إحقاق الحق في النفاق
إعداد
الأستاذ خالد بن إبراهيم جرجور
بكالوريوس في العلوم ـ الجامعة الأمريكية في بيروت
تقديم
الشيخ خليل الميس
مفتي زحلة والبقاع في الجمهورية اللبنانية
تعليق
الدكتور إحسان عباس
الحائز على وسام القدس
شبكة مجاهد مسلم الإسلامية الدعوية
www.geocities.com/moujahedmouslem
www.islammi.jeeran.com
مؤسسة الريان
للطباعة والنشر والتوزيع
مقدمة
أن يختار الأستاذ خالد بن إبراهيم جرجور الكتابة تحت عنوان:" إحقاق الحق في النفاق" أمر غير مستغرب وبخاصة إذا عرف تخصصه العلمي " مشتقات الدم المناعية"، لذلك توجهت عنايته الى البحث عن مرض إجتماعي تمثل بمجموعة المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكثير من الأمراض الجسدية يجهد أهل الاختصاص في إكتشاف الأدوية الناجعة لها، ولكن محاولاتهم لا تحقق النجاح المرجو! حتى قيل وعلى سبيل المثال:" فالج لا تعالج" ـ لأن هذا المرض يندر أن يشفى من يصاب به ـ كذلك الشأن في النفاق فهو مرض نفسي..؟ ولكنه كسبي. كالإدمان فهو مرض ينجم عن مقدمات يباشرها الإنسان بنفسه لذلك يصعب علاجه.. كذلك الشأن في المنافقين الذين أفرزهم المجتمع المدني نظرا لوجود (جرثومة) اليهود الذين صادف وجودهم في المدينة إبّان البعثة النبوية واستفحل أمرهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها.
ومن المعلوم أن مرض (النفاق) لم يوجد في أحد من أهل مكة لأنهم كانوا فئتين: إما مؤمنين مهاجرين، أو كفارا معاندين ومقاومين؛ وربما يعود ذلك لنقاء العرق البشري فيها حيث كان أهلها جميعا من القبائل العربية.. بخلاف التركيبة السكانية في المدينة المنورة حيث ـ إلى جانب الأوس والخزرج من العرب ـ كان هناك بعض اليهود، يعود منشأ تلك الجرثومة الوبائية والتي نجم عنها نفاق في بعض أهل المدينة.. يسرّون الكفر ويعلنون الإسلام.(1/1)
أما معشر يهودها فليسوا بحاجة الى تلوّن العقيدة، حيث أصرّ جلّهم على يهوديّته والتي كانت بحدّ ذاتها منشأ نفاقهم السلوكي.. وبالجملة.. تتبع قلم هذا الباحث مع لين قناته في البحث ولكن عزيمته في استكشاف هذا المرض الاجتماعي قوية وجسورة وعساه أن يتبع بحثه هذا بأبحاث لها علاقة بتخصصه العلمي يستكشف بواسطتها أسباب المرض في فئات المجتمع وأنجع الوسائل لعلاجها..
والله من وراء القصد
... ... ... ... ... مفتي زحلة والبقاع خليل الميس
... ... ... غرة جمادي الأولى 1423 هـ 11\7\2002
تقريظ
هذا بحث متميز حقا. أشكرك على ما بذلت من جهد. ليتك فصلت الآيات التي لم يذكر فيها النفاق تصريحا عن تلك الذي ذكر فيها إذ لا يخفى عليك أن مثل قوله تعالى:{ ومن الناس من..} فيه تعريف قد يستولي على الطبائع الإنسانية من إنحراف عن الجادة، ولكن "النفاق" يعني إستمرارية على وضع معين.
... ... ... ... ... ... د. إحسان عباس
إهداء
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
الحمد لله الذي لا يزيد في حمده حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين.
اللهمّ إيّاك نعبد، ولك نصلي، ونسجد، ونرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك الجد بالكفار ملحق.
أوجز إهدائي هذا البحث إلى أستاذي الكريم الدكتور إحسان عباس أدامه الله ذخرا الذي قال لي "هذا بحث متميز حقا. أشكرك على ما بذلت فيه من جهد. ليتك فصلت الآيات التي لم يذكر فيها النفاق تصريحا عن تلك التي ذكر فيها، إذ لا يخفى عليك أن مثل قوله تعالى:{ ومن الناس من..} فيه تعريف بما يستولي على الطبائع الإنسانية من إنحراف عن الجادة، ولكن "النفاق" يعني إستمرارية عهلى وضع معيّن" وبعد إلحاح أعز أصدقائي عليّ نشر هذا البحث بما فيه من نفع عام يوطد العزائم ويسمو بنا نحو التخلص من هذه الازدواجية الفكرية الى عالم تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة أقدم هذا الكتاب.
... ... ... ... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
... ... ... ... ... بيروت 2 صفر 1423
... ... ... ... ... الموافق 15 نيسان 2002(1/2)
... ... ... ... ... خالد إبراهيم الجرجور
تقسيمات البحث
الفصل الأول: حركة النفاق في العهد المدني.
الفصل الثاني: في صفات المنافقين وأحوالهم.
الفصل الثالث: مواقف المنافقين الكيدية والساخرة والتآمرية.
الفصل الرابع: مواقف المنافقين في الجهاد ووقائعه.
حركة النفاق في العهد المدني
نريد أن نتناول في هذا البحث الموضوعات على فقرات، وهذه الفقرة الأولى جاءت تحت عنوان:
- حركة النفاق في المدينة ومقابلتها مع ما جاء في الآيات المكية من صفات نفاق بعض المسلمين.
- علة ظهور الحركة في المدينة دون مكة.
- مدى نفاق المنافقين في العهد المدني.
- أثر مواقفهم وخطورتها.
- أثر اليهود في حركتهم.
- مباحث الفصل على حسب تصنيف الآيات.
- مدى ما في القرآن من ملهمات بأن المنافقين طبقات.
- عدم إعتبار النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين أعداء محاربين وقتلهم أو قتالهم ومدى ذلك.
- ملهمات القرآن بأن معظم المنافقين أفراد بارزون.
- عدم الإستغفار لهم والصلاة عليهم.(1/3)
إن حركة النفاق التي نشأت لمناوأة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والإسلام هي في الحقيقة من حركات العهد المدني وأحداثه مع أن آيات مكية مثل الآيات التي في سورة العنكبوت:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} قد تناولت شأن المنافقين وحملت على الموصوفين بها لنفاقهم وذبذبتهم وهلعهم وآيات مكية أخرى قد احتوت وصفا لبعض المسملين بمثل ذلك الوصف كآيات الحج:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}. غير أن هؤلاء الأشخاص الذين تناولتهم هذه الآيات المكية القليلة لم يكونوا مناوئين للنبي والإسلام، وإنما كانوا ضعفاء قلب وشخصية، فلم يستطيعوا أن يصمدوا كما صمد أكثر المسلمين أمام إزعاج المشركين وإضطهادهم، صمودا قويا ومستمرا، فكان يظهر عليهم الجزع والتبرّم من حالتهم الصعبة التي كانوا عليها.(1/4)
وعلة ظهور تلك الحركة لمنافقين في المدينة واضحة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلّف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام، ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي صلى الله عليه وسلم جهارا، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ، وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم الى الحبشة أولا ثم إلى يثرب؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه، أو بالإغراء والتهويش، وحتى تزلزل بعضهم وتبرّم ونافق المشركين، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب.(1/5)
أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا. فالنبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يهاجر إليها ويكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج، ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام " إبن هشام ج2 ص 21" ففي هذه الحالة لم يكن من السهل أن يقف الذين لم يؤمنوا به ـ إما عن جهالة وغباء، وإما عن غيظ وحقد وعناد لأنهم رأوا في قدوم النبي صلى الله عليه وسلم حدا لنفوذهم وسلطانهم " في سيرة ابن هشام ج3 ص135 ان الخزرج كانوا موعمين المناداة بعبدالله بن أبيّ زعيم المنافقين ملكا عليهم قبيل الهجرة، وأنه حقد على النبي صلى الله عليه وسلم لأن قدومه حال دون ذلك" ـ موقف الجحود والعداء العلني للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من المهاجرين والنصار؛ وكان للعصبية القبلية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف المعادي، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر، وأن جلّهم قد حسن إسلامهم، وغدوا يرون في النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع.(1/6)
فلم يكن بوسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد ويحملهم على ذلك مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ونفوذه ـ أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام والقيام بأركانه، والتضامن مع قبائلهم، وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامرتهم بأسلوب المراوغة والمواربة والخداع والتمويه؛ ولئن كانوا قد وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس عليها طابع من النفاق بارز؛ فإنما كانت موتقفهم هذه في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والتي كانوا يتخذونها حجة بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط، ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو بالنفاق غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم هذه في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار، كما أن تلك المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا، وقد كانت الآيات القرآنية توجّه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون، وتدمغهم بشرور خبثهم ومكايدهم، وتحذر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة.
ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية حتى لكأنه نضال قوي يذكّر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم بلبث أن أخذ مركزه أن يتوطد، وقوته تزداد، ودائرة الاسلام تتسع، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز؛ وبينما لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة؛ وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام، وتوطد عزته وسلطانه.(1/7)
أما خطورة الدور الذي قام به المنافقون، وخاصة في أوائل العهد المدني، فمنه نلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان محاطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب؛ وأصل مكة خصومه الألداء، وهم قبلة الجزيرة، يتربصون به الدوائر، ويتحيّنون كل الفرص والوسائل للقضاء عليه؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيّروا به، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر والكيد؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى، والتضامن في موقف المعارضة والكيد ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يمكننا القول إن المنافقين لم يكونوا ليقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد ويستمروا في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق، ولم يضعف شأنهم ويخفّ خطرهم إلا بعد أن مكّن الله للنبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود وأظهره عليهم وكفاه شرّهم.
إنّ الآيات التي تتضمن أوصاف المنافقين وأخبارهم ومواقفهم والحملات عليهم هي كثيرة جدا، حتى لا تكاد تخلو سورة مدنية منها، وخاصة الطويلة والمتوسطة؛ وهذا يعني ان حركة المنافقين ظلت طيلة العهد المدني تقريبا، وإن كانت أخذت تضعف بعد نصفه الأول، وهذه الآيات متنوعة المدى والدلالات، ويمكن تصنيفها كما يلي:
1- ما جاء في صفاتهم وأحوالهم.
2- ما جاء في مواقفهم الكيدية والساخرة وتآمرهم ضدّ المسلمين والاسلام.
3- نا جاء في مواقفهم من الجهاد ووقائعه.
هذا؛ ونريد أن ننبّه الى ثلاث في صدد هذا الفصل:(1/8)
التنبيه الأول: ما جاء في الآيات التي سنوردها من وصف:{ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} المائدة 52، بدل وصف "المنافقين" ومن اجتماع الوصفين معا في آية واحدة، ومن تفاوت الشدة في الحملات وتنوع الصور؛ مما يسوغ القول إن هذه الفئة كانت فريقين أو طبقتين، واحدة كافرة كل الكفر، عدوة كل العداوة، ماكرة كل المكر؛ وأخرى ضعيفة النفس، مريضة القلب، تميل مع المنفعة، وترغب بنفسها عما تسميه مخاطر ومجازفات ومشاكل، ويأخذها شيء من الشك والتردد في طاعة الله ورسوله طاعة تامة، وتنجرّ أحيانا الى الفئة الأولى فتحذو حذوها، أو تقع في شباكها وتندمج معها.(1/9)
ومما يجدر التنبيه اليه مع ذلك أن الحملات القرآنية العنيفة، ووصف الكفر والنفاق، والأمر بالمجاهدة والشدة، قد تناول هذه الطبقة في آيات عدة كما تناول تلك، مما يمكن الاستدلال به على أن القرآن وإن تضمن إلهام كونهم طبقتين أن طبقات ـ إذا أردنا أن نصنفهم حسب تنوع مواقفهم ـ فإنه تضمن إلهام أنهم فئة واحدة وتضمن بالتالي إلهام أن أي ختل أو شك أو تردد أو تهرّب أو سخرية أو تقصير في الواجبات العظمى كالايمان التام بما يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن أو يأمر به من أوامر أو يحكم به من أحكام، وكالطاعة التامة له، وكاحترامه كل الاحترام، وكالقيام بواجب الجهاد بالنفس والمال لتوطيد حرية الإسلام، ودفع الخطر والبغي والكيد عن الاسلام والمسلمين ومصالحهم، والتضامن القوي التام في كل هذا مع سائر المسلمين باطنا وظاهرا؛ أو الاندماج مع أعداء الاسلام والمسلمين في مؤامرة أو مكايدة، أو مسايرتهم في أي موقف أو قول مهما كان نوعه ومهما كان ناتجا عن أوشاج الرحم والقربى والعصبية والمصلحة نفاقا ـ يعتبر داخلا في شمول صفات النفاق التي وردت في الآيات القرآنية، وفي شمول ما ورد بحق المتصفين بها من تنديد قارع، وإنذار قاصم، وإن كان فريق أقل شدة أو أكثر تحفظا من فريق آخر، وننبه الى ما في هذا من تلقين قرآني جليل مستمر المدى.(1/10)
التنبيه الثاني: تكمن أهميته من ناحية السيرة النبوية: هو عدم ورود روايات موثقة تتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر المنافقين أعداء محاربين أو عاملهم كذلك، أو أمر بقتلهم، أو قتل بارزيهم، بسبب صفة النفاق، أو بسبب موقف منبعث منه من تلك المواقف الكثيرة المتنوعة التي حكتها الآيات التي نزلت في مختلف أدوار التنزيل عنهم، والتي احتوت صورا كثيرة من الأذى والكيد والسخرية بالله ورسوله وآياته، والتناجي بالاثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والتثبيط عن الجهاد، ودس الدسائس وإثارة الفتن والأحقاد، وإشاعة الفاحشة والإرجاف بين المسلمين بما يثير قلقهم وفزعهم، والتعرض لنساء المسلمين، بل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالأذى والكيد، والتضامن مع أعداء الاسلام وموالاتهم، وتقرير كونهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم..، بينما نجد أن القرآن أمر بمجاهدتهم مع الكافرين، والإغلاظ لهم واعتبارهم أعداء وأمر بقتل من لم ينته منهم عن مواقف الأذى والإرجاف، وبنفيه، وبتقتيله أينما ثقف، فضلا عما أنذروا به من عذاب دنيوي وأخروي شديدين، وأن القرآن حكى مواقف لهم مثل هذه المواقف، وبعد هذه الأوامر والانذارات والتقريرات الحاسمة، كما أن القرآن لم يتضمن إشارة ما الى ذلك.
? إزاء هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر المنافقين أعداء محاربين، فلم يقاتلهم فعلا كما كان شأنه مع الكفار، لا سيما أن حرب النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء إنما كان لبدئهم بالعدوان واستمرارهم فيه، وحربه لليهود إنما كان لمثل ذلك، وغزوته لتبوك بسبيل التنكيل بسكان المشارف الذين كان غالبهم نصارى، وتسييره السرايا على هذا المشارف واشتباكها بحرب مع النصارى فيها إنما كان كذلك لعدوان سابق؛ ولم يكت حال المنافقين على كل حال يشبه حال كفار العرب أو اليهود أو النصارى المحاربين.(1/11)
? إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر ما جاء في الآيات القرآنية بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين، لا سيما أن بعض الآيات الواردة في هذا الشأن قد تخللتها جمل تلهم معنى التعليق على شرط مثل جمل:{ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} التوبة 74، و{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الأحزاب 60، و{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} النساء 89، و{إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً..} التوبة 66، كما تخلل الآيات الواردة في شأنهم إشارات إلى أنهم كانوا يصلون مع الجماعة وكانوا يؤدون الزكاة ـ مع وصف ذلك بأنه وقع كرها ورياء ـ وكانوا يحلفون الأيمان على حسن نيتهم وصدق إسلامهم لذلك، قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بسعة صدر وحلم وصبر الى النهاية، لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط القربى والرحم، لذلك فقد رأى أن خلاف هذه الخطة قد يفتح في صفوف المسلمين ثغرات واسعة، ويثير أزمات داخلية حادة، لا سيما أنه كان مطمئن القلب بوعد الله بالنصر النهائي، وإظهار دينه على الدين كله، وقد أخذ يرى منذ أوائل النصف الثاني من العهد المدني بعدما خضدت شوكة اليهود ـ وهو الوقت الذي صار في إمكانه من جهة مادية شن حرب عملية مأمونة عواقبها بعض الأمان ـ أن صوتهم بدأ يخفت ونشاطهم يخمد، وعدوانهم يقل، وتزلّفهم يشتد ومداراتهم تزداد، وخوفهم يبدو واضحا، وربما ندم منهم كثيرون فعادوا الى حظيرة الحق والإسلام الصحيح، فكانت هذه الظواهر ما ثبّت النبي صلى الله عليه وسلم في خطته ورأى فيها الصواب والمصلحة.(1/12)
? إن الآيات الواردة في حق المنافقين ومرضى القلوب، تلهم روحا أو مضمونا، أن حركة النفاق إنما قام بها وتولى كبرها أفراد من البارزين في قومهم وعشائرهم قليلا أو كثيرا، بل إن معظم أفراد هذه الفئة من تلك الطبقة، وإنه إن كان اندمج فيها أناس من طبقة السواد أو العامة فإنهم لم يكونوا كثيرين وإنما انساقوا فيها بتأثير أولئك، من ناحية زعامتهم وعصبية الأرحام التي تربط بينهم، أو من ناحية الإغراء والمنفعة.
وهذا طبيعي كما هو المتبادر، لأنه ليس لأفراد من السواد مصلحة في مناوأة حركة النفاق انضوى فيها غالب قومهم من المسلمين المخلصين، إيمانا وتصديقا وإخلاصا وجهادا ثم مصلحة وكيانا، كما أنه قلما يكون في هؤلاء من يظن أنه أعقل من أن يندمج في حركة اندمجت فيها الكثرة الكبرى، وان الذين اندفعوا في مناوأتها واغتاظوا منها وحقدوا عليها لا يمكن إلا أن يكونوا أفرادا من البارزين الذين يمكن أن يتوهموا فيها ضررا وخطرا على مركزهم ومصلحتهم، وأن يأنفوا لكرامتهم ولما يتوهمونه في أنفسهم من عقل من الاندماج فيها، ولقد كان لليهود يد قوية في هذه الحركة، فالذين أخذوا على عاتقهم مهمة تغذية هذه الحركة وتنميتها لا يمكن أن يتصلوا بشأنها إلا مع أمثال هؤلاء كما لا يخفى.
التنبيه الثالث: ما كان من انقسام المسلمين في الرأي فيهم؛ فقد جاء في سورة النساء الآيات التالية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (89)} النساء.(1/13)
إذ تلهم الآية الأولى أن المسلمين كانوا منقسمين في الرأي في المنافقين، منهم من يحسن الظن بهم ويعتذر ويأمل في ارعوائهم، ومنهم من لا يرى ذلك. ولقد ذكرت الروايات أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد، كما ذكرت روايات أخرى أنها بحق فريق من البدو أعلنوا إسلامهم ولكنهم لم يتضامنوا مع المسلمين في الجهاد والهجرة، بعض الروايات قالت إنها بحق الفريق الذي تخلف في مكة ولم يهاجر، والرواية الأولى قد تصح إذا دلت كلمة { يُهَاجِرُواْ} بمعنى يجاهدوا أو يخلصوا، وقد أوّلها غير واحد من المفسرين هذا التأويل.
ومع احتمال وجاهة الروايتين الأخريين فإن الرواية الأولى ـ بقطع النظر عن ظرف وقعة أحد ـ بهذا التأويل أوجه، لأن اختلاف المسلمين في الرأي في المنافقين أكثر احتمالا بالنسبة لمنافقي المدينة؛ وقد يكون في الآية الثانية تدعيم لذا أيضا إذ تذكر كفرهم، وتذكر تمنّيهم أن يكفر المسلمون مثلهم، وهذه صفات وصف بها منافقو المدينة على ما ورد في آيات التوبة وغيرها لا سيما أن الروايتين الأخيرتين لا تذكران بصراحة اتصاف البدو أو المتخلفين عن الهجرة في مكة بصفة النفاق والكفر ولا تتحمل حالتهم المروية هذه الصفة.
والأمر بقتلهم حيث وجدوا إذا تولوا عن الهجرة والجهاد ولم يخلصوا الإيمان والعمل هم منافقو المدينة، فقد ورد في آيتي الأحزاب 60 و 61:{ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)}. فالمقصودون هم منافقو المدينة إذا لم ينتهوا.
وقد احتوت الآية الثانية حكم الله في هذا الخلاف، وفيه تأييد للمتشددين في أمرهم وبيان مواقع حالهم من لارتكاس في الفتنة والكفر والضلال.(1/14)
والمرجح أنه كان للعصبية الاجتماعية والمصالح المشتركة الويقة أثر على من رأى التسامح الذي أبداه الفريق الأول، كما أن المنافقين كانوا يستغلون هذه الروابط القوية المؤثرة فيما كان منهم من مواقف دس وكيد وتشكيك وسخرية وعدم تضامن..، مما احتوت صوره آيات كثيرة، ثم في الاطمئنان من عدم الوقوف منهم موقف الشدة والغلظة رغم ما كان منهم من مواقف شديدة الأذى والكيد، فاقتضت الحكمة نزول الآيات بالحكم الحاسم والأمر الشديد حتى يسدّ الباب أمام هذا الاستغلال ويقف المسلمون موقفا واحدا ورأيا واحدا منهم، وهو موقف الشدة والنكفير إذا لم يتوبوا ويخلصوا.
ولقد احتوت إحدى آيات سورة النساء التالية:
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)} النساء...
إذ أن بعض المسلمين لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من التردد على مجالس الزعماء المنافقين، والإغضاء عما يدور فيها من كفر وهزء بآيات الله ونبيه صلى الله عليه وسلم، فأمروا بعدم مجالستهم أثناء الخوض في مثل ذلك على الأقل، كأنما رأت الحمة حرجا في منعهم عن مجالستهم مطلقا.
من هنا تبدو لنا ناحية من حكمة الخطة النبوية في المنافقين، التي شرحناها في الفقرة السابقة. ولما كانت هذه الخطة المذكورة قد استمرت الى آخر العهد النبوي أو آخره، فإن هذا يسوغ القول إن فريقا من المسلمين ظلّ على رأيه في العطف على ذوي قرباه منهم، والاعتذار عنهم وأمله في ارعوائهم، وظلّ متأثرا بالعصبية والقرابة والمصلحة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من الحكمة أن يستمرّ في خطته تلك.
أما ما ورد في عدم الاستغفار لهم والصلاة عليهم:(1/15)
قال تعالى:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} التوبة، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي عبدالله بن أبيّ جاء ابنه عبدالله بن عبدالله الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر بأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما خيّرني الله فقال:{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين". قال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم في آية التوبة:{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ}التوبة 84.
التي نزلت في أواخر العهد المدني ـ أي في ظروف غزوة تبوك ـ لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الصلاة على من يموت من المنافقين وهو ثابت على نفاقه وكفره، مما يلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستجيب الى طلب ذوي قربى المنافق فيصلي عليهم إذا ماتوا ويدعو لهم ـ قبل نزول الآية ـ ، وأن هذا قد استمر الى أواخر العهد المدني، أما بعد نزول هذه الآية فلم يصلّ على أحد منهم، وزاد مسلم في إحدى رواياته:" فترك الصلاة عليهم" أي بعد نزول هذه الآية، "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبدالباقي ص 637 رقم 1553" وفي هذا تدعيم لما نحن بسبيل تقريره والله أعلم.
في صفات المنافقين وأحوالهم
- وصف شامل للمنافقين في سورة البقرة ومداه.(1/16)
- وصف آخر لهم في نفس السورة.
- صور وأوصاف وحالات متنوعة لهم من سورة النساء.
- من سورة التوبة.
- ما تلهم آيات التوبة من تبدّل حالهم الى القلة والضعف.
- النفاق في الأعراب.
- منافقون متكتمون.
- صور وحالات من سورة الحديد.
- من سورة محمد.
- من سورة المنافقون.
في سورة البقرة الآيات التالية:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16)} البقرة.(1/17)
وقد احتوت الآيات وصفا قويا شاملا للمنافقين، فهم يدّعون الإسلام كذبا، ويدسون ويفسدون ثم يزعمون أن فيما يبدو منهم إصلاحا ومصلحة، ويأنفون أن يكونوا كالمخلصين فناء في الإسلام وواجباته وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبرون ذلك سفها، وقد عقدوا الصلاة الوثيقة باليهود، فكلما خلوا إليهم أكدوا لهم أنهم معهم، وأنهم إذا تظاهروا بالإسلام فليس إلا خداعا واستهزاء، وكل هذا منبعث عن مرض قلبي ونية خبيثة فيهم.
والآيات لا تحتوي كلمة "المنافقين" ولكن لا تدع أي شك في أنها تعنيهم. والآية 13 التي تحكي وصفهم المؤمنين المخلصين بالسفهاء، تلهم أن القائلين من الزعماء البارزين الذين تدفعهم عنجهيّتهم الى الترفّع، والذين كانوا يرون في التفاني في النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته غلوّا لا محل له؛ والراجح مع هذا أن ما حكي عنهم إنما كان يصدر منهم حينما يكون مخاطبهم أو معاتبهم من طبقتهم، أو من ذوي رحمهم، بحيث يأمنون النميمة والعصبية؛ ومثل هذا ما حكته عنهم الآية 12 أيضا إذ المرجح أن الذين كانوا يعاتبونهم على دسهم وإفسادهم هم من طبقتهم، أو ذوي رحمهم، ولعل في جملة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} في كلتا الآيتين قرينة ما على ذلك. ويبدو أن تفاني المخلصين في النبي صلى الله عليه وسلموالإسلام مما كان يزيد في لهيب حقد هذه الفئة، لأن ذلك كان مما يحبط مكايدهم، ويبعد عنهم ذوي أرحامهم. ولعل فيما حكى عنهم في الآيتين من الاعتذار الواهي المكابر قرينة ما على ذلك أيضا.(1/18)
ومهما كان احتمال أن لا تكون هذه الآيات من أول ما نزل من القرآن المدني، فإننا لا نشك في أنها مما نزل في عهد مبكر، ويستلهم هذا من أنها إنما تحتوي وصفا عاما. وتبكير نزولها يلهم أن هذه الحركة قد ظهرت مبكرة جدا " ورد في روايات السيرة أن غيظ بعض الزعماء في المدينة الذين صاروا زعماء المنافقين قد بدأ قبل الهجرة النبوية، وفي عهد القارئ أو الإمام الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع وفود المدينة ليعلمهم القرآن ويؤمّهم في الصلاة" وأن التواثيق بين القائمين بها واليهود قد توطّد كذلك في عهد مبكر جدا.
وفي سورة البقرة الآيات التالية أيضا:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} البقرة.
وفي هذه الآيات صورة أخرى لمنافقين، وإن لم يرد فيها كذلك كلمة "المنافقين" وهي صورة قوية الملامح للناس الذين يستثيرون الإعجاب، بأقوالهم المنمقة، وأيمانهم المغلظة، ولكنهم لا يتورعون عن أفضع الآثام؛ ثم يغضبون إذا ما عوتبوا وطولبوا بتقوى الله وخوفه مما يقترفونه، ويعتبرون ذلك إهانة لكرامتهم، ووسيلة للإيغال في الشر والفساد والفتنة. والصورة وإن كانت مطلقة تعبّر عن فئة من الناس قد توجد في كل زمان ومكان لأنها متصلة بطبائع البشر المختلفة، فلا شك في أن الآيات قد نزلت في صدد أناس من المتظاهرين بالإسلام كانوا يبطنون الكفر، ويوغلون في الإثم والعداء والفتنة، ولقد ذكرت الرويات أنها نزلت على زعيم بدوي إسمه شريق ابن الأخنس، غدر وأثم بعد توكيده الإيمان، وعهده على عدم الخيانة والغدر.(1/19)
في سورة النساء الآيات التالية:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138)} النساء.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)} النساء.
وقد ذكر المنافقون في الآيات بصراحة، وفي الآيات الأولى صورة نفاق وتذبذب عجيبة لهم، إذ كانوا يعلنون إيمانهم ثم يكفرون ثم يعلنون إيمانهم ثانية ثم يكفرون على حسب ما توحيه إليهم ظروف الأمن والخوف والمصلحة، وفي الآيات الأخرى صورة ثانية، فقد كانوا يظنون أنهم ناجحون في دور خداعهم مع أنهم مفضوحون فيه، وقد كانوا إذا حضرت الصلاة قاموا إليها كمسالى مراءاة للناس فحسب، وقلما ذكروا الله ذكر المؤمل في رحمته الخائف من نقمته؛ وهكذا كانوا مذبذبين في حالتهم، تبعا للظروف، غير صادرين على أي حال عن نية حسنة، ورغبة صالحة، وروح الآيات تلهم أن موضوع الكلام أفراد معدودون وغير مجهولين كما هو واضح فيها، ولقد تكرر التنديد بهم لقيامهم الى الصلاة وهم كسالى في ا]ة 54 مما يلهم:
1- أنهم كانوا يمارسون الصلاة مع الجماعة.
2- أن حالتهم هذه كانت من الأمارات العامة على نفاقهم وعدم إخلاصهم في إسلامهم.
وفي السورة نفسها هذه الآيات أيضا:
{(1/20)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)} النساء.
فالمنزلة التي يتوعد الله بها المنافقين في النار تلهم كما هو المتبادر شدة نكايتهم، وسوء أثر مواقفهم، حتى لكأنهم من شرّ الكفار الصريحين. أما الآية الثانية فإنها بسبيل بث الأمل فيهم بعد بيان تلك المنزلة الرهيبة، ودعوة لهم الى الكف والارعواء حتى لا يتحقق وعيد الله فيهم. ومع أن فتح باب الإنابة، والتوبة للجاحدين والآثمين هو ما تكرر في القرآن من تقريره من المبادئ العامة، فإن الآية ما يمكن أن تلهم أن المنافقين أو أن فريقا منهم، وخاصة المخدوعين بزعمائهم، لم ينقطع الرجاء من ارعوائهم وإخلاصهم، ولقد احتوت سورة التوبة آيات فيها ما يدل على تناقض عددهم وضعف شأنهم، فلعل في هذا التطور ما يدعم ما يمكن أن تلهمه الآية.
في سورة التوبة الآيات التالية:
1- {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} التوبة.
2- { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} التوبة.(1/21)
3- {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} التوبة.
4- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77)} التوبة.
وسورة التوبة من أواخر ما نزل من القرآن، وهذه المقاطع قد نزلت بسبب ظروف الاستنفار الى غزوة تبوك، وبسبب ما كان من مواقف المنافقين يومئذ، وإن المقاطع هذه قد جاءت بصدد التنديد والتذكير بمواقفهم وأخلاقهم وحالتهم بصورة عامة.(1/22)
والمقطع الثالث يحتوي وصفا لسوء أخلاقهم وتضامنهم في النهي عن المعروف والخير، والأمر بالمنكر والشر، ويسوى في ذلك بين الرجال والنساء منهم، والراجح أن هذا التضامن إنما كان منهم في صدد الدعوة الإسلامية، وتعليمات النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغاته، إذ كانوا يأمرون بمخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ومبادئ الاسلام، وينهون عن الانقياد للنبي والتزام تلك المبادئ التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
أما المقطع الرابع فقد احتوى أمرا بمجاهدتهم هم والكفار سواء بالاغلاظ عليهم، وتتبع الأمر ببيان عن بعض حالاتهم وأخلاقهم، فهم ينكرون أنهم كفروا بعد إيمانهم ويحلفون على ذلك مع أنهم كاذبون، لأن الكفر صدر منهم قولا وعملا، وحاولوا تقويض الاسلام جهدهم فخابوا وفسلوا، ولم يكن لموقفهم هذا من سبب إلا الحقد والغيظ من النبي صلى الله عليه وسلم واشتداد أمره، مع أنه قد عاد عليهم من ذلك بسطة العيش والغنى، ولقد كان منهم من ينذر بأن يتصدق في سبيل الله ويخلص له إذا أنعم عليه، فلما آتاه الله من فضله بخل وتولى، فنمّ عن خبث نيته وسوء طويته ودمغ الى الأبد دمغة النفاق.
وفي المقطع ما يدلّ على ما عاد على أهل المدينة، من الهجرة النبوية والحركة الاسلامية، من الخيرات والبركات.(1/23)
والآية 73 تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المنافقين والكفار، وما يتضمنه هذا من اعتبار الفريقين في موقف واحد من العداء للإسلام والكيد له، ومما لا ريب فيه أن هذا قد يكون بسبب ما بدا منهم من بغي ودس وكيد، وينطوي فيه الإشارة الى خطورة مواقفهم وشدة نكاية حركتهم، كذلك الآية 74 ففيها إنذار لهم بالتوبة مفتوحا أمامهم، مما هو متّسق مع التقريرات القرآنية، وما عللنا به صبر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وعدم معاملتهم معاملة الأعداء المحاربين، وما ينطوي فيه أمل ارعوائهم. على أن فيها صورة أخرى لما وصلوا إليه من ضعف وازورار عن المسلمين وفيهم ذوو رحمهم وذلك في جملة:{ وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74)} التوبة.
والمقاطع الأول والثاني والرابع تلهم أن موضوع الكلام أفراد بارزون كما هو واضح.
وفي سورة التوبة كذلك الآيات التالية:
{ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)} التوبة.(1/24)
وهي من سلسلة تضمنت حملة على المنافقين لتخلفهم عن غزوة تبوك بأنفسهم وتثبيطهم ما يدل عليه من افتضاح أمرهم أو أمر بعضهم بأعيانهم، وتقرير كفرهم ونفاقهم بأسلوب حاسم، بحيث نهت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عمن يموت منهم والدعاء له والقيام على قبره. من غناهم وغنى بعضهم وكثرة أولادهم، واعتدادهم بذلك وقد تلهم الآية الثانية الى هذا ما كان لهم من تأثير بسبب ذلك، وما كان يعتلج في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من رغبة في ارعوائهم، وغيظ مما حازوه من ذلك لما كان لهم بسببه من قوة التأثير في غيرهم، ولقد ورد في السورة نفسها آية مقاربة النص لهذه الآية وهي آية 55، وتكرار ذلك في سلسلة واحدة تقريبا، واستهداف القرآن إضعاف ما قام في نفوس المسلمين من رغبة أو ثأر من عاطفة:
وفي سورة التوبة كذلك الآيات التالية:
{ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} التوبة.
وقد جاءت هذه الآيات في سياق التنديد بالمتخلفين الأعراب عن غزوة تبوك، وهي صريحة الدلالة على أن النفاق لم ينحصر في منافقي المدينة، بل كان في الأعراب منافقون أيضا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ويتملّقون المسلمين حينا مع تربّصهم الدوائر بهم، ولا يرون فيما يدفعون من زكاة ونفقات جهاد إلا مغرما، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون وجه الله ولا ثوابه فيما يفعلون.(1/25)
ولعل من الجائز أن يقال إن منافقي الأعراب لم يكن منهم ذلك الدور الخطير المؤذي الذي كان منافقي المدينة، وإن مواقفهم النفاقية إنما كانت تظهر في المناسبات وعند الاختبار، وخاصة في ظروف الاستنفار الى الجهاد، واستيفاء زكاة الأموال كما كان أحيانا يظهر من أعرب لم ينعتوا بنعت النفاق كما جرى في الاستنفار الى زيارة الكعبة التي انتهت بصلح الحديبية على ما جاء في آيات سورة الفتح 11_12 وبمناسبة غزوة تبوك قرينة على أن منافقي المدينة في حالة مواجهة واتصال واحتكاك دائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وذوي قرباهم واليهود، هذا الى ما في الآية الأولى من تعليل متصل بطبيعة البدو والبادية وما يلهم هذا التعليل من الفرق بين منافقي الأعراب ومنافقي المدينة.
وفي السورة نفسها الآية التالية:
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} التوبة.
وهي تقرر أنه كان هناك طبقة من المنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب استطاعت أن تتقن كتم نفاقها عن المسلمين أو جلّهم، ويبدو أنه كان لهؤلاء أذى بليغ، لأن الآية توعدتهم بالعذاب مرتين في الدنيا فوق ما ينتظرهم من عذاب الآخرة، وفي هذا صورة جديدة من صور حركة النفاق في العهد المدني.
وفي سورة محمد الآيات التالية:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)} محمد.
وفي سورة الحديد الآيات التالية:
{(1/26)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} الحديد.
وهي وإن كانت وصف حال مشهد أخروي، فإن الآية الثانية قد احتوت بيان ما كان من واقع حالهم الدنيوي من انحراف وريبة وغرور وتربص، الى سائر صفات النفاق التي كانوا متصفين بها. وقد ذكر المنافقات الى جانب المنافقين كما ورد أكثر من مرة واستدلّ به أنه كان للمرأة دور في حركة النفاق كما كان لها دور في الحركة الإسلامية والحركة الجحودية معا.
وفي الآيات إنذار لمرضى القلوب بالفضيحة، وبأن الله لا يخفى عليه أمرهم ولو شاء لدلّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فردا فردا، ومع ذلك فقد أكدت أن النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعرفهم من أسلوب أقوالهم. ويبدو أن الآيات قد عنت الفريق الذي أتقن كتم نفاقه عن سواد المسلمين والذي أشارت اليه آيات التوبة الآنفة، غير أن أحواله وأقواله ومواقفه كانت تفضحه أحيانا، أو على الأقل كانت تكشف للنبي صلى الله عليه وسلم عما في قلبه من مرض، وهذا الإنذار بهذا الأسلوب قد يلهم أن من هذا الفريق من كان يرجى ارعواؤه وعودته الى حظيرة الاخلاص خشية الفضيحة التامة على الأقل، وروح الآيات تلهم أن موضوع الكلام أفراد بارزون أيضا.
وفي سورة المنافقون الآيات التالية:
{(1/27)
إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} المنافقون.(1/28)
وفي الآيات صورة قوية وصريحة للمنافقين فهم يظهرون الإسلام ويحلفون كذبا أنهم مصدّقون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حين أنهم لا يتورعون عن الكفر، ويعطلون الناس عن تأييد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصدّون عن سبيل الله، ويأنفون أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله لهم على ما اقترفوه من آثام، وإن مظاهرهم لتعجب الرائي، وأقوالهم لتحمل المخاطب على الاستماع، لما فيها من تنميق وتزويق، في حين أنها عاطلة عن الإخلاص، وصادرة عن نية خبيثة، وطويّة مريبة، وهم الى هذا كله دائمو الخوف والقلق النفسي، كلما هتف امرؤ الى أحد توهموا أنه يشير إليهم ويحاول أن يفضحهم، فهو العدو الذي يجب الحذر منه وعدم الركون إليه في حال. والآيتان الأخيرتان في صدد مواقف كيدية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين دعا إليها بعض زعماء المنافقين في بعض المناسبات، غير أنهما تحتويان بالنسبة لحالتهم ما يلهم أنهم كانوا على شيء من القوة ونفوذ الكلمة حينما نزلت الآيات، أو أنهم كانوا يشعرون بذلك في أنفسهم، إذ جهروا بالدعوة الى مقاطعة المهاجرين وعدم مساعدتهم، وإلى نذر إخراجهم مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
وروح الآيات تلهم أن الصورة هي بنوع خاص لزعماء المنافقين وبارزيهم.
في مواقفهم الكيدية
والساخرة والتآمرية
- صور لمواقفهم الكيدية من سور النساء والتوبة والأحزاب والمجادلة والمنافقون.
- إشارة تذكيرية الى صور كيدية سابقة.
- صور لمواقفهم الساخرة من سور النساء والتوبة ومحمد.
- صور لمواقفهم التآمرية من سور النساء والتوبة ومحمد والمجادلة.
- تذكير بصور تآمرية سابقة إتماما للسلسة.
إن هذا المبحث يتناول ثلاثة أنواع من المواقف:
أولا: مواقفهم الكيدية
في سورة النساء الآيات التالية:
{(1/29)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً (61)} النساء.
وقد احتوت صورة لما كان من تعطيل المنافقين وصدّهم عن التقاضي لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفضيلهم التقاضي لدى زعيم من زعماء اليهود عرف بشدة حقده وعدائه للنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، والصورة من صور الكيد الواضحة.
وفي سورة التوبة الآية التالية:
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} التوبة.
وقد احتوت صورة كيدية للنبي صلى الله عليه وسلم باتهامهم إياه بالمحاباة في توزيع أموال الزكاة، وتقريرا لواقع حالهم في هذا الاتهام، فهم يتوسلون بالافتراء والكيد للحصول على نصيب منها قد لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم لهم حقا فيه.
وفي سورة الأحزاب الآيات التالية:
{(1/30)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (59) لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)} الأحزاب.
وقد تضمنت إشارات الى مواقف كيدية للمنافقين فيها أذى وسوء أدب إزاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، وإلى ما كانوا يسعون فيه من نشر إشاعات السوء عنهم والإرجاف في حقهم بما هو براء منه. والآية 59 قد تلهم أنه كان من جملة مواقف هذه الفئة ما يتنافى مع الرجولة والمروءة من التعرّض للحرائر من نساء المسلمين أثناء خروجهن الى حاجاتهن، وأذيتهن بفاحشة القول وبذيئه. والأنذار الذي احتوته الآيتان الأخيرتان قاصم وحاسم ومتناسب مع ما أشارت إليه الآيات من مواقف الكيد والأذى والإرجاف. وعدم ورود ما يدل على أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد طرد بعضهم عن المدينة، أو أمر بقتلهم أو قتل بعضهم بعد هذا التوجه القرآني الحاسم، قد يلهم أن الذين كانوا يقفون هذه المواقف الكيدية والمؤذية قد ارتعدوا منها.(1/31)
وهناك آيات عدة من سورة النور احتوت إشارات الى ما كان من بعض زعماء المنافقين من موقف شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وآله في ظروف ما عرف في تاريخ السيرة بحديث الإفك، وهذا الموقف من حيث الشكل والأسلوب يتصل بما أشارت إليه آيات الأحزاب من مواقف، كما أن آيات النور قد احتوت إنذارا شديدا لهم وقررت أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وحذّرت من خطتهم القائمة على اتباع الشيطان الذي يأمرهم بالفحشاء والمنكر، وهذا مقارب لما احتوته آيات الأحزاب من إنذار، ومن بابه أيضا.
وفي سورة المجادلة الآيات التالية:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} المجادلة.
وقد احتوت صورة لموقف شديد الأذى والكيد مما كان يقفه المنافقون، فقد كانوا يعقدون المجالس والحلقات الخفية ليضعوا خطط الكيد والعصيان والتمرد على النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن ذلك فلم يأبهوا للعتاب وظلوا في خطتهم الآثمة، ومما روي أن هذه الحلقات كانت تعقد أكثر ما تعقد في ظروف الأزمات الحادة التي كان يضطرب لها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وهذه الرواية متسقة مع منطق الأمور، حيث تكون الفرص سانحة لهم لوضع خطط الدس والتثبيط والكيد، استغلالا للظروف الحرجة، وفي هذا ما هو ظاهر من شدة الكيد والأذى، وقد يدعم هذه الرواية آية وهي:
{(1/32)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} المجادلة.
إذ احتوت طمأنة للمسلمين بأن هذه الحلقات السرية هي من وساوس الشياطين بقصد إدخال الحزن على نفوسهم مع أنها ليست بضارتهم شيئا لأن الضرر والنفع إنما هو من الله، وعليهم أن يتوكلوا عليه.
وفي الآيات الى صور مواقف الكيد والأذى صور تصف سخرية المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تضمنت الإشارة الى أنهم كانوا حينما يأتون إليه لا يسلّمون عليه بالسلام المعتاد، وإنما بسلام فيه غمز أو سخرية ثم يتساءلون ساخرين جاحدين متى يقع عليهم عذاب الله الذي أنذرهم به النبي صلى الله عليه وسلم جزاء ما يصدر منهم من أقوال وأفعال!؟
ولما كان من المرجح أن هذا التساؤل إنما كان يقع فيما بينهم، كما أنهم كانوا يعقدون تلك الحلقات متكتمين، فإن من المحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل عليهم عيونا يأتونه بأخبارهم وما يبيّتونه من خطط الكيد والأذى كما تلهمه روح الآيات، لا سيما أنه ليس فيها ما يفيد أن الله هو الذي اطلع النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي على ما يعقدونه من حلقات وما يصدر منهم من أقوال جحودية ساخرة، وهذا مما قد ينسحب على كثير من خطط المنافقين الكيدية على ما هو المتبادر، وفيه أصدق مشهد من مشاهد السيرة النبوية.
وفي سورة المنافقين الآيتان 7، 8:
{(1/33)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}، وقد تضمنت حكاية توصية كيدية من زعماء المنافقين للناس بعدم الإنفاق على المحتاجين ممن هم حول النبي صلى الله عليه وسلم حتى تضيق بهم الحال وينفضّوا عنه وتضعف حركته وشأنه، والراجح أن المقصودين هم المهاجرون من قريش الذي أصبح كثيرون منهم أو بالأحرى أكثرهم فقراء محتاجين بتركهم أموالهم في مكة على ما أشارت إليه إحدى آيات الحشر هذه:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}.
وفي سورة المنافقين نفسها آية أخرى هي الآية 8، قد تضمنت حكاية نذر شديدة الخطورة والكيد من زعماء المنافقين بأنهم سيخرجون النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه القرشيين من المدينة، وهذا النذر يدلّ على ما كان يستشعره هؤلاء الزعماء من الثورة والعزة والقدرة على النكاية والكيد.
ثانيا: مواقفهم الساخرة
في سورة النساء الآية التالية:
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)}.(1/34)
وقد جاءت الآية في معرض التنديد بالمانفقين، واحتوت صورة لما كان يعقده المنافقون من مجالس يستهزئون فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وينكرون أن يكون متصلا بالله. وفي الآية صورة لبعض المسلمين هم المقصودون بالنهي في الآية، إذ تلهم أن فريقا منهم لم يكن يرى بأسا في التردد على مجالس المنافقين، والسمر معهم، والإغضاء عما يدور فيها من استهزاء وكفر، وكما كان للعصبية والقرابة والمصالح المشتركة أثر فيما كان من مواقف دس المنافقين، فإن لهما أيضا أثر في هذا الموقف، ويبدو أن هذا الأثر كان قويا بحيث إن الآية اكتفت بالنهي عن الاشتراك في مجالس فيها كفر وهزء بآيات الله فقط، الى أن ينتقل الكلام الى غيره.
وفي سورة التوبة الآية التالية:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}.
وقد احتوت حكاية قول ساخر لهم إزاء النبي صلى الله عليه وسلم في نقدهم له، وقولهم عنه إنه سماع لكل ما ينقل له، كما أن فيها تنبيها الى أن هذا القول كان مما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي في صدرها أن بعضهم كان يقدح في النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حذر بعضهم بعضا من وصول الخبر إليه قالوا: إنه أذن سهل الاقتناع فنحلف له فيصدق، وإن قولهم كان مما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم مما يجعل الرواية سائغة كما هو المتبادر.
وفي السورة نفسها الآيات التالية:
{(1/35)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} التوبة.
ولقد روي أن الآيات نزلت في فريق من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته، فعلم بالمؤامرة وعاقبهم فأنكروا أو اعتذروا، كما روي أن بعضهم كان يقدح أثناء الغزوة فيه ويستهزئ بما يقول ويعد من نصر الله على الروم، فعلم بأقوالهم فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا، ومنهم من تاب وحسن إسلامه.
والروايتان لا تتسقان مع روح الآيات ومضمونها وسياقها إذا أمعن النظر فيها، ولعلها متصلة بموقفهم الذي حكته عنهم الآية السابقة مباشرة لها من أنهم كانوا يغتابون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون أنه أذن، ثم يقولون على سبيل الهزؤ أيضا أنه سينزل فيهم سورة تفضحهم، بل إن مضمون الآيات وروحها تدعم هذا أكثر كما هو المتبادر منها. فإن فيها صورة واقعية لموقف كيد وسخرية وسوء أدب وقفه فريق من المنافقين.
وفي السورة نفسها الآيات التالية:
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} التوبة.(1/36)
وقد روي أنها نزلت في مناسبة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين الى التصدّق فأقبل أغنياؤهم وفقراؤهم على السواء، كلّ يتصدّق حسب قدرته، فأخذ المنافقون يلمزون الفلايقين، فيقولون عن الأغنياء أنهم يعطون رياء، وعن الفقراء إن ما أتوا به تافه لا قيمة له، وإنهم إنما أعطوه ليذكروا بأنفسهم به، وليكون لهم وسيلة الى نيلهم نصيبا من مال الصدقة، وقد عنيت الرواية عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه من الأغنياء حتى تصدق بنصف ماله، وأبا عقيل من الفقراء حين جاء بصاع من تمر، ومع احتمال صحة الرواية واتساقها مع الآية فإنه يتبادر أنها أوسع شمولا، والراجح أن الدعوة النبوية كانت بسبيل تجهيز حملة تبوك، لأن الآية قد نزلت في ظروفها، وموقف السخرية والكيد بارز في الآية، ولقد جاء عقبها آيد شديدة حاسمة في دفع المنافقين بالكفر وعدم إمكان غفران الله لهم فقال:
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)} التوبة.
سبق أن ذكرنا في معرض عدم الاستغفار والصلاة لهم أن هذه الآية نزلت في صدد مراجعة أحد أقرباء زعيم من زعماء المنافقين كان في حالة الاحتضار وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله خيّرني" واستغفر له تطييبا لقلب المؤمن المخلص الذي طلب منه ذلك، فإننا نرجح أنها أسلوبية استهدفت كما قلنا دفع المنافقين بالكفر والفسق، وعدم إحتمال غفران الله لهم، بسبب ما حكته هذه الآيات وما قبلها من مواقفهم الكيدية والساخرة، ولا أعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف روح الآية واستغفر لأحد ممن كان مصرا على نفاقه وكفره ومواقفه الكيدية الساخرة." محمد عزة دروزه، سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم".
وفي السورة نفسها الآيات التالية:
{(1/37)
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127)} التوبة.
وقد احتوت صورا من سخرية المنافقين واستخفافهم بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه من آيات القرآن وسوره حينما تنزل عليه، واستخفافهم كذلك بمجالسه وانصرافهم عنها خلسة.
وفي سورة محمد الآية التالية:
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (16)} محمد.
وقد احتوت صورة مقاربة للصورة التي احتوتها آية التوبة (124)، إذ تلهم أنهم كانوا يتلهون عن سماع الآيات القرآنية والمواعظ النبوية، وحينما ينصرفون يتساءلون تساؤل المستخف عما تلاه وقاله.
ثالثا: مواقفهم التآمرية
في سورة النساء الآيات التالية:
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139)}.
{(1/38)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)} النساء.
وقد احتوت الآية (139) تقريرا بأن المنافقين كانوا يتمسكون بولائهم للكفار دون المؤمنين ابتغاء الاعتزاز بذلك، واحتوت الآية (141) صورة أخرى عن نفاقهم وذبذبتهم إذ كانوا يقفون موقف المتربص المنتهز للفرصة متى جاءت وكانت، وقد قال المفسرون: إن المقصود من الكافرين هم اليهود، وقد جاءت بعد الآيات بقليل سلسلة فيها حملة شديدة على اليهود مما يمكن أن يوجه ذلك القول، وعلى هذا فالآيات بسبيل الإشارة الى مواقف تآمري بين المنافقين واليهود، والأرجح إن هذا الموقف كان قبل التنكيل باليهود جميعهم، وبالتالي في وقت كان اليهود فيه أقوياء بعض القوة، وكان المنافقون فيه كذلك أقوياء بعض القوة، والآيات تلهم هذا وتلهم أنها في صدد اليهود، فاحتمال اعتزاز المنافقين بالولاء للكفار، واحتمال قولهم لهم إنهم نصروهم بموقفهم السلبي فتمّ لهم النصر على المسلمين، لا يمكن أن يكون إلا مع المنافقين واليهود، وفي وقت كان الفريقان فيه على شيء من القوة.
وفي سورة التوبة الآيات التالية:
{(1/39)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} .(1/40)
والجمهور على أن الذين بنوا هذا المسجد الذي عرف في تاريخ السيرة بمسجد الضرار، اتساقا مع الوصف القرآني، فريق من المنافقين كانوا يقطنون في محلة قباء، وكان في الحملة مخلصون أيضا استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مسجد حيث كانت صلاته حينما جاء مهاجرا من مكة، وحيث أقام بعض الوقت، ليصلّوا فيه في أيام الشتاء والبرد والليل بسبب بعد المحلّة عن مسجده، فأذن لهم، وكان راهب عربي اسمه أبو عامر قد تلاحى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم أن يحاربه اينما وجد محاربا له، فلما انتصر المسلمون في فتح مكة ويوم حنين، تآمر مع المنافقين على أن يبنوا مسجدا في قباء ليكون مركز اجتماعاتهم، وينتظروا عودته من بلاد الروم حيث أزمع أن يذهب ليدبّر المكايد للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد مثل رفاقهم، فأذن لهم، ورجوه أن يصلي لهم فيه فوعدهم بذلك بعد عودته من غزوة تبوك.
والصورة التآمرية واضحة في الآيات وليس فيها ما لا يتّسق مع الرواية، والمروي أيضا، أن الآيات قد نزلت أثناء غزوة تبوك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم علم وهو في الرحلة بخبث نية بناة المسجد، وقد ارسل فور عودته الى المدينة من هدمه وحرقه، ومضمون الآيات يلهم أنها نزلت في وقت كان المنافقون فيه في ضعف وضآلة شأن، إذ جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم يؤكدون له حسن نياتهم.
وفي سورة محمد الآيات التالية:
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)}.(1/41)
وقد احتوت الآية الثانية منها إشارة الى ما كان من وعد المنافقين، للذين كرهوا ما نزل الله بطاعتهم والاندماج في مكايدهم، في هذا صورة تآمرية واضحة، وتعبير {إسرارهم} مما يلهم أن المنافقين واليهود كانوا يعقدون جلسات خفية يتآمرون فيها على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي سورة المجادلة الآيات التالية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (16)}.
ومع أن ذكر المنافقين لم يرد في الآيات إلا أن صفاتهم التي جاءت في آيات أخرى قد وردت فيها، كما أن الجمهور على أنهم هم موضوع التنديد وما تبع الآيات من حملة شديدة، وتعبير { ما هم منكم ولا منهم} يدلّ بقوة على أن المقصود من القوم الذين غضب الله عليهم وليسوا من العرب، هم اليهود على الغالب، وفي الآيات صورة لما كان بين اليهود والمنافقين من تواثق وتآمر كما هو ظاهر.
ويظهر أن المنافقين كانوا يعاتبون على مواقفهم التآمرية فينكرونها ويحلفون على ذلك الأيمان الكاذبة، شأنهم في كل موقف من مواقفهم الأخرى على ما احتوته الآيات السابقة.
مواقفهم من الجهاد ووقائعه
هذه المواقف نوعان:
الأول: إزاء الدعوة.
- صور له من سورة آل عمران والنساء والتوبة ومحمد.
الثاني: إزاء الوقائع الجهادية.
- صور له سور آل عمران والأنفال والأحزاب.
- إشارة تذكيرية بما كان من مواقفهم إزاء وقعتي بني النضير وغزوة تبوك.
- صور أخرى للنوع الثانيب من سورتي التوبة والمنافقون.
- تعليق على شدة نكاية مواقف النوع الثاني.
- إشارة الى ما كانوا عليه من قوة في ظروفها.(1/42)
إن هذه المواقف على ما يستفاد من الآيات نوعان، نوع إزاء الدعوة الى الجهاد والاستنفار اليه، وآخر أزاء الوقائع الجهادية.
في سورة آل عمران الآية التالية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}.
وقد جاءت الآية في سياق الإشارة الى مشاهد وقعة أحد، وما كان للمنافقين وبعض فئات المسلمين المخلصين من مواقف فيها، والآية مطلقة تلهم أنها بسبيل تقرير موقف متكرر منهم، وهو أنهم كانوا يعمدون الى إشارة شجون أهل الشهداء والموتى من المسلمين الذين يستشهدون في الجهاد أو يموتون في السفر فيقولون إنهم لو لم يخرجوا الى ما خرجوا إليه لما ماتوا وما قتلوا، وواضح أن في هذا دسا خبيثا وتثبيطا عن الاستجابة الى الجهاد، وقد تلهم الآية أن المقصودين بالذين يضربون في الأرض هم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يندبهم لمهمة ما فيلقون حتفهم، لأن الدسّ والتثبيط إنما يجدان سبيلهما في ذلك دور الأسفار المطلقة الخاصة التي لا غنى للناس عنها ولا سبيل الى إشارة الشجون فيها.
وفي سورة النساء الآيات التالية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)}.
{(1/43)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (81)}.
وقد احتوت الآيات الأولى إشارة الى ما كان من تثبيط المنافقين الناس عن الاستجابة الى دعوة الجهاد، فضلا عن تربّصهم وانكماشهم، واحتوت الآية (81) صورة من صور مواقفهم من الدعوة أيضا، فقد كانوا يعلنون في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة ويخرجون للاستعداد، ولكنهم لا يلبثون أن ينقضوا ما أبرموا ويجنحوا الى الخلاف والتخلف.
وفي الآيات الأولى صورة تأكيدية لنفاقهم وأن ما يصدر عنهم لا يصدر عن إيمان وإخلاص في صورة تقرير لما كان يكون منهم في حالتي إنتصار المسلمين وإنكسارهم.
وفي سورة التوبة مقاطع عدة في صدد مواقف المنافقين إزاء الدعوة الى الجهاد، وتشير الى ذلك الآيات (41-49) و(81-83) و(91-95):
{(1/44)
انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}.
{(1/45)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}.
{(1/46)
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95)}.
وكذلك هاتان الآيتان شواهد على ذلك:
{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87)}.(1/47)
ففي هذه الآيات التي نزلت في معرض التنديد بالمنافقين والحملة عليهم وذكر مواقفهم المنكرة، صور عدة ولكنها متقاربة لتلك المواقف، فهم إذا اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فإنما يتبعونه حينما يكون السفر سهلا والخطر مأمونا، فإذا ما انعكس الحال اعتذروا بعدم الاستطاعة وأقسموا الأيمان وهم كاذبون، فيستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف من جهة، ويثبطون الناس عن النفرة من جهة أخرى، وكلما دعا الله رسوله الى الجهاد سارع أولو الطول والقدرة الى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يتركهم في المدينة، ويبدو من روح بعض الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأذن لهم تفاديا لما يعلمه من دسهم وشغبهم وتثبيطهم وأثر ذلك في المخلصين الذين كان منهم من تربطه بهم الروابط الوثيقة المتنوعة.
وفي سورة محمد الآيات التالية:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.
وقد احتوت الآية الأولى وصفا بديعا وقويا لجبن المنافقين حينما كانت تنزل سورة فيها أمر حازم بالجهاد توافق رغبة المخلصين من المسلمين وفي الآيات الأخرى حملة عليهم لجبنهم، وتقطيع الأرحام وتدمير البلاد، لأن فيه تشجيعا للعدو إغراء له.
وثانيا: مواقفهم في وقائع الجهاد.
وفي سورة آل عمران الآيات التالية:
{(1/48)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168)}.
والآيات ما نزل عقب وقعة أحد التي دارت الدائرة فيها على المسلمين، والتي أثارت فيهم آلاما مرّة، وقد احتوت الأولى صوة لموقف المنافقين في هذه الوقعة، إذ يستفاد منها أنهم دعوا الى الاشتراك في الجهاد في سبيل الله، أو التضامن على الأقل في الدفاع عن وطنهم وقومهم، فأبوا وتخلّفوا قائلين أنهم لا يظنون أن يقع اشتباك، ولو تيقنوا من ذلك لخرجوا معهم، وكان قولهم كذبا لأنهم تخلفوا بقصد الخذلان، واجتناب الحرب، وتربص السوء بالمسلمين. وقد احتوت الثانية صورة لموقف آخرهم بعد المعركة، فإنهم عمدوا الى الدس الخبيث، وإثارة شجون أهل الشهداء، فقالوا إنهم لو أطاعونا وتخلفوا كما تخلفنا لما قتلوا، وفي جملة {لو أطاعونا} صورة لموقف ثالث قبل المعركة، إذ تلهم أنهم لم يكتفوا بالتخلف بل حاولوا حمل غيرهم من المخلصين الذين يربطهم بهم روابط القربى والعصبية على التخلف أيضا، ولكن هؤلاء لم يسمعوا لهم.
في سورة الأنفال الآية التالية:
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}.(1/49)
وسورة الأنفال نزلت عقب غزوة بدر الكبرى على ما أجمع عليه المفسرون والرواة، وقد احتوت حكاية صور ومشاهد وظروف الوقعة من معرض العظة والطمأنة والتشريع، ومما ذكره الرواة أن فريق المنافقين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين حينما كان هدفهم من الخروج كسب القافلة التجارية القرشية الواردة من الشام بقيادة أبي سفيان، والتي لم يكن معها حامية كافية، فلما نجت القافلة وتم إنفاذها اسنشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فأعلن المهاجرون والمدنيون استعدادهم للاشتباك، فما كان من الفريق المنافق إلا المخالفة والرجوع، والأرجح أن الآية تحكي قولهم في هذا الظرف؛ إذ رأوا في قرار الاشتباك مع المكيين الذين يبلغون ضعف المسلمين وتورطا وغرورا فقالوا: إنما غر هؤلاء ورطهم دينهم.
وفي سورة الأحزاب الآيات التالية:
{(1/50)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (16) قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ(1/51)
فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (20)}.
وهذه الآيات مما نزل عقب وقعة الخندق أو الأحزاب، وف صدد وقائها ومشاهدها، وقد احتوت صورا لمواقف المنافقين ودسائسهم في ظروف الوقعة، وأن هذه الآيات هي معظم ما نزل في صدد الوقعة بدا لنا أنها إنما نزلت للتنديد بهم وفضحهم خاصة.
والآيات الثلاث الأولى تصوّر مقدرا ما كان من شدة اضطراب المسلمين لقدوم جيوش الأحزاب وفرتها ودسائس المنافقين وتثبيطهم. في هذه الحالة يكون بطبيعة الحال شديد الأذى بعيد المدى بحيث يتناسب مع تلك الشدة، يضاف الى هذا أن هذه الغزوة كانت أشد ما تعرضت له المدينة والمسلمون من خطر، بل كان من شأنها أن تعصف بالإسلام لولا تأييد الله وثبات رسوله، لا سيما أنها جاءت بعد وقعة أحد التي كانت الدائرة فيها على المسلمين وكاد النبي صلى الله عليه وسلم يقتل فيها، وهذا مما يجعل مواقف الدس والتثبيط التي وقفها المنافقون أشد خطرا وأبعد نكاية وأذى.
وفي الآية الرابعة تبدو صورة للمنافقين في جرأتهم على الله ورسوله جهرة وقولهم إن ما وعدوا به من نصر ليس إلا غرورا أو تغريرا بالناس، ومما لا ريب فيه أن خطورة الظرف هي التي جرأتهم على هذا القول.(1/52)
وفي الآية الخامسة تبدو صورة أخرى لهم في تثبيطهم أهل المدينة وتخويفهم إياهم ودعوتهم الى الرجوع الى المدينة، وصورة ثانية أيضا في استئذانهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة الى بيوتهم لحمايتها وزعمهم كذبا أنها مكشوفة للعدو، وقد قررت هذه الآية الخامسة والآية السادسة واقع أمرهم في الحقيقة، فهم لا يبغون إلا الفرار، وإذا قدّر للعدو أن يدخل الى المدينة منصورا وطلب منهم أن يجهروا بالكفر وأن يثيروا الفتنة لما توقفوا في الإجابة الى ذلك، ويبدو من الآية السابعة أن المنافقين عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأشهدوا الله عليهم على عدم الفرار بعدما كان منهم ما كان في وقعة أحد فذكرتهم الآية بهذا العهد تذكير تأنيب وتنديد.
وفي الآية التاسعة صورة أخرى لهم في ظروف الوقعة إذ تلهم أنه كان منهم من يبثون فكرة الالتحاق بمعسكر النبي صلى الله عليه وسلم لتعويق الناس عنه، ويدعون بني قومهم وذوي قرباهم الى الانضمام اليهم بحجة الرغبة في القتال فريقا خاصا، في حين أنهم كانوا لا يقصدون إلا التفريق، ولم يبيّتوا النية على الاشتباك في الحرب إذا نشبت بصورة فعالة.
وفي الآية العاشرة تقرير آخر لواقع حالهم، فهم بخلاء، وحينما يحدق بهم الخطر يظهرون جبنا شديدا صوّرته الآية أبلغ تصوير، وحينما يذهب الخوف يطلقون ألسنتهم بالنقد الشديد والتبجّج العريض، وهم بعيدون عن كل خير. وفي الآية العشرون وهي الأخيرة صورة أخرى لهم، إذ يبدو أنهم حينما قيل لهم إن الأحزاب قد ارتدوا خائبين عن المدينة لم يكادوا يصدقون. وقد احتوت تقريرا لحالة فرضية لهم متصلة بموقف الجبن وعدم التورط الذي وقفوه، فقررت عنهم أنه لو عاد الأحزاب ثانية لتمنوا أن يكونوا في البادية بعيدين عن المدينة، فلا يشهدوا الوقعة، ولا يتورطوا فيها، ويكتفوا بالسؤال عن الأخبار، وقد استدركتها الآية فقررت أنهم لو كانوا مع المسلمين لما قاتلوا قتال جد فيه عناء.(1/53)
والصور القرآنية واضحة كل الوضوح، وهي تؤيد شدة نكاية ومواقف المنافقين وبعد مداها في ظروف هذه الوقعة التي هي أشد ما تعرّض له الإسلام من خطر.
يستفاد من آيات سورة الحشر "11-14":
{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14)}.
ما فيها من صور تذكيرية لتضامن المنافقين مع اليهود، وفي الآيات صور تتصل بهذا المبحث أيضا، لأن الموقف الذي وقفه المنافقين مع اليهود، وفي الآيات صور تتصل بهذا المبحث أيضا، لأن الموقف الذي وقفه المنافقون وحكته الآيات، إنما كان في ظروف وقعة يهود بني النضير، ويستفاد من الآيات والروايات التي وردت في صددها والمتسقة معها أن المنافقين تدخلوا وأوعزوا لليهود بعدم التسليم، ووعدوهم بالتضامن معهم في القتال وفي الجلاء، فتمرد هؤلاء نتيجة لهذا الوعد والإيعاز، ورفضوا شروط النبي صلى الله عليه وسلم المتسامحة، فشدد الحصار عليهم واضطرّهم الى قبول شرط أشد. وعلى كل حال ففي الآيات صور لموقف من مواقف المنافقين في ظروف الوقائع الجهادية، فيه تقوية للعدو كما هو واضح.(1/54)
وفي القسم الأول من هذا المبحث أن آيات التوبة، وما فيها من صور لمواقف المنافقين من الدعوة الى الجهاد عامة وغزوة تبوك خاصة، وفي بعض هذه الآيات صور لمواقفهم عن وقائع الجهاد نفسها، فالآية (24) تذكر أن المنافقين كانوا أحيانا يستجيبون للدعوة ويشتركون في حملات الجهاد حينما تكون الرحلة قريبة والغزوة سهلة مأمونة. والآية (83) احتوت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلانهم أنه لن يسمح لهم بالخروج معه الى غزوة ما أو بمقاتلة عدو، بسبب ما كان من تخلفهم وتهرّبهم وتثبطهم، والآيتان " 47-48" تصفان واقع حال المنافقين في الوقائع الجهادية. فهم لا يألون جهدهم في بث الفتنة وإثارة القلق وتثبيط الهم ودس الدسائس إذا ما خرجوا مع الحملات الجهادية، ولمساعيهم هذه أثر في بعض المسلمين الذين يستمعون إليهم بسبب الروابط التي تربط بينهم، وفي الآية الثانية إشارة الى موقف واقعي منطبق على ما ذكرته الآية الأولى من واقع حالهم، إذ لم يألوا جهدهم في فتح الثغرات، وخلق المشاكل، وظلوا كذلك إلى أن صارت كلمة الله هي العليا، وتوطدت قوة الإسلام رغم أنوفهم وعلى كره منهم.
وفي سورة التوبة آيات متصلة بمواقف المنافقين في ظروف الوقائع الجهادية، منها الايات التالية:
{ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53)}.(1/55)
وهي صورة متصلة بوقائع الجهاد من بعض النواحي أيضا، إذ حكت الأولى تربّص المنافقين الدوائر بالمسلمين حتى أنهم ليستاؤون من فتح يفتح عليهم، وليتمنون أن تدور الدائرة عليهم. وهذه المساجلة التى تآمر بها. الآيات تدل على ما كان من شدة أثر مواقف المنافقين في نفوس المسلمين في ظروف الوقائع الجهادية كما هو المتبادر.
والآية (53) مع ما ورد في صددها من روايات، تلهم أن المنافقين حاولوا أن يفتدوا أنفسهم بالاشتراك ماليا في غزوة تبوك فألهم الله نبيّه رفض ذلك مع تعليل الرفض في الآية، وهو تعليل بليغ يلهم أن قبول المال منهم قد يتخذ دليلا على تصديقهم فيما يدّعونه من نيات حسنة ويقدّمونه من أعذار كاذبة.
ومنها الآية التالية:
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)} التوبة.
وقد تضمنت صورة لمنافقي الأعراب، فقد كانوا يعتبرون ما يؤخذ منهم من مساعدات وصدقات، تكاليف إجبارية، وكانوا يدفعونها تفاديا لا إيمانا واحتسابا، وكانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر حتى يخلصوا من هذه التكاليف.
ولقد نقلت سابقا الآية (8) من سوة "المنافقون"، ولها اتصال وثيق بموقف المنافقين أثناء إحدى الغزوات النبوية، إذ روي في صددها أن أنصاريا خزرجيا تلاحى مع قرشي فاستغاث كل منهما بقومه على عادة العصبية الجاهلية، وكادت تكون فتنة هوجاء فأخذ عبدالله بن أبيّ كبير المنافقين الغضب والحميّة وأقسم: لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، كأنما كان واثقا من أنه هو الأعز. ففي الآية من جهة صراحة بأن المنافقين كانوا أحيانا يخرجون في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها من جهة أخرى صور لما كان من استعدادهم لإثارة الفتنة بين صفوف المسلمين أثناءها.(1/56)
ومما لا ريب فيه أنهم إنما كانوا يخرجون في الغزوات الهيّنة المضمونة العاقبة على ما وصفت إحدى آيات التوبة وهي (42) من واقع حالهم في ذلك.
ومن الواضح أن المنافقين قد وقفوا من الوقائع الجهادية الخطيرة في تاريخ السيرة مثل بدر وأحد وبني النضير والخندق وتبوك موقف الخذلان والتثبيط، وأن موقفهم خاصة في وقعتي أحد والخندق ـ اللتين دارت في أولاهما الدائرة على المسلمين وكادت ثانيهما تعصف بالاسلام والمسلمين أشد العصف ـ من أشد مواقفهم نكاية وخبثا وأبعدها مدى.
وهذا يفسّر الحكمة التي اقتضت إنزال الحملات القرآنية العنيفة في حقهم كما هو المتبادر. ويلاحظ من ناحية أخرى أنهم كانوا في ظروف الوقائع الأربع الأولى على شيء من القوة، فلم يعبأوا بما يمكن أن يكون لمواقفهم منها من رد فعل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
خاتمة
السكوت عن قول الحق عند الأمراء
( قول ابن عمر لعروة في هذا الأمر : كنا نعدّ ذلك نفاقا):
أخرج البيهق (8\165) عن عروة قال: أتيت عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقلت له: يا أبا عبدالرحمن، إنا نجلس الى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام نحن نعلم أن الحق غيره فنصدّقهم، ويقضون بالجور فنقوّيهم ونحسّنه لهم، فكيف ترى ذلك؟ فقال: يا ابن أخي، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعدّ هذا نفاقا فلا أدري كيف هو عندكم؟.
وأخرج أيضا (8\164) عن عاصم بن محمد عن أبيه قال: قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول ما نتكلم بخلافه إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعدّ هذا نفاقا. وأخرجه البخاري عن محمد بن زيد بنحوه وزاد: كنا نعدّ هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا في الترهيب (4\382).(1/57)
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنّ رجلا قدم على ابن عمر رضي الله عنهما فقال له: كيف أنتم وأبو أنيس؟ قال: نحن وهو إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولينا عنه قلنا غير ذلك. قال: ذلك ما كنا نعدّ ـ ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ من النفاق. كذا في كنز العمال (1\63).
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4\332) عن الشعبي قال: قلنا لابن عمر رضي الله عنهما: إذا دخلنا على هؤلاء نقول ما يشتهون، فإذا خرجنا من عندهم قلنا خلاف ذاك. قال: كنا نعدّ ذلك نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
... ... ... ... ... حياة الصحابة ج2 ص72،73
... ... ... ... ... للعلامة الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي
أرقام الآيات التي نزلت بالمنافقين
البقرة: 18-20، 76-77، 204-206.
آل عمران: 72، 86-89، 90-91، 118-119، 144-154، 156-158، 167-179.
النساء: 38-39، 60-68، 72-76، 78-82، 88-91، 105-115، 137-147.
المائدة: 41، 51-53، 57-62.
الأعراف: 175-177.
الأنفال: 37، 49، 60.
التوبة: 41-110، 123-127.
الحج: 11-13.
النور: 11-21، 23-25، 47-50، 63-64.
العنكبوت: 10-11.
الأحزاب: 12-20، 24، 48، 57، 58، 60-62، 73.
محمد: 16-30.
الفتح: 6، 11-12، 15-16.
الحديد: 13-15.
المجادلة: 8، 10، 14، 16-17.
الحشر: 11-20.
المنافقون: 1-11.
المدثر:31.
الماعون: 4-7.
التحريم: 9.
المراجع
في ظلال القرآن، سيد قطب.
دراسة في السيرة، د. عماد الدين الخليل.
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، محمد عزة دروزة.
سيرة ابن هشام.
فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي.
هذا الكتاب
النفاق لازمة من لوازم الدعوات: كان في مكة ضمن المسلمين منه ظاهرة ظاهرة الردة لغير المكره وبرز في المدينة بصفات حسيّة معنوية.
نظهر المنافق الخالص بشعب النفاق:
إظهاره خلاف ما يبطن
اعتزازه بالاثم ذو الوجهين (كذلك هذه الأيام)
إكنانه الحقد والضغينة، سفاهة رأيه وفساد عقيدته، تثبيطه الهمم وإشاعة الفشل بين المسلمين،(1/58)
خيانته الأمة العظمى في التجسس لحساب العدو، إفشاؤه أسرار الدولة المسلمة، التآمر مع الأعداء، والرغبة عن حكم الله ورسوله.
المصانعة لأعداء الله.
الإنشغال بالدنيا على الجهاد، عدم الصبر على الفتن والنكبات، التزعزع أمام المصائب.
الإفساد في الأرض، مفارقة الجماعة، إحداث البلبلة في صفوف المسلمين وتربص الدوائر بهم.
التخلف عن الجهاد، القدح في أعراض المسلمين، الرغبة في إتقاء المغرم والتكالب على المغنم، إيذاء المؤمنين بصفات الجبن والأنانية والرياء والكذب والكبر والظلم والغيبة والنميمة والبخل، المذّاء (المحب للاختلاط والتبرج)، الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
تقطيع الأرحام، الكيد للدعوة وقائدها (صلى الله عليه وسلم).
التكاسل عن أداء الصلوات، تعيير المسلمين، لا يذكرون الله إلا قليلا، منع الماعون (الامتناع عن أي معونة) الافتتان بالمعاصي واللذات، اللمز والهمز والبذاء والبيان (الكشف)، الريبة والشك في الدين، الغرور بالأماني، الغدر والخصومة الفاجرة، الإكراه على البغاء، منع الزكاة، يقولون ما لا يفعلون، إتباع الهوى، قلبه منكوس.
تمّ الكتاب والحمد لله رب العالمين
شبكة مجاهد مسلم الإسلامية الدعوية
www.geocities.com/moujahedmouslem
www.islammi.jeeran.com(1/59)