان ذلك العقال أسود أو أحمر أو أبيض ويهجرون من لبسه ويعللون ذلك بأنه لم يلبسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولم يكن ذلك يلبس في عهدهم ولا هو من هديهم ، وإذا كانت هذه العلة هي المانعة من لبس فيكون حراماً ولابسه قد خالف السنة . فيقال لهم : وكذلك لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان يلبسون هذه المشالح لا الأحمر منها ولا الأبيض ولا الأسود ولا العبي [ المراد بالعبي جمع عباية وهي في لغة العوام والعباية وجمعها عباء وعبآت ] على اختلاف ألوانها والكل من هذه الملابس صوف ظاهر وكذلك لم يكونوا يلبسون الغتر الشمغ على اختلاف ألوانها فلأي شيء كانت هذه الملابس حلالاً مباحاً لبسها ؟ وهذه العقل محرمة أو مكروهة لا يجوز لبسها ؟ والعلة في جميع واحدة على زعمهم ، مع أن هذا لم ينقل عن أحد من العلماء تحريمه ولا كراهته .(1/32)
وقد أظهر الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فدعا الناس إلى توحيد الله وعبادته وقد كانوا قبل ظهوره في أمر دينهم على جهالة جهلاء ، وضلالة ظلماء ، فدعاهم إلى الله وإلى توحيده وكانوا قبل دعوته يعبدون الأولياء والصالحين والأحجار والغيران وغير ذلك من المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فدعا الناس إلى توحيد الله وعبادته وبين لهم الأحكام والشرائع والسنن حتى ظهر دين الله وانتشر في البلاد والعباد ، ولم يكن في وقته أحد يلبس هذه العصائب ولا أمر الناس بلبسها ولا ذكر أنها من السنن ، ولا أنكر على الناس ما كانوا يعتادونه من هذه الملابس كالعُقُل وغيرها ، لأنها من العادات الطبيعية ، لا العبادات الدينية الشرعية .
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
( الوجه السادس ) أن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سنه أو أمر به من أصول
آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/33)
الدين حتى الهدى والسمت فعلى هذا يكون الأصل في موضوعها هو ابتداء فعل أو قول لم يكن قبل ذلك مقولاً ولا مفعولاً ثم صار بعد الأمر بذلك مسنوناً مشروعاً لأن العبادات مبناها على الأمر وبيان ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا فات أحداً منهم بعض الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها قبل السلام فجاء معاذ رضي الله عنه وقد فاته بعض الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرغ من الصلاة قام معاذ فقضى ما فاته منها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن معاذاً قد سن لكن سنة فاتبعوها )) هذا هو المعروف من لفظ السنة وموضوعها وهذا بخلاف العمائم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسن لأمته لبسها بل كانت هي عادة العرب قبل الإسلام وبعده فما وجه تسميها بالسنة وتخصيصها لو كانوا يعلمون ؟ - فإنما دواء العي السؤال والله أعلم .
( وأما قول السائل ) وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فنقول : الكلام فيه كالكلام في الأزمان والأشخاص والأحوال يراعى فيه ما هو الأصلح والأرجح وهو على المراتب الثلاث باليد فإن عجز عن ذلك فباللسان فإن عجز فبالقلب وذلك أضعف الإيمان . ولكن ينبغي للآمر والناهي أن يكون عليماً فيما يأمر به ، عليماً فيما ينهى عنه ، حليماً فيما ينهى عنه ، رفيقاً فيما ينهى عنه ، فمن أهمل هذا كان إفساده اكثر من إصلاحه والله أعلم .
(فصل)
وأما قوله وهل إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه في وقت من الأوقات وهو يريد الرجوع يقع عليه وعيد من تعرب بعد الهجرة أم لا ؟
((1/34)
فالجواب ) أن يقال إذا خرج بعض من نزل في دار الهجرة إلى البادية لأجل غنمه ومن نيته الرجوع إلى مسكنه وداره التي هاجر إليها لا يقع عليه وعيد من تعرب بعد الهجرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )) وهذا الذي خرج إلى غنمه ليصلحها ، ويتعاهد أحوالها ، ثم يرجع إلى مهاجره ليس من نيته التعرب بعد الهجرة ، ولا رغبة عن الإسلام وأهله ، فلا يدخل في الوعيد . وقد اعتزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه – أيام الفتنة التي كانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما – في قصر له في البادية فقيل له في ذلك فقال شعراً :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
العصائب هل هي من السنة أم لا ؟
ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا قال له أحد منهم : إنك تعربت بعد الهجرة وتركت دار الهجرة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذن في مثل هذا كما هو مذكور في محله في غير هذا الموضع .(1/35)
وهذا الذي ذكرناه عن بعض الإخوان لم يكن منا رجماً بالغيب بل قد جاءوا إلينا وسألوا الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف عن هذه المسائل وعن هذه العصائب بخصوصها فأخبرهم أنها ليست من السنة في شيء وإنما هي من العادات الطبيعية ، لا من العبادات الدينية الشرعية ، وأغلظ لهم القول لما سألوه عن بعض هذه المسائل وأمرهم أن يعلموا أصل دينهم الذي يدخلهم الله بالجنة وينجيهم به من النار فإذا تمكن هذا الدين من قلوبهم فالجواب عن هذه المسائل وغيرها ممكن سهل وقد نفع الله به كثيراًً من الإخوان الداخلين في هذا الدين فانزجروا عن تلك الورطات ، التي من سلكها أفضت به إلى مفاوز الهلكات ، ولولا ما دفع الله بأغلاظه لهم عنها لاتسع الخرق على الراقع فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .
(فصل)
ولما انتهينا إلى هذا الموضع من تسويد هذه الأوراق قدم إلينا بعض الإخوان وافداً إلى الإمام ومعه ورقة في فضل العمامة يزعم أنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه – قدس الله روحه – فلما تأملتها لم أجد فيها من كلام شيخ الإسلام لفظاً صريحاً إلا ما نقله شارح الإقناع عن شيخ الإسلام أن قال : إطالتها – أي الذؤابة – بلا إسبال . وإن أرخى طرفها بين كتفيه فحسن – فإن كان فيها شيء من كلام شيخ الإسلام فهو لم يبينه ولم يفصله عن غيره حتى يعلم ذلك ونحن نبين أن شاء الله تعالى ما في هذا الكلام من الخطأ وما يناقضه من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وقدس روحه وهذا نص ما نقله في هذه الورقة قال فيها :
((1/36)
فائدة ) في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى وقدس روحه في أن الإقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال : كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه .
(والجواب) عن هذا من وجوه
( الوجه الأول ) أن ليس في هذا الكلام ما يدل على فضل العمامة وإنما فيه أن الإقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في العمامة مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه . فالإقتداء به في إرسال الذؤابة في العمامة لمن كان يعتاد لبسها مسنون مشروع وهذا يدل على فضل إرخاء الذؤابة بين الكتفين لا على فضل
العمامة من العادات . والفضيلة في التأسي
العمامة لأن لبس العمامة من العادات الطبيعية ، لا من العبادات الدينية الشرعية وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها هو وسائر العرب قبل أن ينزل عليه الوحي وقبل أن يشرع الشرائع ويسن السنن .
((1/37)
الوجه الثاني ) أن لابس هذه العصائب على الغتر الشمغ وغيرها لم يكن مقتدياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن العمامة التي كان يلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ساترة لجميع الرأس وكان يلتحي بها تحت الحنك وهذا بخلاف هذه العصائب واسم العمامة لا يقع إلى على ما وصفنا [ العمامة في اللغة ما يلف على الرأس ويكنى بها عن المغفر والبيضة ما في القاموس وشرحه لسان العرب ، وتسمى العمامة عصابة أيضاً. وهي في الأصل ما يعصب الرأس وغيره : وفي صحيح مسلم بل والسنن الأربع والشمائل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء . وفي رواية للشمائل عصابة سوداء . نعم أنهم كانوا يتحنكون بالعمائم وهو ضرب من الأعتمام ولكن ما يلف على الرأس يسمى عمامة مطلقاً وقد شذ من عد الإعتمام سنة مطلقاً والأظهر أنه من العادات ولكن قصد التأسي به فضيلته ومن علامته القصد وإرخاء الذؤابة والتحنيك ] .
(الوجه الثالث) أن لبس العمائم والإزر والأردية وغيرها لم يكن من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بل كان هذا لباسه مع سائر العرب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام فأي قربة أو فضيلة في الإقتداء به فيما كان فعله مشتركاً بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين سائر العرب مسلمهم وكافرهم ؟
(الوجه الرابع) إنا لا ننكر إباحة جعل هذه العصائب على الغتر مطلقاً وإنما أنكرنا زعمهم أنها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي سنها لأمته وشرعها وجعل ذلك شعاراً يتمتيز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه كما بينا بطلان ذلك في غير هذا الموضع وسنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى .
( وأما قوله ) في الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم سدل عمامته من بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله : رأيت سالما والقاسم يفعلانه .(1/38)
فأقول : وهذا ليس فيه إرخاء الذؤابة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق لا شك فيه . ولا ارتياب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ، والفضيلة وإنما هي في الإقتداء به إرسال الذؤابة بين الكتفين .
( وأما قوله ) وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ( غدير خم ) بعمامة فسدل طرفها على كتفي وقال (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) [ الحديث رواه أبو داود والترمذي عن شيخ مجهول فهو ضعيف وليس فيه ذكر الملائكة بل قال (( عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسدلها بين يدي ومن خلفي )) هكذا في سنن أبو داود ولم أره في الترمذي .
وأما الجملة الأخيرة فهي من معنى حديث رواه أبو داود والترمذي أيضا عن ابن ركانة عن أبيه مرفوعاً بلفظ (( فرق ما بيننا وبين المشركين لبس العمائم على القلانس )) قال الترمذي حديث غريب وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف إبن الحسن العسقلاني ( أي وهو الذي انفرد بروايته ) ولا ابن ركانه . وسيذكره المصنف بغير تخريج .] .
الأحاديث في ارخاء الذؤابة
((1/39)
فأقول) هذا الحديث فيه ألفاظ تخالف ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتخالف ما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهي قوله (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة ومعتمين بهذه العمة وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي لما ذكر ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه : وفي مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة وعليه عمامة سوداء ولم يذكر في حديث جابر ذؤابة فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائماً بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه ، فلبس في كل موطن ما يناسبه .
وكان شيخنا أبو العباس ابن تيميه قدس الله روحه في الجنة ، يذكر في سبب الذؤابة شيئاً بديعاً ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة ، لما رأى رب العزة تبارك وتعالى ، فقال : " يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : لا أدري ، فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض . . . " الحديث ، وهو في الترمذي ، وسئل عنه البخاري ، فقال صحيح . قال : فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه ، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم ، ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره . زاد المعاد " ج 1 ص 136-137" .
فذكر رحمه الله تعالى أن سبب [ لفظ هنا زائد فإن الإرخاء هو الذي كان صبيحة تلك الليلة لا سببه الذي هو الرؤيا فيها ] ارخاء الذؤابة كان صبيحة المنام الذي رآه في المدينة لما رأى رب العزة تبارك وتعالى وفيه (( فوضع يده بين كتفي )) قال فمن تلك الحال أرخى الذؤابة .(1/40)
وهذا الناقل ذكر في الحديث الذي ذكره عن عبد الرحمن بن عوف أن سبب إرخاء الذؤابة لما عممه بها أنها كانت عمة الملائكة الذين أمده الله بهم يوم بدر ويوم حنين ولو كان هذا هو السبب في ارخاء الذؤابة لذكره ابن القيم رحمه الله تعالى مع أن هذا الحديث لم يعزه إلى كتاب ولا بد من عزوه إلى كتاب من دواوين أهل الحديث المعروفة المشهورة مع تعديل رواته وتوثيقهم وإلا فلا نسلم صحته [ بينا أن العبارة ملفقة من حديثين هما في سنن أبي داود والترمذي وأنهما ضعيفان ] وذكر في الحديث أن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين فلا أدري ما أراد بهذا الكلام وهل ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ لأنه قد كان من المعلوم أن على المشركين عمائم كما هي على المسلمين وعلى الملائكة فما معنى قوله (( وأن العمامة حاجزة )) إلى آخره .
أقوال العلماء . ومنع دلالتها على فضل العمامة
ثم قال ابن وضاح بسنده عن عصام بن محمد عن أبيه قال : رأيت على ابن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع .
وهذا الحديث فيه أن العمامة التي رآها على ابن الزبير عمامة سوداء وهؤلاء لا يلبسون العمائم السود ولا يعصبون رؤوسهم وغاية ما فيه أنه أرخاها قد ذراع وهذا لا ينكره منا أحد .
ثم قال : وقال عثمان بن إبراهيم رأيت ابن عمر يخفي شاربه ويرخي عمامته من خلفه إلى أن قال وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجمهور . ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال الأولون : إنها تكون قدر أربع أصابع وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعده انتهى .
وهذا الذي ذكره عن ابن وضاح – إن كان النقل عنه ثابتاً بذلك – فليس فيه إلا إرخاء الذؤابة وفضيلة الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إرخائها لا في سنية العمامة .(1/41)
وأما قوله في الإقناع وشرحه ويسن إرخاء الذؤابة خلفه نص عليه قال الشيخ إطالتها – أي الذؤابة – بلا إسبال وإن أرخى طرفها بين كتفيه فحسن . فأقول هذا حق ولا نزاع فيه فإنه لم يذكر في الإقناع ولا في شرحه إلا أن إرخاء الذؤابة سنة لقوله ويسن إرخاء الذؤابة وأما العمامة فلم يذكر في شأنها شيئاً – لأنه قد كان من المعلوم عندهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يشرعها لأمته ولا سنها لهم بل كان عادة العرب لبسها في الجاهلية والإسلام .
وأما قوله قال الآجري وأرخاها ابن الزبير من خلفه قدر ذراع وعن أنس نحوه ، ذكره في الأدب ويسن تحنيكها ( أي العمامة ) لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدد لف العمامة كيف شاء قاله في المبدع وغيره وروى ابن حبان في كتاب أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتم فيدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرخى لها ذؤابة بين كتفيه انتهى .
( فالجواب ) أن قول : وهذا كله إنما هو في سنية إرخاء الذؤابة من خلفه وهذا لا نزاع فيه ولا ينكرها منا أحد وليس في جميع ما أورده هاهنا من الأحاديث وكلام العلماء حرف واحد يدل على مشروعية لبس العمامة وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنها لأمته بل فيه ما ذكرنها آنفاً .
ولما بلغني خبر هذه الورقة وأنها من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه ظننت أن قد جاء بما يناقض ما عندنا في ذلك فلما تأملتها إذا هو قد جاء بكلام لا أدري أهو من كلام شيخ الإسلام
الرد على من التزم لباساً لا يتعداه(1/42)
أم لا ؟ وبأحاديث لا تدل على ما فهمه منها فأخطأ في مفهومه حيث وضع الأحاديث وكلام العلماء في غير موضعها واستدل بها على غير ما تدل عليه فلم يأت الأمر من بابه ، ولا أقر الحق في نصابه ، فجعل ما ورد من الأحاديث في الذؤابة وما ذكره العلماء في ذلك نصاً في مشروعية العمامة ولبسها وهم لم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كان يعتاده من لباسه في العمامة وأنها ساترة لجميع الرأس وأنه كان يلتجئ بها تحت الحنك ويتعمم على القلنسوة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( فرق ما بينننا وبين المشركين العمائم على القلانس )) [ وفي نسخة الأعاجم . نقول والحديث ضعيف كما تقدم ] ولم يقتدوا به في لبس الرداء والإزار وغير ذلك مما كان يعتاده من لباسه هو وأصحابه رضي الله عنهم وتركوا هذا كله وعدلوا إلى وضع عصابة على غتر زعموا أنها هي العمامة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبسها هو وأصحابه وجعلوا ذلك شعاراً يتميز به من دخل في هذا الدين عمن لم يدخل فيه وهذا هو الذي أنكرناه .
وقد ذكر شيخ الإسلام في الاختيارات ما نصه أن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساء من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان .
( المسألة الأولى ) هل يشرع ذلك استحباباً بالتمييز للفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة ؟ أقول فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه .
ثم ذكر المسألة الثانية أن لبس المبرقعات والمصبغات والصوف إلى آخرها وهذه المسألة ليس النزاع فيها فلا حاجة إلى ذكرها هنا – إلى أن قال – وأيضا فالتقيد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضا منهي عنه .(1/43)
وقال رحمه الله أيضا في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ( فصل ) وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات – فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحاً ولا بحلق شعراً أو تقصيره أو بضفره إذا كان مباحاً كما قيل ( كم صديق في قباء ، وكم زنديق في عباء ) إلى آخر كلامه رحمه الله – فبين رحمه الله أنه ليس لأولياء الله المتقين لباس يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات وهؤلاء الجهلة ينكرون ما كان يعتاده المسلمون من اللباس كالعقال وغيره ويعللون ذلك لأنه لباس الجند في هذه الأزمان كما ذكروا ذلك في نظمهم وزعموا أنه لا يلبس ذلك إلا أهل الطغيان من الجند الذين هم المجاهدون اليوم في سبيل الله ويسمونهم ( الزكرت )
الشعر في فضل العمامة ومعارضته
ظلماً وعدواناً وتجاوزوا للحد في المقال بغير الله بينه من الله ولا برهان ثم أوهموه من سمع هذا الكلام أن هذه الأبيات الآتي ذكرها من كلام بعض العلماء الذين تقدم ذكرهم بقولهم وقال بعضهم وهذا تدليس وتلبيس منهم وايهام لمن لا معرفة لديه فلو أنهم قالوا : وقال وبعض الشعراء أو قال فلان بن فلان شعراً لكان هذا هو الحق وسلموا بذلك من التلبيس والإيهام . ثم ذكر أبياتاً متكسرة واهية المباني ركيكة المعاني لا تليق إلا بعقل من أنشأها لقصر باعه ، وعدم إطلاعه . وقد قال الحطيئة :
الشعر صعب وطويل سلمه إذا رقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجمه
فلوا أنه اقتصر على النثر لكان أستر له وهذا نص الأبيات التي ذكرها :
يا منكراً فضل العمامة إنها من هدي قد خص بالقرآن
وكذاك قد كان الصحابة بعده والتابعون لهم على الإحسان
وكذاك كانت للأفاضل بعدهم وسما زيا سائر الأزمان
والله ما في لبسهما من ريبة لم تبدع يا معشر الإخوان
ليست كلبس الجند في أزماننا حاشا وربي كيف يستويان(1/44)
هذا شعار ذوي التقى وذا ك ( للزكرت ) وكل ذي طيغان
[ كتب بهامش هذه الصحيفة من الأصل بيتان نثبتهما فيما يلي
رضوا بالطيلسان إذا اكتسوه وتفخيم البرانس والعمامة
كذا دجج البيوت لهن ريش ولكن لا يطرن مع الحمامة
وقد كان يستقيم آخر الأخير في القصيدة وزناً ولغة لو قال :
هذا شعار أولي التقى أبداً وتلـ ـكم للزكرت وكل ذي طغيان ]
[والجواب أن نقول]
يا ذاكراً فضل العمامة إنها من هدى من قد خص بالقرآن
لم تأت بالتحقيق فيما قلته في فضلها بل جئت بالنكران
إن العمامة لبسها من هديه في العادة المعلومة التبيان
مثل الرداء وكالإزار وغيره من هديه المنعوت بالإحسان
والفضل في تلك الأحاديث التي أوردتها معلومة البرهان
إرخاؤها أعني الذؤابة خلفه لو كنت ذا علم بهذا الشأن
والشأن كل الشأن في إرخاؤها لا في اعتياد عمامة الإنسان
إن العمامة لبسها متقدم فيما مضى من سالف الأزمان
قبل النبوة ثم فيما بعدها لا يختفي إلا على العميان
والمصطفى سن الذؤابة بعد ذا فيما حكاه العالم الرباني
لكنكم لم تقتدوا بنبيكم في لبسها يا معشر الإخوان
أنتم جعلتم غترة من فوقها تلك العصابة يا ذوي العرفان
العمامة المسنونة
ليست محنكة وليست كلها للرأس ساترة وذا الوصفان
لابد في لبس العمامة منهما في العادة المعلومة التبيان
والمصطفى والصحب كان معهم فوق القلانس ليس ذا نكران
فتركتموا هذا وجئتم بعده بعصابة زيا بلا برهان
وجعلتموا هذا شعاراً فارقاً بين الأفاضل عن ذوي الطغيان
كالمسلمين ذوي الجهاد وغيرهم اللابسي زي من الألوان
مثل العقال وغيره من زيهم مما أبيح لسائر الإنسان
يا ويلكم من قال هذا قبلكم من كل ذي علم وذي عرفان
هذا كلام الشيخ فيما قد مضى في النهي عن هذا عن الأعيان
من كل ذي فقه وعلم بالذي قد قاله من خص بالقرآن
هذا ولم ننكر عليكم لبسها أعني العصائب معشر الإخوان
لكنما الإنكار منا جعلكم هذا شعاراً عن ذوي الطغيان(1/45)
أن لا يصيروا مثل هذا الجند في هذا اللباس بغير ما برهان
بل بالتعمق والتعسف منكمو بالرأي تشريعاً من الشيطان
إن لم يكن هذا ابتداعاً منكمو في الدين لم يشرع فيا إخواني
هاتوا دليلاً واضحاً من سنة أو من كلام أئمة العرفان
فالحق مقبول وليس يرده من كان ذا علم وذا إتقان
هذي الروافض والأعاجم كلهم يتعممون أهم ذوو إيمان
وكذا اليهود فإن تلك شعارهم من غير تحنيك لدى الأذقان
من خير خلق الله من أهل التقى إن كان هذا الزي ذا فرقان
والمسلمون التاركون للبسها هم أهل هذا الشرك والطغيان
إذا لم يكن هذا الشعار لباسهم مع سائر الإخوان في الأوطان
والله ما هذي مقالة منصف أو خائف من ربه الديان
ولقد علمتم أن من إخواننا أهل التقى والعلم والعرفان
والمنتمين لكل خير في الورى في سائر الأوطان والبلدان
جم غفير لم يكن ذا زيهم من قبل هذا الآن والأزمان
حتى أتيتم فابتدعتم هذه من غير تحقيق ولا برهان
والله ما هذي العصائب سنة قد سنها المبعوث بالقرآن
كلا ولا هذا الشعار بسنة معروفة معلومة التبيان
كلا ولا هذا التعمق قد أتى عن فاضل أو عالم رباني
فأتوا بحجتكم على قلتموا أو فارعووا يا معشر الإخوان
هذا الذي أدى إليه علمنا وبه ندين الله كل أوان
ثم الصلاة على النبي محمد أزكى الورى المولود من عدنان
والآل والصحب الكرام جميعهم والتابعين لهم على الإحسان
عدم التحري في النقل
( فصل )
ولما فرغنا من تسودي هذه الأوراق – وكنا في حال تسويدها قد أحسنا الظن بمن نقلها – بقي في النفس إشكال وتردد هل هذا النقل كله من شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه أم لا ؟(1/46)
حتى بلغني أنه إنما نقل هذه الورقة من مجموع ( المنقور ) فأحضرنا ما نقله ( المنقور ) في مجموعه وقابلنا بينه وبين هذه الورقة المنقولة فإذا هو قد كتب من مجموع ( المنقور ) ما ظن أنه له وحذف منه ما يتيقن أنه عليه لا له وهذا بخلاف ما عليه أهل السنة والجماعة قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله : أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم . وهذا نص ما ذكره المنقور في مجموعه قال :(1/47)
ومما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس بن مالك رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على كور عمامته . وبإسناده إليه (( إذا سمعت النداء فأجب وعليك السكينة فإن أصبت فرجة وإلا فلا تضيق على أخيك واقرأ ما تسمع أذنيك ولا تؤذ جارك وصل صلاة مودع ( ومنها أيضا ) سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن فأجب إن قدر على التصحيح صحح وإن عجز فلا بأس بقراءته حسب استطاعته . ومن كلام له أيضاً : وبعد فالاقتداء بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة كما هو مقرر في علم الأصول لا سيما فيما يظهر فيه قصد القربة كما ورد في إرسال الذؤابة في الحديث الذي رواه مسلم عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه . وفي الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه قال نافع وكان ابن عمر يفعل ذلك قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه . وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسد لها بين يدي ومن خلفي . وعن علي قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ( غدير خم ) بعمامة فسدل طرفها على منكبي ثم قال : (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة وإن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين . قال ابن وضاح حدثني موسى حدثنا وكيع حدثنا عاصم بن محمد عن أبيه قال رأيت علي بن الزبير عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه قدر ذراع قال عثمان بن ابراهيم رأيت ابن عمر يحفي شاربه ويرخي عمامته من خلفه إلى أن قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذي الولايات
حكم إرخاء الذؤابة لعلي(1/48)
والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس ولهذا ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها ( يوم غدير خم ) وكان فيها بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوادع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وعلي إلى جانبه واقفاً وبرأ ساحته مما كان نسب إليه في مباشرته امرة اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هناك من أخذه تلك الجارية من الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لم صرفها إليهم نائبة . فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه . وهكذا يستحب هذا للخطباء والعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها . قال بعضهم قال بعضهم تكون بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك إنها تكون بين اليدين وقال الأولون قدر أربع أصابع بين الكتفين ، وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعدة انتهى ما ذكره المنقور في مجموعه .(1/49)
ونحن نبين ما في ورقته من التدليس والتلبيس والإيهام ، وما فيها من الغلط والكذب على الأئمة الأعلام ، وونبه على ما حذفه وتركه مما نقله من مجموع المنقور مما هو عليه لا له . فأما ما ذكره من التدليس والتلبيس ، والإيهام فهو قوله : فائدة في فضل العمامة من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى وقدس الله روحه إلى آخره وهذا لم يذكره الشيخ أحمد بن ممهر المنقور في مجموعه فأوهم السامع لهذا الكلام أن شيخ الإسلام ذكر هذا في فضل العمامة وهو إنما قاله من تلقاء نفسه وليس هو من كلام شيخ الإسلام ولا من كلام المنقور . تدليس وتلبيس منه على خفافيش الإبصار . وكذلك أوهم السامع أن هذه الورقة كلها من أولها إلى آخرها من كلام شيخ الإسلام وهو كذب عليه لم تكن هذه الورقة كلها من كلام شيخ الإسلام والذي ذكره أحمد بن محمد المنقور في مجموعه أن مما انتقاه القاضي عياض من خط أبي حفص البرمكي بإسناده إلى أنس بن مالك فذكره ثم قال .
ومنها أي مما انتقاه القاضي أيضاً سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن فأجاب إن قدر على التصحيح صحح إلى آخره . ثم قال : ومن كلام له أيضاً وبعد فالاقتداء بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة إلى آخره . والظاهر من سياق الكلام أن هذا كله مما انتقاه القاضي من خط أبي حفص البرمكي وليس فيه من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله شيء صريح إلا قوله : ومنها أيضا سئل ابن تيميه عمن يقرأ وهو يلحن . إلى آخره فإن كان ما ذكره بقوله : ومن كلام له أيضا – من كلام
أحاديث الذؤابة
شيخ الإسلام لا من كلام القاضي الذي انتقاه من خط أبي حفص البرمكي فهو إنما يدل على فضيلة إرسال الذؤابة بين كتفيه لا على فضل العمامة ومشروعية لبسها كما هو صريح كلامه رحمه الله ويكون منتهى ذلك النقل عنه إلى قوله قال عبيد الله رأيت سالماً والقاسم يفعلانه .(1/50)
وأما قوله وفي الشمائل عن هارون الهمداني بإسناده إلى ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتم إلى آخره فهذا الحديث قد ذكره الترمذي في الشمائل وليس فيه إلا مشروع إرسال الذؤابة كما تقدم بيانه .
وأما قوله وعن عبد الرحمن بن عوف عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسدلها بين يدي ومن خلفي . فهذا الحديث لم نجده في الشمائل في باب ما جاء في عمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون في غير هذا الموضع فلا أدري.
وأما قوله وعن علي قال عممني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يوم غدير خم ) بعمامة فسدل طرفيها على منكبي ثم قال (( إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة متعممين وأن هذه العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين )) : فأقول وهذا أيضا لم نجده في الشمائل على هذا الموضع الذي ذكروه والذي ذكره الترمذي رحمه الله في جامعه في أبواب اللباس في باب ما جاء في العمامة السوداء فذكر حديث جابر في دخلوه مكه يوم الفتح قال وفي الباب عن عمرو بين حريث وبن عباس وركانه .حديث جابر حديث حسن صحيح ثم ذكر حديث هارون ثم قال وفي الباب عن علي ولا يصح حديث علي هذا من قبل إسناده وقد نسبه الناقل في ورقته إلى عبد الرحمن بن عوف إما غلطاً وإما تدليساً وتلبيساً على من لا معرفة لديه [ الأظهر أنه سقط من النسخ ذكر أول حديث علي بعد تمام حديث عبد الرحمن وتقدم في حاشية سابقة أن حديث عبد الرحمن في سنن أبي داود وعزوه إلى جامع الترمذي كما شرح الشمائل ] ومثل هذا الحديث لا يعتمد عليه ولا يذكر إلا مع بيان صحته وأما بدون ذلك فلا يجوز كما ذكره شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهؤلاء إنما ذكروه من جل ما فيه وأن العمامة حاجزة بين المسلمين والمشركين .(1/51)
وهذا مع أن الحديث لا يصح ولا يعتمد عليه قد كان المعلوم بالاضطرار أن المشركين كانوا يلبسون العمائم كما أن المسلمين يلبسونها وكذلك الملائكة فأي فرق وحاجز بين المسلمين والمشركين حينئذ يتميز به هؤلاء عن هؤلاء لو كانوا يعلمون .
( فصل )
تتمة كلام ابن وضاح المتقدم
وأما ما حذفه مما نقله من مجموع المنقور لما ذكر كلام ابن وضاح إلى قوله : قال عثمان بن إبراهيم رأيت ابن عمر يحفي شاربه ويرخي عمامته . ثم قال : إلى أن قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس ولهذا ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً ( يوم غدير خم ) وكان فيما بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع في اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً وعلي إلى جانبه واقف وبرأ ساحته مما كان نسب إليه في مباشرته إمرة اليمن فإن بعض الجيش نقم عليه أشياء تعاطاها هناك من أخذه لتلك الجارية من الخمس ومن نزعه الحلل من اللباس لما صرفها إليهم نائبة فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع فلم يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه . وهكذا عبد الرحمن إنما ألبسه الذؤابة لما بعثه أميراً على تلك السرية وهكذا يستحب هذا للخطباء وللعلماء شعاراً وعلماً عليهم في صفتها انتهى .
وهذا كله حذفه من كلام ابن وضاح الذي ذكره في المنقور في مجموعه وهذه هي طريقة داود ابن جرجيس فيما ينقله من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه ويتصرف فيه وكذلك عثمان بن منصور فيما ينقله عن شيخ الإسلام . فنعوذ بالله من هذه الطريقة الضالة الكاذبة .(1/52)
ثم ذكر قول ابن واضح حيث قال وقال بعضهم بين الكتفين وهو قول الجمهور ونص مالك أنها تكون بين اليدين ثم قال الأولون إنها تكون قدر أربع أصابع وقيل إلى نصف الظهر وقيل القعدة انتهى .
وهذا آخر ما ذكره المنقور في مجموعه وقد زعم صاحب الورقة أن كلام ابن وضاح هذا مما نقله شيخ الإسلام وهذا كذب على شيخ الإسلام فذكر منه ما ظن أنه موافق له وأنه له لا عليه وحذف منه ما يخالف رأيه حيث قال فهذه الآثار متعاضدة مع ما تقدمها من الأحاديث وهي دالة على استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون ذلك شعاراً لهم ولا يستحب ذلك لآحاد الناس إلى آخره فلو كان هذا النقل ثابتاً عن شيخ الإسلام لكان مناقضاً لما ذكره في الاختيارات حيث قال : إن اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم فيه مسألتان :
(المسألة الأولى ) هل يشرع ذلك استحباباً بالتمييز للفقير والفقيه من غيره فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا
كراهة العلماء للزي والشعار
يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة أقول هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه .(1/53)
ثم ذكر ( المسألة الثانية ) أي لبس المبرقعات والمصبغات والصوف إلى آخرها وهذه المسألة ليس النزاع فيها فلا حاجة إلى ذكرها هنا فذكر رحمه الله أن هذه استحباب طائفة من المتأخرين وأما أكثر الأئمة فإنهم لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من التناقض في أقواله وأن ذلك لا يليق بإمامته وجلالته ومكانته من العلم ثم تأمل ما تركه هؤلاء وحذفوه من كلام ابن وضاح حيث ذكر أن استحباب الرسم بالذؤابة لذوي الولايات والمناصب والمشار إليهم من أهل العلم ليكون شعاراً لهم . ولا يستحب ذلك لآحاد الناس . فذكر أن هذا خاص بهؤلاء وأنه لا يستحب لآحاد الناس ثم أخذوا المعنى مما حذفوه وجعلوه رسماً وشعاراً لكل أحد ممن يدخل في هذا الدين وإن لم يكونوا من أهل الولايات والمناصب والعلماء والخطباء فلم يتقيدوا بما ذكره أهل العلم من المتأخرين وإن كان مرجوحاً ولم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر العرب في لبساهم من الأردية والعمائم الساترة لجميع الرأس وكونها محنكة بل جعلوا مكان ذلك عصائب وجعلوا لها ذؤابة وظنوا أنهم قد أخذوا بالسنة في ذلك وليس هذا من السنة في شيء وقد تبين لك أن شيخ الإسلام ابن تيميه مع أكثر الأئمة لا يستحبون هذا الزي وهذا الشعار بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وتبين لك أيضاً من سياق الأحاديث وكلام العلماء أن هذا في إرسال الذؤابة لا في مشروعية العمامة لأنه كان من المعلوم عندهم أن لبس العمائم من عادة العرب في الجاهلية والإسلام وليست شعاراً لأهل الولايات والمنصاب والمشار إليهم من أهل العلم وإنما الشعار الخاص بهم الرسم بالذؤابة فقط .
( فصل )(1/54)
وأما قوله قال في الإقناع وشرحه إلى آخره ما نقل . فهذا كله ليس من كلام شيخ الإسلام الذي نقله المنقور وفيه تحنيك العمامة إلى آخر ما ذكر عن ابن مفلح وهؤلاء لا يحنكون العصائب وقد ذكر أهل العلم أن تحنيك العمائم مسنون لأن عمائم المسلمين كانت كذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في إقتضاء الصراط المستقيم أنه قال قال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب أعمتها تحت أذقانها . وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن لا تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس انتهى.
فتبين لك من صنيع هؤلاء أنه لو كان المقصود منهم الإقتداء
كلام النووي في مقدار عمامة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - )(1/55)
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه في لباسه ليفعلوا كما فعل ولم يبتدعوا زياً وشعاراً يخالف هديه . وقال ( صديق بن حسن ) في الجلد الأخير من كتابه ( الدين الخالص ) في النهي عن التشبه بالكفار في زيهم ولباسهم قال وعن ركانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ))رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب بإسناده ليس بالقائم انتهى وفيه دلالة على أن الكفار والمشركين يستعملون العمائم بلا قلنسوة وأن المسلمين زيهم أن يلبسوها عليها . وليس فيه أن لبس القلانس ممنوع بل فيه فضيلة العمامة عليها وأن لا يكون الإقتصار على واحدة منهما أبداً بل يجمع بينهما ويتميز بهما عن أقوام لا يلبسون العمائم أصلاً ويقنعون على القلانس بل يستعملون العمائم فقط كالهنود ومنهم من لا يلبس قلسنوة وعمامة بل يبقى مكشوف الرأس أبداً كأناس ( بنجالة ) في الهند ومنهم من يجمع بينهما لكن على زي الأعاجم دون العرب . ومراده - صلى الله عليه وسلم - بالعمائم في هذا الحديث هي التي كان يلبسها هو وأصحابه ( وتابعوهم ) وهي مضبوطة مصرح بها في كتب السنة المطهرة طولاً وعرضاً مع بيان شأن الربط وما يتصل به .(1/56)
قال الجزري وقد تتبعت الكتب لأقف على قدر عمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أقف حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على شيء من كلام الإمام النووي ذكر فيه أنه كان له - صلى الله عليه وسلم - عمامة قصيرة هي سبعة أذرع وعمامة طويلة مقدارها اثنا عشر ذراعاً قال في المرقاة المعنة نحن نتعمم على القلانس وهم يكتفون بالعمائم انتهى ، وأما اليوم فإني رأيت العرب ومن يساكنهم في الحرمين الشريفين أدام الله شرفهما أحدثوا لها أشكالاً غير الشكل المأثور وأفرطوا فيها وفي غيرها من اللباس والثياب حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف واختاروا ماشاؤوا من القلانس والعمائم قال علي القارئ في حق أهل مكة في زمنه عمائم كالأبراج وكمائم كالأخراج انتهى . وما أصدقه في هذه المقالة فقد وجدناهم كذلك بل وجدناهم فوق ذلك لأنه مضى على زمنه مئون ، وللدهر في كل عصر فنون وشئون كما قيل : أن في كل بلد من بلادهم مائة مشية ومائة لسان ، ولا يقف عند أحد من نوع الإنسان ، وما شاء الله كان . انتهى فبين رحمه الله أن المراد بالعمائم هي ما كان يلبسها هو وأصحابه وذكر رحمه الله تعالى أنه رأى من الحرمين الشريفين أدام الله شرفهما ومن يسكانهم منهما وخالفوا زي العرب وأحدثوا لهما أشكالاً غير الشكل المأثور وأفرطوا فيها وفي غيرها من اللباس والثياب حتى خرجوا عن زي الإسلام السالف واختاروا ما شاؤوا من القلانس والعمائم انتهى . فكيف الحال بهذه العصائب التي لا تشبه العمائم إلا في الاسم فليست ممكنة ولا هي على قلنسوة بل قد خرجت عن زي أهل الإسلام السالف مع هذا يزعم من أحدثها أنها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله المستعان والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين .
تم نسخها في 6 جمادى الأولى سنة 1335 .(1/57)