إرشاد الحكيم
إلى
حادثة التحكيم
التي دارت في زمن الرعيل الأول - رضي الله عنهم -
جمع وترتيب : بندر بن عبدالله الثبيتي
طالب بقسم اللغة العربية
بجامعة الطائف
المقدمة
…الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خير الأولين والآخرين , وعلى الآل والصحب الميامين , وعلى من سار على النهج القويم , حتى لقاء المولى الأمين غير ضالين ولا مضلين .…
…الله انفعنا بالقرآن والسنة , وجنبا الضلال والبدعة , وارزقنا حبك وحب نبيك وحب خير هذه الأمة , صحابة خير رسول لأفضل ملة , الذين رضيت عنهم بالخير كله , (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة : 100 )
فهل بعد قولك إلا القبول والمنة ؟وهل بعد الجحود إلا الكفر والزلة؟
……………………أما بعد :
…فحادثة التحكيم التي دارت حماها في زمن الرعيل الأول ضلت محل إفتراءات وكذب من قبل كثير ممن تناقلها , وحيث أننا مطالبون بالتوقف عما دار بين الصحابة رضوان الله عليهم إجلالا لمكانتهم في هذه الأمة, إلا أننا ملتزمون بالرد على إفتراءات أعدائهم الذين هم بلا شك أعداء لهذا الدين , فمن يطعن في صحابة محمد فقد أبى إثما كبيراً , فقدر هذا الرعيل المجيد لم يحدّث به أحد من الناس , بل ذكره الله في قرآنه كما في الآية السابقة , فمن يلمز فيهم أو يجعل منهم الحريصين على الدنيا فهو ممن إعترض على قول الله, وهل بعد هذا إلا الخسران المبين .(1/1)
…إن حادثة التحكيم التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وماسبقتها وماتبعها من أحداث ,جعلت للمبتدعة ميدانا لنشر الخلاف والفرقة بين هذه الأمة , وكان من أعظم تلك الوسائل هو نشر الروايات الباطلة التي تصف أصحاب رسول الله بطالبي الدنيا , والمغفلين , وغير ذلك من أقوالهم , وحاشاهم رضي الله عنهم .
…و لما دار حديث بيني وبين معلمي الفاضل الدكتور شعبان زكي الدكتور بجامعة الطائف بارك الله فيه حول صحة بعض الروايات في حادثة التحكيم , التي تزدري من أصحاب النبي تناقشت معه حول صحة هذه الروايات من كذبها, فحادثني حديث المعلم لتلميذه أن هذه القصص منثورة في كتب التاريخ المعتمدة , ولم يكن ليأتي بشيء من دونها, ولا حظت سعة مدارك الدكتور الفاضل بأخبار التاريخ وسرعة بديهته حفظه الله , ولما ألححت عليه بأن هذه القصص لا تثبت لم يزجرني بل شجعني وأمرني بأن أعمل بحثاً حول هذا الموضوع , فتشجعت وأقدمت وإن كنت أرجو أن لا يكون حول هذا الموضوع الحساس , إلا أن بيان الحق مهم ودحض الشبهات أهم , فاستعنت بالله قبل كل شيء , ثم بحث عن ما يفيد موضوعي فوجدت الفوائد الجمة والسير العطرة لهؤلاء الأخيار , ودونك الحقيقة تنجلي لك حتى تتضح الرؤية لكل مطلع على تاريخ هؤلاء الأبطال , والله أسأل ان يجعل ذلك ذخرا لنا يوم أن نلقاه دفاعا عن قوله وقول رسوله عن خير القرون .
الأهداف العامة للبحث :
1-الدفاع عن صحابة رسول الله - رضي الله عنهم -.
2-قراءة التاريخ بنظرة إسلامية صحيحة .
3-تصحيح كثير من القصص المكذوبة المتداولة من تلك الحادثة .
……
…………………أبو سليمان بندر بن عبدالله الثبيتي
الطائف- ص.ب 4155 الرمز 21499
b22ba@hotmail.com
صباح يوم الأحد الموافق 6/12/1428هـ
الفصل الأول : ممن نأخذ أخبار أمتنا
-تمهيد
- أسباب القصور في قراءة التاريخ الإسلامي(1/2)
- أقسام وأنواع المؤرخون والباحثون في علم التاريخ وأخبار الصحابة بشكل خاص
- ماهي الكتب المعتمدة عندنا في كتب التاريخ ؟
- كتب لا يصح أخذ أخبار التاريخ منها
الفصل الثاني : ابرز الأحداث التي سبقت حادثة التحكيم
-تمهيد
- لمحة موجزة قبل حادثة التحكيم
- سبب القتال بين فريق علي وفريق معاوية
-بداية القتال
-موقف علي بعد انتهاء القتال
-أهل الأهواء وأثرهم على إستمرار القتال
-السبب الحقيقي في الخلاف بين علي ومعاوية :
-اعتقاد أهل السنة والجماعة في موقف معاوية من البيعة لعلي:
-الموقف الصحيح من مواقف الصحابة في هذه الفتنة :
-دفاعًا عن محرر مصر من الرومان
الفصل الثالث : حادثة التحكيم
-الرواية الصحيحة في حادثة التحكيم :
-موجز يبين مكانة الحكمين في الإسلام :
-اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل
- ماذا حدث بعد التحيكم :
-خاتمة
…
الفصل الأول :ممن نأخذ أخبار أمتنا:
تمهيد :
يعتبر التاريخ مصدراً هاماً من مصادر حفظ كيان الأمم والشعوب, لذلك كانت كتابة التاريخ أمراً ذا حساسية وخطورة بالغتين, لما لكتابة التاريخ من أثر بالغ في تشكيل القليّات وإقناع الناس, وادّعاء الحقوق, وليس اليهود في فلسطين عنّا ببعيد, فقد امتدت أيديهم إلى التاريخ تحريفاً وتزويراً وهم يخرجون لنا النصوص والوثائق التي يحرفونها أو يحرفون مدلولاتها ليقولوا للعالم أن فلسطين أرض يهودية منحها الله لهم.(1)
وردت في القرآن إشارات كثيرة إلى أهميه دراسة سير الأولين والتأمل فيها وأخذ العبر منها: قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَن فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} آل عمران/133
__________
(1) مجلة الراصد نت العدد الرابع - شوال 1424هـ)(1/3)
وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يوسف/111 . وقوله تعالى: {...فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ..} الأعراف /176
وفى السُنة :حيث ' أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بحوادث ستقع في المستقبل حتى يكونوا على وعي بالحاضر والمستقبل مثل فتح القسطنطينية ورومية ومثل المعارك التي ستقع مع اليهود والنصارى وأحداث الساعة ... وغيرها .
كذلك اهتم علماء السلف بالتصنيف في التاريخ لخدمة هذه الأمة أمثال الإمام الطبري وابن كثير والذهبي وغيرهم.
أسباب القصور في قراءة التاريخ الإسلامي :
…هناك عدة أسباب من أهمها (1):
وقوع كثير من المسلمين في ضحية ما كتبه المستشرقين والمتأثرين بهم من بني جلدتنا , وما كتبه المغرضين من أعداء الدين لهذا التاريخ .
غياب العلم الشرعي , والجهل بقواعد منهج التاريخ الذي وضعه علماء التاريخ .
المطالبة الملحة بعدم التشديد في روايات التاريخ من قبل بعض الكتاب والباحثين .
ولعل هناك سبب مهم آخر ألا وهو التعصب المذهبي يقول د.راغب السرجاني (2) (وهذه الطائفة تُعدّ من أخطر الطوائف، ومن منطلق التعصب لمذهبهم قام الشيعة بوضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والروايات المفتراة على الصحابة، خاصة في أحداث الفتنة، وقد كان لهذا الأمر رواجًا كبيرًا؛ نظرًا لقوة شوكة الشيعة في ذلك الوقت، كما تعصبوا بشدة لفارس، وخلطوا في أمور كثيرة، بل أدخلوا على الإسلام كثيرًا من العقائد المجوسية )
__________
(1) ذكرها عبدالكريم الحربي في كتابه الماتع والنفيس (كيف نقرأ تاريخ الآل والأصحاب) ص 13 .
(2) انظر كتاب قصة الفتنة(1/4)
وبسبب الانسياق وراء هذا من قبل كثير من المسلمين يقول الشيخ القاضي صالح الدرويش حفظه الله(1) : (.....وأتقن أصحاب المصالح استغلاله-يعني التاريخ المكذوب- في تحريك العواطف وكسب التأييد ، وتحريك الجماهير، وكسب الأموال ، وأصبح الرصيد التاريخي السلّم الذي يرتقونه ليصلوا إلى أهدافهم).
أقسام وأنواع المؤرخون والباحثون في علم التاريخ وأخبار الصحابة بشكل خاص :
الصنف الأول: لا يسرّه أن يرى راية الإسلام مرتفعة خفّاقة, ويحب أن يشوّه هذا التاريخ المليء بالجهاد والتضحية ونصرة الإسلام, ولا يرى التاريخ إلا مجموعة من الغاضبين للسلطة المعادين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثّاني: الذين يخلطون بين الغث والسمين, وينقلون الروايات بلا تمحيص أو تثبيت, وبعضهم يرغب في إشباع موضوعه بغض النظر عن الروايات المنقولة.
الصنف الثالث: هم الذين يؤمنون بنصاعة تاريخنا الإسلامي وخاصة في عصوره المتقدمة, ويرون عدالة الصحابة, ويتثبتون مما ينقلونه, ويعرضون عن الروايات المكذوبة والمختلفة.
ماهي الكتب المعتمدة عندنا في كتب التاريخ ؟
…قيض الله لهذا العلم أفذاذا من العلماء الذين أوضحوا الحق وأزالوا الباطل , فالذي يريد قراءة التاريخ لايجد عناء في أخذ الأخبار من مصادرها الموثوقة , فكثير من علماء التراجم والسير ذكروا الروايات بأسانيدها , فمنهم من بين مواطن الضعف في الرجال إن كانت ضعيفة , وصحح الرواية إن كانت صحيحة, ومنهم من اكتفى بذكر السند وهذا لا بد فيه من تتبع السند من كتب الرجال والتحقق من صحتها .
بعض الكتب المعتمدة في المصادر التاريخية :
أذكر من تلك الكتب بإختصار(2):
__________
(1) انظر كتاب صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (مأخوذ من الشبكة العنكبوتية)
(2) للإستزادة يرجع لكتاب عبدالكريم الحربي السالف الذكر ص67 , فقد ذكر فيه توضيحات مهمة .(1/5)
الطبقات الكبرى لابن سعد وهو أقدمها ومؤلفه يذكر الروايات بالسند , وفيه بعض الروايات التي لا تصح .
تاريخ خليفة بن خياط ومروياته التي في الفتن سليمة.
تاريخ الطبري , وهنا لا بد من الإشارة من أن تاريخ الطبري حوى على الكثير من الروايات والقصص التي لا تثبت لانه اكتفى رحمه الله بالإسناد ولم يتعقبه وبرئت ذمته بذكر الاسناد , وسيأتي معنا في ذكر حادثة التحكيم شيء من تلك الروايات.
البداية والنهاية لابن كثير , وقام رحمه الله بتتبع الروايات وبين الضعيف منها فهو محدث كبير معني بهذا المجال .
تاريخ دمشق لابن عساكر , ويمتاز بالإسناد لكل قصة .
تاريخ الاسلام للذهبي , مؤلفه بارع في الجرح والتعديل وهو من أوثق الكتب بناء على حرص مؤلفه رحمه الله في تعقب الروايات .
تاريخ المدينة لابن شبة , وفيه روايات مهمة عن الفتنة , ومروياته غير مكتملة لعدم اكتمال المخطوط الأصلي .
مقدمة ابن خلدون .
المنتظم في التاريخ لابن الجوزي .
10-موسوعة التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر .
11-العواصم من القواصم لابن العربي , وهو من أنفع الكتب في الرد على شبهات المبغضين للصحابة .
12- كتاب (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية(1).
12-حقبة من التاريخ لعثمان الخميس .
13-أخطاء يجب أن تصحح من التاريخ لجمال عبدالهادي ووفاء جمعة .
14-التاريخ الإسلامي مواقف وعبر لعبدالعزيز الحميدي.
15-قصة الفتنة لراغب السرجاني وهو من أفضل الكتب الحديثة التي ناقشت الفتنة التي وقعت بين الصحابة بمصداقية واضحة.
16-كتب الحديث (البخاري , مسلم ...........)
17-كتب التراجم (الاستيعاب لابن عبد البر –أسد الغابة لابن الأثير-الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر,..........)
كتب لا يصح أخذ أخبار التاريخ منها :
__________
(1) ذكره الدكتور راغب السرجاني في كتاب النافع "قصة الفتنة "(1/6)
وهؤلاء من الذين يخلطون بين الغث والسمين, وينقلون الروايات بلا تمحيص أو تثبيت, وبعضهم يرغب في إشباع موضوعه بغض النظر عن الروايات المنقولة.
فيجب علينا أخذ الحيطة والحذر عند قرائتها , لأن قرائتها دون علم يوقع في أخطاء فادحة ورسم صورة سيئة عن رموز الإسلام , وكثير من الفضلاء انغر بها وتأثر بها وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأذكرها هنا بإختصار(1) :
الأغاني لأبي فرج الأصبهاني :
لا يمت للتاريخ بصلة , حشاه بكثير من الروايات التي تطعن في خلفاء هذه الأمة .
2-العقد الفريد لابن عبد ربه :
لاينبغي الإعتماد عليه .
3-الإمامة والسياسة لابن قتيبة:
وهو مكذوب على ابن قتيبة .
4-مروج الذهب للمسعودي :
مؤلفه من كبار علماء الشيعة وفيه كذب كثير كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية , وقال ابن خلدون أن فيه طعنا ولمزاً,
وكثير من الباحثين يستشهد من هذا الكتاب وخاصة الأدباء وللأسف .
5-شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد :
ليس فيه كثير فائدة , وهو من المعتزلة وممن قام بشرح كتاب صفين لابن مزاحم الرافضي المتروك الحديث .
6-كتاب السقيفة لسليم بن قيس :
وفيه من المناكير والكذب الشيء الكثير
7-كتاب السقيفة للجوهري :
يأتي بالمنكرات من الأقوال والروايات والأسانيد ضعيفة ومجهولة كذلك.
8-تاريخ اليعقوبي :
مؤلفه له مواقف عدائية من الصحابة الكرام .
9-فرائد السمطين للحمويتي :
قال الذهبي عنه أن مكذوب الرواية .
10-المختصر في أخبار سيد البشر لأبي الفداء:
وفيه من الروايات المكذوبة الشيء الكثير .
11-كتب طه حسين(2) :
__________
(1) وارجع إن شئت لكتاب الحربي "كيف تقرأ كتب الآل والأصحاب " ص80 حيث ذكرها بشيء من التوضيح .
(2) ذكره د. راغب السرجاني في كتاب قصة الفتنة وما بعد كذلك .(1/7)
جميع كتبه تطعن في الإسلام، وكان يعلّم تلامذته النقد في القرآن الكريم، ويقول: هذه الآية بناؤها قوي وهذه الآية بناؤها ضعيف.كما طعن طه حسين في كتبه في كثير من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا،
12- كتب عبد الرحمن الشرقاوي:
ومن يقرأ عن أحداث الفتن في هذه الكتب يجده قد طعن في جميع الصحابة بلا استثناء.
13- كتاب خالد محمد خالد (رجال حول الرسول) وكتابه (خلفاء الرسول):
قد طعن في من كان مع معاوية ضد علي رضي الله عنهم جميعًا، وطعن أيضًا في أبي موسى الأشعري مستدلًا بقصص واهية ومكذوبة.
14- كتاب (عائشة أم المؤمنين) للدكتورة زاهية قدروة:
مراجع الكاتبة ومصادرها شيعية , يجعل قارئه يشمئز مما فيه(1)
الخلاصة :
أن الذين ويرون عدالة الصحابة, ويتثبتون مما ينقلونه, ويعرضون عن الروايات المكذوبة والمختلفة هم الأحق بالنظر إلى كتبهم لأنه نظر إلى حق والحق أحق أن يتبع.
الباب الثاني : ابرز الأحداث التي سبقت حادثة التحكيم
تمهيد :
يقول الشيخ صالح الدرويش بارك الله في علمه(2) ( من كمال نعمة الله على الرسول صلى الله عليه وسلم أن اختار الله له خير الأصحاب فهماً ورجولة وشجاعة ، ولا غرو في ذلك فهم أقاربه وعشيرته ، وخير الناس نسباًَ ، وأكرم الناس خُلقاً . وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "
فإن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة كبرى وفضل من الله تعالى ، نعم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وبها فاز الصحابة رضي الله عنهم، وسبقوا غيرهم....
__________
(1) د.راغب السرجاني
(2) كتاب صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من الشبكة العنكبوتية "(1/8)
إن الذين يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبه يقتدون، يعتقدون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم، وهم الذين أخذوا القرآن والسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، وعنهم أخذ التابعون، والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بما أمره الله به .
والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم وقائدهم ومعلمهم سيد المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله! )
…جعلت كلام الشيخ حفظه الله منطلقا لما سيأتي من ذكر ما جرى بعد مقتل عثمان والأحداث العظيمة التي وقعت , وأن هؤلاء الأخيار كل عمل بإجتهاده فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد , ولا ينبغي التنقص من أحد أو الغلو في أحد لأنهم في نهاية الأمر بشر شرفهم الله بصحبة خير البشرية عليه الصلاة والسلام.
لمحة موجزة قبل حادثة التحكيم(1):
__________
(1) جميع ما كتب تحت هذا العنوان هو من جهد الشبخ أبو عبدالله الذهبي من عدة مقالات منشورة على الشبكة العنكبوتية لخصتها وأضفت إليها مايهم .(1/9)
لما فرغ علي رضي الله عنه من أمر البصرة ، فما أن أعطى أهلها بيعتهم و استقام له الأمر فيها ، رأى أن الشام يجب أن تبايع ، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه و معه كتاباً لمعاوية يطلب منه البيعة ، و يذكره بما حدث في الجمل ، فلما وصل جرير أعطى لمعاوية الكتاب ، فأرسل معاوية يستشير رؤوس الشام ، فأبوا البيعة إلا بأخذ الثأر من قتلة عثمان ، و كان هذا الرفض من معاوية هو الانتقام لمقتل عثمان ، حيث أنه معاوية كان يرى أنه على قوة في الشام و أنه لن يفرط في هذه القوة إلا بالانتقام لمقتل عثمان رضي الله عنه ، و أنه ولي دم عثمان ، لأنه صار رأس بني أمية مكانةً ، و قد تحدد موقفهم منذ اللحظة التي حمل فيها النعمان بن بشير رضي الله عنه قميص عثمان و هو ملطخ بدمائه و معه أصابع نائلة زوجة عثمان فوضع القميص على المنبر في الشام ليراه الناس و الأصابع معلقة في كم القميص ، و ندب معاوية الناس للأخذ بثأر عثمان و القصاص من قتلته ، و قد قام مع معاوية جماعة من الصحابة في هذا الشان ، و علي رضي الله عنه كان يقول تبايع ثم ننظر في قتلة عثمان (1).
رجع جرير إلى علي بالخبر ، و جاء رسول من معاوية إلى علي رضي الله عنه فلما دخل عليه و استأمن لنفسه قال : لقد تركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون على قميص عثمان ، و هو منصوب لهم و قد ألبسوه منبر دمشق قال علي : مني يطلبون دم عثمان ! ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله (2).
و خرج علي رضي الله عنه متوجهاً نحو الشام و كان عدد جيشه كما قدرته بعض الروايات ما بين خمسين ألفاً و مائة ألفاً مقاتل(3) .
فوصلت الأخبار إلى معاوية بتحرك جيش علي فتجهز هو أيضاً بجيش كبير
__________
(1) تاريخ الطبري (4/562) و البداية و النهاية لابن كثير (7/228) .
(2) تاريخ الطبري (4/444) .
(3) تاريخ خليفة (ص 193) بسند حسن .(1/10)
فخرج حتى عسكر في صفين ، فخيم هناك عند الماء و انتظر وصول جيش علي رضي الله عنه(1) .
فلما وصل جيش علي رضي الله عنه إلى صفين كان جيش معاوية قد احتل موارد الماء ، في حين كان جيش علي في منطقة لا ماء فيها ، فأرسل علي إلى معاوية يطلب منه أن يدع الماء بينهما ، فتشاور معاوية مع القادة فاختلفوا فقرر معاوية أن يمنع الماء و لكن يكون منعاً صورياً فقط ، و وضع كتيبة صغيرة على الماء ، فجاء الناس ليشربوا فمنعوهم ، فاشتكى الناس لعلي فقال أرسلوا إلى الأشعث فجاء فقال : ائتوني بدرع ابن سهر - رجل من بني براء - فصبها عليه ثم أتاهم فقاتلهم حتى أزالهم عن الماء (2).
هنا احتل جيش علي الماء ، فقال علي : دعوهم فإن الماء لا يمنع (3).
فأمر بالسماح لمن شاء بالشرب ، فاجتمع الجيشان حول ماء صفين .
و حين عسكر علي رضي الله عنه بصفين سلك مع أهل الشام نفس الأسلوب الذي سلكه مع أهل الجمل ، فأرسل وفداً إلى معاوية يدعوه إلى الصلح ،
-لاصحة لإرسال علي عدد من الصحابة وحدوث سباب ولعان بينهم وبين معاوية:
ما ذكره بعض المؤرخين من روايات تفيد بأن علياً أرسل بشير بن عمرو الأنصاري و سعيد بن قيس و شبث بن ربعي و عدي بن حاتم و غيرهم ليكلموا معاوية و يطلبوا منه الرضوخ لعلي و ما جرى بينهم من مناقشات و سباب و لعان و شتم لمعاوية و اتهام لبعض الصحابة في التورط في دم عثمان كعدي و عمار و علي و أن معاوية تباطأ في إرسال العون طمعاً في أن تكون الخلافة له . هذا كله كذب ملفق ليس له أصل من الصحة ، بطله أبو مخنف الكذاب .
-سبب القتال بين فريق علي وفريق معاوية :
__________
(1) تاريخ الطبري (4/563)
(2) ذكره ابن أبي شيبة في المصنف (15/292) و خليفة بن خياط في تاريخه (ص 193) و هو حسن الإسناد .
(3) ابن حجر في تهذيب (1/359) . و مصنف ابن أبي شيبة (15/294) و تاريخ خليفة (ص 193) بسند حسن(1/11)
ذكر القاضي ابن العربي(1) أن سبب القتال بين أهل الشام و أهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما : فهؤلاء -أي أهل العراق - يدعون إلى علي بالبيعة و تأليف الكلمة على الإمام ، و هؤلاء - أي أهل الشام - يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان و يقولون : لا نبايع من يؤوي القتلة .
بداية القتال (موقعة صفين ) :
بدأ القتال و تقاتل الناس لكنه كان قتالاً خفيفاً لمدة أسبوع لم يكن لأحد على أحد غلبة حيث أرسل علي رضي الله عنه كتيبة فأخرج له معاوية كتيبة فتقاتلتا و لم تستطع إحداهما أن تحسم الأمر فرجعتا ، فأرسل كتيبة أخرى و هكذا ظل الأمر طيلة شهر ذي الحجة . حتى إن المؤرخين يقولون أن معركة صفين حدثت فيها أكثر من سبعين جولة ووقعة(2) .
فلما انتهى شهر ذي الحجة أرسل علي رضي الله عنه إلى معاوية و قال له : هل لك إلى أن نتهادن شهراً و أن لا يحدث فيه قتال ، لعل أن نتفاوض و نتفاهم ؟ و كان الأمل في الصلح يحدوا الجميع ، حيث إن علياً رضي الله عنه غير راغب في القتال أصلاً ، فهو يريد أن يؤخر القتال قدر المستطاع و كذلك معاوية ، فلم يكد يعرض عليه علي هذا الأمر حتى بادر معاوية بالموافقة على إيقاف القتال في شهر المحرم .
و فعلاً ما كاد يدخل شهر المحرم حتى توقف القتال تماماً و الجيشان في أماكنهما يتزاورون و يتسامرون في الليل ، و لا غرابة في ذلك لأنه لم تكن بين الجيشين أحقاد ، بل كان كل طرف ينافح عما يعتقده حقاً ، و لأنهم كانوا أهلاً من نفس القبائل و العشائر(3).
و انتهت الهدنة و بدأت غرة صفر و بدأت الوقعة . و في اليوم الثامن من صفر عزم علي على أن يحسم الأمر فقرر أن تكون هجمة كاملة ، فتجهز الناس و أمر علي بالهجوم فتقاتلوا و استمر القتال ثلاثة أيام لا يتوقف (4).
__________
(1) في كتابه العواصم من القواصم (ص 166)
(2) ذكره ابن حجر في الفتح (13/92) .
(3) المنتظم لابن الجوزي (5/117-118) .
(4) المنتظم لابن الجوزي (5/118) .(1/12)
و قد التزم كلٌ من الطرفين بأحكام قتال البغاة .
روى الحاكم بسند صحيح عن أبي أمامة قال : شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ، و لا يطلبون مولياً و لا يسلبون قتيلاً(1) .
لاصحة لأخذ علي أموال معسكر معاوية :
و ثبت بالإجماع أن علي بن أبي طالب لم يصادر شيئاً من أموال البغاة . و أما ما ذكره أبو مخنف من أخذ أموالهم التي كانت بالعسكر ، فهذا لا يصح إذ الإجماع منعقد على حرمة أموالهم و لم تصح هذه الرواية عند الفقهاء و لذلك لم يأخذوا بها .
هل صحيح أن الجيشان كان يكفر بعضهما بعضا ؟
لم يكن الطرفان يكفر بعضهما ، لكن بعض الجند المتحمسين في جيش علي رضي الله عنه كانوا يلعنون و يكفرون الشاميين ، فلا يلقى من قادته إلا النهر و التوبيخ ، و من طريق زياد بن الحارث ، قال : كنت إلى جنب عمار فقال رجل : كفر أهل الشام ، فقال عمار : لا تقولوا ذلك نبينا و نبيهم واحد و قبلتنا و قبلتهم واحدة، لكنهم قوم مفترون جاروا عن الحق ، علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا(2) .
و قال رجل يوم صفين : اللهم العن أهل الشام ، فقال علي رضي الله عنه : لا تسب أهل الشام جمعاً غفيراً فإن بها الأبدال ، فإن بها الأبدال ، فإن بها الأبدال(3) . و الأبدال هم من تميزوا عن غيرهم بالعلم و العبادة (4).
-ليلة الهرير :
استمر القتال سجالاً و كثر القتل بين الناس و هم لا يتوقفون . ثم إن علياً رضي الله عنه شد في الهجوم على جيش معاوية فكانت تلك الليلة من أشد الليالي حتى سميت بليلة الهرير(5) . فطحنت المعركة ألوفاً من الجانبين ، و كلّ الباقون من القتال .
- حيلة رفع المصاحف :
__________
(1) انظر إرواء الغليل (8/114) و المستدرك (2/155) و البيهقي في سننه (8/182) . و طبقات ابن سعد (7/411) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/294) .
(3) مصنف عبد الرزاق (11/249) .
(4) انظر فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/905) .
(5) المنتظم (5/120) .(1/13)
هنا تفتق ذهن عمرو بن العاص عن فكرة التحكيم التي أنقذت الجيش الشامي من الهزيمة ، فأرسل معاوية رجلاً يحمل المصحف إلى علي و يقول : بيننا و بينكم كتاب الله فقال علي : أنا أولى بذلك بيننا كتاب الله . و توقف القتال و انسحب الفريقان ، وقدر محمد بن سيرين عدد القتلى في هذه المعركة بحوالي سبعين ألف رجل كان منهم خمس و أربعين ألف شخص من جيش الشام ، أي كان نصف الجيش قد فني فما قدروا على عدّهم إلا بالقصب ، وضعوا على كل إنسان قصبة ، ثم عدوا القصب (1).
-موقف علي بعد انتهاء القتال :
سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الفريقين يوم صفين فقال : قتلانا و قتلاهم في الجنة ، يصير الأمر إلي و إلى معاوية(2) .
يصف سالم بن عبيد الأشجعي و هو صحابي شهد المعركة موقف علي رضي الله عنه فيقول : رأيت علياً بعد صفين و هو أخذ بيدي ، و نحن نمشي في القتلى فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل الشام فقلت له : يا أمير المؤمنين إنّا في أصحاب معاوية !؟ فقال علي : إنما الحساب عليّ و على معاوية (3).
أي أنه يرى نفسه و معاوية مسؤلين عما حدث و هما يحاسبان على ذلك .
-أهل الأهواء وأثرهم على إستمرار القتال :
وما حصل من قتال بين علي و معاوية لم يكن يريده واحد منهما ، بل كان في الجيش من أهل الأهواء من يحرص على القتال ، الأمر الذي أدى إلى نشوب تلك المعركة الطاحنة ، و خروج الأمر من يد علي و معاوية رضي الله عنهما (4).
__________
(1) الذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين (ص 545) و معجم البلدان (3/414-415) . و مصنف ابن أبي شيبة (15/295) بإسناد حسن لكنه من مرسل ابن سيرين . و تاريخ خليفة (ص 194) مختصراً .
(2) المعجم الكبير للطبراني (19/307) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (15/303) .
(4) أشراط الساعة ليوسف الوابل (ص 103) .(1/14)
و أكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا علياً و لا معاوية ، و كان علي و معاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المتقاتلين ، لكن غلبا فيما وقع ، و الفتنة إذا ثارت ؛ عجز الحكماء عن إطفاء نارها .
فكان في العسكرين قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار و قوم ينفرون عنه ، و قوم ينتصرون لعلي و قوم ينفرون عنه ، ثم قتال أصحاب معاوية لم يكن لخصوص معاوية ، بل كان لأسباب أخرى . و قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية ، لا تنضبط مقاصد أهله و اعتقاداتهم ؛ و كما قال الزهري : هاجت الفتنة الأولى و أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون و فيهم البدريون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن ؛ فإنه هدر أنزلوه منزلة الجاهلية(1) .
-السبب الحقيقي في الخلاف بين علي ومعاوية :
من المعروف و المتفق عليه بين الإخباريين و المؤرخين أن الخلاف بين علي و معاوية ، كان سببه طلب تعجيل القصاص من قتلة عثمان . و من الملاحظ أن الصحابة رضوان الله عليهم متفقون على إقامة حدّ القصاص على قتلة عثمان ، لكن الخلاف بينهم وقع في مسألة التقديم أو التأخير ، فمعاوية رضي الله عنه و من معه كانوا يرون تعجيل أخذ القصاص من الذين حصروا الخليفة حتى قتل ،
و أن البداءة بقتلهم أولى ، بينما رأى أمير المؤمنين علي و من معه تأخيره حتى يوطد مركز الخلافة و يتقدم أولياء عثمان بالدعوى عنده على معيّنين ، فيحكم لهم بعد إقامة البيّنة عليهم ، لأن هؤلاء المحاصرين لأمير المؤمنين عثمان ليسوا نفراً من قبيلة معيّنة بل من قبائل مختلفة . على أن استعجال تنفيذ القصاص بدون إقامة الدعوى من أولياء المقتول عند الإمام ، و حكمه على القاتل ، يؤدي لا محالة إلى انتشار الفتنة بحرب طاحنة يذهب فيها كثير من الأبرياء .
__________
(1) منهاج السنة لابن تيمية (4/452-458) . و البيهقي في السنن الكبرى (8/174-175) .(1/15)
و لذلك كان رأي علي رضي الله عنه أسدّ و أصوب من رأي معاوية رضي الله عنه كما نطقت بذلك النصوص الشرعية .
و قد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد و يأخذ حقه دون السلطان ، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر ، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة و إشاعة الفوضى . و لهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض (1).
شبهة حول أن معاوية كان يريد الخلافة
قد شاع بين الناس قديماً و حديثاً أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان سببه طمع معاوية في الخلافة ، و أن خروج معاوية على علي و امتناعه عن بيعته كان بسبب عزله عن ولاية الشام .
و قد جاء في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري رواية تذكر أن معاوية ادّعى الخلافة ، لكن لا تصح لان الكتاب منسوب لمؤلفه كذبا ولا دليل يثبت بأن ابن قتيبة مؤلفه .
لكن الصحيح أن الخلاف بين علي و معاوية رضي الله عنهما كان حول مدى وجوب بيعة معاوية و أصحابه لعلي قبل إيقاع القصاص على قتلة عثمان أو بعده ، و ليس هذا من أمر الخلافة في شيء . فقد كان رأي معاوية رضي الله عنه و من حوله من أهل الشام أن يقتص علي رضي الله عنه من قتلة عثمان ثم يدخلوا بعد ذلك في البيعة .
يقول إمام الحرمين الجويني في لمع الأدلة : إن معاوية و إن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته و لا يدعيها لنفسه ، و إنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ، و كان مخطئاً(2) .
أما شيخ الإسلام فيقول : بأن معاوية لم يدّع الخلافة و لم يبايع له بها حتى قتل علي ، فلم يقاتل على أنه خليفة ، و لا أنه يستحقها ، و كان يقر بذلك لمن يسأله (3).
-قصة تثبت بأن معاوية لايريد الخلافة :
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/256) في تفسير سورة البقرة الآية (179) .
(2) لمع الأدلة في عقائد أهل السنة للجويني (ص 115) .
(3) مجموع الفتاوى ( 35/72) .(1/16)
و يورد ابن كثير(1) ، بإسناد إلى أبي الدرداء و أبي أمامة رضي الله عنهما ، أنهما دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ! علام تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك و من أبيك إسلاماً ، و أقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أحق بهذا الأمر منك . فقال : أقاتله على دم عثمان ، و أنه آوى قتلة عثمان، فاذهبا إليه فقولا : فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام .
-اعتقاد أهل السنة والجماعة في موقف معاوية من البيعة لعلي:
يقول ابن حجر الهيتمي(2): و من اعتقاد أهل السنة و الجماعة أن ما جرى بين معاوية و علي رضي الله عنهما من الحرب ، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي .. فلم تهج الفتنة بسببها ، و إنما هاجت بسبب أن معاوية و من معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه ، فامتنع علي .
فائدة من إمتناع علي تسليم قتلة عثمان :
يقول ابن العربي : و لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إثارة الفتنة و تشتيت الكلمة (3).
-الموقف الصحيح من مواقف الصحابة في هذه الفتنة :
سوف نجد أن الموقف الأحوط و الأمثل هو موقف الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة و آثروا عدم قتال أهل القبلة ، و ذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الفئة الباغية و سماهم باغية إذا رفضت الصلح ، و لم يأمر بقتالها ابتداءً .
__________
(1) في البداية و النهاية (7/360) ، عن ابن ديزيل - هو إبراهيم بن الحسين بن علي الهمداني المعروف بابن ديزيل الإمام الحافظ (ت 281 هـ) انظر : تاريخ دمشق (6/387) و سير أعلام النبلاء (13/184-192) و لسان الميزان لابن حجر (1/48) -
(2) الصواعق المحرقة ( ص 325)
(3) أحكام القرآن لابن العربي (4/1718) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/318) في تفسير سورة الحجرات .(1/17)
و بهذا المذهب التزم إما أهل السنة أحمد بن حنبل و بنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية .
-الروايات التي ذكرها الإمام الطبري لابد من تصحيح سندها:
إذا نظرنا إلى روايات الإمام الطبري في هذا الموضوع - أي موقعة صفين - نجدها تبلغ أربعاً و ستين رواية كلها من طريق أبي مخنف ، و لم يخرج من غير طريقه سوى سبع روايات فقط ذكرت أحداثاً جانبية ، و هي بمجموعها لا تعدل رواية واحدة من روايات أبي مخنف المطولة .
وقد قال عنه الذهبي (إخباري تالف ) وقال ابن معين (ليس بشيء)
ونظراً لعدم حذاقة صانع الحوار - أبو مخنف - فقد أعطى الموضوع صورة تدل على أنه مصطنع فقد أقحمه بحوارات و كلمات تدل على كذب هذه الروايات .
دفاعًا عن محرر مصر من الرومان :
شبهة (1):
أن معاوية أقسم على عمرو بن العاص لما أشار عليه بالبراز إلى أن يبرز إلى علي فلم يجد عمرو من ذلك بُدا فبرز، فلما التقيا عرفه علي وشال السيف ليضربه به فكشف عمرو عن عورته وقال : مكره أخوك لأبطل .
فحول علي وجهه وقال : قبحت .
ورجع عمرو إلى مصافه .
الرد على هذه الشبهة :
__________
(1) انظر المسعودي في مروج الذهب 2 ص 25 و ابن قتيبة في – الإمامة و السياسة - 1 ص 91 وكتاب صفين لابن مزاحم ص 224، شرح ابن أبي الحديد 2 ص 110(1/18)
قد ذكرت في مقدمة هذا البحث أنه الذي يجب علينا أخذه من أخبار التاريخ هو الكتب المعتمدة وعلينا تصحيح أو تضعيف الروايات إن لم يصححها مؤلف الكتاب, وينجلي لك كذب هذه القصة حيث أن المسعودي مؤلف مروج الذهب من كبار علماء الرافضة وجميع مروياته خالية من السند وفيها من الخرافات الشيئ العجيب و كما قال شيخ الإسلام أنه يكذب في رواياته فهذا يجعلنا نرد قوله , أما بخصوص نسبة هذه القصة للإمام ابن قتيبة فقد ذكرنا سابقا بأن هذا الكتاب مكذوب على الشيخ رحمه الله لأدلة عديدة(1), وأما كتاب صفين لابن مزاحم فمؤلفه من غلاة الشيعة قال عنه الذهبي » رافضي جلد، تركوه وقال أبو خيثمة: كان كذاباً، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، متروك، وقال الدارقطني: ضعيف(2)
وأيضا كيف يعقل لرجل شهد له النبي بالإيمان بأن يقوم بمثل هذا الفعل , وأين هو الحياء أليس من شعب الإيمان, وعمرو بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم يشهد له بالإيمان فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(ابنا العاص مؤمنان هشام وعمرو) (3) وبهذا يتبين لنا كذب هذه الرواية , وما أكثرها وللأسف على عمرو بن العاص .
حادثة التحكيم
الرواية الصحيحة في حادثة التحكيم :
بعد أن تم الإتفاق على حادثة التحكيم بدأ كل فريق يختار من يخرج لهذه المهمة، ولم يكن في جيش معاوية رضي الله عنه أي اختلاف على من يتولّى أمر التحكيم، فاختاروا عمرو بن العاص رضي الله عنه، والذي كان بمثابة الوزير الأول لمعاوية رضي الله عنه في كل هذه الأحداث، وكان عمره رضي الله عنه في هذا التوقيت سبعة وثمانين سنة,
__________
(1) انظر كتاب كيف تقرأ كتب الآل والأصحاب لعبدالكريم الحربي ص83
(2) « (الميزان للذهبي 4/253) رقم (9046).)
(3) المستدرك على الصحيحين ج3:ص512(1/19)
أما جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما عُرض عليهم أن يخرج للتحكيم عبد الله بن عباس رفض القوم، وطالبوا بأن يخرج عنهم أبو موسى الأشعري، وذلك لأنه رفض الدخول في القتال من بداية الأمر مع يقينه أن عليًا رضي الله عنه على الاجتهاد، وكان رضي الله عنه قاضيًا للكوفة، واعتزل القتال، ولم يكرهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخروج معه، ذهب إليه القوم في قريته التي كان معتزلًا فيه وقالوا له: إن الناس قد اصطلحوا.
فقال: الحمد لله.
فقالوا له: وقد جُعلت حكمًا.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك لأن هذا الأمر أمر صعب، وشاق عسير أن يحكم بين طائفتين اقتتلا هذا القتال الشديد فترة كبيرة، ووافق رضي الله عنه على الذهاب معهم، حتى يتم التحكيم في هذه القضية الشائكة.
والتقى أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في مكان (صفين)، وبدآ يفكران في كيفية إيجاد حلٍ لهذه المعضلة التي ألمّت بالمسلمين، فاتفقا ابتداءً على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أسس التحكيم، ولن يكون هو الكتاب النهائي.
فبدأ أبو موسى يملِى الكتاب وعمرو بن العاص يسمع:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما قاضي عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقاطعه عمرو بن العاص قائلًا: اكتب اسمه، واسم أبيه، هو أميركم، وليس بأميرنا.
فقال الأحنف بن قيس: لا نكتب إلا أمير المؤمنين.
فذهبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكروا ذلك له، فقال رضي الله عنه: امح أمير المؤمنين، واكتب: هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب.
وعمرو بن العاص رضي الله عنه يتحدث بلسان أهل الشام الذين لم يباعوا علي أميراً للمؤمنين،وإلا ما قاتلوه.
وقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر؛ حرصًا على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وسعة صدرٍ منه رضي الله عنه وأرضاه.(1/20)
فكتبوا: هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان أننا نزل عند حكم الله، وكتابه، ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وكان حينئذ في شهر صفر سنة 37 هـ، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما أي الحكمان آمنان على أنفسهما، وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة.
فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سويًا، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام (أي بعد سبعة أشهر من هذا الكتاب )، وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين ويستطيع كل فريق أن يتقبل الحكم أيًا كان.
وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
وخرج ، والأحنف بن قيس رضي الله عنهما، وهما من فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب على الفريقين، فوافق الجميع على هذا الأمر، وبدءوا في دفن الشهداء، والقتلى(1).
يقول الزهري: كان يُدفن في كل قبر خمسون نفسًا لكثرة عدد القتلى والشهداء.
وبعد ذك بدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وكان في يده بعض الأسرى من الشاميين فأطلقهم، وكذلك فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه حيث كان في يده بعض الأسرى من العراقيين فأطلقهم، وعاد كلٌّ إلى بلده.
__________
(1) هذه القصة ملخصة من راوية الدار قطني بسند صحيح عن حضيم بن المنذر بن الحارث وهذا من كبار التابعين وهو ثقة عند النسائي وابن حبان , وقال الذهبي كان من أمراء علي وكان شجاعا وشاعراً , وقد سأل حضيم عمرو بن العاص عما دار في قصة التحكيم فأجابه عمرو بهذه القصة , وهي بلا شك تفند الكذب الذي تناقلته الكتب.(1/21)
-ظهور فرقة الخوارج (1):
بعد أن قرأ الأشعث بن قيس الكتاب خرج له رجل يُسمّى عروة بن جرير من بني ربيعة من تميم، وقال للأشعث بن قيس رضي الله عنه: أتحكمون في دين الله الرجال؟!
فغضب الأشعث بن قيس رضي الله عنه من هذا التصرف، وكاد أن يحدث الشقاق والخلاف، لولا أن تدخل الأحنف بن قيس وكبار القوم وأنهوا الأمر.
ومرّ الموقف في تلك اللحظة، لكن طائفة من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذت هذه الكلمة، وبدأت تتحدث بها وظنّتها صوابًا، وكان الكثير ممن ردد هذا الأمر من حفاظ القرآن الكريم، وشديدي الورع والتقوى، وممن يكثرون الصلاة بالليل والنوافل، فأخذوا هذه الكلمة وقالوا: أتحكمون في دين الله الرجال؟
وغضبوا لأمر التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله.
واستمرّ مسير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى وصل الكوفة، فسمع رجلًا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء.
وفي هذا لوم له رضي الله عنه على أمر التحكيم.
فقال علي رضي الله عنه: لَلَذين فارقناهم خير من هؤلاء، ثم أنشأ يقول:
أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَحْرَجَتْكَ مُلِمَّةٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ رَاحِمًا
وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَبَتْ عَلَيْكَ أُمُورٌ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمًا
وكان أكثر من خرجوا مع هذه الطائفة من قرية تُسمّى (حروراء) وهم الذين عُرفوا في التاريخ بعد ذلك باسم الخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقد تنبّأ بهذه الطائفة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فعند الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ.
موجز يبين مكانة الحكمين في الإسلام :
__________
(1) كتاب قصة الفتنة لراغب السرجاني .(1/22)
أبو موسى الأشعري:
عن مسروق قال:( كان القضاء في الصحابة إلى ستة:- عمر وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، وأبي موسى)(1)
وعن الأسود بن يزيد قال: (لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى)(2)
وعن الشعبي قال: ( يؤخذ العلم عن ستة: عمر، وعبد الله، وزيد، يشبه علمهم بعضه بعضاً، وكان علي، وأبي، وأبو موسى يشبه علمهم بعضه بعضاً، يقتبس بعضهم من بعض)(3) وفي مسلم عن ابن بريدة عن أبيه، قال: ( خرجت ليلة من المسجد، فإذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند باب المسجد قائم، وإذا رجل يصلي، فقال لي: يا بريدة، أتراه يرائي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: بل هو مؤمن منيب، لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود، فأتيته فإذا هو أبو موسى، فأخبرته )(4)
عمرو بن العاص :
كان عمرو بن العاص مجاهدًا شجاعًا يحب الله ورسوله، ويعمل على رفع لواء الإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، وكان رسول الله يعرف لعمرو شجاعته وقدرته الحربية، فكان يوليه قيادة بعض الجيوش والسرايا، وكان يحبه ويقربه، ويقول عنه: (عمرو بن العاص من صالحي قريش، نعم أهل البيت أبو عبد الله، وأم عبد الله، وعبد الله) (5) وقال (: (ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام)(6) …………………وفي عهد الفاروق عمر -رضي الله عنه- تولى عمرو بن العاص إمارة فلسطين، وكان عمر يحبه ويعرف له قدره وذكاءه، فكان يقول عنه: ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا.(7)
اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل
__________
(1) تاريخ دمشق: (1922، ابن عساكر: 500)
(2) ابن عساكر: (499)
(3) ابن عساكر: (501)
(4) صحيح مسلم 793
(5) رواه أحمد وصححه الألباني
(6) مستدرك الحاكم على الصحيحين
(7) تاريخ ابن عساكر(1/23)
أرسل معاوية رضي الله عنه أربعمائة فارس إلى أرض دومة الجندل معهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان معهم من رؤوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكان معهم أيضًا عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، ولم يكن مع معاوية في القتال، ولكنه كان ممن اعتزل الفتنة، وإن كان يرى أن عليًا رضي الله عنه على الحق، وإنما كان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية رضي الله عنه للتحكيم.
وقد تمّ اختيار دومة الجندل للتحكيم لأنها تقع في مسافة متوسطة بين الكوفة، والشام فهي على بعد تسع مراحل من كلٍ منهما.
وفي غالب الأمر لم يحضر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا الاجتماع.
شبهة : هل صحيح أن عمرو بن العاص قد إحتال على أبي موسى الأشعري ؟
يروي كثير من الباحثين رواية لا أساس لها من الصحة وهي :
تقدم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع عليه رأيي ورأي عمرو وهو أن نخلع علياً ومعاوية وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر ؛ فيولوا منهم من أحبوا عليهم وأني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رآيتموه لهذا الأمر أهلاً ثم تنحى وأقبل عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه وقال : إن هذا قال ما قد سمعتم وخلع صاحبه وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه ، فتنابزا، ويروي المسعودي أنهما لم يحصل منهما خطبة وإنما كتبا صحيفة فيها خلع علي ومعاوية وأن المسلمين يولون عليهم من أحبوا ، وهذا القول أقرب في نظرنا إلى المعقول وإن لهج كثير من المؤرخين بذكر الأول اهـ
وهناك من قال بأن أبو موسى لما قال أخلع عليا ومعاوية أشار إلى خاتمه وأخرجه, بينما عمرو بن العاص قال إن هذا خلع صاحبه وأنا اثبت صاحبي.(1/24)
والصحيح إبطال هذه الرواية لأسباب كافية وشافية وهي :
الأول: الذي رواها أبو مخنف المتفق أئمة الرواية على أنه أخباري هالك ليس بثقة.
الثاني: الطعن في أبي موسى بأنه مغفل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل.
الثالث: الطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في الفاروق الذي ولاه أميراً على البصرة وقائداً على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان .
الرابع: لا يخلو قول عمرو فيما زعموا عليه ( وأثبت صاحبي معاوية ) من أمرين: الأول ثبته في الخلافة كما كان أولاً ، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت ، وهو باطل قطعاً ؛فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبته حَكمه فيها بعده ، ولم يدعها هو لا قبله ولا بعده ، ولم ينازع علي فيها.
الثاني ثبته على إمارة الشام كما كان قبل ، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية ، وهو تحصيل الحاصل ، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل ؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئاً جديداً لم يكن له من قبل ؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟
الخامس: قال القاضي أبو بكر بن العربي(1):
__________
(1) العواصم من القواصم ج1/ص175(1/25)
قد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ، وإذا لحظتموه بعين المروءة دون الديانة رأيتم أنها سخافة حمل على تسطيرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين، ثم قال : وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أن أبا موسى كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعضُ الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر، ثم ذكر الأسطورة باختصار ثم قال : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك ؛ فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع .. ( انتهى .
ما تم في قضية التحكيم :
بعد مشاورات كثيرة، ومحاورات، واختلاف في الرأي على أساس القضية، فكان أبو موسى الأشعري يؤيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أنه تجب له البيعة من معاوية، ومن معه، وبعد أن تستقر الأمور يُؤخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن عمرو بن العاص طالب بقتلهم أولًا، أو تسليمهم إليهم ليقتلوهم، وبعدها يبايعون، فلما تحدثا في هذا الأمر كثيرًا، ولم يصلا إلى شيءٍ، اتفقا على يُترك أمر تحديد الخلافة إلى مجموعة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم أعيان وكبار الصحابة، وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه من السابقين الأولين، ولا يكون فيهم معاوية بن أبي سفيان، ولا عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ لأنهما ليسا من السابقين، ويُستعان برأيهما إن رأى القوم أن يستعينوا برأيهما، وإن لم يروا فلا يستعينوا برأيهما.(1/26)
واتفقوا بحضور الشهود على أن يكون هذا الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وذلك بعد أن يذهب هؤلاء الأعيان، ويتباحثون في الأمر ويرون الأولى به، وقد يكون الأولى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الأقرب إلى الاحتمال، خاصة، وأن هذه المجموعة هي التي اختارت عليًا رضي الله عنه ابتداءً، وليس عندهم اعتراض على شخصيته، ولكن عمرو بن العاص رأى أنه ربما تغيّرت الآراء بعد ما جرى من أحداث.
وإلى أن يحين موعد هذا الاجتماع يحكم كلٌ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ما تحت يده في الدولة الإسلامية، وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع أن يطيع الخليفة الجديد سواءً رأى قتل قتلة عثمان أولًا أو رأى تأخير ذلك.
ومن الواضح أن الحكم في ظاهره لصالح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خاصة وأن معاوية وعمرو بن العاص قد خرجا من الأمر تمامًا، ولم يكن لهما رأي في اختيار الخليفة الجديد.
وتفرق المسلمون على هذا الأمر، وهم راضون تمامًا حتى يجتمع كبار الصحابة لتحديد الخليفة، ولما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه رضي به، وكذلك عندما وصل إلى معاوية رضي الله عنه(1).
لكن الرواية الكاذبة تقول: إن عليًا لما بلغه هذا الأمر غضب، وجهّز الجيوش لمحاربة معاوية ومن معه، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق.
خاتمة
ها قد وضح لك أخي الغالي حقيقة الأمر , ولتعلم أن الحقية جلية لمن يريد الحق , وللأسف تركنا تراثنا الناصع واتجهنا لما يمليه أعداء الإسلام الذين إن تمكنوا من هز ثقتنا في صحابة رسول الله تمكنوا من الوصول إلى أهدافهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران : 149 )
__________
(1) انظر قصة الفتنة والعواصم من القواصم ج1/ص179 والبداية والنهاية ج 7 ص284 وشذرات الذهب ج1 ص47(1/27)
إن مثل هذه الفوضى التي نراها في تلقي أخبار أمتنا لتبين بصدق حاجتنا إلى النبع الصافي في مثل هذه الأمور , تأمل معي هذا التصور القرآني الرائع محذرا لنا ممن إنخدعنا بهم وتناقلنا كتبهم وتراثهم , وأحجمنا عن كتاب ربنا وسنة نبينا( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (البقرة : 105 ) , هي دعوة أقدمها لكل باحث ولكل قارئ أن يتقي الله في نقله لمثل هذه الأحداث الجسام التي مرت بالأمة , وعلينا تصحيح المعتقدات السائدة بين العوام التي لا شك هي بسبب تفريطنا وتقصيرنا في الدفاع عن تراثنا , فالله ولينا وهو خير معين وخير حافظ لخير أمة أخرجت للناس (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 257 ) والله أسأل أن يجعل ما قدمت خالصاً لوجه الكريم , وأحمده عز وجل على إتمام هذا العمل الذي أرجو به قربة إلى الله , كما أسأله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا من كل خاذل وحاقد وكافر ,,,
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه تسليما كثيرا
فهرس الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
المقدمة ... 2-3
ممن نأخذ أخبار أمتنا ... 5
أسباب القصور في قراءة التاريخ الإسلامي : ... 6
أقسام وأنواع المؤرخون والباحثون في علم التاريخ وأخبار الصحابة بشكل خاص ... 7
ماهي الكتب المعتمدة عندنا في كتب التاريخ ؟ ... 7-8
كتب لا يصح أخذ أخبار التاريخ منها ... 9-10
ابرز الأحداث التي سبقت حادثة التحكيم :تمهيد ... 11
لمحة موجزة قبل حادثة التحكيم ... 12(1/28)
لاصحة لإرسال علي عدد من الصحابة وحدوث سباب ولعان بينهم وبين معاوية ... 13
-سبب القتال بين فريق علي وفريق معاوية ... 13
بداية القتال (موقعة صفين ) : ... 14
لاصحة لأخذ علي أموال معسكر معاوية ... 15
هل صحيح أن الجيشان كان يكفر بعضهما بعضا ؟ ... 15
ليلة الهرير ... 15
حيلة رفع المصاحف ... 15
موقف علي بعد انتهاء القتال ... 16
أهل الأهواء وأثرهم على إستمرار القتال ... 16
السبب الحقيقي في الخلاف بين علي ومعاوية ... 17
شبهة حول أن معاوية كان يريد الخلافة ... 17
قصة تثبت بأن معاوية لايريد الخلافة ... 18
اعتقاد أهل السنة والجماعة في موقف معاوية من البيعة لعلي ... 18
فائدة من إمتناع علي تسليم قتلة عثمان ... 18
الموقف الصحيح من مواقف الصحابة في هذه الفتنة ... 19
الروايات التي ذكرها الإمام الطبري لابد من تصحيح سندها ... 19
دفاعًا عن محرر مصر من الرومان : ... 20
الرواية الصحيحة في حادثة التحكيم ... 21-22
ظهور فرقة الخوارج ... 23
موجز يبين مكانة الحكمين في الإسلام : ... 24
اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل ... 25
شبهة : هل صحيح أن عمرو بن العاص قد إحتال على أبي موسى الأشعري ؟ ... 25-26
ما تم في قضية التحكيم ... 26-27
خاتمة ... 28(1/29)