إهداء
إلى الروح التي سكنت روحي ...
إلى الجسد الذي احتوى نفسي ...
إلى النفس التي تتوق لمفارقة جسدي ...
إلى الذي اختار درب الشهداء ...
وآثر دار البقاء على دار الفناء ...
مستلهماً علمه وفهمه من سيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بكل صفاء ونقاء ...
أُهدي باكورة اتصال على طريق البناء ...
إلى كل من نصح وأرشد وصحح وراجع ودقق ...
لكم مني كل الوفاء ...
توطئة
الحمد لله الذي أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان، وأيده بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ومن أعظمها القرآن، وأمده بملائكة السماء تقاتل بين يديه مقاتلة الفرسان، ونصره بريح الصبا تحارب عنه أهل الزيغ والعدوان، كما نصره بالرعب وقذفه في قلوب أعدائه وبينه وبينهم مسيرة شهر من الزمان، وأقام له جنوداً من المهاجرين والأنصار تقاتل معه بالسيف والسهم والسنان، بين يديه في ميادين السباق تصول الأقران، وتبذل في نصرته من نفوسها وأموالها نفائس الأثمان، تسليماً للمبيع الذي جرى عقده على أيدي الصادق المصدوق والتزم للبائع الضمان، كما قال الرحمن في القرآن: "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ" [التوبة 111]، وتبارك الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع تتم بها مصالح الإنسان، وعلم الفروسية وجعل الشجاعة خلقاً فاضلاً يختص به من يشاء وكمله لحزبه وأصاره حلية أهل الإيمان، فأوجب محبته للجواد الشجاع وكمله ومقته للبخيل الجبان.(1/1)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، الذي أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أنَّ رحمته تغلب غضبه، تعرف إلى عباده بأوصافه وأفعاله وأسمائه، وتحبب إليهم بنعمه وآلائه، وابتدأهم بإحسانه وعطائه، فهو المحسن إليهم والمجازي على إحسانه بالإحسان، فله النعمة والفضل والثناء الحسن الجميل والامتنان، "يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ " [الحجرات 17].(1/2)
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، وحجته على جميع الإنس والجان، أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأبين السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعظيمه والقيام بحقوقه، وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح الله له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وبعثه بالكتاب الهادي والسيف الناصر بين يدي الساعة حتى يُعبد سبحانه وحده لا شريك له، وجعل رزقه تحت ظل سيفه ورمحه، وجعل الذلة والصغار على من قابل أمره بالمخالفة والعصيان، وأنزل عليه من الكتب أجلّها ومن الشرائع أكملها ومن الأمم أفضلها وهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الرحمن، وخصه من الأخلاق بأزكاها ومن مراتب الكمال بأعلاها وجمع له من المحاسن ما فرقه في نوع الإنسان، فهو أكمل الناس خلقاً وأحسنهم خلقاً وأشجعهم قلباً وأجودهم كفاً وألينهم عريكة، وأوسعهم صدراً وألطفهم عشرةً وأفصحهم لساناً وأثبتهم جناناً وأشرفهم بيتاً ونسباً .. فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من خلقه عليه كما عرفنا بالله وأسمائه وصفاته ووحده ودعا إليه وآتاه الوسيلة والفضيلة وبعثه المقام المحمود الذي وعده في دار السلام والسلام عليه ورحمة الله وبركاته…[ابن القيم: الفروسية]،ثم أما بعد:
فقد كان من نتيجة السيطرة الفكرية على المسلمين على مدار سنوات الاحتلال، وما تلاها من خروج الكفار وإحلال أتباعه من حُمال الفكر الغربي كإدارات مدنية لتسيير أمور الدول العربية، بعد تقسيم دولة الخلافة العثمانية إلي دويلات تسهل تمرير الفكر الكافر.
واعتَمَدَ الخُبثاء سياسات فكرية اعُتُمِدَ في ظاهرها الحسن وفيها السم الزعاف، فخرج من يُحارب الدين باسم الدين، والعربية باللسان العربي، ومعه الصحيفة والمذياع، فانبرى تطوعاً أو كُرِّي يغير المفاهيم ويميع المصطلحات.(1/3)
فأصبح الكافر "آخر"، فغيروا اسمه وقلبوا رسمه، وأحيوا في الذاكرة مفاهيمهم التي تعينهم على تقبل "الآخر"، فأحيوا الذمي والمعاهد والمهادن وأغفلوا المُقاتل والمُحارب، وحفظوا "أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ " ونسوا "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ " ورددوا "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى" وأغفلوا "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ".
وقامت طائفة أخرى فكررت مفردات الآخر ومفاهيمه، فخصصوا الحروب الإسلامية لتصبح " دفاعية "، وهاجموا الدين على أنه يدعو للعنف والإرهاب والتطرف، وأنفقوا على مرتزقتهم ليقوموا مدافعين عن الصورة التي أرادوها، فقامت الببغاوات تردد: الإسلام دين الرحمة والسلام وهو ضد العنف والإرهاب، قبل أن يستوضحوا المعاني أو يستظهروا المقصود.
فتولد عند المسلمين ما يريده الكافر ليصبح الدين مذمة، فلا يجوز قتل المدنيين ولا استهداف الأبرياء، وأصبح يستحي المسلم من طرح دينه، فلا يجرؤ على قول ما يتعارض مع الفكر الكافر، فلا حديث عن رزق المجاهد بظل رمحه ولا زواجه بسبايا معاركه، ولا إنفاقه بفداء الأسرى.
أقنعوا الأمة أنها ضعيفة وأن العدو قوي، وكأنها خُلقت خِلقة الأرنب ، وخُلق عدوها خِلقة الأسد، فأصبحت متسولة أفكار ومرتزقة مفاهيم.
لا يمكن لدين الله أن يعجز عن طرح رأيه في الحروب وهو الذي تم واكتمل قبل انتقال نبيه للرفيق الأعلى، ومن المستحيل أن يُفصِّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحكام قضاء الحاجة، ثم يتركنا في جعجعة المعارك ما نعرف دليلاً ولا نهتدي سبيلاً.(1/4)
كان المسلمون ومن واجبهم أن يظلوا رواد الأمم ومعلمي البشرية أساليب الحرب والسلم، وما يُغنينا عن ديننا المدارس الكفرية برؤاها الفاسدة، وعندنا كتاب ربنا وهدي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أم هو داء " أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ "؟
في ديننا ما يُغني عن دين غيرنا، وفي سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما يعيننا على إعادة صياغة الحروب حسب النظرية الإسلامية.
ولذا إخراجاً للشباب المجاهد من بوتقة الكفار ومدارسهم العسكرية، وإرجاعاً لهم للمورد العذب الصافي، نبع النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هذا الكتاب.
"إرشاد السؤول إلى حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ":
"سؤول" على وزن فعول من صيغ المبالغة، مأخوذة من "المادة" كالسحور والوقود والوضوء والبخور وغيره، يشترك فيها المذكر والمؤنث فيقال: رجل صبور شكور وامرأة صبور شكور، وصيغة "فعول" في المبالغة أعظم من "فِعال" لذلك كانت أرجى آية في كتاب ربنا:" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[ الزمر 53].
روى الحاكم عن الزهري أن المهاجرين قالوا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس - رضي الله عنهم - ؟
قال: ذاكم فتى كهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.(1/5)
قال شيخ الإسلام القيم ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين: والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه ... فما عسى أن يبلغ خاطرُه المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة، التي حقيق بحاملها أن يقال فيه " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه "، وهاهو قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفؤاً كريماًً لها لن تعدم منه إمساكاً بمعروفٍ أو تسريحاً بإحسانٍ وإن صادفت غيره فالله تعالى المستعان وعليه التكلان.
وقد رضي من مهرها بدعوة خالصة إن وافقت قبولاً واستحساناً وبرداً جميلاً إن كان حظها احتقاراً واستهجاناً.
والمُنصف يهب خطأ المخطىء لإصابته، وسيئاته لحسناته فهذه سنة الله في عباده جزاءً وثواباً، ومن ذا الذي يكون قوله كله سديداً وعمله كله صواباً وهل ذلك إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ونطقه وحي يوحى - صلى الله عليه وسلم - ، فما صح عنه فهو نقل مصدق عن قائل معصوم، وما جاء عن غيره فثبوت الأمرين فيه معدوم، فإن صح النقل لم يكن القائل معصوماً وإن لم يصح لم يكن وصوله إليه معلوماً.
المنهج
أولاً: تعارف الكتّاب حديثاً على بعض الأنماط والتي لا تتلاقي مع القدماء، والحديث يصب في مسار التنسيق والترتيب، وهنا تم اعتماد أسلوب الأقدمين: ففي داخل الموضوع الواحد قد يخرج الحديث عمّا وُضع لأجله، ولكنه يبقى في دائرة المقصود، وفي هذا مشابهة لأسلوب ابن تيمية وابن القيم في طرحهما للمسائل، بحيث يُشرقا ويُغربا دون الانضباط بقواعد معينة في الاستقراء والاستدلال والأخذ والعطاء.(1/6)
ثانياً: أغفلنا طريقة المحدثين في وضع حاشية وهامش، ليكون الموضوع بصلبه وهامشه وحاشيته متصلاً كالجسد الواحد، فلا يتشتت ذهن القارئ فيما لا يلزمه كرقم الجزء والصفحة، فالاختلاف في الطبعات من الكثرة بحيث يصعب تحديده، وأيضاً فذكر واحدٍ من المصادر المخرجة للأحاديث يغني عن ذكر غيره، فإنَّ السيرة تختلف في الطرح، أما الأصول فثابتة، إلا ما يكون من اختلاف في ترتيب الأحداث حسب اجتهاد المصنف، وهكذا أغفلنا ذكر كثير من المصادر واكتفينا إلا عند الحاجة بابن القيم في "زاد المعاد" والمباركفوري في "الرحيق المختوم"، للاختصار والاستغناء بتدقيقهما عن غيرهما، ولشهرة الكتابين وقدرة القارئ على الحصول عليهما، أما مضمون السيرة فهو بعينه أو باختلاف لا يؤثر في المضمون كالسيرة عند ابن هشام أو ابن كثير في البداية والنهاية والذهبي في السير وابن سعد في الطبقات.
ثالثاً: اعتمدنا في الترتيب الترتيب الهجائى وهو ما لم نعتمده حين الكتابة، وحتى لا يتكرر ذكر الحديث أو الأثر مع قصته بطوله اعتمدنا طريقة البخاري في تقسيمه للأحاديث في أكثر من موضع في كتابه، فهنا باختصار وهناك بإجمال، وفي مكان برؤية معينة، وفي موضع آخر ببصمة أخرى، وربما اكتفينا بالشاهد إن كان يُغني وربما طرحنا طرفاً من الحديث المجمل إن كان يلزم، ولأن الحديث كان بما يشبه الإملاء على رجال العمل الاسلامي، فكان لابد من التكرار في بعض المواضع لاحتمال غياب ما قيل في السابق عن الذاكرة فوجب التكرار، ولن تعدم الفوائد من سيرة نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
رابعاً: استفدنا كثيراً من كتاب وخطباء أثروا في تفكيرنا بعضهم ظهر أثره، وبعضهم غفلنا عن ذكره، وحسبنا أن الله يعرفهم، وما ندعي جديداً في الطرح فهو مما استقيناه ممن سبقنا وعاصرنا فجزى الله من علمنا أو فهمنا أو أرشدنا بحرف أو كلمة.
خامساً :هل تلزم الصحة في رواية التاريخ؟(1/7)
أخذنا في المسألة بالمذهب المخفف للرواية لتعذر استقراء الحروب في الصحيح، ولصعوبة الرواية التاريخية بالسند، ولأن العلماء لم يلزموا كتاب السيرة بشروط الحديث الشريف، ومع أن تضافر الروايات لا يصحح الرواية، لكنه يجعل لها أصلاً يُمكن الاعتماد عليه، وعُذرنا: الاعتماد على ضعيف السيرة خير لنا من الاعتماد على الكفار في تقسيماتهم للحرب.
سادساً: لا يكفي ما نقوله أن يكون أصل شرعي تُبني عليه الأحكام، فمظان التشريع معروفة مصادرها، ولكنه طرح قد يلحقه إن قدر الله إسهاب في الشرح، لذلك ربما يظهر إغفال الاختلاف الفقهي الذي يُوسع دائرة الاختلاف، خصوصاً أن العاملين في المجال الحربي لا يمتلكوا ملكة الفصل بين الأقوال واستخراج الصحيح منها، فالمُشاهَد أن الأخذ يكون حسب تقديرهم للمصلحة التي يقتضيها الموقف.
ليس في هذا تعدياً على المحرمات، ولكن استقراء حروب الصحابة - رضي الله عنهم - ظهر فيها كثير من المواقف التي تجعل لنا أصلاً نطرحه فنقول: لا يعتمد الجيش في أكثره على العلماء، بل يكون فيهم من لا يعلم إلا شهادة التوحيد ولم يسجد لله سجدة، وفيهم قليل العلم وواسع الجهل بالتشريع وهذا معلوم باتفاق العقلاء، وقد يظهر في أثناء المعركة تجاوزات يفرضها واقع المعركة أو البُعد عن مركز القيادة، أو الانقطاع عن العلماء أو الدعاة، فيضطروا للاجتهاد وهنا تظهر الأخطاء وأي أخطاء؟!
هذا فضلاً عن اجتهاد العاملين والمقاتلين الذين يمتلكون ملكة الاستنباط.
اجتهد الرماة في أحد فأخطؤوا.
واجتهد خالد فقتل من أخطأ التعريف بالإسلام.
واجتهد أسامة فقتل من نطق كلمة التوحيد.
واجتهد عمرو فصلى بتيمم من جنابة في وجود الماء.
واجتهد أبو عبيدة فأكل حوت البحر.
واجتهدوا في رجل أُصيب وأجنب هل يتيمم أو يغتسل، فاغتسل فقتلوه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/8)
ما سقناه وغيره كثير يؤيد أن المجاهد يُغفر له كثير من اجتهاده، بل الجهاد في ذاته كفارة للذنوب.
لذلك نقول: الاعتماد على ضعيف السيرة خير من الاجتهاد مع الوقوع في الأخطاء، ونحن مع من يقول: الأخذ بالضعيف خير من الرأي والقياس، والأخذ بقول أحد العلماء أو المذاهب خير من الرأي الخاص والقياس، فرأي الأئمة الأربعة أو أحدهم أحب إلينا من رأي غيرهم ورأي الظاهرية أحب إلينا من رأينا.
وختاماً نقول: جاء الحديث في عجالة من الأمر، وهو موضوع فيما كان سبباً لوضعه، فيُعتذر لمن لا يدري السبب والمناسبة، ألا يظهر له المقصود من الطرح، ولكن يكفينا ذكر سبب واحد يُستدل به على المقصود: احتجنا لكتاب يطرح السيرة برؤية عصرية لطريقة الحرب، فكان الكتاب إسقاطاً بظلاله على الواقع لنستمد فهمنا للحرب الحديثة باستقراء حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
المفهوم
قال عبد الوهاب قتاية: الحرب في اللغة هي القتال بين فئتين، وهي مؤنثة، وجمعها حروب، وهي مصدر للفعل: حَرب يحُرب (بفتح الراء في الماضي وضمها في المضارع). يقال: حربه بالحربة أي طعنه بها.
وهي أيضا مصدر للفعل: حرِب يحرَب (بكسر الراء في الماضي وفتحها في المضارع). يقال: حرب الرجل أي اشتد غضبه. ويزاد الفعل فيقال: حارب يحارب محاربة وحراباً، بمعنى: قاتل، وعادى وعصى.
ويقال: تَحَارَبَ القوم واحتربوا أي حاربَ بعضهم بعضاً.(1/9)
والحرب في الاستعمال المعاصر أنواع، بحسب أساليبها أو أسلحتها أو أطرافها، فيقال مثلاً: حرب خاطفة أي قصيرة بهدف تحقيق نصر سريع، وحرب استنزاف أي مناوشات حربية بقصد استنزاف قوى العدو وموارده، وحرب الأعصاب والحرب النفسية للتخويف وإثارة الرعب والخداع، والحرب الإعلامية وأدواتها أجهزة الإعلام للتأثير في الرأي العام، والحرب الاقتصادية بالحصار الاقتصادي وغيره بهدف إضعاف اقتصاد العدو، والحرب الباردة ومظهرها التأزم والتوتر بين الطرفين المتعاديين، دون أن يصل إلى حرب سافرة بالسلاح. ويُقال: حرب ذرية أو نووية، وحرب كيماوية، وحرب بيولوجية، ويقال: حرب عالمية، وحرب إقليمية، وحرب نظامية، وحرب عصابات، وحرب أهلية، وحرب طائفية.
ويُقال بحسب البواعث: حرب تحرير أو استقلال وحرب استعمارية.
ومن الألفاظ الشائعة يقال: هو رجلُ حربٍ (بإضافة رجل إلي حرب) أي خبير في إدارة المعارك الحربية، كما يقال: هو رجلٌ حربٌ (باستعمال حرب صفة لرجل) أي شجاع شديد المقاتلة، ومن ذلك قول القائل: أنا حرب لمن يحاربني أو أنا حرب على من يحاربني أي عدو له، ويقال لفظ «حرب» للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع. ويقال: دار الحرب لبلاد الأعداء. ومن بليغ ما قيل في الحرب ما قاله عمرو بن معد يكرب حين طُلب منه أن يصف الحرب، فقال: مرة المذاق، إذا كشفت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف.
وفي قيام الحرب يقال: نشبت الحرب، وشبت واشتبكت، واندلعت، واضطرمت، واتقدت، واستعرت، والتهبت، واصطلت، واحتدمت.
ويقال: قامت الحرب على ساق، أي اشتد الأمر وصعب الخلاص منه.
ومن الحديث الشريف في يوم بدر: الحرب خدعة، ومن الأمثال: الحرب سجال، وقد قاله أبو سفيان - رضي الله عنه - في يوم أحد.
ومن روائع حكم المتنبي قوله:
فحب الجبان النفس أورده التقى وحب الشجاع النفس أورده الحربا(1/10)
ومن الأمثال أيضاً: رُب حربٍ شبت من لفظة، كما يقال لمن يظهر شجاعة على الضعفاء ويجبن في المواقف الصعبة: أسد عليَّ وفي الحروب نعامة.
ويُقال لمن يحكم على الأمور بدون أن يكابدها: ما أهون الحرب على النظارة.
ومن المشتقات: الحِرَابة ومعناها في الفقه: قطع الطريق وإحداث الفوضى وسفك الدماء وسلب الأموال وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل. وهناك الحَرَب، ومعناه: الويل والهلاك، وفيه يقول الشاعر:
إذا غدا مَلِك باللهو مشتغلاً
فاحكم على ملكه بالويل والحَرَب.
الحرب الإعلامية
"الحرب الإعلامية" إنها بأبسط تعريفاتها: "فن الانتصار بدون حرب"، وهي في الأغلب تسعى للسيطرة على عقل وقلب الخصم بحيث تصنع ضبابية في الفهم والتصور، إنها تقوم علي صُنع هالة أمام أعين الخصم، يعجز معها عن تقدير قوة خصمه بما يُمكِّن للطرف المستهدِف السيطرة العقلية والروحية على المستهدَف.
وللحرب الإعلامية وسائل من يمتلكها ينجح بقدر ما يوليه لهذه الحرب من أهمية، وللحق فقد استطاع الكفار السيطرة على أفهام الكثير من الناس بفضل الجهد الجبار الذي يمارسوه في حربهم الإعلامية، وما ذاك إلا لخروج المسلمون من حصنهم الذي يقيهم سهام الرامين والدرع الذي يحميهم من طعنات الطاعنين، ليلجوا في مستنقع الجاهلية والاعلام الكافر بمحض إرادتهم، فيصدقوا الكاذب ويؤمنوا الخائن " وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ "[ آل عمران 117].
تعتمد"الحرب الإعلامية" على عدة نقاط ضرورية لتكتمل دائرة السيطرة على الخصم:
- التهويل من قدرة المستهدِف والتهوين من قدرة المستهدَف.
- تبرير الحرب بالأخلاق والمبادئ، والتشكيك بأحقية الخصم بالحُكم.
- تمييع المصطلحات بحيث يُحار في فهمها( كالارهاب والتطرف)، ومن ثَم يعجز عن مواجهتها.
- الكذب في النتائج واستباق حدوثها، وكأنَّ الحرب قد انتهت والقوات قد استسلمت وفي الحقيقة أنها لم تبدأ بعد.(1/11)
- إضفاء نوع من القداسة على رموز المستهدِف.
وللحق أيضاً فالحرب الإعلامية في مُجملها تقوم على الكذب والتضليل والخداع والتمويه، ولكنها في النظرية الإسلامية جاءت كأسمى ما تكون عليه الأطروحات، وقد اعتمدت على الحقائق والوقائع المحسوسة والملموسة، وإنْ داخلها بعض المفاهيم كـ"الحرب خدعة"، ولكنها في أضيق الحدود وللوصول إلى الحق، وهي جزء من الحرب وليس كلها مع جوازها.
ومن الأدلة على حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على "الحرب الإعلامية" ما جاء في زاد المعاد وابن هشام: "خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم، وهُوَ بين أمَج وعُسفان حيث كان مُصابُ أصحابه، فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسَمِعَتْ بنو لِحْيَان، فهربُوا في رؤوسِ الجبال، فلم يقدر مِنهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يَقْدِرُوا عليهم، فسار إلى عُسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغَمِيم لِتسمعَ به قُريش، ثم رجع إلى المدينة".(1/12)
وظهر حرصه - صلى الله عليه وسلم - على "الحرب الإعلامية" فيما ذكره صاحب الزاد في مرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة المريسيع، قال رأسُ المنافقين ابنُ أبَىّ : لئنْ رجعنا إلى المدينةِ، ليُخرِجَنَّ الأعز منها الأذَلَّ، فبلَّغها زيدُ بن أرقم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء ابنُ أبىٍ يعتذِرُ ويحلِفُ ما قال : فَسَكَتَ عنهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل اللهُ تصديقَ زَيْدٍ في سُورة المنافقين، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأذنه، فقال : أبْشِرْ فَقَدْ صَدَقَكَ اللهُ، ثمَّ قَالَ : هذَا الذي وفى للهِ بأذنه، فَقَالَ لَهُ عُمَر - رضي الله عنه -: يا رَسُولَ الله، مُرْ عبَّادَ بْنَ بشر، فَلْيَضْرِبْ عُنُقَه، فقال : ( فَكَيْفَ إذا تحدث الناس أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصحابه ) .
وروى البيهقي في دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أقود به وعمار يسوق الناقة، أو أنا أسوق وعمار يقود به، حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها، فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله: "هل عرفتم القوم؟" قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟"، قلنا: لا، قال: "أرادوا أن يزحموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة فيلقوه منها"، قلنا: يا رسول الله، أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال: "لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: "اللهم ارمهم بالدبيلة"، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال:"هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك".(1/13)
والمقصود أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهتم بما سيقوله العرب مِنْ جراء هذا الموقف، ولكن...
أيُفهم مِنْ هذا المنع مِنَ القتل تنازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المواقف، وإبداء المرونة التي تمنع من إقامة القوانين الإسلامية؟
بمعنى في النظام المُعادي يستجيز الخصم كل فعل يُوصله للنتائج، بغض النظر عن الحِل والحُرمة والأخلاق والمبادئ، فكل ما يُتوصل به إلى النصر عنده مباح ولو أجمع أهل الأرض على تحريمه، فهل كانت هذه نظرة الإسلام لهذا النوع من الحرب؟
إنَّ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحدث العرب أنَّ محمداً يقتل أصحابه"[البخاري] لا يعني تنازله عن المواقف وهو المؤيد - صلى الله عليه وسلم - بالوحي الإلهي، فلو كان في فعله ما ينتقص من الإسلام لما أقره الله - جل جلاله - على قوله، وهاك الأدلة على التوجيه الرباني لنبيه المعصوم بما يُخالف ما اجتهد به - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ التقديم لما قدمه الله - سبحانه وتعالى -، بغض النظر عن المصلحة التي تظهر مِنْ أثر الفعل، فالله - عز وجل - يعلم الغايات والمقاصد وإنْ غابت عن البشر.
- القتال في الأشهر الحُرم:(1/14)
القتال في الأشهر الحرم معيب عند العرب، فهو مما اتفقوا عليه وكانوا يعظمونه ويجلونه، على الرغم من بعض الخروقات له، ولكن المقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مُقراً لهذا الموقف وهو وقف القتال في تلك الأشهر، أو على الأقل لم يتناوله بالحِل أو الحُرمة لحين وقوع الأمر، وقد ظهر موقف عصيب، هو ما ذكره ابن هشام في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - التي قاتلت في الشهر الحرام، قال ابن هشام:"... وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم ابن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة".
قال ابن إسحاق: فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً" فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان...(1/15)
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ "[البقرة217]، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم "وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة217]، أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل " وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ " [البقرة217]، أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين.
- النساء وعدم ردهن بعد الحديبية:
جاء في صلح الحديبية أنَّ من يأتي محمدا ً- صلى الله عليه وسلم - من المشركين رده والحديث عام فيدخل فيه الرجال والنساء على السواء، فلما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط خرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلماه فيها أن يردها إليهما، فأبطل الله عهد رد النساء خاصة، ومنع المسلمين أنْ يردوهنَّ إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان، كما قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " [الممتحنة 10].(1/16)
قال عن الزهري: أُنزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهنِّ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أنْ يردوا الصداق إلى أزواجهنِّ، وقال تعالى: "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ "[الممتحنة 10].
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وإنما حكمَّ الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد.
وقال ابن إسحاق كما ذكره ابن هشام عن عروة بن الزبير: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ صَالَحَ قريشاً يوم الحديبية على أنْ يردَّ عليهم مَنْ جاء بغير إذن وليه، فلما هاجر النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى الإسلام، أَبَى اللهُ أنْ يردهنَّ إلى المشركين إذا هن امْتُحِنَّ بمحنة الإسلام، فعرفوا أنهنَّ إنما جئنَ رغبة في الإسلام، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم، إنْ هم ردوا على المسلمين صداق مَنْ حبسوا عنهم من نسائهم، ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حكيم .
ولولا الذي حكم الله به لرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء كما رد الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء، ولم يرد لهن صداقاً، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد.
- "الحرب الإعلامية" عند قريش:
جاء في الزاد: وخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا، وأحرز العير، كتب إلى قريش : أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتُم لِتُحْرِزُوا عيركم ، فأتاهم الخبرُ، وهم بالجُحْفَةِ، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل : واللهِ لا نرجع حتى نَقْدَمَ بدراً، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك.(1/17)
وعند أحمد في المسند عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة: أنَّ قريشاً بعثوا سهيلاً بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي فقالوا: ائت محمداً - صلى الله عليه وسلم - فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أنْ يرجع عنا عَامَهُ هذا فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
ولفظ البخاري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به"، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل".
- "الحرب الإعلامية" على الطريقة النبوية:
في الزاد: قال العباسُ : يا رسولَ اللهِ، إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال : " نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن "، وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادي عند خَطْمِ الجبلِ حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال : يا عباسُ؛ مَنْ هذه ؟ فأقول : سُليم، قال : فيقول : مالي ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول : يا عباسُ؛ مَنْ هؤلاء ؟ فأقول : مُزَيْنَة، فيقول : مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال : مالي ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال : سبحان اللهِ يا عباس، مَنْ هؤلاء ؟ قال : قلتُ : هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال : واللهِ يا أبا الفضل؛ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال : قلتُ : يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال : فنعم إذاً، قال : قلتُ : النَّجاء إلى قومك .(1/18)
وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة - رضي الله عنه - ، فلما مرَّ بأبي سفيان - رضي الله عنه - ، قال له : اليوم يوم الملحمة، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً .
فلما حاذى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان، قال : يا رسول الله، ألم تسمعْ ما قال سعد ؟ قال : " وما قال ؟"، فقال : كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف : يا رسولَ الله؛ ما نأمنُ أنْ يكون له في قُريش صَوْلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً " .
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته : يا معشرَ قُريش؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَنْ دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت : اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال : ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا : قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك ؟ قال : ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَنْ دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد.
- وهنا مواقف:
الأول: قولُ العباسِ - رضي الله عنه - : يا رسولَ اللهِ؛ إنَّ أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال : " نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن ".(1/19)
فإعلامياً عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس دور الإعلام في نفس أبي سفيان - رضي الله عنه - ، وحرصه على الفخر، فكان مما أعطاه له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، وفي الحقيقة لا فائدة من هذا القول مع الأمن لكل مَنْ يدخل المسجد الحرام أو يُغلق عليه بابه، وهل يسع بيت أبي سفيان أهل قريش؟
ولكن هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سفيان دعاه لأن يكون لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي انطلق يُروع قومه ويُرهبهم من مغبة حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم -.
الثاني: عرض الجيوش أمام أبو سفيان - رضي الله عنه - أوقع في نفسه الأثر الكبير، بحيث عجز عن إخفاء الرهبة التي تملكت قلبه والرعب الذي أسر لبه، فما استطاع كتم: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، وهذا باب بديع من الحرب الإعلامية: استعراض الجيوش أمام الخصم، وهو ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادي عند خَطْمِ الجبلِ حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها.
الثالث: قول سعد - رضي الله عنه -: اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً، وسماع أبي سفيان لها، ثم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً".
دليل على حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ عز الإسلام مِنْ عزِّ العرب، وكل انتقاص مِنْ قدر العرب هو انتقاص مِنْ قدر الإسلام، وأخص العرب قريشاً فأي انتقاص لقريش هو انتقاص للإسلام.
- الشعر كنوع من الحرب الإعلامية:
في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان ينصب المنبر لحسان ويقول: "اهجهم أو هاجهم وروح القدس معك".(1/20)
والشعر والخطابة كانا المنبر الإعلامي في ذلك الوقت، وكان أشد الناس مفخرة الشعراء والخطباء، وكان الشاعر في القبيلة لسان حالها ومقالها، وهو المُقدم في القول والرد، إذا جاءت الوفود كان الاثنان في استقبالهم، وإذا قامت الحرب كان الاثنان في المقدمة.
قولهم يسبق، ومقالهم يُقدم ... يجمعونهم ليذبوا عنهم، ويعطونهم الأعطيات ليهجوا خصومهم، والأمر أغنى من أن يُدلل عليه فهو من الشهرة بمكان، وحسبك ما قيل في كل الغزوات والوقعات وأيام العرب وهو مبثوث في كتب السيرة والتاريخ، وهاك انموذج حرب إعلامية فى "أحد" ذكره ابن هشام في قول ابن الزبعري متفاخراً:
أبلغن حسَّان عني آية * فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أُتِرَّت ورجل
وسرابيلَ حسَّانَ سُرِيَتْ * عن كُماة أهلكوا في المنتزل
كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قرم بارع * غير ملتاث لدى وقع الأسل
فسل المهراس من ساكنه ؟ * بين أقحاف وهام كالحجل
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكَّت بقباءٍ بركها * واستحرَّ القتل في عبد الأشل
ثم خَفوُّا عند ذاكم رُقَّصاً * رقص الحفَّان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل
بسيوف الهند تعلوا هامهم * عَلَلاً تعلوهم بعد نهل
فرد عليه حسان - رضي الله عنه - :
ذهبت يا ابن الزبعرى وقعة * كان منا الفضل فيها لو عَدَل
ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذاك الحرب أحيانا دول
نضع الأسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللاً بعد نهل
نخرج الأصبح من أستاهكم * كسلاح النِّيب يأكلن العصل
إذ تولُّون على أعقابكم * هُرَّباً في الشِّعب أشباه الرسل
إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الحبل
بخناطيل كأمذاق الملا * من يلاقوه من الناس يهل
ضاق عنَّا الشِّعب إذ نجزعه * وملأنا الفرط منه والرجل(1/21)
برجال لستم أمثالهم * أُيِّدُوا جبريل نصراً فنزل
وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل
وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاح رفل
وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل
ورسول الله حقاً شاهد * يوم بدر والتنابيل الهبل
في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل
وما الخندق وغيرها، ومن قبل بدر من الحديث ببعيد، ويكفي الأثر ليدل على المسير.
- العطاء كنوع من الحرب الإعلامية:
أخرج مسلم عن أنس - رضي الله عنه - ، قال: ما سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه. قال: فجاءه رجل، فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
ومن هذا النوع أيضاً المن على الأسرى كما في حديث ثمامة بن أثال - رضي الله عنه -.
ومنه أيضاً إعطاء المؤلفة قلوبهم كما في حديث صفوان بن أمية - رضي الله عنه -.
- الصدى الإعلامي الناتج عن الفعل:
- حروب الروم وأثرها على العرب:(1/22)
في الرحيق المختوم: وهذه المعركة – أي مؤتة- وإنْ لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله– قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك بصر، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ثلاثة آلاف مقاتل - مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير - مائتا ألف مقاتل- ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر . كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أنَّ المسلمين من طرازٍ آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله - عز وجل - ، وأنَّ صاحبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقاً . ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها .
ثم جاءت غزوة تبوك وكان مِنْ وصفها كما في الرحيق: وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أخذهم الرعب فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة وخطيرة بما لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين.(1/23)
ثم جاء بعث أسامة كما في الرحيق: لأنهم تجرؤوا على فروة بن عمرو الجذامي والي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معان. فأعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً كبيراً وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأَمَرَهُ أنْ يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبنَّ أحد أنَّ بطش الكنيسة لا معقب له، وأنَّ الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
قال ابن كثير في البداية والنهاية عن أثر خروج أسامة على العرب والمرتدين: فكان خروج الجيش ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أُرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة.
- التهديد كنوع من الحرب الإعلامية:
اشتدت الأذية من قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان مما قاله يوماً: "أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح"، قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم فوالله ما كنت جهولا.[ابن هشام عن عمرو بن العاص وحسنه الألباني وصححه أحمد شاكر].
وفي البخاري ومسلم عن ابن عمر واللفظ للبخاري: "لا يصلينَّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة"، ولا يخفى أثر هذا الأمر النبوي لرجال لا يعصون نبيهم ما أمرهم يوماً، ووقعها على الخصم حين يسمع هذا القول ممن لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحي.
- معاقبة المسيئين بحق الإسلام كنوع من الحرب الإعلامية:(1/24)
حين تتطاير الأخبار ويتداولها العرب في أسواقهم ومجالسهم أن دولة الاسلام لا تتردد في معاقبة المسئ بحقها، ولو بعد حين، يجعل هذا الأمر كل من يفكر بالاقدام على مناوشة الدولة الاسلامية يفكر ألف مرة ويتيقن أن الفعل يتبعه رد فعل قد لا يحتمله في العادة، وهو ما لم يكن مألوفاً عند العرب على الرغم من اعتيادهم على مسألة الثأر، ولكنها اليوم تأخذ طابع الايمان والعقيدة أكثر منها ارتباط بالعادات والتقاليد الجاهلية، وهذه العقوبة على أنواع منها:
- من يريد الهجوم على المدينة:
في أعقاب "أحد" سار طلحة وسلمة ابنا خويلد في قومهما، ومن أطاعهما، يدعوان بني أسد بن خزيمة إلي حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أبا سلمة" على رأس مائة وخمسين من المقاتلين المسلمين فأصابوا إبلاً وشاءً ولم يلقوا كيدا.[زاد المعاد].
وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خروجه بألف رجلٍ إلى دومة الجندل، التي أخذت تتجمع لحرب المدينة، فلما علموا بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا، فأصاب المسلمون بعض الغنائم، ورجعوا إلى المدينة. ووادع فيها عيينة بن حصن الفزاري.[الزاد].
- الاغتيال لمن يجمع الجموع:(1/25)
عند ابن هشام: وكان من حديث اليسير بن رزام أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبد الله بن أنيس، فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففطن به عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف ... ومال كل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صاحبه من يهود فقتله.
وذكر ابن سعد: أنَّ أبا رافع بن أبي حقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله .
- الاغتيال لمن يؤذي المسلمين:
كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حقداً وضغينةً على الإسلام، وإيذاءً للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإعلاناً للحرب على المسلمين ... ولما بلغه خبر انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، واللَّه إنْ كان محمدٌ أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.(1/26)
وقام يهجو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ويؤلب عليهم عدوهم، بل تمادى في فجوره وأتى قريشاً ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك ضغائنهم، ويشعل نار حقدهم، ويدعوهم إلى حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قتله محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - وأصحابه وأتوا برأسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .[ابن هشام ].
ذكر ابن إسحاق أنَّ أبا عفك قد نجم نفاقه، حين قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن سويد بن صامت، وكان قوالاً للشعر هجَّاءً للرسول، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لي بهذا الخبيث؟
فخرج سالم بن عمير، فقتله.
الحرب الاستباقية
"الحرب الاستباقية": على الرغم من حداثة التسمية والتي يكتنفها جانب الغموض التعريفي، بين قائل بعدم صحة وجهة النظر فيها، أي سبق الآخر بحرب لمجرد أنه يُشكل خطر على الدولة، وبين قائل بلزومها وأداً للأفكار المعادية وحسماً للمعركة من البداية وقتلاً للخصوم وهم في طور التفقيس.
وقد تتشابه عند البعض المُسميات فيضعونها تحت مسمى: "الحرب الوقائية" وهي ما يتخذه ذريعة كل فاسد ليتخلص من الخصوم، كما في قوله تعالى: "اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ " [يوسف 9]، فكان قتلهم لأخيهم وقاية لهم من استفراد يوسف - عليه السلام - بحب أبيه- بزعمهم-، وكما في قوله تعالى على لسان فرعون: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" [غافر 26]، فكان قتل موسى - عليه السلام - على يد فرعون بمثابة "حرب وقائية" لحماية قومه من فساد موسى - عليه السلام -، ألا قبحه الله من فهم ما أوقحه!(1/27)
وكقوله تعالى على لسان قوم لوط: "أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ " [النمل 56]، أي أن الإخراج وقاية للمجتمع من الطهارة، وسبحان الله!
والمقصود أن "الحرب الوقائية" لا ترتبط عادة بقوانين الأخلاق ولا تعرف العهود والمواثيق أو عقود الأمان والصلح، ولا تميز بين عدو وصديق أو ترتب الأعداء، فكل من تشك – أي الدولة- أنه قد يشكل خطراً عليها فهو في دائرة "الحرب الوقائية".
وحتى نخرج بتمييز للإسلام عمن سواه ممن يتبنى هذه التسمية في حروبه العدائية، والتي تعتمد على الكذب فى دوافعها، أو للظن في تقدير مقصود الخصم، أو سوء فهم لتحركه.
نقول: انَّ الذي يُميز الإسلام هو الانطلاقة المباغتة وبالسرعة القياسية مع الاعتماد على الموثق من الأخبار لحسم المعركة وهي ما زالت في مهدها، وعدم الانجرار للتأويلات البشرية لأفعال الغير، أو استخدام غير المؤتمن في النقل من فُساق وغيرهم كالذين حذر منهم ربنا بقوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا – وفي قراءة حمزة والكسائي: فتثبتوا- أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " [الحجرات: 6]، وقد جاء في تفسيرها عند القرطبي وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الوليد بن عقبة إلى قبيلة بني المصطلق، ليجمع منهم الزكاة وأموال الصدقات، فلما أبصروه قادمًا، أقبلوا نحوه لاستقباله، فظن الوليد أنهم أقبلوا نحوه ليقتلوه، وأنهم ارتدوا عن الإسلام، ورجع ليخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومعه جيش من المسلمين، وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه وجاءت الأخبار بتمسكهم بالإسلام وإقام الصلاة ورجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر، ونزلت الآية.(1/28)
والمقصود أنَّ "حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستباقية" ما كانت تنبع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً، بل كانت نتيجة لفعل يقوم به الخصم كتجميع الجموع أو تجييش الجيوش أو تهيئة النفوس للغزو، أو التخطيط الفعلي لإغارة أو اغتيال وما شابه من الأفعال التي تستحق التحرك لها في الاتجاه المضاد.
قال ابن القيم في فقه غزوة حنين: "إن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن" .
وبتتبع أسباب " الحرب الاستباقية " في حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجد جماع الأمر يرجع إلي سببين:
أولهما: جمع الجموع للحرب كالذي فعله خالد بن سفيان الهذلي وأبو رافع بن أبي حقيق اليهودي.
والثاني: تأليب الناس على الحرب كالذي فعله أبو سفيان وكعب بن الأشرف اليهودي.
ومما يدل على عدم قصد الابتداء بالحرب قبل ثبوت الأمر، ما ذكره ابن القيم في "زاد المعاد" في سرية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ثلاثين رجلاً إلى هوازن ... ولما جاءهم الخبر هربوا فلم يلق منهم أحد، فانصرف راجعاً إلي المدينة فقال له الدليل: هل لك في جمع من "خثعم" جاءوا سائرين وقد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر لم يأمرني بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يعرض لهم".
إذن الإغارة لم تكن مقصودة لذاتها بل لما استوجبته من إرادة العدو حرب دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما من لم يكن قصده، وفي نيته حرب الدولة الإسلامية فلا يُستهدف بحرب أو إغارة.
وقد اختلفت طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معالجة هذا الخطر القادم حسب اختلاف قدرة العدو وحجمه فكان عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - طريقتين للحل:
أولهما: عمليات الاغتيال الفردية أو ضمن مجموعة تقضي على الخصم فحسب.(1/29)
والثانية: سرية لغزو الخصم ومن معه في عقر دارهم، ويكون مباغتة وإغارة ولا حاجة لإعلان الحرب فقد كفاه إياه العدو بالمبادأة.
أولاً:عمليات الاغتيال كحرب استباقية:
ذكر ابن سعد في الطبقات وابن القيم في الزاد: سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ... ذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن سفيان قد جمع الجموع لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أنيس ليقتله... فقال – أي خالد-: من الرجل؟، قال عبد الله: رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل إني لأجمع له فمشيت معه وحدثته واستحلى حديثي حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت رأسه... حتى قدمت المدينة فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فلما رآني قال: أفلح الوجه قلت أفلح وجهك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعت رأسه بين يديه وأخبرته خبري.
وعند ابن هشام: كان من حديث اليسير بن رزام أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبد الله بن أنيس، فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففطن به عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف ... ومال كل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صاحبه من يهود فقتله.(1/30)
وذكر ابن سعد في الطبقات: أن أبا رافع بن أبي حقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله .
وقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرواً بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم لاغتيال أبي سفيان بمكة، وعلى قول الشافعي في الأم أنه بسبب قتل "عاصم بن ثابت وخبيب وزيد بن الدثنة"، فيما قال ابن سعد في الطبقات: وكان سبب ذلك أن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا رجل يغتال محمداً - صلى الله عليه وسلم - فإنه يمشي في الأسواق، فقال له رجل من العرب : إن قويتني خرجت إليه حتى أغتاله... فأعطاه بعيرًا ونفقة... فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم إلى أبي سفيان وقال : "إن أصبتما منه غرة فاقتلاه".
ثانياً: السرايا والغزوات كحرب وقائية:
جاء في الطبقات لابن سعد: أن "بني سُليم وغطفان" قد أعلنوا الحرب على المدينة، في أعقاب "بدر"، وقد قاموا بتجمعات عند ماء لبني سليم اسمه: "قرقرة الكُدر" من أجل الزحف نحو الدولة الإسلامية، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرهم بادرهم بجيشه في منطقة تجمعهم، إلا أنهم فروا حين أحسوا بمقدمه.
وقال ابن القيم في الزاد في سبب غزوة بني المصطلق: أن الحارث بن ضِرار سيد بني المصطلق سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال الطبري في التاريخ: فتزاحف الناس واقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم الله بني المصطلق وقُتل من قُتل منهم.
وجاء في الطبقات لابن سعد و الزاد لابن القيم: خرج "عليٌ" في مائة رجل إلى " فدك" إلى حي من بني سعد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر.(1/31)
وجاء في الزاد سبب غزوة "دومة الجندل" قال ابن القيم: خرج إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألف من المسلمين، وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يريدون أن يدنوا من المدينة.
وفي الزاد أن "حسيل بن نويرة " دليل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر قد جاء بخبر اجتماع يمن وغطفان وحيان على حرب المدينة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشير بن سعد في ثلاثمائة رجل ... حتى دنوا من القوم فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبر جمعهم فتفرقوا... وقتلوا عينا لعيينة سيد غطفان فقتلوه وأسروا اثنين.
وذكر ابن القيم سبب سرية ابن أبي حدرد الأسلمي أنَّ رجلاً يقال له قيس بن رفاعة أو رفاعة بن قيس أقبل في عدد كثير حتى نزلوا بالغابة يريد أن يجمع قيساً على محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلين من المسلمين فقال: "اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم"... قال: فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم، فثبت إليه فاحتززت رأسه ثم شددت ناحية العسكر... واستقنا إبلاً عظيمة وغنماً كثيرة.
وقال ابن سعد في الطبقات في سبب غزوة "ذات السلاسل" أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمعاً من قُضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرواً بن العاص، وأمَّره على ثلاثمائة مقاتل ويستعين بمن يمر به من قبائل ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قرب عمرو منهم وجد جمعهم كثيراً فأرسل يستمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمده بأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - في مائتين فيهم أبو بكر وعمر- رضي الله عنهم -, وسار حتى وطئَ بلاد قضاعة فدوخها، حتى أتى إلى أقصى بلادهم ولقي فى آخر ذلك جمعاً فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا.(1/32)
وذكر ابن القيم في الزاد سبب سرية أبي سلمة إلى بني أسد فقال: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسل أبا سلمة بمائة وخمسين رجلاً فأصابوا إبلاً وشاءً ولم يلقوا كيداً فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.
وذكر ابن القيم في الزاد سبب غزوة حنين فقال: وتُسمى غزوةَ هَوازن، لأنهم الذين أَتَوْا لِقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن إسحاق : ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما فتح اللهُ عليه مِن مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال ... ولما سمع بهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل في الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سَمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، فأجمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السير إلى هَوازِن ... خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معه ألفانِ مِن أهل مكة، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، ففتح الله بهم مكة، وكانوا اثني عشر ألفاً، واستعمل عتَّابَ بن أسيد على مكة أميراً، ثم مضى يُريد لقاء هوازن .
وذكر ابنُ سعد سبب غزوة تبوك فقال : بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقَدَّموا مقدماتهم إلى البلقاء .
الحرب الاستراتيجية(1/33)
"الحرب الاستراتيجية": هي مجموعة المخططات التي تحقق الأهداف السياسية العامة والتي تُسخر في سبيلها كل الطاقات: البشرية والعسكرية والاقتصادية.
- معالم"الحرب الاستراتيجية":
- كلمة = ملك العرب + ديانة العجم:
قال ابن إسحاق وغيره : لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض : إنَّ حمزة وعمر - رضي الله عنهم - قد أسلما، وقد فشا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ : فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتُعيرنا به العرب، يقولون : تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه .
مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه، عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم - وهم خمسة وعشرون تقريباً- فقالوا : يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث أبو طالب، فجاءه فقال : يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر .
فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم " ، وفي لفظ أنه قال مخاطباً لأبي طالب : "إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية "، وفي لفظ آخر قال : " أي عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم ؟ "، قال : وإلام تدعوهم ؟ قال : " أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم "، ولفظ رواية ابن إسحاق : " كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم .(1/34)
- "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب":
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى قبل موته: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب".
وفي مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أخبرني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً ".
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان آخر ما عهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يبقين بجزيرة العرب دينان".
وفي البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انطلقوا إلى يهود، فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادى: يا معشر يهود: "أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال: "ذلك أريد"، ثم قالها الثانية، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قالها في الثالثة فقال: "اعلموا أنَّ الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً، فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله".
وفي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأقرَّ بني قريظة ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم وقسم نساءهم و أولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآمنهم وأسلموا، وأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة كلهم، بني قينقاع ويهود بني حارثة، وكل يهوديٍّ كان بالمدينة.(1/35)
وعند أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: عن أبي عبيدة بن الجرَّاح- رضي الله عنه - قال: آخرُ ما تكلَّم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : "أخرجوا يهودَ أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب..."
قال القرطبي: إنَّ على الإمام إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلد غلب عليها المسلمون عنوة، إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم كعمل الأرض ونحو ذلك.
وهذه النصوص قاطعة الدلالة ساطعة البرهان صحيحة السند والمتن، مما اتفق عليها الشيخان وتلقتها الأمة بالقبول، بل وتفيد اليقين للاتفاق عليها في الصحيحين كما هو مقرر عند علماء الأصول، أما التأويل فليس إليه سبيل لصراحة الألفاظ ووضوح المعنى وتخصصها في حدث بعينه ولا تحتمل أكثر من معنى بحيث تُوجب العدول إلي معنى دون الآخر، فإذا كانت لا تحتمل إلا المعنى الواحد فلا يجوز صرفه إلى معنى آخر إلا بقرينة أقوى كما هو مقرر عند علماء الأصول، وأما دعاوى النسخ فهي من أسمج الردود فكيف تُنسخ أحاديث قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على فراش مرض موته، فهل نُسخت بعد الموت؟ بل أثبتت عائشة رضي الله عنها أن هذه الوصية هي آخر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، فقالت: كان آخر ما عهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يبقين في جزيرة العرب دينان" [أحمد].
ومما يرد حديثاً قول القائل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخرجوا" ولم يقل: اقتلوا، قلنا فإنْ لم يخرجوا، فماذا نفعل؟
نرجوهم أم نشجب موقفهم أم ندين بقاءهم أم نستنكر رفضهم، أم تُرانا نرفع الشكوى لمجلس الأمن، أو نعتصم ونتظاهر أمام أبواب الأمم المتحدة -علينا-.
- أسلم تسلم...(1/36)
في الزاد: في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلي هِرَقل : " بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّوم، سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبعَ الهُدى، أمَّا بَعْدُ : فإني أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَك مَرَّتَيْنِ، فَإنْ تَوَلَّيْتَ، فَإنَّ عَلَيك إثْمَ الأرِيسيّينَ، و" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون" [ آل عمران : 64 ] )".
وكَتَبَ إلى كِسْرَى : " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى وآمَنَ باللهِ وَرَسُولِهِ، وشَهدَ أنْ لاَ إله إلاَّ الله وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُهُ، أدْعُوكَ بِدِعَايَة اللهِ، فإني أنا رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكَافِرِينَ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إثْمُ المَجُوسِ " ، فلما قُرِىءَ عليه الكتابُ، مزَّقه، فبلغ ذلك - صلى الله عليه وسلم - فقال : "مزَّقَ اللهُ مُلْكَه " .(1/37)
وكتب إلى المقوقِس مَلكِ مصرَ والإسكندرية : " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسُولِه، إلى المُقَوْقِس عظِيمِ القِبْطِ، سَلامٌ على من اتَّبَعَ الهُدى، أما بَعْدُ : فإني أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِم تَسْلَمْ، أَسْلِم يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإنْ تَوَلَّيْتَ فإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ القِبْط، " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأنَّا مُسْلِمُونَ" [ آل عمران : 64 ] " .
وعند ابن سيد الناس: وكتب إلى ملك عُمَانَ كتاباً، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ بنِ عبد الله إلى جَيْفَرٍ وعَبْدٍ ابني الجُلَنْدى، سَلامٌ على مَن اتَّبعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ : فإني أَدْعُوكُما بدِعَايَةِ الإسْلام، أَسْلِما تَسْلَما، فإني رسولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكَافِرِين، فإنَّكُما إنْ أقْرَرْتُمَا بالإسْلاَمِ ولَّيْتُكُمَا، وإن أبَيْتُما أنْ تُقِرَّا بالإسْلام، فإنَّ مُلْكَكُمَا زَائِلٌ عَنْكُمَا، وَخَيْلى تَحُلّ بسَاحَتِكُمَا، وتَظْهَرُ نُبُوَّتى على مُلْكِكُمَا".
وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صاحب اليمامة هَوْذَة بن على، وأرسل به مع سَليط بن عَمْرو العامرى : "بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ محمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى هَوْذَة بن علىّ، سَلامٌ عَلى من اتَّبعَ الهُدى، واعْلَمْ أنَّ دِينى سَيَظْهَرُ إلى مُنْتَهى الخُفِّ والحافِر، فأسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلْ لَكَ ما تَحتَ يَدَيْكَ".(1/38)
"أسلم تسلم" فإنْ لم تفعل فالأمر ما ترى لا ما تسمع، وموعدنا مؤتة وتبوك والقادسية وذات الصواري.
هذا هو الخطاب وهذه هي الاستراتيجة، فلا يُدعى الكفار لأمر غير: أسلم تسلم، لا مفاوضات أو مساومات أو تنازلات، فالحق واحد لا يتعدد وإنا أو اياهم لعلى هدى أو في ضلال مبين، أما أن يكون بيننا وبين عدونا نقاط التقاء أو مراكز تواصل أو احتمال اتفاق فهو المخالف لقول ربنا: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ "[ البقرة217].
- ولكنكم قوم تستعجلون...
في البخاري من حديث خبّاب بن الأرَت - رضي الله عنه -: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - متوسداً بُردَة له في ظل الكعبة، قال خباب: قلنا له ألاَّ تستنصِر لنا؟ ألاَّ تدعو الله لنا؟، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض, فيجعل فيه, فُيجاء بالمِنشار فيوُضع على رأسِه فيشق باثنتين, وما يصدُّه ذلك عن دينِه, ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمِه من عظم أو عصب, وما يصدُّه ذلك عن دينِه, والله ليتمن هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكب من صنعَاء إلى حضرموت لا يخاف إلاَّ الله أو الذِّئب على غنَمه, ولكنكم تستعجِلون".
إنها الاستراتيجية النبوية التى تعتمد على صقل الرجال على تحمل الشدائد والصعاب، إنها بناء النفس على الحياة في سبيل الله ثم الموت عليه، فمن السهل الموت في سبيل الله أما الحياة في سبيل الله فهي صفة علية القوم أبناء مدرسة النبوة هذا أولاً.(1/39)
وثانياً تحديد اتجاه العمل، الثقة الكاملة بالنصر والتمكين، والاعتماد الكلي على "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور50]، نفس السنة الكونية القدرية كما مكن الله السابق سيمكن اللاحق، ولكنكم قوم تستعجلون.
- القسطنطينية أم رومية: أيهما أولاً ؟
عند أحمد عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مدينة هرقل تفتح أولاً " يعني قسطنطينية.
ولكن هل فتحت القسطنطينية؟
خلاف قائم بين قائل: إنها فُتحت على يد محمد الفاتح، زمان الخلافة العثمانية بعد القرن الثامن من الهجرة، وبين قائل بل هو فتح آخر لم يأت زمانه بعد، ويستشهدون على ذلك بأحاديث منها: ما جاء عند مسلم في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟ "، قالوا: نعم ، قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا نزلوها لم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر فيفتح لهم فيدخلوها فيغنموا فبينما هم يقسمون الغنائم إذا جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون".(1/40)
وعند مسلم أيضاً أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى ينْزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فيفتحون القسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذا صاح فيهم الشيطان المسيح قد خلفكم في أهليكم فيرجعون وذلك باطل فإذا جاؤو الشام خرج – أى الدجال-".
ويمكن الجمع أنَّ الفتح فتحان، أحدهما قد حدث والآخر سيأتي بإذن الله بالتكبير والتهليل وجيش يخرج من المدينة.
فما الواجب علينا؟
الجهاد والاعداد والبناء والتربية على هذا الفهم العميق للإسلام، وعلى تحديد مواطن العمل، والتحرر من التبعية للحدود الأرضية، والإنطلاق نحو الفهم الموسع للجهاد ، والثقة بموعود الله ورسوله، فان عجزنا فهذا لا يعنى أنا عاجزون عن توريث هذا الدين لأبنائنا، ولندع ما علق بأفكارنا فلا نجلعه مرجع لأبنائنا، ولنحررهم من التبعية لأفكارنا، وليستمدوا من قول نبيهم وسيرة سلفهم ما يعينهم على مهمة فتح القسطنطينية ورومية.
- عز الأمة وملكها سيبلغ ما بلغ الليل والنهار:
عند أحمد عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض".
وعند مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض".(1/41)
وأخرج الإمام أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وذلاً يذل به الكفر "، فكان تميم الداري - رضي الله عنه - يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.
والله ما كذبنا ولا كُذبنا فلنعمل من هذا المنطلق، انه ملك... ستملك أمة الاسلام الأرض لأنها أحق من يملك، لن تملك برجالها أو سلاحها، ولكنها ستملك بهذا الدين، لن تكون على سمت الملوك "إنَّ الْمُلُوكً إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ"[النمل 34]، لكنها ستكون كما لم تعرفه البشرية في غير عصور الأنبياء، خلافة راشدة على منهاج النبوة، لا ظلم فيها ولا جور، يسود العدل ويحق الحق وعد موعود وقضاء مقضي وقد خاب اليوم من افترى.
- تغزون فيفتحها ثم تغزون فيفتحها ثم تعزون فيفتحها ثم تغزون فيفحتها الله ...
أخرج الإمام مسلم عن رافع بن عتبة - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة، فإنهم لقيام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد، قال: فقالت لي نفسي: ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه، قال: ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم، فقمت بينهم وبينه، قال: فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي، قال: "تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله " قال نافع: يا جابر، لا نرى الدجال يخرج حتى تُفتح الروم.(1/42)
وفي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله".
وعند أحمد في يوم الخندق: شكا الصحابة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ الفأس وقال: "بسم الله"، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا"، ثم قال: "بسم الله"، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا"، ثم قال: "بسم الله"، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا".
فما بالنا تسلط علينا أذل خلق الله، وهل هناك أذل ممن أذله الله للأذل، داء يحتاج إلي الدواء، عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تبايعتم بالعِيْنَةِ وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاًّ، لا يَنزعه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينكم" [رواه أحمد وأبو داود وقال الحافظ في البلوغ رجاله ثقات، وجود إسناده ابن تيمية في مجموع الفتاوى ووافقه الألباني في السلسلة الصحيحية وصححه أحمد شاكر فى شرح المسند].
ان تركنا الجهاد تسلط علينا أذناب الكفر فسامونا سوء العذاب، فما العلاج؟(1/43)
نص الحديث يدل على الرجوع إلى الدين لا إلى الجهاد، وكأن الجهاد كان مانعاً لوقوع الذل على الأمة بما فيها من وهن أو موجبات الذل، فلما تركته بمحض إرادتها وركنت إلى الدنيا واتبعت أذناب البقر تسلط عليها أذناب الكفر، ومع أن سبب الذل هو ترك الجهاد، فقد كانت النتيجة على الدين عائدة، فلنفهم مُراد الرسول ولنرجع الى ديننا بفهم الصحابة، ساعتها سنغزو الروم ونكسر القرون ولو نبت ألف قرن.
- الطائفة المنصورة:
روى البخاري عن معاوية - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك".
انها استراتيجية البناء والتواجد في كل بقعة أرضية، أن تتبنى طائفة منهج الفرقة الناجية، فلا تُهزم الأمة، انها العصابة الباقية ببقاء هذا الدين أولها من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: "اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" [مسلم عن عمر]، إلي أن يُقاتل آخرهم المسيح الدجال، ويصح في الطائفة التعدد في أكثر من بقعة في الزمن الواحد، أما حين التوالى فخاتمة المطاف يكون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس كما جاء عند الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات.
- يا عدي بن حاتم: رسول الله قد قالها...(1/44)
جاء في مسند الإمام أحمد أنَّ عدي بن حاتم حدث عن نفسه لرجل أحب أنْ يسمع منه، فقال عدي: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم ثلاثاً، قال قلت: إني على دين، قال: "أنا أعلم بدينك منك"، فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟"، قلت: بلى، قال: "فإنَّ هذا لا يحل لك في دينك"، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، فقال: "أما إني أعلم ما يمنعك من الإسلام تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟" قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز"، قال قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قالها.
وخرجت ليوث الوغى تخّلي بني الكفار عن سبيله وتضربهم على تأويله وعلى تنزيله، ضرباً يُزيل الهام عن مقيله ويُذهل الخليل عن خليله، كما قال ابن رواحة - رضي الله عنه -.
وسارت تفتح العرب وتدك حصون اليهود وتجليهم عن الجزيرة، وتمنع أنْ يُعبد الوثن في الجزيرة العربية، ثم تفتح فارس والروم ومصر واليمن، والقسطنطينية والسند والهند، تحقيقاً لموعود الله.
وما تزال الطائفة المنصورة الناجية على الدرب سائرة لا تقيل ولا تستقيل، فأمامها رومية ومن بعدها تبليغ الدين ما بلغ الليل والنهار، وسيأتيها الدجال فتفتح بإذن الله وتقاتل اليهود آخر الزمان وتقضي على النصرانية، وعد موعود وقضاء مقضي وقد خاب اليوم – وكل يوم- من افترى. ………………
الحرب الاقتصادية(1/45)
"الحرب الاقتصادية" هي حالة صراع من أجل الحصول على موارد الخصم وإمكاناته وطاقاته، أو التأثير عليه مما يضطره للانهزام أو السير في فلك مُستهدِفَه.
- تحقيق النكاية عن طريق النيل من الكفار:
قال تعالى: "مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ " [التوبة 120]، والنيل من الكفار على أصناف أربعة: قتل الرجال وسبي النساء واسترقاق الولدان واغتنام المال، كلُّ ذلك مما يُكتب للمسلمين به عمل صالح.
وفي البخاري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه جمع قريشٍ والأحابيش له حين خرج قاصداً العمرة قال: "أشيروا أيها الناس عليَّ، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله - عز وجل - قد قطع عينًا من المشركين وإلا تركناهم محروبين".
قال ابن القيم في الزاد: واستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وقال : "أترون أن نمِيلَ إلى ذَراري هؤلاء الذين أعانُوهم فَنُصِيبَهم، فإن قعدُوا، قعدُوا موتُورين محروبين، وإن يجيؤوا تَكُنْ عُنقاً قطعها اللهُ، أم ترون أن نَؤُمَّ البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلناه".
والشاهد قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النيل من الكفار بقتل عيالهم وذراريهم، والنيل بالمال من باب أولى وهو دون قتل الذرية في الأحكام، فلو جاز الأول كان الثاني في الحكم أيسر.
- الحصار كنوع من الحرب الاقتصادية:(1/46)
في الزاد: قال موسى بن عقبة : ثم دخل اليهودُ حِصناً لهم منيعاً يقال له : القَمُوص، فحاصرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قريباً مِن عشرينَ ليلة، وكانت أرضاً وَخْمَةً شَدِيدَةَ الحرِّ، فجُهِدَ المسلمون جَهْدَاً شديداً، وقال الواقدى : وتحوَّلت اليهود إلى قلعة الزبير : حصنٍ منيع في رأس قُلّةٍ، فأقام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له "عزال" فقال : يا أبا القاسم، إنك لو أقمتَ شهراً ما بَالوا، إن لهم شراباً وعُيوناً، تحتَ الأرض، يخرجُون بالليل، فيشربُون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعُون منك، فإن قطعْت مشربَهم عليهم أصحَرُوا لك، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مائهم، فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم، خرجوا، فقاتلُوا أشد القتال، وقُتِلَ مِن المسلمين نَفَرٌ، وأُصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تحوَّل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الكُتَيْبَةِ والوَطِيح والسُّلالِم حصن ابن أبى الحُقيق، فتحصَّن أهلُه أشد التحصن، وجاءهم كُل فَلٍّ كان انهزم مِن النَّطاة والشَّق، فإن خيبر كانت جانبين :
الأول : الشَّق والنَّطاة، وهو الذي افتتحه أولاً.
والجانب الثانى : الكُتيبة والوطيح والسُّلالم، فجعلوا لا يخرجُون مِن حُصونهم حتى همَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينصبَ عليهم المَنجنيق، فلما أيقنُوا بالهَلَكَةِ، وقد حصرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعةَ عشر يوماً، سألُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّلْحَ".
وفي الزاد وابن هشام وابن سعد: غزا بنى قَيْنُقَاع، وكانُوا مِن يهودِ المدينة، فنقضُوا عهدَه، فحاصرهم خمسة عشرَ ليلةً حتى نزلُوا على حُكمه، فَشَفَعَ فيهم عبدُ اللهِ بن أُبَىّ، وألحَّ عليه، فأطلقهم له، وهم قومُ عبدِ الله بن سلام، وكانوا سَبعمائة مقاتل، وكانوا صاغة وتجاراً .(1/47)
وذكر ابن القيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاصر بني النضير ست ليال.
وفي الزاد: ونازل حصُون بنى قُريظة، وحصرهم خمساً وعشرين ليلةً.
وفيه: وأقام المشركُون محاصِرِينَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين.
قال تعالى: " مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ " [الحشر5]، وبيت القصيد خزي الكفار الذي يلحق بهم من قطع النخل والذي يعود بالنفع المادي عليهم، أي أن الضرر يلحق بهم، وإن كان مما لا ينفع المسلمين ولكنه يحقق الخزي للكافرين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت الآية. [رواه البخاري ومسلم].
- المقاطعة كنوع من الحرب الاقتصادية:
وهو مما لا يعود بنفع ظاهر للمسلمين، بل وقد يؤدي إلى ضرر بهم من جهة بذل مالهم أو منع تجارتهم أن تصل إلى الآخرين، ولكن لما فيها من نكاية ونيل من الكفار فقد جاء الإسلام بالحث عليها، وفي إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لثمامة دليلاً على ما نقول: فقد جاء قريش مسلماً وقال لقريشٍ: والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].(1/48)
وقد كان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه، فكان فيه تقرير يأخذ حكم الحجة والجواز، وأما ما جاء عند ابن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُرسل لهم الميرة لمَّا كاتبته قريش في ذلك، وقالوا: إنَّك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يُخلي بينهم وبين الحمل إليهم، فقد جاء بغير سند يُعتد به، ويبقي أصل المنع لصحة الحديث فيه ولعدم قيام مُعارض، ولو صح لكن من باب المنِّ أو من باب تأليف القلوب أو صلة الرحم كما فعلها في حصاره للطائف كما عند ابن سعد.
وفى الصحيحين أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في صلاته فيقول: "اللهم اشدُد وطأتك على مضر، اللهمَّ اجعلها عليهم سنينَ كسِنِي يُوسف"، وهو دعاء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوقوع أثر الحصار عليهم والتشديد بسني يوسف العجاف دليل على قصد النتيجة وليس مجرد الفعل.
وفي الحديثين دليل على جواز ضرب الحصار الاقتصادي وان لم يرافقه قتل أو حصار عسكري، لما فيه من نكاية وأثر بالغ على الكفار.
ومن جهة توازي الحصار الاقتصادي مع العسكري، فالطائف حاصرها المسلمون ثمانية عشر يوماً على قول ابن سعد وقال ابن إسحاق : بِضعاً وعشرين ليلة. وفيها أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناسُ فيها يقطعون ، قال ابن سعد : فسألوه أن يدعها للهِ وللرَّحم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإني أدَعُهَا للهِ ولِلرَّحمِ ".
- قطع الطريق التجاري:(1/49)
روى البخاري عن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - أنه كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انطلق سعد معتمراً فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصُّبَاه وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة".
وفي رواية عند البيهقي: "والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام".
- الضغط الاقتصادي:
ومما يؤكد بلوغ الحصار من قريش المبالغ حتى أنها ما باتت تأمن على قوافلها، ما جاء في الرحيق المختوم من قول صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام- : إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء .
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان : تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق - وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل- فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان دليلاً له.(1/50)
ويؤكّد ما سبق، ما رواه الإمام الطبراني في معجمه وابن هشام أن أبا جهل قال في معرض كلامه عن سريّة سيف البحر: "يا معشر قريش، إنَّ محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذروا أن تمرّوا طريقه وأن تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم ".
- غزو سوق الخصم وتقليل موارده، والاكتفاء الذاتي الذي يمنع العدو من ضرب الحصار:
كشراء بئر رومة، عند الترمذي وصححه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قدم المدينة، ولم يكن بها ماء يتعذب غير بئر رومة، رغب أصحابه - رضي الله عنهم - بقوله: "من يشتري بئر رومة فيجعل منها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة "، فاشتراها عثمان بن عفّان - رضي الله عنه -، وتصدق بها على السابلة، أي جعلها للمسلمين.
- حصار قريش على الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
جاء في الزاد: فلما رأت قريشٌ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلو، والأمور تتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، أن لا يُبايعوهم، ولا يُناكِحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يُجالِسُوهُم، حتى يُسلِّموا إليهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلَّقوها في سقفِ الكعبةِ... فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنُهم وكافرهم، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنى هاشم، وبنى المطلب، وحُبِسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ معه في الشِّعب... وبقُوا محبوسينَ ومحصورينَ، مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم المِيرةُ والمادةُ، نحوَ ثلاثِ سنين، حتى بلغهم الجَهْدُ، وسُمِعَ أصواتُ صِبيانِهم بالبُكاء مِن وراء الشِّعب.
- استلاب المال والغنائم وقصدها بالحرب:(1/51)
في القرآن والسنة ما يثبت مشروعية القتال من أجل الغنائم كما في قوله تعالى: "وَإِذْ يَعدكم اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ "[الأنفال 7]، فالشوكة هي الحرب والقتال وغيرُ ذاتِ الشوكة هي الغنيمةُ مع العير، وقد أثبت كعب بن مالك - رضي الله عنه - خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر يريد عير قريش، فقال في سياق قصَّة تخلُّفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة العسرة: "غير أنِّي تخلَّفتُ عن غزوة بدر، ولم يُعاتب أحد تخلَّف عنها، إنَّما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُريد عير قريش"..
وقال تعالى:"سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ "[الفتح 15]، والعلة في الانطلاق كانت من أجل الغنائم.
وقال: "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ "[الفتح 20]، فالإنكار كان على قصد القتل من أجل الغنيمة، لا على إرادة الغنيمة بمفردها ولذلك جاء الترغيب بما عند الله من غنائم كثيرة.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ "[التوبة 49]،قال: قال محمد بن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجدّ بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك: "يا جدّ هل لك في جلاد بني الأصفر، تتخذ من سراري ووصفاء؟، فقال الجدّ: لقد علم قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أُفتن فلا تفتني، وائذن لي في القعود، وأعينك بمالي، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "قد أذنتُ لك".(1/52)
- الغنائم كمورد أساسي للمال وتقويةً للمسلمين وإضعافاً للمشركين:
قال تعالى: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ"، والوعدُ من الله ما هو إلا ترغيب للمسلم بموعود الله: ألا وهي المغانم الكثيرة الدنيوية والأخروية، وهنا الوعد واضح بين عير ونفير والله قدر النفير ليحصلوا علي الاثنين ولكن التعجيل كان من الله سبحانه بأحدهما فقال عز من قائل: "وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِه" [الفتح 20].
- الإغارة على القوافل:
فى الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - قال : "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ثلاثمائة راكب، أميرُنا أبو عبيدة بن الجرَّاح - رضي الله عنه - نَرْصُدُ عِيراً لقريش... "، وما الرصد إلا من أجل الإغارة والغنيمة.
وفي زاد المعاد وابن هشام: وكان أوَّل لواء عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -... على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه... بعثه في ثلاثين رَجُلاً مِن المهاجرين خاصّة، يعترِضُ عِيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبُو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سِيْفَ البحرِ من ناحية العِيصِ، فالتَقَوْا واصطفُّوا للقتال، فمشى مجدى بن عمرو الجُهنى، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتِلوا .
وفي زاد المعاد وابن هشام: ثم بعثَ سعدَ بن أبى وقاصٍ - رضي الله عنه - إلى الخرَّارِ من أودية المدينة وقيل انه آبار عن يسار المحجة قريب من خم...على رأس تسعة أشهر... وكانوا عشرين راكباً يعترِضُونَ عِيراً لقريش.(1/53)
وفي زاد المعاد وابن هشام: أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه غزوة الأبواء، ويقال لها : وَدَّان... على رأس اثني عشر شهراً مِن مُهَاجَرِهِ...يعترِض عِيراً لقريش، فلم يلق كيداً.
وفي الزاد وابن هشام:غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُواط... على رأس ثلاثةَ عشر شهراً من مُهاجره... خرج في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقُريش... فلم يلق كيداً فرجع .
وفي الزاد وابن هشام: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأس ستة عشر شهراً من الهجرة، خرج في خمسين ومائة، ويقال : في مائتين من المهاجرين...على ثلاثين بعيراً يعتقِبونها يعترضون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد كان جاءه الخبرُ بفصولها من مكة فيها أموال لقريش، فبلغ ذَا العُشيرة... فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العيرُ التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، وهى التي وعده الله إياها، أو المقاتلة، وذات الشَوْكة، ووفَّى له بوعده .(1/54)
وفي زاد المعاد وابن هشام: بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ - رضي الله عنه - إلى نَخْلَةَ على رأْسِ سبعةَ عشر شهراً مِن الهِجْرة، في اثني عشر رجلاً مِن المهاجرين، كُلُّ اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش... وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كتب له كِتاباً، وأمره أن لا ينظُرَ فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظُرَ فيه، ولما فَتح الكِتاب، وجد فيه : " إذَا نَظَرْتَ في كتابي هذا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشَاً، وتَعْلَمَ لنا مِنْ أَخْبَارِهم " فقال : سمعاً وطاعةً، وأخبر أصحابَه بذلكَ، وبأنه لا يستكرِهُهم، فمن أحبَّ الشهادةَ، فلينهض، ومن كرِهَ الموت، فليرجِعْ، وأما أنا فناهض، فَمَضَوْا كُلُّهم، فلما كان في أثناء الطريق، أضلَّ سعدُ بن أبى وقاص، وعتبةُ بنُ غزوان بعيراً لهما كانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فتخلفا في طلبه، وبَعُدَ عبدُ الله بنُ جحش حتى نزل بِنخلة، فمرَّت به عِيرٌ لقريش تَحْمِلُ زبيباً وأَدَماً وتِجارةً فيها عَمْرو بن الحَضْرَمى، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكمُ بنُ كيسان مولى بنى المغيرة .(1/55)
فتشاور المسلمُون وقالوا : نحن في آخر يومٍ من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تركناهم الليلةَ، دخلوا الحَرَم، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم، فرمى أحدُهم عَمْرو بن الحضرمى فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفْلَتَ نوفل، ثم قَدِمُوا بالعِير والأسيرين، وقد عزلوا مِن ذلك الخُمس، وهو أول خُمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام، وأنكر رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم ما فعلوه، واشتدَّ تعنُّتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا : قد أحلَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - الشهرَ الحرَامَ، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى : " يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" [البقرة : 217 ].
وفي زاد المعاد وابن هشام: فلما كان في رمضانَ مِن هذه السنة، بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُ العِير المقبلة من الشام لقريش صُحبةَ أبى سفيان، وهى العِير التي خرجوا في طلبها لما خرجت مِن مكة، وكانوا نحو أربعين رجلاً، وفيها أموالٌ عظيمة لٍقريش، فندب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ للخروج إليها، وأمر مَن كان ظهرُه حاضراً بالنهوض، ولم يحْتَفِلْ لها احتفالاً بليغاً، لأنه خرج مُسْرِعاً في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ : فرس للزبير بن العوام، وفرسٌ للمِقداد بن الأسود الكِندى، وكان معهم سبعون بعيراً يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد.(1/56)
قال ابن القيم قال ابن إسحاق : خرج أبو العاص بن الربيع تاجراً إلى الشام، وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائعُ لقريش، فأقبل قافلاً فلَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فاستاقُوا عِيره، وأُفلِت، وقَدِمُوا على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما أصابُوا، فَقَسَمه بينهم، وأتى أبو العاص المدينةَ، فدخلَ على زينبَ بنت رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستجار بها، وسألها أن تطلُبَ له مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ردَّ ماله عليه، وما كان معهُ مِنْ أموال الناس، فدعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّرِيَّة، فقال : "إنَّ هذا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُم، وَقَدْ أَصَبْتُم لَهُ مَالاً وَلِغَيْرِهِ، وهُوَ فيء اللهِ الذي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَإنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ، فَافْعَلُوا، وَإنْ كَرِهْتُم، فَأَنْتُمْ وَحَقُّكُم"، فقالُوا : بل نردُّه عليه يا رسولَ الله.
وهذا القولُ من الواقدى وابن إسحاق يدل على أن قصة أبي العاص كانت قبل الحديبية، وإلا فبعد الهدنة لم تتعرَّض سرايا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش . ولكن زعم موسى بن عقبة، أن قصة أبي العاص كانت بعد الهُدنة، وأن الذى أخذ الأموال أبو بصير وأصحابُه، ولم يكن ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم كانوا مُنحازين بِسِيفِ البحر، وكانت لا تمرُّ بهم عِيرٌ لقريش إلا أخذوها، هذا قولُ الزهري .
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب في قصة أبي بصير : ولم يزل أبو جندل، وأبو بَصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك، حتَّى مرَّ بهم أبو العاص بن الربيع، وكانت تحتَه زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قريش، فأخذوهم وما معهم، وأسرُوهم، ولم يقتلُوا منهم أحداً لِصهر رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من أبى العاص، وأبو العاص يومئذ مشركٌ.(1/57)
وخَلَّوْا سبيله، فَقَدِمَ المدينةَ على امرأته زينب، فكلمها في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير، وما أخذوا لهم، فكلَّمت زينبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فزعموا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام، فخطب الناسَ، فقال : "إنَّا صَاهَرْنَا أُنَاساً، وَصَاهَرْنَا أبا العَاصِ، فَنِعْمَ الصِّهْرُ وَجَدْناهُ، وإنَّهُ أَقَبَلَ مِن الشَّامِ في أَصْحابٍ لَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَخَذَهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ، وأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدَاً، وإنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ سألتني أَنْ أُجيِرَهُم، فَهَلْ أَنْتُم مُجِيرُونَ أبَا العَاصِ وَأَصْحَابَه؟" فقال الناسُ : نعم، فلما بلغَ أبا جندل وأصحابَه قَوْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبي العاص وأصحابِه الذين كانوا عنده مِن الأسرى، ردَّ إليهم كُلَّ شئ أخذ منهم، حتى العقالَ، وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي جندل وأبي بصير، يأمرهم أن يَقْدَمُوا عليه، ويأمُرُ مَن معهما مِن المسلمين أن يَرْجِعُوا إلى بلادهم وأهليهم، وألا يتعرَّضُوا لأحد مِن قريش وعِيرها، فَقَدِمَ كتابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي بصير، وهو في الموت، فمات وهو على صدره، ودفنه أبو جندل مكانَه، وأقبل أبو جندل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأَمِنَتْ عِيرُ قريش.
وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمنَ الهُدنة، وقُريش إنما انبسطت عِيرُها إلى الشام زَمَنَ الهُدنة، وسياقُ الزهري للقصة بيِّنٌ ظاهر أنها كانت في زمن الهُدنة .(1/58)
وفي المنتظم قال ابن سعد : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عيراً لقريش قد أقبلت من الشام فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكباً، يتعرض لها فأخذوها وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة، وكانت لصفوان بن أمية وأسروا ناساً ممن كان في العير منهم أبو العاص بن الربيع وقدم بهم إلى المدينة، فاستجار أبو العاص بن الربيع بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجارته ونادت في الناس حين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر : إني أجرت أبا العاص فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما علمت بشيء من هذا وقد أجرنا من أجرت " ورد عليه ما أخذ منه .
وعند أبي داود والبيهقي أن الذي أسر العاص هو أبو بصير ومن معه ممن التحق بسيف البحر وكان يغير علي عير قريش، وهو ما أيده وأكده ابن القيم وصوب من اتجه إلى هذا السياق من السيرة.
أما قصة أبي بصير وإغارته على القوافل فقد أخرج الحديث بطوله البخاري وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، ولما عرف أبو بصير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرده إليهم خرج حتى أتى سيف البحر، ثم انفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تناشده بالله والرحم أن يلحقه بالمدينة.
……………
الحرب الباردة(1/59)
"الحرب الباردة" هي حالة حربية ولكنها تأخذ طابع الهدوء الحذر في ظاهرها والبركان الثائر في حقيقتها، تهدف لاستعادة جوانب القوة بعد المعارك، والعودة إلى مراكز التأثير، أو تهيئ الظروف المواتية للبدء بحرب جديدة، وعليه فهي حالة حربية لا تُسْتَخْدَمُ فيها الوسائل القتالية بالمفهوم الموسع، وفي الأغلب تكون تمهيداً وتوطئةً للحرب الحقيقية، وبذلك تكون الحرب الباردة حرب مؤقتة تنتهي بالحرب الساخنة أو استسلام الخصم أو الخضوع لسياسة الدولة، أو الرضا بالواقع الجديد.
- غزوة تبوك و"الحرب الباردة":
- أسباب الحرب:
أول المناكفات بين الروم والمسلمين بدأت بقتل شرحبيل بن عمرو الغساني لسفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عمير الأزدي، وقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية زيد بن حارثة - رضي الله عنه - والتي خاضت معركة دامية في مؤتة، ومع أنها لم تأخذ بالثأر ولكنها تركت أثراً عظيماً في نفوس الجميع، مَنْ شاركَ ومَنْ لم يشارك، للصدى الذي تأخذه عصابة من ثلاثة آلاف مقاتل تتحدى أعظم إمبراطورية على وجه الأرض ثم ترجع دون إبادة، هذا جعل العرب تُعيد قراءة المواقف بناءً على الخارطة الجديدة، محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم - لا يهابون الروم فكيف العرب؟
وما كان هرقل ليغفل عن الأثر الذي أوقعته المعركة في نفوس العرب العملاء للإمبراطورية، "ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إنَّ هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يرى أنَّ القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان .(1/60)
ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة .[الرحيق].
وذهب ابن كثير في "التفسير" إلى أنَّ سبب الغزوة هو استجابة للأمر الرباني بالجهاد، ولذلك عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله, قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [التوبة: 123].
ولا يمتنع الجمع بين السببين: فمن جهة الروم استرداد هيبتهم وسلطانهم على العرب، وتأديباً لمن تجرأ على محاربة الروم، ومن جهة النبي تنفيذ الأمر الرباني بالجهاد، وكان التجمع الرومي سبباً للعزم الأكيد.
- "الحرب الباردة" تسيطر على أهل المدينة:
"كانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان، للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنه زحف الرومان .
ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً في هذه السنة - 9هـ - وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته، فظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق .(1/61)
يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -- وهو يروي هذه القصة : وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر- وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذُكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال : افتح، افتح، فقلت : جاء الغساني ؟، فقال : بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أزواجه . الحديث .[الرحيق].
وفي لفظ البخاري : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ما هو ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نساءه .
- "الحرب الباردة" والاستعدادات:
وقد توارد من مسميات غزوة تبوك كما عند البخاري: باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، وفيه حديث أبي موسي الأشعري، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك.
وقد ورد هذا الاسم في قوله تعالى: "لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "[التوبة: 117].
قال ابن إسحاق : وكانت في زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام في ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان .(1/62)
- صلح الحديبية و"الحرب الباردة ":
رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام أنه سيطوف بالبيت وتداول الخبر الصحابة - رضي الله عنهم - وساروا معتمرين آمين البيت، وفزعت قريش حين علمت بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلي قريش يعلمهم أنه ما جاء مقاتلاً إنما معتمراً، وانتشرت إشاعة مقتل عثمان فتبايع الصحابة تحت الشجرة بيعة الرضوان على الموت، وهو ما جعل قريش تتدارك الموقف لترسل سهيلاً بن عمرو ليصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ألا يدخلها هذا العام ويأتي من قابل، هذا ما جعله ترتيباً صاحب الرحيق، أي سفارة عثمان بعد سفارة بديل وسهيل، وابن القيم يرى أن توافد رسل قريش كلهم كان بعد إرسال عثمان فقال: فبينما هم كذلك، إذ جاء بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعى في نَفرٍ مِن خُزاعة، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أهل تِهامَة، فقال : إني تركتُ كعبَ بنَ لُؤَى، وعامر بن لؤى نزلوا أعدَادَ مِياه الحُدَيْبية معهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مقاتِلُوكَ، وصادُّوك عن البيت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّا لَمْ نِجِئْ لِقِتَالِ أحَدٍ، ولَكِنْ جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشَاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُم، ويُخَلُّوا بيْنى وبَيْنَ النًَّاسِ، وَإنْ شَاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيهِ الناس، فَعَلُوا وإلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُم أَبَوْا إلاَّ القِتَالَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمْرِى هذَا حَتَّى تَنْفَردَ سَالِفَتِى، أوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ " .(1/63)
قال بُديل : سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قُريشاً، فقال : إني قد جئتُكم مِن عند هذا الرجل، وقد سمعتُه يقول قولاً، فإن شئتم عرضتُه عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجةَ لنا أن تُحدِّثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هاتِ ما سمعته، قال : سمعتُه يقول كذا وكذا . فحدَّثهم بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقال عُروةُ بنُ مسعود الثَّقفى : إن هذَا قد عَرَضَ عليكم خُطَّة رُشد، فاقبلوها، ودعوني آتِه، فقالوا : ائته، فأتاه، فجعل يُكلمه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - نحواً من قوله لِبُديل، فقال له عروةُ عند ذلك : أي محمد، أرأيتَ لو استأصلتَ قومَك هل سمعتَ بأحدٍ مِن العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى، فواللهِ إني لأرى وجوهاً، وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يَفِرُّوا ويدعوك، فقال له أبو بكر : امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أنحنُ نَفِرُّ عنه وندعه ؟ قال : مَن ذا ؟ قالُوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده، لولا يَدٌ كانت لكَ عندي لم أَجْزِكَ بها، لأجبتُك، وجعل يُكلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلما كلَّمه أخذَ بلحيته، والمغيرةُ بنُ شُعبة عِند رأسِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه السيفُ، وعليه المِغفرُ، فكلما أهوى عُروةُ إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ضرب يَده بِنَعْلِ السيفِ، وقال : أخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحية رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فرفع عروة رأسه وقال : مَن ذا ؟ قالوا : المغيرةُ بنُ شعبة . فقال : أي غُدَرُ، أوَ لستُ أسعى في غَدرتك ؟ وكان المغيرةُ صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا الإسْلام فأقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شيء " .(1/64)
ثم إن عروة جعلَ يَرْمُق أصحابَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعينيه، فواللهِ مَا تَنَخَّمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نُخامة إلا وقعت في كفّ رَجُلٍ منهم، فَدَلَكَ بها جِلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم، ابتدروا أمرَه، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، فرجع عروةُ إلى أصحابه، فقال : أي قوم، واللهِ لقد وفدتُ على الملوكِ ، على كسرى، وقيصرَ، والنجاشي، واللهِ ما رأيتُ ملكاً يُعظمه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمد محمداً، واللهِ إن تنخَّم نُخامة إلا وَقَعتْ في كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم، خفضُوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، وقد عرض عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلُوها، فقال رجل من بنى كِنانة : دعوني آتِهِ، فقالوا : ائْتِهِ، فلما أشرفَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : "هذا فُلانٌ، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْنَ، فابعثُوها له، فبعثوها له، واستقبله القومُ يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال : سُبْحَانَ اللهِ، مَا ينبغي لِهَؤُلاَء أن يُصَدُّوا عَنِ البَيتِ، فرجع إلى أصحابه، فقال : رأيتُ البُدن قد قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ ، وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت.(1/65)
فقام مِكْرَزُ بنُ حَفص، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائتهِ . فلما أشرف عليهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هذا مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، وهو رجل فاجر" ، فجعل يُكَلِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا هُوَ يكلمه، إذ جاء سُهيلُ بنُ عمرو، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ سُهِّلَ لَكُمْ من أمْركُم" فقال : هاتِ، اكتُب بيننا وبينكم كِتاباً، فدعا الكاتب، فقال : "اكتُب بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ" فقال سهيل : أما الرحمنُ، واللهِ ما ندرى ما هُو، ولكن اكتب : باسمِكَ اللَّهُمَّ كما كنتَ تكتبُ، فقال المسلمون- وفي روايات: عليَّ- : "واللهِ لا نكتُبها إلا بسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اكْتُبْ باسْمِكَ اللَّهُمَّ " ، ثم قال : " اكْتُبْ هذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ" ، فقال سُهيل : فواللهِ لو كنَّا نعلمُ أنك رسولُ اللهِ، ما صددناكَ عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني رَسُولُ اللهِ وإن كَذَّبْتُمُونى، اكْتُبْ : مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، فَقَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على أَنْ تخَلُّوا بَيْنَنَا وبَيْن البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ" ، فقال سهيل : واللهِ لا تتحدَّثُ العربُ أنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، ولكن ذلك مِن العام المقبل...[الزاد].
- فتح مكة و"الحرب الباردة ":(1/66)
في الحديبية دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كلتا القبيلتين في مأمن من الأخرى، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له : الوَتِير ، فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر : يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة : لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم . فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له : رافع ، وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نصرت يا عمرو بن سالم "، ثم عرضت له سحابة من السماء، فقال : " إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ".
ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة . [الرحيق]
- قريش تدخل "الحرب الباردة":
قال صاحب الرحيق: أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:(1/67)
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح .
وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم ، قال : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في المدة " .
وخرج أبو سفيان - حسب ما قررته قريش - فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان - وهو راجع من المدينة إلى مكة - فقال : من أين أقبلت يا بديل ؟ - وظن أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -- فقال : سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي . قال : أو ما جئت محمداً ؟ قال : لا .
فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأى فيها النوى، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً .
وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوته عنه، فقال : يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت رجل مشرك نجس . فقال : والله لقد أصابك بعدي شر .(1/68)
ثم خرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : ما أنا بفاعل . ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء فدخل على عليّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين يديهما، فقال : يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد، فقال : ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة، فقال : هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ - قلت: سبحان من أجرى الحق على لسانه، ليجير الحسن بعد سنين طوال بين المسلمين، فكان سيد العرب في الدنيا والآخرة- قالت : والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب فى هلع وانزعاج ويأس وقنوط : يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني، قال : والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك ، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الْحَقْ بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك .، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال : أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق .(1/69)
ولما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد على شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار على بشئ صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك . قال : لا والله ما وجدت غير ذلك .
- المعالم الخفية للحرب الباردة:
وما يزال الكلام لصاحب الرحيق فقال: يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة - قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام - أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال : يا بنية، ما هذا الجهاز ؟ قالت : والله ما أدري . فقال : والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله ؟ قالت : والله لا علم لي، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز : يا رب إني ناشد محمداً . . . الأبيات . فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان، وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال : " اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها " .
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية قوامها ثمانية رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم... ليظن الظان أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته .(1/70)
وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد الغَنَوِي فقال : "انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش "، فانطلقوا تعادى بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنزلوها، وقالوا : معك كتاب ؟ فقالت : ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئاً . فقال لها علي : أحلف بالله، ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد منه قالت : أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش ، يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاطباً، فقال : " ما هذا يا حاطب ؟ " فقال : لا تَعْجَلْ على يا رسول الله ، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال : الله ورسوله أعلم .(1/71)
وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال .[الرحيق].
- "الحرب الباردة" وفتح مكة:
فى الزاد: فأسلم وشَهِدَ شهادةَ الحق – أي أبو سفيان-، فقال العباسُ : يا رسولَ اللهِ، إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال : " نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن ) ".
وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادي عند خَطْمِ الجبل حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال : يا عباسُ؛ مَنْ هذه ؟ فأقول : سُليم، قال : فيقول : مالى ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول : يا عباسُ، مَنْ هؤلاء ؟ فأقول : مُزَيْنَة، فيقول : مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال : مالي ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال : سبحان اللهِ يا عباس، مَن هؤلاء ؟ قال : قلتُ : هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال : واللهِ يا أبا الفضل، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال : قلتُ : يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال : فنعم إذاً، قال : قلتُ : النَّجاء إلى قومك .
وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة، فلما مرَّ بأبي سفيان، قال له : اليَوْم يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً .(1/72)
فلما حاذى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان، قال : يا رسول الله؛ ألم تسمعْ ما قال سعد ؟ قال : " وما قال " ؟ ، فقال : كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف : يا رسولَ الله؛ ما نأمن أن يكون له في قُريش صَوْلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيه الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً "، ثم أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرُجْ عن سعد إذ صار إلى ابنه، قال أبو عمر : ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزع منه الراية، دَفَعَها إلى الزبير .
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته: يا معشر قُريش؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت : اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال : ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا : قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك ؟ قال : ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد.
- المناوشات:(1/73)
وسار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل مكة من أعلاها، وضُرِبَت له هنالك قُبَّة، وأمر رسول - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بنَ الوليد أن يدخلها من أسفلها، وكان على المُجَنِّبَةِ اليُمنى، وفيها أسلم، وسُليم، وغِفار، ومُزَيْنَة، وجُهينة، وقبائل مِن قبائل العرب، وكان أبو عُبيدة على الرجالة والحُسًَّرِ، وهم الذين لا سلاح معهم، وقال لخالد ومَن معه : " إن عرضَ لكم أحد من قُريش، فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصَّفا "، فما عرض لهم أحد إلا أنامُوه، وتجمَّع سفهاء قريش وأخِفَّاؤُها مع عِكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أُميَّة، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَةِ لِيقاتِلُوا المسلمين، وكان حِمَاسُ بنُ قيس بن خالد أخو بنى بكر يُعِدُّ سلاحاً قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت له امرأتُه : لماذا تُعِدُّ ما أرى ؟ قال : لِمحمد وأصحابه، قالت : واللهِ ما يقومُ لِمحمد وأصحابه شيء، قال : إني واللهِ لأرجو أنْ أُخْدِمَك بعضهم، ثم قال :
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لي عِلَّه
هذا سِلاَحٌ كَاملٌ وألَّه
وذُو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّله
ثم شهد الخَنْدَمَةَ مع صفوان وعِكرمة وسهيل بن عمرو، فلما لَقِيَهُم المسلمون ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كُرز بن جابر الفهرى، وخُنَيْس بن خالد ابن ربيعة من المسلمين، وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذَّا عنه، فسلكا طريقاً غيرَ طريقه، فقُتِلا جميعاً، وأُصيبَ من المشركين نحو اثني عشر رجلاً، ثم انهزموا، وانهزم حِماس صاحبُ السلاح حتى دخل بيته، فقال لامرأته : أغلقي علىَّ بابي، فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
إنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمه
إذْ فَرَّ صَفْوانُ وَفَرَّ عِكْرِمَه
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيوف المُسْلِمَه
يَقْطَعْنَ كَلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَه
ضَرْباً فلا نَسْمَعُ إلاَّ غَمْغَمَه
لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَه(1/74)
لَمْ تَنْطِقِى في اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَه
وقال أبو هريرة : أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدخل مكة، فبعث الزبيرَ على إحدى المجنبتين، وبعث خالدَ بن الوليد على المجنبةِ الأُخرى، وبعث أبا عُبيدة بن الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادي ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته، قال : وقد وبَّشت قريش أوباشاً لها، فقالوا : نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لِقريش شيء كنا معهم، وإن أُصيبُوا أعطينا الذي سُئِلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا هريرة " ، فقلتُ : لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعدَيك، فقال : "اهْتِفْ لي بالأنصارِ، ولا يأتيني إلاَّ أنْصارى "، فهتف بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : "أَتَروْنَ إلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِم ؟ " ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأُخرى : "احْصُدُوهُم حَصْداً حتَّى تُوافُونِى بالصَّفَا " ، فانطلقنا، فما يشاءُ أحد منا أن يقتُلَ منهم إلا شاء، وما أحد منهم وجَّه إلينا شيئاً .
الحرب التأديبية
فإنه مما لابد منه فهم حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهماً يُعمق الإيمان بالله ناصراً ومعينا، ويُرسخ مفهوم الانتماء لهذا الدين العظيم واليقين الجازم بعقيدة الولاء والبراء، وما يتبعها من مفاصلة لأهل الكفر وتميز في الفهم والسلوك، لذلك جاء الإسلام متميزا في أطروحاته وتوجهاته ومبادئه وأفكاره.
لكل فكرة خصوم ولكل صاحب فكرة أعداء، وقد تُسول النفس لبعض ذوي النفوس المريضة التجرؤ على الآخرين، نعم قد يحصل لهم ذلك، ولكن.
ليس كل من يُضام يخنع، وليس كل من يُداس على عرضه يسكت، وليس كل من يُهان يرضى، خصوصاً إذا كان الطرف المستهدَف هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغير الناس على دينه وأصحابه.(1/75)
في القاموس المحيط: أدَّبَهُ: عَلَّمَهُ فَتَأََدَّبَ واسْتَأْدَبَ، وفي المعجم الوسيط:التأديب: التهذيب والمجازاة ومجلس التأْديب: شبه محكمة، يُراد منه المحافظة على المصلحة العامة.
فلتقم المحكمة –وقاضيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - التي يُعلم فيها ويُؤدب من خاض استباحة في المصلحة العامة: نهباً أو سطواً أو قتلاً أو للعهد نقضاً.
-الإغارة على حمى المدينة:
أغار "كُرزَ بن جابر الفِهري" على سرح المدينة فاستاقه وكان يرعى بالحمى، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بعض المسلمين على رأس ثلاثة عشر شهراَ من الهجرة، فوصل إلى ناحية بدر ولكنه لم يدركه، فرجع، وتُسمى هذه المطاردة "غزوة بدر الأولي".[ابن هشام وابن سعد والزاد].
- نقض العهد:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وادع يهود المدينة حين مقدمه على أن لا يعينوا عليه أحدا وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدر منتصراً أظهروا له الحسد والبغي وقالوا: لم يلق محمد من يحسن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالا لا يشبهه قتال أحد، وأظهروا نقض العهد فأجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ديارهم.[الزاد].
- التحريض على المسلمين وسبهم والخوض في أعراضهم والدعوة لحربهم:(1/76)
عند ابن هشام: "لما أصيب أصحاب بدر... قال كعب بن الأشرف: وكان رجلا من طئ وكانت أمه من بني النضير: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن القيم: "كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في جملة من وادعه من يهود المدينة ... فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه، وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله"، وقد كان في حصن له حين تم قتله وواضح سبب القتل لنقضه العهد وإعلانه الحرب.
-التحالف مع العدو:
حين خرجت قريش إلى أُحد، جاءت ومعها أحابيشها وهم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة، فكان لابد من تأديبهم، في غزوة بني المصطلق سنة خمس للهجرة.
بعد خيبر وضمان عدم نصرة قريش لأحلافها خرجت سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى بني فزارة وكانت من القبائل التي شاركت في غزوة الخندق مع الأحزاب ضد المدينة، ففي مسلم عن سلمة بن الأكوع : "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر".
وبعد خيبر أيضاً سار "بشير بن سعد" بسريته إلى "بني مرة" بفدك وكانت من القبائل التي شاركت في غزوة الخندق مع الأحزاب ضد المدينة.
- الدخول في حلف الكفار:
في الأحزاب ألَّب حيي بن أخطب سيد بني النضير، كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة على حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والانضمام إلى الأحزاب في حربهم على دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنقض بذلك كعب العهد وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين من العقد، ودخل مع المشركين في العداء والحرابة ضد المسلمين، فكان التأديب في غزوة بني قريظة.
- محاولة التجسس على المسلمين:(1/77)
قال ابن إسحاق : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية : فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، فقالت لحسان: إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانزل إليه فاقتله ، ثم قتلته رضي الله عنها بعمود.
وبمجموع ما فعلته قريظة من نقضها للعهد، ثم محاولتها التجسس على عورة المسلمين، كانت العقوبة التي تناسب الغدر بتحرك الجيش الإسلامي وفرض الحصار إلى أن نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - الذي حكم بحكم الله من فوق سبع سماوات وهو: قتل الرجال وسبي الذرية وتقسيم الأموال.
"وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام، وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته فقتلت لأجل ذلك".[الرحيق المختوم].
-السيئة تعم:(1/78)
قال الشافعي في الأم: "وهكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببني قريظة عقد عليهم صاحبهم الصلح بالمهادنة فنقض ولم يفارقوه فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل مقاتلتهم... وليس كلهم اشترك في المعونة علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولكن كلهم لزم حصنه فلم يفارق الغادرين منهم إلا نفر فحقن ذلك دماءهم... وفي الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي: "وإن نقض بعضهم دون بعض، فسكت باقيهم عن الناقض، ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الإمام ولا تبرؤ فالكل ناقضون... فإن أنكر من لم ينقض على الباقين بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل الإمام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد، لم ينتقض في حقه ويأمره الإمام بالتمييز... فإن امتنع من التميز أو إسلام الناقض صار ناقضاً.
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم وخرج تلك الليلة عمرو، وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه محمد بن مسلمة فخلي سبيله حين عرفه.[الرحيق المختوم].
- قتل الرسل:
غزوة مؤتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة وسببها كما ذكره ابن القيم: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي... بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بصرى فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطاً ثم قدمه فضرب عنقه، فاشتد ذلك على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه الخبر فبعث البعوث."
- إعانة العدو على حرب المسلمين، أو من كان في حلفهم:(1/79)
كان من حديث الحديبية أن من شاء أن يدخل في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم - فعل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش فعل، فدخلت خزاعة في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان بين القبيلتين ثارات جاهلية وضعها صلح الحديبية، ثم وجدت بنو بكر فرصة لتأخذ بثأرها، ودخلت خزاعة الحرم، وأعان زعماء قريش كصفوان بني بكر وبذلك يكون العهد قد انتقض فاستنصرت خزاعة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما قصر، وكان هذا إيذاناً بفتح مكة.
- قتل أحد الولاة:
عند ابن هشام: قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي... إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله "مَعَان" وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم... فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء يقال له "عفراء" بفلسطين قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني سِلم لربي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء - رضي الله عنه -، وجاء عند ابن هشام: "وقتلوا بعض من أسلم ممن دخل في الإسلام في تلك النواحي"، فكان حقاً أن يؤدب من فعل ذلك ومن هنا بدأت جبهة الروم بالفتح فهي من أعلنت الحرب لذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته أسامة بن زيد - رضي الله عنه - بجيشه توجهاً للشام لحرب الروم ومن يواليهم من العرب،جاء في الزاد: "فكان أن بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسير لقتالهم".
- رموز الحرب:
من ذلك تأديب رؤوس الكفر والتي كان من أعمالها:
- تجميع الجموع لحرب المسلمين:(1/80)
قال ابن سعد : لما قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق أمَّرت يهود عليهم أسير بن زارم فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر سراً لتيقن الخبر، فلما صح النبأ انتدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانتدب له ثلاثون رجلاً فبعث عليهم عبد الله بن رواحه فقدموا على أسير فقالوا : نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له قال : نعم ولي منكم مثل ذلك فقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك فخرج وخرج معه ثلاثون من يهود مع كل رجل رديف من المسلمين حتى إذا كنا بقرقرة "ثبار" ندم أسير، فقال: عبد الله بن أنيس وكان في السرية : وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري وقلت : غدرًا أي عدو الله أفعل ذلك مرتين فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه وسقط عن بعيره وبيده مخرش من شوحط فضربني فشجني مأمومة وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدًا ولم يصب من المسلمين أحد ثم أقبلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدثناه الحديث فقال : " قد نجاكم الله من القوم الظالمين " .
- محاولة اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
ذكر الشافعي في الأم بلا سند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عندما قتل عاصم بن ثابت وخبيب وزيد بن الدثنة، بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه"(1/81)
قال ابن سعد: وكان سبب ذلك أن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا رجل يغتال محمدًا فإنه يمشي في الأسواق فقال له رجل من العرب : إن قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر فأعطاه بعيرًا ونفقة، وأقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد في مسجد بني عبد الأشهل فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن هذا ليريد غدراً " فذهب ليجني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجذبه أسيد بن خضير بداخلة إزاره فإذا بالخنجر فسقط في يديه وقال : دمي دمي فأخذ أسيد بلبته فدعته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أصدقني " فأخبره الخبر وأسلم فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم إلى أبي سفيان وقال : إن أصبتما منه غرة فاقتلاه فدخلا مكة فمضى عمرو يطوف بمكة ليلاً فرآه معاوية فعرفه فأخبر قريشًا بمكانه فطلبوه وكان فاتكًا في الجاهلية - فهرب هو وسلمة فلقي عمرواً بن عبيد الله بن مالك فقتله وقتل آخر من بني الديل سمعه يقول :
ولست بمسلم ما دمت حيًا ولست أدين دين المسلمينا
ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر فقتل أحدهما وأسر الآخر فقدم به المدينة وجعل يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك .
وذكر ابن إسحاق سبباً آخر فيما رواه عن عمرو بن أمية قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قتل خبيب وأصحابه وبعث معى رجلاً من الأنصار فقال : ائتيا أبا سفيان فاقتلاه فخرجنا وليس مع صاحبي بعير فلما وصلنا عقلت بعيري وقلت لصاحبي إني أريد أن أقتل أبا سفيان فإن أصبت شيئًا فالحق ببعيري فاركبه والحق بالمدينة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/82)
وأرادت بنو النضير قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكانت العقوبة إجلاءها عن الديار، ثم تكالبت أخرى وألبت قريش على حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكانت عقوبتهم يوم بدر.[ابن هشام].
- تأليب الناس على حرب الإسلام:
كانت أم قرفة فاطمة بنت ربيعة الفزارية، لها ثلاثة عشر من الولد, وكل أولادها كانوا من الرؤساء في قومهم، لذلك كانت من أعز العرب, وفيها يضرب المثل في العزة والمنعة فيقال: أعز من أم قرفة، وكانت إذا تشاجرت غطفان بعثت خمارها على رمح فينصب بينهم فيصطلحون... كانت تؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل زيد بن حارثة في سرية فقتلها قتلا عنيفا, فقد ربط برجليها حبلاً, ثم ربطه بين بعيرين حتى شقها شقاً، وكانت عجوزاً كبيرة, وحمل رأسها إلى المدينة.(1/83)
جاء حديثها في الطبقات لابن سعد: سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة... قالوا: خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم ثم استبل زيد وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فكمنوا النهار وساروا الليل ونذرت بهم بنو بدر ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا بالحاضر وأخذوا أم قرفة وهي فاطمة بنت ربيعة وابنتها جارية بنت مالك، فكان الذي أخذ الجارية مسلمة بن الأكوع فوهبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوهبها رسول الله بعد ذلك لحزن بن أبي وهب، وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة وهي عجوز كبيرة فقتلها قتلاً عنيفاً، ربط بين رجليها حبلاً ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما، فذهبا فقطعاها، وقتل النعمان وعبيد الله ابني مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه عرياناً يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله وسايله فأخبره بما ظفره الله به.
- من قتل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:
في المنتظم: وكانوا بناحية عسفان في ربيع الأول سنة ست وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدًا شديدًا - وكانوا قتلوا في غزاة الرجيع – فأظهر أنه يريد الشام... ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران... حيث كان مصاب أصحابه فترحم عليهم ودعا لهم، فسمعت بهم بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال فلم يقدروا منهم على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر في عشرة فوارس، لتسمع به قريش فيذعرهم فأتوا الغميم ثم رجعوا ولم يلقوا أحدًا ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وغاب أربع عشرة ليلة، وقال في رجوعه : آيبون تائبون لربنا حامدون فكان أول من قالها .(1/84)
وأرادت زينب بنت الحارث اليهودية قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوضع السم في الذراع، فقُتل بشر بن البراء حين أكل، فقتلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.[أبو داود].
- الإغارة على الحمي:
في المنتظم والطبقات: كانت لقاح رسول - صلى الله عليه وسلم - - وهي عشرون لقحة - ترعى بالغابة وكان أبو ذر فيها، فأغارعليها عيينة بن حصن في أربعين فارسًا فاستاقوها وقتلوا راعيها، وجاء الصريخ فنادى : الفزع الفزع، فنودي : يا خيل الله اركبي، فكان أول ما نودي بها وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعاً فوقف، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه، فعقد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواء في رمحه وقال : " امض حتى تلحقك الخيول إنا على أثرك " ، واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة .
قال المقداد : فخرجت فأدركت أخريات العدو وقد قتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسه وسلاحه، وقتل عكاشة بن محصن أثار بن عمرو بن أثار وقتل المقداد بن عمرو : حبيب بن عيينة بن حصن وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة .
وأدرك سلمة بن الأكوع القوم وهو على رجليه فجعل يراميهم بالنبل ويقول : خذها وأنا ابن الأكوع اليوم يوم الرضع، حتى انتهى بهم إلى ذي قرد ناحية خيبر مما يلي المستناخ، قال سلمة: فلحقنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس والخيول عشاء، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بأيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ملكت فأسجح" ثم قال : " إنهم الآن ليقرون في غطفان " .(1/85)
وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي قرد فاستنقذوا عشر لقائح وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي قرد صلاة الخوف وأقام به يومًا وليلة يتحسس الخبر.
- مهاجمة "جيش الإسلام":
قال ابن القيم في الزاد: انصرف رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن خَيْبَر إلى وادي القُرَى، وكان بها جماعةٌ من اليهود، وقد انضاف إليهم جماعةٌ من العرب، فلما نزلوا استقبلهم يهود بالرمي، وهم على غير تعبئة ... فعبَّأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لِلقتال، وصفَّهم... ثم دعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا، أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءَهم وحسابهم على الله، فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبيرُ بن العوَّام، فقتله، ثم برز آخرُ، فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقتله، حتى قُتِلَ منهم أحد عشرَ رجلاً، كلما قُتِلَ منهم رجلٌ، دعا مَن بقى إلى الإسلامِ، وكانت الصلاة تحضُر ذلك اليومَ، فيُصلِّى بأصحابه، ثم يعودُ فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أَمْسوا، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطَوْا ما بأيديهم، وفتحها عَنوة، وغنمه الله أموالهم، وأصابُوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً.
- من يُغير على الحمى:(1/86)
في الزاد وابن هشام: ولما رجع فَلُّ المشرِكِينَ إلى مكَّةَ موتُورين، محزونين، نَذَرَ أبو سفيان أن لا يَمَسَّ رأسَه ماءٌ حتى يغزوَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج في مائتي راكِبٍ، حتى أتى العُرَيْضَ في طرفِ المدينة، وبات ليلةً واحدة عند سلام بن مِشْكَم اليهودي، فسقاه الخمرَ، وبَطَنَ له مِن خبر الناس، فلما أصبح، قطع أصْواراً مِنَ النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له، ثم كرَّ راجعاً، ونَذِرَ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج في طلبه، فبلغ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ، وفاته أبو سفيان، وطرحَ الكفارُ سويقاً كثيراً مِن أزوادِهم يتخفَّفُونَ به، فأخذها المسلمون، فَسُمِّيِتْ غزوةَ السويق، وكان ذلك بعد بدر بشهرين .
الحرب التأمينية
جاء في المعجم الوسيط: "الأمن" لغة هو الاطمئنان وعدم الخوف، والبلد الآمن هو المطمئن فيه أهله، ومن هنا فالمقصود بالحرب التأمينية هي الوصول بأهل المدينة إلى حالة الطمأنينة وعدم الخوف، سواء من التمزقات الداخلية والانشقاقات الطائفية أو التحالفات والعداوات الخارجية والتي تستهدف أمن البلد بغزو أو إغارة أو ما شابه.
- تأمين الظهر من جهة مكة في فتح خيبر:
جاء في شرح السير الكبير للسرخسي أن خيبر كانت ضمن حلف قريش الحربي ضد دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال الشافعي في الأم: "كانت خيبر وسط مشركين، وكانت يهود أهلها مُحالفين للمشركين".
في الأحزاب تحالفت قوى الشر وأجنحة المكر على حرب دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن أول من جمَّع الجموع وحزَّب الأحزاب، هم يهود خيبر حين سار أكابرهم وألبوا قريش على الحرب، ومن ثَمَّ ساروا إلى غطفان لنفس الهدف.
ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينسى هذا الموقف، فمن ثَم تَخير الزمان المناسب لمعاقبتهم في وقت جد دقيق يدل على حنكة وخبرة ودراية، يعجز أهل الأرض عن استيعاب نصيفها، فما البال بكلها؟(1/87)
بوصف الحال والموقع تكون المدينة في الوسط تقريباً بين مكة وخيبر، ولم يكن من الصواب الالتفات لحرب خيبر، وترك الظهر مكشوفاً من جهة قريش، خصوصاً وحالة العداء ما تزال قائمة، فلما وقّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية مع المشركين، والذي كان فيه وضع الحرب لعشر سنين، لم يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - إلي المدينة بل ساروا صوب خيبر، وهم يأمنون جانب قريش، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلوا على حكمه، ولم تستطع قريش لحليفتها نصراً أو مؤازرة بل تركتها تواجه مصيرها، وبئس المصير.
في شرح السير الكبير للسرخسي: "إن أهل مكة شرطوا عليه أن يرد عليهم كل من أتى مسلماً منهم، ووفى لهم بهذا الشرط إلى أن انتسخ لأنه كان فيه نظر للمسلمين لما كان بين أهل مكة وأهل خيبر من المواطأة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توجه إلى أحد الفريقين أغار الفريق الآخر على المدينة فوادع أهل مكة حتى يأمن جانبهم إذا توجه إلى خيبر..."، وهذا يدل على الاستهداف النبوي لقطع طرق الإمداد لأحدهما حين يتفرغ لمحاربة الأخرى.
ولا ينسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن غطفان هي حليفٌ لخيبر أيضاً، فكان من حنكته - صلى الله عليه وسلم - قطع إمدادها لخيبر، فقد جاء عند ابن هشام:" فنزل – أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – بينهم – أي أهل خيبر – وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".(1/88)
وهناك من يمكنه أن يمد خيبر أيضاً ، ولا يغيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموقف والحال، جاء في زاد المعاد: "خرج علي - رضي الله عنه - في مائة رجل إلى "فدك" إلي حي من بني سعد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا أهل خيبر... فأصاب عينا لهم فأقر له على أنهم بعثوه إلى خيبر فعرضوا عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم ثمر خيبر.
- تأمين طريق القوافل:
في الرحيق المختوم: ولما نزل الإذن بالقتال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي تسلكه قريش من مكة إلى الشام في تجارتهم، واختار لذلك خطتين :
الأولى : عقد معاهدات حلف أو عدم اعتداء مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة، وقد عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة، كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته العسكرية، وسيأتي ذكرها .
الثانية : إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق .
- تأمين طريق سير الجيش بالتحالفات:
أول سرية إسلامية تعرضت لقريش كان على رأسها حمزة بن عبد المطلب على رأس سبعة أشهر من الهجرة، ولكن ما إن استعد الطرفان للقتال حتى توسط "مجدي بن عمرو الجهني" وكان حليفا للفريقين فحجز بينهما، فلم يكن قتال".[ابن هشام وزاد المعاد].
وهذا يدل على أن عقد التحالف كان سابقاً للسرية وهي أول سرية.(1/89)
عند ابن هشام وفى الزاد: أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي غزوة "وَدَّان" ويقال لها "الأبواء" أيضاً على رأس اثني عشر شهراً من الهجرة بهدف التعرض لعير قريش، ولكنها فاتته، ووادع في هذه الغزوة "مَخشي بن عمرو الضمري" سيد بني ضمرة وجاء في كتاب الموادعة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وان لهم النصر على من رامهم، إلا أن يحاربوا دين الله ما بلَّ بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله..." وفي الزاد: على ألا يغزو بنى ضَمْرَة، ولا يغزوه، ولا أن يُكثِّروا عليه جمعاً، ولا يُعِينُوا عليه عدواً.
وعند ابن هشام وابن القيم: وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بني مُدلج" وحلفاءَهم من بني "ضمرة" حين خرج على رأس ستة عشر شهراً من هجرته يتعرض لعير قريش في "ذي العُشيرة" بناحية "يَنبُع "- وهي ذاهبة إلى الشام- ولكنها فاتته، وهي العير التي خرج لطلبها في رجوعها، ولكنها فاتته أيضاً للمرة الثانية، وكانت سبب معركة "بدر".
وعند ابن هشام: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دومة الجندل أخذت تتجمع فيها حشود معادية تريد غزو المدينة، فخرج - صلى الله عليه وسلم - إليها في ألف من المسلمين، فعلموا به، فتفرقوا، فأصاب المسلمون بعض الغنائم، ورجعوا إلى المدينة، ووادع فيها عيينة بن حصن الفزاري.
- تأمين النصرة لرجال الإسلام:(1/90)
في الزاد عن جابر - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم ومجنة وعكاظ يقول من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة؟، فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن إلى ذي رحمه، فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله - عز وجل -، وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا حتى متى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فواعدنا بيعة العقبة، قال له عمه العباس: يا ابن أخي، ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث، فقلنا يا رسول الله: علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الفقه في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا نبايعه فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال: رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا(1/91)
وشرط يعطينا بذلك الجنة.
- تأمين المدينة بالحلف مع اليهود ومع من يسكن المدينة:
في الرحيق: بعد أن أرسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قواعد مجتمع جديد وأمة إسلامية جديدة، بإقامة الوحدة العقدية والسياسية والنظامية بين المسلمين، بدأ بتنظيم علاقاته بغير المسلمين، وكان قصده بذلك توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء، مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد، فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في ذلك العالم الملئ بالتعصب والأغراض الفردية والعرقية .
وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود، وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة قرر لهم فيها النصح والخير، وترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال، ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام .
وفيما يلي أهم بنود هذه المعاهدة :
- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود .
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم .
- وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .
- وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم .
- وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه .
- وإن النصر للمظلوم .
- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .
- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله - عز وجل -، وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها .
- وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب ... على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .
- وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .(1/92)
وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية، عاصمتها المدينة، ورئيسها - إن صح هذا التعبير - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين .
ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة، حسب ما اقتضته الظروف، وسيأتي ذكر شيء عنها .
-تأمين الأخوة بين المهاجرين والأنصار:
في الرحيق: ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بجانب قيامه ببناء المسجد : مركز التجمع والتآلف، قام بعمل آخر من أروع ما يؤثره التاريخ، وهو عمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن القيم : ثم آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوى الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله - عز وجل - : "وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ" [ الأنفال : 75 ] رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة .
وقد قيل : إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية . . . والثبت الأول، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة فيما بينهم، بخلاف المهاجرين مع الأنصار .
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام .
وقد امتزجت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الأخوة، وملأت المجتمع الجديد بأروع الأمثال .(1/93)
أخرج البخاري : أنهم لما قدموا المدينة آخي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، فقال لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالاً، فاقسم مالي نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال : بارك الله لك في أهلك ومالك، وأين سوقكم ؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقِطٍ وسَمْنٍ، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صُفْرَة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَهْيَمْ ؟ " قال : تزوجت ، قال : "كم سقت إليها ؟ " قال : نواة من ذهب .
وروي عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : " لا "، فقالوا : فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة . قالوا : سمعنا وأطعنا .
وهذا يدلنا على ما كان عليه الأنصار من الحفاوة البالغة بإخوانهم المهاجرين، ومن التضحية والإيثار والود والصفاء، وما كان عليه المهاجرون من تقدير هذا الكرم حق قدره، فلم يستغلوه ولم ينالوا منه إلا بقدر ما يقيم أودهم .
وحقًا فقد كانت هذه المؤاخاة حكمةً فذةً، وسياسةً حكيمةً، وحلاً رشيداً لكثير من المشاكل التي كان يواجهها المسلمون .
- ميثاق التحالف الإسلامي:
قال صاحب الرحيق: ميثاق التحالف الإسلامي:
وكما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعقد هذه المؤاخاة بين المؤمنين، قام بعقد معاهدة أزاح بها ما كان بينهم من حزازات في الجاهلية، وما كانوا عليه من نزعات قبلية جائرة، واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة ، وفيما يلي بنودها ملخصاً :
"هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم :
- إنهم أمة واحدة من دون الناس .(1/94)
- المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدُون عَانِيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين .
- وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
- وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين .
- وإن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم .
- ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر .
- ولا ينصر كافرًا على مؤمن .
- وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم .
- وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم .
- وإن سلم المؤمنين واحدة؛ لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال فى سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم .
- وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله .
- وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن .
- وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول .
- وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه .
- وإنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل .
- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله - عز وجل -، وإلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
- تأمين الجزيرة لفتح الروم:
كانت قريش تشكل عمود فقار الكفر، فبها تصول القبائل وبها تجول، وكان للتحول العظيم باتجاه الاعتراف القرشي بالقوة الإسلامية، ثم الرضوخ لقراراتها، ومن ثم التنازل عن حالة العداء ليتحول إلي الموادعة السلمية عشر سنوات، كان لهذا الموقف عظيم الأثر في التفرغ لحرب من يُعلن الحرب علي الدولة الإسلامية.(1/95)
ولكن ما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج لمحاربة العدو البعيد وهو لا يأمن جانب الملاصق بجداره، والله تعالى يقول: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ" [التوبة123].
وكان ذلك إيذاناً لفتح جبهة أخري من جبهات القتال، ألا وهي مقارعة الروم في معركة مؤتة، والتي جاءت بعد موادعة قريش بما يؤدي لتأمين المدينة من جهة قريش، ثم ما تلا ذلك من فتح لخيبر، والأمن من طرف اليهود أن يقوموا بخطة تطويق للمدينة وجيش الإسلام خارجها.
وبذلك يؤمِّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبهتين قبل الإقدام على حرب الروم الجبهة القرشية والجبهة اليهودية، فلم يبق إلا غطفان كقوة عربية في مواجهة قوة الإسلام.
- تأمين الظهر من جهة مكة لفتح الطائف:
كانت رؤوس المكر في الجزيرة ثلاثة غير القبائل العربية، ولكن القوة كانت تتمثل في قريش الرأس وخيبر وغطفان كجناحي صقر يتأهب للانقضاض على المدينة كلما حانت الفرصة، وهم لم يدخروا جهداً في الإغارة على المدينة كما جاء عند ابن هشام وغيره: أغار عيينة بن حصن الفزاري، في خيل من غطفان على لقاحٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللِّقاح.
هذا بخلاف تحالفهم الواضح البين مع قريش واليهود في الأحزاب، يُضاف لهذا نقضهم العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي وقَّعه عيينة في غزوة دومة الجندل، لذلك كان لابد من وضع حد لهذا التيار المنحرف في غطفان.(1/96)
انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقارعة اليهود وحسم القوة في خيبر لصالح المسلمين، ثم كان نقض العهد من قريش فسار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتحها، مع إسباقية محاربة الروم في مؤتة، لم يبق بعد الفتح العظيم إلا الاستدارة لجناح الكفر الثالث، فالقضاء عليه يعني القضاء على آخر معاقل القوة عند الكفار، وهذا ما كان في حنين والطائف بعد فتح مكة مباشرة.
- تأمين المدينة في غزوة الخندق:
لما سارت جيوش الكفر والإلحاد صداً عن دين الله ومحاربة للإسلام، وكان عددها أكبر من أن يخوض معه المسلمون مواجهة عامة - وما يُعجزهم بفضل الله - فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبار أصحابه فكان رأي سلمان - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا ، وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .
وفعلاً كان لهذا الرأي الوقع العظيم على مجريات المعركة، فقد وقف فوارس قريش على الخندق ليعلنوا العجز عن المُضي فيه ليقولوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها .
قال ابن القيم: وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصَّن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم .
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنِّسَاءِ والذرارى، فَجُعِلُوا في آطامِ المدينةِ، واستخلف عليها ابنَ أُمِّ مكتوم .
…………
الحرب التبادلية
"الحرب التبادلية" والتي نعني بها مبادلة كل طرف لحالة العداء للطرف الآخر، وما يتبعه من إعلان حالة الحرب بينهم، وهو ما يؤدي بدوره إلى الحرب الفعلية التي تنتهي بالانتصار أوالهزيمة.(1/97)
ينشأ خطأ عند بعض العاملين في المجال الدعوى ممن ينبري للدفاع عن الإسلام أو مهاجمة الخصوم، وآخرين ممن تبنوا السيرة كمنهج إعادة للخلافة الإسلامية، نقول ينشأ خطأ عندهم بناءً على اعتمادهم لمصدر واحد من المصادر لفهم المسائل، وقد ظهر جلياً خطأ الكثير ممن كتب وأرشد ووجه ونصح بناءً على قراءته الفردية لابن هشام مثلاً كمصدر وحيد من مصادر التأريخ للسيرة وأسبابها ومبرراتها، وهم مع ذلك يقعون في خطأ مركب بتبنيهم وجهة نظر معينة كاعتبار حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - دفاعية فقط لتحسين صورة الإسلام - بحسن ظنهم - ولو أعادوا النظر في غير "سيرة ابن هشام" ممن كتب في السيرة وصنف، ستتفتح عندهم آفاق الفهم ومدارج الإدراك ليستوعبوا منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحروب.
ما سبب خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعير قريش؟ هل كانت استرداداً لبعضٍ مما تركه المسلمون بمكة عند الهجرة ؟
أما لو كان هذا السبب، كما يسوقه أكثر من يتحدث عن غزوة بدر وكأن السبب أصبح من الحقائق والمسلمات، فما عُذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرب أكثر العرب الذين لم يأخذوا منه درهماً ولا اغتصبوا له داراً ؟
ما سبب حرب الأنصار لقريش ألأن رسول الله هاجر إليهم؟
أما لو كان ذلك لكان يعني موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قتله انتهاءً لعهد الحرب بينهم، وما يكون.
وما الذي دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحارب الروم؟
وما الذي دعاه لأن يعتبر فارس في حكم الأعداء؟
إنها "الحرب التبادلية"، كل طرف فيها أعلن الحرب على الآخر سواء سبق هذا الطرف أو ذاك، إنها تعني تربص الدوائر بالآخر والاستعداد لمواجهته وإعلان محاربته ومناصبته العداء.(1/98)
والمقصود: لا داعي للدفاع عن الإسلام بأن الحروب فيه كانت دفاعية فقط، مما يعني أن سبب الإغارة على عير قريش كان من أجل استعادة بعض الحق المسلوب من المهاجرين في مكة، فإن أول سرية وأول لواء عقده الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحمزة - رضي الله عنه - كان لاعتراض عير لقريش بعد سبعة أشهر من الهجرة، ثم على رأس ثمانية أشهر عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواء لأبي عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين فلقي أبا سفيان بنَ حرب، وهو في مائتين على بَطن رابغ، على عشرة أميالٍ من الجُحْفَةِ، وكان بينهم الرمي، ولم يَسُلُّوا السيوف، ولم يصطفوا للقتال، وإنما كانت مناوشة، كما ذكره ابن القيم في الزاد.
وعليه فإن الحال منذ خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مكة بل وقبل الخروج، كان بمثابة إعلان قريش للحرب على دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما يعني مبادلتها هذا الإعلان ثم تحين الفرص لاستقدام الآخر لحرب ينتصر فيها أحدهما فعند أبي داود: "وقد كتبت قريش للمهاجرين: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم".
وهذا يعني إعلان قريش للحرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أهل المدينة، وعند ابن هشام ما يؤكد أن قريشاً هي من بدأت بإعلان حالة الحرب على دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وقد أرسلت للأوس والخزرج: "والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم".(1/99)
وعند أبي داود وضوح في الصورة لحالة الحرب التي افترضتها قريش ودعت الأوس والخزرج لتبنيها، إما أن تسلمونا من هاجر إليكم أو تقاتلوهم أو نقاتلكم جميعاً، وهو خطاب يحمل فيه تهديد مباشر باحتمالات لا تقبل أكثر من المطروح، وفيه زيادة في التهديد عن القتل باستباحة النساء وابادة الخضراء مما يعني حرب استئصال لا رحمة فيها، روى أبو داود: "أن كفار قريش كتبوا إلى "ابن أبي" ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك "عبد الله بن أبي" ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم"، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل-، فلما بلغ كتابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمعت بنو النضير بالغدر.
إذن كان الأمر إمعان في التهديد يصل إلى حد قتل المقاتلة واستباحة النساء، وليس الاكتفاء فقط بقتل وأسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وقد تكرر التهديد ليدل على عزم وحزم من قريش لليهود أيضاً وهم الذين يشملهم حلف حماية المدينة مع الأنصار والمهاجرين، مع العلم أن المدينة لم تدخل في حرب مباشرة أو غير مباشرة مع قريش سلفاً، حتى تصب جام غضبها وبهذه القسوة التهديدية التي تطال الآمنين في بيوتهم من نساء وذرية.(1/100)
إذن ما المتوقع وهذا الأمر قد بان لكل من ملك جنان؟
أيبقى رجال المدينة بأوسهم وخزرجهم بانتظار إغارة قريش عليهم واستباحة بيضتهم، واستئصال شأفتهم، أم هل ينتظرون نقض العهد وخيانة اليهود وتسليم محمد - صلى الله عليه وسلم - للقتل وهم من بايعه على النصرة والمنعة والحماية، وقد قال العباس - رضي الله عنه - في بيعة العقبة الثانية: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا... فهو في عز في قومه، ومنعة في بلاده، وإنه قد أبى إلا الانحياز لكم، واللحاق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه، ممن خالفه فأنتم، وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه.
ثم إن البيعة كان واضحة جلية بالمنعة والنصرة وكان مما بايعهم عليه - صلى الله عليه وسلم -: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، وفهم الصحابة - رضي الله عنهم - الحديث جيداً فقد أخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا - جمع إزار ويكنى به عن المرأة -، فبايعنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن أهل الحروب، وأهل الحَلَقَة - السلاح - ورثناها كابراً عن كابر" [أحمد في المسند بسند حسن].
ومن النص يتضح دلالة تحمل الأمر من بدايته واستعدادهم لمواجهة ما يلحق بهم من حرب أو غيرها نتيجة للبيعة والاتفاق، فلما ظهر من قريش التهديد بالحرب كان بمثابة الإنذار العملي للاستعداد للمواجهة.
وما دام الأمر قد سار بهذه الحالة الحربية المُعلنة من الطرفين، فان كل طرف في حِل من أي عهد سبق بينه وبين الطرف الآخر، بمعنى: كل طرف يستحل ما يصل إليه من الطرف الآخر سواءاً كان مالاً أو سلاحاً أو حتى رجالاً كأسر وما شابه مثل الإغارة والتبييت.(1/101)
وفي البخاري حديث يوضح شيوع أمر العداء بين قريش والمدينة، وتحفظ قريش المبدئي والمؤقت على حرب المدينة أو قتل من تطاله يدها، أخرج البخاري عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انطلق سعد معتمراً، فنزل على أمية بمكة فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك ؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة..."، وفى رواية البيهقي: "والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام".
وهذا العداء ليس وليد اللحظة ولا هو من قبيل الصدفة، بل كان متملكاً لنفوس الطرفين منذ بيعة العقبة الثانية، فبعد المبايعة مباشرة قال العباس بن عبادة - رضي الله عنه -: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل "منى" غداً بأسيافنا، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لم نؤمر بذلك". [ابن هشام ووضعها تحت عنوان: استعجال المبايعين للإذن بالحرب].
أما من جهة قريش فكان الأمر بغاية الوضوح بحيث يستغني عن إقامة الدليل، فقد قالت قريش لوفد الخزرج صبيحة المبايعة: إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا منكم".(1/102)
ولما تيقنت قريش الخبر خرجت في طلب القوم فأسروا سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وأعجزهم المنذر بن عمر وكلاهما كان من "النقباء"، ثم أقبلوا بسعد مشدود الوثاق يضربونه ويلكمونه لكما شديداً وكان من تولى كبرها سهيل بن عمرو إلى أن أجاره جبير بن مطعم والحارث بن حرب" [ابن هشام].
والمقصود أن البيعة كانت في حد ذاتها إعلان لحالة الحرب بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه وبين قريش، ويكفي هذا الأمر لاستباحة كل طرف ما يستطيع تحصيله من غنائم وغيرها.
ثم ما سبب غزوة المريسيع وغزوة دومة الجندل، أكان استرداداً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تركه الصحابة عندهم قبل الهجرة؟
ما كانوا عندهم ليهاجروا ولا تركوا شيئا ليستردوه، وما بينهم وبين الأقوام أمر يستحق الحرب، ولكن حين قامت بنو المصطلق ودومة الجندل بجمع الجموع وتجهيز الجيوش لغزو المدينة، كان يعني إعلان الحرب على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويكفي الموقف لأن يُجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش ويخرج بنفسه الشريفة قائداً لحربهم.
والسؤال من ترك شيئا لله، أيجوز له الرجوع إليه؟
جاء عند ابن هشام: "لما افتتح رسول الله مكة كلمه "أبو أحمد" في دارهم، فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الناس لأبي أحمد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن ترجعوا في شئ من أموالكم أصيب منكم في الله - عز وجل -، ومن ترك شيئا لله لا يجوز الرجوع إليه".
ثم انه لم يصل إلينا بما صح من الحديث أو حتى ضعف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استرد شيئا مما كان يملكه وأهله في مكة قبل الهجرة، ولم يبحث عن دار أو دواب، ومثله الصحابة جميعاً لم يُنقل عن واحد منهم بسند يُحتج به، رواية تثبت أخذهم لبعض مما تركوه قبل الهجرة، وعليه فيُعتبر سنة نبوية وإجماعاً صحابياً على عدم الرجوع في شئ تركه الصحابة لله.(1/103)
ثم إن حرب قيصر وكسري تدور في هذا الفلك وهي "الحرب التبادلية" مع دولة الإسلام، روى ابن هشام عن ابن إسحاق قال: وبعث "فروة بن عمرو" إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان "فروة" عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله"مَعَان" وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم... ثم ضربوا عنقه وصلبوه - رضي الله عنه - ، فكانت الروم تستحق العقوبة والتأديب على فعلها، ومن هنا بدأت جبهة الروم بالفتح، لأنها بدأت بإعلان الحرب، لذلك أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته "أسامة بن زيد" على جيش متوجهاً للشام لحرب الروم ومن يواليهم من العرب.
وأما فارس فإنها بدأت بإعلان الحرب منذ أول يوم بلغها فيه دين محمد - صلى الله عليه وسلم - كرسالة عالمية، وذلك حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاباً إلى كسرى ملك الفرس يدعوه فيه إلي الإسلام، فلما قرأه كسرى خرَّقه، ثم توالى الأمر من قول وتمزيق للرسالة إلى فعل، بأمره لعامله على اليمن بإحضار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، جاء عند البخاري: "أن كسري بعث إلى باذان عامله على اليمن لكي يرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه به، فقال أحد مبعوثي باذان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن طلب إليه الذهاب معه ليمثل أمام كسرى: فان أبيت فهو – أي كسرى – ممَن قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك".(1/104)
إذن حالة العداء المتبادلة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممثلاً عن دولة الإسلام وبين من يعاديه كقريش أو الروم والفرس، كانت تعني استباحة ما تصل إليه اليد من الطرف الآخر، وهو يعني جواز استباق العدو بحركة أو غزوة أو إغارة، ويكفي العداء المبدئي سبباً للحرب، ولا يتوقف القائد الإسلامي عند حد الأخذ بالفعل، والمعاقبة تتبع الفعل والجزاء على قدر العمل، بل عليه أن يستبق عدوه بحركة ولا يركن لعهد مؤقت أو أمان مُعجل، فالعدو يتربص الدوائر ويتحين الفرص للحرب، فإن بقي المسلم في دَعة حتى يأتيه عدوه فإنها والله مذلة الدهر، والمؤمن لا يُؤخذ على حين غَرة، فما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الخندق: "اليوم نغزوهم ولا يغزونا".
والمقصود يكفي أن "الآخر" قد ناصب الإسلام ودولته العداء ليستجيز المسلم ما تطاله يده من غنائم وأموال، أفرزتها حالة الحرب المُعلنة بين الطرفين، وسواء أطال أمد اللاحرب أم قصر فالمواجهة قادمة لا محالة والمؤمن كيس فطن، لا يدع عدوه يقوى ويشتد عوده ثم يُحاول كسره، بل ينسفه نسفاً بمجرد تفكيره بالجمع والحرب.
قال تعالي: "أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" [التوبة13].
- "الحرب المتبادلة" مع النصارى:(1/105)
في الرحيق المختوم حول معركة مؤتة: وهذه المعركة أكبر لقاء مثخن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى ... وسبب هذه المعركة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
الحرب التدميرية
جاء في لسان العرب: الدمار هو الإهلاك، وفي المحيط والوسيط: دمر: أباد.
"الحرب التدميرية" هي حرب إبادة وإهلاك لكل ما يصلح للإبادة، من مباني ومساكن وبشر ونبات وحيوان... في سبيل التوصل إلى نشر الإسلام وقطع دابر الكافرين أو رد عدوان على مسلمين، أو معاقبةً بالمثل.
والخوض في هذا النوع من الحرب مرتبط بمسائل لابد من تجلية حكم الشرع فيها وليس من منهج الحديث طرح الأقوال الفقهية لما فيها من توسيع لمفهوم الخلاف، ولكن استعراض هذا الكم من أقوال الفقهاء يجعل لهذه الحرب أصل شرعي يستند إليه من يسير على درب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حروبه وهذه المسائل هي:
- حكم تبييت الأعداء وفيهم النساء والشيوخ والأطفال:
في الصحيحين عن الصعب بن جثامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن أهل الديار من المشركين يبيّتون فيُصاب من نسائهم وذرياتهم، قال: "هم منهم".(1/106)
قال ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث التبييت: قوله: "هم منهم" أي في حكم تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطء الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم.
قال الصنعاني في سبل السلام: ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إلى جواز قتل النساء والصبيان في البيات عملاً برواية الصحيحين، وقوله "هم منهم" أي في إباحة القتل تبعاً لا قصداً إذا لم يمكن انفصالهم عمن يستحق القتل.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون في نعمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرية".
وروى أحمد - بإسناد على شرط مسلم وصححه ابن حبان والحاكم- وأبو داود من حديث سلمة بن الأكوع قال: "أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا أبا بكر - رضي الله عنه - فغزونا ناساً من المشركين فبيتناهم نقتلهم، وكان شعارنا تلك الليلة: أمت، أمت، قال سلمة: فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أهل أبيات من المشركين ".
وقال ابن قدامة في المغني: "ويجوز قتل النساء والصبيان في البيات [الهجوم ليلاً] وفي المطمورة إذا لم يتعمد قتلهم منفردين، ويجوز قتل بهائمهم ليتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وليس في هذا خلاف".
وقال: ويجوز تبييت العدو، قال أحمد بن حنبل: لا بأس بالبيات، وهل غزو الروم إلا البيات، قال: ولا نعلم أحداً كره البيات.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: لم يختلف العلماء فيمن قاتل من النساء والشيوخ أنه مباح قتله، ومن قدر على القتال من الصبيان وقاتل قُتل.
وقال في التمهيد: "وأجمعوا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل دريد بن الصمة يوم حنين لأنه كان ذا رأي ومكيدة في الحرب، فمن كان هكذا من الشيوخ قُتل عند الجميع".
ونقل النووي في شرح مسلم الإجماع على أن شيوخ الكفار إن كان فيهم رأي قتلوا.(1/107)
وقال ابن قاسم في الحاشية على الروض: وأجمعوا على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد، ونقل عن ابن تيمية هذا الإجماع، ونقل عن ابن تيمية أيضاً أن أعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم.
وقال ابن حزم في المحلى في معرض حديثه عن قتل كل من أنبت في قريظة، قال ابن حزم: وهذا عموم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يستبق منهم عسيفاً ولا تاجراً ولا فلاحاً ولا شيخاً كبيراً وهذا إجماع صحيح منه.
وقال ابن قاسم في الحاشية: ويجوز رمي الكفار بالمنجنيق ولو قتل بلا قصد صبياناً ونساءً وشيوخاً ورهباناً لجواز النكاية بالإجماع، قال ابن رشد: النكاية جائزة بطريق الإجماع بجميع أنواع المشركين.
وقال ابن قدامة في المغني: ويجوز نصب المنجنيق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على أهل الطائف، وعمرو بن العاص نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية.
ومع ثبوت نصوص النهي عن قتل النساء والصبيان، فالعلة هي القتال والمقاتلة عند طائفة من العلماء، فإذا قاتل مثل هؤلاء قُتلوا، لا خلاف في ذلك عند أكثر أهل العلم، هذا في حال الإفراد أما في حالة التبييت وعدم التمييز فلا بأس به سواءاً كانوا مقاتلة أو غير ذلك، وقد بوّب البيهقي في السنن الكبرى على حديث الصعب بقوله: (باب قتل النساء والصبيان في التبييت والغارة من غير قصد وما ورد في إباحة التبييت)، ثم ذكر تحته عدة روايات تفيد جواز تبييت العدو كحديث خيبر وقتل ابن أبي حقيق وكعب بن الأشرف وكلها في الصحيح.
قال الشافعي في الأم والرسالة: ومعنى نهيه عندنا - والله أعلم - عن قتل النساء والولدان أن يقصد قصدهم بقتل وهم يعرفون مميزين ممن أمر بقتله منهم، قال: ومعنى قوله"هم منهم " أنهم يجمعون خصلتين: أن ليس لهم حكم الإيمان الذي يمنع الدم، ولا حكم دار الإيمان الذي يمنع الغارة على الدار.(1/108)
وقد نقل الطحاوي في شرح معاني الآثار بعضاً من أحاديث النهي عن قتل النساء والصبيان ثم ذكر حديث الصعب بن جثامة في التبييت ثم قال: فلما لم ينههم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغارة وقد كانوا يصيبون فيها الولدان والنساء الذين يحرم القصد إلى قتلهم، دل ذلك أن ما أباح في هذه الآثار لمعنى غير المعنى الذي من أجله حظر ما حظر في الآثار الأول، وأن ما حظر في الآثار الأول هو القصد إلى قتل النساء والولدان، والذي أباح هو القصد إلى المشركين وإن كان في ذلك تلف غيرهم ممن لا يحل القصد إلى تلفه حتى تصح هذه الآثار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتضاد، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغارة على العدو، وأغار على الآخرين في آثار عدد، قد ذكرناها في باب الدعاء قبل القتال، ولم يمنعه من ذلك ما يحيط به علمنا أنه قد كان يعلم أنه لا يؤمن من تلف الولدان والنساء في ذلك، ولكنه أباح ذلك لهم، لأن قصدهم كان إلى غير تلفهم، فهذا يوافق المعنى الذي ذكرت مما في حديث الصعب ... فكذلك العدو قد جعل لنا قتالهم، وحرم علينا قتل نسائهم وولدانهم، فحرام علينا القصد إلى ما نُهينا عنه من ذلك، وحلال لنا القصد إلى ما أبيح لنا وإن كان فيه تلف ما قد حرم علينا من غيرهم، ولا ضمان علينا.
- جواز قتل النساء والشيوخ والأطفال تبعاً:
ويجوز معاملة الكفار بالمثل على اختلاف بين العلماء، قال تعالى: "وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ"[النحل: 126]، قال القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدة قتل بها، ومن قتل بحجر قتل به..."، وقال الطبري: يقول تعالى ذِكْره لِلْمُؤْمِنِينَ: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ " أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم " فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ " الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة.(1/109)
وقال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا " [الشوري 40،39]
- حكم التحريق:
قال الترمذي في السنن: باب في التحريق والتخريب: النكاية بالعدو مقصد شرعي لذا قال الشافعي: لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطع الأشجار والثمار، وقال أحمد: قد تكون في مواضع لا يجدون منه بداً، فأما العبث فلا تحرق، وقال إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى فيهم.
وقال ابن عابدين في الحاشية: المنجنيق هي آلة تُرمى بها الحجارة الكبار، قلت – القائل ابن عابدين-: وقد تركت اليوم للاستغناء عنها بالمدافع الحادثة... كرصاص وقد استغني به عن النبل في زماننا.
وقال الصنعاني: يجوز قتل الكفار إذا تحصنوا بالمنجنيق ويُقاس عليه غيره من المدافع وغيرها.
وفي المنهاج وشرحه للنووي: يجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع، وإرسال الماء عليهم، ورميهم بنار ومنجنيق وتبييتهم في غفلة، قال النووي: وما في معنى هذا من هدم بيوتهم وقطع الماء عنهم وإلقاء حيات أو عقارب عليهم ولو كان فيهم نساء وصبيان لقوله تعالى: "وخذوهم واحصروهم" [التوبة5]، وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف، وروى البيهقي أنه نصب عليهم المنجنيق وقيس به ما في معناه مما يعم الإهلاك به، ثم قال: وظاهر كلامهم أنه يجوز إتلافهم بما ذكر وان قدرنا عليهم بدونه.(1/110)
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين فأحرقوهما بالنار، ثم قال حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما"، وفي رواية عند البخاري فان أخذتموهما فاقتلوهما، فتُحمل رواية: "وجدتموهما"على رواية: "أخذتموهما" ليتفق المعني: أن لا تحرقوهما بعد أخذهما، وعليه فالنهي يرد ما بعد الأسر أما قبله فلا يشمله الحديث، توضحه رواية سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح والتي ذكرها ابن حجر تبييناً لرواية البخاري قال: " أن هبار بن الأسود أصاب زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء وهي في خدرها فأسقطت، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فقال : إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار"، أي إن وجدتموه وأخذتموه فاحرقوه، ثم نهاهم عن حرقه، أما النهي قبل أخذه فلم يتعرض له الحديث، وان كان هناك منع فيؤخذ من غيره.
قال ابن حجر: واختلف السلف في التحريق: قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، وعن عبد الله بن قيس الفزاري أنه كان على الناس في البحر على عهد معاوية وكان يرمي العدو بالنار ويرمونه ويحرقهم ويحرقونه, وقال: لم يزل أمر المسلمين على ذلك، قال ابن حجر: وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه أي أنه يجوز على العموم دون قصد المعينين.
في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع "، وفي ذلك نزل قوله تعالى: "مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ" [الحشر5].(1/111)
والحديث عمدة عند علماء الحديث فقد بوب له البخاري: باب حرق الدور والنخيل، وأبو داود: باب في الحرق في بلاد العدو، والترمذي: باب في التحريق والتخريب، وابن ماجه: باب التحريق بأرض العدو، والبيهقي: باب قطع الشجر وحرق المنازل.
قال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث: وهذا حديث حسن صحيح، وقد ذهب قوم من أهل العلم إلى هذا، ولم يروا بأساً بقطع الأشجار وتخريب الحصون، وكره بعضهم ذلك وهو قول الأوزاعي.
قال الأوزاعي: ونهى أبو بكر الصديق يزيد أن يقطع شجراً مثمراً أو يخرب عامراً، وعمل بذلك المسلمون بعده، وخالف الشافعي الأوزاعي فقال: أما الظن به – يعني أبا بكر - رضي الله عنه -– فإنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر فتح الشام، فكان على يقين منه، فأمر بترك تخريب العامر وقطع المثمر ليكون للمسلمين، لا لأنه رآه محرما؛ لأنه قد حضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريقه بالنضير وخيبر والطائف، فلعلهم أنزلوه على غير ما أنزله عليه، والحجة فيما أنزل الله - عز وجل - في صنيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال ابن حجر في الفتح: وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئا من ذلك، وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل بالتغريق، وقال غيره: إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح فأراد إبقاءها على المسلمين، والله أعلم.(1/112)
وقال العيني في عمدة القاري: حديث ابن عمر دال على أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم، وتوهين كيدهم، وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم، من قطع ثمارهم، وتغوير مياههم، والتضييق عليهم بالحصار، وممن أجاز ذلك الكوفيون ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وابن القاسم، وقال الكوفيون: يحرق شجرهم، وتخرب بلادهم، وتذبح الأنعام وتعرقب إذا لم يمكن إخراجها.
وهذا الحديث ظاهر في الدلالة على جواز تحريق بلاد العدو إذا اقتضى القتال ذلك.
- ضرب العدو بالمنجنيق:
وهاهنا أحاديث يعضد بعضها بعضاً:
روى الترمذي وأبو داود في المراسيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب على أهل الطائف المنجنيق. ووصله البيهقي وفيه نظر، وبوب عليه المجد بن تيمية في منتقى الأخبار: باب جواز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وإن أدى إلى قتل ذراريهم تبعا.
وروى البيهقي وغيره أن عمرواً بن العاص - رضي الله عنه - نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية.
وروى البيهقي عن يزيد بن أبي حبيب - في فتح قيسارية - قال: فكانوا يرمونها في كل يوم بستين منجنيقا، وذلك في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وهذا مما ألفه المسلمون في حروبهم فروى سعيد بن منصور عن صفوان بن عمرو: أن جنادة بن أبى أمية الأزدي وعبد الله بن قيس الفزاري، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم – وكانوا على عهد معاوية - رضي الله عنه - – كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار، ويحرقونهم، هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء، قال: لم يزل أمر المسلمين على ذلك.
وروى سعيد بن منصور عن علقمة أنهم غزوا على عهد معاوية وكانوا يرمون بالمنجنيق في غزوتهم.
ولا خلاف عند أهل العلم على جواز رمي الأعداء بالمنجنيق، وهي الآلة التي تُرمى بها الحجارة الكبيرة أو الحجارة المحماة، وهي بالتأكيد لا تميز بين صغير وكبير، أو بين رجل و امرأة مقاتل أو غير مقاتل، كما أنه آلة دمار للدور والمساكن وكل ما يصيبه.(1/113)
والأصل في الجهاد إباحة ما يُتوصل به إلى إعزاز دين الله والفتح المبين، ولا يُقال هنا أن مآل البيوت والأملاك للمسلين غنائم أو فئ، أو أن بها من الثروات ما يخدم المسلمين بعد الفتح، أو أن هذا مدعاة لأن يفعلوا بالمسلمين مثل ما فعله المسلمون، لا عبرة بمثل هذا التعليل، خصوصاً بعد ثبوت روايات التحريق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في غزوة بني النضير في الصحيح، وكما نقل ابن القيم في الزاد عند الحديث على غزوة الطائف فقال: قال ابن سعد عن مكحول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوماً.
قال ابن إسحاق : حتى إذا كان يوم الشَّدْخَةِ عند جِدار الطائف، دخل نَفَر مِن أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تحتَ دبابةٍ، ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سِكَكَ الحديد مُحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنَّبل، فقتلُوا منهم رجالاً، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناسُ فيها يقطعون .
قال السيوطي: ونصب عليهم المنجنيق رواه البيهقي، وقيس به ما في معناه مما يعم الإهلاك به.
- أقوال المذاهب في جواز التحريق والإغراق والتسميم، وما في معناه من التدمير:
- الأحناف:(1/114)
قال السرخسي في شرح السير الكبير عن محمد بن الحسن، قال: ولا بأس للمسلمين أن يحرقوا حصون المشركين بالنار، أو يغرقوها بالماء، وأن ينصبوا عليها المجانيق, وأن يقطعوا عنهم الماء, وأن يجعلوا في مائهم الدم والعذرة والسم حتى يفسدوه عليهم، لأنا أُمرنا بقهرهم وكسر شوكتهم، وجميع ما ذكرنا من تدبير الحروب مما يحصل به كسر شوكتهم, فكان راجعاً إلى الامتثال, لا إلى خلاف المأمور, ثم في هذا كله نيل من العدو, وهو سبب اكتساب الثواب, قال الله تعالى: "وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ "[التوبة120]، ولا يمتنع شيء من ذلك ما يكون للمسلمين فيهم من أسرى, أو مستأمنين, صغاراً أو كباراً، أو نساءً أو رجالاً، وإن علمنا ذلك؛ لأنه لا طريق للتحرز عن إصابتهم مع امتثال الأمر بقهر المشركين, وما لا يُستطاع الامتناع منه فهو عفو.
وقال السرخسي في المبسوط: ولا بأس بإرساله الماء إلى مدينة أهل الحرب، وإحراقهم بالنار، ورميهم بالمنجنيق، وإن كان فيهم أطفال أو ناس من المسلمين أسرى أو تجار.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: لا بأس بإحراق حصونهم بالنار, وإغراقها بالماء, وتخريبها وهدمها عليهم, ونصب المنجنيق عليها ; لقوله تبارك وتعالى: " يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ "[الحشر2]، ولأن كل ذلك من باب القتال; لما فيه من قهر العدو وكبتهم وغيظهم, ولأن حرمة الأموال لحرمة أربابها, ولا حرمة لأنفسهم حتى يقتلوا, فكيف لأموالهم؟.
- المالكية:
قال ابن العربي في أحكام القرآن: اختلفت الناس في تخريب دار العدو وحرقها وقطع ثمارها على قولين:
الأول: أن ذلك جائز قاله في المدونة.(1/115)
الثاني: إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا, وإن يئسوا فعلوا، قاله مالك في الواضحة, وعليه تناظر الشافعية, والصحيح الأول، وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخل بني النضير له, ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهناً فيهم, حتى يخرجوا عنها, فإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعاً مقصودة عقلاً.
والاختلاف في مآل هذه الدور، هل ستعود بالنفع على المسلمين فلا تحرق، أو تحرق بغض النظر عن المآل.
قال ابن فرحون في تبصرة الحكام: مسألة: ويُقاتل العدو بكل نوع، وبالنار إن لم يكن غيرها وخيف منهم, فإن لم يخف فقولان، مسألة: لم يختلف في رمي مراكبهم بالمنجنيق، وكذلك حصونهم, وإن كان فيهم مسلمون.
وقال الخرشي في شرح خليل: يجوز قتال العدو إذا لم يجيبوا إلى ما دعوا إليه بجميع أنواع الحرب، فيجوز قطع الماء عنهم ليموتوا بالعطش, أو يرسل عليهم ليموتوا بالغرق على المشهور، أو يقتلوا بالآلة: كضرب بالسيف، وطعن بالرمح، ورمي بالمنجنيق، وما أشبه ذلك من آلات الحرب.
- الشافعية:
قال الشافعي في الأم: وإذا تحصن العدو في جبل أو حصن أو خندق أو بحسك أو بما يتحصن به، فلا بأس أن يرموا بالمجانيق، والعرادات، والنيران، والعقارب، والحيات، وكل ما يكرهونه، وأن يبثقوا عليهم الماء ليغرقوهم، أو يوحلوهم فيه، وسواءاً كان معهم الأطفال والنساء والرهبان أو لم يكونوا؛ لأن الدار غير ممنوعة بإسلام ولا عهد، وكذلك لا بأس أن يحرقوا شجرهم المثمر، وغير المثمر، ويخربوا عامرهم، وكل ما لا روح فيه من أموالهم.(1/116)
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج:( ويجوز حصار الكفار في البلاد والقلاع ) وغيرها، ( وإرسال الماء عليهم ) وقطعه عنهم، ( ورميهم بنار ومنجنيق ) وغيرهما، وإن كان فيهم نساء وصبيان ولو قدرنا عليهم بدون ذلك كما قاله البندنيجي، وإن قال الزركشي: الظاهر خلافه؛ وذلك لقوله تعالى:"وخذوهم واحصروهم"[التوبة5]; ولأنه - صلى الله عليه وسلم - حصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق" [رواه البيهقي وغيره]...( وإن كان فيهم مسلم ) واحد فأكثر، ( أسير أو تاجر جاز ذلك ) أي إحصارهم وقتلهم بما يعم، وتبييتهم في غفلة، وإن علم قتل المسلم بذلك لكن يجب توقيه ما أمكن، ( على المذهب ) لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبس مسلم عندهم، نعم يكره ذلك حيث لم يضطر إليه، كأن لم يحصل الفتح إلا به تحرزا من إيذاء المسلم ما أمكن مثله في ذلك الذمي ولا ضمان هنا في قتله ; لأن الفرض أنه لم تعلم عينه "
وقال السيوطي في أسنى المطالب – وأصل الكلام لزكريا الأنصاري–:( و ) يجوز ( إتلافهم بالماء والنار ) قال تعالى: ( وخذوهم واحصروهم )، و(حاصر - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف) رواه الشيخان، و (نصب عليهم المنجنيق ) رواه البيهقي، وقيس به ما في معناه مما يعم الإهلاك به.
وهذا القول هو المشهور في المذهب الشافعي.
- الحنابلة:(1/117)
قال ابن قدامة في المغني: مسألة: قال – أي الخرقي –: ( وإذا حورب العدو, لم يحرقوا بالنار ): أما العدو إذا قدر عليه, فلا يجوز تحريقه بالنار, بغير خلاف نعلمه، وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأمر بتحريق أهل الردة بالنار، وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره, فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافا... فأما رميهم قبل أخذهم بالنار, فإن أمكن أخذهم بدونها, لم يجز رميهم بها; لأنهم في معنى المقدور عليه, وأما عند العجز عنهم بغيرها, فجائز في قول أكثر أهل العلم، وبه قال الثوري والأوزاعي والشافعي... وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم ليغرقهم, إن قدر عليهم بغيره لم يجز, إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية, الذين يحرم إتلافهم قصداً, وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز, كما يجوز البيات المتضمن لذلك، ويجوز نصب المنجنيق عليهم، وظاهر كلام أحمد جوازه مع الحاجة وعدمها.
وقد جاء في الشرح الكبير على متن المقنع للمقدسي: يجوز رمي الحصون بالنار، مع وجود النساء والأطفال ما دامت تخلو من المسلمين.
وقال البهوتي في كشاف القناع: ( وكذا يجوز رميهم ) أي: الكفار ( بالنار, والحيات, والعقارب في كفات المجانيق, ويجوز تدخينهم في المطامير, وفتح الماء لغرقهم, وفتح حصونهم وعامرهم ) أي: هدمها عليهم; لأنه في معنى التبييت ( فإذا قدر عليهم لم يجز تحريقهم) لحديث( إن الله كتب الإحسان على كل شيء, فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) [مسلم عن شداد بن أوس]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - ( فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار ) [أبو داود عن حمزة الأسلمي] وكان أبو بكر يأمر بتحريق أهل الردة بالنار، وفعله خالد بن الوليد بأمره.(1/118)
وقال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: ( و ) يجوز ( رميهم ) أي الكفار ( بمنجنيق ) نصاً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ( نصب المنجنيق على الطائف ) رواه الترمذي مرسلاً، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية, فظاهر كلام أحمد الجواز مع الحاجة وعدمها ( و ) يجوز رميهم بنار ( و ) يجوز ( قطع سابلة ) أي طريق، ( و ) قطع ( ماء ) عنهم (وفتحه) ليغرقهم ( و ) يجوز ( هدم عامرهم ) وإن تضمن إتلاف, نحو نساء وصبيان ; لأنه في معنى التبييت.
- الظاهرية:
قال ابن حزم في المحلى: جائز تحريق أشجار المشركين, وأطعمتهم, وزرعهم، ودورهم, وهدمها, قال الله تعالى: "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين"، وقال تعالى: "ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح "، وقد أحرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير - وهي في طرف دور المدينة - وقد علم أنها تصير للمسلمين في يومه أو غده.
- من المجتهدين من غير المذاهب:
قال الصنعاني في سبل السلام: " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير وقطع ) متفق عليه.
يدل على جواز إفساد أموال أهل الحرب بالتحريق والقطع لمصلحة، وفي ذلك نزلت: "مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ " الآية، قال المشركون: إنك تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع الأشجار وتحريقها ؟
وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي وأبو ثور واحتجا بأن أبا بكر - رضي الله عنه - وصى جيوشه أن لا يفعلوا ذلك، وأجيب بأنه رأى المصلحة في بقائها لأنه قد علم أنها تصير للمسلمين فأراد بقاءها لهم، وذلك يدور على ملاحظة المصلحة.(1/119)
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: والأحاديث المذكورة- مثل حديث ابن عمر في تحريق نخل بني النضير- فيها دليل على جواز التحريق في بلاد العدو، قال في الفتح – نقل كلام ابن حجر وأقره – ثم قال: ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي.
وقال أيضاً في السيل الجرار: قد أمر الله بقتل المشركين، ولم يعين لنا الصفة التي يكون عليها، ولا أخذ علينا أن لا نفعل إلا كذا دون كذا، فلا مانع من قتلهم بكل سببٍ للقتل من رمي، أو طعن، أو تغريق، أو هدم، أو دفع من شاهق، أو نحو ذلك.
وللشوكاني رأيه في منع التحريق خاصة وقد بينا أن النهي عن التحريق بعد الأخذ والأسر، أما قبله فلا تشمله الأحاديث بل إذا كان لا يُتوصل للفتح إلا بالتحريق فلا خلاف بين العلماء على صحة الفعل، وفي أحسن الأحوال فالخلاف قائم عند وجود ما يُتوصل به للفتح دون التحريق، أو عند تساوي الوسائل وتعارض الغايات فهل يلجأ إلى التحريق أو لا، هذا محل الخلاف، والصحيح الجواز.
وقال ابن القيم في الزاد حول فقه غزوة الطائف: ومنها جواز نصب المنجنيق على الكفار، ورميهم به وإن أفضى إلى قتل مَن لم يُقاتل مِن النساء والذُرِّية .
ومنها : جوازُ قطع شجر الكُفار إذا كان ذلك يُضعفهم ويَغيظهم، وهو أنكى فيهم.
والأسلحة الحديثة تلحق بما سبق ذكره، من تحريق وإغراق وتفجير وتدمير وسموم وغيره من وسائل التدمير الشامل.
- حكم المتواجدين من المسلمين في المناطق المقصود تدميرها(التترس):
ذهب الإمام مالك في المدونة إلى تحريم التغريق أو التحريق إذا اختلط أهل البلاد بمسلمين بما يعذر معه التمييز مستشهداً بقوله تعالي:(1/120)
"وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً "[الفتح 25]، وقد أشار ابن قدامة في المغني للآية وبها منع ضرب الحصون لتواجد المسلمين بها.
وقد رد العلماء على الإمام مالك استشهاده بالآية وممن أخذ بها كالأوزاعي.
قال أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي: تأول الأوزاعي هذه الآية في غير موضعها، ولو كان يحرم رمي المشركين وقتالهم إذا كان معهم أطفال المسلمين لحرم ذلك أيضاً منهم إذا كان معهم أطفالهم ونساؤهم، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والأطفال والصبيان، وقد حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف وأهل خيبر وقريظة والنضير، وأجلب المسلمون عليهم فيما بلغنا أشد ما قدروا عليه، وبلغنا أنه نصب على أهل الطائف المنجنيق، فلو كان يجب على المسلمين الكف عن المشركين إذا كان في ميدانهم الأطفال، لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم ما لم يقاتلوا؛ لأن مدائنهم وحصونهم لا تخلو من: الأطفال والنساء والشيخ الكبير الفاني والصغير والأسير والتاجر، وهذا من أمر الطائف وغيرها محفوظ مشهور من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم لم يزل المسلمون والسلف الصالح من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في حصون الأعاجم قبلنا على ذلك، لم يبلغنا عن أحد منهم أنه كف عن حصن برمي ولا غيره من القوة لمكان النساء والصبيان، ولمكان من لا يحل قتله لمن ظهر منهم.(1/121)
وقد ذكر الشافعي رحمه الله في الأم قول الأوزاعي، ثم أتبعه برد أبي يوسف السابق، ثم قال: والذي تأول الأوزاعي يحتمل ما تأوله عليه، ويحتمل أن يكون كفه عنهم بما سبق في علمه من أنه أسلم منهم طائفة طائعين، والذي قال الأوزاعي أحب إلينا إذا لم يكن بنا ضرورة إلى قتال أهل الحصن... كان تركهم إذا كان فيهم المسلمون أوسع وأقرب من السلامة من المأثم في إصابة المسلمين فيهم، ولكن لو اضطررنا إلى أن نخافهم على أنفسنا إن كففنا عن حربهم قاتلناهم ولم نعمد قتل مسلم، فإن أصبناه كفرنا الكفارة هنا مختلف فيها على ثلاثة أقوال:-
1- تجب الدية والكفارة: وهو المشهور عن المالكية والشافعية.
2- تجب الكفارة دون الدية: وهو المشهور عن الحنابلة، وهو قول الثوري.
3 - ليس فيه كفارة ولا دية: وهو المشهور عن الحنفية]، وما لم تكن هذه الضرورة فترك قتالهم أقرب من السلامة وأحب إلي.
وقال الجصاص في أحكام القرآن:" وأما احتجاج من يحتج بقوله:"ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" الآية, في منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين, فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم ; لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم، وذلك إنما يدل على إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم, فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين؛ لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم لأجل المسلمين، وجائز أيضاً إباحة الإقدام على وجه التخيير, فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام.(1/122)
فإن قيل: في فحوى الآية ما يدل على الحظر, وهو قوله: "لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم"، فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم، قيل له: قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة هاهنا، فروي عن ابن إسحاق أنه: غرم الدية, وقال غيره: الكفارة, وقال غيرهما: الغم باتفاق قتل المسلم على يده ; لأن المؤمن يغتم لذلك وإن لم يقصده، وقال آخرون: العيب، وحكي عن بعضهم أنه قال: المعرة: الإثم, وهذا باطل ; لأنه تعالى قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا; لقوله تعالى: " لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِعِلْمٍ " [الفتح25], ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه, ولم يضع الله عليه دليلاً, قال الله تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " [الأحزاب5] فعلمنا أنه لم يرد المأثم.
وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين; لأن القصد في الحالين رمي المشركين دونهم، ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة, كما أن من أصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية ولا كفارة، ولأنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة, فصاروا في الحكم بمنزلة من أُبيح قتله فلا يجب به شيء, وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة; إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره، والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك، وقول من تأوله على العيب محتمل أيضاً ; لأن الإنسان قد يُعاب في العادة باتفاق قتل الخطأ على يده, وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة.(1/123)
وقد قال بعض العلماء في الرد على من أخذ بالآية أن ذلك يُعطل الجهاد لندرة خلو ديارٍ من المسلمين، قال محمد بن الحسن في شرح السير الكبير: " ولا يمتنع شيء من ذلك ما يكون للمسلمين فيهم من أسرى, أو مستأمنين, صغارا أو كبارا، أو نساء أو رجالا، وإن علمنا ذلك؛ لأنه لا طريق للتحرز عن إصابتهم مع امتثال الأمر بقهر المشركين, وما لا يُستطاع الامتناع منه فهو عفو".
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج: ( وإن كان فيهم مسلم ) واحد فأكثر ( أسير أو تاجر جاز ذلك ) أي إحصارهم وقتلهم بما يعم، وتبييتهم في غفلة، وإن علم قتل المسلم بذلك لكن يجب توقيه ما أمكن، (على المذهب ) لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبس مسلم عندهم.
وقال العبادي الحنفي في الجوهرة النيرة:( ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر) يعني يرميهم بالنشاب والحجارة والمنجنيق؛ لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن جماعة المسلمين وقتل التاجر والأسير ضرر خاص.
وفي هذا توجيه لقياس المسألة: ضرر يعود بترك الجهاد والفتح، وضرر يعود على بعض المسلمين، فيُقدم الجهاد على الضرر الذي يعود على آحاد المسلمين أو بعضهم.
قال الشافعي موجهاً الحديث نحو دفع الكفار: "ولكن لو اضطررنا إلى أن نخافهم على أنفسنا إن كففنا عن حربهم قاتلناهم ولم نعمد قتل مسلم "، وهذا كمسألة التترس تماماً، فإن أهل العلم اتفقوا على جواز قتل الكفار ولو تترسوا بمسلمين إذا اضطروا إلى ذلك.
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم.(1/124)
وقال: والله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته، والحديث في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بأولهم وآخرهم، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم المكره وغير المكره، وفيهم المستبسل، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم "، فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره، مع قدرته على التمييز بينهم... بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين، وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، وإذا كان الجهاد واجباً وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقتل من يقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، وذلك أن مصلحة الجهاد قائمة على نهكة النفوس وإهراق الدماء في سبيل الله تبارك وتعالى، فلا تُفوّت المصلحة بمثل هذه المفسدة المتوهمة.
قال الإمام النووي: لو تترس الكفار بمسلمين من الأسارى وغيرهم نُظِر، إن لم تدعُ ضرورة إلى رميهم واحتمل الإعراض عنهم لم يجز رميهم، وهذا على خلاف كما تقدم معنا بين العلماء ... وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترّسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان:
أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم.
والثاني: الجواز وهو الصحيح المنصوص- أي نص الإمام الشافعي رحمه الله – وبه قطع العراقيون- يعني من أصحاب الإمام الشافعي-.
وقال القرطبيّ: قد يجوز قتل التّرس ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كليّة قطعية.(1/125)
وضرورية أي لا يُتوصل الى قتل الكفار الا من خلال قتل الجميع.
وكلية أى أنها تعود بالنفع على الجميع لا الفاعل وجماعته فقط.
وقطعية أى حاسمة للأمر.
وقال الإمام المرغمانيّ: ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلمٌ أسيرٌ أو تاجر لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ولأنه قلما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسدّ باب الجهاد وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يَكفوا عن رميهم لِمَا بيّنا - ويقصدون بالرمي الكفار-.
وقال الجصاص: باب رمي حصون المشركين وفيهم أطفال المسلمين وأسراهم، قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى وأطفال من المسلمين، ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين، وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رُمي المشركون وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة.
ومثل ذلك أيضاً أن شرعنا قد جاء بتحريم قتل النساء وأطفال المشركين وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومع ذلك فإذا تترس بهم الكفار ولم يكن يُخلص إليهم إلا بوطء الذرية والأطفال فإننا لا نمتنع عن ذلك، وقد روى الإمام أبو داود في المراسيل عن طاووس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَمَى بالمنجنيق على أهل الطائف والمنجنيق لا يفرق بين صغير وكبير، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: فإن قال قائل: كيف أجَزت الرمي بالمنجنيق وبالنار على جماعة المشركين وفيهم الولدان والنساء وهو منهي عن قتلهم: قيل: أجزنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَنّ الغارة على بني المصطلق غارّين، وأمر بالبيات وبالتحريق والعلم يُحيط أن فيهم الولدان والنساء، وذلك أن الدار دار شرك غير ممنوعة وإنما نَهى أن تُقصد النساء والولدان بالقتل إذا كان قاتلهم يعرفهم بِأعيانهم.(1/126)
وقال الشافعي في الأم: وإن كان في الدار أسارى من المسلمين أو تجار مُستأمنون كَرِهت النصب عليهم لِما يعمّ من التحريق والتغريق وما أشبهه غير محرم له تحريماً بيناً وذلك أن الدار إذا كانت مباحة فلا [يبين] بأن تحرم بأن يكون فيها مُسلم يحرم دمه وإنما كَرهت ذلك احتياطاً، ولأن مباحاً لنا لو لم يكن فيها مسلم أن نجاوزها فلا نقاتلها، ولذلك أجاز أئمتنا رحمهم الله تعالى مسألة التبييت وهي ثابتة في الصحيحين عن سعد بن جَثّامة رضي الله عنهما جميعاً أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب النساء والذراري والذرية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :"هم منهم"، ولذلك قال أحمد رحمه الله لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات، قال: ولا نعلم أحد كره بيات العدو.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله فإن قيل فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والذرية قلنا هذا محمول على التعمد لقتلهم قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا.
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر قال:" لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أتى بامرأة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل ونهى" فذكر الحديث .
وأخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال : ألم أنه عن قتل النساء، من صاحبها ؟، فقال رجل : أنا يا رسول الله أردفتها فأرادت أن تصرعني فتقتلني فقتلتها، فأمر بها أن توارى" ، ويحتمل في هذه التعدد، والذي جنح إليه غيرهم الجمع بين الحديثين كما تقدمت الإشارة إليه، وهو قول الشافعي والكوفيين .
وقالوا : إذا قاتلت المرأة جاز قتلها .
وقال ابن حبيب من المالكية : لا يجوز القصد إلى قتلها إلا إن باشرت القتل وقصدت إليه .
قال : وكذلك الصبي المراهق .(1/127)
ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رياح بن الربيع التميمي قال: " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة فقال : "ما كانت هذه لتقاتل ، " فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقُتلت، واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والوالدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به، وحكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي، وهو غريب.
الحرب التطهيرية
إذا كان "الطهر" في عُرف الفقهاء هو الخلو من النجاسة، فإن "الحرب التطهيرية " تعني كما هو أصل التسمية: تطهير وتنظيف وإخلاء الدولة الإسلامية ثم إخلاء الأرض من النجاسة المتمثلة في الشرك والكفر.
وقد اعتمدت سياسة التطهير النبوية على الابتداء أساساً من قلوب أصحابه وأتباعه، فعمل على تطهيرها من متعلقات الدنيا وعلائقها، فصفت قلوبهم وطهرت صدورهم من أغلال الأرض فسمو في علياء السماء، لتصغر في أعينهم عوائق العمل، لينطلقوا في رحباء البناء بعد التحرر من أدران الجاهلية.
" قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ " [التوبة24].(1/128)
وأما تفاصيل هذا التطهير النفسي فليس هذا محله، وحقه طرح مستقل يوافيه حقه، وحسبه أنه جهد المقل وخاطب حسناء أثقله المهر، وحسبك في وصفه ما قاله ابن القيم: لما استقرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وأيَّده الله بنصره، بعباده المؤمنين الأنصار، وألَّفَّ بين قلوبهم بعد العداوة والإحَنِ التي كانت بينهم، فمنعته أنصارُ الله وكتيبةُ الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلُوا نفوسهم دونه وقدَّموا محبتَه على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم مِن أنفسهم، رمتهُمُ العربُ واليهودُ عن قوس واحدة، وشمَّروا لهم عن سَاقِ العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم مِن كُلِّ جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبرِ والعفو والصفح حتى قويت الشوكةُ، واشتد الجناحُ، فأذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرِضه عليهم، فقال تعالى : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لقَدِيرٌ" [ الحج : 39 ] .
حين استعصت مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحارب أهلها دين الله، وامتنعوا عن الدخول في الإسلام وزاد التضييق والتشديد والتعذيب علي المسلمين، أذن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة للمدينة بعد هجرتين للحبشة، مع الفارق بين الهجرات الثلاث، فالأخيرة منهن كانت لقوم عندهم المنعة والقوة، وفيهم الشكيمة والحرب على من يعادي الذي يأوي إليهم، وفيهم القدرة على تحمل أعباء الدين والذود عن حياضه.
وهاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه إلى المدينة، وبذلك أُعلن قيام الدولة الإسلامية فانقسم الناس حسب أحوالهم إلى أقسام أربعة:
- محاربون كقريش ومن معها.
- مصالحون ومهادنون ومستأمنون بعقود وأحلاف كيهود المدينة.(1/129)
- قسم لم يُصالح ولم يُسالم: انتظر أصحابه ما تؤول إليه الحال فيكونوا مع القوي، ككثير من قبائل العرب التي ما رأت من مصلحتها استعداء المسلمين ولا مناصرة قريش، ولما فُتحت مكة جاءوا يبايعون الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك انتقلوا من الحياد إلي الانحياز لفئة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- قسم ناصره ظاهراً وحاربه باطناً كمنافقي المدينة.
أما الأصناف الثلاثة الأولى فقد شملتهم حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأوقات متغايرة ومواقف متفاوتة، حسب ما يقرره الوحي أو أحوال الزمن وتقلباته، كيهود خيبر الذين لم يسالموا ولم يحاربوا فلما دخلوا في حلف قريش انتقلوا إلى حالة العداء، وأما قريش وأحلافها فحديثها القتالي من الوضوح بمكان، أما القسم الرابع فلم تشمله حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمر الرباني بكف اليد عنهم وعدم جر السيوف على رقابهم، بل مجالهم الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والمعاقبة بالفضح، ولنا ظاهرهم، ولا تُحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه.
أولاً: تطهير المدينة:
بعد مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى المدينة مهاجراً، كان في المدينة أصناف عدة، فمنهم العرب وهم الأوس والخزرج الذين دخلوا في الإسلام وآخى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم اليهود على أصنافهم الثلاثة وقد تعاقد معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعقود مصالحة وموادعة.(1/130)
وعلى الرغم من عهود الأمان مع اليهود فإنهم كانوا يشكلون شوكة في حلق المسلمين، لعدم وجود عوامل الثقة بين الطرفين، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحين الفرصة لتطهير المدينة منهم، وليس معنى هذا استباق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغدرهم، بل شملهم الأمر جميعاً بغدر ذوي الشوكة والمنعة منهم وعدم قبول المعذرة أو الندم لمن تولى كبر الغدر منهم، فكان أول ما يهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعله كعقوبة هو الإجلاء عن المدينة، وما سواه فكان يتغاضى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل ابن أبي ابن سلول حين شفع لليهود، فقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - شفاعته على أن يتركوا المدينة فكان أول تطهير لليهود.
- تطهير المدينة من بني قينقاع:
قال ابن القيم في الزاد حول سبب الفعل الذي استحقوا معه العقوبة فقال: شرقوا بوقعة بدر، وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله، وقد ذكر ابن هشام تفسيرا لقول الإمام ابن القيم فقال: قالت اليهود: لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس .
وزاد ابن هشام والواقدي سبباً للحرب فقالا : كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يُريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله - وكان يهودياً- وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.(1/131)
قال ابن القيم: وحاصرهم خمسة عشر ليلة ... وهم أول من حارب من اليهود، وتحصنوا في حصونهم فحاصرهم أشد الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم وقذفه في قلوبهم، فنزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألح عليه فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام ، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم.
بالنظر إلى سبب الفعل يُرى أنه كان من طائفة من اليهود سواء القول وإظهار الحسد والبغي، أو التهديد بشوكتهم وشكيمتهم أو لمراودتهم للمرأة أو حتى قتل المسلم، فالمواقف كانت متسارعة ولم يشترك فيها كل اليهود وهو ما يدركه كل عاقل، فلم يجتمع كل اليهود على القول الواحد أو في السوق على الموقف الواحد، من كشف سوءة امرأة أو قتل مسلم، ولكن العقوبة عمت الجميع حتى شملت الذراري والنساء، فكان التطهير لما هم على أصله من الفساد، وخطر وجودهم كان يستوجب معاقبتهم على أدني خطأ يظهر منهم.
- تطهير المدينة من بني النضير:(1/132)
قال ابن القيم في الزاد وأصل الحديث في الصحيحين: سبب ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم – أي إلي بني النضير- في نفر من أصحابه، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك، وخلا بعضهم ببعض وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كُتب عليهم، فتآمروا بقتله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا فوالله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك وتعالى بما هموا به فنهض مسرعاً، وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك فأخبرهم بما همت يهود به وبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن اخرجوا من المدينة، ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشرا، فمن وجدت بعد ذلك بها، ضربت عنقه"، فأقاموا أياما يتجهزون وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي: أن لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ونهضوا إليه وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم قاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من قريظة، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطع نخلهم وحرق، فأرسلوا: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.(1/133)
الموقف كان مع جماعة من اليهود وليس مع جميعهم، والذين تآمروا عليه ثلة منهم وقد عارضهم من كان معهم، والذي همَّ بالفعل واحد فقط، ولكن العقاب شمل من اجتمع ومن غاب ومن أيد ومن لم يدر، ليؤكد أخذهم بأدنى خيانة تظهر منهم، فتطهير المدينة منهم كان حاضراً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكم عليهم لما ارتكبه أشقاهم من الغدر والخيانة.
- تطهير المدينة من بني قريظة:
قال ابن القيم في الزاد وأصله في الصحيحين: سبب غزوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم فقال: قد جئتكم بعز الدهر جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح فهلم حتى نناجز محمداً ونفرغ منه، فقال له رئيسهم: بل جئتني والله بذل الدهر جئتني بسحاب قد أراق ماءه فهو يرعد ويبرق، فلم يزل حيي يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه يصيبه ما أصابهم ففعل، ونقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... حصرهم خمساً وعشرين ليلة ولما اشتد عليهم الحصار... ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيهم حكم سعد - رضي الله عنه -: أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات.
والذي نقض العهد ليس كل اليهود بل من كبرائهم أو ذوي الرأي والقول فيهم، لذلك لما ظهر نقضهم للعهد كان بمثابة سببٍ لإقامة العقوبة الشاملة وهي تطهير المدينة منهم، وقد شدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقوبة بجانب الإخراج من المدينة في بني قريظة، لما كان من شدة عداوتهم وخيانتهم في أحلك ظرف مر على المدينة والمسلمين، ألا وهو الخيانة في زمن الحرب.(1/134)
قال ابن القيم: فهذا كله في يهود المدينة، وكانت غزوة كل طائفة منهم عقب كل غزوة من الغزوات الكبار، فغزوة بني قينقاع عقب بدر، وغزوة بني النضير عقب غزوة أحد، وغزوة بني قريظة عقب الخندق.
وهذا ما يُشعر أن الله قدًّر أن يفتت جمع اليهود ليستفرد بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل على حدة ويجليهم فرقة فرقة، طهارة للمدينة أن يساكن الخبيث فيها الطيب وهي كالكير ينفي خبث الحديد.
- تطهير الجزيرة من اليهود:
قال ابن القيم في الزاد: قال الواقدي: فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انزل فأكلمك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم "، فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا " فصالحوه على ذلك.(1/135)
قال حماد بن سلمة: فغيبوا مسكاً فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعم حيي بن أخطب: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟"، قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك "، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال: " قد رأيت حيياً يطوف في خربة ها هنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم منها فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون يقومون عليها فأعطاهم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع وكل ثمر ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم ... ولم يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلح إلا ابني أبي الحقيق للنكث الذي نكثوا.
وذكر ابن الأثير وغيره: أن يهود خيبر كانوا مظاهرين ليهود غطفان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنَّ غطفان قصدت خيبر ليظاهروا اليهود فيها، ثمّ خافوا المسلمين على أهليهم وأموالهم فرجعوا.(1/136)
ومعلوم موقف غطفان بشأن حلفها مع قريش في الأحزاب، وما وقع من أمرهم، بهَم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمصالحة ورفض السعدين لها، وما قدره الله من انهزام للأحزاب وتفرق جمعهم، وبغض النظر عما يصح من أحلاف بين خيبر وغطفان فإنه لم يكن بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين يهود خيبر عهد كما بينه وبين يهود المدينة، فهو في حِل من الالتزام فمصالحة القوم, وهو وإياهم على خيارين: إما الإسلام وإما الحرب، ولم تكن الجزية قد نزل حكمها بعد.
قال ابن القيم تأصيلاً: جواز إجلاء أهل الذِّمةِ من دار الإسلام إذا اسْتُغنِىَ عنهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "نُقِرُّكُم مَا أَقَرَّكمُ اللهُ " ، وقال لكبيرهم : " كَيْفَ بكَ إذا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّام يَوْماً ثُمَّ يَوْماً" ، وأجلاهم عمرُ- رضي الله عنه - بعد موته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مذهبُ محمد بن جرير الطبرى، وهو قولٌ قوى يسوغُ العملُ به إذا رأى الإمامُ فيه المصلحةَ .
ولا يُقال : أهل خَيْبَر لم تكن لهم ذِمة، بل كانُوا أهلَ هُدنة، فهذا كلام لا حاصِل تحته، فإنهم كانوا أهلَ ذِمة، قد أمِنوا بها على دمائهم وأموالهم أماناً مستمراً، نعم لم تكن الجزيةُ قد شُرِعَت، ونزل فرضُها، وكانوا أهلَ ذِمة بغير جزية، فلما نزل فرضُ الجزية، استُؤنِفَ ضربُها على مَن يُعقد له الذِّمة مِن أهل الكِتاب والمجوس، فلم يكن عدمُ أخذ الجزية منهم، لكونهم ليسوا أهلَ ذِمة، بل لأنها لم تكن نزل فرضُها بعد .(1/137)
وأما كونُ العقد غيرَ مؤبَّد، فذاك لمدة إقرارهم في أرض خَيْبَر، لا لمدة حقنِ دمائهم، ثم يستبيحها الإمامُ متى شاء، فلهذا قال : "نُقِرُّكُمْ ما أقرَّكمُ اللهُ أَوْ مَا شَئْنَا "، ولم يقل : نحقِنُ دماءكم ما شئنا، وهكذا كان عقدُ الذمة لقُريظة والنَّضير عقداً مشروطاً، بأن لا يُحاربوه، ولا يُظاهِرُوا عليه، ومتى فعلوا، فلا ذِمة لهم، وكانوا أهلَ ذِمة بلا جزية، إذ لم يكن نزلَ فرضُها إذ ذاك، واستباحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَبْىَ نسائهم وذرارِيهم، وجعل نقضَ العهد سارياً في حق النِّساء والذُرِّية، وجعل حُكم الساكت والمقر حُكمَ الناقِضِ والمحارب، وهذا موجبُ هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - في أهل الذِّمة بعد الجزية أيضاً، أن يسرىَ نقضُ العهد في ذُرِّيتهم ونسائهم، ولكن هذا إذا كان الناقِضُون طائفةً لهم شَوْكة ومَنَعة، أما إذا كان الناقض واحداً مِن طائفة لم يُوافقه بقيتهم، فهذا لا يسري النقضُ إلى زوجته وأولاده، كما أن مَن أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دماءهم ممن كان يسبُّه، لَمْ يَسْبِ نساءَهم وذُرِّيتهم، فهذا هَدْيُه في هذا، وهو الذي لا محيدَ عنه.
- تطهير مكة من الشرك والكفر:
ذكر أهل السير والمغازي أنه من شروط الحديبية من أحب أن يدخل في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده، فلما قامت الهدنة أمن كل طرف الآخر، فاغتنمتها بنو بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم الثأر القديم، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر فبيت خزاعة وهم على الوتير، فأصابوا منهم رجالا وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل مستخفياً ليلاً، ذكر ابن سعد منهم صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص.(1/138)
ويكفي مناصرة قريش لبني بكر على حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكون فاسخاً وناقضاً للعهد الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك إيذاناً بإعلان الحرب على مكة بمن فيها، ومع أن أبا سفيان سعى جاهداً ليجدد العهد ويرجع الأمر إلى حاله من هدنة السنوات العشر إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنع عن قبول تجديد العقد، ليعلن الأمر بوجوب تطهير مكة من أدران الشرك وهو ما كان والحمد لله رب العالمين.
- تطهير الجزيرة العربية من الشرك:
وابتدأت هذه المرحلة من بعد غزوة الخندق أي من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ". [البخاري].
وقد تنوع النشاط العسكري بعد الأحزاب مباشرة في سبيل تطهير الجزيرة بالمعني الموسع، فمنها غزوة بني قريظة التي كانت تعني نهاية اليهود في المدينة، وكأنها تأمين المدينة من الخيانة من الداخل للتفرغ للحرب الخارجية.
ومنها عمليات الاغتيال التي طالت سلام بن أبي حقيق اليهودي، وقد كان ممن حزب الأحزاب.
ومنها سرايا التأديب مثل سرية أبي بكر إلى بطن فزراة بوادي القرى، وكانوا قد أرادوا اغتيال الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
ومنها ما كان ضمن العقاب لما فعله الكفار، وما غدروا به أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كغزوة بني لحيان وهم الذين غدروا بصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الرجيع، ولقرب ديارهم من مكة تخوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوهم، فلما تخاذلت الأحزاب وتفرق جمعهم ناسب أن يثأر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه.
ومنها ما كان استباق لمن كان يخطط لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كبني المصطلق، والتي كان بسببها غزوة المريسيع، وكذلك سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك، وقد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم يُريدون أن يمدوا يهود بجمع منهم فكانت سرية عليّ عقاباً لهم على همهم.(1/139)
- الحديبية وتطهير البيت من هيمنة قريش:
أفرز صلح الحديبية حالة جديدة ظهرت آثارها بما آلت إليه الأمور، منها:
- أن قريشاً أدركت قوة المسلمين، بما يعني اعترفاً بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه، وحقهم في البيت الحرام، بعد أن كان حِكراً على قريش دون سائر العرب.
- رضا قريش بل عرضها للصلح يعني ضعفها عن المواجهة، وهي التي كانت تتهيأ لابادة الدين الجديد.
- الصلح فتح باب دعوة العرب للدين الجديد وهو ما كان، ففي الحديبية كانوا ثلاثة آلاف وفي فتح مكة أصبحوا عشرة آلاف.
- رأي قريش بصد المسلمين عن البيت لعام واحد يعني عجزها عما يليه من أعوام، وهو يعني حق محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحج للبيت متى أراد، ودون إذن قريش وهو ما كان يعني انهياراً لصدارة قريش وهيمنتها علي البيت.
- أن العرب باتت تعرف محمداً - صلى الله عليه وسلم - ودينه وصحبه ورجاله.
- قول قريش لسهيل بن عمرو في الحديبية: لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، دليل على أن الأمر خرج عن سيطرة قريش وبقي بعض الاعتبار والمهابة فقط، وإلا فهم ما عاد فيهم طاقة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه.
- تطهير خيبر من القوة اليهودية:
رؤوس الكفر ثلاثة: قريش القلب وغطفان وخيبر الجناحان وخيبر أقوى، أما قريش فانتهى أمرها إلي صلح لعشر سنوات.(1/140)
وتحولت خيبر إلى مستنقع للدسائس والمؤامرات، خصوصاً بعد تحيز يهود المدينة إليهم بعد أن أجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، والأزمة في حرب خيبر أن المدينة في الوسط بين مكة وخيبر، فلما أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وقريش أي أمَّن ظهره، سار بجند الله لخيبر يؤدبها ويستأصل شأفتها ويكسر شوكتها ويعاقبها على ما أسلفت بحق المسلمين من كيد وحسد، وقد سبقت من خيبر المؤامرات كإعانتها قريش في الأحزاب واليهود في المدينة أو إرسالها من يغتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما استبقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل سلام بن أبي حقيق وأسير بن زارم، ولكن يبقى وجودهم هو المشكلة فلابد من إجلائهم وتنظيف الجزيرة من دنسهم، وهو ما كان على ما سبق بيانه.
- تطهير الجزيرة من القوى العربية المعادية:
بعد خيبر تفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعراب وهم كانوا يشكلون شوكة في حلق المسلمين، لتفرقهم حول المدينة واستعدادهم للإغارة على المدينة بقصد السلب والنهب، فلا يأمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك المدينة خوفاً من قرصنتهم، فضلاً عن تفرقهم في الجزيرة بحيث يصعب غزوهم في مكان واحد وإنهاء أمرهم، وقد حدث في غزوات كثيرة هروبهم بمجرد سماعهم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كغزوة الغابة إلى بني فزارة وسرية محمد بن مسلمة إلى بني فزارة، وسرية أبي عبيدة إلى بني ثعلبة في ذي القصة وقد أعجزوهم هرباً في الجبال.
- تطهير الجزيرة من قوة غطفان:(1/141)
بانتهاء أمر خيبر تفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جناح الكفر الثالث والمتمثل في الأعراب وعلى رأسها غطفان فكانت غزوة ذات الرقاع، ومع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يلق كيداً، ولكن كانت تكفي لتبث الرعب في قلب كل من يحاول التجمع لغزو المدينة، قال المباركفوري في الرحيق المختوم: "كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعد هذه الغزوة نرى أن هذه القبائل من غطفان لم تجترىء أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حنيناً وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها المصدقون فتعطى صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فإذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام. واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة، لأن داخل البلاد كانت الظروف قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين".
ثم تبعتها سرايا وبعوث إلى الأعراب فكانوا يهربون من أمام جيش المسلمين كسرية عمر بن الخطاب إلى تربة، وسرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار وقد فروا من أمام جيش المسلمين أيضاً.(1/142)
وأما ما كان من أمر جناح الكفر الثالث "هوازن وثقيف" فقد خرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة مباشرة، فكانت غزوة حنين التي هُزم المسلمون في أولها ثم كان الظفر والنصر لحزب الله، وقُتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين وانهزم العدو هزيمة منكرة وتفرقوا في البلاد، ولحقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفرسانه: طائفة طاردت الفلول الذين سلكوا نخلة، فأدركوا دريد بن الصمة فقتله ربيعة بن رفيع، وطائفة لحقت بالطائف فلحقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه فكانت غزوة الطائف، كامتداد لحنين ودام الحصار أربعين يوماً، كما عند مسلم عن أنس - رضي الله عنه - ولم يستطع المسلمون للحصن فتحاً، فقرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الانسحاب وبقي في الجعرانة بضع عشرة ليلة لا يُقسِّم الغنائم ويتأنى بها، يبتغي قدوم هوازن تائبين فيرد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أُخذ منهم، ثم بعد قِسمة الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً، وكان هذا المطاف نهاية الشوكة العربية بعد قريش وخيبر والحمد لله رب العالمين.
- تطهير المحيط من الولاية لغير الإسلام ودولته:
بدأ سلمياً بعد الحديبية بإرسال الرسل إلى ملوك الأرض، ومع أنه لم يصح من تلك الرسائل إلا رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل الروم كما جاءت عند البخاري، ولكن مجموع الرسائل المبثوث في كتب السيرة يوضح المنهج العام في دعوة ملوك الأرض إلى الدين الجديد والعرض مبدئيا: "أسلم تسلم".
وأما حربياً فقد بدأ فعلياً بعد عمرة القضاء بغزوة مؤتة وهي أعظم معركة خاضها المسلمون كتمهيد لقتال النصارى، قال المباركفوري في سببها: "وسبب هذه المعركة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى، فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً، ثم قدمه، فضرب عنقه .(1/143)
وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نقلت إليه الأخبار، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب .
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير - ثلاثة آلاف مقاتل - مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير- مائتا ألف مقاتل - ثم الرجوع من الغزو عن غير أن تلحق به خسارة تذكر . كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقاً .، ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها .
وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية .(1/144)
ولم يكن الرومان ليغفلوا عن الأثر الذي أحدثه انتصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في مؤتة بما يعني اهتزاز صورة الرومان وإضعاف موقفهم مما يعني انسلاخ القبائل العربية عن جسم الإمبراطورية الرومانية والتحيز للإمارة الإسلامية الفتية، فهيأ الروم جيشهم، وترامت الأخبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجمع وقام المنافقون بدورهم الدعائي في إرهاب المسلمين، فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن دقق الأمر وأحكم النظر فيه: إن تحرك الرومان في أرض العرب يعني انحسار الانتصار الذي أحرزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة وحنين والطائف وخيبر وما بثه ذلك من رعب في قلوب العرب، وكذلك مؤتة وما تركته من انطباع حول قوة الإسلام ورجاله فكان لابد من التحرك قطعاً لشبه المبطلين من المنافقين وصوناً للصف المسلم من التمزق، ولأن الخير كل الخير في المواجهة بدل انتظار مقدم العدو إلي الديار، وبدأ الحشد النبوي فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقبائل التي أسلمت يحثها على الخروج، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل أن غزا غزوة إلا ورى بغيرها غير تبوك لما فيها من جهد ومشاق، وحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحبه - رضي الله عنهم - على الانطلاق بقدر ما يستطيعون، على الرغم من ضيق الحال وشظف العيش في تلك الفترة، وانبرى الرجال بعدتهم وعتادهم وخرج جيش الإسلام يقدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل في تبوك وسيطر الرعب علي الرومان وحلفائهم من العرب من زحف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فلم يستطيعوا ملاقاةً لجيش الإيمان فتفرقوا وتشرذموا، فكان أعظم فتح على المسلمين للصيت الذي انتشر أن الروم تهابهم وأيقنت قبائل العرب أن لا فائدة من حلفاء الأمس فدخلوا في دين الله أفواجا، فكانت تبوك تعني نهاية التواجد الرومي على أرض العرب، وهو ما يعني توسع رقعة الدولة(1/145)
الإسلامية إلى حدود الرومان".
وعليه فإن تبوك تعني نهاية حالة الحرب مع العرب وطهارة أرض العرب من حكم غير الإسلام، لتبدأ حالة أخرى من هذه الحرب على الجبهات الأخرى الخارجية.
أما بقايا اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب فلم تكد تنتهي حروب الردة ويتولى عمر الخلافة إلا وكان قد أجلي اليهود والنصارى من خيبر ونجران وغيرها من جزيرة العرب كما في الكامل وتاريخ الطبري.
- تطهير الأرض: [فارس والروم ومصر وما تلاها]:
- جبهة الروم:
ابتدأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الشريفة، فأنفذ جيش أسامة لينطلق إلى البلقاء من أرض الشام ليغزو تلك الأراضي، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يخرج الجيش بعد، وارتدت العرب أو بعضٌ منها، وأشاروا على أبي بكر أن يبقي الجيش في المدينة ولكن أبا بكر أصر على انفاذه، قال ابن كثير في البداية والنهاية: وكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم وقالوا: ما خرج هؤلاء إلا وبهم منعة شديدة" وقاتلوا ثم رجعوا سالمين غانمين.(1/146)
وعند الطبري: عن محمد بن إسحاق قال لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى الشام فبعث عمرواً بن العاص قبل فلسطين ... وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ... وبلغ ذلك الروم فكتبوا إلى هرقل وخرج هرقل حتى نزل بحمص فأعد لهم الجند ... ولما نزل المسلمون اليرموك واستمدوا أبا بكر، قال: خالد لها، فبعث إليه وهو بالعراق وعزم عليه واستحثه في السير فنفذ خالد لذلك فطلع عليهم خالد وطلع باهان على الروم وقد قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يغرونهم ويحضونهم على القتال ووافق قدوم خالد قدوم باهان ... فولي خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم فهزم باهان ... وتتابع الروم على الهزيمة ... وفرح المسلمون بخالد ... وكان من آخر أمر هرقل بالشام: أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره وهو عائد فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء ... حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف فالتفت ونظر إلي سورية وقال السلام عليك يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده.
- جبهة فارس:
قال الطبري: قال عمر حين استجم جمع "بجيلة": أي الوجوه أحب إليكم؟ قالوا:الشام، فإن أسلافنا بها، فقال: بل العراق فإن الشام في كفاية فلم يزل بهم ويأبون عليه حتى عزم على ذلك وجعل لهم ربع خمس ما أفاء الله على المسلمين إلى نصيبهم في الفئ ... أول ما عمل به عمر أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر من الليلة التي مات فيها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم أصبح فبايع الناس وعاد فندب الناس إلى فارس ... كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد إلى فارس وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم ... لشدة سلطانهم وشوكتهم.(1/147)
ومما جاء في تاريخ الطبري: أن خالداً كتب إلى رؤساء الفرس الكتاب التالي: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك الفرس:أما بعد: فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم ... فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب... على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
وجاء في التاريخ أيضاً: أن خالداً بن الوليد لما فرغ من حروب الردة أمره أبو بكر الصديق أن يسير إلى العراق، فلما قدم الحيرة خرج إليه زعماؤها يستقبلونه، ومنهم عبد المسيح بن عمرو وجاء بصدد لقاء خالد بعبد المسيح: قال خالد: أسلم أنت أم حرب؟ فقال عبد المسيح: بل سلم ... ثم قال لهم خالد: إني أدعوكم إلى الله وإلى عبادته وإلى الإسلام، فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر، فقالوا:لا حاجة لنا في حربك فصالحهم علي تسعين ومائة ألف درهم، فكانت أول جزية حُملت إلى المدينة من العراق ... وكتب خالد إلي هرمز صاحب ثغر الفرس: أما بعد فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة... قال: لما قدم كتاب خالد على هرمز... جمع جموعه... وكان من أسوأ أمراء ذلك الفرج جواراً للعرب، فكل العرب عليه مغيظ وقد كانوا ضربوه مثلاً في الخبث حتى قالوا أخبث من هرمز، وأكفر من هرمز... وانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شئ من فتوحهم لتقدم أبي بكر إليه فيهم، فأقام خالد بالثني يسبي عيلات المقاتلة وأقر الفلاحين، ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعدما دعوا فأجابوا وتراجعوا وصاروا ذمة وصارت أرضهم لهم.
- جبهة مصر:(1/148)
جاء في النجوم الزاهرة: لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجابية قام إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه فخلا به، وقال يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر وحرضه عليها، وقال إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعوناً لهم وهي أكثر الأرض أموالاً وأعجزها عن القتال والحرب، فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين وكره ذلك فلم يزل عمرو يعظم أمرها عنده، ويخبر بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن إليه عمر وعقد على أربعة آلاف رجل كلهم من "عك"... ثم مضى عمرو نحو مصر وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين فلما بلغه قدوم عمرو إلى مصر كتب إلى قبط يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة وأن ملكهم قد انقطع ... وجاء وفد المقوقس يسمع من عمرو ما يريد: فقال لعمرو: إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدي ثلاث خصال.
وهي الثلاث التي لا تختلف باختلاف أهل الكتاب: إما إسلام وإما جزية عن يد وصغار وإما سيف يفصل الله به بين أوليائه وأعدائه، وقد تم الأمر وانتهى إلى قبول دفع الجزية والدخول تحت سلطان المسلمين.
- جبهة شمال افريقية:
وقد فتحت بفضل الله في خلافة عثمان - رضي الله عنه -.
-جبهة قبرص:
فتحها معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان - رضي الله عنه -.
وتوالت الفتوحات على كل الجبهات فكانت جبهة المغرب وشمال إفريقية ففُتحت بالكامل، ثم توالت الفتوح بركوب البحر ليفتحوا الأندلس وما تلاها، وكذلك جبهة الشرق إلى الصين وما فيها، وجبهة الشمال فارس والروم وأذربيجان وخراسان وغيرها، وقد فتحها الله على أيدي فرسان الليل ورهبان النهار والحمد لله رب العالمين.(1/149)
قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالي: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور55]، قال: هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً وحكماً فيهم وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة: فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فلم شعث ما وهي بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ففتحوا طرفاً منها وقتلوا خلقاً من أهلها، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة - رضي الله عنه - ومن أتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله - عز وجل - واختار له ما عنده من الكرامة ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يدر الفلك بعد(1/150)
الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة، ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها " فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
وأما خاتمة التطهير الأرضي فهو موعود الله لعباده المؤمنين وهي بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر".[أحمد عن تميم الداري بسند صحيح].(1/151)
وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسُئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له خلق، قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب، إذ سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينة هرقل تفتح أولاً ". يعني قسطنطينية [رواه أحمد والدارمي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة].
…………
الحرب التكتيكية
"التكتيك" هو حُسن تصريف الطاقات بما يُحقق الفوز، وفي الحرب هو توزيع القوات بالموجود من الإمكانات لضمان الانتصار.
"الحرب التكتيكية" هي القدرة على تحقيق هدف الحرب بالمتاح من الإمكانات، دون زج كل القدرات أو الطاقات، أو ما يُمكن أن يطلق عليه الاقتصاد في استخدام القدرات.
تنقسم "الحرب التكتيكية" إلى شقين: سياسي وعسكري بهما تتحقق النتائج، ومع أن الشق العسكري هو ركن ركين في كلا الشقين ومن الصعب الفصل بينهما، ولكن اللجوء إلى الحسم السياسي يُقدم:
- حرب اليهود والتكتيك السياسي:
لم يكن لليهود تواجد في مكة موطن الدعوة الإسلامية، لذلك لم يكن لهم دور في الحرب، وبانتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى دولة الإسلام، كان في المدينة ثلاثة طوائف يهودية لها حصون وقلاع وعندها رجال وسلاح، وفيها موارد وإمكانات وعندها عقائد وإيمانيات.
ومع الإسباقية القرآنية بإظهار كمائن نفوس اليهود وحقدهم وحسدهم وبغيهم، بل وكل صفات التآمر والدسائس والتي تمثل الجبلة اليهودية، وادع الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليهود، من باب التفرغ لحرب قريش، وعدم فتح جبهة قتال خارجية وظهر الجيش غير آمن من طرف اليهود.(1/152)
العداء اليهودي للإسلام أمر لا يُنكر، ولكن خوض الحرب معه في هذا الوقت لا يُناسب الحكمة ولا يسير مع المصلحة الإسلامية، فكان الخير في المصالحة، لعدة أسباب غير التفرغ لقتال قريش، فاليهود كانت لهم تحالفات مع الأوس أو الخزرج، ومقاتلتهم في البداية دون مبرر عادل، من المهاجرين حديثاً، ربما يفتح باب الشك وقد ظهر بعض آثاره حين كلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة حلفاء الخزرج أن يمن عليهم كما منَّ على بني قينقاع حلفاء الأوس، وأنزلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحكم أحدهم، فلما رضوا بسعد - رضي الله عنه - ، وكان حكمه عين حكم الله من فوق سبع سماوات رضوا وأقروا.
وادع الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليهود لأن التكتيك السياسي كان يتطلب ذلك، ومما ذكره ابن هشام في بنود المعاهدة يظهر البعد السياسي والعسكري للتحالف قال: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم... وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وإن بينهم النصح والنصحية، والبر دون الإثم ، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله - عز وجل -، وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها ، وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب ، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم ، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم .(1/153)
وما كان ليأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود بما يعلمه من أمرهم، إلا إذا ظهر من بغيهم ما ينقض عهدهم, فيُؤخذون بما ظهر منهم وهذا ما حدث، فكان تلو كل غزوة قرشية إجلاء قبيلة يهودية، وفي هذا تقسيم للقوة اليهودية إلى ثلاثة قوى، تُستأصل كل واحدة لوحدها فلا تنصر قبيلة أختها، وحتى لا تؤخذ القبيلة بجريرة غيرها، فكان التكتيك العسكري تابعاً للتكتيك السياسي ففرقهم - صلى الله عليه وسلم - بتحالفه معهم، وقد ذكر ابن هشام طرفاً من عقد الموادعة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود بما يُشتت جمعهم ويُفرق صفهم فأورد: وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف.
ثم مزق قوتهم إلى ثلاث قوى رئيسة، ثم استأصل كل قوة بما ينهي تواجدها في دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
- حرب اليهود والتكتيك العسكري:
- بني قينقاع:
الحصار: بعد نقضهم العهد سار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجند الله، ففر اليهود وتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد الحصار خمس عشرة ليلة، إلى أن قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا علي حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- بني النضير:(1/154)
الحصار مع التحريق: بعد نقضهم العهد تحصن اليهود في حصونهم، وقاموا يرشقون جيش الإسلام بالحجارة والنبل، وكانت النخيل والبساتين تعينهم على طول المكث في الحصون، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقطع والتحريق، ودام الحصار ستَّ ليال فقط وقيل خمس عشرة ليلة.
- بني قريظة:
الحصار: بعد نقضهم العهد سارت إليهم ركائب التوحيد، واستمر "جيش الإسلام" محاصراًَ بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد عين حكم الله جل في علاه.
- حرب الروم والتكتيك العسكري:
قال تعالى: " قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ " [التوبة 123]، قال ابن كثير: أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم، وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام؛ لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال.(1/155)
وقال الألوسي في روح المعاني: "لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال الأبعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء، وأيضاً الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به، وقد لا يمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب، وقال بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح. ومن هنا قاتل - صلى الله عليه وسلم - أولاً قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة والنضير وخيبر وأضرابهم، ثم إلى قتال الروم فبدأ -عليه الصلاة والسلام- بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى".
ولكن التكتيك اقتضى مبادلة الروم إعلان حربهم، فكانت أول غزوة قصدت الروم غزوة مؤتة بقيادة زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، والتي كان سببها كما قال ابن القيم: سببُها أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عميرٍ الأَزْدِى أحَد بنى لِهْب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رِباطاً، ثم قدَّمه فضرب عنقه، ولم يُقْتَل لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، فبعث البعوثَ ... فتجهَّز الناس وهُم ثلاثةُ آلاف.
ومع أن الغزوة لم تقطف المؤمل منها، وهو قتل شرحبيل بن عمرو، ولكنها ألقت الروم في ذهول من الأمر، هؤلاء الأعراب يُقاتلوا أعظم قوة أرضية؟ كيف جرؤ العرب على مجرد التفكير في محاربة الروم؟ ثلاثة آلاف يواجهوا مئة ألف وينسحبوا بلا إبادة؟!(1/156)
وهذا ما دعا الروم ألا تنام عن أثر المعركة، قال صاحب الرحيق: "وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل بعد – مقتل رسوله - سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم .
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان يرى أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان .
ونظراً إلى هذه المصالح، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة، حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة ".(1/157)
وتهيأ جيش الكفر لحرب الإسلام وأهله، وأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموقف بخطورة العدد الرومي وأعوانه العرب، وما في المدينة من عُسرة وجدب وقحط وشدة حر وبعد مسير ووعرة طريق، رغم هذا وغيره قرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - القيام بما لا يجرؤ عليه إلا نبي أو قائد على أعلى قدرة فهم للواقع وخبرة إدارية وتكتيك عسكري، قال صاحب الرحيق: "كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في "حنين" ستحيا مرة أخرى، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو وأصحابه في نشر الإسلام، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ، تذهب هذه المكاسب بغير جدوى .
كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام ".
وتجرأت الروم مرة أخرى على استفزاز المسلمين، فقتلت فروة بن عامر الجذامي والي معان في أرض الشام، فكان أن استنفر الموقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً كبيراً بقيادة أسامة بن زيد -ابن قائد مؤتة- وأمره أن يُوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين.(1/158)
وانتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلي الرفيق الأعلى وما زال الجيش لم يتحرك ليكمل المسيرة أبو بكر ومن بعده عمر - رضي الله عنهم -.
- مؤتة والتكتيك العسكري:
بعد مقتل القادة الثلاثة اصطلح المسلمون على خالد - رضي الله عنه - قائداً، لأن خالداً لا يُنسى موقفه يوم أحد، فهو الذي استطاع أن يلتف من خلف الجيش المسلم ليقلب الهزيمة إلى انتصار، فكأن تقدير الجيش صب في صالح خطة خالد في الانسحاب مع احتسابه ضمن الانتصارات، فإذا استطاع خالد في أحد الانسحاب، ثم الهجوم الخلفي المضاد فهو القادر في مؤتة أن يقلب المعيار ويحدد قدرة الجيش على المكوث ومقارعة السيوف أو الانسحاب للكر مرة أخرى، وقد وفق الله المسلمين في اختيارهم لخالد، الذي ما لبث أن حدد الخطة:
أولاً: المحافظة على المسلمين من الإبادة الجماعية، وقد ثبت المسلمون ثبوت الجبال خصوصاً بعد مقتل القادة الثلاثة، وفي ذلك تكسرت بيد خالد تسعة أسياف.
ثانياً: تكتيك الانسحاب، ووضع له خطة عبقرية عجز الخصم عن استيضاح معالمها، فبقي في موقعه ينتظر، لعل المكيدة تظهر، فكانت الخطة:
1- غير الوجوه فقلب الميمنة ميسرة والقلب مؤخرة والعكس، وفي هذا إرباك للخصم بتغيير الوجوه فيُظن أن مدداً قد أتى.
2- أخر بعض الكتائب لتأتي على صورة مدد، مع جلبة خيل قوية وغبار شديد ليوهم الخصم أن مدداً يرِد كل حين.
3- بحماية القلب انسحب الجناحان، ثم بحماية الجناحين انسحب القلب، لينسحب الجيش كله والروم تترقب لعله فر ثم كر أو هو كمين يجرهم إليه المسلمون، وانتظروا لعل خالداً يعود، ليرجع بجيشه بخسائر لا تتجاوز اثني عشر رجلاً، لينقذ الجيش الإسلامي من سحق مؤكد وإبادة متيقنة.
- تبوك والتكتيك العسكري:(1/159)
قال الصلابي في السيرة النبوية: لقد استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- على غير عادته في غزواته- هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال بني الأصفر (الروم), علما بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها, ولا يصرح بهدفه ووجهته وقصده, حفاظًا على سرية الحركة ومباغتة العدو.
وقد استدل بعض العلماء بهذا الفعل على جواز التصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة -على غير العادة- بالجهة التي يريد غزوها وجلا هذا الأمر للمسلمين لأسباب, منها:
1- بعد المسافة، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدرك أن السير إلى بلاد الروم يعد أمرًا صعبًا؛ لأن التحرك سيتم في منطقة صحراوية ممتدة قليلة الماء والنبات، ولا بد - حينئذ- من إكمال المؤنة ووسائل النقل للمجاهدين قبل بدء الحركة؛ حتى لا يؤدي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود.
2- كثرة عدد الروم, بالإضافة إلى أن مواجهتهم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة, وقدرتهم القتالية فائقة.
3- شدة الزمان، وذلك لكي يقف كل امرئ على ظروفه, ويعد النفقة اللازمة له في هذا السفر الطويل لمن يعول وراءه.
4- أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة.
لقد شرَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا الأخذ بمبدأ المرونة عند رسم الخطط الحربية، ومراعاة المصلحة العامة في حالتي الكتمان والتصريح, ويعرف ذلك من مقتضيات الأحوال.(1/160)
- حرب قريش والتكتيك العسكري:
حركة العداء القرشية للدعوة الإسلامية أمر من الشهرة بحيث يُستغنى عن ذكر معالمه، من أذى وتعذيب وطرد وقتل، والمسلمون مأمورون بالصبر، وحتى بعد توافد الحلف الأنصاري وإعلانه حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه الجديد، استأمروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُغيروا علي أهل مِنى بأسيافهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم نؤمر بذلك".
وحين انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عاصمة الإسلام جاء الأمر الرباني بالبدء بالقتال، فتحرك القائد الرباني ينفذ أمر الله:
- الإغارة على قوافل قريش بحرب اقتصادية أرقت مضجع قريش وأرهقتها، مما اضطرها للخروج من موطنها لتقاتل في بدر.
- موادعة القبائل العربية واليهود ليتفرغ لحرب قريش.
- استهداف قريش بالحرب فقط، دون سائر العرب إلا من سولت له نفسه حرب المدينة.
- قطع موارد قوتها من يهود وأعراب وإبقاؤها في الساحة القتالية وحدها.
- الدخول معها في مصالحة إن وافقت على وضع الحرب بشرط الاعتراف بحق المسلمين في المقدسات.
- التكتيك الحربي:
1- سرايا الإغارة على القوافل تكونت من عدد محدود يتناسب مع حجم المهمة، في سرية حمزة إلي سيف البحر ثلاثين مقابل ثلاثمائة، وفي سرية عبيد بن الحارث إلى رابغ ستين مقابل مائتين.
2- اليقظة لحركة التجارة وبث العيون بما يأتي بالأخبار.
3- سرعة التجهيز للسرايا.
4- السرية في التحرك.
5- عدم تجاوز الحد المسموح به في التحرك، كما في سرية سعد بن أبي قاص إلى الخرار وقد عهد إليه ألا يتجاوزها.
ويصعب في هذه العجالة دراسة تكتيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العسكري في كل غزواته مع قريش وغيرها، لما تجلت فيها من القدرة القيادية السامية في تصريف القدرات وصرف الإمكانات بما يحقق الفوز، وباستعراض "أحد" على وجه السرعة:(1/161)
- التكتيك النبوي ينبع من الاستشارة لقادة الجيش والقبائل، فإذا كان النجاح فهو من نصيب الجميع، وان كان غير ذلك فالكل في تحمله سواء ولا يُضاف لسجل القائد فقط.
- تخير طريق المرور بما لا يحدد مسار الجيش، واختيار زمان التحرك في الليل.
- تخير مكان تعسكر الجيش، بما يضمن عدم فرار الجيش ووضع الخصم في صيغة "فكي الكماشة".
- توزيع الكتائب والرايات بما يناسب الطاقات والقدرات.
- فتح باب الانتساب للجيش حتى تنافس الصبيان فيما بينهم على القتال.
- كل جندي يقاتل تحت راية قومه، لئلا يفر ويترك قبيلته، وليفتح باب التنافس في الثبات والانتصار.
- تحديث أسلوب القتال باستخدام النظرية الدفاعية في الرماة، مع الهجوم من الجيش جميعاً.
- الالتجاء للجبل وجعله في ظهر الجيش مع الرماة فوقه، يضمن عدم الالتفاف على الجيش من الخلف.
- القتال بأمر القائد فقط.
وتتبع التكتيك العسكري في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدقائقه وعظائمه أمر يعجز عنه البيان، فهو الملهم - صلى الله عليه وسلم - وحسبه أنه نبي.
الحرب التوسعية
فان النظرة الشمولية على مجريات الأحداث بالجملة تُوضح أهمية العقيدة في حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتُسلط الضوء على الحنكة والخبرة القيادية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تدل على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواقف عدة، وتدل على السياسة الحربية التي اعتمدها وخلفاؤه من بعده، ثم إنها توضح قاعدة جد مهمة وخطيرة، وهي عدم فتح الجبهات دفعة واحدة بل كانت مراحل نسوقها باختصار واجتهاد في التقسيم والمسلم يُعذر بتقصيره، والكمال لله وحده.
"الحرب التوسعية" هي استهداف بؤرة الصراع ثم الانطلاق في دوائر أوسع ليشمل الجميع، ولكن حسب نظرية دقيقة في الانطلاق للتوسع، أو استجابة متأنية ومتروية لأفعال الخصوم حتى لا يتم الاستدراج، أو دقة في توظيف الحدث بما يخدم الهدف الأساسي.(1/162)
- المرحلة الأولي: بدأت من سرية سيف البحر، وهي أول السرايا في الإسلام وانتهت بسرية نخلة: وفي هذه الفترة:
- الانتقال من حالة الضعف إلى حالة القوة، وهو إعلام وإنذار للعرب وقريش أن في المدينة قوة جديدة يُحسب لها حساب، وهو ما حدث في غزوة سفوان لتأديب كرز بن جابر الفهرى ومعاقبته على غدره وإغارته على مراعي المدينة، وما حدث في سرية عبد الله بن جحش وقتالهم في الأشهر الحرم مع إنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفعل، ولكن ما جاء قرآناً أثار الرعب في نفوس العرب فضلاً عن قريش، وكأن لسان حالهم ينطق: أن هؤلاء المسلمين لا قانون يمنعهم ولا أعراف تضبطهم.
- رسالة لقريش أن من في المدينة لا ينام على عدوه، وهو متأهب للإغارة عليه متى سنحت له الفرصة، وهو ما أشعر قريشاً بالخطر المحدق بتجارتهم إلى الشام، فقد خرجت سرية سيف البحر وسرية الخرار وغزوة الأبواء أو ودان وغزوة بواط وغزوة ذي العشيرة وسرية نخلة لاعتراض عير قريش وغنيمة القافلة، كل هذا في أشهر معدودة.
- إثارة الرعب في نفوس المشركين، فحجم السرايا وسرعة تحركها وبُعد موطئها عن المدينة وحنكة المقاتلين المسلمين في القتل والأسر، ثم الرجوع سالمين أثار حفيظة الكفار عن حجم وقدرة خصمهم، وهو ما يعني رسالة مبطنة باستحالة قدرة قريش على اللحوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة أو القضاء عليه، فإذا كان في خارج دياره ينغص عليهم طريق تجارتهم بإغاراته المتكررة، فكيف سيفعل بهم لو أرادوا غزوه.(1/163)
- تهييئ نفسية الصحابة لتقبل الوضع الجديد، وضع المواجهة الحربية المتتالية، فقد كانت سرية سيف البحر في رمضان من السنة الأولى للهجرة، ثم سرية رابغ في شوال من نفس السنة، ثم سرية الخرار في ذي القعدة من نفس السنة، ثم غزوة الأبواء في صفر من السنة الثانية، ثم غزوة بواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية، ثم غزوة سفوان في نفس الشهر، ثم غزوة ذي العشيرة في جمادى الأولى من نفس السنة.
- إقامة التحالفات مع العرب على الامتناع عن حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إعانة عدوه عليه، وهو الطريق الذي كان يسلكه مجدي بن عمرو الجهني بحجزه للقتال بين الصفين في سرية سيف البحر لأنه كان حليفاً للفريقين، وفي غزوة الأبواء عقد عمرو بن مخشي الضمري سيد بني ضمرة معاهدة حلف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي غزوة ذي العشيرة عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة.
- قصد قريش بالحرب دون غيرها من العرب، إلا ما جاء عرضاً كتأديب " كرز" على خيانته.
- المرحلة الثانية: من غزوة بدر إلى غزوة الخندق:
وإنما تم اعتبارها بداية لمرحلة جديدة لأنها أول مواجهة بين جيشين معبأين للقتال، وان كان عدم التهيؤ للمعركة هو نصيب الجيش الإسلامي، ولكن الله أرادها – والحكمة فيما أراد سبحانه- أن تتحول من طلب للعير إلى نفير ومواجهة، ومما يتم تلخيصه للاستفادة من هذه الفترة:
-غزوة بدر كانت رسالة واضحة المعالم أن في المدينة قوة لا تقل عن قوة قريش إن لم تزد عليها، وهي تعني قيام دولة قوية بذاتها، وان حاول بعض الأعداء التقليل أو التهوين من حجم الانتصار كفعل اليهود والمنافقين والعرب، ولكنها تبقي حقيقة مجردة لا تحتمل التأويل، خصوصاً أن قريشاً ليس مما يُستهان بها في المعارك وقد خسرت سبعين من فلذات أكبادها قتلاً وسبعين أسراً.(1/164)
-غزوة بدر عنت للجميع أن هذه الدولة الفتية ليست ممن يُسامح في حقه أو يتغافل عن تحصيله، وكيف تغفل عن حقها وقد طردت قريش رجالاتها شر طردة، واغتصبوا أموالهم واحتلوا دورهم.
- التفاني بين المهاجرين والأنصار بل والذوبان في بوتقة واحدة، قطع أدنى أمل لاحتمال خذلان رجال المدينة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ورجال المدينة أهل شوكة وحرب، وهو ما يعني حساب ألف حساب لمن يفكر في وأد هذه الدولة الوليدة.
- كان بعض العرب يتأهب لغزو المدينة نهباً وسرقة، واختلفت السياسة النبوية بعد بدر بما يسمى بالحرب "الدفاعية الهجومية"، وهو ما حدث في غزوة بني سليم لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمعهم لمحاربة دولة الإسلام، وهو ما مثَّل توسعاً في مفهوم الحرب بحيث يشمل العرب بعد أن كان متوقفاً فيه في المرحلة الأولى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحرب كانت موجهة لمن يقصد المدينة بالغزو وليس للعرب قاطبة.
- بعد بدر كانت غزوة بني قينقاع وهو أول تطهير لطائفة يهود من المدينة لنقضهم العهد، وهو ما يعني توسعاً في المواجهة، فبعد أن كان العدو قريش في المرحلة الأولي، أصبح الآن ضمن الأعداء اليهود.
- حاول أبو سفيان غزو المدينة ولكنها كانت محاولة سرية اتصل فيها بسلام بن مشكم سيد بني النضير، وأغاروا على ناحية من المدينة وقطعوا وحرقوا بعض النخل وقتلوا رجلين وفروا، فتبعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما سُمي بغزوة ذي أمر فأقام عند الماء شهراً أو ما يقارب، ليعلم العرب بقوة المسلمين ويبث الرعب والرهبة في قلوبهم.(1/165)
- ومما كان في هذه المرحلة: قتل كعب بن الأشرف اليهودي لما كان من هجوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتأليب الناس عليه بإثارة أحقادهم، فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "محمد بن مسلمة" في ثلة من أصحابه، فقتلوه وأتوا برأسه ليلقوها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثار هذا الموقف سحائب الرعب التي أمطرت على صدور اليهود، فلم يحركوا ساكناً لمقتل رئيسهم خوفاً ورعباً من الموقف، وعلموا وفهموا الرسالة جيداً أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحبه لن يتوانوا للحظة في قتل كل من تسول له نفسه إثارة القلاقل وزرع الفتن أو نقض المواثيق.
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في غزوة بحران يريد قريشاً كما ذكره ابن هشام واختاره ابن القيم وأغلب الظن أنه أراد عيراً لها، ثم كانت سرية زيد بن حارثة وهي أكبر وأنجح سرية ضد تجارة قريش، فقد غنمها المسلمون كلها وفر الحرس وأسر قائدها، وأصابت الفاجعة قريشاً في مقتل باستهداف كبريائها وعزها بين العرب، فلم تجد أمامها إلا طريق الموادعة والصلح أو طريق المواجهة لاسترداد بعضٍ من كرامتها التي داسها المسلمون، فكانت غزوة أحد.(1/166)
- بعد هزيمة قريش في بدر وفشل أبي سفيان في غزوة السويق، جاءت القطرة التي أفاضت الكأس بخسارة قريش للقافلة على يد زيد بن حارثة، فتحركت فيهم نوازع الثأر واشرأبت فيهم كوامن الفخر والخيلاء على العرب، فتجهزت قريش لغزو المدينة حسماً للخلاف مع الإسلام عن طريق المواجهة المباشرة، فكانت المعركة على تفاصيلها وانتصار المسلمين في أول المعركة ثم تحول المعركة لصالح قريش، واكتفت قريش بانتصارها على الجيش ولم ترد إقحام جيشها في المدينة لاعتبارات لا تخفى على أدنى قائد عسكري، فاكتفوا بالنصر المؤقت على أنه توازن في المعارك كما أشار إليه أبو سفيان في معرض حديثه مع هرقل، ثم ندم المشركون على عودتهم دون استئصال شأفة المسلمين وهذا رأي الأغلبية المتحمسة بل والمتهورة، وقد خالفهم صفوان بن أمية مما يدل على تقديره لخصمه فقال: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف من الخروج فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، وجاء معبد بن معبد الخزاعي فخذلهم عن رأيهم.
- مكنت غزوة أحد في نفوس بعض الطامعين في خيرات المدينة رغبة الإغارة على المدينة، فأثرت سلباً على مجريات التوسع النبوي، فانتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حالة "الهجوم" إلى حالة "الدفاع الهجومي"، وقد كان رسول الله والصحابة لهذه التحركات العربية بالمرصاد، فاستطاعوا قتلها في مهدها بفضل الله ثم نقل الأخبار الجيد والدقيق والسريع، كسرية أبي سلمة إلي بنى أسد وسرية عبد الله بن أنيس لقتل خالد الهذلى، وخروجه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة نجد تأديباً لبني محارب وبني ثعلبة من غطفان.
- استخدم العرب بعض الحيل والخدع لاستنزاف طاقة المسلمين وهو تجرؤ غير مسبوق، صاغته أحداث أحد مثل مأساة الرجيع ومأساة بئر معونة.(1/167)
- وكان من تأثير "أحد" مجاهرة بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداء بعد أن كان مستخفياً، بل وتجرؤوا على محاولة قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ذلك بمثابة إعلان الحرب ونقضهم العهد، فسارت إليهم جند الله ونزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُجلوا عن المدينة، وغنم المسلمون سلاحاً ومالاً كثيرا، وقد كانت غزوة بني النضير استرجاعاً لهيبة المسلمين بعد الأحداث المتتالية التي لحقت بهم، ومكنت من سلطان المسلمين في المدينة وأشارت إلى هشاشة التحالفات مع الكفار، وضعف روابط الصلة بين اليهود أنفسهم، فقد خذلهم بنو قريظة وكلاهما قد خذل بني قينقاع من قبل.
- وجاء موعد بدر الثانية وتجهز "جيش الإسلام" لملاقاة قريش في الموعد، وكذلك أبو سفيان، ثم تخاذل أبو سفيان وخار عزمه ووهنت قوته فاحتال لهم وعليهم بقوله: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا.
ويبدو أن هذه النزعة قد تملكت نفوس الجيش قبل قول أبي سفيان، فما أبدوا أي تردد في الرجوع ولا أظهروا إصراراً على المضي قدماً لحرب المسلمين، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه ينتظر ثمانية أيام، ثم قفل راجعاً إلى المدينة وقد علمت العرب بما حدث مما أعاد الهيبة والرعب التي فُقد بعضها في "أحد".
- احتشد بعضٌ من الأعراب بدومة الجندل يريدون غزو المدينة، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الكريمة وألف من المسلمين، حتى فاجئوهم في عقر دارهم وقد تفرقوا في كل حدب ولم يستطيعوا مواجهة، وفيها وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيينة بن حصن.(1/168)
- في هذه الفترة استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيطرة على الموقف وصرف الأحداث لصالح الدعوة الإسلامية، واسترد مهابته في نفوس الأعراب ومكن للمسلمين في المدينة بإجلاء قبيلتين من ثلاثٍ من اليهود، وخنس الأعراب وتخلت قريش عن فكرة استئصال المسلمين، بل وأيقنت استحالة تفردها بالقدرة على مواجهتهم فكانت غزوة الخندق.
- لم يرتح اليهود لما لحق بهم من هزائم متتالية، فخرجوا يؤلبون قريشاً وغطفان وخيبر، ولكل منهم هدف ومقصد، أما قريش فلاستعادة هيبتها وزعامتها بين قبائل العرب خصوصاً بعد تخلفها عن الموعد في بدر الآخرة وإشاعة ذلك بين العرب، وغطفان بطمعها في خيرات المدينة، واليهود لاستعادة الذي فقدوه بعد الاجلائين عن المدينة، ناهيك عن العداء المبدئي للدين الجديد والدعوة الإسلامية، فتحالفوا واتجهوا نحو المدينة ليضعوا حداً وحلاً نهائياً لدولة الإسلام، واتخذ الموقف الدفاعي من قبل المسلمين بحفر الخندق ثم جرت المناوشات أياماً ولم يحدث صدام مباشر، وتحركت أفاعي الغدر والخيانة اليهودية لتضرب ضربتها من الخلف بنقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشتد الموقف وضاق الحال، فاهتدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يخذل به غطفان بمصالحتهم على ثلث ثمار المدينة، ومع ذلك قوبل الموقف بالرفض من سيدي الأنصار وآثرا الحرب فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند رأيهما، وقدر الله بجنود من عنده أن يُخذل الأحزاب بعضهم بعضاً لما وقع من شك في نوايا اليهود وقريش، وقرر أبو سفيان الرجوع بجيشه لترك أحلافه من اليهود يواجهون مصيرهم بما كسبت أيديهم، وقد حسمت الأحزاب مسألة إمكانية قهر دولة الإسلام، بل استحالة التفكير في غزوهم وسار الخبر بين العرب، لتبدأ مرحلة جديدة.
- المرحلة الثالثة: من غزوة قريظة إلى سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين:(1/169)
وأهم معالمها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اليوم نغزوهم ولا يغزونا" مما يعني الانتقال إلى حالة أخرى من حالات القتال وهي حالة الهجوم، بعد أن كانت تدور بين الهجوم الدفاعي أو الدفاع أو التأديب والعقوبة لمن يسئ لدولة الإسلام، ولكنها الآن توسيع لمفهوم الحرب ليشمل طوائف أوسع ضمن إطار الكفر.
- كانت قريظة آخر معاقل اليهود في المدينة وبتحالفها مع الأحزاب ونقضها لعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلنت الحرب على دولة الإسلام، فألحقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسابقتيها من معاقل اليهود: بني قينقاع وبني النضير، ولكن حكمهم اختلف لما كان في نقضهم للعهد في زمن الحرب من كسر لمعنويات المسلمين- والخيانة في زمن الحرب غيرها في زمن السلم كما هو مقرر عند الجميع- فناسبتهم عقوبة أشد من إخوانهم، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاتلتهم وسبي نسائهم وغنم أموالهم، وبذلك خلت المدينة من أي عنصر كافر سوى المنافقين والذين يظهرون الإسلام.
- توالى بسط النفوذ العسكري والميداني حول المدينة، وقد تمثل في سرية عبد الله بن عتيك في خمسة رجال لقتل سلام بن أبي حقيق من أكابر اليهود والذين تحزبوا مع الأحزاب، أي أن المرحلة أخذت تأديباً لكل من سولت له نفسه مهاجمة المدينة، وأيضاً حددت منحى اليهود باعتبارهم في مصاف قريش.(1/170)
- مما يدل على تغير السياسة في معاملة العرب، ما حدث في غزوة بني لحيان الذين غدروا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجيع، ولمَّا كانت أرضهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة والتارات وحالة العداء على أشدها بين المسلمين من ناحية وقريش والأعراب من ناحية أخرى، لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة التوغل إلى هذا الحد بالقرب من مكة، ولكن بعد الأحزاب اختلفت الرؤية، للرعب الذي دب في نفوس قريش والأعراب وضآلة من يواجه المسلمين بالقياس بين القوتين، فسار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفروا حين علموا بمقدمه، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومين بأرضهم، وبعث عشرة فوارس إلى كراع الغميم لتسمع به قريش.
- واتسعت دائرة استهداف الأعراب فخرجت السرايا تقصد الأعراب في دورهم، كسرية عكاشة بن حصن إلى الغمر، وسرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة، وسرية زيد بن حارثة إلى الجموم، وغيرها من الغزوات في تلك الفترة والتي كانت تستهدف العرب خاصة.
- ما زالت بقايا الأنفة العربية تسيطر على نفوس بعض الأعراب، فأرادوا تجميع من يسير على منوالهم لحرب الدين الجديد، من ذلك ما أراده الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق الذي جمع بعضاً من الأعراب لغزو المدينة، وقد حسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموقف بأن سار قبل خروج الحارث بمن معه من الأعراب، فأغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مائهم وسبى ذراريهم وأموالهم.
وتوالت السرايا بين داع للإسلام كسرية عبد الرحمن بن عوف إلى بني كلب بدومة الجندل، أو تأديباً لبعض من يحاول جمع الجموع لغزو المدينة كسرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بفدك، أو عقابية كسرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الغنم فتمكن منهم جيش الإسلام، وقُطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم.(1/171)
- المرحلة الرابعة: من صلح الحديبية إلى سرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة:
استقر الوضع للمسلمين في المدينة بأكملها، وهدأ الوضع العربي عموماً يأساً من محاولة مواجهة المسلمين، ودخلت أفاعي اليهود في جحورها فلم تستطع خلق دسائس أو زرع فتن أو تحريضاً على حرب المسلمين، فآثروا الدعة المؤقتة لعل الأمور تتبدل، وجاء العهد الجديد من عهود دولة الإسلام، فمن غير الطبيعي أن تبقى أفئدتهم تهفو لقبلتهم وهم ممنوعون عنها، ومن غير المنطق أن يتسلط عليها من يُشرك بالله ويُمنع عنها كل موحد بالله، وأُري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه دخوله وأصحابه المسجد الحرام، فاستبشر المسلمون، واستنفر الصحابة وبعض العرب والكثير أبطأ، وكان تحدياً بكل معنى الكلمة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم - لم يخرجوا بسلاح حرب بل بسلاح مسافر، وهذا يعني تمكن المهابة من نفوس العرب وقريش واليهود بحيث لن يجرؤوا على قتالهم أو قطع الطريق عليهم، وآلت قريش الموادعة لعلمها أنه لا قِبل لها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجيشه، فوادعته على أن يرجع عامه هذا ويأتي العام القابل ليحافظ على بقايا ماء وجهها أمام العرب، فلا يُقال دخل مكة عُنوة، وقريش قوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يبغي رسول الله تحقير قومه، فإذا كان هناك مجال للصلح فالركون إليه أفضل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" [البخاري عن المسور ومروان]، ووقع صلح الحديبية على ما فيه من بنود ليفتح آفاق العمل الإسلامي الجديد.
- بصلح الحديبية خرجت قريش من دائرة المواجهة، وهو يعني انكسار أهم ركن من أركان الكفر وانخذاله أمام المسلمين، فانطلق العمل الإسلامي على شقين:(1/172)
1- سلمي: بدعوة أهل الأرض إلى الإسلام بمكاتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لملوك الأرض، وهو ما يعني الإعلان الدولي عن ميلاد دولة الإسلام.
2- حربي: وتمثل ببسط النفوذ على الجزيرة العربية فكانت غزوة خيبر قطعاً لدابر ثاني قوة بعد قريش، وأول قوة ألبت العرب في الأحزاب، ولما أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جانب قريش بحيث لن تنصر اليهود ولن تطعنه من الخلف إذا سار لخيبر، تحرك لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه وقهرها بسيف الإسلام، فكانت بمثابة الهدية للمسلمين الذين لم تطب أنفسهم لمنعهم من دخول مكة, وهي حنكة متناهية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقدير لقوة جيشه وتصريفه لطاقات رجاله في حرب الكفار، فكان فتح خيبر ونزولهم على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خدماً للمسلمين في أرضهم يزرعونها ويرسلون خيراتها للمدينة، وبذلك تم حسم ثاني قوة في الجزيرة، بحيث لن تعود بعد اليوم قوة تواجه الإسلام.
- تجلت الخبرة الإدارية العسكرية في أبهى صورها في إدارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حين خلت المدينة من الجيش، وبعض اللصوص وقطاع الطرق من الأعراب حول المدينة قد تهفو أفئدتهم وتسول لهم أنفسهم الإغارة على المدينة، فكانت سرية أبان بن سعيد إلى نجد لإرهاب الأعراب حتى يتفرغ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغزوة ذات الرقاع والتي قطعت دابر الأعراب المتفرقين في الأودية والشعاب الذين يقومون بأعمال القرصنة كلما سنحت لهم الفرص، وبهذه الغزوة تم حسم موقف الأعراب فلم يجرؤوا بعدها على رفع رأسهم أمام المسلمين، واستكانوا رويداً رويداً حتى أسلموا وحاربوا مع المسلمين في فتح مكة.(1/173)
- خرجت بعض السرايا لتبسط النفوذ الدائم على القبائل العربية وتقطع آخر أوردة الفتنة في قلوب الأعراب، كسرية عمر بن الخطاب إلى تربة، وسرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار، وسرية أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة، وبذلك علمت العرب أن لا مناص من مسالمة الدولة الإسلامية، فلم يبق في نفوس العرب أدنى أمل في إمكانية قدرتهم على حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودولته، وبذلك تم بسط النفوذ الإسلامي على الجزيرة العربية على أنها القوة "رقم واحد" بين العرب، خصوصاً بعد استسلام قريش وانهزام اليهود ليبدأ عهد جديد من مراحل الدعوة الإسلامية.
- المرحلة الخامسة: من عمرة القضاء إلى سرية أبى قتادة إلي خضرة:
وابتدأت بعمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى البيت الحرام لأول مرة منذ الهجرة، وقد كانوا من قبل مستخفين ولكنهم اليوم بكل إباء وعزة، يخرج المشركون إلى جبل قعيقعان ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبيت، وما يستطيعون منعاً لهذا الركب الإيماني، وبذلك علمت قريش والعرب جميعاً أن مكة ستعود لأحق الناس بها قريباً.
- وخرجت السرايا ولكنها ليست كسابقاتها فهي الآن تدعو الأعراب للإسلام قبل قتالهم، كسرية ابن أبي العرجاء إلى بني سليم، وسرية كعب بن عمير إلى ذات أطلح.
- وخرجت بعض السرايا تذكيراً للأعراب أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى من تجرأ على حربه ولابد للعقاب أن ينزل بساحته يوماً، كسرية شجاع بن وهب إلى بني هوازن.(1/174)
- بعد انحسار قوة المشركين من العرب والكفار من اليهود، حان الوقت لبسط النفوذ العالمي، فكانت غزوة مؤتة وهي مقدمة وتمهيد لفتح الروم وبسط الإسلام على العرب ثم النصارى، ومع قوة المعركة واستبسال القادة والجند وانحسار المعركة بحيث لم تُحسم لأحد الطرفين، ولكنها تركت أثراً كبيرا لسمعة المسلمين، فالروم أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض ومن يجرؤ على مجرد التفكير في طرح رأيه بوجهها فكيف بمواجهتها؟ وبمن؟
ثلاثة آلاف مقاتل أمام مئتي ألف مقاتل!
ثم ترجع هذه القوة والتي لا تُقاس بعدد الخدم في الجيش الرومي دون أن تتكبدها هزيمة!
إنها عجيبة الدهر وقف أمامها العرب والروم مشدوهين، لا يستطيعون تفسيراً إلا تفسير الإيمان والعقيدة، وهذا ما دعا القبائل إلى الركون إلى القوة الجديدة فدخلت بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها في الدين الجديد.
- بخطوة غير مسبوقة على المستوى العربي بل والعالمي، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرواً بن العاص في غزوة ذات السلاسل تأديباً للعرب على مشارف الشام والتي تحالفت مع الروم في مؤتة، وهو ما يعني رسالة إلى العرب: لن يأمن أحد إن لم يكن في حلف محمد- صلى الله عليه وسلم - ، ومن يفكر بإبقاء تحالفه مع الروم أو الفرس فلا يأمن جانبنا والسرايا له بالمرصاد، وهو ما عنى قيام قوة ثالثة بتحالفات جديدة: دولة الإسلام، فارس والروم، ولا سواء.
- كانت نهاية هذه المرحلة بسرية أبي قتادة إلى خضرة من بني غطفان، لتعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده سجل المتحالفين مع قريش واليهود في الأحزاب، وموعد عقابهم الصبح وما هو ببعيد.
- المرحلة السادسة: من غزوة فتح مكة إلى غزوة الطائف:
إنها مرحلة بسط النفوذ الإسلامي الفعلي والواقعي ومما كان فيها:(1/175)
- من الممتنع أن يُصلي المسلمون لقبلة يسوسها أهل الشرك والكفر من قريش، ومن المحال أن يكون بلداً حراماً وأهله مشركون وكفى بالشرك استباحة للحرمات، فكانت الغزوة بمقدمة ألزمت قريش بها نفسها عن طريق الموافقة على إقامة التحالفات بين قريش ومن تريد من العرب، وبين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومن شاء من العرب، فلما عدت بنو بكر حلف قريش - بعلم قريش وحتى لو كان دون علمها فالحكم واحد- على خزاعة حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان يعني انهيار صلح الحديبية والرجوع إلى حالة الحرب المعلنة بين الطرفين، وقد حاولت قريش جاهدة تجديده ولكن الوقت لم يكن هو ذاته، فليست قريش الآن ممن يستطيع أن يمنع محمداً - صلى الله عليه وسلم - وصحبه عن فتح مكة، لتكون كلمة الله هي العليا، وقد كان بفضل الرحمن.
- كان من أهم معالم هذه المرحلة إفراد الله بالألوهية وتكسير الأصنام، وقد خلت مكة من الأصنام، وسارت سرايا التوحيد إلى الجوار، فكانت سرية خالد بن الوليد إلى "العزى" ليهدمها وهي أعظم صنم لقريش وجميع بني كنانة، وسرية عمرو بن العاص إلى "سواع" ليهدمه وهو صنم هذيل، وأرسل سرية سعد بن زيد إلى "مناة" ليهدمها وهي صنم الأوس والخزرج وغسان.(1/176)
- فتح مكة أفرز واقعاً جديداً فبعد تفرد قريش بالهيمنة على البيت الحرام دون سائر العرب، على أنها حامية دين إبراهيم - عليه السلام -، جاء المسلمون ليهدموا هذا المعتقد ويعلنوا أنهم أحق الناس بدين إبراهيم والبيت الحرام، والقضاء على وثنية قريش يعني القضاء على وثنية العرب فهم تبع لها في دينها، فما ملكت القبائل إلا الاستسلام والرضا بهذا الأمر الواقع، إلا بعض القبائل النائية المتغطرسة والمتكبرة، فتحالفت بطون هوازن وقطيف ومن ركب مركبهما كآخر محاولة لاستنقاذ العروبة من حكم الإسلام، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أركان الكفر في الجزيرة العربية ثلاثة: قريش الرأس، وخيبر وغطفان الجناحين، وقد تم القضاء على الرأس والجناح فلم يبق إلا الآخر، وهو ما يعني بسط النفوذ الإسلامي كاملاً إذا حُسمت المعركة لصالح المسلمين أمام غطفان وهوازن، وما كان يغفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تحرك القبائل وتحالفها، فسار من مكة متوجهاً إلى "حنين" حيث تقابل الجيشان في معركة حامية الوطيس، ترجح فيها النصر مبدئياً لصالح الوثنين ثم مالت كفة المسلمين وانتصروا عليهم، وقُطع دابر الذين كفروا والحمد لله رب العالمين.
- تتابعت حركات المطاردة بعد حنين تتعقب فلول الفارين من القبائل، فساروا إلى الطائف ونخلة وأوطاس، وكانت النتيجة النهائية انكسار الشرك وأهله ودخولهم في دين الله، وعليه فلم يبق في الجزيرة العربية قوة بإمكانها أن تواجه دولة المدينة، ليبدأ عهد جديد.
- المرحلة السابعة: بعد الرجوع من الفتح من سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم إلي سرية علي بن أبي طالب إلى صنم "طئ":
وهي فترة قصيرة ولكن معالم تحرك السرايا فيها يدل على التوسع الكبير في إرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشمل العرب جميعاً، فقد تحركت ست عشرة سرية إلى القبائل العربية، بعضها يدعو للإسلام ويُقاتل من لم يُسلم، كسرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.(1/177)
- خرجت بعض السرايا حفاظاً على الأمن في الجزيرة، كسرية علقمة بن مجزر المدخلي لتأديب بعض رجالٍ من الحبشة اجتمعوا على أعمال القرصنة والإغارة على القوافل التجارية، وهذا توجه جديد لبسط الأمن وكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصَّب نفسه- ويحق له ذلك- حارساً على الجزيرة العربية.
- خرجت بعض السرايا لتكمل مهمة هدم الأصنام العربية، كسرية علي بن أبي طالب إلى "قلس" صنم طئ.
- كان من معالم هذه المرحلة وصول سرية علقمة بن مجزر لسواحل جدة على البحر الأحمر، وسرية العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وسرية زياد بن لبيد إلى حضرموت، فإذا أضيف إليها ما وصلت إليه جحافل التوحيد في مؤتة، فإن هذا يعني اتساع دائرة الإسلام لتشمل كل الجزيرة العربية.
- حسمت هذه المرحلة وجود أي قوة عربية تفكر ولو مجرد تفكير بقتال المسلمين، ولم يبق أمامهم إلا الإسلام أو الترقب على خوف ووجل إلى أين يؤول المصير، وبذلك حُسمت القوة للمسلمين، لتبدأ مرحلة توسع جديدة تتعدى الجزيرة العربية.
- المرحلة الثامنة: من غزوة تبوك إلى سرية أسامة بن زيد:(1/178)
بعد الفراغ من العرب توجه نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الروم لأنهم أولاً أقرب الناس إليه من حيث الموقع، وأقربهم للإسلام ديناً قياساً بالمجوسية في الفرس، والله تعالى يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ " [التوبة 123]، مع وجود دوافع أخرى من ضمنها قتل الروم لرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما حدث في مؤتة من انحسار الطرفين دون حسم للمعركة لصالح المسلمين مع أنها حققت الانتصار المعنوي للمسلمين، وما كان قيصر ليغفل عن أثر مؤتة فتجهز للقضاء على دولة الإسلام قبل تمكنها من الجزيرة العربية، ومع الضعف وقلة الإمكانات التي تزامنت مع تحرك الروم، أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دقة الموقف وضرورة التحرك لتتم المواجهة الخارجية فما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فكان التحرك إلى تبوك بما سُمي "جيش العسرة" ونزل المعسكر الإسلامي بتبوك، أما الرومان وحلفاؤهم من العرب فقد أخذهم الرعب من تحرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجيشه ليتفرقوا في البلاد، وبذلك حققت تبوك انتصاراً ساحقاً للمسلمين مع أنهم لم يُقاتلوا بسيف، فقد أيقنت العرب حلفاء الروم أن لا فائدة من كل التحالفات السابقة، وأن المستقبل لهذا الدين، وعلمت العرب أن الروم لا تقوى على حرب دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأيقنوا بانتهاء عهد الشرك والوثنية في الجزيرة العربية وهو ما سيتضح في عام الوفود.
- جاء يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه الجزية، وكذلك فعل أهل جرباء وأهل أذرح – وهؤلاء ضمن أحلاف الروم سابقاً- فكان هذا نهاية عهد التبعية لروما والانطلاق بعهد جديد بالتحالف مع المدينة.(1/179)
- انطلق خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل وأتى به صاغراً وأقر بإعطاء الجزية وقاضاه - صلى الله عليه وسلم -، مع يحنة صاحب أيلة على قضية دومة وتبوك وأيلة وتيماء، وبذلك توسع النفوذ الإسلامي ليقف مباشرة على تخوم الروم.
- بعد تبوك حُسم الصُراع بين الإسلام والوثنية، وكُسرت شوكة الأعداء، وأُطفئت نار الفتنة، وبُسط الأمن في ربوع الجزيرة، وحج أبو بكر بالمسلمين، وجاء التنزيل بسورة "براءة" لتعلن للعرب أن وثنيتكم مؤقتة، والمطلوب من الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
1- نبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأجَّل أربعة أشهر.
2- من لم يكن بينه وبينهم عهد، فمدته أربعة أشهر أيضاً.
3- الذين بينهم وبين المسلمين عهد ولم ينقضوا أو يُظاهروا على الإسلام فمدتهم إلى انتهائها.
وبعث أبو بكر منادياً: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، وبذلك انتهت الوثنية في الجزيرة العربية، وعُلم أنها لا تُبدئ ولا تُعيد.
- وتوالت الوفود دخولاً في دين الله أفواجاً، ومن كثرتها سُمي العام التاسع باسم عام الوفود، ومع أن هذا لا يُلغي مقدم بعض الوفود قبل هذا التاريخ، ولكن الكثرة أضفت الصفة على هذا العام، وبذلك دخلت الجزيرة في الإسلام وخلت من الشرك والوثنية والحمد لله رب العالمين، لتبدأ مرحلة جديدة: مرحلة التوسع العالمي.
- المرحلة التاسعة: ما بعد الوفاة:(1/180)
لم يكتف الروم بقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يد أحد أعوان الروم شرحبيل بن عمرو الغساني، وقتل الرُسل يعني إعلان حالة الحرب بل يزيد، وما تبع ذلك من غزوات كمؤتة وتبوك، فتجرؤوا على قتل فروة بن عمرو الجذامي والي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معان، ونظراً لهذا التبجح الرومي جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً يغزو به الروم، وأمره أن يُوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يرهب به الروم ويعيد العرب إلى الحسابات الجديدة بالتحالف مع الدولة الإسلامية، وهذه رسالة لم يألفها العرب أن تتحرك الدولة بجيشها نُصرة لفرد من المسلمين، في الوقت الذي كانت تزج فيه الكنيسة عرب الشام ضد عرب العراق، كل منهم ينصر سيده، هذا الروم وذاك الفرس، وسادتهم لا يرتد لهم طرف ولا يهفو لهم جفن للمقتلة العظيمة بين العرب، ووصلت الرسالة ووثق العرب بقوة هذا الدين وأتت السرية بما كان يُؤمل منها.
وسارت ركائب الإيمان خليفة تلو خليفة وقيادة تتبع قيادة، فجمع أبو بكر - رضي الله عنه - الجزيرة على ما كانت عليه من الإسلام بعد ردتها فور بلوغها نبأ وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أُخليت الجزيرة من اليهود ولم يبق فيها غير دين الإسلام على يد عمر - رضي الله عنه - إلا بعض دافعي الجزية، وسارت الجيوش تجوب الأقطار ففتحت العراق والشام وتعدتها لتفتح إفريقية وتخترق أوروبا.
وسارت ركائب أخرى تغزو البحر لتفتح قبرص ورودس في البحر المتوسط ليتحول العرب إلى سادة البر والبحر.
وتسير أخرى إلى فارس وأذربيجان وسجستان وأذربيجان.
وأخرى إلى الصين والسند والهند.(1/181)
كلٌ يسير بركائبه ليسطر في التاريخ أروع وأطهر وأسرع حركة ملكت المشرق والمغرب، وما زال في الأمر متسع، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله زوى لي الأرض، أو قال: إن ربي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها، وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض..."[مسلم عن ثوبان - رضي الله عنه -].
الحرب الخداعية
حين تتملك إرادة الحرب النفوس يحرص كل طرف على الوصول لأقصى أهدافه بأقل الإمكانات والخسائر، وهو ما يُلجئ القائد العسكري لتخير أقصر الطرق للوصول إلى النصر، أو على الأقل الانسحاب بأقل الخسائر، وفي سبيل الوصول للسيادة والانتصار يضطر القائد للتعامل مع المصطلحات والمفاهيم بطريقة مغايرة عما ألفه العادي في زمن السلم، ومنه مسألة جواز الكذب والخداع والحيلة والمكر، فإنها صفات سلبية إلا في أضيق الحدود فهل تبقى على المعني المألوف في أذهان الناس، أم أنها تأخذ بُعداً آخر في زمن الحرب.
في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة"، قال الإمام النووي في شرحه على مسلم: "واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع"، وقال ابن حجر في الفتح: "وأصل الخداع إظهار أمر وإضمار خلافه، وفيه – أي الحديث– التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار"، وقال ابن المنير كما نقله ابن حجر: "معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر".(1/182)
وقال العسكري:"أراد أن المُمَاكرة في الحرب أنفع من المكاثرة، فهو كقول بعض الحكماء إنفاذ الرأي في الحرب أنفع من الطعن والضرب، وكالمثل السائر إذا لم تغلب فأخلب أي اخدع، وقال بعض اللغويين: معنى خدع أظهر أمراً أبطن خلافه، ومنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا غزوة وَرّى بغيرها".
وإنما تجوز المخادعة على ما فيها من تمويه وإظهار خلاف المبطن، للحاجة التي تضطر المسلم للوصول إلى هدفه وحفاظاً على جنده وجيشه، فالعدو يتربص الدوائر وهو حريص على تكبيد الجيش المسلم أعلى الخسائر، فضلاً عن حرصه على تحويل الانتصار لصالحه، لذلك جاءت الشريعة الغراء لتفتح باباً أُغلق بين المسلمين، بل دعتنا إليه ورغبتنا فيه كما هو صريح الحديث وهو ما اتفق عليه العلماء كما نقله النووي.
قال ابن قدامة: تجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره, لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"الحرب خدعة", ولما روي أنّ عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - لمّا بارز عمرواً بن عبد ودٍّ قال له علي: ما برزت لأقاتل اثنين, فالتفت عمرو, فوثب علي فضربه, فقال عمرو: خدعتني, فقال علي كرّم اللّه وجهه: "الحرب خدعة".
- صور من خداع الأعداء ليحذر المسلم من المكر:
وقد حرص الأعداء عليهم لعائن الله المتتالية إلى يوم القيامة على الخداع لتحقيق أهدافهم، وقد اعتمدوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرتين وهما مما يدل على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله فاقتضت حكمة الله أن يحدث ما حدث:(1/183)
ذكر الإمام ابن القيم في زاد المعاد: قَدِمَ قَوْمٌ مِن عَضَلٍ والقَارةِ، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألُوهُ أن يَبْعثَ معهم مَن يُعَلِّمُهم الدِّينَ، ويُقرئهُمُ القُرآن، فبعث معهم سِتَّة نَفَرٍ في قول ابن إسحاق، وقال البخاري : كانُوا عشرة، وأَمَّر عليهم مَرْثَدَ بنَ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِى [كذا في سيرة ابن اسحاق وفي الصحيح عن أبي هريرة: وأمر عليهم عاصم بن ثابت وما في الصحيح أصح كما قال محقق الزاد]، وفيهم خُبيب بنُ عدى، فذهبوا معَهم، فلما كانُوا بالرَّجِيع، وهو ماءٌ لهُذَيْلٍ بناحيةِ الحِجاز غدرُوا بهم، واستصرخُوا عليهم هُذيلاً، فجاؤوا حتَّى أحاطُوا بهم، فقتلُوا عامَّتَهُم، واستأسرُوا خُبَيْبَ بْنَ عدِىٍّ، وزَيْدَ ابن الدّثِنَةِ، فذهبُوا بهما، وباعُوهما بمكة، وكانا قَتلا مِن رؤوسهم يَوْمَ بدر، فأما خُبيب، فمكث عندهم مسجوناً، ثم أجمعُوا قتله، فخرجُوا به مِن الحَرَمِ إلى التنعيم، فلما أجمعُوا على صَلبه، قال : دَعُونى حَتَّى أَرْكَع رَكْعَتَيْنِ، فتركُوهُ فصلاهما، فلمَّا سَلَّمَ قال : واللهِ، لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا إنَّ مَا بى جَزَعٌ، لَزِدْتُ، ثُمَّ قال : "اللَّهُمَّ أَحْصِهمْ عَدَداً، واقْتُلْهُمْ بِدَدَاً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أحداً" [ البخاري وأحمد].(1/184)
وفى هذا الشهر بعينه، وهو صفر من السنة الرابعة، كانت وقعة بِئر مَعُونة، وملخَّصُها أن أبا براء عامِرَ بنَ مالك المدعو ملاعبَ الأسِنَّة، قَدِم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فدعاه إلى الإسلام، فلم يُسلم، ولم يبعد، فقال : يا رسولَ اللهِ، لو بعثتَ أصحابَك إلى أهلِ نَجْدٍ يدعونهُم إلى دِينك، لرجوتُ أن يُجيبُوهم ، فقال : "إني أخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْد" ، فقال أبو براء : أنا جارٌ لهم، فبعث معه أربعينَ رجلاً في قول ابن إسحاق [وفى الصحيح : أنَّهم كانُوا سبعينَ، والذي في الصحيح : هو الصحيح ]، وأمر عليهم المنذر بن عمرو... وكانوا من خِيار المسلمينَ وفُضلائهم، وساداتِهم، وقرائِهم، فسارُوا حتى نزلوا بئر مَعُونة، وهى بين أرض بني عامر، وحرَّة بني سُليم، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حَرامَ بنَ ملحان بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدوِّ الله عامِر بن الطفيل، فلم ينظُرْ فيه، وأمرَ رجلاً، فطعنه بالحربةِ من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدَّمَ، قال : فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، ثم استَنفَرَ عدوُّ اللهِ لِفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يُجيبُوهُ لأجل جِوار أبى بَراء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّةُ وَرِعْلٌ وذَكْوَانُ، فجاؤوا حتى أحاطُوا بأصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقاتلُوا حتى قُتِلُوا عن آخرهم إلا كعبََ بنَ زيدِ بن النجار، فإنه ارتُثَّ بين القتلى، فعاش حتَّى قُتِل يومَ الخندق، وكان عمرو بن أُمية الضمرى، والمنذرُ بن عقبة بن عامر في سَرْح المسلمينَ، فرأيا الطيرَ تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد، فقاتلَ المشركين حتى قُتِلَ مع أصحابه، وأُسِرَ عَمرُو بن أُمية الضَّمْرِى، فلما أخبر أنه من مُضَر، جَزَّ عامِر ناصيتَه، وأعتقه عن رقبة كانت على أُمِّه، ورجع عمرُو بن أمية، فلما كان بالقَرْقَرَةِ مِن صدرِ قناة نزل في ظِلِّ شجرة، وجاء رجلان من بني(1/185)
كِلاب، فنزلا معه، فلما ناما، فتكَ بهما عمرُو، وهُو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهدٌ مِنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يشعُرْ به، فلما قَدِمَ، أخبر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بما فعلَ، فقال : " لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلينِ لأَدِيَنَّهُمَا" .
فكان هذا سببَ غزوة بني النضير، فإنه خرج إليهم لِيعينوه في ديتهما لما بينه وبينهم من الحلف، فقالوا : نعم، وجلَس هو وأبو بكر وعمر وعلى، وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا، وقالوا : مَن رجلٌ يُلقِى على محمَّدٍ هذه الرَّحى فيقتله؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جِحاش لعنه الله، ونزل جبريلُ مِن عند رب العالمين على رسولِهِ يُعلمه بما همُّوا به، فنهض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن وقته راجعاً إلى المدينة، ثم تجهَّز، وخرج بنفسه لِحربهم.
وقد أراد اليهود المخادعة من أول الأمر فقد أجلسوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجانب الحائط وأظهروا أنهم ذاهبون ليأتوا بالمال، ثم اجتمعوا وقرروا قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الطريقة الخداعية، والتي كانت وليدة اللحظة أو ما يمكن أن يسمى: "توظيف الحدث"، ولكن الله أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بمكرهم وأنجاه منهم.
- التورية كنوع من المخادعة:(1/186)
في الزاد وابن هشام: ثم خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم، وهُوَ بين أمَج وعُسفان حيث كان مُصابُ أصحابه، فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسَمِعَتْ بنو لِحْيَان، فهربُوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر مِنهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يَقْدِرُوا عليهم، فسار إلى عُسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغَمِيم لِتسمعَ به قُريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبتُه عنها أربعَ عشرة ليلة .
وفي الزاد والطبقات: سرية عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكباً، فيهم عبد الله بن أنيس إلى يسير بن رِزَام اليهودى، فإنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يجمع غَطفان لِيغزوه بهم، فأتوه بخَيْبَر فقالوا: أرسلنا إليك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليستعملك على خَيْبَر، فلم يزالوا حتى تَبِعَهم في ثلاثين رجلاً مع كُلِّ رجل منهم رديفٌ من المسلمين، فلما بلغوا قَرقرة نِيار وهى من خَيْبَر على ستة أميال ندم يسير، فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله بن أنيس، فزجر بعيره، ثم اقتحم عن البعير يسوقُ القوم حتى إذا استمكن مِن يسير، ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفى يده مِخرشَ من شوحط، فضرب به وجه عبد الله فشجَّه مأمومَة، فانكفأ كُلُّ رجل من المسلمين على رديفه، فقتله غيرَ رجل مِن اليهود أعجزهم شداً، ولم يُصَبْ مِن المسلمين أحدٌ، وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبصق في شجَّة عبد الله بن أنيس، فلم تَقِحْ، ولم تُؤذه حتى مات .
- الخداع للتفريق بين الأعداء:(1/187)
جاء عند ابن هشام وغيره ممن كتب في السيرة، أن نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - حين أسلم في الأحزاب، قام بخداع اليهود والمشركين ليفرق بينهم في قصة مشهورة معروفة ملخصها أنه أتى بني قريظة، فخدعهم بقوله بضرورة أخذ رجال من سادة قريش حتى لا تتركهم قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رجعوا إلي ديارهم، ثم جاء قريش وأخبرهم أن يهود ندمت على حلفها مع قريش، واتفقت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسلمه رجال من كبار قريش ليقتلهم دليلاً على ندمهم وتكفيراً على غدرهم، فلما أرسلت يهود لقريش تطلب رجالاً يبقون عندهم لحين انتهاء الحرب، قال المشركون: صدق "نعيم" ولم يسلموهم الرجال، وبذلك وقع التخوين بين الطرفين وزُرعت بذور الشك بينهما.
والحق أن القصة مع شهرتها مكذوبة لم تثبت بالأدلة الصحيحة، بل الصحيح أن "نعيم" نفسه وقع في شرك الخديعة الذي أوقعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان "نعيم" مخدوعاً، وقام بدافع حبه لنقل الكلام إلى بث الحديث الذي سمعه في نفوس المشركين وما كان أحدهم يُكذّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقول، وقد كان مشهوراً بذلك عند الجميع، وأخذ المشركون بقوله نقلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعندهم: محمد لا يكذب، والقصة بتلخيص واختصار كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح بذاته وبالمتابعات والشواهد:(1/188)
كان نعيم بن مسعود مأموناً عند قريش واليهود، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني كنت عند عيينة بن حصن الفزاري وأبي سفيان بن حرب إذ جاءهم رسول بني قريظة أن اثبتوا، وابعثوا إلينا رجالاً حتى نقاتل محمداً مما يلي المدينة، فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم، وتقاتلونه أنتم مما يلي الخندق، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحاطة الأعداء بالمدينة من الخارج ونقض اليهود للعهد وحربهم من الداخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلعلنا أمرناهم بذلك"، فظنها "نعيم" مكيدة من اليهود واتفاق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق من منطلق شهوته لإذاعة السر ونشر الحديث ليبلغ الكلمة إلى غطفان قومه، فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأياً منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"بل هو رأي رأيته، إن الحرب خدعة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليّ الرجل، ردوه"، فردوه فقال: "أرأيتك الذي سمعتني أذكره آنفا؟! أمسكتُ عنه، فلا تذكره لأحد"، وفي ذلك إغراء وترغيب بنقل الكلام، فانطلق نعيم حتى أتى عيينة، فقال:هل علمتم أن محمداً قال شيئا قط إلا حقاً، قالوا: لا، قال: فإنه قد قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة: "فلعلنا نحن أمرناهم بذلك"، ثم نهاني أن أذكر لكم.
فانطلق عيينة بن حصن حتى لقي أبا سفيان بن حرب فأخبره، فقال أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكرا، فأرسل إلى بني قريظة: أنكم قد أمرتمونا أن نثبت، وطلبتم رجالاً منا يقاتلوا معكم، وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها قد دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان:إنما أنتم في مكر من بني قريظة، وإنهم لأهل غدر: فارتحلوا.(1/189)
والقصة بتفصيلها وإبطال القصة المشهورة في "حرب التخذيل".
- جواز الخداع في عمليات الاغتيال:
والحديث – أي الحرب خدعة- يشمل قطع الدابر ومنع الصائل وما يصون المسلمين من جمع العدو لجيش أو تأليب القبائل على الحرب، فإذا استطاع المسلم عن طريق الخدعة منع الكفار أو الفساق من حرب الإسلام وأهله، كان العمل بالحديث واجباً، فقد جاء في حديث قتل كعب بن الأشرف جواز الكذب، للنيل من العدو والذي كان جرمه أذية الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتشبب بنساء المسلمين وتحريض العرب على حرب المدينة، جاء في الزاد والحديث في الصحيحين في قتل كعب بن الأشرف وكان رجلاً مِن اليهود، وأُمُّه مِن بنى النضير، وكان شديدَ الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يُشَبِّبُ في أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعةُ بدر، ذهب إلى مكة، وجعل يُؤَلِّبُ على رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فإنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ ورَسُولَهُ" ، فانتدب له محمدُ بنُ مَسْلَمَة، وعَبَّادُ بْنُ بِشْر، وأبو نَائِلة واسمه سِلْكَانُ بْن سلامة، وهو أخو كعبٍ من الرضاع، والحارث بن أوس، وأَبُو عَبْسِ بنُ جَبر، وأذن لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه في ليلة مُقْمِرَةٍ، وشيَّعهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَقيع الغَرْقَدِ، فلما انْتَهوا إليه، قدَّموا سِلْكَانَ بْنَ سَلاَمة إليه، فأظهر له موافقته على الانحرافِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشَكا إليه ضِيقَ حاله، فكلَّمَهُ في أن يَبيعه وأصحابَه طعاماً، ويَرْهَنُونَه سِلاحَهم، فأجابَهم إلى ذلك ، وَرَجَع سِلْكَان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوْه، فخرج إليه مِن حِصنه، فَتَماشَوْا، فوضَعُوا عليه سُيُوفَهم، ووضع(1/190)
محمدُّ بن مَسْلَمَة مِغْولاً كان معه في ثُنَّتِهٍ، فقتله.
وقد تكرر هذا الفعل مع فيروز الديلمي حين قتل الأسود العنسي، وكما قتل عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الهذلى، وكما في سرية عبد الله بن رواحة لقتل اليسير بن رزام - أو رازم- والروايات مبسوطة في "حرب الاغتيالات".
- جواز الخداع للوصول إلي الحق:
في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة" تعميم دون الحصر في التقاء الصفوف وتقابل الزحوف، بل يتعداه لما يصل فيه المسلم إلى حقه الشرعي، منه ما ذكره ابن القيم في الزاد وعبد الرزاق وعنه أحمد بسند صحيح: قال موسى بن عقبة وغيره : وكان بينَ قريش حين سمعوا بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبرَ تَرَاهُنٌ عظيم، وتبايع، فمنهم مَن يقول : يظهر محمدٌ وأصحابُه، ومنهم يقول : يظهر الحليفان ويهودُ خيبر، وكان الحجَّاج بن عِلاط السُّلمى قد أسلم وشَهِدَ فتح خيبر، وكانت تحتَهُ أُمُّ شيبة أختُ بنى عبد الدار بن قُصَىّ، وكان الحجاجُ مُكثِرَاً مِن المال، كانت له معادِن بأرضِ بنى سُليم، فلما ظهر النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - على خيبر، قال الحجاج بن عِلاط : إن لى ذهباً عِند امرأتى، وإن تعلم هي وأهلُها بإسلامى، فلا مال لى، فَأْذَنْ لى، فلأسرع السَّيرَ وأسْبقِ الخبر، ولأخبِرَنَّ أخباراً إذا قدمت أدرأُ بها عن مالى ونفسى، فأَذِنَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَلما قَدِمَ مكة، قال لامرأته : أخفى عليّ واجمعى ما كان لى عندكِ مِن مال، فإنى أريد أن أشترىَ مِن غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استُبيحُوا، وأُصيبت أموالُهم، وإن محمدَاً قد أُسِرَ، وتفرَّق عنه أصحابُه، وإن اليهودَ قد أقسموا : لَتَبْعَثَنَّ به إلى مكة ثم لتقتُلَنَّه بقتلاهم بالمدينة، وفشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين، وبلغ منهم، وأظهر المشركون الفرحَ والسرورَ، فبلغ العباسَ عمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زَجَلَةُ النَّاس(1/191)
وجَلَبَتُهم، وإظهارُهم السُّرور، فأراد أن يقوم ويخرج، فانخزل ظهرُه، فلم يقدر على القيام... وحشر إلى باب داره رجالٌ كثيرون من المسلمين والمشركين، منهم المظهِرُ للفرح والسرور، ومنهم الشامِتُ المغرى، ومنهم مَنْ به مثلُ الموت من الحُزْن والبلاء، فلما سمع المسلمون رجزَ العباس وتجلُّدَه، طابت نفوسُهم، وظن المشركون أنه قد أتاه ما لم يأتهم، ثم أرسلَ العباسُ غلاماً له إلى الحجاج، وقال له : اخلُ به، وقل له : ويلَك ما جئتَ به، وما تقول، فالذى وعَد الله خيرٌ مما جئتَ به ؟ فلما كلَّمه الغلامُ قال له : اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له : فَلْيَخْلُ بي في بعض بيوته حتى آتيَه، فإن الخبرَ على ما يَسُرُّه، فلما بلغ العبدُ باب الدار، قال : أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباسُ فرحاً كأنه لم يُصبه بلاءٌ قطُّ، حتى جاءه وقبَّل ما بين عينيه، فأخبره بقول الحجاج، فأعتقه، ثم قال : أخبرنى . قال : يقولُ لك الحجاج : اخْلُ بِهِ في بعض بيوتِك حتى يأتيكَ ظهراً، فلما جاءه الحجاج، وخلا به، أخذ عليه لتكتمَنَّ خبري، فوافقه عباس على ذلك، فقال له الحجاج : جئتُ وقد افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، وغنم أموالهم، وجرت فيها سهامُ الله، وإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفى صفيَّةَ بِنت حُيَىّ لنفسه، وأعرسَ بها، ولكن جئتُ لمالى، أردت أن أجمعه وأذهب به، وإنى استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول، فَأَذِنَ لى أن أقول ما شئت، فأخْفِ علىَّ ثلاثاً، ثم اذكرْ ما شئت . قال : فجمعت له امرأتُه متاعه، ثم انشمر راجعاً، فلما كان بعدَ ثلاث، أتى العباسُ امرأة الحجاج، فقال : ما فعل زوجُكِ ؟ قالت : ذهب، وقالت : لاَ يَحْزُنْك اللهُ يا أبا الفضل، لقد شقَّ علينا الذي بلغك . فقال : أجل، لا يَحْزُنُنى الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أُحِبُّ، فتح اللهُ على رسوله خيبرَ، وجرت فيها سهامُ الله، واصطفى رسولُ الله -(1/192)
صلى الله عليه وسلم - صفيَّة لنفسه، فإن كان لكِ في زوجك حاجة، فالحقى به . قالت : أظنُّك واللهِ صادقاً . قال : فإنى واللهِ صادق، والأمرُ على ما أقول لك . قالت : فمن أخبرك بهذا ؟ قال : الذي أخبركِ بما أخبركِ، ثم ذهب حتَّى أتى مجالسَ قريش، فلما رأوه، قالوا : هذا واللهِ التجلُّدُ يا أبا الفضل، ولا يصيبُك إلا خير ، قال : أجل لم يُصبنى إلا خيرٌ، والحمد لله، أخبرنى الحجَّاج بكذا وكذا، وقد سألني أن أكتُمَ عليه ثلاثاً لحاجة، فردَّ الله ما كان للمسلمين مِن كآبة وجَزَع على المشركين، وخرج المسلمون مِن مواضعهم حتى دخلوا على العباس، فأخبرهم الخبرَ، فأشرقت وجوهُ المسلمين .
قال ابن القيم في الزاد: جوازُ كذب الإنسانِ على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمَّن ضرَر ذلك الغير إذا كان يُتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجَّاحُ بن عِلاط على المسلمين، حتى أخذَ مالَه مِن مكة مِن غير مضرَّة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال مَن بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدةٌ يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميلَ الفرح والسرور، وزيادةَ الإيمان الذي حصل بالخبرِ الصَّادِق بعد هذا الكذب، فكان الكذبُ سبباً في حصول هذه المصلحة الراجحة، ونظيرُ هذا الإمامُ والحاكمُ يوهِمُ الخصمَ خلافَ الحق لِيتوصل بذلك إلى استعلام الحقِّ، كما أوهم سليمانُ بن داود إحدى المرأتين بِشَقِّ الولد نِصفين حتى توصَّل بذلك إلى معرفة عَيْن الأُم .
- الخداع للتعمية على العدو:(1/193)
أخرج مسلم حديث حذيفة - رضي الله عنه - وذهابه للاطلاع على خبر قريش في الأحزاب وفي رواية الحاكم والبزار زيادة:... فانطلقت إلى عسكرهم فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، قد تفرق الأحزاب عنه، حتى إذا جلست فيهم فحسب أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، قال: ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، فضربت بيدي على الذي على يميني وأخذت بيده، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده، فلبثت هنيهة، ثم قمت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- الخداع للتقليل من قدر الخصم، وإظهار سفاهة رأيه وصغر مداركه:
أراد أبو سفيان تجديد عقد الحديبية بعد اعانة قريش لبني بكر حلف قريش على خزاعة حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن القيم في الزاد : ثم خرج أبو سفيان حتى قَدِمَ المدينة، فدخل على ابنتِه أُمِّ حبيبة، فلما ذهب لِيجلس على فِراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طَوَتْهُ عنه، فقال : يا بُنية؛ ما أدرى أَرغبتِ بى عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنى ؟ قالت : بل هو فِراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت مُشرك نَجَسٌ، فقال : واللهِ لقد أصابك بعدى شر .(1/194)
ثم خرج حتى أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكلَّمه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، ثم ذهبَ إلى أبى بكر، فكلَّمه أن يُكَلَّمَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : ما أنا بفاعل، ثم أتى عُمَرَ بنَ الخطاب فكلَّمه، فقال : أنا أشفعُ لكم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فواللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به، ثم جاء فدخل على عليٍّ بن أبى طالب، وعنده فاطمَةُ، وحسن غلامٌ يَدِبُّ بين يديهما، فقال : يا عليّ إنك أمسُّ القومِ بى رحماً، وإني قد جئتُ في حاجة، فلا أرْجِعَنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لى إلى محمد، فقال : ويحك يا أبا سُفيان، واللهِ لقد عزم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيعُ أن نُكَلِّمَه فيه، فالتفتَ إلى فاطمة فقال : هَلْ لَكِ أَنْ تأمُرى ابْنَك هذا، فيجير بينَ الناس، فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : واللهِ ما يبلغُ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : يا أبا الحسن، إني أرى الأُمورَ قد اشتدت علىَّ، فانصحنى، قال : واللهِ ما أعلم لك شيئاً يُغني عنك، ولكنك سَيدُ بني كِنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال : أَوَ ترى ذلك مغنياً عني شيئاً، قال : لا واللهِ ما أظنه، ولكنِّي ما أجد لك غيرَ ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس؛ إني قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئتُ محمداً فكلَّمتُه، فواللهِ ما ردَّ عليَ شيئاً، ثم جئتُ ابن أبي قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتُ عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدُو، ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار عليَّ بشئ صنعته، فواللهِ ما أدرى، هل يُغني عني شيئاً، أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس، ففعلتُ، فقالُوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلَك، واللهِ إن(1/195)
زاد الرجلُ على أن لعب بك، قال : لا واللهِ ما وجدتُ غير ذلك .
ومن التطبيقات العملية من الصحابة - رضي الله عنهم - لنظرية الخداع الحربي ما فعله سيف الله "خالد " في معركة مؤتة، وكيف غير أماكن الجند وأرسل بعض الجند ليأتوا على أنهم مدد، ثم انسحب بجيشه دون أن يلحقه عدوه، ظناً منهم أنها مكيدة ليستدرجهم خالد، والغزوة مذكورة مشهورة في كتب السيرة والتاريخ.
………
الحرب الدفاعية
في الوسيط: دَفَعَ الشيءَ: نَحَّاهُ وأزالَهُ بقُوَّة. وفي التنزيل العزيز: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ "[البقرة 251]، وعليه فالحرب الدفاعية هي حرب دحر للعدو وتنحية عن مخططه وصد عن هدفه.
قد يطول الحديث في هذا النوع من الحروب بحيث يعجز الكاتب عن الاختصار، وطول الحديث ينبع من التنبيه على كل حدث والوقوف عنده للنظر فيه، والعجيب أن الهجوم لا يأخذ هذا الحيز لاعتبارات منها:
- في حالة الدفاع: المهاجم هو صاحب القرار، والمدافع ليس بيده حيلة إلا الصمود.
- في حالة الدفاع: تُستنزف كل القدرات والطاقات، أما في الهجوم فتوزع حسب الحاجة.
- في حالة الدفاع: يصعب تحديد اتجاه المعركة، أما في الهجوم فالقائد هو الذي يحدد البوصلة، فيضغط علي جهة ليخفف عن الأخرى أو العكس.
وغير ذلك من الاعتبارات التي تؤثر على سير المعركة، وربما يكون من أهمها بل أهمها أن الجندي يحمل عبء حماية الدولة، فكلٌ على ثغر والكل يخاف أن يُؤتى من قبله، وهل كل الجنود يصلح لهذه المهمة؟ أما في حالة الهجوم فيتم الاختيار بناءً على الكفاءات والقدرات.
- "غزوة أحد" وخطة الدفاع:
سبب المعركة:(1/196)
كان لبدر الوقع العظيم على قريش فمصابها بصناديدها أكبر من أن تحتمله دفعة واحدة، ثم إن الهزيمة ساحقة بكل معنى الكلمة، ففيها خسرت قريش هيبتها، وفيها أُعلن عن ميلاد دولة الإسلام وفيها أُعلن طور جديد من المواجهة، من الاستضعاف إلى القتال، مع ما سبقه من غارات على قوافل قريش أرقت مضاجعهم، مع إبطاء في فداء الأسرى كسر أنف كبريائهم، ثم كانت القطرة التي أفاضت الكأس أو الشرارة التي أتت على الهشيم، خسارة قريش لقافلة كاملة على يد زيد بن حارثة - رضي الله عنه -.
لهذه الأسباب وغيرها عزمت قريش على القضاء على قوة الدولة الجديدة، أو على الأقل استعادة بعضٍ مما فقدته في المعركة الأولي:
وأعلن زعماء مكة الحرب، وأول ما فعلوه أن جعلوا قافلة أبي سفيان بما فيها – التي نجت في بدر- وقوداً للحرب القادمة وقالوا للذين كانت فيها أموالهم : يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالى : "إن الذين كفروا يُنفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون" [ الأنفال : 36 ].
واجتمع ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، معهم خمس عشرة امرأة للتأليب والتحريض والتحميس، بثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس جنبوها طول الطريق لتبقى في كامل صحتها وقوتها، مع سبعمائة درع، بقيادة أبي سفيان والقيادة العسكرية لخالد.
عدد رهيب بإمكانات هائلة لم تعهدها العرب في ذلك الحين، أن يجتمع هذا العدد بهذه القدرة القتالية، وكأنها حرب شاملة تبيد الخضراء وتستبيح البيضة.
وتحرك الجيش ووصلت أخبار التحرك والأعداد والتفاصيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن طريق عمه العباس - رضي الله عنه -، وبوصول الخبر:
- أُعلنت حالة التأهب القصوى فكان الرجال لا يفارقون أسيافهم حتى في الصلاة.(1/197)
- وأُنشئت فرقة من الأنصار لحراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- ومجموعات ترابط على مداخل المدينة.
- وأخريات تجوب الطرقات خوفاً أن يؤخذوا على حين غرة.
وتحرك جيش الشرك حتى عسكر قريباً من أُحد، ونقلت الاستخبارات النبوية أنباء التحرك أولاً بأول حتى مكان التعسكر، وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلس الشورى العسكري، وأخبرهم عن رؤيا رآها، فقال : " إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة "، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يُقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة .
وكان من رأيه - صلى الله عليه وسلم - التحصن في المدينة وعدم الخروج، فإن قدم المشركون قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان من رأي الصحابة الخروج، حتى قالوا : يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم .
وكان مما قاله حمزة - رضي الله عنه -: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً، حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة .
واتفق الرأي على الخروج مع رغبةٍ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقاء، ولكن لما رأى عزمهم علي الخروج وافقهم، ولبس الرسول - صلى الله عليه وسلم - السلاح وظاهر بين درعين، وحين خرج إليهم وجدهم قد وجدوا في أنفسهم على أنفسهم شيئاً، فقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : استكرهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج، فرُدوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له : يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه - الدرع - أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ".(1/198)
وقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه إلى ثلاث كتائب :
1 . كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير العبدري .
2 . كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيداً بن حضير .
3 . كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحُبَاب بن المنذر .
بقوام ألف مقاتل بمائة درع وليس فيهم من الفرسان أحد، وقريب من معسكر العدو انقلب المنافق "ابن أُبي" بثلث الجيش قائلاً: ما ندري علام نقتل أنفسنا ؟ والحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسمع لرأية بالبقاء في المدينة، وكذب عدو الله فهو الآن يريد تفرقةً للصف وتمزيقاً للجيش، خاصةً وأنهم على مرمى حجر أو قريباً من العدو، ولولا عناية الله لنجح الخبيث فيما خطط له سادة الشياطين من الجن والإنس، فقد همت طائفتان - بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سرى فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالى : "إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [ آل عمران : 122 ] .
وواصلت بقية الجيش المسير تقصد جبل أحد والذي يحول معسكر المشركين بينهم وبينه فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من رجل يخرج بنا على القوم من كَثَبٍ من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ "، فقال أبو خَيثَمةَ : أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أحد يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب .
- خطة الحرب:
1- نزل الجيش الإسلامي في عدوة الوادي من جبل أحد، وعليه فمعسكر المشركين الآن في الوسط بين الصف الإسلامي وبين المدينة، ولذلك اعتبارات:
- هذا يضمن الثبات وعدم الفرار باتجاه المدينة، وما كان الصحابة ليفروا - رضي الله عنهم -، ولكن لا يضيرنا أن نتعلم.(1/199)
- وهذا يضمن عدم التقدم باتجاه المدينة، فملاحقة الجيش الإسلامي في حالة الانهزام، يعني الابتعاد عن المدينة.
- وفي هذا تضييق على المشركين بما يسمي: "فكي الكماشة"، فالتطويق بين المسلمين وبين المدينة، يُوقع الرعب في الصف المشرك خوفاًَ من مقدم مدد يحاصرهم.
2- رماة قوامهم خمسين من خيرة الرماة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقائد الرماة : " انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك "، وقال للرماة : "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا "، وفي رواية البخاري أنه قال : " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم " .
إنها الثغرة الوحيدة التي بإمكان المشركين أن يتسللوا من خلالها، ويلتفوا على الجيش من الخلف، وبهذا فها هي الثغرة تُغلق وإمكانية الالتفات والتطويق تفشل.
3- على الميمنة المنذر بن عمرو، وعلى الميسرة الزبير بن العوام، يُسانده المقداد بن الأسود، وللزبير مهمة الصمود والثبات في وجه الفرسان، وفي المقدمة والمبارزة خيرة الرجال كعلي وحمزة والزبير.(1/200)
قال صاحب الرحيق: ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - العسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا، فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فإنه حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمي ميسرته وظهره - حين يحتدم القتال - بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين - ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه، وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوض النقص العددي في رجاله باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين .
- الرماة والدفاع عن الجيش:
في الرحيق: وكانت للفصيلة التي عينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات؛ ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث .
ودارت الكفة وانكشف الجيش الوثني وأقبلت ريح الهزيمة تزكم أنوف المشركين، وكادت المعركة أن تُحسم لجيش الإسلام، ليظهر من صنيع الرماة خطأ كلف الصحابة هزيمة وقتل العظام من رجال الإسلام، بل قارب أن يكون سبباً لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/201)
طمع الرماة بالغنائم ونزلوا يجمعونها، وقد خالفوا الأوامر الصارمة بعدم التحرك أو مغادرة المكان حتى لو تخطف الطير الجيش، ولكن قدر الله وما شاء فعل، قالوا لبعضهم : الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون ؟
وقال عبد الله بن جبير قائدهم: أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
ويخالفون للمرة الثانية القائد ليقولوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، ويغادر أربعة أخماس الرماة الموقع ليغنموا، وثبت عبد الله بن جبير بأقل من عشرة.
وانتهز خالد الفرصة ودار من خلف الجبل واستبسل ابن جبير بمن بقي معه من الرماة ولكن عددهم لا يسمح، وثبت المشركون بل التفوا تحت راية عمرة بن علقمة الحارثية ليطوقوا المسلمين بين شقي الرحى: وهو ما كان يحذر منه - صلى الله عليه وسلم -.
- حالة الدفاع عن الجيش يقودها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه:
حين التف خالد بفرسانه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه - في مؤخرة المسلمين، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين، إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان : إما أن ينجو - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد .
وهنا تجلت عبقرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته منقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه : "إليَّ عباد الله " ، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق .
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون .[الرحيق المختوم].
- الدفاع عن الدين، والبطولات النادرة:(1/202)
وانقلب الموقف ودارت رحى الحرب لصالح أهل الصنم، واختلط الحابل بالنابل والجراب بالقراب، حتى وقع القتل من المسلمين بالمسلمين كما حدث مع اليمان أبو حذيفة رضي الله عنهما، وطارت إشاعة مقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الجمع وتمزق الصف، واستبسلت البقية دفاعاً عن دينها وظهرت البطولات التي تُعجز الخيال عن تخيلها، ليقول ويفعل وهو صادق القول والفعل أنس بن النضير، قال لمن يبكي ويتباكى على مقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ما تنتظرون ؟ فقالوا : قُتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال : ما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال : اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال : أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس : واهاً لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، فقاتل وقاتل قتلاً ليعجز البيان عن وصفه، وتخون الذاكرة ليضيع وصفه، ولا تعرفه إلا أخته من بنانه بعد طمس معالم الجسد بين طعن الرماح وضرب السيوف ورمي السهام بثمانين أو يزيد.
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال : يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم .
فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال : يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم.(1/203)
بهذه الشجاعة الفريدة والمتميزة عادت الأرواح إلى الجادة وعرفت أن الثبات سبيل الانتصار، فنجحت في الانفلات من التطويق، وتجمعت من جديد حول مركز قوي خصوصاً بعد تفنيد شائعة قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزادهم ثباتاً ورسوخاً وعزماً، على المضي قدماً في طريق الانتصار، وهناك فريق شغله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه وهي الطائفة التي التفت حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحميه بنفسها في بطولات يشهد الأرض أنه ما مر عليها منذ دحاها الله وطحاها وأخرج منها ماءها ومرعاها، صحب يحبون نبيهم مثل ما يحب صحب محمد محمداً - صلى الله عليه وسلم -، شهد بذلك القاصي والداني والحق ما شهدت به الأعداء، قال عروة بن مسعود الثقفي رسول قريش في الحديبية: والله، لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّقون إليه النظر تعظيما له" [الزاد].
- "الدفاع" عن شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
وضيَّق المشركون الخناق حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقام خيرة الصحب ورجال الخلافة في الدفاع عن شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هلموا إليّ أيها الناس، كأنه يخبر المشركين بموقعه، ليلتفوا حولهم بكثرتهم الكاثرة وما مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير التسعة النفر أو أقل، وهنا تظهر معادن الرجال:(1/204)
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال : " من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة ؟ "، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال : "من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟ "، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتل، فلم يزل كذلك حتى قُتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه - أي القرشيين -: "ما أنصفنا أصحابنا " .
وكان آخرهم عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط ولم يبق حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنان من الرجال، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال : لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن غير طلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وقل أن تتكرر مثل هذه الفرصة ولم يتوان أهل الوثن في الاستفادة منها فركزوا جهدهم على استغلالها... رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته، وكُلِمَتْ شفته السفلي، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء العنيد الصنديد عبد الله بن قَمِئَة، فضربه على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجلا، ولكنها لم تصل إلى الجسد للدرعين الذين كان يلبسهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ضرب على وجنته - صلى الله عليه وسلم - ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال : خذها وأنا ابن قمئة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يمسح الدم عن وجهة : " أقمأك الله ".(1/205)
وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول : "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله " ، فأنزل الله - عز وجل -: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ " [ آل عمران : 128 ] .
وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ : "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله"، ثم مكث ساعة ثم قال : " اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "، وفي صحيح مسلم أنه قال : "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ".
وتفانى الصحابيان يذودان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما سعد فكان رامياً يجمع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه بما لم يجمعهما لغيره ليقول: "ارم سعد فداك أبي وأمي"، وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي حديثه عن جابر فقال: فأدرك المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "من للقوم ؟ " فقال طلحة : أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم، فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة . قال جابر : ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضُربت يده فقطعت أصابعه، فقال : حَسِّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو قلت : بسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون " ، قال : ثم رد الله المشركين.
ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جُرح يوم أحد تسعة وثلاثون أو خمسة وثلاثون، وشُلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها
وعند البخاري عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .
وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذلك اليوم كله لطلحة .(1/206)
وتفانى الصحب في الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتتدخل القدرة الإلهية حاميةً لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الصحيحين عن سعد، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد ، وفي رواية : يعني جبريل وميكائيل .
- التجمع مرة أخرى حول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومعركة الفداء:
حدث الالتفاف بسرعة فائقة بحيث إن رجال الصفوف الأول ما أدركوا الذي يحدث حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان ليدعوه يلاقي ما لاقى - رضي الله عنهم - أجمعين، ولكن انشغالهم بالقتال حال دون النصرة، وهم يظنونه في مأمن من السيوف - صلى الله عليه وسلم - وسمعوا صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناديهم بالالتفاف حوله فحولوا أماكنهم إليه، حيث يأتيهم الصوت، لتنخلع أفئدتهم من هول ما رأوه، واصطف الرجال حائلاً دون المساس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/207)
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت : قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت : كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي، [ حيث فاتني ما فاتني، فقلت : يكون رجل من قومي أحب إلي ] فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دونكم أخاكم فقد أوجب "، وقد رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وَجْنَتِهِ حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال : فأخذ بفيه فجعل ينَضِّضه كراهية أن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم استل السهم بفيه، فنَدَرَت ثنية أبي عبيدة، قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة : نشدتك بالله يا أبا بكر، إلا تركتني، قال : فأخذه فجعل ينضضه حتى اسْتَلَّه، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخري، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دونكم أخاكم، فقد أوجب " ، قال : فأقبلنا على طلحة نعالجه، وقد أصابته بضع عشرة ضربة. وفي تهذيب تاريخ دمشق: فأتيناه في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وستون أو أقل أو أكثر، بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه .(1/208)
وتوالى مقدم الرجال حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشدت قريش من حملتها علّها تصيب قائد الإسلام العظيم، حتى سقط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه على بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً، وقال نافع بن جبير : سمعت رجلاً من المهاجرين يقول : شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ : دلونى على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال : والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
- مشهد الأبطال وثبات الجبال، وحسبهم أنهم الرجال:"رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...":
قال أنس : لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة بين يديه مجوب عليه بحجفة له، وكان رجلاً رامياً شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجَعْبَة من النبل فيقول : " انثرها لأبي طلحة "، قال : ويشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة : بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نَحْرِي دون نحرك .
وعنه أيضاً قال : كان أبو طلحة يتترس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بترس واحد، وكان أبو طلحة حسن الرَّمْي، فكان إذا رمى تشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فينظر إلى موقع نبله .
وقام أبو دجانة أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فَتَرَّسَ عليه بظهره ، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك .(1/209)
وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص - الذي كسر رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه، وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه، إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب .
وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج .
وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته - صلى الله عليه وسلم - حتى أنقاه، فقال : " مُجَّه " ، فقال : والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا " ، فقتل شهيداً .
وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً .
وقاتل مصعب بن عمير قتال المستميت، يدفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، فضربوه حتى قطعت، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل، وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح : إن محمداً قد قتل.
وشاع الخبر وكان فيه أعظم منفعة على الرغم من انهيار معنويات الصحابة الكرام، فقد خفف المشركون الضغط على دائرة رسول الله لينسحبوا وهم ظانون أنهم قتلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتقل من حالة الثبات إلى حالة الانحياز للجبل:(1/210)
بعد مقتل مصعب - رضي الله عنه - أخذ الراية علي - رضي الله عنه - فقاتل عليها قتالاً شديداً وحوله الصحابة حتى شق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه الصف ليصلوا إلى الجيش المطوق، فعرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليه أن اصمت – حتى لا يُكشف مكانه- إلا أن المسلمين سمعوا الصوت وتجمع ما يقارب الثلاثون.
وبدأت خطة الانسحاب واستبسلت كلتا الطائفتين، هذه ماضية وتلك مانعة، وفشل المشركون في منع تيار الإسلام الجارف.
تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة أحد فرسان المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : لا نجوت إن نجا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضربه على رجله فأقعده، ثم ذَفَّفَ عليه وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعطف عبد الله بن جابر أحد فرسان قريش على الحارث بن الصِّمَّة، فضربه بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، وانقض عليه أبو دجانة ليقطع رأسه بضربة واحدة.
وهنا تجلت قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتدوس خطة خالد وتنسفها نسفاً لتذرها قاعاً صفصفاً، وتفشل خطة التطويق ويتلاحق المسلمون في الصعود إلى الشعب، وهم في مأمن من المشركين، فهم الآن في المكان الأعلى.(1/211)
قال ابن إسحاق : فلما أسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول : أين محمد ؟ لا نجوتُ إن نجا ، فقال القوم : يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعوه "، فلما دنا منه تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله وأبصر تَرْقُوَتَه من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنة تدأدأ - تدحرج - منها عن فرسه مراراً ، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم، قال : قتلني والله محمد، قالوا له : ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال : إنه قد كان قال لي بمكة : " أنا أقتلك "، فوالله لو بصق عليّ لقتلني ، فمات عدو الله بسَرِف وهم قافلون به إلى مكة ، وفي رواية أبي الأسود عن عروة، وكذا في رواية سعيد بن المسيب عن أبيه : أنه كان يخور خوار الثور، ويقول : والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً .
ولما تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجمة ، قال ابن إسحاق : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللّهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا " ، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل .(1/212)
وفي مغازي الأموي : أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد : " اجْنُبْهُمْ " - أي: ارددهم - فقال : كيف أجْنُبُهُمْ وحدي ؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال : ثم أخذت سهمي أعرفه، فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت : هذا سهم مبارك، فجعلته في كنانتي . فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه .
- بطولات الدفاع حتى آخر رمق:
قال كعب بن مالك : كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم . وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه، وقال : كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة .
ولما رأت أم أيمن فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم : هاك المغزل، وهلم سيفك . ثم سارعت إلى ساحة القتال مع عائشة وأم سليم، فأخذت تسقي الجرحي، فرماها حِبَّان بن العَرَقَة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدفع إلى سعد بن بي وقاص سهماً لا نصل له، وقال : "ارم به " ، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، ثم قال : "استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته ".
- "غزوة الخندق" وخطة الدفاع:
- السبب:(1/213)
تحرك السم في قلوب اليهود فقاموا بما هو في طبعهم من دس مؤامرة الحرب في نفوس قريش والعرب، فاستطاعوا إقناعهم بضرورة توجيه ضربة قاصمة للمسلمين لا تقوم بعدها للإسلام قائمة.
- التحرك:
وخرجت قبائل الشرك والضلال مجتمعة على حرب الإسلام وأهله: قريش وحلفائها من تهامة وبني سليم وغطفان بقبائلها بنو فزارة وبنو مرة وبنو أشجع وبنو أسد، واليهود من خيبر، فكان قوام الأحزاب عشرة آلاف مقاتل، بما لم تعهد العرب مثله في معركة واحدة، بل ربما ما كان يساكن المدينة من رجال ونساء وصبيان مثل هذا العدد.
- المجلس الاستشاري، والخطة:
وجاءت الأخبار بهذا التجمع وعُقد المجلس الاستشاري العسكري على أعلى مستوى: وتم الاتفاق على رأي سلمان، قال سلمان : يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا ، وما كان يعرف العرب مثل هذا النوع من الحروب.
- التنفيذ:
وتسارع الناس يقدمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحفر الخندق، كل عشرة رجال يحفروا أربعين ذراعاً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، في الصحيح عن أنس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال : اللهم إن العيش عيش الآخرة * فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمداً ** على الجهاد ما بقينا أبداً
وبرغم القل والعجز ونقص ما في اليد، كان حافز الإيمان هو شعلة النشاط، قال أنس : كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح .(1/214)
وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حجرين ، وروى البخاري عن جابر قال : إنا يوم خندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق . فقال : " أنا نازل "، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَل، فضرب فعاد كثيباً أهْيل أو أهْيم، أي صار رملاً لا يتماسك .
- الرحمة الربانية: المعجزات والبشارات:
وتتدخل العناية الربانية لتقوم المعجزات على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتتوالى البركات بتكثير الطعام فكان طعام الواحد يكفي عشرة بل يكفي الجيش كله، ثم تأتي المبشرات حوافز للعمل، ليخرج بها المؤمن عن علائق الدنيا وضيق الموقف إلى علياء الإيمان ليسمو في فضاء المجد وليبلغ ملك الأمة ما بلغ الليل والنهار، قال البراء : لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء وأخذ المعول فقال : " بسم الله " ، ثم ضرب ضربة، وقال : " الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة " ، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال : "الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن "، ثم ضرب الثالثة، فقال : " بسم الله "، فقطع بقية الحجر، فقال : " الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني " .
- الدقة في اختيار المكان:(1/215)
تُحيط بالمدينة الحرات الجبلية والنخيل من كل الجوانب غير الشمال، وعليه فهناك ثلاثة جوانب مُحاطة طبيعياً، بحيث يعجز جيش المشركين عن الدخول منها، وحين يُتخذ القرار بحفر الخندق لا يكون مكانه إلا جهة الشمال لسد الثغرة الأخيرة، وهذا ما كان، فقام الصحابة بكل عزم وإصرار على إنهاء الحفر قبل وصول الجيش الوثني.
- التعسكر:
نزلت قريش بأربعة آلافها بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرْف وزَغَابَة، ونزلت غَطَفَان ومن تبعها بستة آلاف بذَنَبِ نَقْمَي إلى جانب أحد .
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق حائلاً بينهم وبين الكفار .
- الخطة الدفاعية:
كان الذي خططت له قريش بأحلافها اجتياحاً شاملاً للمدينة، ولكن الخندق فاجأهم بما لم يعهدوه، فأصابهم الوجم والذهول من هول ما رأوه، وهو ما دعاهم لفرض حصار لم يكونوا له على استعداد، كحل وحيد ليس لغيره من سبيل.(1/216)
وحارت عقول المشركين بحثاً وتنقيباً عن ثغرة يتسللون من خلالها أو ثلمة يمرون منها أو نقطة ضعف يستغلونها، ولكن هيهات لهم ذلك والقائد رسول الله - رضي الله عنه -، فقد كانت ليوث الرماية ترشقهم بالنبل كلما حاولوا الاختراق، وليس ذلك بالأمر السهل أو الهين على الطرفين، فقد استمات المشركون في الاقتحام أو ردم جزء أو بناء جسر أو غيره ليصلوا لمعسكر المسلمين، وفي المقابل استمات المسلمون دفاعاً عن معسكرهم من كل متحرك في الخندق حتى أن الصحابة وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انشغلوا عن بعض الصلوات، ففي الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه -: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش . فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا والله ما صليتها "، فنزلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بُطْحَان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب ، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " [البخاري عن علي، ومثله مسلم].
وعند أحمد والشافعي أنهم حبسوه عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً ، قال النووي : وطريق الجمع بين هذه الروايات أن وقعة الخندق بقيت أياماً فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها .
وعليه فمحاولات العبور استغرقت من فرسان قريش أياماً، والمراماة بالنبل والسهام كانت لهم بالمرصاد، ولم تكثر حالات القتل بالسيف إلا واحد أو اثنان فقط، وستة من المسلمين وعشرة من المشركين بالتراشق.
- المبارزة:(1/217)
وثارت ثائرة رموز الكفر، وأقسموا بكل مقدس عرفوه أن يصلوا للمسلمين، فقام أشقاهم - وكلهم شقي إلا من قد كتب الله له الإسلام من بعد- عمرو بن عبد ود، ومن بعده عكرمة بن أبي جهل وغيرهما: هل من مبارز؟
يحاولون الفت من العضد وتوهين الصف لعلهم أن يخترقوا ولو بقلة، وخرجت إليهم قادة المعارك وسيوف الحق المبين تقطع الهام وتزيل الأوهام، فقتل علي عمرواً، وفر عكرمة من أمام عمرو رامياً رمحه من خلفه.
- مؤامرة يهود وخطة الدفاع:
تحرك سم الكفر عند كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب واتصل بكعب بن أسد كبير مجرمي بني قريظة، وما زال يؤلبه ويحثه حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأراد بنو قريظة التحرك بما لو نجحوا فيه لكان أصاب المسلمين ما يعجزون عن الصمود أمام تياره، فلم تكن في المدينة حامية تصون العِرض وتمنع الهجوم، وحسبهم أن الله معهم.
قال ابن إسحاق : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت، وكان حسان فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية : فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في غور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إن أتانا آت، قالت : فقلت : يا حسان، إن هذا اليهودي كما تري يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ وراءنا مِنْ يهود، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانزل إليه فاقتله .
قال : والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت : فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن وقلت : يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سبله إلا أنه رجل، قال : ما لي بسلبه من حاجة .(1/218)
قال المباركفوري: وقد كان لهذا الفعل المجيد من عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثر عميق في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، ويبدو أن اليهود ظنوا أن هذه الآطام والحصون في منعة من الجيش الإسلامي - مع أنها كانت خالية عنهم تماماً - فلم يجترئوا مرة ثانية للقيام بمثل هذا العمل، إلا أنهم أخذوا يمدون الغزاة الوثنيين بالمؤن، كدليل عملي على انضمامهم إليهم ضد المسلمين، حتى أخذ المسلمون من مؤنهم عشرين جملاً .
- "الأحزاب المعنوية" وخطة الدفاع:(1/219)
وصل خبر نقض بني قريظة للعهد، وعلى الرغم من محاولة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخفاء الخبر عن أصحابه لئلا يفتنهم الموقف، فقد علمه الجميع، فما لمثل هذا الخبر أن يخفى وقد علمه المنافقون، وزاد الموقف شدة علي شدة، فالأحزاب بذلك تكون قد اخترقت الصف من الداخل وهو ما يعجز الخندق عن صده، ولم تكن في المدينة حامية تحمي النساء وتدافع عن الذرية، ووجد الصحابة في قلوبهم وجداً عظيماً، قال تعالى: "و َإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا "[ الأحزاب : 10، 11 ]، وعلا صوت النفاق حتى صاح صريخهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقالوا : إن بيوتنا عورة، فائذن لنا أن نرجع إلي المدينة ، وكاد بنو سلمة وبنو حارثة أن يهموا بالفشل، وفيهم قال تعالي : "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا " [ الأحزاب : 12، 13 ] .
وكجزء من الحل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره ".
- خطة تمزيق الأحزاب عن طريق مصالحة بني غطفان:(1/220)
قال ابن القيم: ولما طالت هذه الحالُ على المسلمين، أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُصالح عُيينةَ بنَ حِصْنٍ، والحارِثَ بنَ عوف رئيسى غَطَفَان، على ثُلثِ ثِمار المدينةِ، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضةُ على ذلك، فاستشار السَّعدين في ذلك، فقالا : يا رسولَ اللهِ، إن كان اللهُ أمَرَكَ بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيئاً تصنعُه لنا، فلا حاجةَ لنا فيه، لقد كُنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللهِ وعِبادةِ الأوثان، وهم لا يطمعُون أن يأكلُوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنَا ؟ ، واللهِ لا نُعطيهم إلا السيفَ، فصوَّبَ رأيَهما، وقال : "إنَّمَا هُوَ شَىءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ لَمَّا رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُم عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ ".
ومع أن الأمر لم يتم ولكن هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفعل يدل على الجواز، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليهم بما لا يجوز فعله، مثاله أمره بتحريق البيوت على المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما فيهم من النساء والذرية، فلولا المانع لفعل ما هم به - صلى الله عليه وسلم -، والمسألة عند علماء أصول الفقه، وقد قيل: إن عبد الملك بن مروان أخذ به فأعطى النصارى المال لينصرف لحرب ابن الزبير، بقصد توحيد الدولة الإسلامية، غفر الله للجميع.
خطة التخذيل بين الأ
المشهور في قصة نعيم بن مسعود أنه جاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واتفق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - علي تخذيل القوم، والقصة على شهرتها ضعيفة بل باطلة والصحيح أن نعيم هو من وقع في فخ نصبه له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاندفع بطابع حبه لنقل الحديث إلى تداول ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن المعلوم عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب و"الحرب خدعة"، والقصة باختصار:(1/221)
كان نعيم ممن يرد على القبائل العربية بحكم التجارة والعلاقات التى يصنعها عند كل ورود له، فكان رجلاً مألوفاً عند الجميع، وقد كان عند نعيم طبعاً ذميماً ألا وهو تداول الأخبار غثها وسمينها دون التثبت أو التروي في النقل، وبغض النظر عن مصداقية الخبر لا يتورع عن قوله، فلما كانت الخندق جاء للمسلمين وأخبرهم بخطة الأحزاب فقال: إني كنت عند عيننة بن حصن الفزاري وأبي سفيان بن حرب إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا، وابعثوا إلينا رجالا حتى نقاتل محمدا مما يلي المدينة، فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم، وتقاتلونه أنتم مما يلي الخندق!، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما سيقع من محاصرةٍ المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"فلعلنا أمرناهم بذلك"، ففهمها نعيم على أنها مكيدة من اليهود ليسلموا محمد - صلى الله عليه وسلم - كبار رجال قريش وغطفان قوم نعيم، فأسرع بفطرته المجبولة على النم والنقل إلى غطفان ليخبرهم بما سمع، فقال عمر بن الخطاب: "يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال!"، والمقصود من قول عمر:ألا تجرب العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذباً، فقال - صلى الله عليه وسلم - :"بل هو رأي رأيته، إن الحرب خدعة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: علي الرجل، ردوه"، فردوه فقال: "أرأيتك الذي سمعتني أذكره آنفا... أمسكتُ عنه، فلا تذكره لأحد!"، وفي ذلك إغراء لنعيم بنقل الحديث باعتبار أنه سر عظيم وقع عليه "نعيم".(1/222)
فانطلق نعيم حتى أتى عيينة بن حصن ومن معه فقال لهم:هل علمتم أن محمداً قال شيئا قط إلا حقاً، قالوا: لا، قال: فإنه قد قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة:"فلعلنا نحن أمرناهم بذلك"، ثم نهاني أن أذكر لكم ... فانطلق عيينة بن حصن حتى لقي أبا سفيان بن حرب فأخبره، فقال أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكرا، فأرسل إلى بني قريظة: إنكم قد أمرتمونا أن نثبت، وطلبتم رجالاً منا يقاتلوا معكم، وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها قد دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنما أنتم في مكر من بني قريظة، وإنهم لأهل غدر: فارتحلوا.
وقع الخذلان بين الأحزاب وارتحلوا بعد حصار دام شهراً أو قريباً منه، وبها حُسمت قضية:"الحرب الدفاعية"، ليعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهاء هذا النوع من الحروب ليدخل في طور جديد من الحروب فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ".
- "الدفاع" بالهجوم وفض التجمع:
في أعقاب "أحد" بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما، يدعوان بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتكون بني أسد هي التي بدأت بإعلان الحرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فاتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - موقف "الهجوم الدفاعي" فأرسل "أبا سلمة" على رأس مائة وخمسين من المقاتلين المسلمين فأصابوا إبلاً وشاء ولم يلقوا كيدا " [زاد المعاد].
بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دومة الجندل أخذت تتجمع فيها حشود معادية تريد غزو المدينة فخرج - صلى الله عليه وسلم - إليها في ألف من المسلمين، فعلموا به، فتفرقوا، فأصاب المسلمون بعض الغنائم، ورجعوا إلى المدينة.[الزاد].(1/223)
غزوة ذات السلاسل: قال ابن سعد: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف المدينة فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن العاص ...وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار."
وعند ابن اسحاق في سبب غزوة حنين قال: "لما سمعت هوازن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فتح الله عليه من مكة، جمعها "مالك بن عوف النصري" فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها واجتمعت نَصر وجُشم كلها ويعد بن بكر وناس من بني هلال"، فتكون هذه القبائل هي التي بدأت بإعلان الحرب فانتهى أمر هوازن في حنين وتبع جيش المسلمين ثقيف إلى الطائف بلدتها، وحين استعصت تركوها، ثم جاءت هوازن وأعلنت إسلامها وانتهى أمر ثقيف إلى الإسلام أيضاً.
- "الدفاع" بالهجوم وقتل رأس التأليب:
ذكر ابن سعد في الطبقات أن أبا رافع بن أبي حقيق اليهودي قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله .
وقال: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن خالد بن سفيان وكان ينزل عرنة وما والاها في ناس من قومه وغيرهم، قد جمع الجموع لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه عبد الله بن أنيس ليقتله.
وعند ابن هشام: وكان من حديث اليسير بن رزام أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبد الله بن أنيس فقتلوه.
- "الدفاع الفردي":(1/224)
في صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه:حديث الحديبية وفيه: ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر.(1/225)
وفي الزاد: وقعة بِئر مَعُونة: وملخَّصُها أن أبا براء عامِرَ بنَ مالك المدعو ملاعبَ الأسِنَّة، قَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فدعاه إلى الإسلام، فلم يُسلم، ولم يبعد، فقال : يا رسولَ اللهِ، لو بعثتَ أصحابَك إلى أهلِ نَجْدٍ يدعونهُم إلى دِينك لرجوتُ أن يُجيبُوهم .، فقال : "إنى أخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ " ، فقال أبو براء : أنا جارٌ لهم، فبعث معه أربعينَ رجلاً في قول ابن إسحاق ، وفي الصحيح : "أنَّهم كانُوا سبعينَ " والذي في الصحيح : هو الصحيح ، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعِدة الملقب بالمُعْنِقِ ليموت وكانوا من خِيارِ المسلمينَ، وفُضلائهم، وساداتِهم، وقرائِهم، فسارُوا حتى نزلوا بئر مَعُونة، وهى بين أرض بني عامر، وحرَّة بني سُليم، فنزلوا هناك، ثم بعثوا حَرامَ بنَ ملحان أخا أُمِّ سليم بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدوِّ الله عامِر بن الطفيل، فلم ينظُرْ فيه، وأمرَ رجلاً، فطعنه بالحربةِ من خلفه، فلما أنفذها فيه، ورأى الدَّمَ، قال : "فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ" ، ثم استَنفَرَ عدوُّ اللهِ لِفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يُجيبُوهُ لأجل جِوار أبي بَراء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عُصَيَّةُ وَرِعْلٌ وذَكْوَانُ، فجاؤوا حتى أحاطُوا بأصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاتلُوا حتى قُتِلُوا عن آخرهم إلا كعبََ بنَ زيدِ بن النجار، فإنه أرتُثَّ بين القتلى، فعاش حتَّى قُتِل يومَ الخندق، وكان عمرو بن أُمية الضمرى، والمنذرُ بن عقبة بن عامر في سَرْح المسلمينَ، فرأيا الطيرَ تحومُ على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد، فقاتلَ المشركين حتى قُتِلَ مع أصحابه، وأُسِرَ عَمرُو بن أُمية الضَّمْرِى، فلما أخبر أنه من مُضَر، جَزَّ عامِر ناصيتَه، وأعتقه عن رقبة كانت على أُمِّه.
……………
الحرب السرية(1/226)
"الحرب السرية" حرب منظمة عاملها الأساسي العقل والتفكير، ظاهرها غير ظاهر للعيان ومعالمها تبقى في قوقعة الخفاء، يدل عليها الأثر والنتيجة.
تكتسب المعنى والقوة من خصائصها التي تعتمد على المفاهيم غير المألوفة من اصطفاف الجنود وترتيب الصفوف، ولكنها تُعني بما يضمن النصر حتى ولو لم يتحرك الجيش قيد أنملة، فبها تُعرف خطط العدو وبها يُرصد تحرك الخصم، وبها تُقطع رؤوس الأعداء، وبها تُقام التحالفات ويُخذَّل بين الأعداء.
قال المباركفوري في معرض حديثه عن سرية نخلة بقيادة عبد الله بن جحش: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه ، فسارعبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه : "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم "، فقال : سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه .
ونظام الرسائل المغلقة ما كان معروفاً عند العرب بل عند أهل الأرض، فانه لا يعهد له نظيراً في التاريخ، يحوز فيه - صلى الله عليه وسلم - قصب السبق، وكل من جاء بعده فهو عيال عليه في المسألة.
- الإغارة:
ويُقصد بها مباغتة الخصم فجأة، ويكون التحرك فيها بمنتهى السرية، وقد نجح فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجاحاً منقطع النظير، في حين فشل فيها العرب جميعاً لتوارد الأخبار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل تجمع يريدوه وهم يظنونه سراً، فكان يهاجمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يزال القوم في ديارهم، أو يرسل من يقتل قائد هذا التجمع.(1/227)
فمن الإغارات التي كانت عقوبة على التجمع لمحاربة دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - غزوة بني سليم بالكدر بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغزوة ذي أمر بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً وغيرها، وقد كانوا يُغيرون على القبائل في رحالهم، فيفرون أو يواجهون، والانتصار حليف المسلمين في الغالب ويستاقون إبلاً وشاء ومغانم كثيرة من سبايا وعبيد.
ومن الإغارات التأديبية لأفعال تجرأت عليها القبائل، غزوة بني لحيان بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسرية عبد الله بن عتيك لاغتيال سلام بن أبي حقيق الذي حزّب الأحزاب.
ومن الإغارات التي كانت تستهدف عير قريش: سرية حمزة في سيف البحر وسرية الخرار بقيادة سعد وغيرها، وقد كانت أخبار القوافل تصل المسلمين، مع جهل قريش بوجود قوة تسعى لاعتراضهم، فكان الصحابة يباغتونهم في رحالهم.
قال المباركفوري: وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين، إلا حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المُغيرة، وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين .
- الخداع والكذب:
ومن الأساليب المتعلقة بالحرب السرية والتي لا تنفك عنها: الكذب والخداع وجوازه في الشرع معروف بأدلة منها: "الحرب خدعة" [الصحيحين عن جابر]، ونقل النووي الاتفاق على جوازه، وفي الزاد والأصل في الصحيحين في حديث قتل كعب بن الأشرف اليهودي: وأذن لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به.
وعند ابن سعد في حادث اغتيال عبد الله بن أنيس لخالد الهذلي... واستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول- أي أكذب- فأذن لي.
- التحالفات:(1/228)
التحالف هو علاقات وروابط يقوم بها وعليها طرفان بقصد توحيد الأهداف والخطط، ولها صور متعددة وبحسبها يكون التفاعل، كالتحالف العسكري والذي يضمن النُصرة لكل طرف من الآخر، أو التحالف السياسي وفيه تباينات وشرطه ما يتم الاتفاق عليه.
وإنما أُضيف للحرب السرية لخصوصيته الخافية وعدم الاطلاع عليه في الغالب، إلا أن يكون عاماً، وله أهمية لما يُضفيه من عوامل قوة مؤثرة في الصراع، وقد اهتم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنه تحالفه - صلى الله عليه وسلم - مع الأنصار في بيعة العقبة الثانية على النصرة والإيواء والحماية، وحلفه - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود في المدينة على ألا يعينوا عليه عدواً ولا يؤوا محدثاً، ومنها ما ذكره صاحب الرحيق: سرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجهني - وكان حليفاً للفريقين جميعاً - بين هؤلاء وهؤلاء حتى حجز بينهم فلم يقتتلوا .
وفي غزوة الأبواء عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة حلف مع عمرو بن مخشى الضمري سيد بني ضمرة، وفي غزوة ذي العشيرة عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة .
والتحالفات لم تكن بدعة في ذلك الحين فقد ألفها المشركون واليهود، وهو ما دعاهم للتحالف في الأحزاب، بين خيبر وقريش وغطفان، وكذلك حِلف عيينة بن حصن مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي نقضه في الأحزاب.(1/229)
وللنقض أثر واضح في الحرب يُشير إليه الأثر الوخيم الذي حل بالمسلمين حين تفشي خبر نقض قريظة للعهد لأنهم داخل الحمى، قال المباركفوري: وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالى: " وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً " [الأحزاب : 10، 11 ].
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه : إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة . وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً " [ الأحزاب : 12، 13 ] .
- "التورية" والحرب السرية:(1/230)
التَوْرِية لغة هي الإخفاء قال تعالى: "فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" [المائدة31]، وفي الشرع: إظهار خلاف ما يُبطن بقصد التمويه، ومنه حديث كعب بن مالك في البخاري: ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها.
في الزاد: ثم خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم.
- الحصول على المعلومات ركن "الحرب السرية":
عند مسلم: في غزوة الخندق عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟... فقال: "قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم"... قال: "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ".
وفي الزاد وعند ابن سعد: قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خَيْبَر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما وراءك ؟ " قال : تركتُ جمعاً من يمن غطفان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة : إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك ... بعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً... فلما كانوا بسلاح، لقوا عيناً لعيينة، فقتلوه.
- إخفاء المعلومات عماد "الحرب السرية":(1/231)
قال ابن القيم في زاد المعاد وأصل الحديث في الصحيحين: كتب حاطِبُ بن أبى بَلْتَعَةَ إلى قُريش كتاباً يُخبرهم بمسيرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم –وفي رواية مسلم يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تُبلغه قريشاً، فجعلته في قُرون في رأسها، ثم خرجَتْ به، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ مِن السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزُبير، وغير ابن إسحاق يقول : بعث علياً والمقداد والزبير، فقال : انطلقا حتَّى تأتيا رَوْضَةَ خاخ، فإنَّ بها ظعينة معها كِتاب إلى قُريش، فانطلقا تَعَادى بهما خَيْلُهما، حتى وجدا المرأةَ بذلك المكانِ، فاستنزلاها، وقالا : معكِ كتابٌ ؟ فقالت : ما معي كتاب، ففتشا رَحْلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي - رضي الله عنه - : أحِلفُ باللهِ ما كذبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبنا، واللهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أو لنُجَرِّدَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ منه، قالت : أَعْرِضْ، فأعرض، فحلَّت قُرون رأسها، فاستخرجت الكِتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا فيه : مِن حاطب ابن أبى بَلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم".
- "الحرب السرية" والاغتيالات:
تُستخدم الاغتيالات في العادة لحسم حياة أحد الأعداء، وسواء أُعلن عن هوية القاتل أم بقي الفاعل طي المجهول، تبقى مثيرة للرعب والذعر في نفوس الخصوم.
والاغتيالات من أنواع "الحرب السرية" لما فيها من استخفاء وتمويه وخداع وكذب يوصل في النهاية لتحقيق الهدف المنشود، وهو القضاء على رأس من رؤوس العدو.(1/232)
منها اغتيال فيروز الديلمي ومن معه للأسود العنسي بحرب سرية تبهر العقول وتأسر الألباب لما فيها من حنكة ودراية بالواقع، والذي خبره الأبطال ليحسموا الجولة لصالح الإسلام ومما كان فيها: اجتمع رأي فيروز ومن معه أن يستعينوا بامرأة الأسود لبغضها لزوجها وإيمانها بالإسلام ودخل عليها فيروز وهي ابنة عمه، ووضعت الخطة التي تأمن بها من الحرس الذي يحيط بالقصر وقالت: فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجًا وسلاحًا... ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النقب من خارج... فلما كان الليل نقبوا ذلك البيت فدخلوا، فوجدوا فيه سراجا تحت جفنة، فتقدم إليه فيروز والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده وهو سكران يغط والمرأة جالسة عنده... فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله... فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه فحركه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره وجعل يبربر بلسانه فاحتز الآخر رقبته فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا: ما هذا... ما هذا ؟ فقالت المرأة: النبي يوحي إليه فرجعوا.[البداية والنهاية].
وكان من خبر اغتيال سلام بن أبي حقيق اليهودي، والذي اغتالته سرية عبد الله بن عتيك: قال ابن سعد: فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى محله فصعدوا درجة له، فقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية فاستفتح وقال : جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية فعلوه بأسيافهم.(1/233)
ومثلها اغتيال محمد بن مسلمة ومن معه لكعب بن الأشرف اليهودي وما خدعوه به لأنهم يريدون حرباً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم خداعهم له بما معهم من سلاح، أنهم سيرهنونه هذا السلاح ثم إخراجه من قصره، ومن بعد اشتمام عطره ثم جز رأسه، وخبره في سيرة ابن هشام.
- "الحرب السرية" تنشئ الدولة وتحمي الدين وتنصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
قال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: فنمنا تلك الليلة – ليلة العقبة الثانية - مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، قال ابن القيم: فلما كانت لَيْلَةُ العقبةِ الثلثَ الأول مِن الليل تسلَّل إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةُ وسبعونَ رَجُلاً وامرأتانِ، فبايعُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خِفية مِن قومهم، ومِن كُفَّارِ مكة، على أن يمنعُوه مما يمنعونَ مِنه نساءهم وأبناءهم وأزُرَهم ... فلما تمت هذه البيعةُ استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يميلوا على أهل العقبةِ بأسيافهم، فلم يأذَنْ لهم في ذلك، وصرخَ الشيطانُ على العَقَبَةِ بأنفَذِ صوت سُمِع : يا أهلَ الجباجب هل لكم في مُذَمَّمٍ والصُّبَاةُ معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - :"هذا أَزَبُّ العقبة، هذا ابنُ أزيْب، أما واللهِ يا عدُوَّ الله لأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ " .(1/234)
ثم أمرهم أن ينفضُّوا إلى رحالهم، فلما أصبحَ القومُ، غدَتْ عليهم جِلَّةُ قريش وأشرافهُم حتى دخلوا شِعب الأنصار، فقالوا : يا معشرَ الخزرجِ، إنه بلغنا أنكم لَقِيتُم صاحِبَنَا البارحة، وواعدتمُوه أن تُبايعُوه على حربنا، وايمُ اللهِ ما حىٌ مِن العرب أبغضَ إلينا من أن يَنْشَبَ بيننا وبينه الحربُ مِنكم، فانبعثَ مَن كان هُناك من الخزرج مِن المشركين، يحلِفُونَ لهم بالله : ما كان هذا وما عَلِمْنا، وجعل عبدُ الله بنُ أُبَيّ بن سلول يقول : هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي لِيفتاتُوا عليّ مِثل هذا، لو كنتُ بيثربَ ما صنع قومى هذا حتى يُؤامروني، فرجعتْ قريش مِن عندهم، ورحل البراءُ بن معرور، فتقدَّم إلى بطن يَأْجَج، وتلاحق أصحابُه مِن المسلمين، وتطلَّبتهُم قريشٌ، فأدركوا سعدَ بْنَ عُبادة، فربطوا يديهِ إلى عُنقهِ بِنسْعِ رَحْلِه، وجعلوا يضرِبُونه، ويَجرُّونه، ويَجْذِبونَهُ بِجُمَّتِهِ حتى أدخلُوه مكَّة، فجاء مُطْعِمُ بنُ عدى والحارث بن حرب بن أُمية، فخلصَّاه من أيديهم، وتشاوَرَتِ الأنصارُ حين فقدُوه أَن يَكِرُّوا إليه، فإذا سَعْدُ قد طَلَعَ عليهم، فوصلَ القومُ جميعاً إلى المدينة.
- "الحرب السرية" طريق لتخذيل الأحزاب:(1/235)
بعد الاحاطة الشاملة من أحزاب الشرك والضلال لمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما تلاها من خيانة اليهود وتمالئهم على المسلمين وخذلان المنافقين، بحيث لم يبق إلا صادق الإيمان، أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القيام بخطوة يسعى من خلالها لتشتيت صف الأعداء والتخذيل فيما بينهم، فاتصل سراً- وهذا الذي يفترضه استقراء الحدث، أو على الأقل بمن ينوب عنه مع أنه احتمال ضعيف جداً لعدم وروده- بعُيينَة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان ليصالحهم على ثلث ثمار المدينة، حتى ينصرفا بقومهما ويخلوا الأمر، بل يعود إلى العهد المعهود: قريش وحدها، ساعتها تُدرك ضعفها وعجزها، وجرت المناقشة والذي يظهر منها الموافقة من طرف سيدي غطفان، لأن الذي رفض هما السعدان سيدا الأنصار، وقد كانت الاستشارة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهما بعد اتصاله بسيدي غطفان، لقولهم: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًي أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟، والله لا نعطيهم إلا السيف، فَصَوَّبَ رأيهما وقال : " إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ".
- "الحرب السرية" في تحرك الجيش لفتح مكة:
في الرحيق المختوم: التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء: عند الطبراني أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: واللَّه ما أدري، فقال: واللَّه ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول اللَّه؟ قالت: واللَّه لا علم لي.(1/236)
وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، وارتجز يا رب إني ناشد محمداً... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة. وقال: اللهم خذ العيون الأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد من المدينة ... ليظن الظان أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وساق حديث حاطب - رضي الله عنه - ثم قال: وهكذا أخذ اللَّه العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
……
الحرب الشاملة
جاء في المحيط: شمل الأمر القوم: عمهم.
"الحرب الشاملة" هي حرب تستوعب الكل وتقصد الكل، وتُعمم فيدخل فيها كل الخصوم.
للحرب على العموم نمطان:
- الحرب المحدودة: والتي تستهدف أحد الخصوم – والمقصود هنا الخصم بجيشه ودولته -بقتله أو الضغط عليه، بأسر أو إرهاب ليخضع لسياسة الدولة والدخول ضمن أهدافها.
- الحرب الشاملة: والتي تهدف للقضاء على الخصم, واستئصال مراكز قوته، وإنهاء تواجده السياسي على خارطة الواقع، بمعنى أنها تُعيد رسم خارطة التواجد، وتفرض واقعاً جديداً يقرره المنتصر بما ينبع من منهجه وأفكاره.(1/237)
لخص الإمام ابن القيم أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال في الزاد: أوَّل ما أوحى إليه ربُّه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسمِ ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمرْه إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ " [ المدثر 1،2] فنبأه بقوله : "اقْرَأْ " [العلق 1] ، وأرسله بـ " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ "، ثم أمره أن يُنذِرَ عشيرتَه الأقربِينَ، ثم أنذر قومَه، ثم أنذرَ مَنْ حَوْلَهُم مِن العرب، ثم أنذر العربَ قاطبة، ثم أنذر العالَمِين، فأقام بِضْعَ عشرة سنة بعد نبوته يُنْذِرُ بالدعوة بغير قتال ولا جِزية، ويُؤمر بالكفِّ والصبرِ والصَّفح .
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذِنَ له في القتال، ثم أمره أن يُقاتِل مَن قاتله، ويَكُفَّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بِقتالِ المشركين حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهلُ صُلح وهُدنة، وأهلُ حرب، وأهلُ ذِّمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يُوفى لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذَ إليهم عهدهم، ولم يُقاتِلْهم حتى يُعْلِمَهم بِنَقْضِ العهد، وأُمِرَ أن يقاتل مَن نقض عهده .، ولما نزلت سورة ( براءة ) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يُقاتِل عدوَّه مِن أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزيَةَ، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجِهَادِ الكُفَّارِ والمنافقين والغِلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيفِ والسنانِ، والمنافقين بالحُجَّةِ واللِّسان .
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :
- قسماً أمره بقتالهم، وهُم الذين نقضُوا عهده، ولم يستقِيموا له، فحاربهم وظهر عليهم .(1/238)
- وقسماً لهم عهد مُؤقَّت لم ينقضُوه، ولم يُظاهِروا عليه، فأمره أن يُتِمَّ لهم عهدَهم إلى مدتهم.
- وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يُحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يُؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهى الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: "فَسِيحُواْ في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ" [ التوبة 2 ] وهى الحُرُمُ المذكورة في قوله: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ " [ التوبة : 5 ] ... وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يُقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجَّل مَنْ لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذِّمة الجِزية .
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربينَ له، وأهلِ عهد، وأهلِ ذِمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين : محاربين، وأهل ذِمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمِن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب .
وقال صاحب الرحيق: قال تعالى : " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" [الحج39].
وكان الإذن مقتصراً على قتال قريش، ثم تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب، وجاوز قريشاً إلى غيرهم، ولا بأس أن نذكر تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث :
1- اعتبار مشركي قريش محاربين؛ لأنهم بدأوا بالعدوان، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا أموالهم دون غيرهم من بقية مشركي العرب .
2- قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش واتحد معهم، وكذلك كل من تفرد بالاعتداء على المسلمين من غير قريش .(1/239)
3- قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ ميثاقهم إليهم على سواء .
4- قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب، كالنصارى، حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
5- الكف عمن دخل في الإسلام، مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك، فلا يتعرض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام، وحسابه على الله" .
أما الحرب الشاملة مع كل من يخالف الدين فقد ظهرت بصورتها العملية مع نزول سورة براءة، والتي أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "علي بن أبي طالب" ليبلغها الناس في موسم الحج.
قال سيد قطب عند تفسير مطلع سورة براءة: "من كان له عهد من المشركين ثم لم يخل بشئ منه ولم يعن أعداء المسلمين عليهم فهو إلي مدته، وعهده مصون حتى ينتهي أجله، ولكنه لا يجدد، لأن المعسكر الإسلامي يجب أن يخلص إلى الأبد من الدخلاء المريبين ... ذلك فيما يتعلق بمشركي الجزيرة وحدها، بوصفها قاعدة العقيدة ... فأما المشركون خارجها فالأمر بينهم وبين الأمة المسلمة ألا يقفوا بالقوة في سبيل الدعوة الإسلامية وألا يفتنوا المسلمين عن دينهم، وألا يقاتلوا المسلمين، أو يظاهروا عليهم، أو يخرجوهم من ديارهم، وما يريد الإسلام بهذا الإجراء أن يكره الناس علي الإسلام، إنما يريد أن يؤمن المعسكر الإسلامي... وأن يواجه أعداءه خارج الجزيرة، وقد أخذوا في التجمع له، وهو مطمئن إلى مؤخرته".
لقد حددت سورة " براءة " معالم العلاقة مع غير المسلمين:
- لا عهد للمشركين ولا حج لهم إلى البيت، ولا ولاية بينهم وبين المسلمين.
- انتهاء عهود الأمان والمصالحة مع من نقض العهد من يهود وغيرهم، مع النبذ بكل وضوح وعلانية.
- لا تجديد لعهود الأمان والاختيار بين الإسلام والسيف ولا ثالث.
- أربعة أشهر تكفي للجميع أن يُقلّب النظر ويختار بين الإسلام أوالسيف.
- معالم الحرب الشاملة في سورة "التوبة":(1/240)
- انتهاء عهود المشركين والبراءة منهم ومن عهودهم وإعلان الحرب:
قال تعالى: " بَرَاءةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [براءة1-4].
- قتال مشركي العرب فرض واجب:
قال تعالى: " فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [التوبة 5].
- العلة في إبطال عهود المشركين:(1/241)
قال تعالى: " كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ" [التوبة 7-10]
- مآل المشركين بين الإسلام والقتل:
قال تعالى: "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ" [التوبة12،11].
- الأمر الرباني حثاً للمؤمنين بقتل المشركين:
قال تعالى: " أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة 13-15].
- انتهاء الوصاية أو الطواف الشركي في بيت الله:(1/242)
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة 28].
- إعلان الحرب على أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وصغار:
قال تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" [التوبة 29].
- قتال المشركين كافة:
قال تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"[ التوبة 36].
- الحث على الجهاد وعقوبة المتخلفين:
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [التوبة 39،38]
- الجهاد لماذا؟(1/243)
قال تعالى: "يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" [التوبة 74،73].
- الجهاد بين السيف والقلم:
قال تعالى: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"[التوبة 122].
- الجهاد، القتال والغلظة:
قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامنوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [التوبة 123].
- معالم "الحرب الشاملة" في السيرة:(1/244)
كانت الحرب النبوية ذات معالم تُستقرأ رغم تداخل الأحداث وتمازجها، فما قبل بدر كان مقصوده قوافل قريش دون العرب، ثم دخلت على خط المواجهة بعض القبائل العربية الطامعة بخيرات المدينة، أو التي ألفت الإغارة من أجل الكسب والرزق، فكانت حملات التأديب والمعاقبة، وقد دخلت خط المواجهة أيضاً اليهود بنقضهم ما عاهدوا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتمت محاربتهم والقضاء عليهم، ثم تلا ذلك أو أثناءه تحالف خيبر مع غطفان بالإضافة إلى قريش لحرب دولة الإسلام، وبها انتهت حالة الدفاع ليدخل الإسلام في حالة الهجوم، ولكنه محدود أيضاً بمن حارب، فكان فتح خيبر ثم حنين وما تلاها في الطائف وما أعقبه من سلسلة فتوحات، انتهت أو كادت تنتهي بموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسيطرة فعلية على الجزيرة العربية وانتهاء عهد الوثن في الجزيرة.
كانت الحروب كثيرة سرية تتبعها سرية وغزوة تليها غزوة، كلها تسعى لصبغ الجزيرة العربية بصبغة الإسلام، وأن الله واحد والدين واحد ولا مجال للتثنية.
نزلت "براءة " أو مرحلة "الحرب الشاملة" في زمان تبوك الممتد من بعد الغزوة حتى نزول البراءة، وتبليغ عليّ- رضي الله عنه - لها إلى الحجيج في مكة، وغزوة تبوك آخر غزوة غزاها المسلمون في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد تلاها دخول الناس في دين الله سِلماً، ليأسهم من محاربة هذا الدين بعد الاصطدام الدامي مع الروم في مؤتة والانحياز دون خسائر تقدر، ثم كانت تبوك قاصمة الظهر لكل متطلع أو راغب بروما، بعد جبنها ومعها قبائل العرب عن مواجهة جيش أعياه طول السفر وأجهده قلة ما في اليد، فلم تجد بداً من مسالمته والدخول معه في دين الله - عز وجل -.(1/245)
بعد توافد الوفود العربية مُعلنة إسلامها، تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه المرحلة الجديدة: مرحلة "الحرب الشاملة" ليجهز جيش أسامة، ومع أن المصادر لم توافنها بعدد هذا الجيش، ولكن حين يكون جيش مؤتة ثلاثة آلاف وتبوك ثلاثين ألف بزيادة عشرة أضعاف، مع عدم إغفال التوافد العربي الكثيف، يظهر أن جيش أسامة تجاوز عدد تبوك ربما بأضعاف، يُضاف إليه أن الجيش النبوي ما كان يتطلب الكثير من الوقت في التجهيز، وهذا مُستقرأ في كل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُقاتل بالموجود عنده، فلما كانت تبوك استنفر القبائل العربية، وحشد الحشود وأعلمهم بالوجهة، فمن الطبيعي أن يكون جيش أسامة قد ضم تلك القوات التي شاركت في تبوك أو أكثرها، مضافاً لها من التحق بالإسلام بعد تبوك.
وانتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى وجيش أسامه لم يغادر موقعه بعد، مع أن الأوامر المحمدية عنده معلومة، ما مكن الخليفة من بعده السير على خطى صاحب البيان الأول، ذكر كتاب السيرة كالمباركفوري وغيره أن سبب بعث أسامة هو قتل الغساني لفروة عامل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على معان، أما ابن كثير فلم ينظر للسبب المذكور، أو أنه اجتمع مع سياسة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بمحاربة المشركين كافة مع الكفار كافة فقال مجملاً سياسة الإسلام في الحرب في تفسير قوله تعالى: "ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُو?اْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [التوبة123](1/246)
فقال يرحمه الله: أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم، وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام؛ لأنهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية - صلى الله عليه وسلم - بعد حجته بواحد وثمانين يوماً، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به، فوطد القواعد، وثبت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعداً وقرباً، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي، ثم لما مات شهيداً، وقد عاش حميداً، أجمع الصحابة من(1/247)
المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - شهيد الدار.
فكسا الإسلام رياسة حلة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، وكلما علوا أمة، انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالاً لقوله تعالى: "ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ"، وقوله تعالى: "وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً " أي: وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم.
……
……
الحرب الصامتة
جاء في الوسيط: صمُوتُ: السِّكِّيتُ. وضَرْبَةٌ صموتٌ: ماضيةٌ في القطْع بغير صَوتٍ يُسمَع. ويقال: مُسَدَّسٌ صَموت. والصموت من السيوف: الذي يغيب في الضَّرِيبة فيقل صَوت خروج الدَّم. والصموت من الدُّرُوع: الناعمةُ المصقولةُ. ويقال: خَلْحَالٌ صَمُوتٌ، وجاريةٌ صموتُ الخَلْخَالِ: لا يُسْمَعُ لِخلْخالِها صَوتٌ لامْتلاءِ ساقيها.
"الحرب الصامتة" هي منازلة العدو في حرب لا صوت لها، تتسلل فيها القوات خفية، فتحقق المراد منها دون جلبة خيل ولا صولة رجل، ان أصاب فيها الفريق انتسب للدولة وحقق المكسب المقصود، وان كان غير ذلك ففعله خاص، لا يحمل التبعية للدولة، فلا تتحمل الدولة حينئذ أعباء الفعل.
- في التلميح بالقتل دون التصريح:
في الدر المنثور: أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان.(1/248)
ورواية أبي داود بإسناد صحيح عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن أبى سرح عند عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فجاء به حتى أوقفه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، ثم بايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا، وأني كففت يدي عن بيعته فيقتله"، فقالوا: ما ندرى يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينيك، قال: "إنه لا يكون لنبي أن تكون له خائنة أعين".
- دعوة المسلمين ممن لا يخضع لسلطان الخليفة لمحاربة المعاهد:(1/249)
عند البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه:حديث الحديبية وفيه: ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً"، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أي لأبي بصير وأبي جندل ومن معهما.
وفي رواية البيهقي: "ويل امه محش حرب لو كان معه رجال".
- خداع أحد الأعداء ليخذل قومه:(1/250)
كان نعيم بن مسعود رجلاً مشهوراً بنمه ونقله الحديث دون تثبت من مدي المصداقية ودون اكتراث لنتيجة قوله، وكان يرتاد على الجميع في مكة أو المدينة فهو من تجار غطفان، فلما كانت الخندق جاء عند المسلمين ونقل حديث المشركين فقال: إني كنت عند عيننة بن حصن الفزاري وأبي سفيان بن حرب إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا، وابعثوا إلينا رجالا حتى نقاتل محمدا مما يلي المدينة، فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم، وتقاتلونهم أنتم مما يلي الخندق!، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سيقع من محاصرة المسلمين من جميع الجهات بما فيها الداخلية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"فلعلنا أمرناهم بذلك"، ففهمها نعيم علي أنها مكيدة من اليهود ليسلموا محمد - صلى الله عليه وسلم - كبار رجال قريش وغطفان قوم نعيم، فأسرع بفطرته المجبولة على النم والنقل إلى غطفان ليخبرهم بما سمع، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال!، والمقصود من قول عمر: ألا تجرب العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذباً، فقال - صلى الله عليه وسلم - :"بل هو رأي رأيته، إن الحرب خدعة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:علي الرجل، ردوه"، فردوه فقال: "أرأيتك الذي سمعتني أذكره آنفا...أمسكتُ عنه، فلا تذكره لأحد!"، وقد أغراه - صلى الله عليه وسلم - ليحثه علي الحديث من باب أنه وقع على سر عظيم.(1/251)
فانطلق نعيم حتى أتى عيينة بن حصن ومن معه فقال لهم:هل علمتم أن محمداً قال شيئا قط إلا حقاً، قالوا: لا، قال: فإنه قد قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة: "فلعلنا نحن أمرناهم بذلك"، ثم نهاني أن أذكر لكم... فانطلق عيينة بن حصن حتى لقي أبا سفيان بن حرب فأخبره، فقال أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكرا، فأرسل إلى بني قريظة: أنكم قد أمرتمونا أن نثبت، وطلبتم رجالاً منا يقاتلوا معكم، وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها قد دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنما أنتم في مكر من بني قريظة، وإنهم لأهل غدر: فارتحلوا.
- مصالحة حليف على خذلان حلفائه:
في زاد المعاد: ولما طالت هذه الحالُ على المسلمين – أي محاصرة الأحزاب للمدينة-، أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُصالح عُيينةَ بنَ حِصْنٍ، والحارِثَ بنَ عوف رئيسي غَطَفَان، على ثُلثِ ثِمار المدينةِ، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضةُ على ذلك، فاستشار السَّعدين في ذلك، فقالا : يا رسولَ اللهِ؛ إن كان اللهُ أمَرَكَ بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيئاً تصنعُه لنا، فلا حاجةَ لنا فيه، لقد كُنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللهِ وعِبادةِ الأوثان، وهم لا يطمعُون أن يأكلُوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنَا ؟ ، واللهِ لا نُعطيهم إلا السيفَ، فصوَّبَ رأيَهما، وقال : "إنَّمَا هُوَ شَىءٌ أَصْنَعُه لَكُمْ لَمَّا رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُم عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ".
- الجاسوسية و"الحرب الصامتة":
لا يخفى على كل واع ومُدرك لأبعاد نقل المعلومات أو تسريب الخطط أو خرائط السير، من أثر عظيم على مجريات الحرب الفعلية، وتفصيل هذا النوع في"الحرب المعلوماتية"، ولكن ما سيُطرح هنا بعض أبعاد الجاسوسية ودورها في الحرب الصامتة:(1/252)
- نقل جاسوس لمخطط إدارة الحرب معناه إطلاع الخصم على كل ما يجول بفكر القائد ، وهو يعني التحكم بمجريات المعركة باستقراء الخطة، فتصبح أفعاله استباقية أكثر منها ردة فعل، لأسبقيته في معرفة تكتيك المعركة.
- منع تسريب المعلومات يعني إخفاء أكثر من نصف ما يحتاجه الخصم، ليدير دفة المعركة في اتجاه تياره.
- تسريب المعلومات المقصودة تعني تضليل الخصم بحجم القوة والقدرة، فيُصاب بسوء تقدير للخصم، مما يجعل نهر المعركة لا يصب في بحر الانتصار.
الحرب العادلة
في المفردات للراغب الأصفهاني: الظلم عند أهل اللغة وكثير من أهل العلم: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه, وقال الفيروز آبادي: والظلم يقال في مجاوزة الحق.
وإنما ذكرنا تعريف الظلم لأن الشئ بضده يُعرف، جاء في المفردات للراغب الأصفهاني: العدل هو المساواة في المكافأة, وجاء في النهاية لابن الأثير: العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم, وقال الفيروز آبادي: العدل خلاف الجور.
"إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " [النحل90].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط والموازنة ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ " [النحل 126]، وقوله: " وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ "[الشوري 40]، وقوله: " وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ "[المائدة 45]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل.(1/253)
وقال سيد في ظلاله: جاء (العدل) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبُغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب والغنى والفقر، والقوة والضعف، إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع وإلى جوار العدل الإحسان، يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحاً لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثاراً لود القلوب، وشفاء لغل الصدور، ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه اليدوي جرحاً أو يكسب فضلاً".
وقال في ظلاله عند قول الله تعالى: " وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " [النساء58 ]، فأما الحكم بالعدل " بَيْنَ النَّاسِ " فالنص يطلقه هكذا عدلاً شاملاً " بَيْنَ النَّاسِ " جميعاً، لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنما حق لكل إنسان بوصفه "إنسانا".
والشمول ثابت بالنص بين المسلمين كما في قوله تعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "[الحجرات9]، وأما مع غيرهم فكما في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "[المائدة 8].
قال ابن كثير: أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا.
وقال القرطبي: ودلت الآية أيضاً على أن كُفر الكافر لا يمنع من العدل عليه.(1/254)
وقال الطبري يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -, ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله, شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم, ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم, فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم, ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم, ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدي, واعملوا فيه بأمري. ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم, فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوَة".
في الموطأ بسند مرسل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك [يعني رشوة] وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: (يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم عليّ من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها)، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.(1/255)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وأمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم"[ قلت رواه البيهقي وصححه الألباني عن أبي هريرة بلفظ: ليس شيءٌ أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم]، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شئ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة.
[قلت: لم يظهر لي مقصود الإمام من اعتبار دولة الكفر عادلة ولو طبقَّت كل مظاهر العدل، فالظلم عند الكفار ذاتي كما هى النجاسة ذاتية، لا يزولا الا بزوال الكفر، وهل بعد الكفر ظلم؟ وقد قال الله تعالى: " إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ "[ لقمان 13]، وقال سبحانه: "وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ "[البقرة 254]].
وعلى العموم فانا نسوق ما سقناه كتوطئة لما سيكون بعده حول حكم "الحرب العادلة" في المفهوم الإسلامي، فهي إذاً تقوم على العدل والإحسان ووضع الشئ في موضعه بلا جور أو عدوان أو مجاوزة للحد، ولا اعتبار للبغض أو للحب في ميزان هذه الحرب، ولا اعتبار لمصلحةٍ تُقدم على عموم النصوص، ولا تُغمض عين لصالح هوي أو ميل في نفس، بل التعامل عام بميزان العدل.
و"الحرب العادلة" في المفهوم الإسلامي تقوم على أخلاق وآداب، قل أن توجد بل ندر إن لم نقل عدمت في سائر حروب أهل الأرض، ففيها الدقة والحيادية في الحكم بلا مجاوزة للحد وفيها التوقف والتحرز دون الخطأ.(1/256)
و"الحرب العادلة" في المفهوم الإسلامي الاعتبار فيها أولاً وآخراً لدين الله فهي من الله لله، والله أرحم بعباده من أنفسهم، وما فتح باب الجهاد إلا إغلاقاً لباب تسلط الكفر على الكافرين، وتعبيد الأرض لمن يُريد أن يختار وهو مُختار بين الدخول في دين الله وبين البقاء في رق العبودية لغير الله، وعليه الجزية التي تمنع من قتله، وعليه فـ"الحرب العادلة" تصب في مصلحة القوم أكثر منها في صالح المسلمين، يُضحي فيها المسلمون بالنفس والنفيس ويهجرون الأوطان والزوجات والأولاد، ويتركون الأرض والثروات، بل ويضحون بأنفسهم وأموالهم، لماذا؟
في الحديث عند البخاري وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من قوم يُقادون إلى الجنة بالسلاسل" وفي رواية الطبراني: "وهم كارهون".
وحتى لا يظن كل صعلوك في زُقاق أنه صاحب "حرب عادلة"، ثم يجمع الصُيع الضُيع ويكوِّن عصابة ويرفع شعار "الحرب العادلة" ويقصد بها نُصرة مظلوم أو إغاثة ملهوف أو رد حق أو نهي عن منكر.
فما هو الضابط الذي يضبط هذا المفهوم، حتى لا يأتي شذاذ الآفاق ببهرجة المصطلحات وتزويق العبارات وزخرفة الشعارات، يبغون دعوة الناس إليها، وفي الأصل حمل الناس عليها لما في أنفسهم من بواطن طمع ومكامن سرقة ونهب ورغبة في حكم.
يمكن وضع معايير للحرب العادلة:
أولاً: سمو وعدالة ووضوح الهدف:(1/257)
ويتضح من قوله تعالى: "وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [التوبة: 40] وفيه الدليل على أن الهدف العام والأول هو إعلاء كلمة الله وليس أي مسمي آخر لا قبلية ولا عصبية ولا جنس أو لون، في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل حَمِيَّةً، والرجل يقاتل شجاعةً، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فأيُّها في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وفي الحديث التفات بديع لئلا يخوض في الدقائق والتفصيلات والمسميات والأوصاف المطروحة، فقد حسم الأسباب في سبب واحد جعله ميزاناً لكل من يسير على المنهج: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، وبمفهوم المخالفة: كل من سواه فليس في سبيل الله.
وعليه فالميزان الأول هو: كلمة الله ...
أولياء الله يقاتلون لتكون هي العليا ...
وأولياء الطاغوت يقاتلون لتكون هي السفلي وكلمة الطواغيت هي العليا ...
قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِين كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً "[النساء: 76].
والعموم في قوله تعالي: "الذين آمنوا، الذين كفروا" عموم يوضح مسالك القتال بما لا يعدوها:
- سبيل الله وهو الذي يسلكه المؤمنون ولا يجوز لهم سلوك طريق غيره.
- سبيل الطاغوت وهو سبيل المجرمين وفيه يدخل كل الكفار باختلاف مسمياتهم أو أطيافهم أو لون راياتهم أو أماكن سكناهم، ولا يمكن أن يكونوا في طريق غيره، ولو رفعوا شعارات التحرير والتعمير، فهدفهم: " وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ " [التوبة 34].(1/258)
وعليه فالذي يجمع "الذين آمنوا" هو"سبيل الله" والذي يجمع "الذين كفروا" هو "سبيل الطاغوت".
وما يزيد في سمو الهدف الإسلامي أنه مؤيد بالله ومن كان الله معه فمن عليه؟
قال تعالى: "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" [التوبة: 32].
ثانياً: الانضباط بقائد والالتزام بالهدف:
فحروب الإسلام قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الشريفة وبتوجيهه لخيار الصحابة ممن يُعرف بخبرته القتالية وحنكته في المعارك الحربية، على هذا سار في معاركه وغزواته - صلى الله عليه وسلم - ، فأما قدرته القيادية على نور من الله فهي مما قامت عليه الأدلة القرآنية والأدلة العقلية وشهد له بها المقر والمخالف، وماذا نقول فيمن جاء القرآن بتزكيته؟
وأما تخيره للقادة فهو من الدقة بمكان ولا اعتبار للمحبة أو القرابة أو حتى السبق للإسلام بل المعيار هو القدرة على القيادة، وأوضح دليل على ما نقول ما جاء في غزوة مؤتة فقد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وقدمه على ابن عمه جعفر، وقال: "إن أصيب –أي زيد- فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة" [البخاري عن ابن عمر] ومنه يتضح الانضباط بمُسمى القائد، والحسم يكون بين الأخيار إذا قُتل القائد، لذلك اتفقت كلمة المسلمين على خالد بن الوليد بعد مقتل القادة الثلاثة.(1/259)
وهناك وضوح في الغاية والنهاية في كل معركة وهذا واضح جلي في أمره - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص قائد سرية الخرار، فقد عهد إليه أن لا يجاوزها، وكما في الطبقات لابن سعد والسيرة الحلبية من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: "سر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل أبنى - ناحية بالبلقاء من أرض سوريا، بين عسقلان والرملة، وهى قرب مؤتة - وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم، فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك"، وواضحة أسباب السرايا والغزوات والتي ما كانت تتعدي هدفها، كاغتيال أو فض جمع أو تأديب قوم.
ومن لازم القيادة أن يسير الخلف على منوال السلف بلا حيد عن الطريق، لأنه مما اتفق عليه سلفاً أن الطريق واحدة فإذا وقع التغيير فالإثم على المُبدِّل، والسير على نفس المسار هو دأب الصادقين، يوضحه موقف أبي بكر من مراجعة عمر له في شأن إبقاء جيش أسامة واستخدامه للدفاع عن المدينة أو حرب المرتدين، فقال أبو بكر: "والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة"[البداية والنهاية].
ومن ذلك قوله في مراجعة عمر له بشأن ولاية أسامة على الجيش بقوله: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
ومع أن هذه المسائل اجتهادية وهي تخضع للمصلحة التي يراها الإمام، فقد كانت المصلحة كل المصلحة في الاتباع، وعلى هذا سار الخلائف واحداً تلو الآخر على الرغم من الفروق المتباينة فيما بينهم، ولكن كانت تجمعهم صفتان:(1/260)
- تخير خير القواد لفتح البلاد، ممن سيرتهم وسريرتهم الورع والتقوى بجانب الخبرة والحنكة والدراية إلا في الاستثناء وليس بقاعدة، حتى لو قيل: "الحجاج"! فعلي الرغم مما قيل فيه فقد امتلك مواصفات المروءة والرجولة والقيادة وهو من هو، ويكفيه أنه كان تام الولاء للخليفة "عبد الملك بن مروان" حتى ما كان يوجد من هو ألزم منه في قرار الخليفة.
- الرجوع في التوسع والفتح للقيادة العليا وكما بدأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد سار من بعده على نفس الهدي، كان مجلس الخليفة هو الذي يحدد أين تسير الجيوش والقواد وحدودها، مثاله تسيير الجيوش في حرب الردة للقبائل ثم حرب العراق والإذن فيه من عمر للمثنى بن حارثة، ومنه تحرك خالد من العراق لنصرة أهل الشام، ومنه توقف عمرو في دخول مصر حتى يستشير الخليفة، وكذلك موقف معاوية من ركوب البحر ومنع عمر من ذلك ثم سماح عثمان - رضي الله عنهم - أجمعين.
ثالثاً: استخدام القوة بما يحقق الهدف بلا تعدي أو تجاوز:
قال تعالى: " وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " [البقرة190] قال ابن كثير: " الذين يقاتلونكم " إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال: " وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً "[التوبة36]، ولهذا قال في هذه الآية: " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ "[البقرة191]، أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا.(1/261)
وقوله: " وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ " أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم.
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع "، وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع " [رواه الإمام أحمد ولأبي داود عن أنس مرفوعا نحوه] وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وُجدت امرأة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان، وعند الإمام أحمد باسناد حسن عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة " والمعنى أن القوم الضعاف حين ملكهم الله رقاب أقوياء الأمس اعتدوا وتجبروا وتسلطوا واستعملوهم في غير مرضاة الله فسخط الله عليهم.
رابعاً: تُستخدم القوة حين تُستنفذ طرق السلم والصلح:(1/262)
قال تعالى: " إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا " [النساء 91، 90].
قال القرطبي: أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا, وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم, وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم.
وقال الطبري: فإن تولى هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -, وأبوا الهجرة, فلم يهاجروا في سبيل الله, فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم, سوى من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق, فدخلوا فيهم وصاروا منهم ورضوا بحكمهم, فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم, أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم, ولا تغنم أموالهم.(1/263)
ومع أن الطبري حكم بنسخ الآية ولكن يبقى موضوع حديثنا مما لا يلحقه النسخ، ليس للتقدم أو التأخر في نزول الآيات، أو الحسم الذي جاء في سورة براءة بعد أربعة أشهر ثم القتال العام، ولكن المقصود أن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت النزول إلى الصلح متى عُرض، كما في بني قينقاع وبني النضير والحديبية وخيبر وفدك وغيرها، ومع أن هذه الأحداث سبقت سورة براءة ولكن حكم المصالحة وأسبقيته للحرب استمر بفهم الصحابة وهم خير من علم الناسخ والمنسوخ، فمن المعلوم من سيرهم باتفاق، العرض: إما الإسلام وإما الجزية وإما الحرب، ولا يخفى أن الجزية هي من قبيل المصالحة.
خامساً: أن يكون السلم هو محصلة الحرب وغايتها المنشودة:
والسلم هنا هو الأمان وما يكون ذلك إلا بالإسلام بإقرار الموافق والمخالف، فقد كانت الظعينة تجوب ديار الإسلام لا تخشى إلا الله، وأنها لو سارت وحدها في الصحاري والبراري لكانت آمنة مطمئنة، وفي الإسلام أمنت القوافل وما عادت تحتاج لمن يحميها كما كانت في زمن الجاهلية، وفي الإسلام أمنت حرية العبادات وطبق المسلمون شعائر دينهم بدون تحرشات الجاهلية، ومارس اليهود والنصارى عباداتهم على ما تم المصالحة عليه مع أمراء المسلمين.
والصلح مُقدم على الحرب كما في قوله تعالى: " وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [الأنفال 61]، واعتبر سبحانه أن الحرب في ذاتها إذا قُصد بها غير مراد الله كانت من مستلزمات الفساد في الأرض، واعتبرها سبحانه صفةٌ لبني إسرائيل والله لا يحب المفسدين، قال تعالى: " كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " [المائدة 64].(1/264)
ووجه الله سبحانه عباده المؤمنين إلى الالتزام بظاهر القول وعدم الخوض في النوايا للحكم على الآخرين، فقال جل في علاه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " [النساء 94].
والرضا بالسلم وأن يكون محصلة الحرب هو ما كان من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده، فكان محصلة إجلاء اليهود من المدينة هو السلام، وما ألجأ المسلمون إلى إعلان الحرب إلا ما نقضوه هم من عقودهم وعهودهم، فلما نقضوا ما عاهدوا عليه وقعت العقوبة عليهم، وكانت المحصلة السلام، ولكن بما يحقق المصلحة للجميع وللمسلمين أولاً، وليس هذا من باب العصبية، فاليهود من طبعهم الخداع والخيانة ونبذ العهود، ومع ذلك أبقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، على ما في وجودهم من خطر قد يمكرونه بالتحالف مع الأعداء، وهذا ما حدث، ومع ذلك فقد جعل السلم هو المحصلة إلا في بني قريظة لخيانتهم في زمن الحرب فشُددت العقوبة، وفي الحديبية قال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لا يسألونني خُطة يُعظمون فيها حُرمات الله إلا أعطيتهم إياها"[البخاري عن المسور ومروان].
وعلى هذا سار الأمر فصالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على نصف ثمارهم، "ما بدا للمسلمين أن يقروهم في ديارهم" ومثله صلح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع نصارى بيت المقدس، وعمرو بن العاص - رضي الله عنه - مع قبط مصر.(1/265)
والسياسة العامة رسمها ربعي - رضي الله عنه - بقوله: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
سادساً: أن تعتمد على معطيات ترشح النجاح، فالخاسر يرغب بأن يكون الكل مثله:
وهذا واضحٌ من معطيات الخروج لبدر فقد قال تعالى: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ "[ الأنفال7]، فالذي كان عند الصحابة تأكيد رباني بحتمية النصر، وقد تكرر في كثير من المواقف، مثاله ما جاء في صحيح البخاري في معرض مراجعة عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، قال - رضي الله عنه -: "قلت أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به، قال: "بلى، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به".
ومنه ما جاء في تفسير قوله تعالى: "وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِه"[ الفتح 20] قال الطبري والقرطبي وابن كثير: إن الوعد في الآية هو فتح خيبر، أي أن خيبر كانت وعداً من الله.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه فاخرج إليهم، قال: "فإلى أين؟"، قال: ها هنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم.
أي أن الله - عز وجل - هو الذي وجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحابة نبيه - رضي الله عنهم - لحرب قريظة، والوعد فيها بالنصر متحقق.(1/266)
ومع انقطاع النبوة لم يبق متسع لطرح مسألة نزول الوحي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - على كائنٍ من كان، ولكن عموم أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، جعل الصحابة الكرام يثقون بما أخبرهم به - صلى الله عليه وسلم -، كما في حديث: "أي المدينتين تُفتح أولاً؟ قال: مدينة هرقل تُفتح أولاً يَعْنِي قسطنطينية "، وكالبشارة بفتح فارس والروم.
والمقصود أن حرب الإسلام تسير وفق معايير النجاح الراجحة، وليس بما يعتمد على الحسابات البشرية والمطامع الذاتية والتي تكون فيها عوامل النجاح والخسارة معايير بشرية، بحيث يستخدم البغاة: (عليّ وعلى أعدائي) كما اعتمدها كثير ممن خاض الحروب الأرضية كالترك والتتار والروم وغيرهم.
وأما معالم "الحرب العادلة" والتي تمثلت كسلوك يدل على القول ولا ينافيه:
- هدف الحرب في الإسلام إحقاق الحق وإبطال الباطل:
قال تعالى: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" [الأنفال8، 7].
- قتال المعتدين لرد العدوان ودفع الظلم:
قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير"[الحج 39].
- القتال نصرة للمستضعفين وإنصافا للمظلومين:
قال تعالى: "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا"[النساء 75 ].
- لا إكراه في الدين:(1/267)
قال تعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [البقرة 256].
- تحديد المستهدفين بالقتل بعد تضييق دائرة إهدار الأنفس:
قال تعالى: "وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ" [الانعام151]، وقال:"مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"[المائدة 32]، وقال:"فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا" [محمد 4].
- لا يُقصد الإفساد من قتل للبهائم وتخريب للدور ونهب للثروات:
والمقصود عدم الاستهداف أو الانطلاق من أجل هذا التخريب، أما إذا جاء عرضاً بما يحقق المصلحة أو يوقع الرعب ليستسلم الخصم، فيُصار إليه من باب الحاجة لغيره وليس لذاته.
عند البخاري عن أبي هريرة قال : بعثنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في بعث فقال : "إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين فأحرقوهما بالنار ثم قال حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا وإن النار لا يعذب بها إلا اللّه فإن وجدتموهما فاقتلوهما " .(1/268)
وأخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلاً: " أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع فقال: إني موصيك بعشر خلال، لا تقتل امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطع شجرًا مثمرًا ولا تخرب عامرًا ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله ولا تعقرن نخلًا ولا تحرقه ولا تغلل ولا تخبن" [رواه البيهقي مرسلاً من حديث سعيد بن المسيب ، وسيف في الفتوح عن الحسن بن أبي الحسن مرسلاً].
قال المهلب : ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين العرنيين بالحديد، وقد أحرق أبو بكر بالنار في حضرة الصحابة ، وحرق خالد بن الوليد ناس من أهل الردة وكذلك حرق عليّ.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد اللّه قال : قال لي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : ألا تريحني من ذي الخلصة، قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل وكان ذو الخلصة بيتًا في اليمن لخنعم وبجيلة فيه نصب يعبد، يقال له كعبة اليمانية، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها ثم بعث رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشره بذلك فلما أتاه قال: يا رسول اللّه والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبرك النبي - صلى الله عليه وسلم - على خيل أحمس ورجالها خمس مرات " .
وفي الصحيحين عن ابن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير وحرق ولها يقول حسان : وهان على بني لؤي ** حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة..."
قال ابن حجر : ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك.(1/269)
وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال غيره إنما نهى أبو بكر عن ذلك لأنه قد علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على المسلمين.
والقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تعارض، فالحكم يجري على ما أجراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ما رآه أحد من الصحابة كائناً من كان، قال الشوكاني: ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي .
- الوفاء بالعهود والمواثيق:
قال تعالى: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [التوبة 4]، وقال جل في علاه:"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ". [الأنفال 58].
وفي حديث الحديبية عند البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية: ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين...(1/270)
وفي سنن البيهقي الكبرى تفصيلاً للموقف فقال:... ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن بها أفلت إليه أبو بصير عتبة بن أسيد... فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجراه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعا إليه كتابهما، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير فقال له: "يا أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت وإنا لا نغدر فالحق بقومك"، فقال: يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي؟!، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصبر يا أبا بصير واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجا "، قال فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال: أنظر إليه، قال: إن شئت ،فاستله فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا رجل قد رأى فزعا"، فلما انتهى إليه قال:" ويحك ما لك"، قال: قتل صاحبكم صاحبي فما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً السيف، فوقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك وقد امتنعت بنفسي عن المشركين أن يفتنوني في ديني وأن يعبثوا بي"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه محش حرب لو كان معه رجال"، فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص(على ساحل البحر الأحمر في طريق قوافل قريش)".
ومثله ما حدث مع أبي جندل - رضي الله عنه - في الحديبية.(1/271)
أخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان عن أبي رافع مولى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال بعثتني قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع في قلبي الإسلام فقلت : يا رسول اللّه لا أرجع إليهم، قال : "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع " .
قال الشوكاني: واللّه أعلم أنه كان في المرة التي شرط لهم فيها أن يرد من جاءه منهم مسلماً.
ومن مظاهر "الحرب العادلة":
- تحريم الخيانة: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [الأنفال: 58]
- إكرام الأسرى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [الأنفال: 70].
- المن على الأسرى:
عند مسلم وغيره عن أنس : " أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من حيال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - سلماً فأعتقهم"، وفي البخاري عن جبير بن مطعم : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ".(1/272)
وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة قال : بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ماذا عندك يا ثمامة" قال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بعد الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى كان الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة؟" قال عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : "أطلقوا ثمامة"، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد: واللّه ما كان على الأرض أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، واللّه ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، واللّه ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا واللّه لا تأتيكم من يمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
- الرسل لا يُقتلون:(1/273)
أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما : أتشهدان أني رسول اللّه قالا : نشهد أن مسيلمة رسول اللّه فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: "آمنت باللّه ورسوله لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما"، قال عبد اللّه : فمضت السنة أن الرسل لا تُقتل .
-لا يُقتل إلا من يقاتل:
أخرج مسلم في صحيحه عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمّر أميرا على جيش، أو سريّة، أوصاه في خاصّته بتقوى الله، و بمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:" اغزوا، على اسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا، فأخبرهم بأنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة و الفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله تعالى، وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله و ذمّة نبيّه، فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمّتك؛ فإنكم إن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمّة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، بل على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله تعالى، أم لا؟"
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان .(1/274)
وعند أحمد وقال صاحب مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح عن الأسود بن سريع قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : "لا تقتلوا الذرية في الحرب" فقالوا: يا رسول اللّه أوليس هم أولاد المشركين؟ قال: "أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ " .
وعند أبي داود وصححه الألباني عن رباح بن الربيع - رضي الله عنه - قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فرأي الناس مجتمعين على شئ فبعث رجلا فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فقال: علي امرأة قتيل، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"، وعليه فلو كانت ممن المقاتلة لجاز قتلها لقتالها، لا لكونها امرأة.
وهل العلة فى القتل هي المقاتلة أم الكفر؟
خلاف بين العلماء يُفصل في موضعه إن شاء الله.
- لا تُستهدف البيع والصوامع:
قال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [البقرة: 114].
- لا سرقة ولا غلول:
قال تعالى: " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ "[ آل عمران 161]، وهذا الزجر والوعيد من أشد أساليب التهديد.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال في أحداث خيبر: "... فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يحل رحله فرُمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئاً له الشهادة فقال : "كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم"، قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: يا رسول اللّه، أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : "شراك من نار أو شراكان من النار ".(1/275)
وعند مسلم عن عمر قال : " لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".
- الدعوة قبل القتال:
عند أحمد والطبراني برجال الصحيح كما قال صاحب مجمع الزوائد عن ابن عباس قال : ما قاتل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قومًا قط إلا دعاهم .
وعند الإمام أحمد عن فروة بن مسيك قال : قلت يا رسول اللّه أقاتل بمقبل قومي مدبرهم، قال: "نعم"، فلما وليت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام".
وعند مسلم في الصحيح عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا… وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".(1/276)
وأخرج الشيخان عن ابن عوف قال : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث".
قال الشوكاني: وفي المسألة ثلاثة مذاهب :
الأول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الإسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم .
الثاني: أنه لا يجب مطلقًا.
الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يُجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الأحاديث.
أما الدعاء بالهداية والرغبة في إسلام العرب والطمع في دخول المشركين في الدين، فقد تجلي في عدة أحاديث منها ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال: "اللهم اهد دوسا وأت بهم"، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه".
- لا يُقتل غدراً:
قال تعالى: " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ " [الأنفال 58]، قال الشوكاني: والمراد إخبار المشركين بأن الذمة قد انقضت وإيذانهم بالحرب إن لم يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .(1/277)
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه عن سليمان بن عامر قال : كان معاوية يسير بأرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر وفاء لا غدر، أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ عمرو بن عبسة ".
- النهي عن المثلة:
قال القرطبي في قوله تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "[المائدة8] قال: دلت الآية على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه, وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق, وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم، وهذا مذهب القرطبي في المنع ومذهب غيره الجواز ولكن قبل المعركة أما بعدها فلا، قال: قال ابن عبد البر في الاستذكار: والمثلة محرَّمة في السنة المجمع عليها، وهذا بعد الظفر، وأما قبله فلنا قتله بأي مثلة أمكننا.
ومال النووي للكراهة في شرحه على صحيح مسلم، ورأي ابن حزم في المحلى أن النهي مرتبط بما لم يجئ فيه النص، فقال: المثلة ما كان ابتداءً فيما لا نص فيه، وأما ما كان قصاصاً أو حداً، كالرجم للمحصن أو كالقطع أو الصلب للمحارب فليس مثلة.(1/278)
وأجمل البيان الإمام ابن تيمية جمعاً بين الأدلة والأقوال فقال في مجموع الفتاوى: المثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها والصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد، ولا يكون نكالاً لهم عن نظيرها، فأما إن كان في التمثيل الشائع دعاء لهم إلى الإيمان، أو زجر لهم عن العدوان، فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القضية في أُحُد كذلك، فلهذا كان الصبر أفضل، فأما إن كانت المثلة حقاً لله تعالى فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار ويحرم الجزع.
الحرب العقابية
العقوبة أربعة أنواع: حدود وجنايات وتعزير ومخالفات.
أما الحد: فهو مما يرتبط بالمسلمين، وهو مُقدر مُحدد مُشرع على معاصٍ معروفة، وهو من حق الله لا يجوز لا للحاكم أو غيره إسقاطه أو تخفيفه.
وأما الجناية: فهي التعدي على مال أو بدن الغير، والعقوبة هنا من حق العبد، فله العفو وله القصاص، وهي مُقدرة بمثل التعدي ولا تجوز الزيادة.
وأما التعزير: فهو عقوبة على معصية لا حد فيها ولا كفارة، وعليه فهو غير مقدر ولا لازم بل يعود في ذلك إلى تقدير المصلحة، بما يزجز الآخرين عن ارتكاب تلك التعديات، وفي التعزير تخفيف عن الحد أو الجناية ففيه العفو وفيه الاعذار.
وأما المخالفات: فهي العقوبات التي يوقعها الحاكم على من يخالف أمره، سواءً بالأوامر أو النواهي، وسواءً كان مخالفة له أو لأحد ولاته أو معاونيه، والأصل فيها قيام الخليفة بأمر الله وأي مخالفة لما أمر به من تقدير المقادير أو الأعطيات أو التقسيم والهبات فهو ضمن الأصل:" أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ "[النساء59].
هذه هي العقوبات ولا يوجد غيرها أو من يخرج عنها، ففيها الكافر والمسلم وغيرهما من مشركين أو ملحدين أو وثنيين.(1/279)
وقد استوعبت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - "الحرب العقابية" بلا ظُلم أو جور أو تعدي أو مجاوزة للحد، بل كان مما يزجر ويردع وينهى الآخرين وهو من باب: "فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ " [الأنفال57].
ومع أن العفو كان من شيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعليه تضافرت الأدلة، فهو الذي كان يتنازل عن الإساءة بحقه وهذا من حقه في حياته، لأنها من الحقوق الآدمية الخاصة وللرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتنازل عنها أو يعفو عن فاعلها مثل عفوه عن اليهودية التي سمته، أو الأعرابي الذي شهر عليه سيفه، أو اليهودي الذي جبذ الرداء وعلا في الصوت وآذى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بآبائه وأجداده، أو هند التي أكلت كبد حمزة، وقريش وما فعلته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم.
فالعفو أصل والعقوبة حق ولها أحوال:
- ادعاء النبوة:
في البداية والنهاية لابن كثير: كان الأسود مشعوذًا يريهم الأعاجيب، وكان أول ادعائه النبوة عندما بلغه مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -... وكانت ردته أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيها المتمردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه... ثم ركب فتوجه إلى نجران... فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود، وقتله... وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين في اليمن كتابًا يأمرهم بقتال الأسود.. وعمل المسلمون على قتل الأسود مصادمة أو غيلة، وقد قتله فيروز الديلمي ومن معه - رضي الله عنهم -.
- محاولة قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/280)
في الزاد عن سبب غزوة بني النضير: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم لِيعينوه في دية الكلابيين لما بينه وبينهم من الحلف، فقالوا : نعم، وجلس هو وأبو بكر وعمر وعلي، وطائفة من أصحابه، فاجتمع اليهود وتشاوروا، وقالوا : مَن رجلٌ يُلقِى على محمَّدٍ هذه الرَّحى فيقتله؟ فانبعث أشقاها عمرو بن جِحاش لعنه الله، ونزل جبريلُ مِن عند رب العالمين على رسولِهِ يُعلمه بما همُّوا به، فنهض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من وقته راجعاً إلى المدينة، ثم تجهَّز، وخرج بنفسه لِحربهم.
وهنا تظهر الرحمة النبوية فقد كانت عقوبة بني النضير الاجلاء جميعاً، وهو تخفيف من الرسول بعد محاصرتهم وارادته قتالهم، وقد عفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زينب بنت الحارث حين وضعت له السم في الذراع، وهو من حقه فلما مات البراء قتلها به.
وفي الموقفين كانت ارادة القتل عند اليهود واضحة ولكنه عفا - صلى الله عليه وسلم -، وكما قال كعب بن زهير - رضي الله عنه -: نبئت أن رسول الله أوعدني ** والعفو عند رسول الله مأمول.
- قتل أحد المسلمين:
في الزاد: قال أبو داود عن أبي سلمة : أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْلِيَّةً . . . وذكر القصة، وقال : فمات بشرُ بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية : "ما حملكِ على الذي صنعت ؟" قال جابر : فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُتِلَتْ .
قلت(القائل ابن القيم) : كلاهما مرسل، ورواه حمَّاد بن سلمة... عن أبى هريرة متصلاً : ( انه قتلها لما مات بشر بن البراء، وقد وُفِّقَ بين الروايتين، بأنه لم يقتُلْها أولاً، فلما مات بشر، قتلها .
- من يخطط لقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُقتل:
وقد عفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأعرابي الذي امتشق السيف تحت الشجرة كما رواه الشيخان عن جابر - رضي الله عنه -.(1/281)
ويحق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعاقبة، عند ابن سعد: أن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا رجل يغتال محمداً؟ فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم إلى أبي سفيان وقال : "إن أصبتما منه غرة فاقتلاه" فدخلا مكة فمضى عمرو يطوف بمكة ليلاً، فرآه معاوية فعرفه فأخبر قريشًا بمكانه فطلبوه وكان فاتكًا في الجاهلية، فهرب هو وسلمة فلقي عمرو بن عبيد الله بن مالك فقتله، وقتل آخر من بني الديل سمعه يقول :
ولست بمسلم ما دمت حيًا ولست أدين دين المسلمين
ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة وجعل يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك .
وله سبب آخر ذكره الشافعي وابن اسحاق على أنه عقوبة على قتل خبيب وأصحابه.
وحتى إن لم يُقتل أبو سفيان، فحكم المسألة باق بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو استطاعا لأبي سفيان قتلاً لما تأخرا.
- التعدي على المسلمين، سواء بأنفسهم أو بأموالهم:
في الزاد وأصله في الصحيحين: سرَّيةُ كُرز بن جابر الفِهْرِى إلى العُرَنِيِّينَ الذين قَتَلُوا راعى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، واستاقُوا الإبلَ في شوَّال سنةَ سِتٍّ، وكانت السَّرِيَّةُ عشرين فارساً .
وفى لفظٍ لمسلم : سَمَلُوا عَيْنَ الرَّاعى، فبعثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في طَلَبِهمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُم وَأَرْجُلَهُم، وَتَرَكَهُم في ناحِيَةِ الحَرَّةِ حتَّى ماتُوا .
- الثأر من قائد العدو انتقاماً لمقتل أحد المسلمين:
قال ابن إسحاق والشافعي في الأم بلا سند: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عندما قُتل عاصم بن ثابت وخبيب وزيد بن الدثنة، بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه.
- عقوبة من يتجرأ على قتل رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(1/282)
في الزاد وابن هشام وغيرهما في غزوة مؤتة: وكان سببُها أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عميرٍ الأَزْدِى أحَد بنى لِهْب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رِباطاً، ثم قدَّمه فضرب عنقه... فتجهَّز الناس... فجاء هرقل بمائة ألفٍ مِن الروم، وانضمَّ إليهم مِن لَخم، وجُذام، وبَلْقَيْن، وبَهْرَاء وبَلي، مائةُ ألف... وقتل القادة الثلاثة ثم أخذ الراية سيف الله خالد، فدافع القومَ، وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين، وانصرف بالناس .
وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين، والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم ، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأُخرى .
- عقوبة من يؤذي الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يهجوه:
في زاد المعاد قال ابن إسحاق : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، كتب بُجَيْر بن زُهَيْر إلى أخيه كعب يُخبره أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بقى من شعراء قريش كابن الزَّبَعْرَى، وهُبيرة بن أبى وهب قد هربوا في كلِّ وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة، فَطِرْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً مسلماً، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجائك.
- عقوبة من ينقض العهد:
في الزاد وابن هشام: غزا رسول الله بنى قَيْنُقَاع، وكانُوا مِن يهودِ المدينة، فنقضُوا عهدَه، فحاصرهم خمس عشرةَ ليلةً حتى نزلُوا على حُكمه، فَشَفَعَ فيهم عبدُ اللهِ بن أُبَىّ، وألحَّ عليه، فأطلقهم له.
ومرجع العقوبة للحاكم فله المن وله ما سوى ذلك من العقوبات، التي تزجر النفس والغير عن تكرار الفعل.
- عقوبة من ينقض أو يخالف ما اشترط عليه مع أهل الذمة:(1/283)
في الزاد أن أهلَ الذِّمة إذا خالفوا شيئاً مما شُرِطَ عليهم، لم يبق لهم ذِمة، وحلَّت دِماؤهم وأموالهم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد لهؤلاء الهُدنة، وشرط عليهم أن لا يُغيِّبوا ولا يَكتُموا، فإن فعلوا حلَّت دِماؤهم وأموالُهم، فلما لم يفُوا بالشرط، استباحَ دماءَهم وأموالَهم، وبهذا اقتدى أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب في الشروط التي اشترطها على أهل الذِّمة، فشرط عليهم أنهم متى خالفُوا شيئاً منها، فقد حلَّ له منهم ما يَحِلُّ مِن أهل الشِّقاق والعَداوة .
- عقوبة من يمنع قومه عن الدخول في الدين:
جاء في السيرة في قتل عصماء بنت مروان: كانت تعيب في شعرها على الإسلام وأهله ولها صولات وجولات مع حسان، بل كانت سببا مانعاً وحائلا دون إسلام قومها، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطاولها قال: "ألا آخذ لي من ابنة مروان؟ " فسمع ذلك عمير، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها في بيتها فقتلها، ثم أصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني قد قتلتها ، فقال: "نصرت الله ورسوله يا عمير"، فقال : هل علي شيء من شأنها يا رسول الله ؟ فقال: "لا ينتطح فيها عنزان" .
- عقوبة من يهجو الإسلام ويعيب على أهله:
وقد سبق ذكر الذي حدث مع عصماء بنت مروان.
وكان من حديث كعب بن الأشرف أنه كان من أشد اليهود حِقدا وضغينة على الإسلام، وإيذاءً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاناً للحرب على المسلمين.
كان من قبيلة طيء وأمه من بني النضير، ولكنه فارقهم في حصن له، ولما بلغه خبر انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، واللَّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.(1/284)
وقام يهجو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ويؤلب عليهم عدوهم، بل تمادى في فجوره وأتى قريشاً ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك ضغائنهم، ويشعل نار حقدهم، ويدعوهم إلى حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
يسأله أبو سفيان والمشركون أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا" [النساء: 51]
ثم عند مرجعه، أعلنها حرباً إعلامية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم -، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بفحش لسانه أشد الإيذاء، حينها صدر الأمر من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى اللَّه ورسوله"، فخرج له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة - وهو أخو كعب من الرضاعة - والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المجموعة محمد بن مسلمة. [ الزاد وسيرة ابن هشام].
أما أبو عفك فقد نجم نفاقه، حين قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن سويد بن صامت، وكان قوالاً للشعر هجَّاءً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لي بهذا الخبيث؟" فخرج سالم بن عمير، أخو بني عمرو بن عوف، وهو أحد البكائين، فقتله، كما ذكره ابن إسحاق.
- معاقبة الجموع التي تقصد حرب المدينة:(1/285)
عند ابن هشام: وكان من حديث اليسير بن رزام أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبد الله بن أنيس، فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففطن به عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف... ومال كل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صاحبه من يهود فقتله.
وذكر ابن سعد في الطبقات: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن خالد بن سفيان وكان ينزل عرنة وما والاها في ناس من قومه وغيرهم، قد جمع الجموع لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبعث إليه عبد الله بن أنيس ليقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله قال: "إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان"، قال: وكنت لا أهاب الرجال واستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول-أي أكذب- فأذن لي، فأخذت سيفي وخرجت إلى خزاعة... فمشيت معه وحدثته واستحلى حديثي حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت رأسه، ثم دخلت غاراً في الجبل... وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين، ثم خرجت فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار حتى قدمت المدينة، ووضعت رأسه بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته خبري.(1/286)
وذكر ابن سعد: أن أبا رافع بن أبي حقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله .
وفي الزاد وابن هشام: في غزوة دُومَة الجندل... خرج إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول سنة خمسٍ، وذلك أنه بلغه أن بها جمعاً كثيراً يُريدُونَ أن يَدْنُوا مِن المدينةِ، وبينها وبينَ المدينة خَمْسَ عشرة ليلة... فلما دنا مِنهم، إذا هُم مُغرِّبُونَ، وإذا آثار النعم والشاءِ فهجَمَ على ماشيتهم ورُعاتهم، فأصابَ مَن أصابَ، وهَرَبَ مَنْ هَرَبَ، وجاء الخبرُ أهلَ دُومَة الجَنْدَلِ، فتفرَّقُوا، ونزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِسَاحَتِهِم، فلم يَجِدْ فيها أحداً، فأقامَ بها أياماً، وبثَّ السرايا، وفرَّق الجيوشَ، فلم يصِب منهم أحدَاً، فرجَعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عُيينةَ بْنُ حصن .(1/287)
وفي الزاد والأصل في الصحيحين: في غزوةِ المُرَيْسِيع وسببُها : أنه لما بلغه - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث ابن أبي ضِرار سيِّدَ بني المُصْطَلِق سار في قومه ومن قَدَرَ عليه مِن العرب، يُريدونَ حربَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فندب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ فأسرعوا في الخروج... وبلغ الحارثَ بن أبي ضرار ومَنْ معه مسيرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَتْلُه عينَه الذي كان وجَّهه لِيأتِيَه بخبرِهِ وخبرِ المسلمين، فخافُوا خوفا شديداً، وتفرَّق عنهم مَنْ كان معهم مِن العرب، وانتهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُرَيْسِيعِ... فترامَوْا بالنَّبْلِ ساعةً، ثم أمَر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، فحملوا حملةَ رجلٍ واحد، فكانت النُّصرةُ، وانهزم المشركون، وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ منهم، وسَبَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النساءَ والذَّرارى، والنَّعَمَ والشَّاءَ، ولم يُقْتَلْ مِن المسلمين إلا رجلٌ واحد، هكذا قال عبدُ المؤمن ابن خلف في سيرته وغيرُه، وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قِتال، وإنما أغارَ عليهم على الماء، فَسَبى ذَرَارِيَهم، وأموالَهم، كما في الصحيح: أغارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -على بَنى المُصْطَلِقِ، وهُمْ غَارُّونَ .
- القيام بأعمال القرصنة:
في الرحيق المختوم وفتح الباري: سرية علقمة بن مُجَزِّرِ المُدْلِجي إلى سواحل جُدَّة... بعثهم إلى رجال من الحبشة، كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَرْصَنَة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا .
- قتل ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/288)
روى أبو داود عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه - أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَمَهَا.
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: وهذا الحديث جيد.
وروى النسائي وأبو داود وصححه الألباني عن ابن عباس أن رجلاً أعمى كانت له أم ولد، تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجمع الناس فقال: "أنشد الله رجلاً فعل ما فعل، لي عليه حق، إلا قام"، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا اشهدوا أن دمها هدر".
قال ابن تيمية في الصارم: وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودليل على قتل الرجل الذمي، وقتل المسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى.
- قتل من يغلظ على الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
روى النسائي وصححه الألباني عن أبي برزة الأسلمي قال: أغلظ رجلٌ لأبي بكر الصدِّيق، فقلت: أقتله ؟ فانتهرني، وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - .(1/289)
أي أن حكم من يُغلظ في القول أو يفحش فيه القتل، وهو حق خاص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفهم الصديق - رضي الله عنه - ، وللرسول التجاوز والعفو لما يراه - صلى الله عليه وسلم - من تأليف القلوب أو الدعوة إلى الإسلام.
- قتل المرتد والكذاب:
أخرج أبو داود والبيهقي وصححه الأباني عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم وابن أبي سرح... فذكر الحديث، قال: وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، قال: لا إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين.
قال الدارقطني عن عبد الله بن أبي سرح: ارتد، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، ثم عاد مسلماً، واستوهبه عثمان - رضي الله عنه -.
فهذا حكم المرتد وكان جرمه أن كان يقول: انما كنت أكتب لرسول الله من عند نفسي، والمقصود جواز قتل المرتد بل الندب إليه، ولو قتله أحد الصحابة لما عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه الفعل ولأقره عليه.
الحرب الفردية
فقد ينشأ اللغط والتخبط بين الفقهاء من جهة وبين رجال العمل الإسلامي من جهة أخرى، حول جواز إعلان الرجل المسلم بمفرده الحرب على من أعلن الحرب على ديار الإسلام، سواء قصّر الإمام في القيام بواجب الجهاد، أو كان من المتخاذلين المُخذّلين، أو كان الفرد ممن لا تشمله البيعة، وهو ما يُمكن أن يُطلق عليه مُسمى: "الحرب الفردية".(1/290)
ولولا شُهرة وصحة الحديث في المسألة وتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - للموقف، لما كان له اعتبار إلا براية وإمام، في "الحرب الهجومية" على أقل تقدير.
في الحديبية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده، لا يسألونني خُطة يُعظمون فيها حُرمات الله إلا أعطيتهم إياها" وجاءت الهدنة يحملها بالنيابة عن قريش "سهيل بن عمرو" وكان من شرطها أن يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه من مكة مهاجراً... وما إن قاربت الهدنة على التوقيع النهائي حتى اصطدمت بعقبة مجئ "أبي جندل"ابن "سهيل بن عمرو" مسلماً، فطلب "سهيل" من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ردّه فردّه... الأمر الذي خلق أزمة بين رجال الصف الإسلامي وظهر جلياً في موقف عمر ومراجعته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، ولكنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم - التزم العهد والاتفاق الشفهي وطلب من "أبي جندل" أن يصبر ويحتسب، قائلاً: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإنَّ اللّه جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد اللّه وإنّا لا نغدر بهم".(1/291)
ثم تعرضت الهدنة مرة أخرى لاختبار قاسٍ من جانب "أبي بصير"، الذي كان قد قتل الرجلين اللذين أوكلا بمهمة اصطحابه إلى مكة خارج المدينة دون إذن الرسول- صلى الله عليه وسلم - وكان قد حُبس بمكة مع آخرين، وخرج إلى المدينة يبغي المقام فيها مع المسلمين، ولكنَّ بنود هدنة الحديبية حالت دون إمكان استقباله فيها، حيثُ أرسلت قريش وراءه اثنين من رجالها يرجعان به إليها، وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الالتزام بالهدنة وحاول إعادته، قائلاً له: "يا أبا بصير، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصح لنا في ديننا الغدر، وإنَّ اللّه جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك"، فقال "أبو بصير" بكل الحزن والأسى: "يا رسول اللّه، أتردّني إلى المشركين ليفتنوني في ديني ويعبثون بي"؟ ولم يزد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قوله السابق، ثُمَّ أرسل أبا بصير مع القرشيين ليعودوا جميعاً إلى مكة.
وأبت نفس "أبي بصير" العودة لقريش لما قاساه من بطشها وظلمها وصدها عن دين الله، فاحتال في أثناء الطريق وامتشق سيف أحد الحارسين وقتله، وفرَّ الآخر مذعوراً، وقفل راجعاً إلى المدينة يخبر رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم - بما وقع لصاحبه، وقدم "أبو بصير" متوشحاً للسيف يقول:" يا رسول اللّه وفت ذمتك، وأدّى اللّه عنك، أسلمتني بيد القوم وامتنعت بديني أن أفتن فيه أو يعبث بي".(1/292)
فقال رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم - : "يا ويل امّه، مسعر حرب – وفي رواية: محش حرب - لو كان معه رجال"، ولم تعد المدينة مُقاماً لأبي بصير للاتفاق الموقع، ولا مكة للدم الذي أراقه، فانطلق إلى ساحل البحر، وشرع يهدّد قوافل قريش كلما راحت أو غدت، وعلم المسلمون بمكة عن مقامه، وعن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه: "مسعر حرب لو كان معه رجال"، فخرجوا يقصدونه يشدّون أزره، ويناصرونه حتّى كان في عصبة من المسلمين قريب من الستين أو السبعين منهم "أبو جندل" فكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه ولا تمر عليهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت فيهم قريش إلى رسول الله، يسألونه بأرحامهم لما آواهم فلا حاجة لهم بهم ففعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقدموا عليه المدينة.(روايات البخاري باختصار وبالمعني).
وعند البخاري طريقة نجاة "أبي بصير" من آسريه قال: فخرج "أبو بصير" وخرجا... فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال: أنظر إليه، قال: إن شئت فاستله فضرب به عنقه وفر الآخر للمدينة.
ومن طريق الواقدي عند البيهقي: "وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقال: خمّس يا رسول الله قال: "إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت".(1/293)
وجاءت قصة أبي بصير عرضاً في ترجمة "أبي جندل" في المستدرك قال: أسلم قديماً بمكة فحبسه أبوه "سهيل بن عمرو" وأوثقه في الحديد ومنعه الهجرة، فلما نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الحديبية، وأتاه "سهيل بن عمرو" فقاضاه على ما قاضاه عليه أقبل "أبو جندل" يرسف في قيوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه، لأن الصلح كان بينهم، ثم أفلت بعد ذلك فلحق بأبي بصير وهو بالعيص – مكان علي الساحل - وقد اجتمع إليه جماعة من المسلمين، وكانوا كلما مرت بهم عير لقريش اعترضوها فقتلوا من قدروا عليه منهم وأخذوا ما قدروا عليه من متاعهم، فلم يزل "أبو جندل" مع "أبي بصير" حتى مات "أبو بصير" فقدم "أبو جندل" ومن كان معه من المسلمين بالمدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي سنن البيهقي: "أخذ "أبو بصير" وغيره "أبا العاص" أسيراً وبعث به إلى المدينة فأجارته "زينب"- رضي الله عنه -، قال ابن حجر في الإصابة: هذا في غاية الصحة من ناحية الإسناد، وفيه إشارة ضمنية مختصرة إلى مجمل قصة "أبي بصير"، وأنه أسر "أبا العاص" وبعث به إلى المدينة.
هذه باختصار قصة "أبي بصير" كما جاءت في الروايات الصحيحة، نستخلص منها بعض الأحكام التي تعيننا على فهم "الحرب الفردية":
أولاً: العقد المُبرم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش يشمل من كان في المدينة وحدها، أو من كان ضمن حدود "دولة الرسول- صلى الله عليه وسلم - "، أما من كان مقيماً في "دار الكفر" فلا يخضع لقرار "أمير المسلمين" حتى يُهاجر، على اختلاف في نصرة "غير المهاجر" ممن يخضع لدولة الكفر إما رضاً وإما غصباً، في مبحث فقهي ليس هذا موضعه.
ثانياً: من كان مُقيماً في "دار الكفر" أو كان خارج حدود سلطة "الإمام الشرعي" له الحق في القيام بصنفي الحرب:(1/294)
-"الحرب الدفاعية": وهي التي تمثلت في قتل "أبي بصير" لمن أوكلت له مهمة جلبه لقريش فقتله وأخذ سلبه، وحاول قتل الثاني لولا فراره.
-"الحرب الهجومية": والتي تمثلت في الإغارة على عير قريش وأخذ أموالهم، وقتل من يقع منهم في قبضته، وأسر من يستطيع أسره، مع الانحياز لفئة وتكوين جيش.
ثالثاً: فيه إقرار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فعله "أبو بصير" بالرجلين الذين وكلا بنقله لقريش، والإقرار النبوي للفعل واضح جلي في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت"، وهذا الجزء من الحديث مرسل – وفيه الخلاف بشأن الاحتجاج بالمرسل- وقد رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "التخميس" لدلالته على دخوله تحت إمارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان هدية لقبله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدليل قبوله "العاص"على أنه هدية من أبي بصير لقرابته وصهره من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الفعل خطأ لما جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة –كما هو مقرر عند علماء الأصول-، فقد جاء في قصة المغيرة وقتله الثلاثة عشر رجلاً عند صاحب "الطبقات الكبرى" قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أما إسلامك فقبلته، ولا آخذ من أموالهم شيئا، ولا أخمّسه، لأن هذا غدر: والغدر لا خير فيه ".
رابعاً: الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير مُلزم بما فعله "أبو بصير" من قتله للرجل، ولا يضمن، فقد جاء في المغني لابن قدامة: لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده لم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يضمنه، ولما انفرد هو و"أبو جندل" وأصحابهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال، لم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه.(1/295)
خامساً: قال ابن قدامة: وله – أي للأمير- أن يأمره سراً بالهرب منهم ومقاتلتهم فإن "أبا بصير" لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء الكفار في طلبه... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ويل امه مُسعر حرب لو كان معه رجال"، فلما سمع ذلك "أبو بصير" لحق بساحل البحر وانحاز إليه "أبو جندل" ومن معه من المستضعفين بمكة.
سادساً: توقيع عقد صلح أو موادعة أو هدنة بين "دار كفر" وبعض ولاة أو أفراد مسلمين، لا يعني دخول كل المسلمين ضمن العقد، بل هو خاص فيمن شمله العقد فقط ممن يتبع لذاك الصف من المسلمين، وهذا واضح في قصة "أبي بصير" و"أبي جندل" ومن معهما فلم يشملهم العقد، لأنهم خارجه.
سابعاً: لم يكن "أبو بصير" يتبع الدولة الإسلامية –حسب الحدود المُتعارف عليها- فهو في حرية من الالتزام ببنود المهادنة أو الصلح، و"هو" و"هم"- أي الدولة ورعاياها- في حِلِّ من ضمان الفعل، فان أصاب كان خيراً وإن أخطأ فالدولة الإسلامية غير مُلزمة بنتائج الفعل.
ثامناً: أبو بصير ومن معه غير مُلزمين بإعلان حالة الحرب والإيذان بالقتال مع قريش، فقد فرَّا من أسر وأغلال وعذاب وفتنة في الدين، أي أن قريشاً هي التي بدأتهم بالحرب، وهذا ما ثبت بمفهوم المخالفة فلم يثبت من طريق صحيح أو ضعيف أن "أبا بصير" قد أرسل رسولاً لقريش يُعلمها بإعلانه الحرب عليهم، ولم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنكار هذا الفعل، فدل على صحة الفعل شرعاً، أما من كان يرزخ تحت التبعية الكفرية في بلادهم فيجب عليه نقض العهد – إن سبق توقيع عقد الصلح- ثم إعلان الحرب، مصداقاً لقول ربنا: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [الأنفال 58].
الحرب المتتالية(1/296)
"الحرب المتتالية" هي التوالي والتكرار في الغزوات والسرايا، وعدم التراخي، بحيث يُترك العدو يتقوى، أو يضعف العزم عند رجال الجيش الإسلامي.
وفيها تدريب وتحفيز للمسلمين بعد ثلاثة عشر عاماً من الصبر، والعدو أقل من أن يستوعب هذا الهجوم المتكرر، فضلاً عن مواجهته...
- السنة الأولى للهجرة:
1- "هجومية ": سرية حمزة في رمضان قصدت عير قريش عند سيف البحر، ولم يقع فيها قتال، لتدخل مجدي بن عمرو الجهني حليف الفريقين وحجزه بين الفريقين.
2- " هجومية ": سرية عبيدة بن الحارث في شوال قصدت عير قريش عند بطن رابغ، ولم يقع فيها قتال إلا رمي سعد بن أبي وقاص للسهم، فكان أول رامٍ وأول رمية، وفيها انحاز رجلان من المشركين لجيش المسلمين.
3- " هجومية ": سرية سعد بن أبي وقاص في ذي القعدة قصدت عير قريش عند الخرار، ولم يقع فيها قتال.
المعالم:
- انذار قريش بالاستهداف، وأنها ضمن المقصود قتاله.
- اعلام قريش والعرب بولادة كيان اسلامي مستقل بمنهجه الرباني ووحيه السماوي.
- تحفيز رجال الإسلام بالاستعداد للقتال والتهييء للنزال.
- تضييق جبهة القتال وقصرها على القوافل فقط أي حرب "اقتصادية"، دون قصد مكة ذاتها بالغزو.
- استنفار قريش واستفزازها، بأعظم مورد طاقة عندها يدعوها للتحرك دون دراية، والعمل دون هداية وهو ما كان في بدر.
- السنة الثانية للهجرة:
1- " هجومية ": غزوة الأبواء أو ودان بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر، قصدت قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ولم يقع فيها قتال ووقع فيها عهد حلف مع عمرو بن مخشي الضمري سيد بني ضمرة.
2- " هجومية ": غزوة البواط بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول يقصد قريشاً ولم يقع قتال.(1/297)
3- " دفاعية هجومية ": غزوة سفوان(بدر الأولي) في ربيع أول، خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب كرز بن جابر الفهري، الذي أغار على مراعي المدينة، وفر فيها كرز ولم يقع قتال لفرار كرز ومن معه.
4- " هجومية ": غزوة ذي العشيرة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الآخرة تقصد عير قريش، وفاتت البعير وفيها تمت معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج.
5- " استطلاعية ": سرية عبد الله بن جحش في رجب بقصد رصد عير قريش بين مكة والطائف، وقتلوا فيها الحضرمي في الشهر الحرام وأسروا رجلين.
6- " هجومية ": غزوة بدر الكبري بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان قصد فيها عير قريش ابتداءً، ثم قدر الله القتال وفيها انتصر المسلمون، فقتلوا سبعين وأسروا سبعين وغنموا الشئ الكثير.
7- " هجومية دفاعية ": غزوة بني سليم من غطفان بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، بقصد فض جمعهم وقض مضجعهم ومنعهم من الإغارة على المدينة، وكان من أمرهم أنهم فروا ولم يحدث قتال ولكن أقام في ديارهم ثلاثة أيام ليرهبهم، وغنم خمسمائة بعير.
8- " هجومية دفاعية ": غزوة بني قينقاع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، لنقضهم العهد، حاصرهم خمس عشرة ليلة ثم استسلموا، وانتهى أمرهم بالجلاء عن المدينة.
9- " هجومية دفاعية ": غزوة السويق بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة، قصد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملاحقة المشركين بعد إغارة مفاجئة من أبي سفيان للمدينة، وفيها فر المشركون وتخففوا من أحمالهم فغنمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السويق.
المعالم:
- ما زالت القوافل ضمن الاستهداف الخاص والأولية في العمل.
- قُصدت قريش في ذاتها بالغارة، يعنى فرض سياسة حربية جديدة، وهي عدم استهداف غير المبدوء بانذاره المنبوذ عهده بالقتال.(1/298)
- قصد العرب بالحرب وان كان ضمن "الهجوم الدفاعي" دليل على التوسع في المفهوم القتالي، وأن دولة المدينة ليست لقمة سائغة للآكلين.
- الاستطلاع ودقة المعلومات والتحرك الخاطف والدقيق دليل على امتلاك المدينة لأعين الصقور وصولة السباع.
- دخول اليهود في دائرة الصراع يعني توسيع دائرة الاستهداف لتشمل العرب واليهود أصحاب الكتاب.
- انتقال النية والإرادة من الاغارة على العير إلي قتال النفير يعني الاستعداد الدائم من "جيش الإسلام" لتقبل الأحوال المختلفة والظروف المتغيرة.
- تحرك تسع حملات عسكرية في عام أعظم دليل على القدرة العسكرية الفائقة عند القيادة والأفراد، لمواجهة أي قوة مفترضة بغض النظر عن تعدادها وعتادها.
-السنة الثالثة للهجرة:
1- " هجومية ": غزوة ذي أمر بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محرم وصفر، خرج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفض تجمع من بني ثعلبة ومحارب يريدون الإغارة على المدينة، وتفرقوا في رؤوس الجبال ولم يقووا على القتال، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هناك شهراً ليرهب العرب والقبائل.
2- " هجومية دفاعية ": سرية محمد بن مسلمة في ربيع الأول لاغتيال كعب بن الأشرف اليهودي، الذي كان يسب ويشتم ويهجو المسلمين ويؤلب العرب على حرب الإسلام، وقد نجحوا بقتله، بل بقطع رأسه ليلقوه بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
3- " هجومية ": غزوة بحران بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في ربيع الآخر وجمادى الأولى يريد قريشاً في بحران، وعاد بعد شهرين ولم يلق حرباً.
4- " هجومية ": سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة قصدت عير قريش القادمة عن طريق نجد، وقد غنم المسلمون القافلة كلها عند ماء القردة، مع أسر ثلاثة.(1/299)
5- " دفاعية ": غزوة أحد بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال بقصد الدفاع وحماية المدينة من غزو قريش، وكان نتيجتها انتصاراً في أول المعركة لصالح المسلمين، ثم دارت انتصاراً للمشركين ولكنه انتصار منقوص، بل قريب إلى انحياز كل فئة عن الأخرى، فإن قريشاً لم تأسر ولم تغنم.
6- " هجومية ": غزوة حمراء الأسد بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في شوال بعد يوم واحد من غزوة أحد، بقصد إظهار قوة المسلمين وقدرتهم على الثبات والحرب، وليقطع احتمال أن تغزو قريش المدينة، وقد حققت ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصاب قريش الرعب وفرت إلى مكة ولم تواجه "جيش الإسلام".
المعالم:
- ما زال الهجوم هو العلامة المميزة لتحرك الجيش الاسلامي، وهو خير طريقة للحسم والردع.
- مواجهة المتغير من الظروف يعنى القدرة القتالية عند الجيش لتقبل ما تفرضه سياسة العدو، وهو ما نعنيه بالتصدي في أحد لجيش الصنم.
- مع أن وتيرة المعارك قد خفت وتناقص عددها، ولكنها تتبع سياسة أكبر من استهداف العير أو تأديب البعض، إلى الدخول في طور القتال من أجل الحفاظ على كيان الدولة أن يُستأصل.
- توسعت ارادة القتال عند الصحابة - رضي الله عنهم - لتشمل كل جمعٍ في عقر داره، وتقصد أمماً بذاتها وقرى بأشخاصها ومُسميات بذاتها، بما يُمكن أن يطلق عليه "قوات خاصة" لعمليات الاغتيال وما شابه.
- وللسنة الثالثة لم يبدأ "جيش الاسلام" العرب بقتال الا من قاتل، فيكون قتاله قصاصاً لفعله جزاءاً وفاقا.
- السنة الرابعة للهجرة:
1- " هجومية دفاعية ": سرية أبي سلمة في محرم بقصد ردع ومنع تجمع بني أسد بن خزيمة عن غزو المدينة، ولم يلقوا حرباً فغنموا الإبل والشاء.
2- " هجومية دفاعية ": سرية عبد الله بن أنيس في محرم بهدف القضاء على خالد بن سفيان الهذلي الذي أراد غزو المدينة، وقد قتلوه وأتوا برأسه إلى المدينة.(1/300)
3- " دعوية ": عاصم بن ثابت في عشرة من أصحابه في صفر لتعليم عضل وقارة الإسلام، وقد غدر بهم بنو لحيان وقتلوا العشرة فيما عرف بمأساة الرجيع.
4- " دعوية ": المنذر بن عمرو في سبعين من أصحابه في صفر لتعليم ودعوة أهل نجد إلى الإسلام بجوار وأمان أبي البراء عامر بن مالك ملاعب لأسنة، وقد غدروا بهم وقتلوهم جميعاً، فيما عرف بوقعة بئر معونة، وقد قنت يدعو عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً.
5- " هجومية دفاعية ": غزوة بني النضير بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع أول، بسبب نقضهم للعهد ومحاولتهم قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فحاصرهم ست ليال أو خمس عشرة ليلة ثم أجلاهم عن المدينة، لهم ما حملت الإبل إلا السلاح.
6- " هجومية دفاعية ": غزوة نجد بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ربيع آخر أو جمادى أولى، بهدف ردع بني محارب وبني ثعلبة من الإغارة على المدينة، وقد هربوا في الجبال من الرعب والرهبة التي أصابتهم، ورجع الجيش سالماً غانماً.
7- " هجومية دفاعية ":غزوة بدر الموعد بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعبان، بهدف لقاء جيش المشركين لموعد اتفق عليه الطرفان في بدر الكبرى، وقد مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه ثمانية أيام ولم يلق قريشاً فقد جبنت عن المواجهة.
المعالم:
- تفطن العرب للخطر الداهم ، فزادت حدة إرادتهم لحرب الدولة الإسلامية.
- تميزت السنة بتحرك الجيش الإسلامي بقصد حماية الدين والدولة ، وإن كان الظاهر أن القتال خارج الحدود أو صبغه بصبغة الهجوم.
- دخل الجيش في سُنة جديدة ألا وهي الدعوة، أى توسيع أفق العمل الاسلامي ليشمل دعوة العرب إلي الدين الجديد.
- وللسنة الرابعة على التوالي لم يبدأ الجيش الإسلامي أحداً بقتال اللهم إلا قريش.
- السنة الخامسة للهجرة:(1/301)
1- "هجومية دفاعية ": غزوة دومة الجندل بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول، بهدف الإغارة علي قبائل دومة الجندل لقطعها الطريق ومحاربة القوافل، وفيها وادع عيينة بن حصن الفزاري.
2- " دفاعية ": غزوة الأحزاب(الخندق) بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال وذي القعدة، بهدف صد ومنع قريش وحلفائها من اليهود وغطفان وقبائل العرب والأحابيش عن غزو المدينة، وفيها انهزم المشركون ورجعوا خائبين.
3- "هجومية دفاعية ": غزوة بني قريظة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة بسبب نقض قريظة العهد وتحالفهم مع الأحزاب، وفيها قتل الرجال وسبي النساء والذراري وقسمت الأموال.
4- " هجومية دفاعية ":سرية عبد الله بن عتيك في ذي القعدة أو ذي الحجة بهدف اغتيال أبي رافع سلام بن أبي حقيق، بسبب تحزيبه للأحزاب وإنفاقه المال والمؤن للحرب، وقد نجحت السرية في قتله.
المعالم:
- أصبحت العلاقة مد وجذر بين دولة الاسلام والعرب، لتتمحور حول الدفاع الخالص والهجوم بقصد الدفاع أيضاً.
- استنفار العرب يعني ادراكهم لحقيقة الدين الجديد وأنه يُمثل أعظم الخطر عليهم، وهو ما دعاهم للتحالف في معركة واحدة لحسم الصراع.
- دخول اليهود في حالة العداء العلني يعني حسم موقفهم العدائي للإسلام وأهله، ويعني فتح جبهة قتال أهل الكتاب.
- وللسنة الخامسة لم يبدأ "جيش الإسلام" أحداً بقتال إلا من قاتله.
- السنة السادسة للهجرة:
1- " هجومية ": سرية محمد بن مسلمة في محرم لتأديب بني بكر بن كلاب في نجد، وقد فروا ولم تقع حرباً واستاق المسلمون نعماً وشاء، وقد أسروا ثمامة بن أثال وتم ربطه في المسجد ثم أسلم بعد ذلك.
2- "هجومية ": سرية عكاشة بن محصن في ربيع الأول على بني أسد عند ماء اسمه الغمر، وفر القوم وغنم المسلمون مائتي بعير.(1/302)
3- "هجومية ": سرية محمد بن مسلمة في ربيع الآخر إلى ديار بني ثعلبة في القصة، فكمن لهم القوم وقتلوهم جميعاً إلا محمد لتظاهره بالموت بين القتلى.
4- " هجومية "" عقابية ": سرية أبي عبيدة بن الجراح في ربيع الآخر إلى بني ثعلبة، للثأر منهم لقتلهم سرية محمد بن مسلمة قبل شهر من الغزوة، وقد هربوا وعاد "جيش الإسلام" بما غنم.
5- " هجومية ": سرية زيد بن حارثة في ربيع الآخر على بني سليم على ماء الجموم، وقد غنموا إبلاً وشاء وأسرى وعادوا سالمين.
6- "هجومية": سرية زيد بن حارثة في جمادى الأولى بقصد الإغارة على عير قريش وقد غنموا وعادوا ثم تناول المسلمون عن الغنيمة لأنها لأبي العاص صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
7- " هجومية ": غزوة بني لحيان بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جمادى الأولى للثأر ممن غدروا بأصحابه في مأساة الرجيع، وقد فر القوم، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه سالماً.
8- " هجومية ": سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة للإغارة على بني ثعلبة في الطرف أو الطرق، وقد فر القوم وغنم زيد عشرين بعيراً.
9- " هجومية " " استطلاعية ": سرية زيد بن حارثة في رجب إلى وادي القرى لاستكشاف تحركات عدو إن كانت هناك، فهجم عليهم أهل الوادي فقتلوا تسعة ونجا ثلاثة.
10- "هجومية ": سرية أبي عبيدة بن الجراح في رجب بقصد رصد عير قريش ووجدت القافلة قد فاتتها، وكان من خبرها أكلها للحوت علي الشاطئ.
11- " هجومية ": غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعبان لفض تجمع بني المصطلق ومنعم من حرب المدينة، وقد أغار عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاق النعم والشاء وسبي النساء وتزوج بجويرية بنت الحارث سيدهم، ثم أسلم بنو المصطلق.(1/303)
12- " هجومية "" دعوية ": سرية عبد الرحمن بن عوف في شعبان للإغارة على بني كلب في دومة الجندل، وفيها أسلم القوم وتزوج عبد الرحمن ابنة ملكهم.
13- "هجومية دفاعية ": سرية على بن أبي طالب في شعبان إلى بني سعد بن بكر بفدك لوصول الخبر بتحالفهم مع اليهود وخروج جمع منهم يعرض نصرة اليهود، وقد فر القوم وغنم الصحابة خمسمائة بعير وألفي شاة.
14- "هجومية دفاعية ": سرية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في رمضان لتأديب فزارة في وادي القرى لتآمرهم على اغتيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد هزم القوم وغنم وأسر وسلم المسلمون.
15- "هجومية "" عقابية": سرية كرز بن جابر الفهري في شوال لتأديب العرنيين لردتهم وغدرهم بالراعي وسرقتهم للإبل، وقد أسرهم كرز وأعادهم للمدينة فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم جزاء وقصاصاً بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا.
16- " صلحية ": خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة قاصداً مكة للحج، وفيها عقد صلح الحديبية بشروطه مع سهيل بن عمرو بالنيابة عن قريش على وضع الحرب لعشر سنين، ومن شاء أن يدخل في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم - فعل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش فعل، وبذلك تفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حرب قريش ليلتفت إلى باقي الأعداء من يهود وأعراب.
17- " هجومية دفاعية ": غزوة ذي قرد بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة ملاحقةً لعيينة بن حصن الفزاري، الذي أغار على إبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقتل الغفاري وأسر زوجته، وفيها لحقهم سلمة بن الأكوع وأشغلهم حتى لحق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه، وفكوا إسار المسلمة واستردوا بعضاً من الإبل.
المعالم:
- بعد ذلك العام الشاق في الدفاع عن الدين والدولة عادت الأمور إلى نصابها، وتحرك الجيش الاسلامي لينفذ مهماته خارج حدود دياره.(1/304)
- بعد الخندق قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم" فكان الانطلاق تنفيذ للسياسة الجديدة.
-حالة الدفاع التي فرضتها المرحلة حالت دون التوسع في الرقعة الإسلامية، ولكنها الآن تعود لتسير في نفس الاتجاه بعد التأخر لعام.
- حالة الدافع ترهق الدولة والجيش والأفراد لمساسها بالمقدسات والمحرمات من دور ونساء وصبيان، وهو أيضاً مما لا يعتاده الصحابة - رضي الله عنهم - في حروبهم، فأخذهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما عهدوه حتى يضمن بهم النصر، مع تهييئهم لكل ظروف القتال وأحوال النزال بين سهول وجبال، أو هجوم ودفاع.
- هذا العدد الضخم لِكَم الغزوات والسرايا في العام الواحد يدل بلا أدني شبهة، على قابلية الصحابة للانطلاق على وجه السرعة والوصول للخصم في عقر داره، وتحقيق النتائج المرجوة على الوجه الأكمل.
- في التعداد والانطلاق في الشهر ذاته بأكثر من سرية تدريب جميع الصحابة على القتال، وترشيح للقيادات الجديدة ودعمها واظهار مواهبها.
- السنة السابعة للهجرة:
1- " هجومية ": سرية أبان بن سعيد في محرم بقصد إرهاب البدو والأعراب في نجد، لئلا يُغيروا على المدينة أثناء غزوة خيبر، ونجحت الخطة ولحق أبان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر.
2- " هجومية ": غزوة خيبر بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محرم برجال بيعة الرضوان فقط، لاستئصال اليهود والقضاء على قوتهم العسكرية ومعاقبتهم لتحزيبهم الأحزاب ومحاربة دولة الإسلام، وكانت النتيجة انتصار المسلمين والمصالحة على البقاء في الأرض للقيام بأعمال الزراعة على النصف من الناتج.
3- " هجومية "" دعوية ": غزوة فدك بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر، دعاهم للإسلام فأبطأوا في الرد فلما فتحت خيبر أصابهم الرعب وعرضوا الصلح على النصف من النتاج دون أن يوجف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخيل أو رجال.(1/305)
4- " هجومية ": غزوة وادي القري بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر لحرب تجمع يهودي مع بعض العرب، وفيها انتصر المسلمون وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم بين الصحابة وعاملهم كما أهل خيبر.
5- " هجومية ": غزوة تيماء بقيادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في صفر للإغارة على اليهود، وانتهت بالمصالحة للرعب الذي أصابهم، بعد توارد أخبار انهيار القوة اليهودية في خيبر وفدك ووادي القرى.
6- " هجومية ": غزوة ذات الرقاع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول لردع محارب وغطفان عن قصد المدينة بغزو، وفيها أصاب قوماً من غطفان وتصالح معهم وانتهى أمرهم بالإسلام.
7- " هجومية "" تأديبية ": سرية غالب الليثي في ربيع الأول لتأديب بني الملوح في الكديد لقتلهم أصحاب بشير بن سويد، فأغار عليهم وقهرهم وغنم منهم، فطاردوا "جيش الإسلام" فنزل المطر وحجز بينهم سيل عظيم.
8- " هجومية دفاعية "" تأديبية ": سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة لتأديب "جذام" في "حسمي" لقطعهم الطريق على رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر، دحية الكلبي، أغار عليهم وأثخن فيهم وغنم وعاد.
9- " هجومية ": سرية عمر بن الخطاب في شعبان إلى هوازن في تربة، وقد فروا وعادت السرية بدون قتال.
10- " هجومية ": سرية بشير بن سعد في شعبان إلى بني مرة بفدك، غنم واستاق فلما ولى أدركه الطلب، فاستشهد فيها الجميع إلا بشير أصابته الجراح ثم برئ.
11- " هجومية ": سرية غالب الليثي في رمضان قصدت بني عوال وبني عبد ابن ثعلبة بالميفعة وفيها انتصر المسلمون وعادوا سالمين غانمين، وفيها قتل أسامة - رضي الله عنه - الرجل الذي قال: لا اله إلا الله.
12- " هجومية دفاعية ": سرية عبد الله بن رواحة في شوال لقتل يسير بن زرام الذي كان يجمع غطفان لحرب المسلمين، وقد قتلوه في خيبر.(1/306)
13- " هجومية دفاعية ": سرية بشير بن سعد في شوال إلى يمن وجبار من أرض غطفان، وقد هرب القوم وغنم المسلمون وعادوا بأسيرين.
14- " دعوية ": سرية ابن أبي العوجاء في ذي الحجة لدعوة بني سليم إلى الإسلام، ولكنهم رفضوا الإسلام وقاتلوا، وعلى أنفسهم جنوا.
المعالم:
- ما زالت وتيرة العمل في اضطراد وضغط الجيش على العرب في ازدياد، يدل علي ذلك عدد السرايا الذي تجاوز عدد أشهر العام.
- وما تزال ملامح " الحرب الهجومية" تصبغ هذا العام، وتبدو شاخصة في وجه "جيش الإسلام".
- قصد اليهود بالقتال في حصونهم يعني انهاء تواجدهم كقوة في الجزيرة، وابقاء الصراع بين الإسلام والصنم، ولا اعتبار لأهل الكتاب.
- السنة الثامنة للهجرة:
1- " هجومية ":سرية غالب الليثي في صفر لتأديب من قتلوا أصحاب بشير بن سعد الأنصاري من بني مرة بفدك، وفيها انتصر المسلمون ورجعوا سالمين غانمين.
2- " هجومية ": سرية كعب بن عمير في ربيع الأول لفض تجمع بني قضاعة بالشام ومنعهم من الإغارة على المدينة، استشهد فيها الجميع إلا واحداً بين القتل اختفي.
3- " هجومية ": سرية شجاع بن وهب في ربيع الأول تأديباً لهوازن لتحالفهم المتكرر مع أعداء الإسلام، فيها انتصر المسلمين وغنموا.(1/307)
4- " هجومية دفاعية ": شهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي أرسلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لتصيب الثأر من شرحبيل بن عمرو الغساني عامل قيصر، والذي قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عظيم بصري... قيادتها زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة ثم اتفق المسلمون على خالد بن الوليد في جمادى الأولى، وكانت نتيجتها انحياز كل فئة عن الأخرى ومقتل القادة الثلاثة، ورجع فيها خالد بخطة لم تُدركها الروم فلم تجرؤ على ملاحقة الجيش، ومع أن الغزوة لم تحقق الثأر ولكن كان لها الأثر الكبير لصالح سمعة المسلمين لذلك أسلم بنو سليم وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرهم.
5- " هجومية دفاعية ": سرية ذات السلاسل من المهاجرين والأنصار وقبائل بلي وعذرة وبلقين بقيادة عمرو بن العاص في جمادى الآخرة، بهدف التحالف معهم ضد الرومان وضمان عدم تعاونهم مع الروم، وقيل بل بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجمع بني قضاعة لحرب الاسلام، وقد أعجزوا المسلمين هرباً ولم يقدروا عليهم لتفرقهم في البلاد.
6- " هجومية دفاعية ": سرية أبي قتادة في شعبان لتأديب بني غطفان من نجد لإرادتهم الإغارة علي المدينة، وفيها انتصر المسلمون وغنموا وسبوا.
7- " خداعية ": سرية أبي قتادة في رمضان، سار فيها أبو قتادة إلى بطن أضم بعيداً عن مكة بهدف التعمية على تحرك الجيش الإسلامي باتجاه مكة، وقد حقق أبو قتادة الهدف والتحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة.
8- " هجومية ": غزوة فتح مكة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان بهدف فتح مكة بعد إعانتها بني بكر حليفتها، على خزاعة حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفيها انتصر المسلمون وفتحت مكة.
9- " هجومية ": سرية خالد بن الوليد في رمضان لهدم صنم "العزى" في نخلة، وقد تم الهدم وقتل "العزى" تلك المرأة الشيطانة العريانة.(1/308)
10- " هجومية ": سرية عمرو بن العاص في رمضان بهدف هدم صنم "سواع" برهاط، وقد هدمه.
11- " هجومية ": سرية سعد بن زيد في رمضان لهدم صنم "مناة" وقد هدمه.
12- " دعوية ": سرية خالد بن الوليد في شوال لدعوة بني جذيمة من كنانة، ولم يبعثهم لقتال، فأسلموا ولكنهم لم يحسنوا القول فقاتلهم خالد وأسرهم، وودى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتلى وعوض المال واعتذر مما فعل خالد.
13- " استطلاعية ": سرية عبد الله بن الأسلمي في شوال بهدف استطلاع حشود الكفار في وادي أوطاس، وقد جاءت بالأخبار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
14- " هجومية ": غزوة حنين بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال بهدف محاربة تجمع هوازن وثقيف وقيس في وادي أوطاس، وفيها كمن مالك بن عوف وباغت جيش المسلمين ونزلت الهزيمة على "جيش الإسلام" في البداية، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة واستماتوا في القتال، فتحولت الهزيمة إلى انتصار.
15- " هجومية ": سرية أبي عامر الأشعري في شوال بقصد مطارده فلول من فر في أوطاس، واستشهد فيها أبو عامر.
16- " هجومية ": سرية أبي موسي الأشعري أخو أبي عامر في شوال لملاحقة فلول الفارين في أوطاس أيضاً، وفيها انتصر المسلمون وفر مالك إلى الطائف.
17- " هجومية ": غزوة الطائف أو ثقيف بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر يوماً ثم فك الحصار، وبعد أيام جاء وفد هوان وأسلم.
المعالم:
- وما تزال صبغة الهجوم تظهر على راية الجيش، مما يعني التقدم في الاتجاه الصحيح ولا مجال للتقهقر.
-توسع أفق القتال ليشمل قوى أرضية لها من العمر عتياً، كروم وما فيها من قوة وعدد وعتاد، ولكنا نقول: الله أكبر.
- القضاء على الصنم في معقله دون أن ينتصر لنفسه أو ينتصر له عباده، دليل على انتهاء عهد الوثن في الجزيرة العربية.(1/309)
- القضاء على قوة قريش ومن بعدها هوازن وغطفان يعني تفريغ العرب من مصدر قوتهم، ومن قبل تفريغ اليهود من قوتهم، يعني حسم المسألة لصالح أهل الإسلام.
- السنة التاسعة للهجرة:
1- " هجومية "" تأديبية": سرية عيينة بن حصن الفزاري في محرم بهدف تأديب بني تميم لأنهم أغروا القبائل ومنعوهم من أداء الجزية، فيها هزم القوم ووقع الأسر، وجاءوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا.
2- " هجومية ": سرية قطبة بن عامر في صفر لحي من خثعم بناحية تبالة بهدف الإغارة، استشهد فيها قطبة وانتصر المسلمون وغنموا.
3- " دعوية ": سرية الضحاك بن سفيان الكلابي في ربيع أول لبني كلاب ليدعوهم للإسلام، فأبوا وقاتلوا وقد انتصر فيها المسلمون.
4- " هجومية ": سرية علي بن أبي طالب في ربيع الأول لهدم صنم "قلس" صنم طئ، وقد تم هدمه، ووقع قتال فانتصر المسلمون وغنموا وأسروا.
5- " هجومية ": سرية علقمة بن مجزز المدلجي في ربيع الآخر لتأديب الأحابيش الذين يقطعون الطريق عند نجد ضد أهل مكة، ففروا في البحر ولم يقاتلوا.
6- " هجومية دفاعية ": غزوة تبوك بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجب، قصد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو الروم في عقر دارهم قبل أن يتحركوا بتحالفهم لمحاربة دولة الإسلام، وقد دب الرعب في قلوب القوم فلم يقدروا على المواجهة ففروا من الميدان قبل اللقاء.
المعالم:
- الانتهاء من العرب كقوة معادية أبقي بعض جيوب العمل ما استدعى انهاء تواجدها العسكري ولو كان ضئيلا.
- اذا بقى بعض الأصنام فلابد من انهاء تواجدهم لتخلص العرب العبادة لله.
- الدولة الاسلامية لا تنسى من أساء بحقها يوماً، وهو ما تمثل في سرايا العقاب والتأديب.
- بسط السيطرة على الجزيرة يعني تحمل مسئولية الأمن فيها، وهو ما تمثل في تأديب بعض الأحابيش قطاع الطرق.(1/310)
- بعد الانتهاء من العرب آن أوان غزو الروم بمعركة أكبر وأعظم من السابقة يوم مؤتة، وهو فتح باب تعبيد أهل الأرض لربهم الحق.
- السنة العاشرة للهجرة:
1- "هجومية دفاعية ": سرية فيروز الديلمي في ذي الحجة وربيع الأول لإعادة حكم الإسلام على اليمن بعد ردة الأسود العنسي الكذاب واستيلائه على الحكم، ثم قتله شهر بن باذام عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، وانتهت بقتل الأسود وعاد الأمر إلى نصابه.
المعالم:
- لا تظهر المعارك ظهور العيان لعدم تواجد قوى معادية بعد مقدم الوفود مبايعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومعلنة الولاء لدولة الإسلام والانضمام لجيش الإيمان.
- بعد ردة الأسود أراد الانفصال عن جسد الدولة، فكان العقاب بجز الرأس جزاءاً وفاقا، أراد فصل اليمن عن جسد الأمة ففُصل رأسه عن الجسد وما ربك بظلام للعبيد.
- تمكنت سرية من القضاء على الأسود فأعادت الأمر إلى نصابه، وهو أقل من أن يتحرك له جيش الإسلام، ولو تحرك لكان سيدخل في مواجهة مع الأتباع الهمج الرعاع حفاظاً على وطنهم – حسب فهمهم- ولكن قتل رأسهم الفاسد أراح الجسد من القتل دونه.
- السنة الحادية عشرة للهجرة:
1- " هجومية دفاعية ": سرية أسامة بن زيد في صفر وربيع الأول، لتأديب الروم لقتلهم فروة الجذامي عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه والتبرؤ من الكفر والولاء للروم، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينفذ جيش أسامة فأنفذه أبو بكر كأول عمل يتولاه، وقد حققت الغاية فأعلمت الناس أن المسلمين لا يغفرون الإساءة ولا يتركون العقاب، وأن سلطان الكنيسة قد فات زمانه، وأن قوة المسلمين أصبحت الأولى في الجزيرة العربية, وذهلت الروم: يموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخرج الجيش في آن واحد!!
المعالم:
- فتح باب الجهاد على نفس جبهة الروم، رسالة للأمة أن الطريق يبدأ من هاهنا.
- وهي رسالة للعالم أن راية التوحيد قد آن أوانها.(1/311)
- " الحرب المتتالية " المعالم:
1- الإبداع النبوي: وهو ما تجلى في كل المعارك والغزوات من حيث التخطيط والإدارة والتوزيع، وإسناد المهام واختيار الوقت والظروف المناسبة، وعدم الانجرار خلف الاستفزازات، أو فرض الحرب عليه في الوقت الذي يريده خصمه.
ومن صوره والصور كثيرة: اليقظة الدائمة ومتابعة كل التحركات القرشية واستفزازها في كل قافلة تجارية، ومنها فض الجموع المعادية، ومنها الهجوم حيث يكون موضعه والدفاع حيث يصلح موقعه.
2- لم يظهر الخطأ من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أي تخطيط أو إدارة، بل كان الخطأ ينبع من الأفراد كالذي حدث في أحد أو الخندق، وذلك لعوامل منها المشورة كأصل يعتمد عليه - صلى الله عليه وسلم -، ومنها التأني في تقدير الأمور.
3- استطاعت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسط الأمن والسلام على البقاع التي يدخلها المسلمون، وكان لهذا الأثر الواضح في العديد من السرايا، والتي استهدفت قُطَّاع الطرق أو من يسعى لإذكاء نار الفتنة.
4- استطاعت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تمييز وفرز الأعداء حسب درجة الخطورة، وعدم تقديم المهم على الأهم، كما في مصالحة اليهود في المدينة للتفرغ لحرب قريش.
5- كسرت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - رقبة القوى الشركية الوثنية، واستطاعت قلع أشواك الكفر واحدة واحدة، دون أن ينصر الحليف حليفه، كما في محاربة طوائف اليهود في المدينة، أو محاربة خيبر بعد الحديبية.
5- أفرزت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدرسة نبوية لتخريج القيادات، والتي استطاعت فيما بعد فتح فارس والروم وغيرها من البلدان.
6- فتحت حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - آفاق العمل الإسلامي، وتحديده لإدخال الناس في دين الله وقتل الكفر بقتل قادته وكسر شوكته.(1/312)
7- تسامت في حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأهداف: عبادة الله وحده والكل إخوة في الدين، ومن أسلم بالأمس كمن أسلم قبل عام في الحقوق والواجبات، والخيرية بالتقوى.
8- تأصيل القواعد الحربية، فهي حروب شريفة نظيفة لا تسعي بظلم ولا تعتمد الغدر، لا سرقة ولا غلول، وعهد الأمان مُعتبر، والنقض يلزمه نبذ، والعفو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مأمول.
9- المرونة في إنهاء الحرب بين الإسلام و الجزية أو المصالحة أو التحالف.
10- تنويع القيادات أفرز قائمة قادة لم يشهد مثلها التاريخ كثرة وخبرة ونجاح.
11- التجديد في القيادات خصوصاً من أسلم حديثاً، كعمرو بن العاص في ذات السلاسل أو خالد في مؤتة أو عيينة وغيره.
12- فتح الأبواب أمام رجال الإسلام ليقودوا، وعدم التحجر عند أبي بكر وعمر وأمثالهما من كبار رجال الإسلام.
13- أظهرت حروب الإسلام نظرية حربية خطيرة وهي تحييد بعض أطراف الصراع والتحالف مع آخرين: مصالحة قريش في الحديبية تلاه فتح خيبر، وفتح مكة تلاه غزو غطفان وهوازن، والتحالف كالذي حدث في غزوة العشيرة من توقيع معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج، والتحالف مع عيينة بن حصن في غزوة دومة الجندل.
14- عدم التوقف عند الفشل بل الاستمرار مع دراسة الأسباب كما حدث في سرية زيد بن حارثة إلي وادي القرى ليتبعها أبو عبيدة في الشهر نفسه، وما سبقها كما في مأساة الرجيع ثم مأساة بئر معونة في الشهر نفسه.
15- تكرار الفرصة لمن أصابه بعض الفشل في مهمة، كما حدث مع بشير بن سعد الذي قُتل كل أصحابه بفدك في شعبان، ليرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غطفان في شوال.
هذا غيض من فيض وكل زيادة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلة، ولكن حسبنا إضاءات تُنير طريق القاصدين، ومنارات تهدي السائرين سواء السبيل.
……………
الحرب المعلوماتية(1/313)
"الحرب المعلوماتية" أو ما يُسمى حديثاً "حرب الاستخبارات" فمع حداثة المسمى يبقى منذ الأزل معروفاً، وإن اختلفت التسميات بين "تخابر أو تجسس أو تحسس أو رصد معلومة أو متابعة حدث وما شابه...".
وتفادياً للخلط بين الفهم السيئ المرتبط بالعقلية الدارسة لعملية جلب المعلومات، أو استنطاق المعنيين واستخراج الأقوال أو استدراج المخبر أو سُبل الحصول على المعلومات بالتتبع، بحيث أصبحت غاية الفاعل النبيلة -حسب قوله- تبرر الوصول بغض النظر عن الوسيلة حتى أصبح من المُشاع: المهم الوصول ولا يهم كيف؟
ولصناعة فارق بين "المعلوماتية" و"الاستخبراتية" لابد من تنظيف تلك الصورة السيئة، التي ترتبط بالعقول والأذهان من سواد المطروح حالياً في هذه الحرب.
"حرب المعلومات" حرب سرية عقلية لا دماء فيها، ولكنها من يحسم المعارك بصمت وهدوء، إنها تعني رصد إرهاصات الهزة قبل وقوعها، ومتابعة بوادر الأمر قبل تنفيذه.
مما لا شك فيه أن أي معلومة مهما صغرت في عين الفرد، فإنها قد تعني الكثير بالنسبة للخصم، وهو ما يدعو العامل لإبقاء أكبر كم من المعلومات في طور السرية حتى لا يستفيد الأعداء منها.
والحديث في "الحرب السرية" له موقع خاص ولكن المقصود من "الحرب خدعة " مثلا هو تضليل العدو بإعلامه بمعلومات يبني عليها خططه، ثم يظهر خطأه وفشله بناءً عليها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ورى بغيرها، ليقطع الطريق أمام من يمرر المعلومات للخصم حول تحرك الجيش أو خطة القيادة.
والمقصود أن "حرب الاستخبارات" تُعنى بالبحث عن كل معلومة تُفيد القائد في رسم خططه بناءً على المعلومات التي حصل عليها عن العدو: عدد الجند أو طريق السير أو عدد الأسلحة وأنواعها أو ما شابه.(1/314)
جاء في الزاد لابن القيم في فوائد الحديبية: ومنها : أن الاستعانَةَ بالمُشرِكِ المأمونِ في الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عَيْنه الخزاعيَّ كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقربُ إلى اختلاطه بالعدوِّ، وأخذه أخبارهم .
- مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - في منع تسريب المعلومات:
قال ابن القيم في زاد المعاد وأصل الحديث في الصحيحين: كتب حاطِبُ بن أبى بَلْتَعَةَ إلى قُريش كتاباً يُخبرهم بمسيرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم – وفي رواية مسلم يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلاً على أن تُبلغه قريشاً، فجعلته في قُرون في رأسها، ثم خرجَتْ به، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبرُ مِن السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزُبير، وغير ابن إسحاق يقول : بعث علياً والمقداد والزبير، فقال : انطلقا حتَّى تأتيا رَوْضَةَ خاخ، فإنَّ بها ظعينة معها كِتاب إلى قُريش، فانطلقا تَعَادى بهما خَيْلُهما، حتى وجدا المرأةَ بذلك المكانِ، فاستنزلاها، وقالا : معكِ كتابٌ ؟ فقالت : ما معي كتاب، ففتشا رَحْلها، فلم يجدا شيئاً، فقال لها علي- رضي الله عنه - : أحِلفُ باللهِ ما كذبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا كذبنا، واللهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أو لنُجَرِّدَنَّكِ، فلما رأت الجدَّ منه، قالت : أَعْرِضْ، فأعرض، فحلَّت قُرون رأسها، فاستخرجت الكِتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا فيه : مِن حاطب ابن أبى بَلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وفيها من الفوائد:
- أمر الإسلام أكبر من أمر الأشخاص فلا كرامة لمن خان، ولولا مانع شهود بدر لكان للحكم مجال آخر.(1/315)
- لا حُرمة للمسلم أو المسلمة المشكوك في أمرهما، وإذا تحتم كشف المرأة التي تحمل الكتاب وجب الفعل، سداً لباب المفسدة الأكبر المترتبة على الترك.
- يجوز مداهمة وتفتيش المتاع وما يلحق به من بيوت أو مخازن، في سبيل منع التجسس أو إرسال المعلومات.
- أن تكون أخفت الكتاب في ناحية من جسدها فهي مسألة ظنية، وبعد تفتيش المتاع أصبحت يقين، فتؤخذ بالظن للوصول إلى اليقين.
- لا يُكتفى بالظاهر في مثل هذه الأمور مع عموم أدلة الأخذ بالظاهر، بل يُعتمد الشك والتكذيب ولو كان الظاهر الصدق.
- يجوز التهديد بالكشف مقابل إخراج الكتاب، فالمسألة تحتمل التهديد لإخراجه كما تحتمل البحث عنه.
- جواز استنطاق المتهم لاستخراج ما يحمله من معلومات.
- قال ابن القيم في الزاد: وفيها –أي فقه قصة حاطب- : جوازُ تجريدِ المرأة كُلِّها وتكشيفها للحاجة والمصلحةِ العامة، فإن علياً والمقداد قالا للظعينة : لتُخْرِجِنَّ الكتابَ أو لنكْشِفَنَّك، وإذا جاز تجريدُها لحاجتها إلى حيث تدعو إليها، فتجريدُها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى.
وجاء في الزاد وابن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى "نخلة" في سرية يرصدون عيراً لقريش، وكتب لهم كتاب، وأمر عبد الله ألا يفتحه إلا بعد مسيرة يومين، فلما مر يومان فتح الكتاب فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم".
والأمر واضح كدليل عل استخدام نظام السرية في الإرسال، وهى سابقة نبوية لنظام "الرسائل المغلقة"، حتى لا تعلم عير قريش باستهدافها ورصدها عن طريق تسريب المعلومات من رجال المهمة نفسها.(1/316)
قال ابن إسحاق في غزوة تبوك: كانت في زمان عسرة من الناس، وجدب من البلاد، حين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا ورى بغيرها، إلا ما كان منها، فإنه جلاها للناس لبعد الشقة، وشدة الزمان.
والتورية هي إخفاء المقصود بالحرب أو طريق الخروج أو سبب الخروج، وما ذاك إلا قطعاً لسبيل تسريب المعلومات للخصوم.
وجاء عن صفية رضي الله عنها في الأحزاب قالت: فقلت يا حسان، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود، وقد شُغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وقد قتلته رضي الله عنها لتقطع سبل الحصول على المعلومات التي يحاول اليهودي معرفتها، وهي: هل في الحمى رجال؟ فعلمت يهود أنها محصنة، وما كان فيها من يحميها.
وقد جاء في زاد المعاد ما يثبت حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إخفاء توجهه ومسيره حتى على أقرب الناس إليه، زوجته عائشة وصهره وأخوه أبو بكر، قال ابن القيم: وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يُجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهى تُحَرِّكُ بعضَ جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أي بُنيَّة؛ أمركنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجهيزه ؟ قالت : نعم، فتجهز ، قال : فأين تَرَيْنَهُ يُريد، قالت : لا والله ما أدرى .
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، فأمرهم بالجد والتجهيز، وقال : " اللَّهُمَّ خُذِ العُيُونَ والأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَها في بِلاَدِهَا " ، فتجهز الناسُ .
- مواقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحصول على المعلومات:(1/317)
عند مسلم: في غزوة الخندق عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟... فقال: "قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم"... قال: "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ"، قال حذيفة: جعلت أمشي حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يُصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ولا تذعرهم عليّ"، ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم."
فيها من الفقه:
- اتخاذ المستأمنين من العيون التي تأتي بالأخبار الصادقة، وإذا كانت من فرد ينتمي للإسلام يكن الخير أكبر.
- منع التحرك الفردي بما يؤثر على العملية الأصلية، ومنع "العين" من التهور أو الحسم.
- الاكتفاء بأداء المهمة المطلوبة وعدم التعدي بما قد يضر بالخطة الموضوعة، والتي لا يطلِّع عليها "العين".
- من أمره القائد بالأمر لا يجوز له التخاذل أو الرفض، خصوصاً إذا كانت المسألة مهمة وليس لها إلا هذا الفرد.
قال ابن القيم في زاد المعاد: قال ابن إسحاق : ولما سمعت هَوازِنُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما فتح اللهُ عليه من مكة، جمعها مالكُ بنُ عوف النَّصْرى، واجتمع إليه مع هَوازِن ثقيفٌ كُلُّها، واجتمعت إليه مُضَرُ وجُشَمُ كُلُّها، وسعدُ بن بكر، وناسٌ من بنى هلال.
ولما سمع بهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، بعث إليهم عبد الله بن أبى حَدْرَدٍ الأسلمى، وأمره أن يدخُل في الناس، فيُقيم فيهم حتى يعلَم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد، فدخل فيهم حتى سمِعَ وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسَمِعَ مِن مالك وأمر هوازن ما هُم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر.
قال ابن القيم فصل : فيما ينبغي للإمام من بعث العيون:(1/318)
وفيها من الفقه : أن الإمام ينبغي له أن يبعث العيونَ ومَنْ يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم، وأن الإمام إذا سمع بقصد عدوِّه له، وفى جيشه قوة ومَنَعَة لا يقعُد ينتظرهم، بل يسيرُ إليهم، كما سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هَوازِن حتى لقيهم بحُنَيْن.
وفي الزاد وابن هشام سرية نخلة بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ في رجب، على رأْسِ سبعةَ عشرَ شهراً مِن الهِجْرة، في اثني عشر رجلاً مِن المهاجرين، كُلُّ اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش.
وفي الزاد بعد غزوة أحد وما لاقاه المسلمون قال: ولما انقضت الحربُ، انكفأ المشركون، فظنَّ المسلمون أنهم قَصَدُوا المدينةَ لإحراز الذراري والأموال، فَشَقَّ ذلك عليهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن هم جَنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يرِيدون مكة، وإن ركِبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذِى نفسي بيده لئن أرادوها، لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنَّهم فيها "، قال علي : فخرجتُ في آثارهم أنظرُ ماذا يصنعون، فجنَّبوا الخيلَ، وامتطوا الإبل، ووجَّهوا إلى مكة.
في خبر "الرجيع" عند البخاري وأحمد وقد جاء سببه أن وفد "عضل والقارة " قد غدروا بالعشرة الذين أرسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعليمهم الإسلام، وقال ابن القيم في الزاد: وأما موسى بن عقبة، فذكر سبب هذه الوقعة، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث هؤلاء الرهط يتحسَّسُون له أخبار قُريش، فاعترضهم بنو لَحيان ، وما في الصحيح أصح ولكنا نذكر الموقف من باب الشواهد على جواز بث العيون وتحسس الأخبار.(1/319)
وقال ابن القيم في الزاد عن سبب غزوةِ المُرَيْسِيع : أنه لما بلغه - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث ابن أبى ضِرار سيِّدَ بنى المُصْطَلِق سار في قومه ومن قَدَرَ عليه مِن العرب، يُريدونَ حربَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعثَ بُريْدَةَ بن الحُصيب الأسلمي يَعْلَمُ له ذلك فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضِرار، وكلَّمه، ورجَعَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره خبرَهم، فندب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ فأسرعوا في الخروج... وبلغ الحارثَ بن أبي ضرار ومَنْ معه مسيرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقَتْلُه عينَه الذي كان وجَّهه لِيأتِيَه بخبرِهِ وخبرِ المسلمين، فخافُوا خوفاً شديداً، وتفرَّق عنهم مَنْ كان معهم مِن العرب.
وفيها من الفقه:
- زيادة التحري وعدم الاكتفاء بما يصل من الأخبار، بل يُعتمد على الموثق منها.
- جواز قتل العين المبعوث للتجسس على المسلمين كما في الحديث السالف وكما فعلت صفية رضي الله عنها، وكما في الحديث الآتي بعد قليل.
-المسألة كانت مألوفة عند الكل: بعث العيون وتحسس الأخبار، منها ما ذكره ابن هشام: وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: إن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولغيرك فحذر عند ذلك.
في الزاد وعند ابن سعد: قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خَيْبَر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما وراءك ؟ " قال : تركتُ جمعاً من يمن غطفان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة : إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك... بعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً... فلما كانوا بسلاح، لقوا عيناً لعيينة، فقتلوه.(1/320)
وفي الزاد وابن سعد: سريَّةُ زيد بن حارثة بالجَمُومِ، فأصاب امرأة من مُزينة يقال لها : "حليمة"، فدلتهم على محلَّة من محالِّ بنى سُليم، فأصابُوا نَعَمَاً وشَاءً وأسرى.
وفيها جواز استنطاق الآخرين، للوصول إلى ما يخدم الدعوة الإسلامية.
وفي الزاد: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى الحُرَقَةِ من جُهينة، وفيهم أسامةُ بن زيد، فلما دنا منهم، بعث الأميرُ الطلائع، فلما رجعوا بخبرهم، أقبل حتى إذا دنا منهم ليلاً.
وقال ابن القيم: فلما كانوا بذي الحُليفة، قلَّد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الهَدْىَ وأشعَرَه، وأحرمَ بالعُمرة، وبعث بين يديه عَيْناً له من خُزَاعَةَ يُخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسفان، أتاه عَيْنُه، فقال : إني تركتُ كعباً بن لُؤي قد جمعوا لك الأحابِيشَ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت ومانعوك.
وأضاف الامام كفوائد فقهية: أن أميرَ الجيشِ ينبغي له أن يبعثَ العُيونَ أمامه نحوَ العدو .
وأن الاستعانَةَ بالمُشرِكِ المأمونِ في الجهاد جائزةٌ عند الحاجة، لأن عَيْنه الخزاعىَّ كَانَ كافراً إذ ذاك، وفيه مِن المصلحة أنه أقربُ إلى اختلاطه بالعدوِّ، وأخذه أخبارهم .
وفي الزاد: قال الواقدي : وتحوَّلت اليهود إلى قلعة الزبير : حصنٍ منيع في رأس قُلّةٍ، فأقام رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له ( عزال) فقال : يا أبا القاسم؛ إنك لو أقمتَ شهراً ما بَالوا، إن لهم شراباً وعُيوناً، تحتَ الأرض، يخرجُون بالليل، فيشربُون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعُون منك، فإن قطعْت مشربَهم عليهم أصحَرُوا لك، فسار رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى مائهم، فقطعه عليهم، فلما قُطِع عليهم، خرجوا، فقاتلُوا أشد القتال، وقُتِلَ مِن المسلمين نَفَرٌ، وأُصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/321)
وعند ابن هشام: قال ابن إسحاق: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر- رضي الله عنه - وقفا على شيخ من العرب فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أخبرتنا أخبرناك "، قال : أو ذاك بذاك ؟ قال : "نعم "، قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا ـ للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نحن من ماء "، ثم انصرف عنه، قال: يقول الشيخ: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ وبقي الشيخ يتفوه : ما من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟
وفيها من الفوائد:
- مع جواز الكذب على الأعداء أو ما يتوصل الأعداء عن طريقه للمعلومات، ففي المعاريض مندوحة عن الكذب، فقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أنا من ماء" فهم منه الرجل خلاف ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه يكفي كإجابة مقابل السؤال، وقد صدق عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: "فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ" [الطارق 6،5]، ومثله قول أبي بكر في الهجرة عند البخاري حين سُئل عن الرجل الذي معه فقال: "يهديني السبيل"، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعنى الطريق وإنما يعني سبيل الخير، والذي أراده أبو بكر هو قول الله تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[الشورى52].(1/322)
وعند ابن هشام وأصله عند مسلم وأحمد قال ابن إسحاق: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعداً ابن أبي وقاص في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له، فأصابوا غلامين، فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما فلما أذلقوهما - بالغا في الضرب- قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما.
وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد سجدتيه ثم سلم وقال لهم : " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، وصدقا والله إنهما لقريش ".
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أخبراني عن قريش ؟ "، قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كم القوم ؟ " قالا : كثير . قال : " ما عدتهم ؟ " قالا : لا ندرى، قال : " كم ينحرون كل يوم ؟ " قالا : يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " القوم فيما بين التسع مئة والألف " ، ثم قال لهما : " فمن فيهم من أشراف قريش ؟ " ، قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتَرىّ بن هشام، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم .
فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال : "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " .
وفيها فوائد عظام:
- لا تعارض بين حالة الإكراه التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها في هذا الموقف وبين حالة الإكراه التي فرضها "عليّ" في قوله: "لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب"، فهنا المسألة ظنية تحتمل صدق الرجلين وكذبهما فلا يجوز إكراههما، أما هناك فالمسألة يقينية فما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كُذب.(1/323)
- القرينة مهمة في القياس، فذبح بين التسعة والعشرة يدل على عدد الجيش، والأسماء التي ذُكرت تدل على أفلاذ كبد مكة، ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليهود خيبر: "المال كثير والعهد قريب" فكان قرينة كذبهم قرب العهد وقلة الحروب، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرجوه وقد كان مدفوناً.
وفي جواز المس بعذاب في سبيل الحصول على المعلومات، أو ما يُسمى بالاستنطاق بالقوة، ما ذكره ابن القيم في الزاد: عن ابن عمر : أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلبَ على الزرعِ والنخل والأرض، فصالحُوه على أن يُجلوا منها، ولهم ما حملت ركابُهم ولِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراءُ والبيضاءُ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يُغَيِّبُوا شيئاً، فإن فعلُوا فلا ذِمَّةَ لهم ولا عهد، فغيَّبوا مَسْكاً فيه مال وحُلى لحُيَيّ بن أَخْطَب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجليت النضيرُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِعم حُيَيّ ابن أخطب : "ما فَعَلَ مَسْكُ حُيَيّ الذي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِير؟" . قال : أذهبته النفقات والحروب، فقال : "العَهْدُ قَريبٌ، والمَالُ أكْثَرُ مِنْ ذلِكَ"، فدفعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الزُّبير، فمسَّه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال : "قَدْ رأيْتُ حُيَيّاً، يَطُوفُ في خربة هاهنا" ، فذهبوا، فطافوا، فوجدوا المَسْكَ في الخربة، فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنى أبي الحُقيق، وأحدُهما زوج صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، وسبى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالَهم بالنَّكْثِ الذي نَكَثُوا، وأراد أن يُجليهم منها،(1/324)
ومما يدور في الفلك باستحباب معرفة المعلومات والبذل والتضحية في سبيل الحصول عليها، ممن وُثق بصدقه وأمانته في نقل الأخبار وقدرته العقلية والبدنية على تحمل الأمر، ما جاء عند ابن هشام: عندما دارت الحرب بين النجاشي وخصومه قال ابن إسحاق قالت أم سلمة رضي الله عنها: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت : فقال الزبير بن العوام: أنا، قالوا: فأنت، وكان من أحدث القوم سناً، قالت : فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم".
- موقف مضاد:
في الرحيق المختوم أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر: أن محمداً قصد قصدكم وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة وقوم محمد شرذمة قليلون، عزل لا سلاح لهم إلا قليل.
- ما حكم الجاسوس؟
قال النووي في شرح مسلم: وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي وهو كذلك بإجماع المسلمين.
وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله، وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.
وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما ولا يجوز قتله، وقال مالك رحمه الله تعالى: يجتهد فيه الإمام ولم يفسر الاجتهاد، وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه: يُقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، قال الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر.(1/325)
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند حديث حاطب - رضي الله عنه -: وفيه هتك ستر الجاسوس وقد استدل به من يرى قتله من المالكية لاستئذان عمر - رضي الله عنه - في قتله، ولم يرده النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الا لكونه من أهل بدر، ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه، والمعروف عن مالك: يجتهد فيه الإمام وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه.
وقال الشافعية والأكثر: يعزر وإن كان من أهل الهيئات يُعفى عنه، وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة يُوجع عقوبة ويُطال حبسه.
- هل يصل التعزير لحد القتل؟
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: هل يجوز أن يبلغ بها [التعزير] القتل مثل قتل الجاسوس المسلم؟ في ذلك قولان أحدهما: قد يبلغ بها القتل فيجوز قتل الجاسوس المسلم إذا قصد المصلحة، وهو قول مالك وبعض أصحاب أحمد كإبن عقيل، وقد ذكر نحو ذلك بعض أصحاب الشافعى وأحمد في قتل الداعية إلى البدع، ومن لا يزول فساده إلا بالقتل، وكذلك مذهب مالك قتل الداعية إلى البدع كالقدرية ونحوهم.
والقول الثانى: أنه لا يقتل الجاسوس وهو مذهب أبى حنيفة والشافعى والقاضى أبي يعلى من أصحاب أحمد، والمنصوص عن أحمد التوقف فى المسألة.
وقال في الفتاوى الكبرى: وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل المُفرق بين المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة، ومن هذا الباب الجاسوس المسلم الذي يخبر بعورات المسلمين.
قال ابن القيم في الزاد: فصل : في جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلماً:(1/326)
وفيها – أي فقه قصة حاطب - رضي الله عنه - - : جوازُ قتل الجاسوسِ وإن كان مسلماً لأن عمر - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلَ حاطب بن أبى بَلتعةَ لما بعثَ يُخبر أهلَ مكة بالخبر، ولم يقل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَحِلُّ قتله إنه مسلم، بل قال : "ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُم"، فأجاب بأن فيه مانعاً من قتله، وهو شهوده بدراً، وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوسٍ ليس له مِثْلُ هذا المانع، وهذا مذهب مالك، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعى وأبو حنيفة: لا يُقتل، وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب، والصحيح : أن قتله راجع إلى رأى الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان استبقاؤه أصلحَ، استبقاه . . . والله أعلم.
الحرب النسائية
المرأة المسلمة نصف المجتمع ودورها في بناءه أكبر من أن يُذكر وأشهر من أن يُنشر، فهي الراعية والمُربية والمُناصرة والمُعينة، وهي المُساندة والداعمة وهي خلف كل عظيم، باختصار إنها مدرسة الرجال ومزرعة الأفكار...
في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "النساء شقائق الرجال".
والسؤال: هل لتلك العظيمة دور في الجهاد والدفاع عن حُرمة المسلمين وصون بيضتهم، والذود عن دينها ونصر إسلامها بالجهاد دفعاً كان أو طلباً ؟
لن ينصب الحديث على الناحية الفقهية للأمر- فهو حديث آخر ومكانه بحث آخر مع كثير من متعلقاته- بقدر ما هو استعراض لما قام به ذلك الرعيل الأول.(1/327)
الجهاد بالسيف ليس بواجب على المرأة عند جمهور العلماء، ويكاد يكون اتفاقاً لحديث عائشة رضي الله عنها، قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ:"نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَة"ُ [أحمد وابن ماجه برواة ثقات].
ومع وضوح قول عائشة وسؤالها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، سنرى بالأدلة البينة، الواضحة الجلية عِظم دور المرأة في الجهاد، وخروجها غازيةً في سبيل الله وناصرةً للرجال، بل ومُقَدَمَة على الرجال في مواطن كثيرة.
كان مما اشتهر بين العلماء عن البخاري رحمه الله: "فقه البخاري في تراجمه" واستناداً لهذا القول سنجد البخاري يؤصل قاعدة مشاركة المرأة في الجهاد على النوعين وبلا تمييز للمسألة، ولهذا بوب في صحيحه في كتاب الجهاد والسير لدور المرأة الحربي، فجاء بعدة عناوين منها:
1-باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء.
2-باب جهاد النساء.
3-باب غزو المرأة في البحر.
4-باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض النساء.
5-باب غزاة النساء وقتالهن مع الرجال.
6-باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو.
7-باب فداء النساء الجرحى في الغزو.
8-باب رد النساء الجرحى والقتلى.
ونقول: إن الحديث لن ينصب أيضاً حول دور المرأة في الإسلام كموقف خديجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسماء في الهجرة، وأم أيمن وموقفها من أذية قريش لأبي بكر وائتمانها على سر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمعرفة مكانه، أو موقف فاطمة في دفاعها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذاك موضع آخر يقدر الله بعلمه وحكمته الخوض فيه، ولكن الحديث سينصب فقط على دورها الحربي في معارك الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(1/328)
في البخاري تحت باب (غزو المرأة في البحر) ومسلم واللفظ للأول:عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أم حرام بنت ملحان- خالته في الرضاعة- فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة -شك إسحاق-"، قالت فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله –كما قال في الأول"، قالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: "أنت من الأولين"وزاد في رواية عند البخاري أيضاً: "ولست من الآخرين"، قال: قال أنس فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرظه فلما قفلت ركبت دابتها فوقصت بها فسقطت عنها فماتت".
وفي البخاري باب (غزو النساء وقتالهن مع الرجال) عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما(يعني: الخلاخيل)، تنقزان (أي: تحملان) القِرَب(أي تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملأنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم).(1/329)
وعند البخاري (باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو): قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - قسم مروطاً بين نساءٍ من نساء المدينة فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أم سليط أحق - وأم سليم من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال: عمر فإنها كانت تزفر– تخيط- لنا القرب يوم أحد".
وذكر البخاري باب (مداواة النساء الجرحى في الغزو) عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة.
وليست المشاركة في حمل السلاح فقط فكلٌ له دور، وصانع السهم وراميه في الأجر سواء وكلٌ مُيسر لما خُلق له، ولا يستغني عاقل عن أسباب المعونة، ولا يستقل حكيم حجم الآخرين، وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخرٌ للهلال.
ولما كانت بيعة العقبة الثانية وهي بيعة الحرب لما فيها من بنود، كان من قدر الله أن تُشارك النساء فيها، فحضرت البيعة امرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو، لتشهدا هذه البيعة التي كان من بنودها "أن يمنعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ..."رواه أحمد بإسناد صحيح علي شرط مسلم.
وفي "أحد" استشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في لقاء المشركين بين رأي بالخروج وهو رأي الأكثر من الأنصار، وبين رأي بالبقاء في المدينة وهو ما رآه - صلى الله عليه وسلم - وكان من تعليلاته ومبرراته، أن تقاتل النساء والولدان بما يقدرون عليه للدفاع عنها، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند رأي من قال بالخروج.(1/330)
واشتدت المعركة وحمي الوطيس واختلط الحابل بالنابل وأصوات الطبول بقعقعة السيوف وضرب السنان بصهيل الخيول، ولاح فجر الانتصار على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأصحاب، ثم ولى لاختلاف الرماة بين ثابت على الأمر وراغب بالغنائم، ليجري الماء عكس التيار بانتصار الكفار نصرهم المؤقت، وتظهر معادن الرجال غفر الله لمن فر وثَبَّت من ثَبت، ويبقى "السابقون السابقون" تبراً خالصاً مدافعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لتثبت "أم عمارة" في الوقت الذي فر فيه الرجال، يرحم الله الجميع.
إنها أم عمارة نسيبة بنت كعب، إنها التي شهدت بيعة العقبة الثانية، لتصدق بعهدها أن تحمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو وقف موقفها عند مشابهة الرجال لكفاها، ولكنه فاق وليس العبد الراغب كالعبد المُجبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما التفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني" [السيرة الحلبية].
ولما سألتها بنت سعد بن الربيع عن يوم أحد قالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إليّ، قالت أم سعد: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور فقلت لها: من أصابك بهذا قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كانت عليه درعان" [البداية والنهاية لابن كثير].(1/331)
ولما رأت أم أيمن فلول الفارين يوم "أحد" لقيتهم ومعها النساء والأطفال، وأخذت تحثو التراب في وجوههم وهي تقول: هاك المغزل، وهلم سيفك ، ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حِبَّان بن العَرَقَة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال : "ارم به "، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حَتَّى تكشف، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بدت نواجذه، ثم قال : "استقاد لها سعد، أجاب الله دعوته" [السيرة الحلبية والإصابة لابن حجر من رواية الواقدي].
كانت أم سليم من حمال السلاح في بدر وحنين وقد شهدت أحد -كما في الاستيعاب والطبقات - دفاعاً عن دين الله، وقد اتخذت يوم حنين خنجراً، كما في حديث أنس عند مسلم: "أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : "ما هذا الخنجر؟" قالت: اتخذته إن دنا أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك"، وكانت يوم أحد هي وعائشة تنقلان القرب المملوءة بالماء لسقاية جرحى المسلمين، ومثلها أم زياد الأشجعية التي شاركت في غزوتي بدر وحنين، وكانت تسقي وتداوي الجرحى وتناول السهام للمحاربين، وأم حبيبة الأنصارية (نسيبة بنت الحارث) التي قيل إنها اشتركت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سبع غزوات منها خيبر، وكانت تداوي الجرحى وتعد الطعام وتقوم على رعاية المرضى.(1/332)
وفي أسد الغابة والإصابة: عندما أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوجّه إلى خيبر، قالت أم سنان الأسلمية: يا رسول الله، أحب أن أخرج معك، أخرز السقاء وأداوي الجرحى وأنصر المجاهدين وأحفظ لهم أمتعتهم وأسقي عطشاهم، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لها: "تعالي معنا وكوني مع أم سلمة".
وفي الإصابة وثقات ابن حبان أن ليلى الغفارية قالت: كنت أغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأداوي الجرحى وأقوم على المرضى".
وعند الواقدي وابن عبد البر في الاستيعاب أن كعيبة بنت سعيد الأسلمية شهدت خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسهم لها سهم رجل.
وفي البخاري ومسلم واللفظ للأخير عن أم عطية قالت:" غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى".
وعند الترمذي وابن حبان وصححاه: "كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى".
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء، فيداوين الجرحى، ويُحذَين من الغنيمة".
ذكر ابن كثير في البداية بتصرف في قصة قتل الأسود العنسي الكذاب من اتفاق امرأة "الأسود العنسي الكذاب مدعي النبوة" مع رجال الإسلام ليحققوا الهدف باغتيال "الأسود": إنها "آزاد" المرأة المؤمنة، كان بينها وبين فيروز الديلمى –أحد رجال تنفيذ المهمة- قرابة فهي ابنة عمة وأخته من الرضاعة.(1/333)
بهذه القرابة والحرمة بين "فيروز" و"آزاد" ذهب إليها واجتمع بها سرا ًوتحدث معها بإخراج "الأسود" من صنعاء فقالت:"إن إخراجه من صنعاء لا يكفي، وأنا أعاونكم على قتله ! ووالله ما خلق الله من أحدٍ هو أبغض إلى منه فهو كافر كاذب، ثم رسمت خطة العملية بقولها: الأسود مُتَحرّز مُتَحرّس وليس في القصر حجرة أو غرفة إلا والحراس عليها محيطون بها ولذلك دخولكم عليه القصر من بابه غير ممكن ودخولكم الغرف والحجرات من أبوابها غير ممكن أيضاً لأن الحراس سيمنعونكم أو يقتلونكم، فقط البيت الذي ينام فيه "الأسود" يمكن الوصول إليه فهو داخل القصر صحيح، والحراس على البيت صحيح، لكن ظهرَ البيت إلى الطريق والطريق شبه مهجور وغير مطروق.
ودلت "آزاد" أخاها على طريقةٍ مضمونة لاغتيال "العنسي" فقالت له: ليس أمامكم إلا أن تنقضوا ظهر البيت وتنقبوه من الطريق غير المطروق، ونقبُه ُسهلٌ يمكن أن يتم في جزء قليل من الليل وعند ذلك تدخلون علية من "النقب" الذي تُحدثونه في ظهر البيت وتقتلونه وهو نائم، وبذلك لا يعلم بكم الحراس على أبواب الغرف، واتفقت آزاد مع فيروز على أن يتم ذلك في هذه الليلة وستكون هي في البيت ـ غرفة النوم ـ لتساعدهم في قتل زوجها الكافر "الأسود العنسي".
وحتى تكون عملية النقب من الخارج ميسورة، اتفقت "آزاد" و"فيروز" على أن يقتلعا بعض الأجزاء الداخلية للجدار من الداخل والتي تعتبر كالبطانة للجدار، فاقتلعاها ثم غطيا مكانها لئلا يشعر بذلك أحد.
وجلس فيروز عند آزاد قليلا ًقبيل خروجه وأثناء جلوسه عندها دخل الأسود فرآه جالسا ً فانتهره وأراد أن يقتله وأخذته الغيرة، فقالت "آزاد": لا تعجل الغيرة تسيطر عليك إن "فيروز" ابن عمي وأخي في الرضاعة فبيني وبينه قرابة وحرمة ولقد جاءني زائراً، فصاح "الأسود العنسي" في "فيروز" وأخرجه.(1/334)
وخرج فيروز الديلمي إلى إخوانه ليخبرهم بتفاصيل العملية، وبعدما حل الظلام توجه المجاهدون الأربعة إلى الطريق المهجور وقاموا بنقض جدار البيت من الخارج دون أن يشعر بهم أحد، ونفذوا ذلك في وقت قصير. ودخل الأسود العنسي القصر ومر من بين الحراس الواقفين على باب القصر وعلى أبواب الغرف داخله وذهب إلى بيته الخاص في القصر ـ غرفة نومه ـ وكانت امرأته في استقباله، وبعد الطعام والشراب ذهب لفراشه لينام وما هي إلا لحظات حتى غط في نوم ٍعميق، وبقيت المرأة ترتقب.
سارع فيروز بالهجوم على "الأسود العنسي" وهو نائم وضربة بالسيف وأخذ برأسه ودق عنقه... ثم جاء بقية الفرسان وجلس اثنان على صدره وأخذ آخر بشعره وأمسك فيروز بالسيف ليقطع رأسه وصار الأسود يصيح فكتموا صوته وملؤوا فمه بالثياب ولما حز فيروز رأسه بالسيف خار كخوار الثور، وصرخ بصوت عالٍ جداًً... سمع الحراس الصياح وهموا بالدخول لولا إجابة "آزاد":"إنه يوحى إليه". وهكذا كان لهذه المجاهدة الدور الأعظم في قتل "الأسود"بحسن تدبيرها وتخطيطها وإدارتها وحكمتها.
ومما يدل على صحة هذا الفهم القائل بمباشرة المرأة للقتال دون الدخول في التعقيدات الفقهية ككشف الوجه أو الاختلاط والخلوة وما شابه، نجد أن الفهم قد توالى في قتال المرأة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة - رضي الله عنهم - :
ها هي هند بنت عتبة التي شاركت في أحد انتقاماً لما حدث مع قريش في بدر، وقد أقسمت أن تتخذ من آذانهم وأنوفهم قلائد، ومما ذكر عن دورها في قيادة ضاربات الدفوف ومرددات الأراجيز، وقد اشتهرت قصتها مع حمزة بن عبد المطلب حين دفعت وحشي لقتله ثم شقت بطنه ونزعت كبده ومضغت منه جزءاً فلاكته ولم تسغه فلفظته، وبعد أن حسن إسلامها خرجت مع زوجها أبي سفيان إلى اليرموك لتأخذ موقعها القيادي وقد أبلت في المعركة بلاءاً حسنا شهد لها الجميع به، وهى التي كانت تقول: عاجلوهم بسيوفكم يا معشر المسلمين.(1/335)
ولولا أن المقصود بالحديث فترة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحروبه لكان مع مجاهدات اليرموك وقفات، وتكفي رواية الواقدي لتدل علي الحدث قال: قال عبد الله بن قرط الأسدي: شهدت القتال كله فلم أر قتالاً أشد من قتال "يوم التعوير"(يوم من أيام وقعة اليرموك) فقد رجعت الخيل على قابها وقاتل الأمراء بأنفسهم والرايات بأيديهم، حتى كان أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمسيب بن نجبة الغزاري وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والفضل بن العباس يقاتلون قتالاً شديداً.
قال عبد الله بن قرط: فقلت في نفسي كم مقدار ما يقاتل هؤلاء وهم نفر يسير حتى ساعدتنا النساء اللاتي شهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، يداوين الجرحى ويسقين الماء ويبرزن إلى القتال. ولم أر امرأة من نساء قريش قاتلت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في اليمامة مع خالد مثل ما قاتلت نساء قريش يوم اليرموك حينما دهمهن القتال وخالط الروم المسلمين فضربت بالسيوف ضرباً وجيعاً.
وعند سعيد في السنن بإسناد صححه الألباني عن عبد الله بن قرط الأزدي قال: "غزوت الروم مع خالد بن الوليد، فرأيت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمهاجرين يرتجزن".
وعند الطبراني في المعجم الكبير وحسن إسناده الألباني عن مهاجر الأنصاري: "أن أسماء بنت يزيد الأنصارية شهدت اليرموك مع الناس، فقتلت سبعة من الروم بعمود فسطاط ظلتها".
وعند ابن أبي شيبة والبخاري في" التاريخ" بسند يحتمل التحسين كما قال الألباني عن خالد بن سيحان قال: شهدت تُستر مع أبي موسى ومعنا أربع نسوة يداوين الجرحى، فأسهم لهن".
وهناك دور للمرأة قتالي نسوقه بلا تعليق ويرتبط بفهم الصحابيات للإسلام وجهادهن أمراً بمعروف ونهياً عن منكر ودفاعاً عن النفس:(1/336)
أخرج الطبراني في " المعجم الكبير" بإسناد جيد، وقال الهيثمي: "ورجاله ثقات" عن أبي بلج يحيى بن أبي سُليم قال: "رأيت سمراء بنت نهيك- وكانت قد أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - -عليها درع غليظ وخمار غليظ، بيدها سوط تؤدب الناس، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر".
وروى ابن سعد بسند صحيح:" أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص للصوص، وكانوا قد استقروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها".
هذا غيض من فيض وقطرة من بحر بقليله يُستدل على كثيره وبالمثال تتضح الأحوال على مواقف خالدة ونماذج مشرقة والعهد بالشقائق السير على خطى العظام، وما ضل من سار على خطى خير القرون.
……………
الحرب النظامية
"الحرب النظامية" هي صراع مسلح بين جيشين يتبعان لدولتين تختلفان فكرياً وثقافياً، ولكن ينضبطان بعلاقة حربية يتعارفان عليها دون اتفاقات معلنة، بمعنى أن الحرب النظامية تأخذ طابع الالتزام بمبادئ عريضة لا يمس بها أحد طرفي الصراع.
تهدف "الحرب النظامية" في أغلبها بل كلها إلي فرض السياسة عن طريق الحسم العسكري، لذلك فمن النادر أن تخوض حرباً شاملة تطال كل قدرات وأفراد العدو، ولا تخوض حرب ابادة ضد كل متحرك عند الخصم، لذا فإنها تكتفي بإنهاء حالة الصراع إذا تنازل الخصم ورضي بالأمر الواقع: أي اتباع سياسة الخصم، والدخول في مبادئه، أو الرضا بسلطته العليا.
- أنماط الحرب النظامية:
يمكن للحرب النظامية أن تأخذ نمطين على مستوى العمل:
- الحرب الشاملة: وهي التي تُستخدم فيها كل الإمكانات والطاقات من أتباع وأحلاف، ومختلف أنواع الأسلحة على مساحة جغرافية تشمل كل أراضي الخصم أو أكثرها، بهدف رسم خارطة جديدة للواقع، كإعلان استسلام الخصم أو الدخول معه في أهدافه الاستراتيجية.(1/337)
كانت مكة عملياً تحت السيادة الوثنية، ولم يكن للمسلمين سلطان على أقدس بقعة وأحبها إلى قلوبهم، فلما نقضت قريش صلح الحديبية خاض معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرباً شاملة، حُسمت فيها وبها ظاهرة الصنم في مكة، ليبدأ عهد جديد بتوحيد خالص.
لقد شملت الحرب كل ما هو موجود من أفراد ودور وأموال ومراكز عبادة، ليعيد صياغة البلد من ذات الطابع الشركي لتصبغه بصبغة الإسلام، ومن قبله ما حدث مع قبائل اليهود الثلاثة في المدينة بإجلائهم عن ديارهم حسب ما هو مبثوث في كتب السيرة، لينتهي التواجد اليهودي في المدينة... هذا بالنسبة للهجوم وهو لا يختلف كثيراً في جوهره عن الدفاع، فالأحزاب كانت "حرباً نظامية" بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
- الحرب المحدودة: فيها تُستخدم بعض الكتائب العسكرية مع بعض أنواع الأسلحة حسب الحاجة لها، بلا زج لكل القوات أو الأسلحة ودون توسيع نطاق العمل، بل تهدف للقضاء على قدرةٍ أو طاقةٍ للعدو محدودة ثم الانسحاب، وهذا النمط من الحروب يجلب أهدافاً سياسية أكثر منها عملية.
كانت القبائل العربية مشرذمة حول المدينة تتحين الفرص للإغارة سلبا ًونهباً لكل ما تطاله اليد، وغيرهم كان استفزازاً للدولة الوليدة، وبعضهم حسداً وبغياً، وبعضهم دساً وتأليباً، فكانت طلائع المجاهدين تقتنص الفرص من هؤلاء فتشرذمهم وتفرقهم على ما هم فيه من فرقة، لترسم السياسة النبوية:
- لا أمان إلا في الإسلام.
- كل من يعاند الدين الجديد فهو في دائرة الاستهداف.
- لن ينفع حليف حليفاً ولن تنصر قبيلة أختها، إذا اجتاحتها ليوث التوحيد.
- المعالم العامة للحرب النظامية:(1/338)
- تعتمد في كل عناصرها الأساسية من جند وسلاح ودعم إلى المال والقوة الاقتصادية... كل حرب تحتاج إلى المال ولكنه هنا ركاز العملية، فحرب العصابات مثلا أو الحرب الشعبية أفرادها ليسوا موظفين ولا أجراء بل هم متطوعون، وسلاحهم ليس له قيمة شرائية تكلفتها الدولة بل هو نتاج حربهم كغنيمة أو فئ، والمقصود أن الحرب النظامية تقوم في الأساس على المال.
جاء في الرحيق حول أحداث بدر: احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم : يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفي ذلك أنزل الله تعالي : "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ" [ الأنفال : 36 ].
وفي حديث تبوك كما في السنن عن عثمان قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر في وجوه القوم فقال:"من يجهز هؤلاء غفر الله له"، يعني جيش العسرة فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما.
قال المباركفوري: وتسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره - صلى الله عليه وسلم -، فكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقلبها ويقول : "ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم " ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود .(1/339)
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - - وكانت أربعة آلاف درهم - وهو أول من جاء بصدقته ، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاءوا بمال ، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مُدين لم يكن يستطيع غيرها ، وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم .
- تعتمد الحرب النظامية على الأفراد المسيرين للعمل، كاستخدام للأسلحة والمعدات أو تنظيم العمل والإدارة أو قيادة الحرب المعلوماتية، وإنما يُنظر فيها للتخطيط حسب الأعداد والقدرات دون النظر للطاقات الكامنة عند الأفراد، وهذا ليس عيباً في ذاته ولكن نتيجته فادحة وخسارته جسيمة قياساً بالحرب الشعبية أو حرب العصابات، فهناك الخسائر لا تطال غير الفاعلين، أما هنا فتطال الجميع، وما أنموذج "أحد" من المسألة ببعيد، فالاعتماد كان على الرماة كقوة أساسية، ومخالفتهم للأوامر وتركهم لموقعهم أدي لنتيجة تحمَّلها الجميع من أعلى قيادة إلى أقل الأفراد، ألا يكفي ما حدث مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموقعة من أذى في جسده ومصاب في عمه كدليل على فداحة الخطأ؟
- تعتمد على المأجورين دون النظر للأبعاد الدينية أو المعتقدات عندهم، فقد تتعدد الانتماءات بين عابد للمادة أو للغنائم، وبين راغب بجنة عرضها السماوات والأرض، بخلاف حرب العصابات والتي تربط الأفراد ولاءً للفكرة وانتماءً للهدف.(1/340)
إن الاعتماد في "الحرب النظامية" على كل من يتمتع بحق المواطنة خطأ جسيم يؤدي لويلات وما مواقف المنافقين من الأمر ببعيد، أولئك الذين ارتبطوا بالإسلام بالمواطنة، وإظهار الاسلام وإبطان الكفر، ومع ذلك فقد كانوا يخرجون مع الجيش الإسلامي إرجافاً وتثبيطاً، وما كان يردهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لينسحبوا بثلث الجيش في "أحد" قبل المعركة، ويتخلفوا في "الخندق" ويطعنوا في شرف الطاهرة في "المريسيع"، ويحاولوا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "تبوك" ويتحالفوا مع يهود "بني قينقاع".
- الحرب النظامية حرب علنية مكشوفة بل يسبقها في الأغلب حرب باردة، تستعد فيها كل الأطراف للحرب، ولذلك إذا تفوق الخصم بالإمكانات والموارد والمعلومات والقدرة العسكرية، فإن النتيجة تصبح مضمونة لصالح الخصم، فعامل المفاجأة هو أهم عوامل الانتصار، لا اعتبار له بالقوة الكافية إلا إذا استخدم نظام التمويه، ولكن في الأغلب تكون المعالم واضحة.
- تعتمد استراتيجية "الحرب النظامية" على أصلين: الحسم والردع العسكري.
أما من جهة الحسم فإن إرادة الانتصار ترتبط ليس فقط بالنهاية العسكرية وفوارق الخسائر، ولكنها ترتبط أساساً بالنتيجة السياسية للفعل، لذلك هي بين خيارين: الحرب العادلة والانتصار السياسي.(1/341)
نعم قد يضطر القائد لحسم المعركة أن يقتل أو يحرق أو يبيد، ولكن آثار هذا الفعل على الرغم من أنه حسم المعركة لصالحه، إلا أنه يؤثر سلباً على عدالة الحرب، أو إقناع الآخرين بسمو الهدف، وفي المقابل فالانهزام العسكري يؤثر سلباً على المخطط السياسي بما يرجع عشرات الخطوات التي خطت بالدماء، فإرادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثأر من قتلة رسوله كما في الزاد في غزوة مؤتة: "وكان سببُها أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عميرٍ الأَزْدِى أحَد بنى لِهْب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم أو بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رِباطاً، ثم قدَّمه فضرب عنقه... فتجهَّز الناس... فجاء هرقل بمائة ألفٍ مِن الروم، وانضمَّ إليهم مِن لَخم، وجُذام، وبَلْقَيْن، وبَهْرَاء وبَلي، مائةُ ألف... وقتل القادة الثلاثة ثم أخذ الرايةَ، دافع القومَ، وحاش بهم، ثم انحاز بالمسلمين، وانصرف بالناس .
"وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلهم في الدهشة والحيرة، فقد كان الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير- ثلاثة آلاف مقاتل - مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير- مائتا ألف مقاتل - ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر ، كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقاً ، ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين، جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها ".[الرحيق].(1/342)
والمقصود أن المعركة لم تحقق هدفها، وهو ما يعني خسارة سياسية كبيرة أن يفشل الجيش في المعركة، ولكن حين يكون العدو أكبر قوة على وجه الأرض، وتكون عدة الروم وعملائهم مائتي ألف أويزيد مقابل ثلاثة آلاف، ثم ينسحب هذا الجيش من دون إبادة أو حصد، بل ولا تجرؤ الروم بمن معها على اللحاق بهم، هو ما دعا القبائل العربية أن تصنف المعركة ضمن معارك الانتصار.
والقائد الناجح يعرف لزوم سياسة الحسم في الحرب النظامية، فانسحاب الجيش بعد حصار الطائف يؤثر سلباً على الانتصار السياسي في فتح مكة [أو السياسي العسكري على قول من قال: إنها فتحت عنوة]، والعسكري في حنين، ثم حصار الطائف الذي أعجز معه المسلمون مما اضطرهم لتحريق الأعناب ورمي المنجنيق واستخدام الدبابات، ومع ذلك استعصت، قال صاحب الزاد: ولم يُؤذَن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح الطائف، واستشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نوفلَ ابنَ معاوية الدِّيلى، فقال : "ما ترى ؟ "، فقال : ثَعْلَبٌ في جُحْرٍ، إن أقمتَ عليه أخذتَه، وإن تركتَه لم يضرك ، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب، فأذَّن في الناس بالرحيل، فضجَّ الناسُ من ذلك، وقالوا : نرحل ولم يُفتح علينا الطائف ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فاغدُوا على القتال "، فَغَدَوْا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا قَافِلُونَ غداً إن شاء اللهُ "، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، فلما ارتحلوا واستقلُّوا، قال : "قولوا : آيبُون تَائِبُونَ، عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ " ، وقيل : يا رسول الله، ادعُ الله على ثقيف، فقال : "اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقيفاً وائتِ بِهِمْ ".(1/343)
وهذا الحسم هو ما ألجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخروج إلى تبوك على الرغم من الضيق والشدة والجوع وقلة الامكانات والموارد، ومع ذلك فليس من السهل التنازل عن المكتسبات التي حققتها مؤتة، ليخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، ويحقق انتصاراً يُضاف للسجل، ليجبن الروم والعرب عن الملاقاة.
أما الردع فهو سياسة مشتركة عند كل الأنظمة المقاتلة والتي تسعى بالانتصار إلى تحقيق الكسب السياسي، عن طريق ردع الآخرين ومنعهم من المضي في مخططاتهم، مع أن سياسة الردع لا تنجح كثيراً والتاريخ يشهد بذلك، لأن الخصم تختلف ثقافات أفراده بين مُدرك للواقع وبين طائش متهور لا يحسب الحساب ولا يعرف الأوزان أو مآل الأمور، لذلك يقوده حمقه للدوران في رحى نفس الثور، "بما كسبت أيديهم".
كان من الطبيعي أن تُحقق غزوة بني قينقاع الأثر السياسي الرادع لليهود في المدينة، ومن ثم عدم اللعب بالنار مع المسلمين، ولكن حُمقهم لا يحده حد ولا يحصيه عد ولا مد -وحسبهم أنهم يهود- ليكرروا خطأهم ويعظم العقاب، من جلاء في بني قينقاع بكل ما يملكون إلى جلاء بما تحمل الإبل إلا السلاح في بني النضير، ثم يقتل الرجال وتسبى النساء وتقسم الأموال في بني قريظة، ومع ذلك لم يرتدع اليهود عن حرب الإسلام.
كان من المفترض كأثر لغزوات وسرايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي خرجت تؤدب العرب الذين يجمعون الجموع لحرب المدينة، ردع من تُسول له نفسه خوض غمار تهديد الأمن في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك كلما كانت الفرصة تحين لآحاد الأعراب بنادي خمر مع صعاليك صحراء، يجتمعون على حرب الدين الجديد ليُعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكرة ويُغير عليهم ويُفرق جمعهم وهكذا دواليك.(1/344)
وكان من المفترض بقريش التي عايشت فترة الاستضعاف الإسلامية، وما فيها من ثبات رجال الإسلام، ثم مرحلة النُصرة من الأوس والخزرج والقتال دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم مرحلة الهجرة وإرادة الانتصار، ثم "بدر" والانتصار الساحق، ومن بعدها "أحد" والتفاني المذهل، ومن بعد "الأحزاب" والعجز القرشي الواضح، كل هذا كان بإمكانه أن يكون رادعاً لقريش عن مواصلة حرب الإسلام، ولكنه زاد في غيها وتكبرها فنالت وبال أمرها.
- التشابه والامتزاج بين "الحرب النظامية" و "الحرب الشعبية":
قد ينشأ لغط وخلط مفاهيم عند من يقوم بالتقسيمات والتفريعات لأنواع الحروب بين متشابه ومحكم في التصنيفات، فليس كل حرب يخوضها جيش الدولة النظامي "حرب نظامية"، وليس كل حرب يخوضها أفراد أو عصابات أو فرق خاصة هي "حرب شعبية"، بل ربما يحدث التداخل إلى حد التمازج بين المصطلحين.
لابد من تواجد "فرق خاصة" تقوم بأعمال "حرب العصابات" والتي تؤدي بقلة عددها وقلة إمكاناتها، ما لا يفعله الجيش بعدده وعتاده، مع الفارق أن هذه الفرق تكون ذات كفاءة عالية وقدرة قتالية متميزة، فيخضعون لأقسى أنوع التدريبات بحيث يُصبح الواحد بألف مقاتل، بخلاف "حرب العصابات" والتي خرجت من حالة الاستضعاف أو القهر وأنواع الظلم لتواجهه بالحرب، بلا تدريب أو امتلاك للقدرات مع وجود بعضها.
- "الفرق الخاصة" كجزء من "الحرب النظامية":
يعتمد عمل " الفرق الخاصة" كجزء من "الحرب النظامية"، على سياسة الحسم والردع أيضاً فهو جزء من كل، ويخدم السياسة العامة وهذا جوهر عملها: الإغارة والحسم السريع.
- الاغتيالات:(1/345)
قال ابن القيم في عملية قتل كعب بن الأشرف... وكان رجلاً مِن اليهود، وأُمُّه مِن بنى النضير، وكان شديدَ الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يُشَبِّبُ في أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعةُ بدر، ذهب إلى مكة، وجعل يُؤَلِّبُ على رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى المؤمنين، ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فإنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ ورَسُولَهُ" ، فانتدب له محمدُ بنُ مَسْلَمَة، وعَبَّادُ بْنُ بِشْر، وأبو نَائِلة واسمه سِلْكَانُ بن سلامة، وهو أخو كعبٍ من الرضاع، والحارث بن أوس، وأَبُو عَبْسِ بنُ جَبر، وأذن لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا ما شاؤوا مِنْ كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه في ليلة مُقْمِرَةٍ، وشيَّعهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَقيع الغَرْقَدِ، فلما انْتَهوا إليه، قدَّموا سِلْكَانَ بْنَ سَلاَمة إليه، فأظهر له موافقته على الانحرافِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وشَكا إليه ضِيقَ حاله، فكلَّمَهُ في أن يَبيعه وأصحابَه طعاماً، ويَرْهَنُونَه سِلاحَهم، فأجابَهم إلى ذلك .
وَرَجَع سِلْكَان إلى أصحابه، فأخبرهم، فأتوْه، فخرج إليه مِن حِصنه، فَتَماشَوْا، فوضَعُوا عليه سُيُوفَهم، ووضع محمدُّ بن مَسْلَمَة مِغْولاً كان معه في ثُنَّتِهٍ، فقتله، وصاحَ عدوُّ الله صيحةً شديدة أفزعت مَنْ حوله ، وأوقدوا النيرانَ، وجاء الوفدُ حتى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل، وهو قائم يُصلى، وجُرِحَ الحارث بن أوس ببعض سيوفِ أصحابه، فتفل عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبرئ، فَأَذِنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل مَنْ وجد مِن اليهود لنقضهم عهده ومحاربتِهم الله ورسوله .
- الإغارة على القوافل:(1/346)
خرجت عير قريش تقصد التجارة عبر طريق تبعد كثيراً عن المدينة إلى الشرق منها، خوفاً من سرايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي عورت على قريش طريق متجرها، وتناقلت الأخبار فجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوقته سرية قوامها مائة راكب بقيادة زيد بن حارثة، وأسرع زيد حتى باغت القافلة وهي تنزل على ماء فى أرض نجد يقال له : قَرْدَة، فاستولى عليها كلها، وفر صفوان ومن معه من حرس القافلة دون أي مقاومة .[ابن هشام].
- فض الجموع:
جاء في الرحيق المختوم حول غزوة بني سليم: نقلت استخبارات المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مائتي راكب في عقر دارهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له : الكُدْر ، ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة".
- التأديب والمعاقبة:
جاء في الرحيق: سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد... كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم.
- "الحرب النظامية" حرب دولة:(1/347)
تأخذ "الحرب النظامية" صفة الاستقلالية عن الشعب أو الجمهور حتى لو اعتمد نظام "حرب العصابات" في بعض الأحايين، فالجيش النظامي هو من يتكفل بالمواجهة، ولكن الكل يتحمل مسئولية الفشل، أما في الحرب الشعبية، فالكل يخوض الحرب بكل الطاقات والإمكانات، فضلاً عن القوات النظامية يخوض الشعب حربه الخاصة أيضاً، وهو ما حدث مع صفية رضي الله عنها وقتلها من جاء يتسور الجدران ليطلع على عورات المسلمين في الخندق، أو ما جاء في مقاتلة أم عمارة دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "أحد"... والنساء لا إلزام عليهن في الحرب، ولكن الحاجة دعت من لا يُقاتل عادة لأن يخوض الحرب، وهذا ما يُميز التمازج بين النظامية والشعبية، إذا كان رابط العقيدة هو الحبل المتين.
وعليه فالعلاقة بين نوعي الحرب هي علاقة مفتوحة، فقد يتحول "النظامي" إلى "شعبي" كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأيه أن يبقى في المدينة في غزوة "أحد"، ولكن الصحابة رأوا الخروج ليقاتلوا خارج المدينة، "واستشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابًَه أَيخرُج إليهم، أم يمكثُ فى المدينة ؟ وكان رأُيُه ألا يخرجُوا من المدينة، وأن يتحصَّنُوا بها، فإن دخلوها، قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنِّساء مِن فوق البيوت.[الزاد].
وقد يتحول الجيش الشعبي إلى جيش نظامي وهو المعهود طبيعة وواقعية، أن يتحول الشعب إلى نواة جيش الدولة، والذي يحتوي الكل بلا استثناء بغض النظر عن القدرة أو الكفاءة بل يستوعب كل الأفراد:
- علي يقطع عنق من يتجاوز الخندق.
- سلمان يشير بحفر الخندق.
- صفية تقتل من يدل على العورات.
- ابن أم مكتوم – فاقد البصر- أمير المدينة.
- ابن الزبير – صغير السن - يرقب من فوق السور.
- ابن رواحة يتحسس أخبار قريظة.
- سعد يرمي.
- رسول الله وهو المقدم - صلى الله عليه وسلم - ينبل.
الحرب النفسية(1/348)
إرادة القتال وما يتبعها من صمود وثبات وشجاعة وإقدام، وضدها إرادة الانهزام وما يلحقها من ضعف وخور وجُبن وانكسار ويأس واستسلام، ما هي إلا عوامل نفسية نسجها العقل البشري تبعاً لظروف خارجية أثّرت في العقل الباطن فظهرت كواقع حي في السلوك.
وفي المجال الحربي يحرص كل خصم على السيطرة النفسية على خصمه، بما يحقق له أهدافه الآنية أي الانتصار في المعركة أو الآتية حسب المخططات الاستراتجية أو بعيدة المدى، وهنا يأتي دور"الحرب النفسية" والتي تعتبر أول عامل بل أهم عامل لكسب الحرب، فإذا كانت الحرب بالسلاح تضمن الانتصار السريع وتستهدف المعدات والرجال، والحرب الاقتصادية تُعنى بمقومات الحرب، تأتي "الحرب النفسية" على أقوى ما يملكه المقاتل، عقله وروحه، فيُصاب بحالة الانهزام الداخلي التي تمكِّن الخصم من الانتصار وربما قبل بدء المعركة، وهذا ما أكده القائد الألماني "روميل" بقوله: "القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم"، وقد ظهر أثر "الحرب النفسية" جلياً في أكثر من حرب ويكفي الذي حدث مع المسلمين في مواجهة التتار دليلاً على ما نقول.
وعليه: فـ"الحرب النفسية" إحدى الوسائل غير العنيفة أو هي قتال عقلي من أجل تحقيق الانتصار العسكري، مع ضرورة فهم أنها لا تحسم المعركة الحربية بل هي عامل لابد منه لتحقيق الانتصار.
بعض أساليب الحرب النفسية:
1- الكلمة المسموعة أو المقروءة:
مثالها ما ذكره أهل التفسير كابن كثير وغيره أن عتبة بن ربيعة أتى ليسمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض قوله، فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سورة " فُصلت " حتى وصل إلى قوله تعالى: "إِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ " [فُصلت 13] أصاب عتبة الرعب، وقال: حسبك حسبك، ووضع يده على فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير.(1/349)
ومثاله أيضاً شعر الهجاء والتهوين من الخصم والتقليل من شأنه والتحقير من قدره، وهو – أي الشعر والكلمة- من جوانب الجهاد المأمور بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ "[التوبة 73]، وهو الجهاد العام مع جهاد الكلمة واللسان وفيه الإغلاظ على المنافقين، بل عَظُم دور الكلمة في الجهاد كما عند الترمذي وصححه الألباني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".
وفي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت جلاء للأمر: "يا حسان اهج المشركين اهجهم فإن جبريل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان"[متفق عليه].
وعند الترمذي والنسائي تقريراً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للعامل النفسي وأثره في هزيمة الخصوم فقد رويا أن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - كان يُلقي شعراً في هجاء الأعداء في المسجد، فاستنكر منه ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قائلاً: بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر ؟! فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خل عنه يا عمر، فلهي- يعني القصدة - أسرع فيهم من نضح النبل"، وفي رواية "خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل".(1/350)
2- الشائعات: وهي الأخبار التي تختلط فيها جوانب الصدق مع الكذب ويتعذر التحقق من مصداقيتها، مع تعلقها بما هو مهم عند الخصم بحيث يُؤثر في سلوكه، ومن أشهر أمثلته إشاعة خبر مقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في "أحد" وكيف أثَّر في نفوس المسلمين وفت من معنوياتهم، وقد استخدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التفريق بين كبار اليهود ومشركى قريش في الخندق من حديث "نعيم بن مسعود" ودوره في التفريق بين الأحزاب، وحديثه في "الحرب التخذيلية".
3- التهديد واستعراض القوة كتحريك الجيوش أو المناورات الحربية، وتصريحات القيادة الحماسية كإعلان الاستنفار أو التعبئة العسكرية، ومن أمثلتها استعراض الجيش الإسلامي أمام أبي سفيان في فتح مكة، وأيضاً استخدام الشعارات الهجومية كشعار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخندق وقريظة: "حم لا ينصرون" [أبو داود والترمذي وصححه الحاكم]، وشعار (يا منصور أمت أمت) في بني المصطلق (زاد المعاد).
4- الخداع والتضليل بالحيل والإيهام، ومنه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة".
فإن الخدعة بلا خلاف تُمزق الصف وتُشتت الشمل وتُفرق الكلمة، بين مقرر ورافض لعدم معرفتهم بأسس الاستدلال، ففي خداع العدو ما يُمزق رأيهم إلى آراء وقولهم إلى أقوال، وقد حدث هذا الموقف مع أبينا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام حين وضع الفأس على رأس كبير الأصنام وقال: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "[الأنبياء 63]، وهذا الفعل فيه خداع لهم ليرجعوا إلى أنفسهم: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ "[الأنبياء 65].(1/351)
قال ابن قدامة: تجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره, لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحرب خدعة", ولما روي أنّ عليّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - لمّا بارز عمرو بن عبد ودٍّ قال له علي: ما برزت لأقاتل اثنين, فالتفت عمرو, فوثب علي فضربه, فقال عمرو: خدعتني, فقال علي: "الحرب خدعة".
5- التخويف وبث الذعر والرعب والضغط النفسي، ومن أمثلته حرب الاغتيالات التي اعتمدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حادثة قتل كعب بن الأشرف وابن أبي حقيق، وحرب الرعب كالتي حدثت في بدر، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة: "إنما جئتكم بالذبح" [رواه أحمد].
6- الإغراء المادي أو المعنوي لجعل الآخر يُغير موقفه أو يُحيده عن الصراع، ومثاله ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق من مصالحة عيينة بن حصن والحارث بن عوف رئيسي غطفان، على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقوميهما.
7- إظهار القوة والتفاخر والتبختر في المشية، والتزييّ بزي الحرب واتخاذ الجيد من الأسلحة والمزركش منها، ومنه مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي دجانة في أحد، وإقراره لمشية الخيلاء أو لبس الحرير، في الحرب فقط.
- موقف الإسلام من الحرب النفسية المضادة وسبل مواجهتها:
1- كشف الأهداف والأساليب: قال تعالى: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة 217].(1/352)
وقال: "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ"[البقرة120].
وقال: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ"[القلم10، 9].
2-كشف محاولات التفرقة: قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ "[آل عمران100]، ثم أرشد سبحانه المسلمين إلى سبيل الخروج من هذه الفرقة بالاعتصام بالله ورسوله فقال سبحانه:" وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ "[آل عمران101].
3-كشف محاولات التخذيل وتثبيط العزائم:(1/353)
بين الله سبحانه أن تثبيط العزائم هو هدف المنافقين لبث روح الانهزام في قلوب المسلمين، وأن هذا ما يفرح قلوبهم ويثلج صدورهم، ومن أمثلته تثبيط المسلمين عن الخروج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك، قال الله تعالى: "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ"[التوبة81-83]، مع التنبيه على ضرورة تصفية الصف وتطهير الجيش من هؤلاء المخذلين.
4-كشف محاولات التشكيك في النصر، ومحاولات تفتيت الصف الإسلامي:
وهو ما فعله المنافقون في غزوة الخندق من تشكيكهم في النصر ثم تخلفهم عن الخروج مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاعتذار، قال تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا "[الأحزاب12-13].
5-ضرورة الإعداد:(1/354)
قال تعالى: "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ "[الأنفال 60]، وعدو الله وعدو المؤمنين من الكفار والمشركين واضح ومعلوم، ولكن هناك من يتزيَّا بزي الإسلام ويتكلم بلسان العربان خطره أشد، لضبابية موقفه، مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ "[المنافقون4]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تجدون شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه" (متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -)، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند وصححه السيوطى في الجامع الصغير ووافقه الألباني عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ولا رضي عن قاتله أو من تشيع لقاتله - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافق عليم اللسان".
6- نقض دعوى العدو وإجهاض خططه:
مثل إشاعة خبر قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحد ليقول ربنا سبحانه: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ "[آل عمران144]، وهو معاتبة للصحابة- رضي الله عنهم - أن رسالة الإسلام لا تتوقف عند موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هي باقية ببقاء الله جل في علاه، أو مثل قول المنافقين: "مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا "[البقرة142] ليرد الله على دعواهم: "قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ "، أو كاستنكار القتال في الأشهر الحرم ليقول ربنا: "قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ "[البقرة217].
7-رفع معنويات الجيش الإسلامي:(1/355)
كقول ربنا: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ" [آل عمران140]، أو: "إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "[النساء 104]، ومثاله أيضاً الترغيب بالجنة وما للشهيد، وفضل الجهاد والثبات، والتحذير من التولي أو النكوص، بجانب الوعيد والتهديد والعذاب لمن يتخلف، أو لمن يُعادي أمة الإسلام.
- مواجهة الحرب النفسية:
1- التثبت من الأخبار قبل التسليم بمصداقيتها وصحتها:
قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا – وفي قراءة حمزة والكسائي: فتثبتوا - أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ "[الحجرات6]، وإذا كان الفسق يعني الخروج عن طاعة الله، فإنه مما تتضمنه الآية عدم الاعتماد في النقل والرواية إلا على من أطاع الله فقط، واعتماد قاعدة الشك مع الإمالة إلى التكذيب حول كل خبر يأتي ممن هو في شك من دينه، ثم فحص وتحري الأمر قبل اتخاذ القرار بالتعامل معه، مع عدم الانشغال بكل ما تسمعه الأذن وترك ما لا يعني المرء.
وهنا فائدة تخليص العقل المسلم من شوائب قد تعلق به مما يسمعه من غير مصدر التلقي المعتمد والموثوق، ومنه حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين رأى عمر يقرأ من صحيفة يهودية قال - صلى الله عليه وسلم - وقد بدا عليه الغضب: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني" [رواه أحمد].
2- إذاعة الأخبار:(1/356)
سواء صدق الخبر أو كان كاذبا، فان في نقل بعض الصدق ما يؤدي إلى فتنة تعظم عن الكذب، ومنه قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - موقوفاً عليه عند البخاري: "حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذب الله ورسوله" أي لا يجب نقل كل ما تسمعه الأذن للناس، فقد يخلق عند ضعاف النفوس أزمات هم في غنىً عنها، فليحذر المسلم من إذاعة الأخبار وليكن آخر ناقل لها، والخير في عدم نقلها إلا لمن هم أهل لتحملها، مثاله ما حدث في الإفك: قال تعالى: "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء83].
3- الاهتمام بتعليم المسلمين وتوضيح المواقف لهم كيلا يقعوا في شراك الأعداء ويتخطفهم كل ساقط أو لاقط، مع التنبه لتغير أساليب العدو مما يلزم تحديث سبل المواجهة بما يتناسب مع الحرب الجديدة.
- قريش وحربها النفسية:
من ذلك ما رواه الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتبع القبائل ووراءه أبو لهب عمه، يقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القبيلة فيقول: "يا بني فلان إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا"، وإذا فرغ من مقالته قال أبو لهب: يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وخلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه.(1/357)
ومثاله أيضاً قتل ياسر وسمية على مرأى من ابنيهما عمار - رضي الله عنهم -، فان ذلك كفيل باسقاط آخر قلاع النفس وحصن الذات، فيصاب المرء بالانهيار النفسي، ويؤدي به للسقوط في هاوية الخصم، بموافقته على ما يريد، ولكن في الاسلام متسع لاستيعاب هذا الضغط النفسي الهائل، ولا يحجر الاسلام على المسلمين واسعاً ففتح باب المعذرة بالاستكراه، وموافقة الكفار على بعض ما يريدوه في سبيل اتقاء شرهم، جعل الله بأسهم بينهم، ليجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمار ولمن يأتي من بعده فرجاً ومخرجاً من المعركة النفسية الآنية، والاستعداد لما بعدها ليقول صلوات ربي وسلامه عليه لعمار المطمئن قلبه بالإيمان: "وان عادوا فعد". [قال ابن حجر في الفتح: وهو مرسل ورجاله ثقات أخرجه الطبري وقبله عبد الرزاق... وأخرجه البيهقي بسند مرسل أيضا ].
- الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحرب النفسية:
لقد غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ثمانية وعشرين غزوة، في تسع قاتل وفي تسع عشرة غزوة تحققت الأهداف بدون قتال، مما يؤكد على أهمية العامل النفسي في تحقيق الأبعاد الاستراتيجية ولنستعرض بعضاً منها:
- صور من الحرب النفسية في معركة بدر:(1/358)
- من المسلمات أن عدد الجيش له قيمته في رفع معنويات الجند بل والقادة، فبحسبه تُوضع الخطط وعلى قدره تُقدر الأمور، قال تعالى تقعيداً لهذا الأصل في معرض التذكير لنبيه: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ "[الأنفال43]، أي أن الأمر جاء من أجل سلامة الصف الإسلامي ووحدته، فناسب الموقف نفسية الجيش التي كانت على وشك الفشل والمنازعة، وأكدها سبحانه في موضع آخر بخطاب موجه للجند والقادة على السواء فقال عز من قائل: "وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً"[الأنفال44].
ثم يأتي التوجيه الرباني لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالانتباه للمحور النفسي عند الجند والتركيز على هذا الأمر الخطير بالتحريض، قال سبحانه:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال"[الأنفال65]، وما يكون التحريض إلا لشحذ همة الرجال ورفع المعنويات ودفع الطاقات باتجاه القتال والنصر، ثم ليتبع الأمر الرباني لنبيه بالتحريض، أمراً بالاستعداد والتهيؤ للمعركة بالإيمان والصبر وكلاهما من الأمور التي تثبت الجنان في مواجهة الكيد.(1/359)
صحيح أنه لا ينبغي إغفال أمر العدد والعتاد في المعركة، ولكنه الإيمان الذي إن تغلغل في النفوس وتملَّك القلوب ثبت الرجل أمام ألف، بل ويفر الألف أمام رجل، قال تعالى تثبيتاً للروح والنفس مقابل العدد والعدة بشرط الصبر والمصابرة: "إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ"[الأنفال65]، ليلحق الأمر دقة في الوصف الرباني لتوجيه النفوس لما اعتراها من تقصير، وللهمة مما أصابها من ضعف، فقال: "الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"[الأنفال66]... ما كان يجهل سبحانه العالم بكل شئ، ولكنه وصف للحال وتوافق بين القدرة والعمل، ودروس لأولئك الرجال الذين "صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا...".
- عند ابن هشام في السيرة جاء وصفٌ للمهاجرين والأنصارعلى لسان عمير بن وهب الجمحي في بدر: "يا قريش لقد رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم...".
- الحرب النفسية جعلت أبا سفيان سفير الإسلام، فبعد فتح مكة أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُري أبا سفيان قوة المسلمين، فحبسه عند مضيق الجبل، ومرت القبائل كلٌ تحت رايته، ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته الخضراء. فقال أبو سفيان: "ما لأحدٍ بهؤلاء من قبل ولا طاقة" ابن هشام وغيره.(1/360)
إنها الهزيمة النفسية التي قتلت روح القتال عند أبي سفيان ليرضى بما يُعرض بعد أن كان يأمر، ويدخل أبو سفيان في الإسلام، فيقول العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أبا سفيانٍ يُحب الفخر فاجعل له شيئاً، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل دار أبي سفيانٍ فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن".
ثم رجع أبو سفيانٍ مسرعاً إلى مكة، ونادى بأعلى صوته: "يا معشر قريش، هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل داري فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فهرع الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وأغلقوا الأبواب عليهم وهم ينظرون من شقوقها وثقوبها إلى جيش المسلمين، وقد دخل مرفوع الجباه.
ولننتبه إلى فطنة أبي سفيان ودهائه وخبرته وحنكته ورجاحة عقله والتي يشهد له فيها البعيد والقريب، تتلاشى وتضمحل لهول ما رآه، فيقول: "من دخل داري فهو آمن"، رضي الله عنه وأرضاه، وأي دار تسع أهل مكة؟
ولكنه ما نظر لعقلانية ما يقول وما قاس المسألة لعظمة ما رأى في نفسه، ولخوفه على قومه مما مر على ناظره، وقد قيل: إن هنداً حين سمعت أبا سفيان وما قال، قالت: وهل تسعنا دارك؟
- "الحرب النفسية" في عمرة القضاء:(1/361)
في الزاد وابن هشام: ثم خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل مِن عام الحُديبية معتمراً في ذي القَعدة سنةَ سبع، وهو الشهر الذي صدَّه فيه المشركون عن المسجدِ الحرام، حتى إذا بلغ يَأْجُج، وضع الأداة كُلَّهَا : الجَحَف والمِجَانَّ، والنَّبل والرِّماح، ودخلوا بسلاح الراكبِ السيوفِ، وبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جعفرَ بنَ أبى طالب بين يديه إلى ميمونة بنتِ الحارث ابن حَزْنِ العامِرِيَّة، فخطبها إليه، فجعلت أمرَها إلى العبَّاس بن عبد المطلب، وكانت أُختها أُم الفضل تحتَه، فزوَّجَهَا العباسُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر أصحابه فقال : " اكْشِفُوا عَنِ المَنَاكِب، واسْعَوْا في الطَّوَاف " ، لِيَرَى المُشْرِكُونَ جَلَدَهم وقُوَّتَهم ، وكان يُكايدُهم بكُل ما استطاع، فوقف أهل مكة : الرجالُ والنساءُ والصبيانُ، ينظرون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وبيان الموقف وضحه محقق الزاد فقال: عند أحمد عن ابن عباس أن قريشاً قالت: إن محمداً وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعامه الذي اعتمر فيه قال لأصحابه: "أرملوا بالبيت ثلاثا ليرى المشركون قوتكم"، فلما رملوا قالت قريش ما وهنتم، وإسناده صحيح وانظر البخاري ومسلم.
الحرب الهجومية الدفاعية
"الحرب الهجومية الدفاعية": هي حرب ظاهرها الهجوم، ففيها يتحرك الجيش ليغزو الخصم في عقر داره بالإغارة أو التبييت أو الكمين، مع أن جوهرها دفاعي.
سبب هذا النوع من الحروب هو إقدام الخصم على الحشد والتجمع بقصد الحرب، فيُتخذ مبدأ: "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، و"ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا".
ولا يُقصد من هذه الحرب إرادة الهجوم، بل هي حالة دفاعية، فرضها الخصم بإرادته للقتال وإعلانه الحرب.(1/362)
- ثبت لبعض نماذج الحرب الهجومية الدفاعية:
- غزوة بني سليم: نقلت استخبارات المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان، تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مائتي راكب في عقر دراهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له : الكُدْر . ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة".[الرحيق المختوم].
- غزوة ذي أمر: نقلت استخبارات المدينة إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن جمعاً كبيراً من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل.
وتفرق الأعداء في رؤوس الجبال حين سمعوا بقدوم جيش المدينة ، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد وصل بجيشه إلى مكان تجمعهم، وهو الماء المسمى [ بذي أمر ] فأقام هناك صفراً كله أو قريباً من ذلك، ليشعر الأعراب بقوة المسلمين، ويستولي عليهم الرعب والرهبة، ثم رجح إلى المدينة .[الرحيق المختوم].
- سرية محمد بن مسلمة لاغتيال كعب بن الأشرف اليهودي، الذي كان يسب ويشتم ويهجو المسلمين ويؤلب العرب على حرب الإسلام، وقد نجحوا بقتله، بل بقطع رأسه ليلقوه بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -.[الرحيق المختوم].
- نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فسارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمرعليهم أبا سلمة، وعقد له لواء ، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً .[الرحيق المختوم].(1/363)
- نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أنيس ليقضي عليه ، وقد نجح بالمهمة.[الرحيق المختوم].
- غزوة نجد: نقلت استخبارات المدينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار حشد جموع البدو والأعراب من بني مُحَارِب وبني ثعلبة من غَطَفَان، فسارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة؛ حتى لا يعاودوا مناكرهم التي ارتكبها إخوانهم مع المسلمين ، وأضحى الأعراب الذين مردوا على النهب والسطو لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة، وخلطوا بمشاعرهم الرعب، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين .[الرحيق].
- غزوة دومة الجندل: جاءت الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل تقطع الطريق هناك، وتنهب ما يمر بها وأنها قد حشدت جمعاً كبيرا تريد أن تهاجم المدينة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ألف من المسلمين، يسير الليل ويكمن النهار حتى يفاجئ أعداءه وهم غارون، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب ، وأما أهل دومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً، وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة. [الرحيق المختوم].
- كان سلام بن أبي الحقيق - وكنيته أبو رافع - من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة، وكان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ المسلمون من أمر قريظة استأذنت الخزرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله .(1/364)
وكان قتل كعب بن الأشرف على أيدي رجال من الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان .
وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، كلهم من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عَتِيك ، وقد نجحت بالمهمة وقتلت المجرم.[الرحيق المختوم].
- سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، وذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود ، فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر ، ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ.[الرحيق المختوم].
- سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القرى، كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق ، قال سَلَمَة بن الأكْوَع : وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت أم قِرْفَة، فبعث بها إلى مكة، وفدى بها أسرى من المسلمين هناك ، وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها، وقتل الثلاثون .[الرحيق المختوم].(1/365)
- سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرًا في ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستعمله على خيبر، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين. [الرحيق المختوم].
- سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار، وقيل : لفَزَارَة وعُذْرَة ، في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما . [الرحيق].
- بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون فى خَضِرَة، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسبى وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة .[الرحيق المختوم].
- غزوة حنين: بعد فتح مكة اجتمعت بطون هوازن وثقيف، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلال وقررت المسير إلى حرب المسلمين ، فكان أن خرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معركة مؤتة وما تلاه من متابعة فلول الفارين ومحاصرة الطائف ثم انتهى أمرهم بالإسلام.[الرحيق].(1/366)
- كان سبب أول تصادم مع الروم حين قتل شرحبيل بن عمرو الغساني سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عظيم بصري، الحارث بن عمير الأزدي، ومع أن الغزوة لم تقطف ثمار الانتصار، ولكنها حققت توازن القوة بين الاسلام والرومان، فجعلت الروم يتحركون تحرك المصروع في كل حدب وصوب لاسترداد السيطرة الفكرية والمعنوية على العرب، فأوحت إليهم شياطينهم بتجميع الجموع لمقاتلة الاسلام وأهله، وأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرورة تحرك جيشه ليفض الجمع الرومي العربي قبل أن يبدأ بتحركه المضاد، ليخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من رجال الإسلام ليواجهوا القوم في دارهم، ولم يقو الخصم على المواجهة فآثر الفرار والانسحاب ليعود "جيش الإسلام" سالماً مظفرا.
-سرية فيروز الديلمي التي قتلت الأسود العنسي مدعي النبوة الكذاب وقاتل شهر بن باذام عامل رسول الله على اليمن، اغتاله فيروز الديلمي ومن معه من أبطال الإسلام.[البداية والنهاية]، وفي هذا اغتيال لجنين الانفصال باليمن ومن فيها عن جسد دولة الاسلام، ووأد لوليد جيش العنسي الكذاب فلا يشغل "جيش الإسلام" نفسه بمقاتلة من لا يستحق المقاتلة.
الحرب الهجومية
"الحرب الهجومية": إنها تعني استباق الخصم بالحرب سواءًا قصد الهجوم المضاد أو لم يقصد، بشرط إعلان الحرب بين الطرفين كسابقة تبريرية للفعل وانتفاء الموانع كالعهود والمواثيق والتي يلزم معها النبذ على السواء.
تشكل مبدأ "الحرب الهجومية" بعد الخروج من مكة مباشرة، هذا ما أورده أئمة التفسير كالطبري والقرطبي بالروايات المسندة عند قوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ "[الحج39]، وهي تعني فتح باب الهجوم المضاد لما فعلته قريش وما نالت به من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، ونسخٌ لكل آيات الصفح الجميل والعفو عن الكافرين.(1/367)
ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها "الحرب الهجومية" في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مرحلتين:
- المرحلة الأولي: من هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة الخندق:
وقد تنوعت في هذه الفترة "الحرب الهجومية"، وأخذت العديد من الأشكال، منها:
1- الإغارة على قوافل قريش:
وأخذت الفترة ما قبل بدر، وقد ابتدأت في رمضان من السنة الأولى للهجرة بسرية "سيف البحر" بقيادة حمزة - رضي الله عنه - في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش قادمة من الشام، ثم سرية "رابغ" بقيادة عبيدة بن الحارث، ثم سرية "الخرار" بقيادة سعد، ثم سرية غزوة "الأبواء" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم غزوة "بواط" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، ثم غزوة "ذي العشيرة" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلها للإغارة على قوافل قريش بهدف الغنيمة.
وكان من أخطرها سرية زيد بن حارثة والتي غنمت قافلة قريش بكل ما فيها، والتي كانت قاصمة الظهر لهيبة قريش ومكانتها بين العرب وهي قُبيل "أحد" بقليل، والفترة بين "بدر" و"أحد" لم يُذكر فيها اغارة على قريش بذاتها بل كان إغارة على العير فقط، وما قُصدت غير قريش بقتال، اللهم إلا غزوة "بحران" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي رجح ابن القيم أنها كانت تريد قريشاً وذكر غيره أنها "هجوم دفاعي" على بني سليم لتجمعهم بهدف الإغارة على المدينة كما ذكره صاحب الرحيق المختوم.
2- الإغارة على قبائل العرب:(1/368)
في الفترة ما بين "بدر" و"أحد" أُضيف لقائمة العداء وجوه أُخر، تنوع معها أسلوب الحرب، فقد كان من الأعراب من طمع بالمدينة كبني سليم وبني غطفان الذين احتشدوا لغزو المدينة، فباغتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه في ديارهم بما يمكن أن يسمى: "الحرب الهجومية الدفاعية" فلولا قصدهم الإغارة على المدينة لما استبقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الغزوة، ثم كانت غزوة "ذي أمر" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج فيها هجوماً على بني ثعلبة ومحارب لتجمعهم بقصد الإغارة على المدينة وهي ضمن "الحرب الهجومية الدفاعية".
بعد "أحد" أخذت الحرب طابعاً مغايراً للأثر الذي أوقعته الهزيمة في نفوس العرب، فقد ظنوا أن المدينة مرتعاً لغزواتهم، فقاموا على أكثر من صعيد بالتجمع للغزو، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليقظة والاستعداد والمباغتة ما مكنه من الهجوم عليهم في عقر دارهم، كسرية أبي سلمة إلي "بني أسد بن خزيمة" وقد باغتوهم في ديارهم قبل اكتمال استعدادات الإغارة، ومثلها غزوة "نجد" بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضاً لجموع بني محارب وبني ثعلبة من غطفان قِبَل نجد.
3- الاغتيالات:(1/369)
وكان من تنوع "الحرب الهجومية" أن شملت الشخصيات التي تؤذي الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتسب الصحابة - رضي الله عنهم - وتتشبب بنسائهم، من ذلك كعب بن الأشرف اليهودي الذي طفح حقداً وحسداً على الإسلام والمسلمين، وتعداه حتى "انبعث عدو الله يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليهم، ولم يرض بهذا القدر حتى ركب إلى قريش، فنزل على المطلب بن أبي وَدَاعة السهمي، وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القَلِيب من قتلى المشركين، يثير بذلك حفائظهم، ويذكي حقدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعوهم إلى حربه، وعندما كان بمكة سأله أبو سفيان والمشركون : أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه ؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً ؟ فقال : أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل الله تعالى : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً "[ النساء 51 ] [الرحيق].
فخرجت إليه سرية بخمسة رجال بقيادة محمد بن مسلمة فقتلوه شر قتلة وقطعوا رأسه واستاقوه معهم ليلقوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد حاول خالد بن سفيان الهذلي بعد بدر أن يجمع لجموع لحرب المسلمين فخرج إليه عبد الله بن أنيس وقتله وأتى برأسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .[الطبقات لابن سعد].
4- الهجوم العقابي:(1/370)
وتمثل في معاقبة "بني قينقاع" على غيها وحقدها ونقضها للعهد وإعلانها لحالة العداء السافر بما لا يدع للحليم صبراً، فقد أظهروا البغي والحسد وهددوا بما لم يلاقه المسلمون من قريش فقالوا وكذبوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى:"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ"[ آل عمران 12، 13 ] .
ثم تمادوا في بغيهم حتى طالوا كل مسلم يطأ أرضهم أو سوقهم، بل وصل الحد فيهم أن آذوا نساء المسلمين أو من كان في حرمهم، فمما ذكره "ابن هشام": أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود.
فكان السبب - وما قبله يكفي لوحده - ليعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرب على بني قينقاع، وليظهر اليهود من قوتهم ما كانوا يهددون به، فظهر عجزهم أمام جحافل التوحيد بعد حصار دام خمس عشرة ليلة انتهى بخذلان قومهم لهم، وهزيمتهم ونزولهم على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدخل المنافق "ابن أبي ابن سلول" حليفهم، ليعفو عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويوافق بعد إلحاح على أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه فيها.(1/371)
بعد "أحد" تجرأ اليهود بما يُعهد عليهم من مكر وخديعة، "وسوَّلَ لهُم الشيطانُ الشقاء الذي كُتِبَ عليهم، فتآمروا بقتله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا : أيُّكُم يأخذ هذه الرَّحى ويصعَدُ، فيُلقيها على رأسه يَشْدَخُه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بْنُ جِحَاشٍ : أنا . فقال لهم سلامُ بْنُ مِشْكم : لا تفعلوا؛ فواللهِ ليُخَبَّرَنَّ بما هممتُم به، وإنه لنقضُ العهدِ الذي بيننا وبينَه.[الزاد].
فكان هذا الفعل بمثابة النقض الصريح للعهد وهو أوضح أعمال إعلان الحرب، التجرؤ علي قتل أعلى قائد للمسلمين، وأرسل إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه " وخنعوا وأذعنوا لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد أن رأس النفاق "ابن أبي" سول لهم البقاء والقتال، فامتنعوا بأنفسهم وبظنهم أن قريظة والمنافقين معهم، وسارت ركائب التوحيد وحاصرتهم حتى نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُجلوا من المدينة.
- المرحلة الثانية: ما بعد الأحزاب:
وهذه المرحلة بدأت بصورتها الفعلية بعد غزوة الخندق مباشرة بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اليوم نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم" [أخرجه البخاري من حديث سليمان بن صرد - رضي الله عنه -].
فلماذا الآن؟
- بدا تشتت الصف المعادي ظاهراً جلياً، خصوصاً بعد استعداد غطفان للانسحاب مقابل ما تم عرضه من ثمار، أي أن القناعات "الغطفانية" لم تكن ذاتية بل وليدة المصالح والمنافع.
- وحدة الصف الإسلامي ضد الهجمة على قلب رجل واحد.(1/372)
- ثبات الصف الإسلامي على موقف "الحرب الشاملة"، وقد بدا واضحاً بقول السعدين حين استشارهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول مصالحة غطفان على ثلث الثمار فقالا: يا رسول الله، إن كان الله أمرك بهذا فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه، لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف. [الرحيق ].
- ضعف قريش واليهود وغطفان وعجزهم عن مواجهة دولة الإسلام كل على حدة، مما ألجأهم للتحزب، وفي هذا أوضح دليل على أنهم فُرادى لم ولن يثبتوا ساعة أمام جند الله، وقد كان والحمد لله.
- التيقن من هشاشة تلك المعاهدات التي تقع مع الكفار، فها هي غطفان بقيادة عيينة بن حصن الفزارى قد نقضت العهد، وها هم بنو قريظة قد نقضوا العهد ومن قبلهم بنو قينقاع وبنو النضير.
- من لا يغزو يُغزى، "وما غُزي قوم في قعر دارهم إلا ذلوا "، فلا خير من انتقال المعركة إلى أرض العدو.
- قِصَر نَفَس العدو في حربة وطول صبر رجال الإسلام.
وبدأت المرحلة خطواتها الفعلية:
- معاقبة كل من سولت له نفسه نقض العهد:
كان أشد اليهود نقضاً للعهد بني قريظة لذلك كان عقابهم أشد، فخيانتهم كانت في أحلك الأوقات –الخيانة زمن الحرب- وبعد أن سارت إليهم جند الأرض يقدمهم جند السماء وحاصروهم في حصونهم، نزلوا على حكم سعد - رضي الله عنه - بعد حصار دام خمساً وعشرين ليلة، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن يُقتل الرِّجَالُ، وتُسْبىَ الذُّرِّيَّةُ، وتقسمَ الأموالُ.
- معاقبة رؤوس التحزب:
وتمثلت باغتيال سلام بن أبي حقيق اليهودي رأس المكر والخديعة وكبير مجرمي اليهود، الذين سعوا لتحزيب الأحزاب، وقد سار إليه عبد الله بن عتيك بمفرزة من خمسة رجال، وقتلوا الخبيث بفضل الله.(1/373)
- معاقبة من لم تطله اليد في المرحلة الأولى:
قال صاحب الرحيق: بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة . والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش.
- السرايا تغزو العرب:
وكان أولها سرية محمد بن مسلمة إلى بني بكر بن كلاب، واستاقوا غنماً وشاء بعد فرار رجال القرية، ثم سرية عكاشة بن حصن إلى الغمر، ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة، ثم سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة أيضاً ثم سرية زيد بن حارثة إلى الجموم.
وهكذا توالت السرايا والبعوث تجوب الجزيرة العربية بطولها وعرضها، ما تركت حياً من أحياء العرب إلا وأغارت عليه، لتُعلم العرب أن فجراً جديداً قد لاح بالأفق.
- الاستمرار بنظرية "الحرب الهجومية":
تمثل في قيام الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق بتجميع قومه ومن حوله من الأعراب لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما تأكد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر خرج إليه، ليفر وتتفرق الجموع قبل وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، كذا رجحه ابن القيم: الانفضاض دون قتال مع سبي النساء والذرية.
ومنها سرية علي بن أبي طالب إلي بني سعد بفدك لترامي الأخبار أن بها جمعاً يُريد المدينة.
- الجيش يدعو للإسلام:(1/374)
وهو طور جديد أن تخرج السرايا تدعو لدين الله، وما كان معهوداً من قبل:
منها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى بني بكر بدومة الجندل يدعوهم للإسلام ويتزوج ابنة ملكهم إن هم أطاعوه، وقد حققت السرية ما كان مرجواً منها فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن ابنة الملك.[الرحيق].
- الهجوم السلمي:
أما مع قريش فقد بدأ بعمرة الحديبية، ومع أنها انتهت بعدم دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، ولكنها أظهرت المسلمين بموقف القادر على طرح رأيه بل فرضه، ودخول قريش موقف الدفاع بعد الهجوم في السابق، وهو ما دعا قريشاً على استحياء أن تطلب الرجوع لهذا العام على أن يأتوا من قابل، وهي تعلم أنها آخر ما بقي لها من هيمنتها على البيت الحرام، وأنها لن تستطيع مواجهة دولة الإسلام وهي التي عجزت من قبل بأحزابها على الانتصار، فكانت الحديبية عهداً جديداً وفتح آفاق للعمل بفضاء أرحب، وهو ما تمثل فيما بعد بغزو خيبر ثم غزو غطفان.
وأما الشق الثاني من الهجوم السلمي فقد تمثل برسائل الإسلام، التي حملتها رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض، وهذا طور جديد من الهجوم أن تبرز قوة عربية في مواجهة أعظم قوى الأرض وتدعوها بما لم يألفه ملوك ذلك العهد، أن يبدأ الكتاب باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو ما أثار حفيظة كسري، كيف يُقدّم الأعرابي راعي الغنم اسمه على اسم كسرى، ولم يعلم هذا الوقح أن هذا الراعي هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق على الله جل في علاه.(1/375)
جاءت أوثق رسالة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملك الروم في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، " يَا أْهلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [ آل عمران : 64 ] .
ومع أن المضمون لم يختلف كثيراً في رسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك ولكنها أخذت طابعاً شديد اللهجة في أرق بيان، شديد اللهجة في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أسلم تسلم"، بمعنى أنك إن لم تُسلم فلن تسلم ولن يسلم لك ملكك، وأرق بيان في تعظيم أجرك باتباع القوم لك وتوحيد الكلمة في عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا ما يؤكد اختلاف الرسائل باختلاف طبائع الملوك فالمجوس عُباد نار، مع أنها لم تخرج عن المضمون العام: إن لم تسلم فإن رجال الإسلام سيطئون بخيولهم قصورك وقد كان والحمد لله رب العالمين.
- القضاء على قوى الشر في الجزيرة العربية:
بعد الحديبية وضمان أن قريشاً لن تُعين خيبر إن هي غُزيت، والأمن من الظهر بحيث يضمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تُغير قريش على المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه خارجها، وهي الآن أعجز من أن تجرؤ على مواجهة دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد سلسلة الهزائم التي تكبدتها في المواجهات السابقة.(1/376)
وكانت غزوة خيبر أول هجوم بهذه القوة على أحد أقطاب القوة في الجزيرة العربية، لبُعد الحصون ومنعتها وقوة اقتصادها وتعدد مواردها وكثرة حصونها، وسار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معاقبة لها على تحزيبها الأحزاب وإيوائها الخونة والمندسين وتمالئها على الإسلام والمسلمين، ووصلت القوة الإسلامية ونازلت الحصون لتفتحها حصناً من بعد آخر، حتى نزل آخرها على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك تم القضاء على أحد أقطاب الشر والكفر في الجزيرة العربية.
ومن قوى الشر تلك القبائل من الأعراب والتي كان لها دور بارز في الأحزاب، ولكن حربهم ليست باليسيرة فهم متفرقون في الصحراء، وليس لهم حصون يتحصنون فيها فيُحاصروا، لذلك كانت أغلب السرايا حين تصلهم تجدهم قد تفرقوا في البلاد، ولكن يكفي تحرك السرايا لتضيف جواً من الرهبة والرعب على الأعراب بحيث تقطع آخر وريد طمع في المدينة.
من هذه الغزوات غزوة ذات الرقاع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني ثعلبة وبني محارب من غطفان، ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بقديد، ومنها سرية بشير بن سعد إلى بني مرة بناحية فدك، ومنها سرية غالب الليثي إلى بني عوال وبني عبد ابن ثعلبة وقيل إلى الحرقات من جهينة، وهذه السرايا وغيرها أخذت في جوها العام إطار: "الحرب الهجومية الدفاعية".
- الحرب الهجومية تطال الروم في عقر دارهم:(1/377)
وهذه الحرب من عجائب الدهر فالجزيرة العربية ما زالت فيها بعض الجيوب والتي لم تخضع للدولة الإسلامية بعد، والطريق بين المدينة ومؤتة على حدود الشام غير آمنة، والأعراب على تربصهم بالمدينة، وقريش ما زال الطمع في قلوبها للقضاء على المدينة، وغطفان على حالها من العداء، واليهود بقاياهم في خيبر يستفزها سمها لحرب الإسلام وأهله، ومع ذلك يتحرك الجيش الإسلامي لغزو الروم في دارهم، بسبب قتل رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمع في جيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة آلاف مقاتل لم يجتمع مثل هذا العدد من قبل ولكن في مقابل كم؟
اجتمع مئة ألف من الروم مع مئة ألف من العرب الموالين للروم، أي ثلاثة آلاف مقابل مئتي ألف، وقد كانت ضربة موجعة للروم كيف جرؤ هؤلاء الأعراب على مجرد التفكير بغزو الروم وأين؟ في دارهم؟
وهو ما أضاف جواً عاماً من الخوف والرعب والرهبة على العرب جميعاً، ببروز قوة إسلامية جديدة في الجزيرة العربية، وهو ما عنى عند العرب استحالة القضاء على الدولة الإسلامية، فإذا كان هؤلاء الثلاثة الآلاف وهم لا يزيدون عمن يسوس خيل الروم أو يُطعم الجيش يواجهون هذه القوة ويرجعون سالمين آمنين، فهل تستطيع العرب وأكبر قوام لجيش لن يتعدى العشرة الآلاف أن يقضوا على هذه الدولة الفتية؟ إن هذا لشئ عجاب.
- "الحرب الهجومية" تحسم النفوذ القرشي الوثني على بيت الله الحرام:
قال ابن القيم حول الفتح: الذي أعزَّ اللهُ به دينَه ورسولَه وجنده وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيتَه الذي جعله هُدىً للعالمين مِن أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتحُ الذي استبشر به أهلُ السماءِ، وضربت أطنابُ عِزِّه على مَناكِبِ الجوزاء، ودخل الناسُ به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجهُ الأرضِ ضِياءً وابتهاجاً، خرج له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائِبِ الإسلام، وجُنود الرحمن.(1/378)
أصبح الإسلام قوة يلجأ إليها من يريد العزة مقابل الكفار، وأصبح حِلفاً مقابل أحلاف الكفر والشرك، فقد أعانت قريش بني بكر حلفهم في الحديبية على خزاعة حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فجاء عمرو بن سالم يستنصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجابه الداعي: "نصرت يا عمرو بن سالم"، وحاولت قريش يائسة أن تسترد بعض كرامتها وتستعز ببقايا مجدها وتستنجد بالرحم أن يجدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقد، وما ينبغي لهم ذلك وقد مر على شركهم بالله السنون الطوال، ويكفي.
وخرج الميامين يقدمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل الذل والخضوع والانكسار لرب العالمين، لتفتح بيت الله المعظم الذي دُنس بأدران الجاهلية على مدار الليالي والأعوام، وما استطاع القرشيون لهذا الزحف مقاومة، فآثروا التسليم والاستسلام على الإبادة وما ذلك على الله بعزيز، ودخلت طلائع التوحيد تكسر الأصنام وتُعيد الطهر للبيت الحرام على ما كان عليه في سالف العصور والأيام ، بيتاً لله لا يُعبد معه غيره، وقُضي الأمر والحمد لله رب العالمين.
- "الحرب الهجومية" تطال الأصنام:
بدأت بإشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأصنام فتتكسر بأمر الله، ثم توالت بأمره - صلى الله عليه وسلم -، ثم توالت بسرية خالد - رضي الله عنه - إلى نخلة ليهدم "العزى" أعظم أصنام قريش وكنانة، ثم سرية عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى رهاط ليهدم "سواع" صنم هذيل، ثم سرية سعد بن زيد - رضي الله عنه - إلى المشلل ليهدم "مناة" صنم الأوس والخزرج – في جاهليتهم- وغسان، ثم بعد حنين أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى "الفلس" صنم طئ ليهدمه.
- "الحرب الهجومية" تقضي على آخر معاقل الشرك في الجزيرة العربية:(1/379)
قال المباركفوري: "إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولذلك لم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلال - وكلها من قيس عَيْلان - رأت هذه البطون من نفسها عِزاً وأنَفَةً، أن تُقابل هذا الانتصار بالخضوع، فاجتمعت إلى مالك ابن عوف النَّصْري، وقررت المسير إلى حرب المسلمين" .
وجاءت الأخبار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا التجمع العربي فسار إليهم بمن معه من المسلمين، وتلاقى الجيشان وحمي الوطيس ومالت كفة النصر لصالح أهل الوثن، وثبت أهل الحق في معركة لم تشهد العرب مثلها، ثم تكافأت الكفة لتعاود للمسلمين ما ألفوه من ثقة بربهم ووعده بنصر رسله والذين آمنوا، لتطيش كفة أهل الشرك والوثن وتعلو راية التوحيد، ويلوح فجر الانتصار بعد الاحتدام وتطاير الهام، وانهزم العدو وتفرق الجمع وفرت الطوائف كل لجحره، وتتابعت فرسان الإيمان تطارد فلول المنهزمين، تُلجئ الأفاعي لأوكارها وتُخرجها رغماً عنها تحت سيوف الحق المبين.
أما أعظم الطوائف فقد لجأت إلى "الطائف" وتحصنت بها مدة غير يسيرة أقل ما قيل فيها خمسة عشر يوما وأكثر ما قيل أربعين، وترامى النبل وتراشقت الرماح وصُنعت الدبابات وحُرّق العنب والنخيل وثبتت كلتا الطائفتين، ثم أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنده بالانسحاب، ويكفي ما حصلوا عليه من غنائم مادية من حنين، ومعنوية تمثلت في كسر آخر شوكة عربية.
وحقق الانسحاب ما لم تحققه الحرب، فقد جاء وفد هوازن مسلماً، وعاد المسلمون للمدينة مخلفين وراءهم هيبة إسلامية بسطت نفوذها على الجزيرة العربية، وصدق من قال: "ما غُزي قوم في قعر دارهم إلا ذلوا".(1/380)
- "الحرب الهجومية" تعاود التأديب وتدعو للإسلام، وتحسم القوة الوحيدة في الجزيرة العربية لدولة الإسلام:
وقد عاودت السرايا بعد "حنين" الدعوة للإسلام ومعاقبة وتأديب العرب، لتبدأ السرايا بالتزامن مع فض الجموع العربية والتي ما زالت تعاند هذا الدين الجديد، فسارت السرايا لتقضي على آخر أمل في نفوس العرب، فخرجت سرية عيينة بن حصن لبني تميم، وسرية قطبة بن عامر إلى خثعم، وسرية علقمة بن مجزر إلى سواحل جدة وغيرها.
وتزامنت مع هذه السرايا سرايا خرجت داعية لدين الله، كسرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب يدعوهم للإسلام.
- "تبوك" عهد جديد من "الحرب الهجومية":
ليس من السهل على الروم أن ينسوا ما حلَّ بهم في مؤتة، وقد داس المسلمون هيبتهم ومرغوا أنف عزهم في التراب، فأرادوا الإقدام على ما يُعيد لهم مجدهم ويبسط نفوذهم على العرب حلفائهم بل أذنابهم، فظهور قوة عربية تنمو كل يوم على تخوم أراضيهم وهي أقرب بالولاء للعرب، تمكن عرب الشام من الانضواء تحت الراية الجديدة، وقد توحدهم مع عرب العراق حلفاء الفرس لتتشكل قوة عربية لن يقف في وجهها تيار، فأسرعت الروم تجيش الجيوش وتحشد الحشود لقتال دولة الإسلام، قال ابن سعد : بلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء .(1/381)
وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليغفل عن هذه التحركات الرومية، ومع ضعف الإمكانات والعُسرة التي تمر بها المدينة، أقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما لم يعهده أحد من قيادات ذلك الزمن فأعلن النفير العام، واستنفر كل من يحمل أمانة الإسلام في عنقه وصرَّح بالوجهة التي قلما كان يخبر عنها من قبل، ليعلن انطلاقاً لحرب الروم في أرضهم مرة أخرى، فالهيبة التي صنعها المسلمون من قبل أصبحت في امتحان صعب، ولابد من المحافظة عليها، خصوصاً وأن الأمن في الجزيرة لم يستتب بعد، وبالفعل خرج الجيش الإسلامي ليلاقي الروم في أرضهم، ووصل الجيش تبوك وعسكر هناك استعداداً للمواجهة، "وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أخذهم الرعب، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين ".[الرحيق المختوم].
قال ابن القيم: "ولما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تَبُوك، أتاه صاحبُ أَيْلَة، فصالحَه وأعطاه الجزيةَ، وأتاه أهل جَرْبا، وأذْرُح، فأعطَوْه الجزيَة، وكتب لهم كتاب أمان".
وعاد الجيش ودخل الناس في دين الله أفواجا، وحسمت الجزيرة العربية ولاءها لدولة الإسلام في المدينة، لتعلن بلسان حالها ومقالها: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/382)
وكانت آخر البعوث من عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: "سرية أسامة بن زيد" - رضي الله عنه - هجوماً أخيراً منه - صلى الله عليه وسلم - على الروم، ليعلن أن الإسلام يحمي أفراده ويعاقب كل من يتطاول على أتباعه ويصرخ في وجه طغيان الروم: كفى، فقد جاءكم محمد - صلى الله عليه وسلم - وحزبه - رضي الله عنهم -.
وينتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرفيق الأعلى وينفذ جيش أسامة ويبقى الروم في مخيلة الخلفاء حلماً لابد من تحقيقه، ليبدأ عهد الفتوح العالمية: هجوم على فارس، هجوم على الروم، هجوم على مصر، هجوم على سائر الأرض مشارقها ومغاربها، "وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" كما قال الصادق المصدوق.
الحرب بالجريرة
حين تقوم المعارك يحرص كل طرف على النيل من الطرف الآخر بما يُوهن من عزمه ويفت من عضده، والفارق في الحرب بين الإسلام وما سواه أنه أصَّل القواعد التي ينطلق منها المجاهد، فالقتال من الأفعال التي تخضع للأحكام التكليفية المنضبطة بالضوابط الشرعية، وحين يتهيأ الركب للجهاد تطرأ بعض الأحوال التي تحتاج لإعادة النظر، فإذا كان العدو يستبيح كل ما يصل إليه، ويقتل كل من تطاله اليد بلا تمييز أو تفصيل بين مقاتل وامرأة وصبي، فهل يجوز للمسلم القتل أو إلحاق العقوبة بمن لم يقاتل لمجرد أنه من بني الكفار؟
من الطبيعي الضغط على الخصم في سبيل إلحاق أي أذى فيه، ويدخل في ذلك الإغارة والتبييت والحصار أو المقاطعة، ولكن هل القتال يلحق بالكفر أم بالمقدرة على القتال؟(1/383)
الذي يظهر من عموم الآيات والأحاديث أن الحكم يلحق كل من يصد عن دين الله، وعلة الصد وعدم دفع الجزية مع الكفر يوجب القتل، هذا ما عليه عموم الأدلة وبه يُجمع بين ما ظاهره التعارض، فعند أبي داود بإسناد صححه الألباني عن رباح بن الربيع - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شئ فبعث رجلاً فقال: "انظر علام اجتمع هؤلاء؟" فجاء فقال: على امرأة قتيل! فقال: "ما كانت هذه لتقاتل".
وبمفهوم المخالفة: أي أنها لو كانت من المقاتلة لجاز قتلها، ولو اتخذت حكم القتال وباشرته تلحق بالمقاتلين، ومثلها في ذلك الراهب أو العسيف أو الزمن أو الشيخ الكبير، والفقهاء بين موسع للأمر كالشافعي الذي أباح قتل كل مشرك بالغ لم يدخل في دين الإسلام محارباً كان أو غير محارب إلا الرهبان لما ورد عن أبي بكر- رضي الله عنه -، ومن الفقهاء من ضيق بالمقاتلين فقط ومنع غيرهم من إلحاقهم بالحكم، وإنما الاختلاف في علة القتل، هل هي مباشرة القتال أم الكفر، كما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
والسؤال: هل يجوز أخذ الكفار بجريرة قومهم، فإذا أخطأ بعض القوم شملت العقوبة الجميع؟
قال تعالى: "وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" [الأنفال:25] في الآية تبيين لسبب العذاب وهو الظلم والذي يقع من طرف على طرف آخر، ولكن العقوبة حين نزلت فقد تناولت جميع الأطراف بمن فيهم المظلوم لاعتبارات عنده سبحانه، ولا يظلم ربك أحداً.
وقال جل في علاه: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا"[الإسراء:16]، وفي الآية جمع للكل المسئ والمترف وغيرهما بالعقاب، لاستحقاق الجميع للعقوبة بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد.(1/384)
في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنزل الله تعالى بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
وفي صحيح البخاري عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: "أنهلك وفينا الصالحون؟، قال النبي: "نعم، إذا كثر الخبث".
وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة مرفوعاً: "إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، قُبِضُوا معهم ثم بُعِثُوا على نياتهم وأعمالهم".
قال ابن حجر: فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي.
وعن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر - رضي الله عنه - على المنبر يقول: يا أيها الناس إني أراكم تتأولون هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ " [المائدة 105] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا عُمل فيهم بالمعاصي فلم يُغيروا أو شك الله أن يعمهم بعقاب" [رواه أصحاب السنن والبيهقي وابن حبان في صحيحه]، وفي رواية عند الترمذي وقال حسن صحيح وأبي داود: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ".
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم" رواه الترمذي وقال حسن.(1/385)
قال ابن حجر في الفتح: "وعند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب، ولهذا الأثر شاهد من حديث عدي بن عميرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل لا يُعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة" أخرجه أحمد بسند حسن وهو عند أبي داود وله شواهد من حديث حذيفة وجرير وغيرهما عند أحمد وغيره.
وفي الصحيحين من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنماً وإبلاً فعجل القوم فأغلوا بها القدور، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فأمر بها فأكفئت".
وفي الأمر النبوي بإكفاء القدور وإتلاف اللحم تعميم للعقوبة على الجميع سواء من شارك في طبخه ومن سكت أو أقر ومن لم يعلم، قال ابن حجر في الفتح: وحمل البخاري الإكفاء على العقوبة بالمال، وإن كان ذلك المال لا يختص بأولئك الذين ذبحوا، لكن لما تعلق به طمعهم، كانت النكاية حاصلة لهم.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ (وفي رواية: وفيهم المكره)، قال: "يُخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم".(1/386)
ومن المعلوم أن ذلك يكون في آخر الزمان والذي هو إرهاصاً لقدوم المهدي، فتكون علامة ظهوره خسف بهذا الجيش، والله سبحانه ما فرَّق في الخسف بين القاصد والمحارب وبين المُكره ومن ليس منهم، بل شملهم بالعذاب ثم يبعثهم على نياتهم، وإذا كان الله سبحانه وهو القادر بعلمه وقدرته على الفصل في العذاب بين المُستحق والمُرغم، ومع ذلك شمل الجميع بالعذاب، فهل يقدر المسلم على الفصل والذي مدار أمره على الاجتهاد بين مصيب ومخطئ؟ وهل سيقدر بجهله وقلة علمه على الفصل والتمييز؟
إننا لا نعدو أن نكون معذورين باجتهادنا، وهم مغفور لهم بخروجهم مُكرَهين أو جاهلين ومن ثم يُبعثون على نياتهم والله الموفق، قال تعالى: "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ" [التوبة: 52].
ثم إن الله سبحانه أغرق فرعون بقادته وجيشه ما استثنى منهم أحداً سبحانه، وهو القادر جعل في علاه على التمييز، فلم يخرج من الإغراق من كان مستكرهاً أو ضعيفاً أو ذا الحاجة، أو من يكتم إيمانه.
وحين نزلت الآيات التسع على فرعون وملئه بالعقوبة، ما ميزت أو فصّلت بين المستحق وغيره.
وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية: سُئل رحمه الله تعالى عن صبي دون البلوغ جنى جناية يجب عليه فيها دية: مثل أن يكسر سناً أو يفقأ عيناً ونحو ذلك خطأ، فهل لأولياء ذلك أن يأخذوا دية الجناية من أبي الصبي وحده إن كان موسرا؟ أم يطلبوها من عم الصبي أو ابن عمه ؟(1/387)
فأجاب: الحمد لله. أما إذا فعل ذلك خطأ فديته على عاقلته بلا ريب، كالبالغ وأولى، وإن فعل عمداً فعمده خطأ عند الجمهور: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه، وفي القول الآخر عنه وعن أحمد أن عمده إذا كان غير باغ في ماله، وأما "العاقلة" التي تحمل: فهم عصبته كالعم وبنيه والإخوة وبنيهم باتفاق العلماء، وأما أبو الرجل وابنه فهو من عاقلته أيضا عند الجمهور: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى وهو قول الشافعي: أبوه وابنه ليسا من العاقلة، والذي "تحمله العاقلة" بالاتفاق ما كان فوق ثلث الدية: مثل قلع العين فإنه يجب فيه نصف الدية.
والمقصود أن هذا الصبي وهو دون البلوغ لو جنى على غيره، وجب عليه الدية ولكن من يدفعها؟
إنها العاقلة، أي العائلة والعصبة مع أنهم ما شاركوا في الجناية ولا أمروا بها ولا علموا، ومع ذلك تتحمل العاقلة جناية الصبي فضلاً عن الكبير، وفي هذا شمول للعقوبة وهي هنا "الدية" على الجميع دون النظر للفاعل أو سبب فعله.
وقد ثبت في أيما موضع من السيرة ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار على القرى والحصون بُغية فتحها، كخيبر والطائف وكما فعله ثمامة بن أثال - رضي الله عنه - حين هدد قريشاً بقوله: "لا والله لا يأتيكم من اليمامة حَبةُ حِنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -" [الصحيحين عن أبي هريرة]، ومن المعلوم أن الحصار يلحق الجميع بلا استئثناء، ودون تقصي لموضع الضرر ودون النظر للصغير أو الكبير أو الشيخ والمرأة.(1/388)
وفي الرحيق: بعث - صلى الله عليه وسلم - بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال : إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وقال : "أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " ، فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فروحوا "، فراحوا .
وهذه الآيات والأحاديث على العموم تُدخل الجميع في العقاب إن رأوا المنكر ولم يغيروه، أو اطمأنت أنفسهم إليه أو سكتوا عنه، أما على التفصيل والتخصيص في الأدلة فقد أخرج الإمام مسلم عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، فأتاه، فقال: "ما شأنك؟" فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء؟ فقال: "أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف"،ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال: "ما شأنك؟" قال: إني مسلم، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح"، ثم انصرف، فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، فأتاه فقال: "ما شأنك؟"، قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال:"هذه حاجتك"، ففدي بالرجلين.(1/389)
جاء في نيل الأوطار للشوكاني: قوله : " بجريرة حلفائك " الجريرة الجناية . قال في النهاية : ومعنى ذلك أن ثقيفًا لما نقضوا الموادعة التي بينهم وبين رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم بنو عقيل صاروا مثلهم في نقض العهد .
وعند ابن هشام حول سرية عبد الله بن جحش والتي قاتلت في الشهر الحرام، ونزل قول الله تعالى: "يَسْأَلُونَكً عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ"[البقرة 217]، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، "وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ "، أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل، "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ "، أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين، فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم ابن كيسان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم.(1/390)
ولا خلاف على أن الذي نقض العهد من بني قريظة هو كبيرهم الذي منَّاه ووعده حيي بن أخطب، فلما فتح الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قريظة شملت العقوبة الجميع بلا تمييز أو تفصيل لمن نكث أو أقر، ولم يفرق بين تاجر وخادم أو رفيع ووضيع، أو شيخ أو أجير حتي النساء والولدان استرقهم، وقتل بجريرة الكبراء والسادة كل من جرت عليه الموسي منهم، كما عند أبي داود والترمذي والنسائي عن عطية القرظي بسند حسن، وقال ابن القيم في الزاد: وضُربت أعناقهم وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة.
قال ابن حزم: وهذا عموم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يستبق منهم عسيفاً ولا تاجراً ولا فلاحاً ولا شيخاً كبيراً وهذا إجماع صحيح منه.
قال ابن القيم في الزاد: وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا صالح قوماً فنقض بعضهم عهده وصلحه وأقرهم الباقون ورضوا به غزا الجميع وجعلهم كلهم ناقضين كما فعل بقريظة، والنضير، وبني قينقاع وكما فعل في أهل مكة، فهذه سنته في أهل العهد وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وخالفهم أصحاب الشافعي، فخصوا نقض العهد بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ولهذا كان موضوعاً على التأبيد بخلاف عقد الهدنة والصلح.(1/391)
والأولون يقولون لا فرق بينهما، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد قالوا: والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة، بل أطلقه ما داموا كافين عنه غير محاربين له فكانت تلك ذمتهم غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد فلما نزل فرضها، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ولم يغير حكمه وصار مقتضاها التأبيد، فإذا نقض بعضهم العهد وأقرهم الباقون ورضوا بذلك ولم يعلموا به المسلمين، صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى، ولا فرق بينهما فيه وإن افترقا من وجه آخر.
يُوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين، وإن كان بذلك خارجاً عن عهده وصلحه راجعاً إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح، لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك، فكيف يكون عائداً إلى حاله في موضع دون موضع هذا أمر غير معقول.
توضيحه أن تجدد أخذ الجزية منه لا يوجب له أن يكون موفياً بعهده مع رضاه وممالأته ومواطأته لمن نقض، وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضاً غادراً غير موف بعهده هذا بين الامتناع.
فالأقوال ثلاثة: النقض في الصورتين وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكفار، وعدم النقض في الصورتين وهو أبعد الأقوال عن السنة والتفريق بين الصورتين والأولى أصوبها، وبالله التوفيق.(1/392)
وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله وعلم بذلك من علم من النصارى، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ولم يعلموا ولي الأمر فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك وأعان عليه بوجه من الوجوه أو رضي به وأقر عليه وأن حده القتل حتماً، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام فهذا له حكم والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وأفتى به في غير موضع.
وكان هديه وسنته إذا صالح قوما وعاهدهم فانضاف إليهم عدو له سواهم فدخلوا معهم في عقدهم وانضاف إليه قوم آخرون فدخلوا معه في عقده صار حكم من حارب من دخل معه في عقده من الكفار حكم من حاربه وبهذا السبب غزا أهل مكة، فإنه لما صالحهم على وضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين تواثبت بنو بكر بن وائل، فدخلت في عهد قريش وعقدها، وتواثبت خزاعة فدخلت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقده، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فبيتتهم وقتلت منهم وأعانتهم قريش في الباطن بالسلاح فعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا ناقضين للعهد بذلك واستجاز غزو بني بكر بن وائل لتعديهم على حلفائه.(1/393)
وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانوا عدو المسلمين على قتالهم فأمدوهم بالمال والسلاح وإن كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا، ورآهم بذلك ناقضين للعهد كما نقضت قريش عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعانتهم بني بكر بن وائل على حرب حلفائه فكيف إذا أعان أهل الذمة المشركين على حرب المسلمين. والله أعلم .
فان قال قائل: وما ذنب هؤلاء الذين لم ينقضوا العهد ليشملهم العقاب؟
فلابد من العلم أولاً أنه كما هي دماء المسلمين معصومة بالإسلام فدماء الكفار مهدورة بالكفر، فإذا أُمِّنوا أو عُوهدوا أو دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، كان ذلك بمثابة حقن مؤقت لدمائهم، فإذا انتقض العهد الموقع مع السادة أو نكث أحد الكبراء العقد، رجع الحال إلى الأصل وهو استباحة الدماء، وفي هذا تفصيل أجاد فيه وأفاد ابن القيم في الزاد –جزاه الله عنا خيرا – فقال: جواز إجلاء أهل الذِّمةِ من دار الإسلام إذا اسْتُغنِىَ عنهم، كما قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : "نقركم ما أقركم الله"، وقال لكبيرهم : "كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً ثم يوماً" ، وأجلاهم عمرُ بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مذهبُ محمد بن جرير الطبري، وهو قولٌ قوى يسوغُ العملُ به إذا رأى الإمامُ فيه المصلحةَ .
ولا يُقال : أهل خيبر لم تكن لهم ذمة، بل كانُوا أهل هدنة، فهذا كلام لا حاصِل تحته، فإنهم كانوا أهل ذمة، قد أمِنوا بها على دمائهم وأموالهم أماناً مستمراً، نعم لم تكن الجزية قد شُرِعَت، ونزل فرضها، وكانوا أهل ذمة بغير جزية، فلما نزل فرض الجزية، استؤنف ضربها على من يعقد له الذمة من أهل الكتاب والمجوس، فلم يكن عدم أخذ الجزية منهم، لكونهم ليسوا أهل ذمة، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد .(1/394)
وأما كون العقد غير مؤبَّد، فذاك لمدة إقرارهم في أرض خيبر، لا لمدة حقن دمائهم، ثم يستبيحها الإمام متى شاء، فلهذا قال : "نقركم ما أقركم الله أَو ما شئنا "، ولم يقل : نحقن دماءكم ما شئنا، وهكذا كان عقدُ الذمة لقريظة والنضير عقداً مشروطاً، بأن لا يُحاربوه، ولا يُظاهروا عليه، ومتى فعلوا، فلا ذمة لهم، وكانوا أهل ذمة بلا جزية، إذ لم يكن نزل فرضها إذ ذاك، واستباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَبي نسائهم وذرارِيهم، وجعل نقض العهد سارياً في حق النِّساء والذُرِّية، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب، وهذا موجبُ هديه - صلى الله عليه وسلم - في أهل الذِّمة بعد الجزية أيضاً، أن يسري نقض العهد في ذُرِّيتهم ونسائهم، ولكن هذا إذا كان الناقضون طائفةً لهم شوكة ومنعة، أما إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم، فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده، كما أن من أهدر النبى - صلى الله عليه وسلم - دماءهم ممن كان يسبُّه، لم يَسب نساءَهم وذُرِّيتهم، فهذا هديه في هذا، وهو الذي لا محيدَ عنه ، وبالله التوفيق .
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، وإن لم يخف على المسلمين ففي جواز القتال المفضي إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء.
وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيداً، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيداً، ومن قتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً.
حرب الأحزاب(1/395)
إن القائد الناجح هو الذي يستطيع أن يُحيد من يستطيع عن حربه والمبدأ: مواجهة عشرة متفرقين خير من مواجهة ثلاثة مجتمعين، والخصم بعناده وكبريائه يسعى جاهداً لحسم المعركة لوحده لإضفاء جو الرهبة في نفوس الآخرين كعمل فردي وناجح، وهذا ما سعت إليه قريش في بدر وأحد بمفردها، وحين يضيق الحال ويشرئب العجز تضطر القوى لعقد التحالفات الحربية التي تضمن معها وبها الانتصار، والكل في بوتقة الحرب الواحدة ضد هدف واحد.
- الأحزاب والفكر المتجدد:
"حرب الأحزاب" إنها تجمُع قوى معادية لحرب خصم واحد ليس بالضرورة وجود الروابط أو توحد الأهداف لقتاله، سوى القضاء عليه دون النظر لمبررات الحرب.
وهذا عين ما حدث في الخندق أو الأحزاب فقد تكالبت قوى الشر ضد دولة الإسلام، كحل حاسم لظهور قوة جديدة، بمبادئ جديدة لم يعهدها أهل الشرك والكفر.
- أسباب التحزب:
قال ابن القيم في الزاد: وكان سبب غزوة الخندق أن اليهودَ لما رَأُوا انتصارَ المشركين على المسلمين يَوْمَ أُحُد، وعلِمُوا بميعادِ أبى سفيان لِغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للِعام المُقْبِلِ، خرج أشرافُهم، كسلاَّم بن أبى الحُقيق، وسلاَّم بن مِشْكَم، وكِنَانة بن الرَّبيع وغيرِهم إلى قريش بمكة يُحرِّضُونهم عَلَى غَزوِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ويؤلِّبُونهم عليه، ووعدوهم مِن أنفسهم بالنَّصرِ لهم، فأجابَتْهُم قريشٌ، ثم خرجُوا إلى غَطَفَان فدعَوْهُم، فاستجابُوا لهم، ثمَّ طافُوا في قبائل العربِ، يدعونَهم إلى ذلك، فاستجابَ لهم مَن استجاب، فخرجت قُريشٌ وقائدهم أبو سفيان في أربعةِ آلافٍ، ووافَتْهُم بنو سليم بِمَرِّ الظَّهْرَان، وخرجت بنُو أسد، وفَزَارَة، وأشجع، وبنو مُرَّةَ، وجاءت غَطَفَانُ وقائدُهم عُيينةُ بنُ حِصْنٍ . وكان مَن وافى الخندقَ مِن الكفار عشرة آلاف .
- دوافع التحزب:(1/396)
وعليه فقد اجتمع في حرب الأحزاب ستة: قريش ودوافع حربها معلومة منذ اليوم الأول من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع يقينهم بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم ناصبوه العداء ودخلوا معه حرب بدر وأحد، وعليه فحربهم متتالية بقصد استئصال شأفة الإسلام وقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أما يهود خيبر، فحسدهم وحقدهم أكبر من أن يُقعدهم عن حرب هذا الدين الجديد، وهم يعلمون علم اليقين بل حق اليقين أن المواجهة ستأتيهم لا محالة، فان سبقوه للحرب بالتحالف مع الأعراب يكن خير، فهم أقل وأحقر من أن يواجهوه لوحدهم، وهذا ما كان يدعوهم لتأليب العرب على حرب الإسلام، كما فعلوه في الأحزاب وكما فعله كعب بن الأشرف من تأليب قريش والعرب على حرب الدين الجديد.
وأما غطفان فمع بُعدها الجغرافي عن المدينة، فالنزعة الوثنية لقريش ملكت قلوبهم والانقياد للكفر أيسر عندهم من اتباع الدين الجديد، فكان في تحالفهم مع قريش الرد الواحد على دين الواحد، وفي تحزبهم مع قريش سمو ورفعة لهم دون سائر العرب، فضلاً عن وجود المطامع الذاتية والمادية التي تتحقق بالانتصار والحصول على خيرات المدينة.
وأما الأعراب فلا يعنيهم من يغلب أو يُسيطر بقدر ما يعنيهم أعمال السرقة والنهب التي ألفوها وتربوا في أكنافها، فكانوا بمثابة قطاع طرق وقراصنة قفار على كل آيب أو ذاهب، وعلى كل من تمكنهم الفرصة من الإغارة عليه واغتصاب ممتلكاته، وما عيش الكثير منهم إلا بهذه الطبيعة، الإغارة والتنعم بالغنائم والتفاخر بها، يقول صاحب الرحيق المختوم عند ذكره للأعداء بعد بدر قال: "وهناك البدو الضاربون حول المدينة لم يكن همهم مسألة الإيمان والكفر ولكنهم كانوا أصحاب سلب ونهب".(1/397)
وأما قريظة فهم آخر بقايا يهود في المدينة بعد جلاء بني قينقاع ثم بني النضير، ومع رهبتهم من مواجهة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورعبهم مما قد يجره التحزب مع الأحزاب، ولكن طبيعتهم الحاقدة على الإسلام وحسدهم الدفين تمكن في النهاية من السيطرة على عقولهم، والموافقة على إنهاء الوجود الإسلامي في المدينة، فهو عدوهم الوحيد وخصمهم الألد بعد تلك السيطرة الروحية التي كانوا يسيطرون بها على المدينة أوسها وخزرجها، فكانت الأحزاب بالنسبة لهم آخر أمل يعيد لهم مجدهم التليد في المدينة ويعيد لهم إخوانهم من اليهود الذين أُجلُوا عنها، وتمكِّن لليهودية السيطرة على المدينة لعدم وجود قوة تمنع مثل هذا التوجه إذا كان الانتصار حليف الأحزاب.
وأما المنافقون فحالهم مع الإسلام العداء من أول يوم، ولكنهم آثروا العداء القلبي والتأليب وعدم الإظهار خشية ما لا تُحمد عقباه عليهم، وقد كان دورهم واضحاً في حروب الإسلام بسراياه وغزواته، موقف المُخذل الحاسد الحاقد مع المسلمين، ومع الأعداء الموافق والمساند، وما زالوا في الخفاء حتى في الأحزاب، فلم يُظهروا كفرهم، ولكنهم آثروا التثبيط بين الموحدين، وهم في طمع أن تقدر الأحزاب على القضاء على دولة الإسلام ليعود لابن أبي ابن سلول ملك المدينة.
- المعرض العام للموقف:(1/398)
ينبئنا عنه ربنا في أدق وصف وأبين حال فقال جل في علاه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا " [الأحزاب:9ـ16]، "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا "[الأحزاب: 22ـ23].
- الحرب الدفاعية:(1/399)
تكالبت العرب وتجمعت الجموع لتسير بعشرة آلاف مقاتل قد يزيدون على عدد أهل المدينة بنسائهم وذراريهم، ولو جاء مثل هذا العدد على حين غرة لكن يكفي نصفه لاستئصال الشأفة واستباحة البيضة, ولكن – بعد فضل الله- التيقظ الدائم من قيادة الدولة وتحسس الأخبار ومتابعة التجمعات المعادية حالت دون المباغتة أو المفاجأة، فأسرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعقد مجلس الشورى مع قيادات المهاجرين والأنصار، وقدر الله أن يأتي سلمان الفارسي - رضي الله عنه - بخطة لم يألفها العرب فقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، واتفق الصحابة عليها وتمت الموافقة، ودخلت حيز التنفيذ وتم اختيار المكان: الجهة الشمالية للمدينة فهي الجهة الوحيدة سهلة المسير، أمام (سلع) وهو جبل يحمي المسلمين من خلفهم والخندق بينهم وبين الكفار كما حدده ابن القيم في الزاد.
قال ابن القيم في الزاد: وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصَّن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم .
وفي هذا تعظيم لجانب الشورى كمواجهة مجتمعة أمام أحزاب مجتمعين.
وفيها التحديث من النمط السائد والتفرد بالمزايا التي تضمن الانتصار، فما كان الخندق مما عهده العرب في قتالهم، بل المشهور المألوف هو الخروج بالمقاتلة خارج الديار، فذلك أدعى ألا يُصاب المقاتلين في نسائهم وذراريهم فتعم الفاجعة.
- توزيع المهمات:
- سلمان أشار بحفر الخندق.[السيرة النبوية].
- وقام الرجال بحفر الخندق كل عشرة رجال يحفرون من الخندق أربعين ذراعاً، ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كواحد منهم.[ الرحيق المختوم].
-علي يقطع رأس من يعبر الخندق كعمرو بن عبد ود، وسعد يرمي بسهامه من يحاول العبور. [السيرة والزاد وغيره].
- امرأة جابر رضي الله عنهما تصنع الغذاء.[البخاري].
- صفية تقتل اليهودي.[السيرة النبوية].(1/400)
- وأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالنِّسَاءِ والذراري، فَجُعِلُوا في آطامِ المدينةِ، واستخلف عليها ابنَ أُمِّ مكتوم. [الزاد].
- نعيم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكيدته يخذل بين الأحزاب.[مصنف عبد الرزاق].
- حذيفة يأتي بخبر القوم.[مسلم].
- حرب الأعصاب:
في الرحيق المختوم: إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر، بل كانت معركة أعصاب.
ولا أدق من الوصف الرباني لما حدث للصحابة - رضي الله عنهم - ، قال تعالى: "إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلً مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا "[ الأحزاب11،10].
وكان من أشدها ما ذكره ابن القيم فقال: وبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُ بنى قُريظة ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السَّعْديْنِ، وخوَّاتَ بن جُبير، وعبدَ اللهِ بن رواحة لِيَعْرِفُوا : هل هم على عهدهم، أو قد نقضُوه ؟ فلما دَنوْا منهم، فوجدُوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسبِّ والعداوة، ونالُوا مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانصرفُوا عنهم، ولحنُوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحناً يُخبرونه أنهم قد نقضُوا العَهد، وغدَرُوا، فعظُمَ ذلك على المسلمين، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : "اللَّهُ أكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ"، واشتدَّ البلاءُ، ونَجَمَ النِّفَاقُ، واستأذن بعضُ بنى حارثة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الذهاب إلى المدينة وقَالُوا : " إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هي بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلاَّ فِرَاراً " [ الأحزاب : 13 ] ، وهمَّ بنو سلمَةَ بالفَشَلِ، ثم ثبَّت اللهُ الطائفتين .
- حرب الاستنزاف:(1/401)
قال صاحب الزاد: وأقام المشركُون محاصِرِينَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً، ولم يكن بينهم قِتال لأجل ما حال اللهُ به مِن الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فَوارِسَ مِن قُريش، منهم عمُرو بن عبد وُدٍّ وجماعة معه أقبلُوا نحوَ الخندق، فلما وقفُوا عليه، قالوا : إن هذه مَكيدةٌ ما كانت العربُ تعرِفُها، ثم تيمَّمُوا مكاناً ضيِّقاً من الخندق، فاقتحمُوه، وجالت بهم خيلُهم في السّبخة بين الخندقِ وسَلْعٍ، وَدَعَوْا إلى البِرَاز، فانتدب لِعمرو عليُّ بن أبى طالب - رضي الله عنه -، فبارزهُ، فقتله اللهُ على يديه، وكان مِن شُجعان المشركين وأبطالِهم، وانهزمَ الباقون إلى أصحابهم، وكان شِعارُ المسلمين يومئذ: حم لا يُنْصَرُونَ.
- حرب التخذيل بين الأحزاب:
قال ابن القيم في الزاد: ولما طالت هذه الحالُ على المسلمين، أراد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُصالح عُيينةَ بنَ حِصْنٍ، والحارِثَ بنَ عوف رئيسى غَطَفَان، على ثُلثِ ثِمار المدينةِ، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضةُ على ذلك، فاستشار السَّعدين في ذلك، فقالا : يا رسولَ اللهِ، إن كان اللهُ أمَرَكَ بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيئاً تصنعُه لنا، فلا حاجةَ لنا فيه، لقد كُنَّا نحن وهؤلاء القومُ على الشِّركِ باللهِ وعِبادةِ الأوثان، وهم لا يطمعُون أن يأكلُوا منها ثمرة إلا قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا اللهُ بالإسلام، وهدانا له، وأعَزَّنا بك، نُعطيهم أموالَنَا ؟ ، واللهِ لا نُعطيهم إلا السيفَ، فصوَّبَ رأيَهما، وقال : " إنَّمَا هُوَ شَىءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ لَمَّا رَأَيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُم عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ" .
- حرب الخداع:(1/402)
كان نعيم بن مسعود رجلاً مأموناً عند الكل سواء قريش أو غطفان أو اليهود وحتى المسلمين لمعاملاته التجارية، فكان يخالط الجميع بحكم تجواله وترحاله، فلما كانت الخندق جاء عند المسلمين ونقل حديثاً دار بين رئيس قريش وغطفان: إني كنت عند عيينة بن حصن الفزاري وأبي سفيان بن حرب إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا، وابعثوا إلينا رجالا حتى نقاتل محمدا مما يلي المدينة، فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم، وتقاتلونه أنتم مما يلي الخندق، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سيقع من محاصرة المسلمين من جميع الجهات بما فيها الداخلية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فلعلنا أمرناهم بذلك"، فظنها نعيم من مكائد يهود مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسلموه رؤوس كفار قريش وغطفان قوم نعيم، فأسرع بفطرته المجبولة علي النم والنقل إلى غطفان ليخبرهم بما سمع.
فقال عمر بن الخطاب: "يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال"، والمقصود من قول عمر:ألا تجرب العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذباً، فقال - صلى الله عليه وسلم -:"بل هو رأي رأيته، إن الحرب خدعة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:علي الرجل، ردوه"، فردوه فقال: "أرأيتك الذي سمعتني أذكره آنفا، أمسكتُ عنه، فلا تذكره لأحد"، وفي ذلك إغراء لنعيم بنقل الحديث باعتبار أنه سر عظيم وقع عليه "نعيم".(1/403)
فانطلق نعيم حتى أتى عيينة بن حصن ومن معه فقال لهم:هل علمتم أن محمداً قال شيئا قط إلا حقاً، قالوا: لا، قال: فإنه قد قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة: "فلعلنا نحن أمرناهم بذلك"، ثم نهاني أن أذكر لكم... فانطلق عيينة بن حصن حتى لقي أبا سفيان بن حرب فأخبره، فقال أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكرا، فأرسل إلى بني قريظة: أنكم قد أمرتمونا أن نثبت، وطلبتم رجالاً منا يقاتلوا معكم، وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها قد دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنما أنتم في مكر من بني قريظة، وإنهم لأهل غدر: فارتحلوا.
- الحرب المعلوماتية:
وقد ظهر جلياً في وصول خبر الجموع الكافرة وتحزبها ضد الإسلام قبل تحركها، ثم إرسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي قريظة السَّعْديْنِ، وخوَّاتَ بن جُبير، وعبدَ اللهِ بن رواحة، ليؤكدوا ما ترامى لرسول الله من نقض قريظة للعهد، وفي الحديث عند مسلم عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟"... فقال: "قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم"..."اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي"... فرأيت أبا سفيان يُصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله: "ولا تذعرهم علي" ولو رميته لأصبته.
- الحرب العقابية:(1/404)
وهي نتيجة لما تجرأت عليه الأحزاب، ففي الزاد: فدخل المدينةَ ووضعَ السلاحَ، فجاءه جبريلُ - عليه السلام - ، وهو يغتسِلُ في بيت أُمِّ سلمة، فقال : أَوَضَعْتُمُ السِّلاحَ ؟ إنَّ المَلائِكَةَ لَمْ تَضَعْ بَعْدُ أَسْلِحَتَهَا، انْهَضْ إلَى غَزْوَةِ هؤلاءِ، يَعْنِى بنى قُرَيْظَةَ، فَنادَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " مَن كَانَ سَامِعَاً مُطِيعاً، فَلاَ يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إلا في بنى قُرَيْظَة" ، فخرج المسلمون سِراعاً، وكان من أمره وأمر بنى قُريظة ما قدَّمناه، واستشهد يومَ الخندق ويومَ قريظة نحُوُ عشرةٍ مِن المسلمين .
وفي الزاد: وقد قدَّمنا أن أبا رافع كان مِمَّنْ أَلَّبَ الأحزابَ على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُقتلْ مع بنى قُريظة كما قُتِلَ صاحبُه حُيَىّ بن أخطب، ورغبتِ الخزرجُ في قتله مساواةً للأوس في قتل كعبِ بنِ الأشرف... فاستأذنُوه في قتله، فَأَذِنَ لهم، فانتدب له رِجالٌ كُلُّهُم مِن بنى سلمة، وهم عبدُ الله بن عَتيكٍ، وهو أميرُ القوم، وعبدُ اللهِ بنُ أُنيس، وأبو قتادة، الحارث بن رِبْعى، ومسعود بن سنان، وخُزَاعىُّ بن أسود، فساروا حتى أتوه في خيبر في دار له، فنزلُوا عليه ليلاً، فقتلُوه.
- الحنكة النبوية والخبرة القيادية:
وكان من سياسته - صلى الله عليه وسلم - الحرص على تقسيم الأعداء والاستفراد بهم واحداً تلو آخر، ليؤمِّن "جيش الإسلام" من تحزب الأحزاب وتكالب الأعداء، فكان مما فعله - صلى الله عليه وسلم - أن عاهد يهود المدينة منذ قدم إليهم ليقطع باب التعاون مع المشركين أو نصرتهم في حرب دولة الإسلام، ومما فعله - صلى الله عليه وسلم - أن صالح قريشاً في الحديبية ثم سار لخيبر ضامناً عدم مناصرة قريش لليهود، وحين حسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرب اليهود، ثم فتح مكة استدار لغطفان لينهي الأزمة ويقضي علي وجودهم الشركي.
- السنة الربانية:(1/405)
وحقه أن يكون الأول ولكنَّا نؤخره ليكون الميزان:
-الدعاء: في البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يوم الأحزاب: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اللهم اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم".
- العناية الإلهية: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا"[الأحزاب 9].
وإرسال المدد مسألة طبيعية إذا استنصر المسلم بربه ولجأ إليه لجوء المضطر، وقد عاشه الصحابة - رضي الله عنهم - في بدر وأحد واقعاً حيا، قال تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ" [الأنفال:9].
قال ابن القيم: أرسلَ اللهُ على المشركين جُنداً من الريح، فجعلتْ تُقوِّضُ خِيامَهم، ولا تَدَعُ لهم قِدراً إلا كَفَأتْها، ولا طُنُباً، إلا قَلَعَتْه، ولا يَقِرُّ لهم قرار، وجندُ اللهِ مِن الملائكة يزلزلونهم، ويُلقون في قلوبهم الرُّعْبَ والخوفَ.
- لا يأس: قال تعالى: "سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا "[الطلاق:7]، وقال: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا " [الشرح:6]، وقال: "لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ "[الزمر:53]، وقال: "وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" [يوسف:87]، ولنذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه خبر نقض قريظة للعهد ودخولهم في الأحزاب فقال: "اللَّهُ أكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ"، مع تلك المبشرات التي قالها أثناء الحفر من فتح كنوز كسرى وقيصر واليمن، والقاعدة العامة: "وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "[الأحزاب 47].
- أثر المعركة:(1/406)
قال المباركفوري: كانت من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام، تمخضت عن تخاذل المشركين، وأفادت أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة؛ لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أجلى الله الأحزاب : ( الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ) .
- وعليه فملخص مواجهة حرب الأحزاب:
الشورى.
استحداث الخطط والأساليب بغير المعهود.
محاولة التفريق بين صف الأحزاب، ولو تطلب الأمر التنازل عن بعض المقدرات من مال أو خيرات.
الاستفادة من المتناقضات عند الأحزاب، والعزف على وتر التباينات الفكرية، كنزعة عدم الثقة بين يهود وقريش.
القيادة والجند في خندق واحد مدعاة لتوحد القلوب حول الرأي الواحد.
بذل المجهود واستفراغ الوسع فيما اتفقت عليه الكلمة.
الثبات في الحصار وعدم الركون لأقوال المخذلين المرجفين.
الثقة بنصر الله، والإيمان بعقيدة الانتصار.
التيقظ الدائم والحذر المستمر والمتابعة الحثيثة لكل تحرك معادي، وتصنيفه في مكانه بلا تأويلات أو ظنون مثل خبر نقض قريظة العهد واستبيان رسول الله للموقف.
10- الاكتفاء بالنصر وعدم متابعة فلول الفارين، واغلاق جبهة القتال والاستعداد للقادم.
حرب الأعصاب
"حرب الأعصاب" هي أسلوب غير قتالي تُعنى بالتأثير على نفسية الخصم، بما يزعزع الثقة ويوهن القوى، ويمكِّن الخصوم من السيطرة على النفوس.
و"حرب الأعصاب" كجزء من "الحرب النفسية" هي حرب عقلية وسائلها الخداع والتمويه والتورية بعكس المقصود، وإظهار غير المُراد بحيث تضطرب النفوس وتتفرق الآراء.
ولهذا النوع من الحرب أهمية خطيرة عند كل خبير بوسائل الانتصار، فهي سابقة للقتال ولكنها حاسمة للنتائج ويظهر أثراً بعد حين، ويُركَّز فيها على كل ما يمكن أن يؤثر في نفسية الخصم، من تقليل أو تهوين لما هو مقدس، وعكسه أي تعظيم كل ما هو حقير.(1/407)
ولقد واجه المسلمون الأوائل أصنافاً عدة من "حرب الأعصاب" وكان أطرافها المشركين والكفار على اختلاف مسمياتهم وأشكالهم، ومن هذه الصور:
- الأحزاب:
- مظاهر حرب الأعصاب:
- في الرحيق المختوم: "إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل كانت معركة أعصاب".
وقد بدأت بتلك الأخبار التي تناقلت عن تجمع كل قوى الشر للقضاء على الوجود الإسلامي في المدينة، ثم توالت لتصل من هو موجود في المدينة ذاتها، من نقض قريظة للعهد وما يحمله ذلك من رعب يُسيطر على النفوس، تزيغ معه الأبصار وتبلغ به القلوب الحناجر، وقد عظم ذلك على المسلمين، ثم ما تلاه من خياناتٍ للمنافقين، قال المباركفوري يصور هذا المشهد: وانتهى الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى المسلمين فبادر إلى تحقيقه، حتى يستجلي موقف قريظة، فيواجهه بما يجب من الوجهة العسكرية، وبعث لتحقيق الخبر السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وخَوَّات بن جبير، وقال : " انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس "، فلما دنوا منهم وجدوهم على أخبث ما يكون، فقد جاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد، ولا عقد . فانصرفوا عنهم، فلما أقبلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحنوا له، وقالوا : عَضَل وقَارَة، أي إنهم على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرَّجِيع .
وعلى رغم محاولتهم إخفاء الحقيقة فقد تفطن المسلمون للأمر، فتجسد أمامهم خطر رهيب .(1/408)
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالى : " وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً" [ الأحزاب : 10، 11 ]
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قالوا : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقال آخر في ملأ من رجال قومه : إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة ، وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً "[ الأحزاب : 12، 13 ] .(1/409)
- ومما زاد الأمر حدة خلو بيوت المسلمين من حامية تحميها وتذب عنها، وقد تمثل في قصة اليهودي: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه مع النساء والصبيان حيث خندق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن قالت له صفية: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى ولا آمنه ان يدل على عورتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانزل إليه فاقتله قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت صفية: فلما قال ذلك أخذت عموداً ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ثم رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل فاسلبه فقال: مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. [ابن هشام].
والمقصود أن الأعصاب كانت متوترة مشدودة في الخندق بما يمنع معها من ترك حامية للبيوت وكأنه نفير عام لم يتخلف عنه أحد.
قال ابن الأثير في أسد الغابة: وكان حسان من أجبن الناس حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله مع النساء في الآطام يوم الخندق، وزاد: ولم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من مشاهده لجبنه.
ومع أن هذا ليس موضع الرد على هذه الشبهة، والتي ذكرها الشيخ الجليل كأنها قاعدة ثابتة، ولكنها اتخذت مثلباً عند أعداء الصحابة كنقيصة لرجل شهد المسلمون له بالخير، ويكفي لردها أمور وحقها بحث مستفيض:
قال ابن القيم في الزاد: "وأمر النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنِّسَاءِ والذرارى، فَجُعِلُوا في آطامِ المدينةِ، واستخلف عليها ابنَ أُمِّ مكتوم"، فإذا كان ابن أم مكتوم الأعمى هو الأمير فلا يمتنع أن يكون ذوو الأمراض والأسقام هم من تخلف عن الخندق، لعدم قدرتهم على المواجهة.(1/410)
الجبن عند العرب مذمة وأي مذمة، فلو عُهدت على حسان في جاهلية أو إسلام لكانت نقيصة تهدم أركانه، وهو الذي ما قصر في وصف المشركين بالجبن في اللقاء، فهل تُراه يصفهم بما هو فيه ثم يسكتوا في وصفه بما يعرفوه؟
قال ابن هشام: قال ابن اسحاق: وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو فقال حسان في ذلك:
فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم ما إن يحور عن المعدل
ولم تلو ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل
فهل من المنطق أن يُعيره بما هو فيه؟
- التوتر السائد والترقب الدائم والمناوشة المستمرة والتي تمنع من إقامة الصلاة في وقتها، بل وتمنع من إقامة صلاة الخوف ففي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق:" حبسونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم ناراً" [رواه البخاري ومسلم عن علي - رضي الله عنه - ].
- الخوف الشديد والرعب العتيد مع برد وظلمة وريح، جاء دقيق وصفها وعظيم خبرها فيما رواه الإمام مسلم عن إبراهيم التيمي, عن أبيه قال: كنا عند حذيفة، فقال رجل: لو أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟" فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟" فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟" فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال: "قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم"، فلم أجد بدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ".(1/411)
- قال ابن هشام عند نقض اليهود للعهد: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير، أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .
وهذا الموقف الأخير من المنافقين زاد من خطورة الموقف وشدة الأمر، فسابقة انسحاب ابن أُبي بثلث الجيش يوم أحد حاضرة في الأذهان، فلا يؤمن معه تكراره أو الانحياز للأحزاب وهو خطر جسيم ليس من السهل مواجهته، ولكن الله سلم.
- ما قبل صلح الحديبية:(1/412)
قال ابن القيم: وبعث بينَ يديه عَيْناً له مِن خُزَاعَةَ يُخبِرُه عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسفان، أتاه عَيْنُه، فقال : إني تركتُ كعباً بنَ لُؤى قد جمعوا لك الأحَابِيشَ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتِلوك وصادُّوك عن البيت ومانعوك، واستشار النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وقال : أترون أن نمِيلَ إلى ذَراري هؤلاء الذين أعانُوهم فَنُصِيبَهم، فإن قعدُوا، قعدُوا موتُورين محروبين، وإن يجيؤوا تَكُن عُنقاً قطعها اللهُ، أم ترون أن نَؤُمَّ البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلناه؟"... وفَزِعَتْ قريشٌ لنزوله عليهم... فبينما هم كذلك، إذ جاء بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعى في نَفرٍ مِن خُزاعة، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أهل تِهامَة، فقال : إنى تركتُ كعباً بنَ لُؤَى، وعامراً بن لؤى نزلوا أعدَادَ مِياه الحُدَيْبية معهم العُوذُ المَطَافِيلُ، وهم مقاتِلُوكَ، وصادُّوك عن البيت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا لَمْ نِجِئْ لِقِتَالِ أحَدٍ، ولَكِنْ جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وإنَّ قُرَيْشَاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُم، ويُخَلُّوا بيْنى وبَيْنَ النًَّاسِ، وَإنْ شَاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيهِ الناس، فَعَلُوا وإلاَّ فَقَدْ جَمُّوا، وإنْ هُم أَبَوْا إلاَّ القِتَالَ، فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأُقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمْرِى هذَا حَتَّى تَنْفَردَ سَالِفَتِى، أوْ لَيُنْفِذَنَّ اللهُ أَمْرَهُ ".
قال بُديل : سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قُريشاً، فقال : إنى قد جئتُكم من عند هذا الرجل، وقد سمعتُه يقول قولاً، فإن شئتم عرضتُه عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجةَ لنا أن تُحدِّثنا عنه بشىء ، وقال ذوو الرأى منهم : هاتِ ما سمعته، قال : سمعتُه يقول كذا وكذا ، فحدَّثهم بما قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - .(1/413)
فقال عُروةُ بنُ مسعود الثَّقفى : إن هذَا قد عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلوها، ودعونى آتِه، فقالوا : ائته، فأتاه، فجعل يُكلمه، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - نحواً من قوله لِبُديل، فقال له عروةُ عند ذلك : أي محمد، أرأيتَ لو استأصلتَ قومَك هل سمعتَ بأحدٍ مِن العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فواللهِ إنى لأرى وجوهاً، وأرى أوشَاباً من الناس خليقاً أن يَفِرُّوا ويدعوك، فقال له أبو بكر : امْصُصْ بَظْرَ اللاَّتِ، أنحنُ نَفِرُّ عنه وندعه . قال : مَن ذا ؟ قالُوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده، لولا يَد كانت لكَ عندى لم أَجْزِكَ بها، لأجبتُك، وجعل يُكلِّم النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -، وكلما كلَّمه أخذَ بلحيته، والمغيرةُ بنُ شُعبة عِند رأسِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعه السيفُ، وعليه المِغفرُ، فكلما أهوى عُروةُ إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ضرب يَده بِنَعْلِ السيفِ، وقال : أخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحية رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فرفع عروة رأسه وقال : مَن ذا ؟ قالوا : المغيرةُ بنُ شعبة . فقال : أَىْ غُدَرُ، أوَ لستُ أسعى في غَدرتك ؟ وكان المغيرةُ صحب قوماً في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم . فقال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا الإسْلامُ فأقْبَلُ، وأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَىء ".(1/414)
ثم إن عروة جعلَ يَرْمُق أصحابَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعينيه، فواللهِ مَا تَنَخَّمَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - نُخامة إلا وقعت في كفِّ رَجُلٍ منهم، فَدَلَكَ بها جِلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم، ابتدروا أمرَه، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، فرجع عروةُ إلى أصحابه، فقال : أي قوم، واللهِ لقد وفدتُ على الملوكِ ، على كسرى، وقيصرَ، والنجاشي، واللهِ ما رأيتُ ملكاً يُعظمه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمد محمداً، واللهِ إن تنخَّم نُخامة إلا وَقَعتْ في كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم، خفضُوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له، وقد عرض عليكم خُطَّةَ رُشد، فاقبلُوها، فقال رجل من بنى كِنانة : دعوني آتِهِ، فقالوا : ائْتِهِ، فلما أشرفَ على النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا فُلانٌ ، وهو من قوم يُعظِّمون البُدْنَ، فابعثُوها له، فبعثوها له"، واستقبله القومُ يُلَبُّون، فلما رأى ذلك قال : سُبْحَانَ اللهِ، مَا يَنْبَغى لِهَؤُلاَء أن يُصَدُّوا عَنِ البَيت ، فرجع إلى أصحابه، فقال : رأيتُ البُدن قد قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ ، وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت.
فقام مِكْرَزُ بنُ حَفص، فقال : دعونى آته . فقالوا : ائتهِ، فلما أشرف عليهم، قال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هذا مِكْرَزُ بن حَفْصٍ، وهو رجل فاجر" ، فجعل يُكَلِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا هُوَ يكلمه، إذ جاء سُهيلُ بنُ عمرو، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : "قَدْ سُهِّلَ لَكُم من أمْركُم".
- حرب الأعصاب حين كتابة العقد في الحديبية:(1/415)
وبعد توافد الرجال جاء سهيل بن عمرو كما ذكره ابن القيم فقال : هاتِ، اكتُب بيننا وبينكم كِتاباً، فدعا الكاتب، فقال : "اكتُب بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ". فقال سهيل : أما الرحمنُ، فواللهِ ما ندرى ما هُو، ولكن اكتب : باسمِكَ اللَّهُمَّ كما كنتَ تكتبُ، فقال المسلمون : واللهِ لا نكتُبها إلا بسمِ اللهِ الرَّحمن الرحيم، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اكْتُبْ باسْمِكَ اللَّهُم" ، ثم قال : "اكْتُبْ : هذا ما قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رسُولُ الله" ، فقال سُهيل : فواللهِ لو كنَّا نعلمُ أنك رسولُ اللهِ، ما صددناكَ عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّى رَسُولُ اللهِ وإنْ كَذَّبْتُمُونى، اكْتُبْ : "مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله"، فَقَال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - : "على أَنْ تخَلُّوا بَيْنَنَا وبَيْن البَيْتِ، فَنَطُوف به"، فقال سهيل : واللهِ لا تتحدَّثُ العربُ أنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، ولكن ذلك مِن العام المقبل، فكتب، فقال سهيل : على أن لا يأتِيك مِنَّا رجل وإن كان على دِينك إلا رددتَه إلينا، فقال المسلمون : سُبْحَانَ اللهِ، كيف يُردُّ إلى المشركين، وقد جاء مسلماً ؟.
- حرب الأعصاب في أول اختبار لعقد الحديبية:(1/416)
في الزاد: فبينا هُم كذلك، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسُفُ في قيوده قَدْ خَرَج من أسفل مكة حتى رَمَى بنفسه بين ظُهورِ المُسلمين، فقال سهيل : هذا يا محمدُ أول ما أقاضيكَ عليه أن تَرُدَّهُ إلىَّ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا لم نقضِ الكتابَ بعد" ، فقال : فواللهِ إذاً لا أُصَالحك على شئ أبداً، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَجِزْهُ لى"، قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : "بلى فافعل" ، قال : ما أنا بفاعل . قال مِكرز : بلى قد أجزناه . فقال أبو جندل : يا معشرَ المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين، وقد جِئتُ مسلماً، ألا ترون ما لقيتُ ؟ وكان قد عُذِّبَ في اللهِ عذاباً شديداً، قال عمر بنُ الخطاب : واللهِ ما شككتُ منذ أسلمتُ إلا يومئذ . فأتيتُ النبى - صلى الله عليه وسلم -، فقلت : يا رسولَ الله؛ ألستَ نبى الله حقاً ؟ قال : "بلى" ، قلتُ : ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل ؟ قال : "بلى" ، فقلتُ : علامَ نُعطى الدَّنيَّةَ في ديننا إذاً، ونَرْجِعَ ولما يَحْكُم اللهُ بيننا وبينَ أعدائنا ؟ فقال : "إنِّي رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ نَاصِرِى، وَلَسْتُ أعْصِيهِ" ، قلتُ : أوَ لستَ كنتَ تُحدثنا أنَّا سنأتى البيتَ ونطوفُ به ؟ قال : "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَام ؟" ، قلتُ : لا . قالَ : "فإنَّكَ آتيهِ ومُطَّوِّفٌ به". قال : فأتيتُ أبا بكر، فقلتُ له كما قلتُ لِرسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وردَّ علي أبو بكر كما ردَّ علىّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء، وزاد : فاستَمْسِك بِغَرْزِهِ حَتَّى تَمُوتَ، فواللهِ إنَّه لَعَلى الحَقِّ . قال عُمر : فعملت لذلك أعمالاً .(1/417)
فلمَّا فرغ مِن قضية الكتاب، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثم احْلِقُوا"، فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رجلٌ واحد حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، فلما لم يَقُمْ مِنْهم أحد، قام فدخل على أُمِّ سلمة، فذكر لها مَا لَقِىَ مِنَ الناس، فقالت أُمُّ سلمة : يا رسُول الله؛ أَتُحِبُّ ذلك ؟
اخرُجْ ثم لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تَنْحَرَ بُدْنَك، وتدعو حَالِقَكَ فيحلقَكَ، فقام، فخرج، فلم يُكَلِّمْ أحداً منهم حتى فعل ذلك : نحر بُدنة، ودعا حَالِقه فحلقه، فلما رأى الناسُ ذلك، قامُوا فنحروا، وجعل بعضُهم يَحْلِقُ بعضاً، حتى كادَ بعضُهم يقتُلُ بعضاً غماً، ثم جاءه نسوةٌ مؤمناتٌ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ : "يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" [الممتحنة 10]، فطلَّق عُمَرُ يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشِرْك، فتزوَّج إحداهُمَا معاوية، والأُخرى صفوان بن أُمية، ثم رجع إلى المدينة، وفى مرجعه أنزل الله عليه : "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِك وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" [ الفتح :2،1 ] ، فقال عمر : أوَ فتحٌ هُوَ يا رسول الله ؟ قال : "نعم" ، فقال الصحابةُ : هنيئاً لكَ يا رَسُولَ اللهِ، فما لَنَا ؟ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ : "هو الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" [ الفتح 4 ].
- نقض قريش لصلح الحديبية وما تلاه من ذعر دب في قلوبهم:(1/418)
ظاهرت قريش بني بكر حلفهم علي خزاعة حلف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما تنامى خبر الغدر اشرأبت الأعناق وأدركت قريش عِظم الخطأ الذي ارتكبته، فأرسلت أبا سفيان ليجدد العهد ويميد العقد، قال ابن القيم نقلاً عن ابن اسحاق: ثم خرج بُديل بنُ ورقاء في نَفَرٍ من خُزاعة، حتى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه بما أُصيب منهم، وبمُظَاهَرَةِ قريش بنى بكر عليهم، ثم رجعُوا إلى مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس : "كَأَنَّكُم بأَبِى سُفْيانَ، وَقَدْ جَاءَ لِيَشُدَّ العَقْدَ وَيَزِيدَ في المُدَّة ".
ومضى بُديل بنُ ورقاء في أصحابه حتى لَقُوا أبا سفيان بنَ حرب بعُسفان وقد بعثته قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِيَشُدَّ العقدَ، ويزيدَ في المدة، وقد رَهِبُوا الذي صنعوا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قَدِمَ المدينة، فدخل على ابنتِه أُمِّ حبيبة، فلما ذهب لِيجلس على فِراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، طَوَتْهُ عنه، فقال : يا بُنية؛ ما أدري أَرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني ؟ قالت : بل هو فِراشُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت مُشرك نَجَسٌ، فقال : واللهِ لقد أصابك بعدى شر .(1/419)
ثم خرج حتى أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، ثم ذهبَ إلى أبى بكر، فكلَّمه أن يُكَلَّمَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : ما أنا بفاعل، ثم أتى عُمَرَ بنَ الخطاب فكلَّمه، فقال : أنا أشفعُ لكم إلى رسولِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فواللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبى طالب، وعنده فاطمَةُ، وحسنٌ غلامٌ يَدِبُّ بين يديهما، فقال : يا علي، إنك أمسُّ القومِ بي رحماً، وإني قد جئتُ في حاجة، فلا أرْجِعَنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لى إلى محمد، فقال : ويحك يا أبا سُفيان، واللهِ لقد عزم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيعُ أن نُكَلِّمَه فيه، فالتفتَ إلى فاطمة فقال : هَلْ لَكِ أَنْ تأمُرى ابْنَك هذا، فيجير بينَ الناس، فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : واللهِ ما يبلغُ ابنى ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : يا أبا الحسن، إنى أرى الأُمورَ قد اشتدت علىَّ، فانصحنى، قال : واللهِ ما أعلم لك شيئاً يُغنى عنك، ولكنك سَيدُ بنى كِنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال : أَوَ ترى ذلك مغنيا عنى شيئاً، قال : لا واللهِ ما أظنه، ولكنِّى ما أجد لك غيرَ ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس؛ إنى قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئتُ محمداً فكلَّمتُه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ شيئاً، ثم جئتُ ابن أبى قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتُ عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدُو، ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علىَّ بشئ صنعته، فواللهِ ما أدرى، هل يُغني عني شيئاً، أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس، ففعلتُ، فقالُوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلَك، واللهِ إن زاد(1/420)
الرجلُ على أن لعب بك، قال : لا واللهِ ما وجدتُ غير ذلك .
- فتح مكة وموقف أبي سفيان:
ذكر ابن القيم في الزاد: وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادي عند خَطْمِ الجبل حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال : يا عباسُ؛ مَنْ هذه ؟ فأقول : سُليم، قال : فيقول : مالى ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول : يا عباسُ؛ مَنْ هؤلاء ؟ فأقول : مُزَيْنَة، فيقول : مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال : مالى ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال : سبحان اللهِ يا عباس، مَن هؤلاء ؟ قال : قلتُ : هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال : واللهِ يا أبا الفضل؛ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال : قلتُ : يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال : فنعم إذاً، قال : قلتُ : النَّجاء إلى قومك ... ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته: يا معشرَ قُريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت : اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال : ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا : قاتلكَ اللهُ، وما تُغني عنا دارُك ؟ قال : ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد
- حرب الأعصاب في تهديد سعد:(1/421)
قال ابن القيم: ... وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة، فلما مرَّ بأبي سفيان، قال له : اليَوْم يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً .
فلما حاذى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان، قال : يا رسول الله، ألم تسمعْ ما قال سعد ؟ قال : " وما قال ؟" ، فقال : كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف : يا رسولَ الله؛ ما نأمن أن يكون له في قُريش صَوْلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيه الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً ". ثم أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه.
- حرب الأعصاب تجتاح القلوب في فتح مكة:
في الزاد: وسار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدخل مكة من أعلاها، وضُرِبَت له هنالك قُبَّة، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالداً بنَ الوليد أن يدخلها من أسفلها، وكان على المُجَنِّبَةِ اليُمنى، وفيها أسلم، وسُليم، وغِفار، ومُزَيْنَة، وجُهينة، وقبائل مِن قبائل العرب، وكان أبو عُبيدة على الرجالة والحُسًَّرِ، وهم الذين لا سلاح معهم، وقال لخالد ومَن معه : " إن عرضَ لكم أحد من قُريش، فاحصدوهم حصداً حتى تُوافوني على الصَّفا " ، فما عرض لهم أحد إلا أنامُوه، وتجمَّع سفهاء قريش وأخِفَّاؤُها مع عِكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أُميَّة، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَةِ لِيقاتِلُوا المسلمين، وكان حِمَاسُ بنُ قيس بن خالد أخو بنى بكر يُعِدُّ سلاحاً قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له امرأتُه : لماذا تُعِدُّ ما أرى ؟ قال : لِمحمد وأصحابه، قالت : واللهِ ما يقومُ لِمحمد وأصحابه شىء، قال : إنى واللهِ لأرجو أنْ أُخْدِمَك بعضهم، ثم قال :(1/422)
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لى عِلَّه * هذا سِلاَحٌ كَاملٌ وألَّه * وذُو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّله.
ثم شهد الخَنْدَمَةَ مع صفوان وعِكرمة وسهيل بن عمرو، فلما لَقِيَهُم المسلمون ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كُرز بن جابر الفهرى، وخُنَيْس بن خالد ابن ربيعة من المسلمين، وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذَّا عنه، فسلكا طريقاً غيرَ طريقه، فقُتِلا جميعاً، وأُصيبَ من المشركين نحو اثنى عشر رجلاً، ثم انهزموا، وانهزم حِماس صاحبُ السلاح حتى دخل بيته، فقال لامرأته : أغلقي عليَّ بابى، فقالت : وأين ما كنت تقول ؟ فقال :
إنَّكِ لَو شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمه * إذْ فَرَّ صَفْوانُ وَفَرَّ عِكْرِمَه * وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيوف المُسْلِمَه * يَقْطَعْنَ كَلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَه * ضَرْباً فلا نَسْمَعُ إلاَّ غَمْغَمَه * لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَه * لَمْ تَنْطِقِى في اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَه.(1/423)
وقال أبو هريرة : أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل مكة، فبعث الزبيرَ على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً بن الوليد على المجنبةِ الأُخرى، وبعث أبا عُبيدة ابنَ الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادى ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته، قال : وقد وبَّشت قريش أوباشاً لها، فقالوا : نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لِقريش شىء كنا معهم، وإن أُصيبُوا أعطينا الذي سُئِلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا أبا هريرة " ، فقلتُ : لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعدَيك، فقال : " اهْتِفْ لى بالأنصارِ، ولا يَأْتِينى إلاَّ أنْصارى " ، فهتف بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " أَتَروْنَ إلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِم ؟ "، ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأُخرى : "احْصُدُوهُم حَصْداً حتَّى تُوافُونِى بالصَّفَا "، فانطلقنا، فما يشاءُ أحد منا أن يقتُلَ منهم إلا شاء، وما أحد منهم وجَّه إلينا شيئاً .
- ما بعد الفتح:(1/424)
قال ابن القيم: ثم أغلق عليه البابَ – أي باب الكعبة-، وعلى أُسامة وبلال، فاستقبل الجِدَارَ الذي يُقابل البابَ، حتى إذا كانَ بينَه وبينَه قدرُ ثلاثةِ أذْرُعٍ، وقف وصلَّى هناك، ثم دار في البيت، وكبَّر في نواحيه، ووحَّد الله، ثم فتح البابَ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنَعُ، فأخذَ بعضَادتي الباب، وهم تحتَه، فقال : " لا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَريكَ له، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، ألا كُلُّ مَأْثُرَةٍ أوْ مَال أوْ دَم، فَهُو تَحْتَ قَدَمَي هاتين إلاَّ سِدَانة البيْت وسقَايةَ الحَاجِّ، ألا وَقَتْلُ الخَطَأ شِبْهُ العَمْدِ السَّوطُ والعَصا، ففيهِ الدِّيةُ مُغَلَّظَةً مائة مِنَ الإبلِ، أرْبَعُونَ مِنْهَا في بُطُونِها أوْلادُها، يَا مَعْشَرَ قُرَيْش، إنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُم نَخْوَةَ الجَاهِلِيَّةِ وتَعظُّمَها بالآباء، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ "، ثم تلا هذه الآية : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير"[الحجرات : 13 ] . ثم قال : "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش؛ مَا تَرَوْنَ أنِّى فَاعِلٌ بكم ؟" قالوا : خيراً، أخ كريم وابنُ أخ كريم، قال : "فإنِّى أقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم اليَوْمَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " .
- حرب الأعصاب في غزوة المريسيع:(1/425)
وحاصلها اتهام الكريمة بنت الكرام عائشة - رضي الله عنها ولا رضي عمن يطعن فيها - بالزنا، وكان الذي تولى كِبر هذه الفرية رأس النفاق ابن أبي بن سلول - عليه لعائن الله المتتالية إلي يوم القيامة -، قال ابن القيم: ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابنُ أُبىّ متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَرْبِ النفاق والحسدِ الذي بين ضُلوعه، فجعل يَستحكي الإفكَ، ويَستوشِيه، ويُشِيعه، ويُذِيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه يتقرَّبُونَ به إليه، فلما قَدِمُوا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ في الحديثِ، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ساكِتٌ لا يتكلَّم ثم استشار أصحابَه في فراقها، فأشار عليه علي - رضي الله عنه - أن يُفارقَهَا، ويأخُذَ غيرها تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه أُسامةُ وغيرُه بإمساكِها، وألا يلتفِتَ إلى كلام الأعداء.
فإن قيل : فما بالُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - توقَّفَ في أمرها، وسألَ عنها، وبحَثَ، واستشارَ، وهو أعرفُ باللهِ، وبمنزلتِهِ عِندهُ، وبما يليقُ به؟ وهَلاَّ قال : "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ "[ النور 16] ، كما قاله فضلاءُ الصحابة ؟(1/426)
فالجوابُ هذا مِن تمامِ الحِكَمِ البَاهِرةِ التي جعل اللهُ هذهِ القِصةَ سبباً لها، وامتحاناً وابتلاءً لرسولهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولجميع الأمة إلى يومِ القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواماً، ويضعَ بها آخرينَ، ويزيدَ اللهُ الذين اهتَدَوْا هُدىً وإيماناً، ولا يزيدُ الظالمين إلا خَساراً، واقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أن حُبِسَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحىُ شهراً في شأنها، لا يُوحى إليه فى ذلك شئ لتتم حِكمتُهُ التي قدَّرها وقضَاهَا، وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ المؤمنونَ الصادِقُونَ إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحُسْنِ الظنِّ بالله ورسولهِ، وأهلِ بيتهِ، والصِّدِّيقينَ مِن عباده، ويزدادَ المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويُظْهِرَ لِرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبوديةُ المرادة مِن الصِّدِّيقة وأبويها، وتتمَ نعمةُ اللهِ عليهم، ولِتشتد الفاقةُ والرغبةُ مِنها ومِن أبويها،والافتقارُ إلى اللهِ والذلُّ له، وحُسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأسَ مِن حصول النُّصرةِ والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقَام حقًَّه، لما قال لها أبواها : قُومى إليه، وقد أنزلَ اللهُ عليه براءتَها، فقالت : واللهِ لا أقُومُ إلَيْهِ، ولا أَحْمَدُ إلاَّ اللهَ، هُو الذي أنْزَلَ بَرَاءَتِى .(1/427)
وأيضاً فكان مِن حكمةِ حَبْس الوحي شهراً، أن القضية مُحِّصَتْ وتمحَّضتْ، واستشرفَتْ قلوبُ المؤمنين أعظَم استشرافٍ إلى ما يُوحيه اللهُ إلى رسوله فيها، وتطلَّعت إلى ذلك غايةَ التطلُّع، فوافى الوحيُ أحوجَ ما كان إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ بيته، والصِّدِّيقُ وأهلُه، وأصحابُه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيثِ على الأرضِ أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقع وأَلطَفَه، وسُرُّوا به أتمَّ السُّرورِ، وحصل لهم به غايةُ الهناء، فلو أطلع اللهُ رسولَه على حقيقة الحالِ مِن أوَّلِ وَهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحِكمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافها .
- الحصار وحرب الأعصاب:
والحصار بطبعه حرب أعصاب بما تولده الكلمة في الأفهام من معاني، لعدم توافر معطيات الخروج من الأزمة، لأنها منوطة بالمحاصِر أكثر من ارتباطها بالمحاصَر، وهي على الطرفين مؤثرة، ولكن وقعها على المحاصَر أشد، فهو بين انتفاء مقومات الصمود وبين ضغط الواقع، مما يضطره للنزول على الحكم الذي لو دعي لعُشره قبل الحصار وقبله لكان خير له، لما فيه من حفظ لماء الوجه وبقايا العز على اعتبار أنه اتفاق مصالحة بين الطرفين، أما الآن فهو منوط بقرارٍ تحت ظلال الرماح فما يبقي للأنفة والشموخ موضع سوط، فحصار بني قريظة أدى باليهود للنزول للحكم وكان فيه تقتيل المقاتلة وسبى النساء والذرية، مع ما فيه من رعب يُسيطر على النفوس في كل لحظة وحين، بحيث يعجز الجميع عن النوم أو الراحة بل هم في حالة ترقب وحذر دائمين، وقد عاشه الصحابة - رضي الله عنهم - واقعاً حياً في الخندق على الرغم من تحملهم المشاق والصعاب من قبل.(1/428)
وأما وقعه على المحاصِر فهو لا يقل شدة عن المحاصَر لعدم وضوح معالم النصر، ولما يوقعه التراجع من هزيمة نفسية وانكسار هيبة الجيش، وقد ظهر أثره واضحاً في حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود في خيبر، فربما عانى منه الصحابة - رضي الله عنهم - أكثر مما عاناه اليهود، لتوفر الموارد والمؤن وشدة الحصون ومنعتها ووجود المقاتلة.
قال ابن سعد في معرض ذكره لحصار الطائف: ولم يُؤذَن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح الطائف، واستشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نوفلَ ابنَ معاوية الدِّيلى، فقال : " ما ترى ؟" فقال : ثَعْلَبٌ في جُحْرٍ، إن أقمتَ عليه أخذتَه، وإن تركتَه لم يضرك . فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمرَ بن الخطاب، فأذَّن في الناس بالرحيل، فضجَّ الناسُ من ذلك، وقالوا : نرحل ولم يُفتح علينا الطائف ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فاغدُوا على القتال " فَغَدَوْا فأصابت المسلمين جراحات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّا قَافِلُونَ غداً إن شاء اللهُ " ، فسُرُّوا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك.
وموقف الانسحاب دون تحقيق النتائج مع أثره وتبعاته لا يقدر عليه الا آساد الرجال وليوث القتال ممن خبر الحرب وسبر الأغوار وعرف مواطن الانتصار، فلا يقدم على ما فيه مهلكة للرجال أو مضيعة لما تحقق من قبل.
وقرار الانسحاب جد خطير لما يحدثه من انشقاق في أفئدة وأدمغة أفراد الجيش، بما يدعوهم للمخالفة أو على الأقل المناقشة، والأخذ والرد، وعليه فقرار الانسحاب بمثابة شعرة بين اليأس من تحقيق المراد وبين الحفاظ على المكتسبات هذا من ناحية مادية ، أما من ناحية معنوية فهو الشعرة الفاصلة بين انهزام الجيش النفسي وبين انتصار الخصم وكلاهما له انعكاساته المستقبلية.
- مهاجمة قوافل قريش:(1/429)
وقد كان وقعها شديداً على قريش، فالتجارة مصدر الرزق الوحيد عندهم، واستهدافها يعني القضاء علي مركز القوة القرشية، والتي استهدفها زيد بن حارثة على ما جاء في التفصيل عند صاحب الرحيق: أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر .
قال صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام- : إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء . وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء .
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان : تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق - وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل - فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان - من بني بكر بن وائل - دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة.(1/430)
ومتابعة "حرب الأعصاب" مما يطول التدليل عليه وتقصيه، ولو أُفرد له مجلد خاص لكان يعطيه بعض حقه، فارتباطاته وأثرها وإسباقياته والنتيجة، لها وقع بادي التأثير في مجريات الحرب، وله من تعدد الصور الشئ الكثير، فالاغتيالات مثلاً توقع في الأعصاب ما لا يوقعه قتل رجل لرجل مبارزة، وتهديد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمية بالقتل أبقاها ذكرى مؤرقة لأمية عند كل حدث، وإخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمه بخبر الأرضة التي أكلت الصحيفة ثم تحدي أبي طالب لقريش أن يسلمهم ابن أخيه إن كان كاذباً توتر الأعصاب وترهق التفكير، ومنها ما أوقعته مراهنة أبي بكر للمشركين حول انتصار الروم على فارس وأخذها سبع سنوات ورغبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لو جعلها لتسع، ولا يخفى تأثير حرب أعصاب يستمر بناءً على مراهنة لما يزيد عن سبع سنوات، والهجرة وما فيها، وحرب التشكيك الذي مارسه اليهود والمنافقون في أغلب المراحل العصيبة، وحرب السخرية والاستهزاء من قريش واليهود والمنافقين، وكذلك حرب الشائعات كاستباحة الأشهر الحرم مثلاً، أو الطعن في الدين والتقليل من شأنه كما حدث عند زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من زينب رضي الله عنها، أو عند تحويل القبلة.
كل هذه الأحداث وغيرها كثير من المواقف، تستدعي اللبث عندها ولو كإطلالة علَّ المسلم يستقي منها منهج السلوك في مواجهة "حرب الأعصاب"، ليخرج منها قوي النفس ثاقب البصر، ويستفيد منها في حربه العقلية والتي يحقق من خلالها النصر الأكيد.
حرب الاستنزاف
جاء في لسان العرب: فلانًا خرج منهُ دم كثير حتى يضعف فهو نزيف... واستنزف الدمع استخرجهُ كلَّهُ.
"حرب الاستنزاف" هي حرب متواصلة شاملة ولكنها غير مستمرة الجريان، أي أنها تأخذ طابع التقطع في الأغلب، بطيئة نعم، وغير واضحة المعالم صحيح، ولكنه تظهر بأثرها وما تدل عليه.(1/431)
"حرب الاستنزاف" غير محددة الوجهة، بمعني لا تهتم بنوع معين من أنواع الحروب بل لها من كل طيب نصيب، ومجالها استهداف قدرات الخصم سواءً المادية أو المعنوية بهدف إضعاف قوته والتأثير سلباً علي نفسيته أو قدرته القتالية، لذلك تدخل في سائر أنواع الحروب: النفسية والاقتصادية والهجومية.
- استنزاف قريش معنوياً:
وتمثل هذا الاستنزاف بتكرار السرايا والغزوات التي استهدفت عير قريش سواء في ذهابها أو مرجعها، حتى دعاهم لأن يعقدوا مجالس لمعالجة هذا الأمر الذي أرهقهم وأعياهم فوضعوا خطط تعديل الممر وزيادة عدد الحرس، قال المباركفوري: سرية زيد بن حارثة وتفصيلها : أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر .
قال صفوان بن أمية لقريش - وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها - إلى الشام : إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء . وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء .
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان : تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق - وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل - فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان - من بني بكر بن وائل - دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة.(1/432)
وقد مَثّل استهداف القوافل وكثرة السرايا دليل على اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا النوع من الحروب، وقد ظهر أثره جلياً على كل بيت في قريش، قال المباركفوري: وأما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسئول عنها - كان على غاية من الحيطة والحذر، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم؛ ليمنعوه من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول : يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث . . . الغوث .
ومن السرايا التي سارت تخدم هذه النظرية:
- سرية حمزة بن عبد المطلب على رأس سبعة أشهر من الهجرة . [الزاد].
- سرية سعد بن أبى وقاصٍ إلى الخرَّارِ في ذي القَعدة على رأس تسعة أشهر . [الزاد].
- أول غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي غزوة "وَدَّان" ويقال لها "الأبواء" أيضاً على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره. [الزاد].
- غزوة بواط بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشرَ شهراً مِن مُهَاجَرِهِ. [الزاد].
- غزوة العشيرة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جُمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً من مهاجره، فوجد العِيرَ قد فاتته بأيام، وهذه هي العيرُ التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام. [الزاد].
- سرية عبد الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ في رجب، على رأْسِ سبعةَ عشر شهراً مِن الهِجْرة. [الزاد].(1/433)
يدل عدد الغزوات وتلاحقها بل ومبدأها من بعد سبعة أشهر من الهجرة، على اعتماد مبدأ الاستنزاف لمعنويات قريش وإثارة حفيظتها خوفاً على مصدر رزقها الوحيد، وهو ما أثار الهلع في نفوسهم، وجعلهم يتحركون من حيث لا يشعرون حماية لهذا الأمر، وهو ما كان سبباً لبدر: استرداد المهابة على القوافل وطريق التجارة، قال أبو جهل بعد سماعه نبأ نجاة القافلة: واللهِ لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك.
- استنزاف قريش اقتصادياً:
كانت أول الغزوات التي غنمت قافلة لقريش سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب من السنة الثانية للهجرة، وكان من خبرها كما قال ابن القيم:... فمرَّت به عِيرٌ لقريش تَحْمِلُ زبيباً وأَدَماً وتِجارةً فيها عَمْرو بن الحَضْرَمى، وعثمان، ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكمُ بنُ كيسان مولى بنى المغيرة ... ثم أجمعوا على مُلاقاتهم، فرمى أحدُهم عَمْرواً بن الحضرمى فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفْلَتَ نوفل، ثم قَدِمُوا بالعِير والأسيرين، وقد عزلوا مِن ذلك الخُمس، وهو أول خُمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام.
قال المباركفوري: وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم .(1/434)
قال ابن سعد : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عيراً لقريش قد أقبلت من الشام فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكباً يتعرض لها، فأخذوها وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة وكانت لصفوان بن أمية، وأسروا ناساً ممن كان في العير منهم أبو العاص بن الربيع وقدم بهم إلى المدينة، فاستجار أبو العاص بن الربيع بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجارته، ونادت في الناس حين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر : إني أجرت أبا العاص فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وما علمت بشيء من هذا وقد أجرنا من أجرت " ، ورد عليه ما أخذ منه.
- ثمامة بن أثال والاستنزاف الاقتصادي:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله... فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟، فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .[الزاد].
قال صاحب الزاد: وكانت اليمامةُ ريفَ مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحملَ إلى مكة حتى جَهِدَتْ قريش، فكتبوا إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يسألُونه بأرحامهم أن يكتُب إلى ثُمامةَ يُخلِّى إليهم حملَ الطعام، ففعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - .
- استنزاف الوجود اليهودي في المدينة:(1/435)
كان للتواجد اليهودي في المدينة أثره السيء على بناء الدولة الإسلامية، لعدم توفر معطيات الأمان ولنزعة عدم الثقة الطبيعية بين الأنصار واليهود، من جهة خاصة لتعاملهم المطول من قبل، وبين المسلمين واليهود على العموم.
وقّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الطوائف الثلاث اليهودية عقد أمان ومناصرة، هذا كحل مؤقت حتى يتم التفرغ لهم، لأن طبيعتهم الخائنة وقوتهم الكامنة لا يُستهان بها خصوصاً إذا خرج الجيش المسلم من المدينة، لذلك اعتمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرية الاستنزاف لهذه القوة جزءاً جزءاً.
أقطاب القوة عند اليهود في المدينة ثلاثة: بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة:
أما بنو قينقاع فقد أجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر بحديث مشهور في الصحيح والسنن وقد تفرقوا في الشام وهلك أكثرهم، ثم كان الجلاء من نصيب بني النضير بعد أحد بحديث تداوله أهل الصحيح والسنن والمسانيد والسير وقد توجه أكثرهم إلى خيبر، وأما بنو قريظة فقد تم إجلاؤهم عن المدينة بعد الخندق، ولكن بطريقة تختلف عن السابقة فتلك الطائفتان أُجلوا أحياء، أما بنو قريظة فأجلوا أمواتاً لأن الحكم فيهم: أن يقتل الرجال وتسبى النساء والذرية، كما في الصحاح والسنن.
والمقصود أن استنزاف الوجود اليهودي في المدينة كقوة مماثلة للقوة الإسلامية كان على مراحل، بحيث لا تنصر قوة أخرى، فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنُصرة إخوانهم بني قينقاع، وكذلك لم تتحرك قريظة نُصرةً لبني النضير.
- استنزاف المال والسلاح اليهودي:
نقضت بنو قينقاع العهد، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم بعد بدر، وبعد حصار دام خمس عشرة ليلة استسلموا قال صفي الرحمن: وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم.(1/436)
ثم نقضت بنو النضير العهد فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم بعد أحد، قال ابن القيم: فحاصرَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - – قيل ست ليال وقيل خمس عشرة ليلة-، وقطَعَ نخلهم، وحرَّق، فأرسلوا إليه : نحن نخرج عن المدينة، فأَنزلَهم على أن يخرجوا عنها بنفوسِهم وذراريهم، وأن لهم ما حَمَلَتِ الإبلُ إلا السلاَح، وقبض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأموالَ والحَلْقَةَ، وهى السلاح، وكانتْ بنو النضير خالِصةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِنوائبه ومصالحِ المُسلمين، ولم يُخمِّسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ.
قال مالك: وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حُيىَ بنُ أَخْطَب كبيرُهم، وقبض السِّلاح، واستولى على أرضهم وديارِهم وأموالهِم، فوجد من السِّلاح خمسينَ دِرعاً، وخمسينَ بَيْضةً، وثلاثَمِائةٍ وأربعين سيفاً.
ثم نقضت قريظة العقد في الأحزاب فخرج اليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم خمساً وعشرين ليله، ثم نزلوا على حكم سعد: أن يُقتل الرجال وتُسبي النساء وتُقسم الأموال، قال صاحب الرحيق: كانوا – أي بني قريظة- قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع، وخمسمائة ترس، وحَجَفَة، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم .(1/437)
وكان من خبر خيبر أنهم جمعوا الأحزاب لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك بمثابة إعلان الحرب على الدولة الإسلامية، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيش الإسلام بعد الحديبية، قال صفي الرحمن: وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا : يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم .
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد .
ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال : ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل .(1/438)
وفي الرحيق: ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب فى قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب .
- الاستنزاف العسكري وتقوية الجيش الإسلامي:
في بدر لم يكن مع المسلمين إلا فرسان، أصبحت في الخندق مائتا فرس، وفي بدر كان كل ثلاثة يتناوبون بعيراً بمجموع يقارب السبعين بعيراً، وكان من غنائم بدر وحدها مائة وخمسون بعيراً، أما السلاح فقد كانت السيوف في بدر في الخرق، وفي جلاء بني قينقاع لم يتحصل المسلمون على كثير لأنهم مضوا بسلاحهم، غير ثلاثة سيوف وثلاثة رماح ودرعين وبعض الذي وجدوا في دورهم، ولكن عند بني النضير جمع المسلمون خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً وفي قريظة: ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفا رمح وألف وخمسمائة ترس وجحفة...[إمتاع الأسماع للمقريزي]، بخلاف ما كانوا يتحصلون عليه من الغارات على القبائل وما تملكوه من خيبر.
روى ابن إسحاق في حصار حصن الصعب ثاني حصون يهود خيبر: أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال : " اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا".
كل هذا ليواكب التزايد المطرد في عدد الجنود، من ثلاثين في سرية البحر بقيادة حمزة إلى ثلاثمائة ونيف في بدر إلى ثلاثة آلاف في مؤتة...
- استنزاف القبائل العربية:(1/439)
اعتمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سياسة غزو من يفكر بالغزو، فكانت السرايا والبعوث والغزوات تقصد كل جمع يريد المدينة بغارة أو حرب، بما يوهن من عزمها ويفت من عضددها ويرهبها، مما تضطر معه لأن تفر إلى رؤوس الجبال وفيافي الصحراء.
وقد كان من النادر أن تثبت قبيلة أمام الإغارة، إلا كالذي حدث مع سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة الذين كمنوا للسرية وقتلوهم جميعاً إلا محمد الذي ارتث بين القتلى ونجا بعد جراحة، وإلا فالعموم هو الفرار ثم ترجع السرايا إلى المدينة غانمة للشاء والبعير، وآسرة للرجال وسابية للنساء والذرية، منها كما في الرحيق:
- سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير.
- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة وقد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء .
- سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم ماء لبني سليم، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقال لها : حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسرى، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمزينية نفسها وزوجها .
- استنزاف المحاصرين:
قال ابن القيم في حصار بني النضير: فحاصرَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقطَعَ نخلهم، وحرَّق، فأرسلوا إليه : نحن نخرج عن المدينة، فأَنزلَهم على أن يخرجوا عنها بنفوسِهم وذراريهم، وأن لهم ما حَمَلَتِ الإبلُ إلا السلاَح.(1/440)
وقال صاحب الرحيق: بعد فتح حصني ناعم والصعب تحول اليهود إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحصار، وأقام محاصراً ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال : يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، إن لهم شراباً وعيوناً تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك . فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي الطائف بعد الحصار قال صفي الرحمن: وأمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - - كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام - أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم .
- المنجنيق – وكل آلة رمي وتدمير- والاستنزاف:
في الرحيق المختوم في معرض الحديث عن فتح حصون خيبر: وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصب آلات المنجنيق، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخرى، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم .
وفي تناوله لحصار الطائف قال صفي الرحمن: ونصب النبي - صلى الله عليه وسلم - المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة .
حرب الاغارة(1/441)
في الزاد: في البخاري ومسلم في الجهاد باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام: فإنه لم يكن بينهم قِتال، وإنما أغارَ عليهم على الماء، فَسَبى ذَرَارِيَهم، وأموالَهم، كما في الصحيح : أغارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على بَني المُصْطَلِقِ، وهُمْ غَارُّونَ .
وفي مسلم: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة: أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ ابنة الحارث.
وفي الصحيحين واللفظ لمسلم:عن ابن عون قال كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم ... قال النووي: قوله: "وهم غارون" أي: غافلون.
وفي هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة, وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي.
أحدها: يجب الإنذار مطلقا, قاله مالك وغيره.
والثاني: لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل.
والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة, ولا يجب إن بلغتهم, لكن يستحب, وهذا هو الصحيح, وبه قال نافع مولى ابن عمر, والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور, قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم, وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه, فمنها هذا الحديث, وحديث قتل كعب بن الأشرف, وحديث قتل أبي الحقيق.(1/442)
قال الشوكاني في "النيل": باب الكف وقت الإغارة عمن عنده شعار الإسلام عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح، فإذا سمع أذانا أمسك وإذا لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح".[رواه أحمد والبخاري]، وفي رواية: كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان، فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار، وسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: خرجت من النار".[رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه].
قال الشافعي في الأم: وللمسلمين أن يشنوا عليهم الغارة ليلاً ونهاراً، فإن أصابوا من النساء والولدان أحداً لم يكن فيه عقل ولا قود ولا كفارة، فإن قال قائل: ما دل على هذا؟
قيل: عن الصعب بن جثامة الليثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وأبنائهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هم منهم"، وربما قال سفيان في الحديث "هم من آبائهم"، فإن قال: فهل أغار على قوم ببلد غارين ليلاً أو نهاراً؟
قيل: نعم، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون في نعمهم بالمريسيع فقتل المقاتلة وسبى الذرية.(1/443)
وقال رحمه الله تعالى: وفي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقتل ابن أبي الحقيق غاراً دلالة على أن الغار يقتل وكذلك أمر بقتل كعب بن الأشرف فقتل غاراً، فإن قال قائل: فقد قال أنس: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بقوم ليلاً لم يغر حتى يصبح"، قيل له: إذا كان موجودا في سنته أنه أمر بما وصفنا من قتل الغارين وأغار على الغارين، ولم ينه في حديث الصعب عن البيات دل ذلك على أن حديث أنس غير مخالف لهذه الأحاديث ولكنه قد يترك الغارة ليلاً، لأن يعرف الرجل من يقاتل أو أن لا يقتل الناس بعضهم بعضاً، وهم يظنون أنهم من المشركين، فلا يقتلون بين الحصن ولا في الآكام حيث لا يبصرون من قبلهم لا على معنى أنه حرم ذلك.
- الإغارة المضادة من العدو:
- في الزاد وأصله في الصحيحين: في غزوة الغابة:....ثم أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ الفَزَارِىُّ في بنى عبد اللهِ بن غَطَفَانَ على لِقَاحِ النبى - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة، فاستاقها، وقتل راعِيَهَا وهو رجلٌ من عُسفان، واحتملوا امرأته.
- أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعين رجلاً من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له : سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى . [الرحيق].
- نقلت استخبارات المدينة إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن جمعاً كبيراً من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين مقاتلاً ما بين راكب وراجل، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان .[الرحيق].(1/444)
- سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار أرض لغطفان، وقيل : لفَزَارَة وعُذْرَة في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما . [الرحيق].
- الإغارة في سرايا الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
- بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعداً بن أبي وقاص في عشرين رجلا يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه ألا يجاوز الخرار، فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس .[الرحيق].
- نقلت استخبارات المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر أن بني سليم وبني غَطَفَان تحشد قواتها لغزو المدينة، فباغتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مائتي راكب في عقر دارهم، وبلغ إلى منازلهم في موضع يقال له : الكُدْر . ففر بنو سليم، وتركوا في الوادي خمسمائة بعير استولى عليها جيش المدينة.[الرحيق].
- نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فسارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمر عليهم أبا سلمة، وعقد له لواء ، وباغت أبو سلمة بني أسد بن خزيمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلا وشاء لهم فاستاقوها، وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً .[الرحيق].(1/445)
- تحركت سرية محمد بن مسلمة ثلاثين راكباً إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض نجد، إلى بطن بني بكر بن كلاب . فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء.[الرحيق]، وفي المنتظم: وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار وأغار عليهم فقتل نفرًا منهم.
- بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة . والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأى أن الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في مائتين من أصحابه، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غُرَان حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم.[الرحيق].
- سرية أبى عُبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّة، فساروا ليلتَهم مُشاةً، ووافَوْهَا مع الصُّبْح، فأغَارُوا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وغنموا نَعَما وشاء.[الزاد وابن سعد].
- سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، وذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود ، فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر ، ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم . [الرحيق].(1/446)
- سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القرى، كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق . قال سَلَمَة بن الأكْوَع : وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة. [الرحيق].
- سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد... كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم. [الرحيق]، قال ابن القيم وابن هشام: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالب بن عبد الله الكَلبى، وأمره أن يُغير عليهم .
- سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة ومعه ثلاثون رجلاً ، كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً، فانصرف راجعاً إلى المدينة . [الرحيق].
- سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار أرض لغطفان، وقيل : لفَزَارَة وعُذْرَة ] في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما . [الرحيق].(1/447)
- سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة وملخصها : أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية، وصاحباه في ناحية أخرى، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم . [الرحيق].
- سَرِيَّة عُيينة بن حصن الفَزَارى إلى بنى تميم، بعثه إليهم في سَرِيَّة لِيغزوهم في خمسين فارساً، فكان يسيرُ الليل ويكمُن النهار، فهجم عليهم في صحراء، وقد سرَّحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولَّوْا، فأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً. [الزاد].
- سرية قُطْبَة بن عامر إلى حي من خَثْعَم بناحية تَبَالَة، خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النَّعَم والنساء والشاء إلى المدينة . [الرحيق].
- سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيئ، بعثه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في خمسين ومائة، على مائة بعير وخمسين فرساً، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء. [الرحيق].
حرب الاغتيالات(1/448)
الاغتيال: هو عملية قتل مُنظمة ومُتعمدة بهدف القضاء على شخصية معينة ومحددة، ذات تأثير قيادي: فكري أو سياسي أو عسكري، على اعتبار أنه عائق في طريق منظمي العملية دون نشر أفكارهم كعملية عقابية أو تخذيلية، أو أنه يسعى لاستهدافهم كعملية استباقية ووقائية.
ولا تحديد لحجم الجهة المنظمة لعملية الاغتيال، فقد تتعدد من شخص واحد فقط إلى مجموعة منظمة أو حتى دولة.
أما باعتباراته الأخلاقية فلا إجماع عليه، بين فاعل يعتبره عمل بطولي، وبين مفعول به يعتبره المتعاطفون معه جريمة.
- الاغتيال مسألة مألوفة عند العرب:
- قتل خراش بن أمية الخزاعي لابن الأثوع:
ذكر ابن هشام عن ابن إسحاق عند الحديث في فتح مكة، أن خراش تحامل على ابن الأثوع - أحمر- بسيف وهو نائم وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه.
قال ابن إسحاق : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع خراش بن أمية، قال: إن خراشاً لقتال، يعيبه بذلك .
- قتل عمرو بن أمية لرجلي بني عامر:
عند ابن هشام: أن عمرواً بن أمية حين قتل الرجلين من بني عامر ظاناً أنه قد أصاب ثُؤرة من بني عامر، ولم يكن يعلم أن ثمة عقداً وعهداً بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما" وقد وردت طريقة القتل: قال فأمهلتهما حتى إذا ناما قتلتهما، وهذه الدية كانت سبب جلاء بني النضير حين أرادوا قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
- قتل المغيرة للرجال الثلاثة عشر:
فقد قتلهم المغيرة وأخذ أموالهم وهداياهم التي جلبوها من مصر، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلما، فقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إسلامه ولم يقبل غدرته، ومن الطبيعي أن تكون وسيلة القتل هي غيلة، فمن المحال قتل ثلاثة عشر رجل مواجهة، وقد ذكر صاحب الطبقات أنها كانت بعد أن أسقاهم الخمر.(1/449)
- أبو لؤلؤة المجوسي يقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - غيلة:
حين تقدم عمر - رضي الله عنه - المصلين ليأمهم، وكبر تكبيرة الإحرام، بادره أبو لؤلؤة المجوسي –عليه لعائن الله المتتالية ومن يحبه - بطعنة غادرة تلو الأخرى حتى بلغت ست طعنات، ثم هرب الغادر من بين الصفوف، وبيده سكينة ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً أو شمالاً إلا وطعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ما يزيد عن النصف، ولما أحس أنه مأخوذ لا محالة، أقدم على قتل نفسه بالسكين ذاتها.[البداية والنهاية].
- محاولات اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
- محاولات قريش:
- محاولة عمير بن وهب قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
قال ابن هشام عند الحديث على أسرى بدر قال: تعاهد صفوان بن أمية مع عمير بن وهب على أن يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحجة فكاك ابنه الأسير ليغتاله، وقد أعلمه الله بالخبر ونجاه من كيد المشركين.
- محاولة أعرابي اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمر من أبي سفيان:……
قال ابن سعد: قال أبو سفيان لنفر من قريش : ألا رجل يغتال محمدًا فإنه يمشي في الأسواق، فقال له رجل من العرب : إن قويتني خرجت إليه حتى أغتاله، ومعي خنجر مثل خافية النسر فأعطاه بعيرًا ونفقة، وأقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد في مسجد بني عبد الأشهل فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن هذا ليريد غدرًا " فذهب ليجني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجذبه أسيد بن الخضير بداخلة إزاره فإذا بالخنجر، فسقط في يديه وقال : دمي دمي، فأخذ أسيد بلبته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اصدقني " فأخبره الخبر وأسلم.
- محاولة قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيته قبيل الهجرة:(1/450)
عند ابن هشام: في اجتماع قريش في دار الندوة، قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً.
- محاولات العرب:
- محاولة عامر بن صعصعة قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
قدم عامر ضمن وفد قومه وهو عاقد العزم علي اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان معه أربد بن قيس، وكانت خطته: أني سأشغل عنك وجهه – أي الرسول - صلى الله عليه وسلم -- فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف، أي كان سيشغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليغتاله من خلفه أربد، ولكم حاول وحاول، وباءت كل محاولاته بالفشل فصاحبه لم يقو علي أن يستل سيفه ويضرب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانتقم الله من الاثنين.
- محاولة أعرابي اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
في البخاري ومسلم: عن جابر بن عبد الله قال: قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محارب بن خصفة، قال: فرأوا من المسلمين غرّه فجاء رجل حتى قام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف فقال: من يمنعك مني، قال: الله، فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف، فخلى سبيله.
- محاولات اليهود:
- محاولة بني النضير اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/451)
عند ابن هشام:أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بني النضير ليعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمْرِي – وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة - فقالوا : نفعل يا أبا القاسم، اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك . فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، فخلا اليهود بشياطينهم واختاروا درب الشقاء، فتآمروا على قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرَّحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا , إلا أن الله قد نجاه ورد كيدهم إلى نحورهم.
- محاولة اليهودية قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
قال ابن كثير في تاريخه بعد معركة خيبر: أهدت زينب بنت الحارث - وهي أخت مرحب الذي قتله "علي" مبارزة في خيبر- أهدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مصلية مسمومة. فقال النبي بعد لقمة لاكها فلم يسغها لأصحابه: أمسكوا فإنها مسمومة.
- محاولات المنافقين:
- محاولة المنافقين قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
عند أحمد والطبراني في المعجم الكبير وأصل الحديث في مسلم: عن أبي الطفيل عامر بن واثلة - رضي الله عنه - قال: لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة، يقوده حذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً، وهو يسوق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرادوا أن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطرحوه".
- تخوف رافع بن عتبة من محاولة اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(1/452)
أخرج الإمام مسلم عن رافع بن عتبة - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة، فإنهم لقيام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد. قال: فقالت لي نفسي: ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه. قال ثم قلت لعله نجي معهم فأتيتهم، فقمت بينهم وبينه.
- هل يجوز الاغتيال في الشريعة الإسلامية ؟
جاء في أحكام القرآن لابن عربي: وروي في مختصر الطبري أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنوه في قتال الكفار, إذ آذوه بمكة غيلة, فنزلت: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ"[الحج 38]، فلما هاجر إلى المدينة أطلق قتالهم. قال: وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقال:محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال: نعم، فقتله مع أصحابه غيلة، وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -رهطاً، إلى أبي رافع بن أبي الحقيق فقتلوه غيلة ".
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهً يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" [الحج 38] قال: رُوي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار، وهاجر مَن هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل مَن أمكنه مِن الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله "كفور"، فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، فلما قويت شوكة المؤمنين بعد ضعفها أذن الله للمؤمنين بالقتال فقال: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" [الحج39].(1/453)
قال الإمام القرطبي: قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون" قيل: هذا بيان قوله "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" أي: يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم، وفيه إضمار، أي: أذن للذين يصلُحون للقتال في القتال، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف، وقال الضحاك: استأذن أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله: "إن الله لا يحب كل خوان كفور"، فلما هاجر نزلت:"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا"، وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح، وهي أول آية نزلت في القتال.
- الاغتيال بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تقريره:
بالاقتصار على الشاهد مع ذكر بعض التفصيلات التي تعين على فهم طريقة الاغتيال، لفوائد منها:
- جواز الكذب.
- الاستعانة بالمقربين من المُراد اغتياله.
- حبك الخطة ودقة التنفيذ.
- تقليص العدد قدر الإمكان.
- الاقتصار على المقصود ما أمكن.
- قتل فيروز الديلمي للأسود العنسي:
في البداية والنهاية لابن كثير: كان الأسود مشعوذًا يريهم الأعاجيب، وكان أول ادعائه النبوة عندما بلغه مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -... وكانت ردته أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج في سبعمائة مقاتل وكتب إلى عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيها المتمردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه... ثم ركب فتوجه إلى نجران... فخرج إليه شهر بن باذام فتقاتلا فغلبه الأسود، وقتله... وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين في اليمن كتابًا يأمرهم بقتال الأسود ... وعمل المسلمون على قتل الأسود مصادمة أو غيلة.(1/454)
وكان الأسود قد جعل خليفته على مذحج عمرواً بن معدي كرب وأسند أمر الجند إلى قيس بن يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الديلمي وداذويه، وتزوج بامرأة شهر بن باذام - وهي ابنة عم فيروز الديلمي، واسمها أزاذ من المؤمنات بالله ورسوله ومن الصالحات-.
كان قيس بن عبد يغوث أمير الجند قد غضب على الأسود، واستخف به وهمَ بقتله، وكذلك كان أمر فيروز الديلمي قد ضعف عنده أيضا، وكذا داذويه، فلما علم قيس بن مكشوح بعزم فيروز وداذويه على قتل الأسود طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان كأنما نزلوا عليه من السماء، ووافقهم على الفتك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك وتعاقدوا عليه... فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتب من عامر بن شهر أمير همدان وذي ظليم وذي كلاع وغيرهم من أمراء اليمن يبذلون لنا الطاعة والنصر على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحثهم على مصاولة الأسود العنسي، فكتبنا إليهم ألا يحدثوا شيئا حتى نبرم الأمر... قال فيروز: فدخلت على امرأته أزاذ فقلت: يا ابنة عمي قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك: قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل، وفضح النساء فهل عندك ممالأة عليه ؟ قالت: على أي أمر، قلت إخراجه. قالت أو قتله ؟ . قلت أو قتله . قالت: نعم، والله ما خلق الله شخصاً هو أبغض إليّ منه؛ فما يقوم لله علي حق، ولا ينتهي له عن حرمة فإذا عزمتم أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر ... ثم قال الأسود أحقٌ ما بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممت أن أنحرك ... وأبدى له الحربة، فقال له فيروز: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيا ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الآخرة والدنيا، فلا تقبل علينا أمثال ما يبلغك فإنا بحيث تحب، فرضي.(1/455)
فاجتمع رأيهم على أن يعاودوا المرأة في أمره فدخل فيروز إليها فقالت: إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجًا وسلاحاً... ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا داخله بطائن ليهون عليهم النقب من خارج... فلما كان الليل نقبوا ذلك البيت فدخلوا، فوجدوا فيه سراجا تحت جفنة، فتقدم إليه فيروز والأسود نائم على فراش من حرير قد غرق رأسه في جسده وهو سكران يغط والمرأة جالسة عنده... فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ رأسه فدق عنقه، ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتله... فدخلوا عليه ليحتزوا رأسه فحركه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأة بشعره وجعل يبربر بلسانه فاحتز الآخر رقبته فخار كأشد خوار ثور سمع قط، فابتدر الحرس إلى المقصورة فقالوا: ما هذا؟ ما هذا ؟ فقالت المرأة: النبي يوحي إليه فرجعوا... وكتبوا بالخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أطلعه الله على الخبر من ليلته، كما روى سيف بن عمر التميمي عن ابن عمر: أتى الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي، ليبشرنا فقال: قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين قيل ومن ؟ قال: فيروز فيروز.
- قتل أبي رافع سلام بن أبي حقيق:
ذكر ابن سعد: أن أبا رافع بن أبي حقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعى ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله .(1/456)
فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى محله فصعدوا درجة له، فقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية فاستفتح وقال : جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية فعلوه بأسيافهم .
قال ابن أنيس : وكنت رجلاً أعشى لا أبصر فاتكأت بسيفي على بطنه حتى سمعت خسه في الفراش، وعرفت أنه قد قُضي عليه وجعل القوم يضربونه جميعًا ثم نزلوا، فصاحت امرأته فتصايح أهل الدار واختبأ القوم في بعض مناحي خيبر وخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يروهم فرجعوا ، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب ثم خرجوا مقبلين إلى المدينة.
- سرية عمرو بن أمية الضمري و سلمة بن أسلم لاغتيال أبي سفيان بمكة:
قال ابن سعد: وكان سبب ذلك أن أبا سفيان قال لنفر من قريش : ألا رجل يغتال محمدًا فإنه يمشي في الأسواق فقال له رجل من العرب : إن قويتني خرجت إليه حتى أغتاله، فأعطاه بعيرًا ونفقة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم إلى أبي سفيان وقال : إن أصبتما منه غرة فاقتلاه فدخلا مكة فمضى عمرو يطوف بمكة ليلاً فرآه معاوية فعرفه فأخبر قريشًا بمكانه فطلبوه وكان فاتكًا في الجاهلية فهرب هو وسلمة فلقي عمرواً بن عبيد الله بن مالك فقتله وقتل آخر من بني الديل سمعه يقول :
ولست بمسلم ما دمت حيًا ولست أدين دين المسلمين
ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة وجعل يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبره والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك .
وذكر ابن إسحاق سبباً آخر وهو ما ذكره الشافعي في الأم بلا سند أن النبي أمر عندما قُتل عاصم بن ثابت وخبيب وزيد بن الدثنة، بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه.(1/457)
قال ابن إسحاق فيما رواه عن عمرو بن أمية : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قتل خبيب وأصحابه وبعث معي رجلاً من الأنصار فقال : ائتيا أبا سفيان فاقتلاه فخرجنا وليس مع صاحبي بعير، فلما وصلنا عقلت بعيري وقلت لصاحبي إني أريد أن أقتل أبا سفيان فإن أصبت شيئًا فالحق ببعيري فاركبه والحق بالمدينة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخلنا مكة قال لي صاحبي هل لك أن تطوف فقلت : أنا أعلم بأهل مكة منك فلم يزل بي حتى طفنا فمررنا بمجلس فعرفني رجل منهم فصاح بأعلى صوته : هذا عمرو بن أمية الضمري فتبادر أهل مكة قالوا : والله ما جاء عمرو لخير، فقاموا فى طلبي فقلت لصاحبي : النجاء فهذا الذي كنت أخاف وليس إلى الرجل سبيل، فانج بنفسك فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في الجبل فدخلنا غارًا فبتنا فيه ليلتنا فأعجزناهم فرجعوا، فإذا عثمان بن مالك التميمي قد وقف بباب الغار فخرجت إليه فوجأته بخنجر معي فصاح صيحة أسمع أهل مكة فأتوا إليه ورجعت إلى مكاني فجاءوه وبه رمق فقالوا : ويلك من؟ قال : عمرو بن أمية ثم مات ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا فقالوا : والله لقد علمنا أنه ما جاء لخير فاشتغلوا بصاحبهم فأقمنا في الغار يومين ثم خرجنا إلى التنعيم فإذا خشبة خبيب وحوله من يحرسه فقلت للأنصاري : إن خشيت فخذ الطريق إلى جملي فاركبه والحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر، واشتددت إلى خشبته فاحتللته واحتملته على ظهري، فوالله ما مشيت به إلا نحو ذراعين حتى نذروا بي فطرحته فما أنسى وجبته حين سقط، فاشتدوا في أثري فأخذت طريق الصفراء فرجعوا وانطلق صاحبي فركب بعيري ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر وأقبلت أمشي حتى أشرفت على ضجنان فدخلت غارًا فدخل علي رجل من بني الديل فقال : من الرجل فقلت : من بني بكر قال : وأنا من بني بكر ثم اضطجع معي ثم رفع عقيرته يتغنى ويقول :(1/458)
ولست بمسلم ما دمت حيًا ولست أدين دين المسلمين
فقلت : سوف تعلم فنام فقمت فقتلته شر قتلة وخرجت فلقيت رجلين من قريش يتحسسان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : استأسرا، فقالا : أنحن نستأسر لك؟ فرميت أحدهما بسهم فقتلته ثم قلت للآخر : استأسر فاستأسر، فأوثقته فقدمت به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شددت إبهامه بوتر قوسي فنظر إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ودعا لي بخير .
- اغتيال كعب بن الأشرف:
كان كعب بن الأشرف من أشد اليهود حقدا وضغينة على الإسلام، وإيذاءً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاناً للحرب على المسلمين.
كان من قبيلة طيء وأمه من بني النضير، ولكنه فارقهم في حصن له، ولما بلغه خبر انتصار المسلمين، وقتل صناديد قريش في بدر قال: أحق هذا؟ هؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، واللَّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
وقام يهجو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ويؤلب عليهم عدوهم، بل تمادى في فجوره وأتى قريشاً ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين، يثير بذلك ضغائنهم، ويشعل نار حقدهم، ويدعوهم إلى حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
يسأله أبو سفيان والمشركون أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وأفضل، وفي ذلك أنزل اللَّه تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا"[النساء: 51](1/459)
ثم عند مرجعه، أعلنها حرباً إعلامية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم -، وأخذ يشبب في أشعاره بنساء الصحابة، ويؤذيهم بفحش لسانه أشد الإيذاء، حينها صدر الأمر من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى اللَّه ورسوله"، فخرج له محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة - وهو أخو كعب من الرضاعة - والحارث بن أوس، وأبو عبس بن حبر، وكان قائد هذه المجموعة محمد بن مسلمة.
وتفيد الروايات [عند ابن هشام وغيره] أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللَّه ورسوله"، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول اللَّه، أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئا[أي أكذب]ً. قال: "قل".
فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا.
قال كعب: واللَّه لتملنه.
قال محمد: فإنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه؟ وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين.
قال كعب: نعم أرهنوني.
قال محمد: أي شيء تريد؟
قال: ارهنوني نساءكم.
قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فترهنوني أبناءكم.
قال: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين. هذا عار علينا. ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح.
فواعده أن يأتيه.
وصنع أبو نائلة مثل ما صنع محمد بن مسلمة، فقد جاء كعباً فتناشد معه أطراف الأشعار سويعة، ثم قال له ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني.
قال كعب: أفعل.
قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، وبمثل حديث محمد توجه الطلب من أبي نائلة بزيادة: إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبايعهم وتحسن في ذلك.(1/460)
وقد قصد محمد وأبو نائلة ألا ينكر عليهما حمل السلاح، أو المجئ بالرجال مسلحين.
وفي اليوم الموعود وصلت المجموعة إلى حصن كعب بن الأشرف، فهتف به أبو نائلة، فقام لينزل إليهم، فقالت له امرأته - وكان حديث العهد بها أين تخرج هذه الساعة؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم.
قال كعب: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دُعي إلى طعنة أجاب، ثم خرج إليهم وهو متطيب ينفخ رأسه.
وقد كان أبو نائلة قال لأصحابه إذا ما جاء فإني آخذ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه من رأسه فدونكم فاضربوه، فلما نزل كعب إليهم تحدث معهم ساعة، ثم قال أبو نائلة: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث بقية ليلتنا؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فقال أبو نائلة وهو في الطريق ما رأيت كالليلة طيباً أعطر، وزهى كعب بما سمع فقال: عندي أعطر نساء العرب، قال أبو نائلة: أتأذن لي أن أشم رأسك؟
قال: نعم، فأدخل يده في رأسه فشمه وأشم أصحابه.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال كعب: نعم، فعاد لمثلها، حتى اطمأن.
ثم مشى ساعة ثم قال: أعود؟ قال: نعم، فأدخل يده في رأسه، فلما استمكن منه قال: دونكم عدو اللَّه، فاختلفت عليه أسيافهم، لكنها لم تغن شيئاً، فأخذ محمد بن مسلمة معولاً فوضعه في ثنته، ثم تحامل عليه حتى بلغ عانته، فوقع عدو اللَّه قتيلاً، ورجعت المقاتلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد اللَّه على قتله.
- سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك:
أبو عفك نجم نفاقه، حين قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن سويد بن صامت، وكان قوالاً للشعر هجَّاءً للرسول، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لي بهذا الخبيث؟، فخرج سالم بن عمير، أخو بني عمرو بن عوف، وهو أحد البكائين، فقتله، كما ذكره ابن إسحاق.
- اغتيال عمير بن عدي الخطمي عصماء بنت مروان:(1/461)
كانت تعيب في شعرها على الإسلام وأهله ولها صولات وجولات مع حسان، بل كانت سبباً مانعاً وحائلاً دون إسلام قومها، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطاولها قال: ألا آخذ لي من ابنة مروان ؟ فسمع ذلك عمير، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها في بيتها فقتلها، ثم أصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني قد قتلتها، فقال : نصرت الله ورسوله يا عمير، فقال : هل علي شيء من شأنها يا رسول الله ؟ فقال : "لا ينتطح فيها عنزان" .
فرجع عمير إلى قومه، وبنو خطمة يومئذ كثير موجهم في شأن بنت مروان، ولها يومئذ بنون خمسة رجال، فلما جاءهم عمير بن عدي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا بني خطمة، أنا قتلت ابنة مروان، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فذلك اليوم أول ما عز الإسلام في دار بني خطمة، وكان يستخفي بإسلامهم فيهم من أسلم، وأسلم يوم قتلت ابنة مروان، رجال من بني خطمة، لما رأوا من عز الإسلام.
- قتل محيصة بن مسعود بن سنينة:
في عيون الأثر: قال ابن إسحاق: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة، فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله.
قال محيصة: فقلت: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك قال: فوالله إن كان لأول إسلام حويصة قال أي والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني قال قلت نعم والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها قال والله إن ديناً يبلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة .
- اغتيال عبد الله بن أنيس لخالد بن سفيان الهذلى:(1/462)
قال ابن سعد في الطبقات: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن خالد بن سفيان وكان ينزل عرنة وما والاها في ناس من قومه وغيرهم، قد جمع الجموع لحرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه عبد الله بن أنيس ليقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله قال: "إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان"، قال: وكنت لا أهاب الرجال واستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول-أي أكذب- فأذن لي، فأخذت سيفي وخرجت إلى خزاعة حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش ومن ضوى إليه، فعرفته بنعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهبته فرأيتني أقطر، فقلت: صدق الله ورسوله، فقال: من الرجل؟ فقلت: رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك، قال: أجل إني لأجمع له، فمشيت معه وحدثته واستحلى حديثي حتى انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت رأسه، ثم دخلت غارا في الجبل... وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين، ثم خرجت فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار حتى قدمت المدينة، ووضعت رأسه بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته خبري.
- غزوة عبد الله بن رواحة لقتل اليسير بن رزام - أو رازم-:(1/463)
عند ابن هشام: وكان من حديث اليسير بن رزام أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبد الله بن أنيس، فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا له : إنك إن قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففطن به عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، ومال كل رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صاحبه من يهود فقتله.
حرب التخذيل
جاء في لسان العرب: "خذل: الخاذِلُ: ضد الناصر. خَذَله وخَذَل عنه يَخْذُله خَذْلاً وخِذْلاناً: تَرَكَ نُصْرته وعَوْنه. والتَّخْذيل: حَمْلُ الرجل على خِذْلان صاحبه وتَثْبِيطُه عن نصْرته مثل قولهم:"الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا"[آل عمران:168]، وقولهم:"وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَر"[التوبة:81]، وغير ذلك من عبارات التخذيل.
" الحرب التخذيلية " تعني: حمل بعض الجيش أو القيادة على الركون لحالة الانهزام مما يؤدي لانشقاق الصف وتفرق الكلمة، أي أنها حرب تُستخدم فيها الحيلة والخداع للوصول للنصر دون خسائر بشرية، إنها حرب عقلية بأساليب المكر والدهاء لخداع الطرف الآخر بغير الموجود وتمويه الموجود على أنه أكبر مما هو موجود، بحيث ينخدع الخصم بحجم خصمه أو قوته أو خططه فيُخذل البعض أو توهن القوى ويظهر العجز.
فهي إذن حرب لا قتال فيها، ولكنها تؤتي ثمارها المرجوة منها، دون عناء تكبد الخسائر أو زج الجيش في معارك غير مأمولة النتائج.(1/464)
ومع حداثة المُسمى ولكنه يظهر واضحاً جلياً في حروب ذاك الزمن، وقد استخدمها المشركون ضد المسلمين في أيما موضع، وأجاد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقق فيها من النتائج الشيء الكثير وكفى بتخذيل الأحزاب شاهداً على عِظم هذا النوع من الحروب.
- التحذير الرباني من التخذيل:
جاءت الأوامر الربانية لتطهير الصف الإسلامي من مكامن التشتيت والتمزيق والتفريق، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ" [آل عمران 100]، وفي الآية تحذير من طاعة ذلك الفريق الذي شغله الشاغل الطعن في دين المسلمين، وإثارة الشبهات التي تزرع بذور الشك في الصدور، وفي الآية التحذير من مآل طاعة الكفار فان الخاتمة هي الردة بعد الإيمان.
وهذا القانون: وهو عدم إطاعة أي فريق من الذين أوتوا الكتاب ولو كان صادقاً، مع إضافة القانون في التعامل مع الخبر: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا..."[الحجرات6]، يعني تأصيل القاعدة الأولى في صرح البناء العملي، وهو عدم الركون لأي قول يأتي من غير الصف الإسلامي الأصيل, وهو قول الذين آمنوا.
- دور المنافقين في التخذيل يوم أحد:
قال ابن القيم في الزاد: فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخذل عبدُ الله ابن أُبَىّ بنحو ثُلثِ العسكر، وقال : تخالفني وتسمَعُ مِن غيري، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول : تعَالَوْا قاتِلُوا في سبيل الله، أو ادفعوا . قالوا : لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع.(1/465)
وذكر ابن سعد وابن هشام عدد الذين تخاذلوا فقال: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب عسكره ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي ومن معه على جده عسكره أسفل منه، نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل المعسكرين، فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
- دور المنافقين في التخذيل يوم الأحزاب:
قال تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا " [الأحزاب12-13].
قال القرطبي: "وذلك أن طعمة بن أبيرق وابن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلاً قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز".
قال سيد قطب في الظلال: "وجد هؤلاء ـ أي المنافقون ـ في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد، وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم آمنون من أن يأخذهم أحد بما يقولون، فالواقع بظاهره يصدقه في التوهين والتشكيك.
وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم، فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين!
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة، وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء.(1/466)
فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا، لا موضع لها ولا محل، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها، ثغرة الخوف على النساء والذراري.
والخطر محدق والهول جامح، والظنون لا تثبت ولا تستقر! ويستأذن فريق منهم النبي، يقولون: (إن بيوتنا عورة) يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو، متروكة بلا حماية.
وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة:(وما هي بعورة) ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار:(إن يريدون إلا فرارا)).
قال تعالى: "وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ "[التوبة65]
عند ابن كثير: قال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.
قال الطبري عن قتادة أنهم قالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات.
- دور المنافقين في التخذيل يوم تبوك:(1/467)
قال تعالى: "فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ "[التوبة 81 – 83].
- قالوا: "لا تنفروا في الحر"، وهذا بحث عن أسباب التخذيل للوصول للنتائج التي يريدها المُخذِّل، والاحتجاج بالواهي من الأدلة التي تجد لها صدى عند ضِعاف الإيمان بحيث تمنعهم عن الطاعة، ولذلك جاء الرد الرباني علاجاً دقيقاً "قل نار جهنم أشد حرا "، أي إن ما تفرون منه هو ما ستلاقونه إن نكصتم عن أمر الله ...(1/468)
- هؤلاء المُخذِّلون المخذولون خاتمة مطافهم الإتباع ولكن طمعاً في الغنائم، وهؤلاء في الجيش ما يزيدوه إلا رهقا، فلا يجب أن يؤخذوا ولا أن يُقاتلوا مع المؤمنين، وفي هذا العلاج الرباني استئصال لأسباب الخذلان من المنافقين، والقاعدة من رضي بالقعود أول مرة غير ممتنع بحقه أن يُخذل الجيش في وسط المعركة ليقعد مرة أخرى، وتقعيداً لهذا المبدأ وهو عدم إخراج المخذلين مع من يريد الخروج لأنهم لا يزيدون الجيش إلا وهناً، قال جل في علاه: "وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" [التوبة47،46]، قال القرطبي: الخبال: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. والمعنى: أي ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال.
- لا يخرج المخذلون مع الجيش:
قال الشافعي في الأم: فأظهر الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أسرارهم وخبر السماعين لهم وابتغاءهم أن يفتنوا من معه بالكذب والإرجاف والتخذيل لهم، فأخبره - سبحانه وتعالى - أنه كره انبعاثهم فثبطهم إذ كانوا على هذه النية، كان فيهم ما دل على أن الله - عز وجل - أمر أن يمنع من عرف بما عرفوا به، من أن يغزو مع المسلمين لأنه ضرر عليهم... فمن شهد بمثل ما وصف الله تعالى المنافقين لم يحل للإمام أن يدعه يغزو معه، ولم يكن لو غزا معه أن يسهم له ولا يرضخ، لأنه ممن منع الله - عز وجل - أن يغزو مع المسلمين لطلبه فتنته وتخذيله إياهم، وأن فيهم من يستمع له بالغفلة والقرابة والصداقة، وإن هذا قد يكون ضرراً عليهم من كثير من عدوهم.(1/469)
وقال ابن قدامة في المغني: ولا يستصحب الأمير معه مخذلاً وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويُزَهِّدَهم في الخروج إليه والقتال والجهاد، مثل أن يقول الحر أو البرد الشديد والمشقة شديدة، ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا، ولا مرجفاً وهو الذي يقول: قد هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد وصبر ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار وإطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد لقول الله تعالى: "وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ "[التوبة: 46-47]. ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزمه منعهم.
- "نعيم بن مسعود" رجل التخذيل الأول:
جاء في كثير من كتب السيرة قصة "نعيم بن مسعود" ودوره في التخذيل يوم الأحزاب، فهل هو الذي قام بهذا الدور، أم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من استخدمه ليخذل الأحزاب دون أن يشعر؟(1/470)
المشهور في كتب السيرة أنه جاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلماً، وهو الذي صنع المكيدة بين قريش واليهود، جاء في الزاد تفصيل للذي فعله "نعيم" فقال ابن القيم: فكان مما هيَّأَ مِن ذلك، أن رجلاً مِن غَطَفَانَ يُقَال له : نُعَيْمُ بنُ مسعود بنِ عامر - رضي الله عنه -، جاء إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال : يا رسول اللهِ إني قد أسلمتُ، فمرني بما شئت، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّ الحَرْبَ خَدْعَة" ، فذهب مِن فوره ذلك إلى بنى قُريظة، وكان عسيراً لهم في الجاهلية، فدخل عليهم، وهم لا يعلمون بإسلامه، فقال : يا بنى قُريظة؛ إنكم قد حاربتُم محمداً، وإن قريشاً إن أصابُوا فُرصة انتهزوها، وإلا انشمَرُوا إلى بلادهم راجعين، وتركُوكُم ومحمداً، فانتقم منكم . قالوا : فما العملُ يا نُعيم ؟ قال : لا تُقاتِلُوا معهم حتى يُعطوكم رهائِن، قالوا : لقد أشرتَ بالرأى، ثم مضى على وجهه إلى قُريش، فقال لهم : تعلمون وُدِّى لكم، ونُصحى لكم، قالوا : نعم . قال : إن يهودَ قد نَدِمُوا على ما كان منهم من نقضِ عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلُوه أنهم يأخذون منكم رَهائِنَ يدفعونَها إليه، ثمَ يُمالِئُونه عليكم، فإن سألوكم رهائِنَ، فلا تُعطوهم، ثم ذهب إلى غَطَفَان، فقال لهم مِثْلَ ذلِكَ، فلما كان ليلةُ السبت من شوَّال، بعثوا إلى اليهود : إنَّا لسنا بأرض مُقام، وقد هلك الكُراعُ والخُفُّ، فانهضُوا بنا حتى نُنَاجِزَ محمَّداً، فأرسل إليهم اليهود : إن اليومَ يومُ السبت، وقد علمتم ما أصاب مَنْ قبلنا أحدثُوا فيه، ومع هذا فإنَّا لا نُقاتِلُ معكم حتى تبعثوا إلينا رَهائِنَ، فلما جاءتهم رُسُلُهُم بذلك، قالت قُريش : صدقَكُم واللهِ نُعيم، فبعثوا إلى يهود : إنَّا واللهِ لا نُرسِلُ إليكم أحداً، فاخرجُوا معنا حتى نُناجِزَ محمداً، فقالت(1/471)
قُريظة : صدقكم والله نُعيم، فتخاذلَ الفريقانِ.
[ابن إسحاق والواقدي وعبد الرزاق وموسى بن عقبة......]
والصحيح في القصة أن نعيم بن مسعود قد استغله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتخذيل بين الفريقين دون أن يشعر، بمعنى آخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصب لنعيم فخاً محكماً انزلق فيه "نعيم" بدافع حبه لنقل الشائعات وتداول كل ما يترامى إلى مسامعه من أخبار، فلما رأى الصدق في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ما لم يُعهد عليه غيره، أقنع نفسه أن ما يقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كله صدق، فقام بدافع شهوة الحديث إلى نقل الخبر، فأوقع الفتنة بين الأحزاب دون أن يعلم أنه بهذا يقدم أعظم خدمة للمسلمين وهي تخذيل الأحزاب.
وقبل الخوض في الذي فعله نعيم بن مسعود في الأحزاب لابد من استعراض الأدلة على طبيعة "نعيم "بنقل الكلام، وهل هذا من سليقته وجبلته؟؟
جاء في الرحيق المختوم: سرية زيد بن حارثة: وهي آخر وأنجح دورية للقتال قام بها المسلمون قبل أحد … وتفصيلها : أن قريشاً بقيت بعد بدر يساورها القلق والاضطراب، وجاء الصيف، واقترب موسم رحلتها إلى الشام، فأخذها هَمٌّ آخر .
قال صفوان بن أمية لقريش ـ وهو الذي نخبته قريش في هذا العام لقيادة تجارتها إلى الشام : إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل ؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء . وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء .(1/472)
ودارت المناقشة حول هذا الموضوع، فقال الأسود بن عبد المطلب لصفوان : تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق ـ وهي طريق طويلة جداً تخترق نجداً إلى الشام، وتمر في شرقي المدينة على بعد كبير منها، وكانت قريش تجهل هذه الطريق كل الجهل ـ فأشار الأسود بن عبد المطلب على صفوان أن يتخذ فُرَات بن حَيَّان ـ من بني بكر بن وائل ـ دليلاً له، ويكون رائده في هذه الرحلة .
وخرجت عير قريش يقودها صفوان بن أمية، آخذة الطريق الجديدة، إلا أن أنباء هذه القافلة وخطة سيرها طارت إلى المدينة . وذلك أن سَلِيط بن النعمان- كان قد أسلم - اجتمع في مجلس شرب- وذلك قبل تحريم الخمر-مع نعيم بن مسعود الأشجعي- ولم يكن أسلم إذ ذاك - فلما أخذت الخمر من نعيم تحدث بالتفصيل عن قضية العير وخطة سيرها، فأسرع سليط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يروي له القصة .
وفي سبل الهدى والرشاد: قال أبو سفيان مخاطباً بعض زعماء قريش: قد بعثنا نعيم بن مسعود لأن يخذل أصحاب محمد عن الخروج، وهو جاهد، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نرجع- في حديث بدر الآخرة أو بدر الموعد-، فإن كان محمد لم يخرج بلغه أنا خرجنا فرجعنا، لأنه لم يخرج، فيكون هذا لنا عليه، وإن كان خرج أظهرنا أن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام عشب. قالوا: نعم ما رأيت.(1/473)
وجاء في الطبقات الكبرى لابن سعد وسبل الهدى والرشاد للدمشقي: لما أراد أبو سفيان بن حرب أن ينصرف يوم أحد نادى بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول نلتقي بها فنقتتل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب قل نعم إن شاء الله فافترق الناس على ذلك ثم رجعت قريش فخبروا من قبلهم بالموعد وتهيئوا للخروج فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج وقدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة فقال له أبو سفيان إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي ببدر وقد جاء ذلك الوقت وهذا عام جدب وإنما يصلحنا عام خصب غيداق وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيجترئ علينا فنجعل لك عشرين فريضة يضمنها لك سهيل بن عمرو على أن تقدم المدينة فتخذل أصحاب محمد قال نعم، ففعلوا وحملوه على بعير، فأسرع السير فقدم المدينة فأخبرهم بجمع أبي سفيان لهم وما معه من العدة والسلاح.
حتى إن القرطبي قال في قوله تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"[آل عمران 173]، قال: قال مجاهد ومقاتل وعكرمة والكلبي: هو نعيم بن مسعود الأشجعي.
إذن هذه هي طبيعة نعيم بن مسعود: حب الحديث ونقل الكلام وإفشاء الأسرار والوقوع في النميمة وهذا كله في جاهليته، ولخبرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنفوس الرجال استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يستخدم هذا الرجل في خدمة الإسلام والمسلمين فما الذي حدث؟(1/474)
كان نعيم بن مسعود رجلاً مأموناً عند الكل سواء قريش أو غطفان أو اليهود وحتى المسلمون لموادعة تجارية كان مشهوراً بها، فكان يدخل على الجميع ويحدث الجميع، فلما كانت الخندق جاء عند المسلمين ونقل حديث المشركين فقال: إني كنت عند عيينة بن حصن الفزاري وأبي سفيان بن حرب إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن أثبتوا، وابعثوا إلينا رجالا حتى نقاتل محمدا مما يلي المدينة، فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم، وتقاتلونه أنتم مما يلي الخندق!، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما سيقع من محاصرة المسلمين من جميع الجهات بما فيها الداخلية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلعلنا أمرناهم بذلك"، ففهمها نعيم على أنها مكيدة من اليهود ليسلموا محمد - صلى الله عليه وسلم - كبار رجال قريش وغطفان قوم نعيم، فأسرع بفطرته المجبولة على النم والنقل إلى غطفان ليخبرهم بما سمع، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن كان هذا الأمر من الله فأمضه، وإن كان رأيا منك فإن شأن قريش وبني قريظة أهون من أن يكون لأحد عليك فيه مقال!، والمقصود من قول عمر:ألا تجرب العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذباً، فقال - صلى الله عليه وسلم -:"بل هو رأي رأيته، إن الحرب خدعة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:علىَّ الرجل، ردوه"، فردوه فقال: "أرأيتك الذي سمعتني أذكره آنفا...أمسكتُ عنه، فلا تذكره لأحد!"، وفي ذلك إغراء لنعيم بنقل الحديث باعتبار أنه سر عظيم وقع عليه "نعيم".(1/475)
فانطلق نعيم حتى أتى عيينة بن حصن ومن معه فقال لهم: هل علمتم أن محمداً قال شيئا قط إلا حقاً، قالوا: لا، قال: فإنه قد قال لي فيما أرسلت به إليكم بنو قريظة:"فلعلنا نحن أمرناهم بذلك"، ثم نهاني أن أذكر لكم ... فانطلق عيينة بن حصن حتى لقي أبا سفيان بن حرب فأخبره، فقال أبو سفيان: سنعلم ذلك إن كان مكرا، فأرسل إلى بني قريظة: أنكم قد أمرتمونا أن نثبت، وطلبتم رجالاً منا يقاتلون معكم، وأنكم ستخالفون المسلمين إلى بيضتهم، فأعطونا بذلك رهينة، فقالوا: إنها قد دخلت ليلة السبت، وإنا لا نقضي في السبت شيئا، فقال أبو سفيان: إنما أنتم في مكر من بني قريظة، وإنهم لأهل غدر: فارتحلوا.
ووقع الخذلان بين القوم بفضل الله ورحمته.
أما القصة المشهورة فمدارها على ابن إسحاق وعنه رواها الكل، وأما القصة الحقيقية فعلى الرغم من صحة أسانيدها فلم تأت في كتب السيرة، جاء في فتح الباري رواية القصة المشهورة ثم أتبعها ابن حجر بقوله: قال ابن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة أن نعيماً كان رجلا نماماً وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن اليهود بعثت إليّ إن كان يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا ندفعهم إليك فتقتلهم فعلنا"، فرجع نعيم مسرعاً إلى قومه فأخبرهم، فقالوا:والله ما كذب محمد عليهم، وإنهم لأهل غدر، وكذلك قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم".
وهذا إسناد صحيح وفيه تصريح ابن إسحاق بالسماع فأمن من تدليسه وهذا غير متحقق في الرواية المشهورة فهي لا سند، وقد ذكر الحافظ في الإصابة في تمييز الصحابة اسناداً صحيحاً على شرط مسلم للقصة الحقيقية وهي في المصنف بإسناد جيد.
- محاولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التخذيل بين الأحزاب:(1/476)
فى المغازي النبوية لابن شهاب الزهري: "أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عيينة بن حصن الفزاري وهو يومئذ رأس المشركين من غطفان، وهو مع أبي سفيان: أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمار الأنصار أترجع بمن معك من غطفان، وتخذل بين الأحزاب؟
- أبو سفيان يُخذل قومه في فتح مكة:
وحديث أبو سفيان شبيه بما حدث مع نعيم بن مسعود، فقد استفاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حب أبي سفيان للوجاهة، في تخذيل قومه عن الحرب وإلجائهم إلي البيت الحرام وبيوتهم وبيت أبي سفيان وعدم محاربة المسلمين، جاء في الزاد بعد استعراض الكتائب التي أعز الله بها دينه وعرضها أمام أبو سفيان وقول العباس لأبي سفيان: النَّجاء إلى قومك ... ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صرخ بأعلى صوته : يا معشرَ قُريش؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة، فأخذت بشَاربه، فقالت : اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال : ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا : قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك ؟ قال : ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد.
- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخذل بين بني فزارة وخيبر:(1/477)
في الزاد: قال موسى بن عقبة : كانت بنو فَزارة ممن قدم على أهلِ خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يُعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبَوْا عليه، فلما فتح اللهُ عليه خيبَر، أتاهُ مَن كان ثَمَّ من بني فزارة، فقالوا : وعدك الذي وعدتنا، فقال : "لكم ذو الرُّقيبة جبل من جبال خيبر"، فقالوا : إذاً نُقاتلك .، فقال : "مَوْعِدُكم كذا" ، فلما سَمِعُوا ذلك مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرجوا هاربين .
- أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - معبد الخزاعي بالتخذيل بين المشركين بعد رجوعهم من أحد:(1/478)
نقل الطبري عن عمرو بن حزم قال: مر به, يعني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - معبد الخزاعي بحمراء الأسد, وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتهامة صفقتهم معه, لا يخفون عليه شيئا كان بها, ومعبد يومئذ مشرك, فقال: والله يا محمد, أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك, ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حمراء الأسد, حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء, قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, وقالوا: أصبنا في أحد أصحابه وقادتهم وأشرافهم, ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. قال: رأى أبو سفيان معبدا, قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط, يتحرقون عليكم تحرقا, قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم, وندموا على ما صنعوا, فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال:فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك ! ... قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه, ومر به ركب من عبد القيس، قالوا:أين تريدون ؟ قال: نريد المدينة، قال: ولم؟، قال: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها, وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قال: نعم. قال: فإذا جئتموه, فأخبروه أنا قد أجمعنا للسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم ! فمر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد, فأخبروه بالذي قال أبو سفيان, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حسبنا الله ونعم الوكيل ".(1/479)
وفي الزاد وابن هشام أن فعل معبد كان بعد اسلامه مع أن قومه مسلمهم ومشركهم كانوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الناصحين، قال ابن القيم: أقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه...
ونختم بما أخرجه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع عن جابر و أبي طلحة بن سهل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من امرئ يخذل امرءا مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه, وينتهك فيه من حرمته, إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلما في مواطن ينتقص فيه من عرضه, وينتهك فيه من حرمته, إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته".
حرب الرعب
قد يغلب على الظن أو تسول النفس أن امتلاك القوة المادية، من سلاح ومال ورجال هو مفتاح النصر، نعم، لها الدور الفعال والحسم الواضح، ولكنها تبقى جزء من منظومة إذا اكتملت حلقاتها ظهرت نتائجها المرجوة، وإذا ضعفت كانت الخسارة بقدر هذا الضعف.
جاءت سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتُظهر جلياً سبب من آكد أسباب النصر لهذه الأمة، إنها الهيبة التي تملكت قلوب أعدائها، إنه الرعب الذي يقهرهم وهم في أمنع حصونهم.
سلاح "الرعب" هبة الله لنبيه ولأمته، في مقابل نزعه من غيرهم، أو هو من خصوصيات أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعند البخاري في الصحيح عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُعطيت خمساً لم يُعطهنّ أحد قبلي: "... ونصرت بالرعب مسيرة شهر".(1/480)
إنه الرعب الذي يأسر العقول ويقهر القلوب فتُولي الجيوش الأدبار وتنخلع الأوصال، يظهر أثره في أيما موضع وفي أكثر من مكان وهو مُشاهد بالعيان، لا يُجادل فيه إلا كل جاحد للحق مُنكر للبرهان، أو هاوٍ في جُرف الباطل، وقد كان على صعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذاته وشخصه في مواطن، وفي مواطن أُخر ظهر أثره في سرايا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتلك قريشٍ بجبروتها، وقسوتها وطغيانها، تقف ذليلة منكسرة أمام هيبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقوله ومنطق بيانه يتعاظم عندها عن قرع الأسنة وضرب الرماح، كيف لا وهو القائل: "لقد جئتكم بالذبح".
تجتمع قريش لتسخر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتهزيء به، فيقول وما امتلك سلاحاً ولا رجالاً: "تسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فبلغ بهم الرعب مبلغاً عظيماً، ووقعت هذه الكلمة في قلوبهم موقعها، فوجم القوم واضطربوا من كلمته، حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وضاءة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول ليسترضيه فيقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنت جهولاً. [رواه أحمد].
وهذا عتبة بن ربيعة يأتي ليسمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض قوله، فيتلو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سورة " فُصلت " حتى وصل إلى قوله تعالى: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ "[13]، أصاب عتبة الرعب، وقال: حسبك حسبك، ووضع يده على فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير. [تفسير ابن كثير].(1/481)
وفي غزوة ذات الرقاع ، ينزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيشه وادياً ويتفرّق الناس، ويعلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه وتغفو عيناه - ولا ينام قلبه- ليوقظه صوت أعرابي قد شهر السيف: "من يمنعك مني؟" فقال - صلى الله عليه وسلم - كلمة واحدة زلزلت الرجل واقتلعت قلبه وانفكت معها عُقد أعصابه: "الله"، فارتعد الرجل وارتعب وسقط السيف من يده من هول وقع الكلمة، ليأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف ويقول: "من يمنعك مني؟" ويتحول التهديد إلي انكسار، والوعيد إلى رجاء، ويعفو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [البخاري].
وعند البخاري أيضاً من حديث أبي سفيان عند هرقل ملك الروم، قال هرقل: ليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ، فلما سمع ذلك أبو سفيان قال لأصحابه بعد خروجهم: "إنه ليخافه ملك بني الأصفر ".
وأما على صعيد الأمة، فقد انتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في معركة بدر بعد أن قذف الله الرعب في قلوب الذين كفروا، كما قال ربنا: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ" [الأنفال 12].
وفي أحد بعد انتصار قريش المؤقت ورجوعهم إلى مكة ندموا على عدم استئصال شأفة المسلمين، وتلاوموا فيما بينهم وتشاوروا بل عزموا على إعادة الكرة، فألقى الله في قلوبهم الرعب، ونزل في ذلك قوله تعالى: "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ "[آل عمران 151] أخرجه ابن أبي حاتم.(1/482)
وفي معرض الحديث عن هزيمة يهود بني النضير، وإجلائهم عن ديارهم وتخريبهم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، قال تعالى عنهم: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ"[الحشر2].
وحين خانت بنو قريظة الوعد ونكصت العهد، وتسابق ركب الموحدين بين مؤجل للصلاة وبين مقيم، وضرب الحصار، ولم يجد "يهود" مناص من التسليم، استسلموا وفتحوا أبواب الحصون لخيل المجاهدين ونزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، بعد أن خارت قواهم وانهارت معنوياتهم وقذف الله الرعب في قلوبهم، قال سبحانه: "وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا" [الأحزاب 26].
وفي غزوة تبوك ترامى لمسامع الروم ومن والاهم من القبائل العربية، بمسير جحافل المؤمنين يقدمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه لقتالهم، فتفرقوا من بعد جمع وانهزموا من غير قتال، وآثروا السلامة في النفس والمال والأرض ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، على الرغم من تفوّقهم في العدد والعدة، ولكنه الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعدائه.[ابن هشام].
وقد حث الله سبحانه على الإعداد المادي بأي قدرة وحسب الوسع وبقدر الموجود مع الترغيب بالزيادة، وما ذاك إلا لأمر علمه الله في قلوب الأعداء، وهو خوفهم ورعبهم من كل ما يعرضهم للموت، قال تعالى: "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ " [الأنفال60].(1/483)
بل إن الله سبحانه أخبر بمكنونات النفوس وما تخفيه الصدور، فأرشد عباده المؤمنين بما يضمن لهم النصر بعد إقدامهم على حمل اللواء، مما لا إشارة فيه لعدد ولا عدة، فقال عز من قائل: "لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ "[الحشر13].
في فتح مكة أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُرى أبو سفيان قوة المسلمين، فحبسه عند مضيق الجبل، ومرت القبائل المسلمة براياتها كلما مرت واحدة قال أبو سفيان: ما لنا ولهؤلاء؟ حتى جاءت الكتيبة الخضراء كتيبة المهاجرين والأنصار يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو سفيان: ما لأحدٍ بهؤلاء من قبل ولا طاقة... إذا فأدرك قومك أبا سفيان.
فرجع أبو سفيان مسرعاً إلى مكة، ونادى بأعلى صوته بل بملء جوفه: يا معشر قريش، هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل داري فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فهرع الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وأغلقوا الأبواب عليهم وهم ينظرون من شقوقها وثقوبها إلى جيش المسلمين، فسبحان من قذف الرعب والمهابة في قلب أبي سفيان من تلك الكتيبة ومن قائدها، والرواية ذكرها ابن هشام في السيرة.
ولو أردنا تقصياً لحروب الصحابة ومن بعدهم من جند الإسلام لرأينا فيها العجب العجاب، ولولا صحة النقل لقلنا هو ضرب من خيال بل هو الشئ المحال، ولا محال فهم تربية السبع الطوال، كان الواحد منهم يحمل على الجيش فيولون الأدبار، ويحمل الجيش الصغير العدد عظيم المنهج على الألوف بل مئات الألوف، وما يقيمون لهم وزناً، فهم الذين أطاعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا التنزيل، وصدق جل في علاه: "لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ"[الحشر13]..
- "الرعب" يهزم أبا جهل:(1/484)
عند الطبراني في المعجم وابن هشام: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن سرية حمزة التي قصدته في تجارته، قال: يا معشر قريش إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذروا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم نفيتموه نفي القردان [دويبة تعض الإبل والبهائم] على المناسم [: طرف خف البعير والنعامة، والفيل والحافر، وقيل: هي للناقة كالظفر للإنسان]، والله إنه له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم عرفتم عداوة ابني قيلة [الأوس والخزرج نسبة إلى أمهم] فهو عدو استعان بعدو.
- جبريل - عليه السلام - بسلاح الرعب يهزم قريظة:
قال ابن القيم في الزاد بعد أحداث الخندق: لما انصَرَفَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم يكن إلا أن وضع سِلاحه، فجاءه جبريلُ، فقال : أوضعتَ السِّلاح ؟ والله إن الملائكةَ لم تضع أسلحَتِها، فانهض بمن معكَ إلى بني قُريظة، فإني سائرٌ أمامك أُزلزل بهم حصونَهم، وأقذِف في قلوبهم الرُّعبَ، فسار جبريلُ في موكبه من الملائكة، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أثره في موكبه مِن المهاجرِين والأنصار، وقال لأصحابه يومئذ : " لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُم العَصْرَ إِلا في بنى قُرَيْظَةَ "، فبادروا إلى امتثال أمرِه، ونهضُوا مِن فورهم، فأدركتهم العصرُ في الطريق، فقال بعضُهم : لا نُصليها إلا في بنى قُريظة كما أمرنا، فصلَّوها بعد عشاء الآخرة، وقال بعضُهم : لم يُرِدْ منَّا ذلك، وإنما أراد سُرعة الخروج، فَصَلَّوْهَا في الطريق، فلم يُعنِّفْ واحدة من الطائفتين .
- "الرعب" وغزوة بني لحيان:(1/485)
في الزاد وابن هشام: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى لِحْيَان بَعْدَ قُرَيْظَةَ بستة أشهرِ لِيغزوهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل، وأظهر أنه يُريد الشام، واستخلف على المدينة ابنَ أُمِّ مكتومٍ، ثم أسرعَ السير حتى انتهى إلى بطن غُرَانَ، وادٍ من أودية بلادهم، وهُوَ بين أمَج وعُسفان حيث كان مُصابُ أصحابه، فترحَّم عليهم ودعا لهم، وسَمِعَتْ بنو لِحْيَان، فهربُوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر مِنهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يَقْدِرُوا عليهم، فسار إلى عُسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُراع الغَمِيم لِتسمعَ به قُريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبتُه عنها أربعَ عشرة ليلة .
- "الرعب" وفتح خيبر وما بعد خيبر:
في الزاد والرواية في الصحيحين: ولما قَدمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، صلَّى بها الصُّبحَ، وركب المسلمون، فخرج أهلُ خيبر بمساحِيهم ومكاتِلهم، ولا يَشْعُرونَ، بل خرجُوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش، قالوا : محمَّدٌ واللهِ، محمَّدٌ والخميسُ، ثم رجعوا هاربين إلى حصونهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِين" .(1/486)
وقال الواقدى : قال أبو شُييم المزنى وكان قد أسلم فحسن إسلامه: لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن، رجع بنا عُيينة، فلما كان دون خيبر، عرَّسنا من اللَّيل، ففزِعنا، فقال عُيينة : أبشروا، إني أرى الليلة في النوم أنني أُعطيت ذا الرُّقيبة جبلاً بخيبر قد واللهِ أخذتُ برقبة محمد، فلما قدمنا خيبر، قدم عُيينة، فوجد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتح خيبر ، فقال : يا محمد، أعطني ما غنمتَ من حلفائي، فإني انصرفتُ عنك، وقد فرغنا لك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "كَذَبْتَ ولكِنَّ الصِّيَاحَ الذي سَمِعْتَ نَفَّرَكَ إلى أهْلِكَ"، قال : أجزني يا محمد، قال : "لك ذو الرقيبة" ، قال : وما ذو الرقيبة ؟
قال : "الجبلُ الذي رأيتَ في النوم أنك أخذته"، فانصرف عُيينة، فلما رجع إلى أهله، جاءه الحارث بن عوف، فقال : ألم أقل لك إنك تُوضِع في غير شيء، واللهِ لَيَظْهَرَنَّ محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يُخبروننا بهذا.(1/487)
وفي الزاد وعند ابن سعد: قدم حُسيل بن نُويرة، وكان دليلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خَيْبَر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما وراءك ؟" قال : تركتُ جمعاً من يَمَن وغَطَفَان وحيَّان، وقد بعث إليهم عُيينة : إما أن تسيروا إلينا، وإما أن نَسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سِرْ إلينا، وهم يُريدونك، أو بعضَ أطرافك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً : ابعث بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل، ويكمنُوا النهار، وخرج معهم حُسيل دليلاً، فساروا الليل وكمنوا النَّهارَ، حتى أتوا أسفل خَيْبَر، حتى دَنَوْا مِن القوم، فأغاروا على سرحهم وبلغ الخبرُ جمعهم فتفرَّقوا، فخرج بشير في أصحابه حتى أتى محالَّهم، فيجدُها ليس بها أحد، فرجع بالنَّعم، فلما كانوا بسلاح، لَقُوا عيناً لعُيينة، فقتلوه، ثم لقُوا جمعَ عُيينة وعُيينة لا يشعُرُ بهم، فناوشوهم، ثم انكشفَ جمع عُيينة، وتبعهم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأصابُوا منهم رجلين، فَقَدِمُوا بهما على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلما فأرسلهما.
وقال الحارث بن عوف لعُيينة وقد لقيه منهزماً تعدُو به فرسه : قف ، قال : لا أقدِرُ خلفي الطلب، فقال له الحارث : أما آن لك أن تُبصرَ بعضَ ما أنت عليه، وأن محمداً قد وطأ البلادَ، وأنت تُوضع في غير شيء ؟ قال الحارث : فأقمتُ مِن حين زالت الشمسُ إلى الليل وما أرى أحداً، ولا طلبوه إلا الرعبَ الذي دخله .
حرب الشائعات
جاء في المحيط: الإشاعة: خبر غير موثوق به ينتشر بين الناس.(1/488)
"حرب الشائعات" هي حرب معلومات مجهولة المصدر والوجهة، مزيفة للحقائق تهدف للتأثير على نفسية الخصم، وجعله تربة خصبة لاستقبال وتنفيذ مخطط خصمه، وهي لا تستقل بنفسها، بل تكون توطئة وتمهيداً للحرب الفعلية، وهي جزء من "الحرب النفسية" وموطنها الأصلي "الحرب الإعلامية".
تستهدف "حرب الشائعات" نفسية الخصم، ومرتعها حالة الخوف أو الهلع التى تُسيطر علي النفوس خوفاً من المجهول القادم، ليجد لها الصدى عند ذوي النفوس الضعيفة، قال تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين"[آل عمران 173-175].
- تنبع خطورة حرب الشائعات من قائلها ومروجها على السواء:
أما من جهة القائل، فموقعه أو حجمه أو اعتماده مبدأ السرية في التصريح يُضيف واقعاً مرعباً إذا تسرب منه قول أو بادرة فعل، وها هنا موقف يوضح حالة الرعب التى تُسيطر علي النفوس من ترامي الأخبار بالغزو، جاء في الرحيق والحديث في الصحيح: "وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان، للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان .(1/489)
ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً في هذه السنة -9هـ - وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته، فظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق . يقول عمر بن الخطاب - وهو يروي هذه القصة : وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر - وكانا يسكنان في عوالى المدينة، يتناوبان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال : افتح، افتح، فقلت : جاء الغساني ؟ فقال : بل أشد من ذلك، اعتزل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أزواجه .
وفي لفظ آخر: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ، فرجع عشاء، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أنائم هو ؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ما هو ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - نساءه ".
" لكل شائعة نصيب من الحقيقة " وهذا ما جعل الصحابة يرتعبون من ترامي الأخبار بهجوم الغساني على المدينة.
أما خطورة الشائعة من جهة المُروّج، فإن من يتناقلها ويتداولها هم رجال المجتمع المستهدَف نفسه، فلا يأتي العدو ليقول ويتحدث، بل إن الخبر إذا وصل لطويل اللسان تكفل بنقله بالمجان، وأصبح لساناً يتحدث بمقال خصمه، وهنا الأزمة: حين يظن السامع أن أخاه صادق فيما يقول مع أنه أكذب الكذابين.(1/490)
وحدة الخطورة تزداد بمضاعفة الحديث أو المزايدة على النقل، فليت الأمر يتوقف عند نقل ما وصل إلى الأذن بل يتعداه بالتزويق والتلوين والبهرجة والزخرفة، بحيث يصبح جبلاً بعد أن كان حصاة، ففي غزوة "بني المصطلق" وإشاعة الخبيث ابن أبي ابن سلول لحادثة الإفك أراد عمر - رضي الله عنه - قتل هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف يا عمر إذا تحدث الناس إن محمدًا يقتل أصحابه"[ابن سعد والحديث في الصحيح].
وهنا ملاحظات:
- الأولى: إرادة عمر قتل واحد فلم يتعداه القول ليصبح: "أصحابه"؟
هذه طبيعة المتكلم، يستقل نقل خبر قتل واحد، فيُضيف إليه ثان حتى يستحق الخبر النقل، وهكذا كل ناقل لتصبح المحصلة: "محمد يقتل أصحابه"، وهذا مُشاهد وملموس في وصف أي معركة يكون القتيل فيها واحد، فيضاف إليه آخر بجراح خطرة وخمسة متوسطة وعشرون خفيفة، مع أن كل من خاض المعركة لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وليس غريباً أن يبدأ الخبر برؤية فتاة تسأل شاباً عن عنوان، لينتهي الخبر برؤيتها تحمل غلاماً من الزنا.
- الثانية: الناقل – في الأغلب - لن ينقل بقصد أو بدونه، أن القتيل منافق ويستحق القتل، بل سينسج قصة من بنيات أفكاره ليستغلها في إيصال المعلومات الخاطئة، بحيث يُصنف ابن أبي ابن سلول في مصاف خير الصحابة، ويجعل عمر هو الظالم الباغي القاتل.(1/491)
- الثالثة: قد لا يجد الناقل كبير فائدة في ترويج حادثة قتل رجل من المنافقين ويكون القاتل عمر، ولكن حين يُنسب الفعل للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يُلاقي من القبول ما لا يلاقيه إن كان القاتل أو الآمر أحد الصحابة، بالرغم من علم الناقل أو جهله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أمر وربما ما علم، مثاله ما حدث في سرية عبد الله بن جحش التي قاتلت في الأشهر الحرم وكيف اتخذتها قريش ذريعة لتأليب العرب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأنه اخترق كل ما تعارف عليه العرب، ولولا أن الله حسم الموقف بقرآن يُتلى، لبقيت المدينة في بلبلة وقلق إلي حين.
وأما تأثير الشائعة فهو جد خطير على المجتمع المسلم من الجبهة الخارجية والداخلية على السواء، فهي تدعم ذوي التيارات المناهضة للدولة إلى التحرر من الطاعة والانطلاق في فلك الإفساد الداخلي، بزرع بذور الدسائس والشك والبلبلة والفتنة في الصف المُستهدف وهي تسعى بالأساس:
أولاً: التفريق بين القادة والجند وهي على ضربين:
الأول: شخص القائد: كما فعلها ابن أبي بالطعن في شرف الطاهرة المشرفة المبرأة عائشة -رضي الله عنها وجعل حبها وأبي بكر وعمر ميزان الحق بين الخلق-، فقد علم الخبيث أن الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما له إليه من سبيل، فطعن بالمُقدس عند العرب، وقد فعلها الزنديق في غزوة بني المصطلق و"جيش الإسلام" خارج المدينة، وهذا يدل على الحرج في توقيت الإشاعة، وقد وقع في الفخ حسان ومسطح وحمنة رضي الله عنهم.[ذكر الأسماء الطبري في التفسير وابن حجر في الفتح].
وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخوض غمار مثل هذا السفه، بأن يطعن في شرف الحرائر من خصومه، بل حتى قريش بما فيها من شرك وكفر وحرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم تجرؤ على هذه الحرب وهي الطعن بشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/492)
الثاني: سيرته: كما حدث في تقسيم الغنائم بعد حنين، فقد روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : لما أعطى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما أعطى من تلك العطايا – يقصد إعطاء المؤلفة قلوبهم - في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في أنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم : لقي واللّه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء . قال : "فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ " قال : يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي ، قال : " فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة "، فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال : لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال : " يا معشر الأنصار، ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ؟ " قالوا : بلي، اللّه ورسوله أمَنُّ وأفْضَلُ .(1/493)
ثم قال : "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ " قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه ؟ للّه ورسوله المن والفضل ، قال : " أما واللّه لو شئتم لقلتم، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ : أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسَيْنَاك ، أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم ؟
فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار "، فبكى القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا : رضينا برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا وحظاً .
لقد كان بامكان هذه الإشاعة والتي مفادها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى قبيلته ولم يُعطِ الأنصار، كان بإمكانها أن تُفرق الصف لما فيها من طعن بنزاهة وعدالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: بث روح اليأس في نفس الجيش:
وقد أصبحت هذه السياسة سليقة عند المنافقين، فهو مما عاهدوا عليه شياطينهم، تثبيط الجيش الإسلامي حتى ليصدق فيهم: المثبطون والمرجفون، فما كانوا ليدعوا معركة إلا ويخوضوا فيها بألسنتهم كذبا ًوتضليلاً لتفريق الصف وتشتيت الشمل، وأحاديثهم مشهورة مبثوثة، قال تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".[آل عمران 173].
ثالثاً: التفريق بين الأحلاف:(1/494)
كما حدث حين تردد الخبر في فتح مكة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيمكث فيها ولن يرجع إلى المدينة، قال صاحب الرحيق: ولما تم فتح مكة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - - وهي بلده ووطنه ومولده – قال الأنصار فيما بينهم : أترون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائه قال : "ماذا قلتم ؟ " قالوا : لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم".
كان بإمكان هذا القول الذي تردد بين الصحابة - رضي الله عنهم -، أن يفرق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين من نصره وآواه، بل يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وحاشاه- في صف الكاذبين فقد كان من حديث العقبة والمبايعة، أن أبا الهيثم بن التَّيَّهَان قال : يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم " .
- الإشاعة وأثرها:
1- غزوة أحد:
في "أحد" قتل ابن قمئه مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، ظاناً أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشبهه به، فصاح: إن محمداً قد قتل.(1/495)
قال المباركفوري: ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشركين والمسلمين ، وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بالتمثيل في قتلى المسلمين .
وبموقف يدل على أثر الإشاعة ولكنها عند الصحابة لها طعم خاص غير الانهزام الذي يُسيطر على الأعداء، هنا إقدام وشجاعة وقتل وضراب، قال ابن إسحاق : انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يُجلسكم ؟، قالوا: قُتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل، قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
2- صلح الحديبية:(1/496)
قال صاحب الرحيق: إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان: واحتبسته قريش عندها - ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة – وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغته الإشاعة : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه وقال : " هذه عن عثمان "، ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه.
فكان من أثر هذه الإشاعة المبايعة على الموت، وهذه البيعة – بيعة الرضوان -هي التي أثنى الله على أصحابها بقوله جل في علاه: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة" [ الفتح : 18 ] .
- غزوة الخندق:
جاء في مصنف عبد الرزاق بإسناد جيد وذكر الحافظ في الفتح سنداً مُصرحاً فيه بسماع ابن إسحاق وفي الإصابة سنداً على شرط مسلم: أن نعيم بن مسعود هو من أشاع حادثة اتفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود علي خذلان الأحزاب، وبحكم سليقته وجبلته في نقل الحديث لم يألُ جهداً في بذل النصيحة لقومه غطفان بما سمعه، قال الحافظ في الفتح بعد رواية القصة المشهورة الباطلة ثم أتبعها بقوله: قال ابن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة أن نعيماً كان رجلا نماماً وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن اليهود بعثت إليَّ إن كان يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا ندفعهم إليك فتقتلهم فعلنا"، فرجع نعيم مسرعاً إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمد عليهم، وإنهم لأهل غدر، وكذلك قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم".
- علاج ومواجهة حرب الإشاعات:(1/497)
ما قيل في مواجهة الحرب النفسية يقال هنا، ويكفينا من العلاج الوقاية كما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع".
وأما العلاج كسهم لا يخطئه راميه فنجده في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات 6].
حرب العصابات
جاء في محيط المحيط: كلُّ جماعةِ رجالٍ وخيلٍ بفُرْسانِها، أَو جماعةِ طير أَو غيرها: عُصْبة وعِصابَةٌ.
"حرب العصابات": تشكيلة قتالية من أفراد جمعهم مبدأ وعقيدة فكرية، تُقاتل في الأغلب جيشاً معادياً، بهدف إظهار مبدأ الجماعة أو تهييئ الظروف لإعلان التواجد الفكري على الأرض كواقع حي.
تمر "حرب العصابات" في أطوار، قلما بل لا نتجاوز الحد إن قلنا: لا يمكن أن تخرج عنها عند كل من يخوض هذه الغمار الحربية، وهذه الأطوار غير مرتبطة بزمن معين بل تختلف باختلاف الواقع العسكري من قدرات وإمكانات أو ظروف مواتية للعمل، وقد تختلط بحيث يصعب التمييز بينها، مع العلم أن المحصلة النهائية لحرب العصابات هو التوقف والانتقال إلى الحالة النظامية، وهذا ليس بالأمر الاختياري، فلو قدر الله لهذه الطائفة المقاتلة البقاء في وجه التحديات، ومن ثم الانتصار، فإنها ستتحول إلى كيان دولي يأخذ طابع الإمارة أو الدولة، وحينئذ ستختلف المعايير اختلافاً جوهرياً، على سبيل المثال: المبدأ في التنظيم الأولي هو السمو في الطرح وعدم التنازل عن معايير القبول، وبالتأكيد رفض من لا تنطبق عليه مواصفات الانتماء والالتزام بمبادئ الجماعة، ولكن حين تأخذ شكل الدولة والجيش النظامي فلا يُطرد حينئذ أحد أراد القتال من أجل الدولة التي يتمتع بحق الانتماء لها.
- أطوار حرب العصابات:(1/498)
صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمد هذه النظرية بالمعنى المعهود اليوم للحرب، ولكن قراءة واعية للحروب في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يُعطي جواً يمكن من خلاله فهم التأصيل الشرعي لمن يسير على درب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نقول: لم يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من الحروب لأن التشريع في مكة ما كان فيه الإذن بالقتال، بل الصبر والتحمل فقط، إلا في الناحية الفردية ومن باب رد الظلم وليس مبادرة المشركين بالقتال، يُوضحه غاية الوضوح قول العباس بن عبادة في بيعة العقبة الثانية : والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم"، فلما جاءت الهجرة وانتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، بل من علماء التفسيرمن قال: إن الإذن بالقتال نزل في طريق الهجرة، فلما نزل التشريع قام الإذن بالجهاد، وقد أخذت المدينة طابع الدولة والجيش النظامي أكثر منه ميلاً لحرب العصابات، مع بعض المسارات، والتي تدخل في حكم "الوحدات الخاصة"، ولا تُصنف ضمن "حرب العصابات" أيضاً، كالاغتيال أو الإغارة على القبائل أو التبييت والكمائن.
ومع ذلك فليس هناك فارق في هذه الأطوار بين تأسيس الدولة أو تهييئ الظروف لتأسيسها.(1/499)
عمدة حديثنا في "حرب العصابات" نموذج لم يتكرر في العهد النبوي، إنه أبو بصير، جاء حديثه عند البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه: حديث الحديبية وفيه: ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً "، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال يا نبى الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أي لأبي بصير وأبي جندل ومن معهما.
- الطور الأول: طور إثبات الوجود: وتمثل في:
1- الانتقال من حالة الاستضعاف إلى حالة القوة ولو كانت نسبية.(1/500)
2- بالرغم من كبرياء قريش وأنفتها فإنها لم تستطع إخفاء هلعها ورعبها من ظاهرة انتشار الإسلام، وتفشي ظاهرة الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، وكأني بهم فرعون حين قال: "إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ"[الشعراء 54]، ثم يخرج بنفسه وقادته ووزرائه وجيشه، الكل يخرج خلف هؤلاء القليل، فكيف لو كانوا كثير؟
وهو عين ما تكرر مع قريش، مما اضطرها رغماً عن أنفها للإقرار أن المؤمنين في مكة ليسوا قلة بحيث يسهل القضاء عليهم، فألزموا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وفي الحقيقة ألزموا أنفسهم بأن من جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم رده، ومن جاءهم من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه.
وهذا إقرار ثان أن جبهة محمد - صلى الله عليه وسلم - أصبحت مكاناً آمناً للمؤمنين بالدعوة الإسلامية، وهي ملاذ للمستضعفين، وأن من يأتي محمداً - صلى الله عليه وسلم - يصبح في منعة تعجز قريش عن اجباره للعودة لها أو طلبه بعدها، مما اضطرها لأن تطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد من يأتيه مسلماً فهي لن تقدر على إرجاعه، وحين وافق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم جاءته أم كلثوم بنت عقبة، وجاء الأمر الرباني بعدم ردهن، وافقت قريش على الرغم من أنف سادتها، فهم من يحتاج الصلح أكثر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أقر أبو سفيان بفشل قومه عن رد مسلمٍ عن دينه بالإقناع في محضر عظيم الروم هرقل حين سأله: قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا [البخاري].(2/1)
أما أبو بصير فقد ارتبط مجيئه للمدينة مهاجراً، بحادث سبقه في أحلك الأوقات عند إقرار العقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سهيل بن عمرو، حين جاء أبو جندل للرسول - صلى الله عليه وسلم - وطلبه أبوه سهيل فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهنا أتى أبو بصير فأرسلت قريش في طلبه أيضاً، ظناً منها أن ذلك يوهن من عزم الإسلام ورجاله.
3- دخل أبو بصير في مرحلة إثبات الذات بالقوة حين قتل من جاء ليرجعه إلي الكفار، ثم مطاردته للآخر حتى احتمى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سلبه للقتيل ومن ثم الانحياز للجبل، والإغارة علي قوافل قريش مما أزعجها وأرهقها وأعجزها عن القبض عليه، فاضطرت صاغرة أن ترجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُدخله في حِلفه.
4- تحيُز أبو بصير للجبل كان يعني أن من يرسم معالم "حرب العصابات" هم الرجال أنفسهم، فهم الذين يقررون الحرب في الوقت الذي يشاؤون وبالكيفية التي يشاؤون، وهو ما أقلق قريش خصوصاً أنه يستهدف أهم مصدر من مصادر رزقهم، التجارة والتي كانت تمثل العمود الفقري للقوة الاقتصادية القرشية.
5- إثبات الذات تمثل في التحاق ما بين الستين والسبعين من رجال مكة وعلى رأسهم أبو جندل إلى أبي بصير، ليشكلوا أول قوة عسكرية خارج إطار الدولة الإسلامية تنغص على قريش حياتها.
هذا الواقع في تصوره لا يختلف جوهرياً عن الحالة التي عاشها وطبقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقعاً حياً، وقد تمثل في سبع سرايا وغزوات تستهدف قوافل قريش في ذهابها وإيابها، وهذا يعني أن هؤلاء الرجال لا يهابون المعارك، فحين كانت حامية قافلة أبي جهل ثلاثمائة، كانت سرية حمزة تتكون من ثلاثين رجلاً وهي أول سرية خرجت في سبيل الله.(2/2)
فعدد هذه الإغارات في أقل من عام يُضفي جواً من الرعب عند خروج كل قافلة، وهو ما لم يكن في حسبان قريش فيما سبق، كيف لا والله قد أثنى علي نفسه سبحانه بالمن على قريش بالأمن في رحلة الشتاء والصيف، ولكن الحال الآن انعكس بما أرهق قريش واضطرت معه للاعتراف بهذه القوة الجديدة، قال صفوان بن أمية قائد إحدى القوافل المتجهة إلي الشام : إن محمداً وصحبه عَوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك ؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء .[السيرة النبوية].
خرجت السرايا والبعوث وبعضها كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائدها تقصد عير قريش، "بدأت التحركات العسكرية فعلاً بعد نزول الإذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات الاستطلاعية، وكان المطلوب منها:
- إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم .
- إنذار قريش عُقبَى طيشها، حتى تفيق عن غَيها الذي لا يزال يتوغل في أعماقها، وعلها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون أحراراً في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة .[الرحيق المختوم].(2/3)
وقد أدركت قريش هذا الخطر وهو ما دعاها لأن تعيش حالة القلق والاضطراب عند كل رحلة، خصوصاً "بعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلح والموادعة - كما فعلت جهينة وبنو ضمرة - ازدادوا حقداً وغيظا، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل : من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر . [الرحيق].
والمقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتقل من حالة الاستضعاف طوال الثلاثة عشر عاماً، إلى مرحلة إثبات القوة الإسلامية، وأن زمن الاستضعاف قد أفل نجمه إلى غير رجعة، وأن هناك قوة جديدة لا تستطيع قريش إنكارها، وهذا ما دعاها لخوض غمار حرب عسكرية قادتها إليها أقدار الله.
- الطور الثاني: طور التوازن:
وهو يعني الاقرار بقوة الخصم على أنها قوة لا تُكسر، أو الاعتراف بالعجز عن كسرها، وقد تمثل في مناشدة قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله والرحم أن يُلحق أبا بصير ومنه معه بإمارة الدولة الإسلامية.
فما الذي دعا قريشاً لأن تستجدي وتناشد وتسأل بالرحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكف يد هذه العصابة عن حربهم؟
إنه توازن الرعب، ليس بالضرورة التوازن الكمي أو الكيفي لعدد وقدرات الأفراد، بقدر ما هو عجز قرشي عن وضع حد لهذه القلة التي أرقت مضجعها وأقعدتها عن ممارسة تجارتها بأمان.(2/4)
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الطور مع قريش في "بدر" بعد الانتصار المذهل في المعركة، ومع أن المحصلة في "أحد" كانت بالتحيز أكثر منها صباً في وعاء الكفار حتى إنهم لم يتمكنوا من دفن موتاهم فضلاً عن الغنيمة أو الأسر، مع ذلك فقد وضعتها قريش في سلتها، وولت كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ليلحقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في "حمراء الأسد"، يقول أبو سفيان مقراً بهذا الطور أمام أعظم ملوك الأرض في ذلك الحين، جاء في الحوار كما عند البخاري: قال-هرقل -: فهل قاتلتمونه؟
قلت – أبو سفيان -: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
- ومن مظاهره:
1- التصرف ككيان مستقل في قراراته واختياراته، لا تخضع للضغوط ولا تتقبل الإملاءات، بل تنبع من فهمها للعقيدة التي يتبناها الأفراد، وهو ما ألزم أبا بصير ومن معه حين وصلتهم رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للالتحاق به، فلم يتوانوا أو يتخلفوا أو حتى تكون لهم أدنى شروط، بل كان جوابهم: سمعنا وأطعنا، مع أن عين أبي بصير لم تقر بلقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا بعد هذه الحرب، ولكنها الآن ترقد بسلام واطمئنان في الجنان مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضي الله عنهم -.
2- التفرد بالممارسات الحربية التي تطال العدو وتؤثر في الاقتصاد ركن بنيانه، ومع ذلك لا تجد قريش مناصاً من الارتماء في أحضان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو إن شئنا قلنا التذلل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكف يد العصابة عنهم، وما ذاك إلا لأنهم امتلكوا أداة الحرب التي فقدتها قريش.
فالعصابة ليس لها ما تبكي على فقدانه، بل ليس عندها ما تخسره، كل عزيز وغال ونفيس تركته في مكة لله إما اختياراً وإما جبراً من أعداء الدين، وعليه فليس هناك ما يتباكون عليه أو يصلح أن يكون ورقة ضغط عليهم.(2/5)
3- تواجدهم عند "سيف البحر" بين صحراء وجبال وبحر، لا يُعرف لهم قرار ولا يُلجئهم ملجأ، بل الدنيا ملكهم وهم ملوكها، نذروا أنفسهم ليدوسوا أنف قريش وليثخنوا فيها الجراح بين قتل وأسر واغتنام، ثم لا تجد قريش سبيلاً لا للقضاء عليهم، بل الحد من نشاطهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيرق لهم ويتألف قلوبهم، بعد كل الذي فعلوه، وحسبه أنه نبي فعليه الله صلى وعليه الله سلم.
4- بالرغم من التوازن الخاص الذي كان يعيشه أبو بصير مع قريش على أنه قوة مستقلة، ولكنه كان في الإطار العام - بلا تقييد - ضمن الخطوط العريضة للعمل الإسلامي والالتزام الشرعي، فها هو يعرض تخميس سلب القتيل من أول يوم، وها هو يرسل العاص بن الربيع صهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، هدية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وها هو يتبع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "مسعر حرب"، ومن ثم يتبعه الرجال بصدى الكلمة الذي جاب الآفاق، "لو كان معه رجال" وقد أتى الرجال، ليثبتوا أن أمة الإسلام واحدة وباب الجهاد لن يُغلق بإذن الله لصلح أحد أو أمان آخر.
- الطور الثالث: طور فرض السياسة:
تجسدت هذه المرحلة بعد انحياز السبعين المستضعفين وعلى رأسهم أبو جندل لتتكون أول عصابة تؤمن بالإسلام، ولا تأتمر بأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المباشرة، فهي خارج حدود الإمارة الإسلامية ولا تتبع "الجيش" ولا يشملها الصلح، ولكنهم يعلمون أن المرجعية الأعلى هي للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القادر على إيواء أبي بصير بمن معه، فما السياسة التي فرضها أبو بصير؟
1- إن أردتم الصلح فهو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ليس بموقف القوي، بل بموقف الخانع المتذلل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكف يد العصابة عنهم.(2/6)
2- لنا الحق في الإغارة في الوقت الذي نريد، وقوافلكم وأموالهم ورجالكم في حِل من سيوفنا، وان موعدكم الصبح فأتونا بخيلكم ورجلكم إن استطعتم.
3- الاستضعاف انتهى وقته إلى غير رجعة، والتسلط القرشي قد أفل نجمه إلى غير أوبة، وإن كانت دار الهجرة المدينة، فالآن هما جهتان وللمسلمين الحق في الاختيار، ويلزم قريش الموافقة طوعاً أو كرهاً.
4- رجال الإسلام لا يكفرون بعد أن يملأ الإيمان قلوبهم، ومن امتلأ قلبه بالله، فالموعد يوم القوافل ساعتها تُدرك قريش من الرجال.
وأدركت قريش أن لا قِبل لها بهذه العصابة، والتي تتحين الفرص للانقضاض على القوافل، وهي تعرف – رغم عزتها بالإثم- أن الوحيد القادر علي حسم هذه الأزمة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي يمتلك صلاحية احتواء العصابة وضمها إلى دولة الإسلام، وهذا الطور يصب في الحرب النبوية فما هي معالمه:
- حين أسر الصحابة - رضي الله عنهم - ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ثم ربطه في المسجد ثم إعلانه الإسلام، ثم ذهابه إلى مكة ليعلنها: لا واللهِ لا يأتيكم من اليمامة حَبةُ حِنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -. [البخاري ومسلم عن أبي هريرة].
- في صلح الحديبية جاء عروة بن مسعود ماشياً في الصلح وكان مما قاله: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها .(2/7)
وقريش تعلم هذه المكانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سمعتها وأدركتها ممن قتلوهم وآذوهم وعذبوهم في مكة، سمعوها من بلال تحت الصخرة على الرمال الحارقة، سمعوها من خبيب على الخشبة مصلوباً معلقاً، أتحبّ أن محمّدًا مكانك وأنت في أهلك؟ فقال: ما أحب أنّني في أهلي وأنّ محمّداً يشاك بشوكة، ومثله زيد بن الدثنة - رضي الله عنهم - أجمعين، فلم تجد قريش بُداً من التنازل.
إنه ليس تنازلاً فقط بل هو إقرار بالمرجعية النبوية على قريش، فعجزهم عن مقاتلة السبعين، يعني العجز المحتم عن مقاتلة النموذج الأعلى، إنها السياسة الجديدة التي يجب أن تقر بها قريش صاغرة، القول قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الوحيد - بأمر الله- القادر على إعادة الأمر إلى نصابه: بلداً آمناً، وتجارة آمنة.
أدركت قريش هذه الحقيقة وتجرعتها على الرغم من مرارتها، فأرسلت تناشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالله والرحم أن يكف عن إحراجها بإظهار عجزها عن مقاتلة عصابة الجبال، وأن يلحقهم بجيش الإسلام.
- فرض السياسة النبوية:
من الصعب تحديد الوقت للانتقال من طور لآخر، في حروب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتداخل المواقف وتداخل الواقع أيضاً، فالحالة القرشية مستقلة بذاتها والحالة اليهودية قائمة بمفردها على الرغم من نقاط الالتقاء التي تجمع أهل الوثن بأهل الكتاب، والكل بين مشرك وكافر.
1- فرض السياسة على قريش:(2/8)
في الزاد عند حديث الحديبية: وفَزِعَتْ قريشٌ لنزوله عليهم، فأحبَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يبعَثَ إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بنَ الخطَّاب لِيبعثه إليهم، فقال : يا رسول اللهِ، ليس لى بمكة أحدٌ من بنى كعب يغضَبُ لى إن أوذيتُ، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بن عفان، فإن عشيرَتَه بها، وإنه مبلِّغٌ ما أردتَ، فدعا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عثمانَ بنَ عفان، فأرسله إلى قريش، وقال : "أخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً، وادعُهُم إلى الإسلام"، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمناتٍ، فيدخُلَ عليهم، ويبشِّرَهم بالفتح، ويخبِرَهم أن الله - عز وجل - مظهِرٌ دينَه بمكة، حتى لا يُسْتَخْفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا : أين تريد؟ فقال : بعثنى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أدعوكُم إلى الله وإلى الإسلام، وأُخبِركُم أنَّا لم نأتِ لِقتال، وإنما جئنا عُمَّاراً.
وجاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تُهَامَة، فقال : إني تركت كعباً بن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره ".(2/9)
وجاء سهيل بن عمرو ليكتب الصلح، فَقَال النبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "على أَنْ تخَلُّوا بَيْنَنَا وبَيْن البَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ "، فقال سهيل : واللهِ لا تتحدَّثُ العربُ أنَّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً، ولكن ذلك مِن العام المقبل.
2- فرض السياسة على اليهود:
كانت المدينة مجتمعاً مختلط الثقافات والأهواء فغير العرب بتنوع انتماءاتهم الدينية، وكان هناك اليهود، فوقَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاهدة أمان ونصرة معهم، فلما ظهرت خياناتهم أجلاهم قبيلة قبيلة وما جرُأت قبيلة على نصرة أختها، واضطرت صاغرة ذليلة حقيرة أن تنتظر دورها نتيجة لفعلها، "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".[آل عمران 117].
حرب الغنائم
الغنائم: هي الأموال المأخوذة من أهل الحرب قهراً، سواء أُخذت والحرب قائمة أو أخذت عند مطاردة الأعداء وفرارهم.
قال الراغب في المفردات : الغَنم معروف، قال تعالى: "وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِم شُحُومَهُمَا"[الأنعام 146] والغُنم إصابته والظفر به، ثمّ استعمل في كل مظفور به من جهة العِدى وغيرهم، قال تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَىْء... " [الأنفال41].
وعن الخليل في العين والتي هي من أصول معرفة اللغة: الغُنم هو الفوز بالشيء من غير مشقّة.
وفي القاموس المحيط: الغُنم بالضمّ، والمغنم والغنيمة في اللغة: ما يصيبه الإنسان ويناله ويظفر به من غير مشقّة، والآية بصيغة الماضي" ما غنمتم" عام في كل ما غُنم قبل النزول ولا يخصص بدار الحرب، فالعلماء والمفسرون على شمول النص لما غنم سواء في حرب أو غيره وسواء في دار الحرب أو غيرها.
"حرب الغنائم" هي حرب يُقصد بها الحصول على الغنيمة سواء بالبدء أو الانتهاء، أو كانت مقصودة لذاتها أو نتيجة للحرب، أو كان يتوقف ويكتفي بها عن مواصلة الحرب.(2/10)
قال ابن رجب في الحكم الجديرة بالإذاعة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجعل رزقي تحت ظل رمحي": إشارة إلى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها وإنما بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإن المال إنما خلقه الله لبني آدم ليستعينوا به على طاعته وعبادته، فمن استعان به على الكفر بالله والشرك به سلط الله عليه رسوله وأتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء لرجوعه إلى من كان به أحق ولأجله خلق.
وكان في القرآن المنسوخ: "إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة"، فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فانتزع أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال لأنه أحل الأموال كما قال تعالى: "فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً "[الأنفال69]، وهذا مما خص الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمته فإنه أحل لهم الغنائم.
وقد قيل: إن الذي خُصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء، والمأخوذ بغير قتال فإنه كان حلاً مباحاً لمن قبلنا وهو الذي جعل رزق رسوله منه، وإنما كان أحل من غيره لوجوده:
منها أنه انتزاع مالاً لا يستحقه لئلا يستعين به على معصية الله والشرك به، فإذا انتزعه ممن لا يستعين به على غير طاعته وتوحيده والدعوة إلى عبادته كان ذلك أحب الأموال إلى الله وأطيب وجوده اكتسابها عنده.(2/11)
ومنها انه كان - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر لا لأجل الغنيمة فيحصل له الرزق تبعا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فرغ وقتا من أوقاته لطلب الرزق محضا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وحده فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسراً في ضمن ذلك من غير أن يقصده ولا يسعى إليه. وجاء في حديث مرسل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا رسول الرحمة، وأنا رسول الملحمة، إن الله بعثني بالجهاد ولم يبعثني بالزرع ". وأخرج البغوي في معجمه حديثاً مرسلاً: "إن الله بعثني بالهدى ودين الحق ولم يجعلني زراعاً ولا تاجراً، ولا سخاباً بالأسواق، وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - يرتزق من مال الغنيمة: إنما كان يرزق مما أفاءه الله عليه من خيبر.
والفيء ما هرب أهله خوفاً وتركوه، بخلاف الغنيمة فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إلى حصول الفيء لأن الرمح يراه العدو من بعد فيهرب، فيكون هرب العدو من ظل الرمح، والمأخوذة به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الغنيمة فإنها تحصل من قتال السيف. والله تعالى أعلم.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله تعالى بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابيا، فكان - صلى الله عليه وسلم - شغله بطاعة الله والدعوة إلى التوحيد، وما يحصل في خلال ذلك من الأموال من الفيء والغنائم يحصل تبعاً لا قصداً أصلياً، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال، وفي ذلك نزل قوله تعالى: "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ "[البقرة159]، لما عزم الأنصار على ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم.
- الغزوات والسرايا التي قصدت الغنائم:(2/12)
1- سرية سيف البحر: كان أوَّل لواء عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه... وبعثه في ثلاثين رَجُلاً مِن المهاجرين خاصّة، يعترِضُ عِيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبُو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سِيْفَ البحرِ من ناحية العِيصِ، فالتَقَوْا واصطفُّوا للقتال، فمشى مجدي بن عمرو الجُهني، وكان حليفاً للفريقين جميعاً، بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حَجَزَ بينهم ولم يقتتِلوا .[الزاد].
2- سرية الخرار: بعث سعداً بن أبى وقاص إلى الخرَّارِ في ذى القَعدة على رأس تسعة أشهر... وكانوا عشرين راكباً يعترِضُونَ عِيراً لقريش، وعَهِدَ أن لا يُجاوِزَ الخَرَّار، فخرجوا على أقدامهم، فكانوا يكمُنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى صبَّحوا المكان صَبِيحةَ خمس، فوجدوا العِير قد مرَّت بالأمس . [الزاد].
3- غزوة الأبواء:غزا بنفسه - صلى الله عليه وسلم - غزوة الأبواء، ويقال لها : وَدَّان، وهى أولُ غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صَفَر على رأس اثنى عشر شهراً مِن مُهَاجَرِهِ... وخرج في المهاجرين خاصة يعترِض عِيراً لقريش، فلم يلق كيداً. [الزاد].
4- غزوة بواط: ثم غزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بُوَاطَ في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثةَ عشرَ شهراً مِن مُهَاجَرِهِ... خرج في مائتين مِن أصحابه يعترِض عِيراً لقُريش، فيها أميةُ بنُ خلف الجُمحى، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بُواطاً، وهما جبلان فرعان، أصلهما واحد من جبالِ جُهينة، مما يلى طريقَ الشام، وبين بُواط والمدينة نحُوُ أربعةِ بُرُد، فلم يلق كيداً فرجع .[الزاد].(2/13)
5- غزوة ذي العشيرة: ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جُمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً... خرج في خمسين ومائة، ويقال : في مائتين مِن المهاجرين، ولم يُكْرِهْ أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يَعْتَقِبُونَها يَعْترِضُون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام، وقد كان جاءه الخبرُ بفصولها مِن مكة فيها أموالٌ لقريش، فبلغ ذَا العُشيرَةِ وقيل : العُشيراء بالمد . وقيل : العُسيرة بالمهملة وهى بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة بُرُد، فوجد العِيرَ قد فاتته بأيام، وهذه هي العيرُ التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، وهى التي وعده الله إياها، أو المقاتلة، وذات الشَوْكة، ووفَّى له بوعده.[الزاد].
6- سرية نخلة: ثمَّ بعثَ عبدَ الله بن جَحْشٍ الأسَدِىَّ إلى نَخْلَةَ في رجب، على رأْسِ سبعةَ عشرَ شهراً مِن الهِجْرة، في اثني عشر رجلاً مِن المهاجرين، كل اثنين يعتقبان علَى بعير، فوصلُوا إلى بطن نخلة يرصُدُون عِيراً لقريش.
قال صاحب الرحيق: وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش- أي قتالهم في الشهر الحرام- تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم.(2/14)
7-غزوة بدر: قال صاحب الرحيق: سبق في ذكر غزوة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذهابها من مكة إلى الشام، فلما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحة بن عبيد الله وسعيداً بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة وأخبرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر .
وكانت العير تحمل ثروات طائلة لكبار أهل مكة ورؤسائها : ألف بعير موقرة بأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي . ولم يكن معها من الحرب إلا نحو أربعين رجلاً .
إنها فرصة ذهبية للمسلمين ليصيبوا أهل مكة بضربة اقتصادية قاصمة، تتألم لها قلوبهم على مر العصور، لذلك أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً : "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " .
- الاكتفاء بالغنائم ووقف الحرب:
- غزوة بني قينقاع: بعد نقضهم العهد ودخولهم الحصون ثم نزولهم على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كلم فيهم ابن أبي المنافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله أن يطلقهم فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، "وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذْرُعَات الشام، فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم .
وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم أموالهم، فأخذ منها ثلاث قِسِي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح، وخمس غنائمهم، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة . [الرحيق].(2/15)
- غزوة بني النضير: وحين نقضت بنو النضر العهد، "حاصرَهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقطَعَ نخلهم، وحرَّق، فأرسلوا إليه : نحن نخرج عن المدينة، فأَنزلَهم على أن يخرجوا عنها بنفوسِهم وذراريهم، وأن لهم ما حَمَلَتِ الإبلُ إلا السلاَح، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - الأموال والحَلْقَةَ، وهى السلاح، وكانتْ بنو النضير خالِصةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِنوائبه ومصالحِ المُسلمين، ولم يُخمِّسها لأن الله أفاءها عليه، ولم يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ . وخَمَّسَ قُرَيْظَةَ .
قال مالك : خمَّس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قُريظة، ولم يُخَمِّسْ بني النضير، لأن المسلمين لم يُوجِفُوا بخيلهم ولا رِكابهم على بني النَّضِير، كما أوجفوا على قُريظة وأجلاهم إلى خيبر، وفيهم حُيىَ بنُ أَخْطَب كبيرُهم، وقبضَ السِّلاح، واستولى على أرضهم وديارِهم وأموالهِم، فوجد من السِّلاح خمسينَ دِرعاً، وخمسينَ بَيْضةً، وثلاثَمِائةٍ وأربعين سيفاً. [الزاد].
وفي الرحيق: وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفاً .
"وكانت أموال بني النضير وأرضهم وديارهم خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يضعها حيث يشاء، ولم يخَمِّسْها لأن الله أفاءها عليه، ولم يوجِف المسلمون عليها بِخَيلٍ ولا رِكاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دُجَانة وسهلاً بن حُنَيف الأنصاريين لفقرهما . وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكُرَاع عدة في سبيل الله . [الزاد].
- الاكتفاء بالغنائم والرجوع:(2/16)
1- سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر... خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة . [الرحيق].
2- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة... وقد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هرباً في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء . [الرحيق].
3-سرية زيد إلى الطَّرِف أو الطَّرِق... خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيراً. [الرحيق].
4- سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك... وذلك أنه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود . فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر . ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم . [الرحيق].
- "المصالحة" و"حرب الغنائم":
- غزوة خيبر: وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجلي اليهود من خيبر، فقالوا : يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، "وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم .(2/17)
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم كسهم أحد المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد .
ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال : ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر، ولما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل . [الرحيق].
- ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصالحونه على النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب . [الرحيق].
- "الغنائم" نتيجة للمعركة:
- غزوة بني قريظة: بعد نقض قريظة العهد حاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم فيهم: أن يُقتل الرِّجَالُ، وتُسْبىَ الذُّرِّيَّةُ، وتقسمَ الأموالُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الله مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَات "[الزاد].(2/18)
وفي الرحيق: وقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهماً واحداً، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً .
- غزوة حنين: قال ابن القيم حول غنائم "حنين" وتصريفها دون التخميس، وإعطائها للمؤلفة قلوبهم فقال: ولما عاد رسول اللْه - صلى الله عليه وسلم - بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة .
أعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال : ابني يزيد ؟ فأعطاه مثلها، فقال : ابني معاوية ؟ فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها .
وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة - كذا في الشفاء - وأعطى الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطى رجالاً من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطى آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال : " أيها الناس، ردوا علي ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ".
ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال : "أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ".(2/19)
"وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة" . [الرحيق]
وفي الزاد: وهذا العطاء الذي أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - لقريش، والمؤلَّفة قلوبُهم، هل هو مِن أصل الغنيمة أو من الخُمُس، أو من خُمس الخُمُس ؟
قال الشافعي ومالك : هو من خُمس الخُمُس، وهو سهمُه - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله له من الخُمس، وهو غير الصَّفىِّ وغيرُ ما يُصيبه من المغنم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستأذن الغانمين في تِلك العطية، ولو كان العطاءُ من أصل الغنيمة، لاستأذنهم لأنهم ملكوها بحوزها والاستيلاء عليها، وليس من أصل الخُمُس، لأنه مقسوم على خمسة، فهو إذاً من خُمس الخُمُسِ، وقد نص الإمام أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهذا العطاءُ هو من النفل، نَفَلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - به رؤوسَ القبائِلِ والعشائِرِ ليتألَّفهم به وقومَهم على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثُلث بعد الخُمس، والرُّبع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشَوْكته وأهله، واستجلاب عدوه إليه، هكذا وقع سواء كما قال بعضُ هؤلاء الذين نفلهم : لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الخلق إلىَّ، فما زال يُعطينى حتى إنه لأحب الخلق إلىَّ، فما ظنك بعطاءٍ قوَّى الإسلامَ وأهله، وأذل الكفرَ وحِزبه، واستجلب به قلوبَ رؤوس القبائل والعشائر الذين إذا غضِبُوا، غَضِبَ لغضبهم أتباعهم، وإذا رَضُوا رَضُوا لرضاهم . فإذا أسلم هؤلاء، لم يتخلف عنهم أحدٌ مِن قومهم، فللَّهِ ما أعظمَ موقِعَ هذا العطاء! وما أجداه وأنفعه للإسلام وأهله!(2/20)
ومعلوم أن الأنفال لله - عز وجل - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - يقسِمُها رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث أمره لا يتعدى الأمر، فلو وضع الغنائم بأسرها في هؤلاء لمصلحة الإسلام العامة، لما خرج عن الحكمة والمصلحة والعدل، ولمَا عَمِيَتْ أبصارُ ذى الخويصرة التميمى وأضرابه عن هذه المصلحة والحكمة. قال له قائلهم : اعْدِل فإنَّكَ لم تعدل. وقال مشبِهُه : إن هذه لقسمة ما أُريد بها وجه الله، ولعَمر الله إن هؤلاء من أجهل الخلق برسوله، ومعرفته بربه، وطاعته له، وتمام عدله، وإعطائه لله، ومنعه لله، ولله سبحانه أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابهم، وله أن يُسلِّط عليها ناراً من السماء تأكلها، وهو في ذلك كله أعدلُ العادلين، وأحكمُ الحاكمين، وما فعل ما فعله من ذلك عبثاً، ولا قدَّرَهُ سُدى، بل هو عَيْن المصلحة والحكمة والعدل والرحمة، مصدره كمال علمه، وعِزَّته، وحكمته، ورحمته، ولقد أتمَّ نعمته على قوم ردَّهم إلى منازلهم برسوله - صلى الله عليه وسلم - يقودونه إلى ديارهم، وأرضى مَن لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطى العاقل اللبيب ما يناسبه، وهذا فضله، وليس هو سبحانه تحت حجر أحد من خلقه، فيوجبون عليه بعقولهم، ويُحرِّمون، ورسولُه منفِّذٌ لأمره .
فإن قيل : فلو دعت حاجةُ الإمام في وقت من الأوقات إلى مثل هذا مع عدوه، هل يسوغ له ذلك ؟ قيل : الإمام نائب عن المسلمين يتصرَّفُ لمصالحهم، وقيام الدين.(2/21)
فإن تعيَّن ذلك للدفع عن الإسلام، والذب عن حَوْزته، واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعيَّن عليه، وهل تُجوِّز الشريعة غير هذا، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقَّعَةُ مِن فوات تأليف هذا العدو أعظمُ، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين.
- قتال المشرك مع المسلمين من أجل الغنائم:
أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها ولعن من يبغضها- أن رجلاً من المشركين كان معروفا بالجرأة والنجدة أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تؤمن بالله ورسوله"، قال: لا، قال: "ارجع فلن أستعين بمشرك"، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال له أول مرة، فقال: "تؤمن بالله ورسوله"، قال: لا، قال: "ارجع فلن أستعين بمشرك"، ثم لحقه في البيداء فقال مثل قوله، فقال له: "تؤمن بالله ورسوله"، قال: نعم، قال: فانطلق.
حرب المستضعفين(2/22)
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ " فما الذي دعاهم لأن يظلموا أنفسهم؟ هل رضاهم بالكفر حاكماً عليهم هو الظلم؟ أم عدم إرادة الهجرة هي الدافع للرضا بحال الاستضعاف؟، "قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ؟" سؤال تقريع وتوبيخ، "قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ" قال القرطبي: اعتذار غير صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، "قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً"، قال القرطبي: الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص ، "فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا "[النساء97-100].
وعليه فالواجب على المستضعفين الهجرة، ولكن إلي أين؟
وما هي الحيلة التي تجب على المستضعفين؟
وهل في هجرة المستضعفين سعة وأرزاق وحرية؟
وهل يحق للمستضعفين خوض حرب فردية؟
ما معالم هذه الحرب؟ وما حدودها؟ وما هي ضوابطها؟
أين مرجعيتها؟ ومن تتبع في الولاء؟ ومتى تتوقف؟
- أبو جندل و"حرب المستضعفين":(2/23)
في البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا في حديث الحديبية وفيه:... فقال سهيل وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا... فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبداً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال: أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذاباً شديداً...
وعند الإمام أحمد: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا جندل اصبر واحتسب فان الله - عز وجل - جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم"، قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب مع أبي جندل فجعل يمشى إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدنى قائم السيف منه قال يقول رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به إياه قال فضن الرجل بأبيه.
- أبو بصير نموذج "حرب المستضعفين":(2/24)
في البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه: حديث الحديبية وفيه: ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: ،لقد رأى هذا ذعراً"، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أي لأبي بصير وأبي جندل ومن معهما.(2/25)
وفي سنن البيهقي الكبرى عن مروان والمسور بمثل حديث البخاري مختصراً، ولكنه فصل قصة أبي بصير فقال: ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن بها أفلت إليه أبو بصير "عتبة بن أسيد"، فكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجراه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدفعا إليه كتابهما فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير فقال له: "يا أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت وإنا لا نغدر فالحق بقومك"، فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اصبر يا أبا بصير واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجا"، قال: فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار، فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال: أنظر إليه، قال: إن شئت، فاستله فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا رجل قد رأى فزعا"، فلما انتهى إليه قال: "ويحك ما لك"، قال: قتل صاحبكم صاحبي، فما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف، فوقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك وقد امتنعت بنفسي عن المشركين أن يفتنوني في ديني وأن يعبثوا بى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه محش حرب لو كان معه رجال"، فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص وكان طريق أهل مكة إلى الشام فسمع به من كان بمكة من المسلمين وبما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه فلحقوا به حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من الستين(2/26)
أو السبعين فكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه ولا تمر عليهم عير إلا اقتطعوها حتى كتبت فيها قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم لما آواهم فلا حاجة لنا بهم ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدموا عليه المدينة...
- كيف أفلت أبو بصير من الأسر؟
في البخاري:... فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟، قال: نعم، قال: أنظر إليه، قال: إن شئت، فاستله فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد...
وعند أبي داود والإمام أحمد: فأرسلوا فى طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فيه فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغ به ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنى لأري سيفك يا فلان هذا جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة.
- سلب القتيل الذي قتله أبو بصير:
عند البيهقي في السنن الكبرى: وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال خمس يا رسول الله قال: "إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت"، فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قدموا معه من المسلمين من مكة حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش مما يلي سيف البحر لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة المشركين.
- من الذي أسر العاص بن الربيع؟
في الإصابة في تمييز الصحابة: أبو العاص بن الربيع زوج زينب رضي الله عنها.(2/27)
أخرج الحاكم بسند صحيح عن الشعبي قال: فاتفق أن خرج إلى الشام في تجارة فلما كان بقرب المدينة أراد بعض المسلمين أن يخرجوا إليه فيأخذوا ما معه ويقتلوه فبلغ ذلك زينب فقالت يا رسول الله أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟ قال: نعم، قالت: فاشهد أني أجرت أبا العاص فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجوا إليه عزلا بغير سلاح فقالوا له: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصهره فهل لك أن تسلم فتغتنم ما معك من أموال أهل مكة؟ قال: بئسما أمرتموني به أن أنسخ ديني بغدرة فمضى حتى قدم مكة فدفع إلى كل ذي حق حقه ثم قام فقال: يا أهل مكة أوفت ذمتي؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرا.
قال ابن حجر: هذا مع صحة سنده إلى الشعبي مُرسل وهو شاذ خالفه ما هو أثبت منه، ففي المغازي لابن إسحاق: عن عائشة – رضي الله عنها وغضب على من يبغضها – قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها ففعلوا.
وساق ابن إسحاق قصته أطول من هذا وأنه شهد بدرا مع المشركين وأسر فيمن أسر، ففادته زينب، فاشترط عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرسلها إلى المدينة ففعل ذلك، ثم قدم في عير لقريش فأسره المسلمون وأخذوا ما معه، فأجارته زينب فرجع إلى مكة فأدى الودائع إلى أهلها، ثم هاجر إلى المدينة مسلما فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ابنته ويمكن الجمع بين الروايتين.(2/28)
وذكر ابن إسحاق أن الذي أسره يوم بدر عبد الله بن جبير بن النعمان، وحكى الواقدي أن الذي أسره خراش بن الصمة، قال: فقدم في فدائه أخوه عمرو بن الربيع، وذكر موسى بن عقبة أن الذي أسره يعني فى المرة الثانية هو أبو بصير الثقفي ومن معه من المسلمين، لما أقاموا بالساحل يقطعون الطريق على تجار قريش في مدة الهدنة بين الحديبية والفتح.
وذكر ابن المقري في فوائده من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان أحسبه عن الزهري قال: أبو العاص بن الربيع الذي بدا فيه الجوار في ركب قريش، الذين كانوا مع أبي جندل بن سهيل وأبي بصير بن عتبة بن أسيد فأتى به أسيراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن زينب أجارت أبا العاص في ماله ومتاعه فخرج فأدى إليهم كل شيء.(2/29)
قال ابن القيم في الزاد: سرية زيد بن حارثة إلى العيص: وفيها أخذت الأموال التي مع أبي العاص بن الربيع زوج زينب مرجعه من الشام وكانت أموال قريش، قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن محمد بن حزم قال: خرج أبو العاص بن الربيع تاجراً إلى الشام وكان رجلاً مأموناً، وكانت معه بضائع لقريش فأقبل قافلا فلقيته سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاقوا عيره وأفلت وقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أصابوا فقسمه بينهم، وأتى أبو العاص المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستجار بها، وسألها أن تطلب له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد ماله عليه وما كان معه من أموال الناس، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السرية فقال: "إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا ولغيره، وهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا وإن كرهتم فأنتم وحقكم"، فقالوا: بل نرده عليه يا رسول الله فردوا عليه ما أصابوا حتى إن الرجل ليأتي بالشن والرجل بالإداوة والرجل بالحبل، فما تركوا قليلا أصابوه ولا كثيرا إلا ردوه عليه، ثم خرج حتى قدم مكة فأدى إلى الناس بضائعهم حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم معي مال لم أرده عليه، قالوا: لا، فجزاك الله خيرا قد وجدناك وفياً كريما، فقال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفاً أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.(2/30)
وهذا القول من الواقدي وابن اسحاق يدل على أن قصة أبي العاص كانت قبل الحديبية وإلا فبعد الهدنة لم تتعرض سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقريش ولكن زعم موسى بن عقبة أن قصة أبي العاص كانت بعد الهدنة وأن الذي أخذ الأموال أبو بصير وأصحابه ولم يكن ذلك بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا منحازين بسيف البحر وكانت لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها هذا قول الزهري.
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب في قصة أبي بصير ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع وكانت تحته زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم ولم يقتلوا منهم أحدا لصهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص وأبو العاص يومئذ مشرك وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأبيها وأمها وخلوا سبيل أبي العاص فقدم المدينة على امرأته زينب فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم فكلمت زينب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فخطب الناس فقال إنا صاهرنا أناساً، وصاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا وإن زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال الناس: نعم فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال وكتب رسول الله إلى أبي جندل وأبي نصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم وألا يتعرضوا لأحد من قريش وعيرها فقدم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي(2/31)
بصير وهو في الموت فمات وهو على صدره ودفنه أبو جندل مكانه وأقبل أبو جندل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمنت عير قريش.
وقول موسى بن عقبة أصوب وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة وقريش إنما انبسطت عيرها إلى الشام زمن الهدنة وسياق الزهري للقصة بين ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة.
وعند البيهقي في السنن الكبرى: أخذ أبو بصير وغيره أبا العاص أسيراً وبعث به إلى المدينة فأجارته زينب رضي الله تعالى عنها، ثم رجع إلى مكة ورد ما كان عنده من الودائع وأظهر إسلامه.
قال ابن قدامة في المغني: إذا عقد الهدنة مطلقا فجاءنا منهم إنسانا مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواءاً كان حراً أو عبداً أو رجلاً أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة وقال أصحاب الشافعي إن خرج العبد إلينا قبل إسلامه لم يرد إليهم فإن أسلم قبل خروجه ثم خرج إلينا لم يصر حرا لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر.
وقال الشافعي: لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده لم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال لم ينكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه، وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهرهم على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد خروجه ...(2/32)
وقال ابن قدامة: والشروط في عقد الهدنة تنقسم إلى صحيح: مثل أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين ثم حاجتهم إليهم أو يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان فهذا يصح، وقال أصحاب الشافعي: لا يصح شرط رد المسلم إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه. ولنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص بالشرط ذا العشيرة لأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن لا يجوز هذا الشرط إلا عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به بمعنى أنهم إذا جاؤوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبر الإمام على المضي معهم وله أن يأمره سراً بالهرب منهم ومقاتلتهم فإن أبا بصير لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء الكفار في طلبه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يلمه بل قال: "ويل امه مسعر حرب لو كان معه رجال" فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا تمر عليهم عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحداً جاءه ففعل.
فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار ويأخذوا أموالهم ولا يدخلوا في الصلح وإن ضمهم الإمام إليه بإذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم.
- "حرب المستضعفين": المعالم:(2/33)
- أبو بصير وممارسة أعمال الحرب:
- مقاتلة الرسولين الذين أُمرا أن يردوه إلى المشركين، فهو قتال دفاع عن النفس.
- الذان أُمرا برده هما رسولا قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد قتل أحدهما أبو بصير والرسل لا تُقتل، ولكن أبو بصير لم يكن ممن يجب عليه الانضباط تحت هذا القانون.
- الانحياز للجبال بالرجال والتهيؤ للقتال.
- الإغارة بالرجال على قوافل قريش وتجارها.
- القتل والأسر والاغتنام.
كلها مظاهر الحرب في ذلك الزمان وهو مبدوءة منفردة من أبي بصير - رضي الله عنه -، بإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأما عدم التخميس فهو يتعارض مع العقد ولا يتعارض مع التشريع كأصل، بمعنى ليس فيه شبهة حُرمة ولو كان حراماً لما جاز لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - السكوت عن التبيان – كما هو مقرر عند علماء الأصول كقاعدة: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة-، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علل المنع بالعقد، ومع أن إسناد هذا الجزء من الحديث مرسل، فعلى فرض صحته فانه يكون في أخذ الخمس إقرار من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بانضواء أبي بصير ومن معه تحت إمرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودولة الإسلام، وهذا مما يتعارض مع المنع من دخول المشركين في تبعية المدينة إلى عشر سنوات زمن الصلح.
وأما الهدية فهي لا تلزم تبعية للدولة لذلك قبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي بصير، وقد كانت – أي الهدية- زوج ابنته العاص بن الربيع، ولو قتله أبو بصير لما كان عليه من بأس، فالعاص كافر وأبو بصير في حِل من دمه أو التعاقد على منع الحرب، فهو غير داخل في الصلح.(2/34)
وعليه فإرادة الانفلات من قبضة العدو بالقوة، ثم قتل أحدهما ومطاردة الآخر بقصد القتل، واستلاب القتيل والانحياز للجبل وانحياز الفئات إليه، وتكوين جماعة مقاتلة تُغير على القوافل وتأسر التجار وتأخذ الأموال وترعب قريش، حتى اضطرت لقبول دخولهم في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم -، كلها أفعال حربية أقره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودعا غيره للحوق به بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، أو: "ويل امه محش حرب لو كان معه رجال"، وقد أدرك المعنى المستضعفون في مكة، فما كان ينفلت منهم أحد إلا التحق بأبي بصير، فكانوا بين الستين والسبعين.(2/35)
وعليه فحرب المستضعفين التي قادها أبو بصير كلها أفعال شرعية قام عليها دليل الإقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبوله - صلى الله عليه وسلم - بالهدية يدل على جوازها شرعاً ولو حرمت لبين الحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعند ابن سعد في الطبقات في حديث إسلام المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وذهابه مع رفاقه إلى المقوقس ثم رجوعهم بالهدايا من دونه ومكره بهم، قال: فأجمعت على قتلهم فلما كنا ببسا تمارضت وعصبت رأسي، فقالوا لي: ما لك؟ قلت: أصدع، فوضعوا شرابهم ودعوني فقلت: رأسي يصدع ولكني أجلس فأسقيكم فلم ينكروا شيئا، فجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح فلما دبت الكأس فيهم اشتهوا الشراب، فجعلت أصرف لهم وأنزع الكأس فيشربون ولا يدرون، فأهمدتهم الكأس حتى ناموا ما يعقلون، فوثبت إليهم فقتلتهم جميعاً وأخذت جميع ما كان معهم فقدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأجده جالسا في المسجد مع أصحابه، وعلىَّ ثياب سفري فسلمت بسلام الإسلام فنظر إلىَّ أبو بكر بن أبي قحافة وكان بي عارفاً، فقال: ابن أخي عروة، قال: قلت: نعم، جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله الذي هداك للإسلام، فقال أبو بكر: أمن مصر أقبلتم؟ قلت: نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قلت: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب، ونحن على دين الشرك، فقتلتهم وأخذت أسلابهم وجئت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخمسها أو يرى فيها رأيه، فإنما هي غنيمة من مشركين وأنا مسلم مصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إسلامك فقبلته، ولا آخذ من أموالهم شيئا، ولا أخمسه، لأن هذا غدر: والغدر لا خير فيه"، قال فأخذني ما قرب وما بعد وقلت: يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت حيث دخلت عليك الساعة، قال: "فإن الإسلام يجب(2/36)
ما كان قبله".
والمقصود أن فعل أبي بصير من أسره للعاص وإهداءه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعل صحيح شرعاً لإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو كان فيه أدنى شبهة حرمة لبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث المغيرة بن شعبة، فقد علله بالغدر وامتنع عن قبول المال والهدايا، مع أن حال المغيرة حين قتلهم لا يعدو أن يكون إيماناً صادقاً بالإسلام، أو حقداً وضغينة على استفراد أصحابه بالهدايا، وأياً كان الدافع فقد كان في حال الكفر، وقد صح من حديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام يجب ما قبله[أحمد ورواية مسلم يهدم، كلاهما عن عمر بن العاص] ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسلام ولم يقبل الغدر، ولا سواء بين فعل أبي بصير وفعل المغيرة، والذي فرق بين الفعلين هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- الجماعة والتحيز والقتال:
المستضعفون في مكة يحملون التبعية بالولاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناً وانتماءً، ولكن التبعية الإلزامية للدولة الإسلامية لا تلزمهم، فهم خارجها بالعقد الموقع بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنيابة عن المسلمين وبين سهيل نيابة عن قريش.
وعليه فوجود المستضعفين تحت قبضة الكفار غصباً كالأسر والعبودية، أو إرهاباً كالتخويف من القتل أو التعذيب، يُجوِز لهم الانحياز لفئة غير داخلة في حكم التبعية للخليفة، ومن ثَم يجوز لهم القيام بسائر أنواع الحروب، والتي تمكنهم من إيقاع الضرر بالعدو، ولا يُلزمهم الصلح بين من ينتمون له ولاءً بالدين وبين الأعداء، فهم في حِلٍ والدولة الإسلامية في حِلٍ أيضاً من أفعالهم ونتائجها.(2/37)
وهذا الفهم يلزم لعدم الانتماء لدولة الكفر أصلاً، وذلك لعدم استحقاق الكفر بالولاية على المسلمين إلا جبراً، أما الأصل فلا يصح للمسلم البقاء في تبعية الدولة الكافرة بل الواجب عليه الخروج والتبرؤ من هذه التبعية، حتى لا تشملهم آية المستضعفين وتوبيخ الملائكة، ولكن هل يلزمهم الانحياز للخليفة ودولة الإسلام؟
عند البيهقي في السنن الكبري: وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة المشركين.
وإنما كُرههم من الإقدام على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ينبع من رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي جندل ثم أبي بصير، ففي ذلك إحراج للرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يقال: إن رسول الله يُسَلِّم المسلمين إلى الكفار، كالموقف الذي حدث مع ابن الخطاب عند مقدم أبي جندل لحظة الصلح.
ولكن أيلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسلم من يأتيه لدولة الكفر؟(2/38)
لو جاز من تسليم أبي بصير للذين أرسلتهما قريش، لكان الحكم الثابت هو المتأخر والمتأخر عدم رد أبي بصير في الثانية، وأقل ما يقال في المرة الثانية أنها ناسخة للأولى، ففي الأولى أن قريشاً أرسلت من يأتي به، فتسلمته من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما حين قتل أبو بصير أحد الرسولين ولاحق الآخر حتى قدم المدينة، لم يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى الكفار، ولم يأمره بالخروج من دولة المدينة، بل جعله في حِلٍ من الانتقال إلى حيث يشاء، لئلا يقع في حدود التبعية للدولة الإسلامية فيلزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينها رده، وأما رد أبي جندل فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقبض عليه أو يأسره ثم يسلمه للكفار، نقول هذا حتى لا تُتخذ هذه المواقف ذريعة لمن يخون الأمانة ويُسلم المجاهدين للكفار بحجة العهد والسلام، هذا على فرض الصحة فيمن كان يساكن الكفار في دارهم، أما من كان في ديار الإسلام فلا يجوز تسليمه مطلقاً.
قال ابن القيم في الزاد: إن ردَّ مَن جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول مَن خرج منهم مسلماً إلى غيرِ بلدِ الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام، لا يجبُ عليه ردُّه بدون الطلب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَرُدَّ أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاؤوا في طلبه، مكَّنهم من أخذه ولم يكرهْهُ على الرجوع .
- "حرب المستضعفين" وإعلان الحرب:
لم يرد في الروايات تلميحاً أو تصريحاً أن أبا بصير ومن معه أرسلوا رسولاً يعلن به القتال على الأعداء، ولم يرد في الروايات نبذ العهد الذي وقعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قريش، ولم يرد أن طلب الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدء القتال، لذلك قتل آسره واستلب سلاحه وطارد الآخر، وجمع الجموع بهدف محاربة قريش بما يستطيع، فغنم القوافل وأسر وقتل.(2/39)
كل هذا لأن قريشاً هي من بدأ بإعلان الحرب فلا يلزمه إعلانها، فهم من المستضعفين في دار الكفر، والأذى عليهم واقع والحبس والقتل والتعذيب فيهم متحقق، فالكفار من بدأ بالاعتداء على المستضعفين يردونهم عن إسلامهم ويفتنونهم في دينهم، ويسلبونهم دورهم وأموالهم.
هذا هو مبدأ إعلان الحرب وقريش تُصرح به، فلا داعي للإعلان الشكلي للكلمة فالأفعال خير دليل على قصد قريش لحربهم، وهم في حالة ظلم، والظلم الذي يدفع ظلم مثله خير، والذي يدفع أكبر منه خير كله.
- "حرب المستضعفين": الفوائد:
- قال ابن حجر في الفتح: المقتول من المشركين كان رسولاً والرسل لا تقتل كما هو ثابت معلوم، ومع ذلك لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بصير قتله ولا أمر فيه بقود ولا دية، وصدّق أبا بصير في قوله في الرواية الأخرى: يا رسول الله ليس بيني وبينهم عهد ولا عقد، فكان ذلك إقراراً له منه على ما فعل، وأن له ذمة مستقلة عن ذمة المسلمين، وإذا أهدر دم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فغيره أولى.
- "حرب المستضعفين" تشمل كل مستضعف: وإنما يقال هذا حتى تبقى المسألة في العموم، فلا يُضيق على المرأة بعقد زواجها، ولا العبد برق العبودية، ولا تشمل من عليه دَين، أو عقد مع الكفار في حال الاستضعاف، بل يبقى العموم هو الأصل لحض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على اللحاق بأبي بصير بقوله: "ويل امه مسعر حرب لو كان له أحد"، وفي الرواية الأخرى: "لو كان معه رجال".
- قال ابن القيم: إن المعاهدين إذا تسلَّموه وتمكَّنُوا منه فقتل أحداً منهم لم يضمنه بديةٍ ولا قَوَدٍ، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه في ذلك حُكمَ قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصيرٍ قتل أحد الرجلين المعاهَدَيْنِ بذى الحُلَيْفَةِ، وهى مِن حُكم المدينة، ولكن كان قد تسلَّموه، وفُصِلَ عن يد الإمام وحكمه .(2/40)
- قال ابن القيم : إن المعاهَدِينَ إذا عاهدوا الإمام، فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم، وغَنِمَتْ أموالهم، ولم يَتَحَيَّزُوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعُهم عنهم، ومنعُهم منهم، وسواءٌ أدخلوا في عَقدِ الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهدُ الذي كان بين النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين، لم يكن عهداً بين أبى بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعضِ ملوكِ المسلمين وبعضِ أهل الذِّمةِ من النصارى وغيرِهم عهد، جاز لملك آخر مِن ملوك المسلمين أن يَغْزُوَهُم، ويغنَم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخُ الإسلام في نصارى مَلَطْيَةَ وسبيهم، مستدلاً بقصة أبى بصير مع المشركين.
قال سفر الحوالي: وهذا صريح في استقلال كل دولة أو جماعة بذمتها وعهودها، والغرب نفسه يؤمن بهذه الحقيقة، وهي من القواعد المعروفة في القانون الدولي، وإلا لكان البابا في روما مسئولاً عن إرهاب الكاثوليك في إيرلندا، ولكانت ألمانيا مسئولة عن النازيين الجدد ولكانت اليابان مسئولة عن الجيش الأحمر.
حرب المنافقين
"النفاق هو إظهار خلاف المُبطن"، والمنافق أشد خطراً وأعظم ضرراً من الكافر، فهو ساوى الكافر بكفره الباطن وزاد عليه بكذبه وخداعه وتضليله وتخذيله وتثبيطه الظاهر، والحذر منه في العادة أقل من العدو الظاهر، وهنا الخطورة.
يظهر النفاق في العادة حين ينحسر سلطان الكافرين فلا يبقى عند محب الكفر مبغض الإيمان إلا أن يُسلم ظاهره ويُحارب باطنه، ولكنه لا يظهر للعيان، لذلك ظهرت حركتهم الفعلية في المدينة وتحديداً بعد بدر، لمّا علا سلطان الإسلام وسما نجمه، فلم يجد المنافقون بداً من إظهار الإسلام والكيد له في الخفاء، فكانت مواقفهم الكثيرة المرجفة المثبطة الماكرة الخبيثة.
"حرب المنافقين" هي مواجهة عدو خفي باللسان والجنان، عليه في الظاهر علامات الإسلام وهذا هو مانع استخدام السنان.(2/41)
جاء في كتاب ربنا تحديد معالم قتال الكافرين ليتولاها الله جل في علاه، بنفسه فقال سبحانه: "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ "[المنافقون 4]، وأما المسلمون فالمطلوب منهم: "جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ "، فهل يُستخدم معهم السيف في حربهم؟
قال ابن القيم في الزاد: جهادُ الكفار والمنافقين أربع مراتب : بالقلب، واللِّسان، والمالِ، والنفسِ، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان.
جهادُ المنافقِينَ، إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهلِ الإسلام، قال تعالى : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"[ التحريم 9] .
فجهادُ المنافقين أصعبُ مِن جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثةِ الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالَم، والمشارِكُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً .
وقال أيضاً: وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم, ويغلظ عليهم, وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم, ونهى أن يصلي عليهم, وأن يقوم على قبورهم, وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين".(2/42)
قال السيوطي: عن ابن عباس في قوله: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ " قال: بالسيف " وَالْمُنَافِقِينَ " قال: باللسان "وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ " قال: أذهب الرفق عنهم، وعند البيهقي عن ابن مسعود قال لما نزلت: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ"، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجاهد بيده فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
وعن السدي في قوله " جَاهِدِ الْكُفَّارَ " قال: بالسيف " وَالْمُنَافِقِينَ" بالقول باللسان "وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ " قال: على الفريقين جميعاً، ثم نسخها فأنزل بعدها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً"[التوبة 123].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شأن النصيرية، والذين يدّعون حب آل البيت ويحاربون الإسلام وفيهم من كان يظهر الإلحاد والكفر بالله، قال: "لا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين؛ وحفظ رأس المال مقدم على الربح.(2/43)
وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب، ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الله تعالى لنبيه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ "، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين. والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم، كما قال الله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"[آل عمران110].
- "حرب المنافقين" في غزوة بني قينقاع:(2/44)
قال ابن القيم في معرض حديثه عن يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر:… شَرَقُوا بوقعة بدرٍ، وأظهروا البغي والحسد فسارت إليهم جُنود اللهِ، يَقْدَمُهم عبدُ الله... وكانوا حُلَفاءَ عبدِ الله بنِ أُبىّ بن سَلول رئيسِ المنافقين، وكانوا أشجعَ يهودِ المدينة... حاصرهم خمس عشرة ليلةً إلى هلال ذي القَعْدَةِ، وهم أَوَّلُ مَنْ حارب مِن اليهود، وتحصَّنُوا في حصونهم، فحاصرهم أشدَّ الحِصار، وقذفَ الله في قلوبهم الرُّعبَ الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم، وقذفَه في قلوبهم، فنزلوا على حُكمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رِقابهم وأموالِهم، ونِسائهم وذُرِّيَّتِهم، فأمر بهم فكُتِّفُوا، وكلَّمَ عبد الله بنُ أُبْىّ فيهِم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وألحَّ عليه، فوهبَهم له، وأمرهم أن يَخرجوا مِن المدينة، ولا يُجاوِرُوه بها.
قال صاحب الرحيق كاشفاً موقف رأس النفاق في الدفاع عن أعداء الله: وحينئذ قام عبد الله بن أبي بن سلول بدور نفاقه، فألح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدر عنهم العفو، فقال : يا محمد، أحسن في موالىّ - وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرر "ابن أبي" مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول اللَّّه - صلى الله عليه وسلم -: " أرسلني"، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً، ثم قال : " ويحك، أرسلني ". ولكن المنافق مضى على إصراره وقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر .
وعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المنافق - الذي لم يكن مضى على إظهار إسلامه إلا نحو شهر واحد فحسب - عامله بالحسنى فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها.
- "حرب المنافقين" في غزوة أحد:(2/45)
قال ابن القيم: خرج رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في ألف من الصحابة إلى أحد... فلما صار بالشَّوْط بَيْنَ المدينةِ وأُحُد، انخزَلَ عبدُ الله ابن أُبَىّ بنحو ثُلثِ العسكر، وقال : تُخالفني وتسمَعُ مِن غيرى، فتبعهم عبدُ الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله يوبِّخهم ويحضُّهم على الرجوع، ويقول : تعَالَوْا قاتِلُوا في سبيل الله، أو ادفعوا . قالوا : لو نَعلَمُ أنكم تُقاتلون، لم نرجع، فرجع عنهم، وسبَّهم، وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحُلفائهم مِن يهود، فأبى، وسلك حرَّة بنى حارثة، وقال : "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ ؟" ، فخرج به بعضُ الأنصارِ حتى سلَك في حائط لِبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو الترابَ في وجوه المسلمين ويقول : لا أُحِلُّ لكَ أن تدخُلَ في حائطى إن كنتَ رسولَ اللهِ، فابتدره القومُ لِيقتلوه، فقال : "لا تقتُلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصرِ ".
قال ابن كثير في البداية والنهاية: ولقد قال ابن أبي سلول بعد انسحابه من معركة أحد: عصاني محمد وأطاع الولدان ومن لا رأي له.
وحدد صاحب الرحيق زمن الانخذال من ابن أبي ابن سلول فقال: حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو، فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر- ثلاثمائة مقاتل- قائلاً : ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك رأيه وأطاع غيره .(2/46)
ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى ، ولو كان هذا هو السبب لانعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيسي من هذا التمرد - في ذلك الظرف الدقيق - أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتنهار معنويات من يبقي معه، بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه .
وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان - بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج - أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سرى فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالى : "إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"[ آل عمران : 122 ] .
وحاول عبد الله بن حَرَام تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً : أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه .(2/47)
وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: "وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ"[ آل عمران 167] .
- "حرب المنافقين" في غزوة بني النضير:
بعد محاولة بني النضير اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء الرحى من فوق الجدار، "بعث إليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن اخرجُوا مِن المدِينةِ، ولا تساكِنُونى بها، وقد أجَّلتُكم عشراً، فمن وجدتُ بعد ذلك بها، ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فأقاموا أياماً يتجهَّزُونَ، وأرسل إليهم المنافِقُ عبدُ الله بن أُبَىّ : أن لا تَخْرُجُوا مِنْ دياركم، فإن معىَ ألفين يدخلُونَ معكم حِصنكم، فيموتون دُونكم، وتنصُرُكم قُريظةُ وحلفاؤكم مِن غَطَفَان، وطَمِعَ رئيسُهم حُيَىّ بنُ أخطَب فيما قال له، وبعثَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنَّا لا نَخْرُجُ مِن دِيَارِنَا، فاصْنَعْ ما بَدَا لك، فكبَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، ونهضُوا إليه، وعلي بن أبي طالب يحمِل اللِّواء، فلما انتهى إليهم، قامُوا على حُصونهم يرمُون بالنَّبل والحِجارة، واعتزلتهم قُريظة، وخانهم ابنُ أُبيّ وحُلفاؤُهم مِن غَطَفَان، ولهذا شبَّه سبحانه وتعالى قِصتهم، وجعل مثلَهم: "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ"[ الحشر : 16].[الزاد]
- "حرب المنافقين" في غزوة الخندق:
تناولت سورة الأحزاب جزءاً من محاربة المنافقين والحرب المضادة ودورهم في الأحزاب:(2/48)
- كذب وتكذيب: روى الطبري عن قتادة في قوله: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً"[الأحزاب 12]، قال ذلك أناس من المنافقين: قد كان محمد يعدنا بفتح فارس والروم، وقد حُصرنا ها هنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
- التخلف: روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ" [الأحزاب 13]، قال: هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية، نخشى عليها من السرق أو من السراق في رواية عن قتادة "إننا نخشى عليه السراق".
- الإرجاف: "وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا "[الأحزاب 13].
- نقض العهد: "وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ" [الأحزاب 15].
- الجبن: "فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" [الأحزاب 19].
- الغدر وعدم نصرة المسلمين: "يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً" الأحزاب 20].(2/49)
في الرحيق: وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالى : "إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا" [ الأحزاب 10، 11 ]
- "حرب المنافقين" في غزوة المريسيع:(2/50)
قال ابن القيم في حديث الإفك وأصل الحديث في الصحيحين: "ذلك أن عائشة - رضي اللَّهُ عنها ولا رضي عمن يعاديها- كانت قد خَرَجَ بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - معه في هذه الغَزوةِ بقُرعة أصابَتْهَا، وكانَت تِلكَ عادته مع نسائه، فلما رجعُوا مِن الغزوة، نزلُوا في بعض المنازل، فخرجَتْ عائشةُ لِحاجتها، ثمَّ رجعت، ففقَدَتْ عِقْداً لأُختها كانت أعارتها إياه، فرجَعَتْ تلتمسُه في الموضع الذي فَقَدَتْه فيه، فجاء النَّفَرُ الَّذِينَ كانُوا يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا، فظنُّوها فيه، فحملوا الهودجَ، ولا يُنكرون خِفته، لأنها رضىَ الله عنها كانت فَتِيَّةَ السِّن، لم يغشها اللَّحْمُ الذي كان يُثْقِلُهَا، وأيضاً، فإن النفرَ لما تساعدوا على حمل الهودج، لم يُنكِرُوا خِفَّته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين، لم يَخْفَ عليهما الحالُ، فرجعت عائشةُ إلى منازلهم، وقد أصابتِ العِقد، فإذا ليس بها داعٍ ولا مُجيب، فقعدت في المنزل، وظنَّت أنهم سيفقدونها، فيرجِعُون في طلبها، واللَّهُ غالِبٌ على أمرهِ، يُدبِّرُ الأمرَ فَوقَ عرشه كما يشاءُ، فغلبتها عيناهَا، فنامَتْ، فلم تستيقِظْ إلا بِقَوْل صَفْوَانَ بنِ المُعَطِّل : إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، زوجةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/51)
وكان صفوان قد عرَّسَ في أُخريات الجيش، لأنه كان كثيرَ النوم، كما جاء عنه في صحيح أبى حاتم وفى السنن : فلما رآها عَرفها، وكانَ يَراها قبلَ نزولِ الحِجَابِ، فاسترجع، وأناخَ راحِلَته، فقرَّبها إليهَا، فركِبَتْهَا، وما كلَّمَها كلمةً واحدة، ولم تَسْمَعْ منه إلا استرجاعَه، ثم سار بها يَقُودُهَا حتَّى قَدِمَ بها، وقد نزل الجيشُ في نحرِ الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ، تكلَّم كُلٌ منهم بِشاكِلته، وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابنُ أُبىّ متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَرْبِ النفاق والحسدِ الذي بين ضُلوعه، فجعل يَستحكى الإفكَ، ويَستوشِيه، ويُشِيعه، ويُذِيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه يتقرَّبُونَ به إليه، فلما قَدِمُوا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ في الحديثِ، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ساكِتٌ لا يتكلَّم.
ولما جاء الوحىُ ببراءتها، أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمن صرَّح بالإفك، فَحُدُّوا ثمانين ثمانين، ولم يُحد الخبيثُ عبد الله بن أُبَىّ، مع أنه رأسُ أهل الإفك، فقيل : لأن الحدودَ تخفيفٌ عن أهلها وكفَّارة، والخبيثُ ليس أهلاً لذلك، وقد وَعَدَهُ الله بالعذابِ العظيمِ في الآخرةِ، فيكفيهِ ذلك عن الحد، وقيل : بل كان يستوشى الحديثَ ويجمعُه ويحكيه، ويُخرجه في قوالب مَن لا يُنسب إليه، وقيل : الحدُّ لا يثبتُ إلا بالإقرار، أو ببيِّنة، وهو لم يُقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكُره بين أصحابه، ولم يشهدُوا عليه، ولم يكن يذكُره بين المؤمنين .
وقيل : حدُّ القذف حقُّ الآدمى، لا يُستوفى إلا بمطالبته، وإن قيل : إنه حقٌ لله، فلا بُدَّ مِن مطالبة المقذوف، وعائشةُ لم تُطالب به ابنَ أُبَىَّ .(2/52)
وقيل : بل تَرَك حدَّه لمصلحة هي أعظمُ مِن إقامته، كما ترك قتله مع ظهورِ نفاقه، وتكلمِه بما يُوجب قتله مراراً، وهى تأليفُ قومه، وعدمُ تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعاً فيهم، رئيساً عليهم، فلم تُؤمن إثارةُ الفتنة في حدِّه، ولعله تُرِكَ لهذِهِ الوجوهِ كُلِّهَا .
فجلد مِسْطَحَ بنَ أثاثة، وحسانَ بن ثابت، وحَمْنَةَ بنتَ جَحْشٍ، وهؤلاء مِن المؤمنين الصَّادقين تطهيراً لهم وتكفيراً، وترك عبد الله بن أُبَىِّ إذاً، فليس هو من أهل ذاك .
- مخطط المنافقين في محاربة الإسلام:
وضح صاحب الرحيق مخطط الكفار في محاربة الإسلام بعد عجزهم عن استخدام السلاح: بيد أن جميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام ليس هو التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو المثل الأعلى - إلى حد الإعجاز - لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا حرباً دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة .
ولما كان المنافقون هم الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين .(2/53)
وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب أنهم كانوا يعتبرون المتبنى مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبنى على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب وجد المنافقون ثُلْمَتَيْن - حسب زعمهم - لإثارة المشاغب ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الأولى : أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج ؟
الثانية : أن زينب كانت زوجة ابنه - مُتَبَنَّاه - فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب . وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا : إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حباً، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلى سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشراً بقيت آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثراً قوياً في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" [ الأحزاب : 1 ] .
وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى : "أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ" [ التوبة : 126 ] .(2/54)
- قول المنافقين : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له : جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة "، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب - وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث - وقال : أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عمر، فقال عمر : مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله . فقال : " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل " ، وذلك فى ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال : لقد رحت في ساعة منكرة ؟ فقال له : "أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ " يريد ابن أبي، فقال : وما قال ؟ قال : " زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " ، قال : فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال : يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكاً .(2/55)
ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَسَّ الأرض فوقعوا نياماً . فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث .
أما ابن أبي فلما علم أن زيداً بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل . فصدقه، قال زيد : فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله : "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ " إلى قوله " لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ " [ المنافقون 1ـ 8 ] ، فأرسل إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها علىَّ، ثم قال : " إن الله قد صدقك " .
وكان ابن هذا المنافق - وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي – رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن له فخلى سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي : يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه .
- "حرب المنافقين" في غزوة تبوك:
جاءت سورة التوبة لتفضح المنافقين وتكشف مخططاتهم، فقد أوسعتهم جلداً وصفعاً في آياتها، قال القرطبي: قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحدا. قال القشيري أبو نصر عبد الحميد: هذه السورة نزلت في غزوة تبوك ونزلت بعدها. وفي أولها نبذ عهود الكفار إليهم. وفي السورة كشف أسرار المنافقين، وتسمى الفاضحة والبحوث, لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة, والبعثرة.(2/56)
قال سيد قطب في تعريفه للسورة: ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها, وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم, ووصف أحوالهم النفسية والعملية, ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها, وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف, وإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخُلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين, وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء, والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله.
" لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ "[التوبة 42].
" وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ "[التوبة 46-48].
" وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ " [التوبة 50،49].(2/57)
" وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ "[التوبة 57،56].
" وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ "[التوبة 59،58].
" وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "[التوبة 61].
" يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقَّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ "[التوبة 63،62].
" يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ "[التوبة 64-66].(2/58)
" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ "[التوبة 68،67].
" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ "[التوبة 74،73].
" وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ "[التوبة 75-77].(2/59)
" الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ "[التوبة 80،79].
" فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ "[التوبة 81-85].(2/60)
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته، كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة، يشير إليها قول الله سبحانه: "وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ "[التوبة 195]، كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم. هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم.
- معالم النفاق في غزوة تبوك:
- التثبيط بالحجج الواهية:
لقد لعب المنافقون دور المخذلين المرجفين عبر تثبيط الهمم وتوهين العزائم، والالتفات للدنيا دون الآخرة، قال تعالى: "وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ " [التوبة:81]، فجاء الرد الرباني يُبطل الحجة بنفس المنطق، فإن كان المانع من النفير هو نار الدنيا فنار جهنم أشد حراً، والخيار: إما نار الدنيا وإما نار الآخرة.
-التثاقل عن الخروج:
قال تعالى: "وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ"[التوبة:46]، فكانت النتيجة تخلف طائفة من المنافقين خلف ستار الحجج الواهية، وعبر المعاذير التافهة، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له العدة، قال تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ" [التوبة:49].
وانطلقت طائفة من المنافقين في النفير، ما خرجت لله ولا نصرة لدين الله، ولكنه مسير في مخطط الإرجاف والتخذيل واقتناص الفرص للتثبيط والكيد.
- محاولة اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(2/61)
قال تعالى: "يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ" [التوبة:74].
وقد باءت محاولاتهم بالفشل لأن الناصر هو الله، فأطلع الله عالم الغيب والشهادة نبيه - صلى الله عليه وسلم - على كيدهم، ونجاه منهم وأبطل ما هموا به، ولم يلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كيدهم كيداً، روى البيهقي في دلائل النبوة عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أقود به وعمار يسوق الناقة، أو أنا أسوق وعمار يقود به، حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها، فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله: "هل عرفتم القوم ؟" قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب، قال:"هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، وهل تدرون ما أرادوا؟، قلنا: لا، قال: "أرادوا أن يزحموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة فيلقوه منها"، قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال: "لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم"، ثم قال: "اللهم ارمهم بالدبيلة"، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال: "هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك".(2/62)
وهذا من أعظم ما تسول لهم شياطينهم فعله أن يقدموا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلي الرغم من ذلك فما زال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند صفحه الجميل وعفوه الكريم، حفاظاً على تماسك الصف المسلم ورغبة في تأليف قلوب العرب، وإسكاتاً لكل الألسنة الخبيثة، ووأداً للفتنة بين العرب، فلا يقال: محمد يقتل أصحابه، صلى الله على نبينا محمد.
- ما بعد المعركة:
ومع كل ما فعلته شياطين الإنس، ما اكتفوا بما كشف الله من عوراتهم ليواجهوا الإسلام ويحاربوه بأقدس بقعة يُعبد فيها الله، بنوا مسجداً يحاربون فيه المسجد، وأرادوا أن يأتوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي فيه، ليفتح لهم باب محادة الله ورسوله – خابوا وخسروا- فجاء البيان الرباني يكشف آخر ورقة تستر عوراتهم، لتبين زيفهم وتوضح مكرهم، ويهدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد الضرار، قال تعالى: "وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" [التوبة:107].
حرب النُصرة
"حرب النصرة" هي إعانة مسلم على عدو له ظاهره بالحرب، سواء أقصد دينه أو ماله أو عرضه أو نسله.
و"حرب النصرة " واجبة على المسلمين لإخوانهم المسلمين، فبها تُرد المظالم ويُصد العدوان، لها صورتان وعليهما الاختلافات الفقهية وليس مدار حديثنا في الفقه واختلاف العلماء فلها حديث آخر ان يسر الله، ولكن ظاهر الأحاديث والسيرة مع عموم "النصرة" بلا نظر في الفروع ولكن للفقهاء في تجريدها نظر:(2/63)
الأول: نصرة مسلمين على قوم آخرين بينهم عهد سابق، فلا يجوز النصرة إلا بعد نبذ العهد، إلا إذا كان الطرف المستنصِر يدخل ضمناً في حلف المستنصَر، فهذا بمثابة إعلان الحرب كما حدث في قصة خزاعة والتي استنصرت بحلفها مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضد بني بكر والتي أعانتها قريش عليها.
الثاني: نصرة مستضعفين في دار الكفر، وهذا محل اختلاف كبير بين الفقهاء، ولهم فيه أقوال مجملها ما نذكره إن شاء الله في الخاتمة.
- طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنصرة:
نقل ابن القيم عن الواقدي: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ ثلاثَ سِنِينَ مِن أوَّلِ نُبوته مُستخفياً، ثم أعلنَ في الرَّابِعة، فدعا النَّاسَ إلى الإسلام عَشْرَ سِنِينَ، يُوافي المَوْسِمَ كُلَّ عام، يتَّبعُ الحاجَّ في منازلهم، وفى المواسم بعُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز، يدعوهم إلى أن يمنَعُوهُ حتى يُبَلِّغَ رِسَالاتِ ربِّه ولهم الجنةُ، فلا يَجِدُ أحداً ينصُره ولا يُجيبه.
وعند الإمام أحمد بسند حسنه الحافظ ابن حجر عن جابر - رضي الله عنه - قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة" فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره.(2/64)
وكان من أمره - صلى الله عليه وسلم - خروجه إلى الناس والقبائل يدعوهم للإسلام، ويعرض عليهم نفسه ليؤوه وينصروه: منه ما أخرجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف كما عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال : " لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم -على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين- أي لفعلت، والأخشبان : هما جبلا مكة : أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا".
وحين خذله أهل الطائف نصره الله - عز وجل - في الموقف عينه بما يثبت الجنان:
1- "عداس" العبد النصراني، ففي حديثه طمأنه وتثبيت على صدق المنهج ووحدة الدعوة.
2- جبريل - عليه السلام - مع ملك الجبال يستأمرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطباق الأخشبين.
3- صرف نفر من الجن يستمعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/65)
4- منعته قريش من دخول مكة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواراً يدخل فيه، فأرسل للمطعم بن عدي أن يجيره، ويا الله حين يمنع مشرك المشركين عن أذية محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال المطعم : نعم، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه، فقال : البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ادخل، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته .
وعند ابن هشام : وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاهم وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد .
هذا بخلاف رؤساء القبائل كالطفيل بن عمرو الدوسي أو ضماد الأزدي وهاك نموذجاً ذكره صاحب الرحيق المختوم للنصرة والمنعة التي كان يريدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه أظهر طمعاً بالملك من بعده - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأتى إلى بني عامر بن صعصعة : فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بَيْحَرَة بن فِرَاس: والله، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : "الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء " ، فقال له : أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه .(2/66)
ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبر سنه، وقالوا له : جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر وهل لها من تَلاَف ؟ هل لذُنَابَاها من مَطْلَب ؟ والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم ؟ .
- بيعة العقبة الثانية و"حرب النصرة":
كان من ضمن الذين عرض عليهم - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ستة نفر من الخزرج، وقدر الله بلسان اليهود أن يسمعوا منهم أن زمن النبوة قد هل، فسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابوه لما دعاهم، وخرج معهم من يعلمهم دين الله ليأتوا في مثل الموسم من قابل بسادة المدينة ليبايعوا على الاسلام.
واجتمع الرجال أوسهم وخزرجهم ليسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليتكلم العباس موضحاً لقدر الموقف ومعظماً لخطر الأمر، فقال: يا معشر الخزرج - وكان العرب يسمون الأنصار خزرجًا، خزرجها وأوسها كليهما - إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده . وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
قال كعب : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت .
وهذه قناعة ذاتية انطلقت من إيمان صادق بعزم أكيد، مع شجاعة الأسود بل تعجز عنه ملوك الغاب، لتحمل أمانة دين الله في الأرض وحماية رسوله - صلى الله عليه وسلم - من كل قوى الشر التي تستهدف دعوته، بل وتحميه في مواجهة العرب والدنيا.(2/67)
وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال فيما رواه الإمام أحمد عن جابر قال: قلنا : يا رسول الله، علام نبايعك ؟ قال : "على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة " .
وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه : قال كعب : فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال : "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " . فأخذ البراء بن مَعْرُور بيده ثم قال : نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرًا عن كابر .
قال : فاعترض القول أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال : يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها – يقصد اليهود في المدينة- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
قال : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : "بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم " .(2/68)
ولم تكن هذه البيعة حمية شباب أو وليدة حماسة مؤقتة بل تعدتها قناعة لا تزول بزوال الجبال، قال ابن إسحاق : لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة : هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهََكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك ؟ قال : "الجنة ". قالوا : ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه .
وفي رواية جابر قال : فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغر السبعين- فقال : رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله . فقالوا : يا أسعد، أمِطْ عنا يدك . فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها .
- معاهدة النصرة مع اليهود في المدينة:
قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.(2/69)
ولذلك فبعد مأساة بئر معونة كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة، ونزل في ظل شجرة، وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فعل، فقال: "لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما "، وانشغل بجمع ديتهما من المسلمين ومن حلفائهم اليهود، وهذا الذي صار سبباً لغزوة بني النضير، كما قال ابن القيم: وسببُ ذلكَ أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم في نَفَرٍ من أَصْحَابه، وكلَّمهم أن يُعينُوهُ في دِية الكِلاَبِيَيْنِ اللَّذَيْنِ قتلَهُمَا عمرُو بنُ أُميَّة الضَّمْرِي، فقالوا : نفعلُ يا أبا القاسم، اجلِس ههنا حتى نَقْضِىَ حاجَتك، وخلا بعضُهم ببعض، وسوَّلَ لهُم الشيطانُ الشقاء الذي كُتِبَ عليهم، فتآمروا بقتله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نجاه الله.
- "حرب النصرة" ضد من يؤذي الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه -: لمّا اصطلحنا نحن وأهل مكّة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها، واضطجعت في أصلها، فأتاني أربعة من المشركين، فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أي يذمونه- فأبغضتهم، فتحوّلت إلى شجرة أخرى، وعلّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قتل ابن زينم. فاخترطت سيفي، ثمّ شددت على هؤلاء الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، وجعلته ضغثاً في يدي -أي حزمة مجموعة-، ثمّ قلت: لا يرفع أحدكم رأسه إلاّ ضربت الذي فيه عيناه، ثمّ جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/70)
وجاء عمّي عامر برجل من العبلات، يقال له مكرز، يقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس مجفّف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "دعوهم، يكن لهم بدء الفجور وثناه".
- "حرب النصرة" لاستنقاذ المسلوب:
في الزاد وأصله في الصحيحين: أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ الفَزَارِىُّ في بنى عبد اللهِ بن غَطَفَانَ على لِقَاحِ النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة، فاستاقها، وقتل راعِيَهَا وهو رجلٌ من عُسفان، واحتملوا امرأته... ونودي : يا خَيْلَ اللهِ ارْكَبى، وكان أول ما نُودى بها، ورَكِبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُقنَّعاً في الحديد، فكان أول مَنْ قدم إليه المقدادُ بن عمرو في الدِّرع والمِغْفَرِ، فَعَقَدَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اللِّواءَ في رُمحه، وقال : "امْضِ حتَّى تلحقك الخيولُ، إنَّا عَلَى أَثَرِكَ"... وأدركَ سلمةُ بنُ الأكوع القومَ، وهو على رِجليه، فجعلَ يرميهم بالنَّبْلِ ويَقُول :
خُذْهَا وَأنَا ابْنُ الأَكْوَع ** والْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّع
حتى انتهى إلى ذي قَرَدٍ وقد استنقذَ مِنهم جميعَ اللِّقَاح وثلاثين بُردة، قال سلمة : فَلَحِقَنَا رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والخيلُ عِشاءً، فقلتُ : يا رسولَ اللهِ، إن القومَ عِطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذتُ ما في أيديهم من السَّرْح، وأخذتُ بأَعناق القوم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَلَكْتَ فَأسْجِحْ"، ثم قالَ : "إنَّهُم الآنَ لَيُقْرَوْنَ في غَطَفَان ".
وذهب الصريخُ بالمدينة إلى بنى عَمْرو بن عوف، فجاءت الأمدادُ ولم تزلِ الخيلُ تأتى، والرجالُ على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انْتَهَوْا إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بذي قَرَدٍ .(2/71)
قال عبد المؤمن بن خلف : فاستنقذوا عَشْرَ لِقاح، وأُفلِتَ القومُ بما بقي، وهو عشر ، قلت[القائل ابن القيم] : وهذا غلط بيِّن، والذي في الصحيحين : أنهم استنقذوا اللِّقَاحَ كُلَّها، ولفظ مسلم في صحيحه عن سلمة : حتى ما خلق الله مِن شيء مِن لِقاح رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلا خلَّفتُه وراء ظهري، واستلبتُ مٍنهم ثلاثِينَ بُردةً .
- "حرب النصرة" وفتح مكة:
حين صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنيابة عن المسلمين سهيلاً بن عمرو بالنيابة عن قريش كان من بنود الصلح: من أحب من العرب أن يدخل في عقد محمد - صلى الله عليه وسلم - وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها فعل، فدخلت بنو بكر في حلف قريش ودخلت خزاعة في حلف محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعهود والمألوف عند العرب وغيرهم أن أي عدوان علي الحليف يعني عدوان على حليفه.(2/72)
كانت بين بني بكر وخزاعة ثارات جاهلية خلفتها الحروب الدائمة بين قبائل العرب، وأِمن كل طرف الآخر بالصلح الموقع بين الحليفين، قال ابن القيم: فلما استمرَّت الهُدنة، اغتنمها بنو بكر من خُزاعة، وأرادوا أن يُصيبُوا منهم الثأرَ القديم، فخرج نوفلُ بنُ معاوية الدِّيلى في جماعة مِن بنى بكر، فبيَّت خُزاعة وهم على الوَتير، فأصابُوا منهم رجالاً، وتناوشُوا واقتتلوا، وأعانت قُريش بنى بكر بالسِّلاح، وقاتلَ معهم مِن قريش مَن قاتل مستخفياً ليلاً، ذكر ابن سعد منهم : صفوان بن أُمية، وحُويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرز بن حفص، حتى حازوا خُزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر : يا نوفل؛ إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك . فقال كلمة عظيمة : لا إله لَهُ اليوم، يا بنى بكر أصيبُوا ثأركم، فلعمرى إنكم لتسرِقُون في الحرم أفلا تُصيبُونَ ثأركُم فيه ؟ فلما دَخَلَتْ خُزاعة مكة، لجؤوا إلى دار بُديل بن ورقاء الخُزاعى ودار مولى لهم يقال له : رافع، ويخرج عمرو بن سالم الخُزاعى حتى قَدِمَ على رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم - المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهرانى أصحابه فقال :
ياربِّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدا * حِلْفَ أَبينَا وَأبيهِ الأتْلَدا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدَاً وكُنَّا وَالِدا * ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدا
فَانْصُرْ هَداَكَ اللهُ نَصْراً أَبَدا * وادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا * إنْ سِيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
في فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِى مُزْبِدا * إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدا
ونَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا * وَجَعَلُوا لى في كَدَاءٍ رَصَدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا * وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالوَتِيرِ هُجَّدَا * وَقَتَلُونَا رُكَّعَاً وَسُجَّدَا(2/73)
يقول : قُتِلْنَا وقَدْ أَسْلَمْنَا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : " نُصِرْتَ يَا عَمْرو بنَ سالم "، ثم عرضَتْ سحابةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "إنَّ هذه السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بن كَعْبٍ " ، ثم خرج بُديل بنُ ورقاء في نَفَرٍ من خُزاعة، حتى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه بما أُصيب منهم، وبمُظَاهَرَةِ قريش بنى بكر عليهم، ثم رجعُوا إلى مكة.(2/74)
وحاولت قريش تجديد الصلح فأرسلت أبا سفيان، قال ابن القيم: ثم خرج حتى أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكلَّمه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، ثم ذهبَ إلى أبي بكر، فكلَّمه أن يُكَلَّمَ لَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : ما أنا بفاعل، ثم أتى عُمَرَ بنَ الخطاب فكلَّمه، فقال : أنا أشفعُ لكم إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فواللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتُكم به، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمَةُ، وحسنٌ غلامٌ يَدِبُّ بين يديهما، فقال : يا علي، إنك أمسُّ القومِ بى رحماً، وإنى قد جئتُ في حاجة، فلا أرْجِعَنَّ كما جئتُ خائباً، اشفع لى إلى محمد، فقال : ويحك يا أبا سُفيان، واللهِ لقد عزم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر ما نستطيعُ أن نُكَلِّمَه فيه، فالتفتَ إلى فاطمة فقال : هَلْ لَكِ أَنْ تأمُرى ابْنَك هذا، فيجير بينَ الناس، فيكون سيدَ العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : واللهِ ما يبلغُ ابنى ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحدٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : يا أبا الحسن، إنى أرى الأُمورَ قد اشتدت علىَّ، فانصحنى، قال : واللهِ ما أعلم لك شيئاً يُغنى عنك، ولكنك سَيدُ بنى كِنانة، فقم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال : أَوَ ترى ذلك مغنياً عنى شيئاً؟ قال : لا واللهِ ما أظنه، ولكنِّى ما أجد لك غيرَ ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس، إنى قد أجرتُ بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئتُ محمداً فكلَّمتُه، فواللهِ ما ردَّ علىَّ شيئاً، ثم جئتُ ابن أبى قُحافة، فلم أجد فيه خيراً، ثم جئتُ عمر بن الخطاب، فوجدته أعدى العدُو، ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علىَّ بشئ صنعته، فواللهِ ما أدرى، هل يُغنى عنى شيئاً، أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرنى أن أجير بين الناس، ففعلتُ، فقالُوا(2/75)
: فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا . قالوا : ويلَك، واللهِ إن زاد الرجلُ على أن لعب بك، قال : لا واللهِ ما وجدتُ غير ذلك .
وأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالجَهَازِ، وأمر أهله أن يُجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى الله عنها، وهى تُحَرِّكُ بعضَ جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أى بُنيَّة، أمركنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتجهيزه ؟ قالت : نعم، فتجهز . قال : فأين تَرَيْنَهُ يُريد؟ قالت : لا والله ما أدرى .
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، فأمرهم بالجد والتجهيز، وقال : " اللَّهُمَّ خُذِ العُيُونَ والأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَها في بِلاَدِهَا "، فتجهز الناسُ .
وكان فتح مكة ونصرة المستضعفين في مكة وما حواليها، ليتسبب غدر قريش بالفتح لكل المستضعفين في مكة، والذين منعهم المشركون من الهجرة بظلمها وبالقيد الذي كان في الحديبية، ولكن بالفتح أمن المسلمون في بيوتهم وطافوا ببيت الله لا يخشون إلا الله.
- "حرب النصرة" للمرأة المسلمة:
روى ابن هشام عن أبي عون : أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها - وهي غافلة - فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله - وكان يهودياً - فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
- "حرب النصرة" للرجل المسلم:(2/76)
قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه عندهم، فقال في محبسه ذلك:
طرقت سليمى موهنا أصحابي * والروم بين الباب والقروان
صد الخيال وساءه ما قد رأى* وهممت أن أغفى وقد أبكاني
لا تكحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدين للإتيان
ولقد علمت أبا كبيشة أنني * وسط الأعزة لا يحص لساني
فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت لتعرفن مكاني
ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان
... فزعم الزهري بن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه، قال :
بلغ سراة المسلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه، وصلبوه، على ذلك الماء، يرحمه الله تعالى.
وقد كان هذا الحدث سبباً لإنفاذ جيش أسامة، قال المباركفوري: ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهز جيشاً كبيراً... وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب .
في الخاتمة نعرج على حكم مناصرة المسلمين في دار الكفر وبسطه في الفقه ولكن نطرحه دون تفصيلات وبما ييسر الله به:(2/77)
قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"[الأنفال 72].
قال ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك, أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم, حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء.
ومن العلماء من قال ينصر المؤمنين ولا ينقض عهد الكفار، قال ابن كثير: "وَإِن اسْتَنصَرُوكُمْ " هؤلاء الأعراب, الذين لم يهاجروا في قتالٍ ديني على عدو لهم فانصروهم, فإنه واجب عليكم نصرهم, لأنهم إخوانكم في الدين, إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار, بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة, فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم, وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال القرطبي: " وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ " يريد إن دَعوا هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك فرض عليكم فلا تخذلوهم، إلا أن يستنصروكم على قوم كفار بينكم وبينهم ميثاق فلا تنصروهم عليهم، ولا تنقضوا العهد حتى تتم مدته.
ومنهم من قال بنسخ الآية ووجوب النصرة مطلقاً، قاله الجصاص في أحكام القرآن.(2/78)
وبذا قال ابن حزم أي بوجوب النصرة لقول الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " [الحجرات10]، وقد خصص الآية بأهل الذمة فقال: أن الآية المقصود بها أهل الذمة "إِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ"... فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام.
وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية: فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم, وعلى غير المقصودين لإعانتهم, كما قال الله تعالى: "وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ"، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المسلم, وسواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن, وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله, مع القلة والكثرة, والمشي والركوب, كما كان المسلمون, لما قصدهم العدو عام الخندق ولم يأذن الله في تركه أحدا كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج. بل ذم الذين يستأذنون النبي - صلى الله عليه وسلم -:"يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا"، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس, وهو قتال اضطرار, وذلك قتال اختيار; للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو, كغزاة تبوك ونحوها, فهذا النوع من العقوبة, هو للطوائف الممتنعة.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
الفهارس
- اهداء ............................................................................... 2
- توطئة .............................................................................. 3
- المنهج .............................................................................. 6(2/79)
- المفهوم ............................................................................ 8
1- الحرب الإعلامية ................................................................. 9
2- الحرب الاستباقية ................................................................. 17
3- الحرب الاستراتيجية .............................................................. 21
4- الحرب الاقتصادية ................................................................ 27
5- الحرب الباردة .................................................................... 33
6-الحرب التأديبية ................................................................... 40
7- الحرب التأمينية .................................................................. 46
8- الحرب التبادلية ................................................................... 52
9- الحرب التدميرية ................................................................. 56
10- الحرب التطهيرية ............................................................. 67
11- الحرب التكتيكية .............................................................. 77
12- الحرب التوسعية ............................................................. 82
13- الحرب الخداعية .............................................................. 91
14- الحرب الدفاعية .............................................................. 98
15- الحرب السرية................................................................. 110
16- الحرب الشاملة ............................................................... 115
17- الحرب الصامتة .............................................................. 120(2/80)
18- الحرب العادلة ............................................................... .122
19- الحرب العقابية ............................................................... 134
20- الحرب الفردية ............................................................... 140
21- الحرب المتتالية .............................................................. 143
22- الحرب المعلوماتية ........................................................... 154
23- الحرب النسائية .............................................................. 161
24- الحرب النظامية .............................................................. 166
25- الحرب النفسية ............................................................... 172
26- الحرب الهجومية الدفاعية .................................................... 178
27- الحرب الهجومية ............................................................ .181
28- الحرب بالجريرة .............................................................. 189
29- حرب الأحزاب ............................................................... 195
30- حرب الأعصاب .............................................................. 201
31- حرب الاستنزاف ............................................................. 210
32- حرب الاغارة ............................................................... 215
33- حرب الاغتيالات ............................................................ 219
34- حرب التخذيل .............................................................. 227
35- حرب الرعب ............................................................... 234(2/81)
36- حرب الشائعات ............................................................. 238
37- حرب العصابات ............................................................ 242
38- حرب الغنائم ................................................................ 247
39- حرب المستضعفين.......................................................... 235
40- حرب المنافقين ............................................................. 261
41- حرب النصرة .............................................................. 270
- الفهارس ...................................................................... 277(2/82)