ـ[القرآنُ الكريمُ وقَضايا العقيدةِ]ـ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1431 هـ 2010 م
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى الدين.
أما بعد:
فقد بقي القرآن المكي يركز على بناء العقيدة وتصفيتها من كل الشوائب، ويردُّ على مخالفيها بشتى الأساليب والطرق كما في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 64 - 66].
وكذلك فإن الأساس الذي يجمع شتات الأمة الإسلامية إنه أساس العقيدة الواحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
وقد أمر المؤمنين أن يوالوا لله ويعادوا لله تعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 55، 56].
وحرم عليهم تولي غير المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].
وفي القرآن المدني بقي التركيز على أمور العقيدة وربط جميع التشريعات بها، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126]
وقال تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 44، 45](1/1)
وقد حرَّم قيام أية علاقات بين المسلمين في الداخل أو الخارج على غير العقيدة، قال تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) (سورة المجادلة)
لقد «نشأت» هذه الأمة نشأتها بهذا الدين ونُشِّئت تَنشِئتها بهذا المنهج القويم وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب اللّه الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها .. لا بشيء آخر .. وأمامنا التاريخ!
وقد صدقها اللّه وعده وهو يقول للعرب: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]
فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض وكان لها دورها في التاريخ وكان لها «وجود إنساني» ابتداء، وحضارة عالمية ثانيا .. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة اللّه هذه على الأمة العربية ويجحدوا فضل اللّه في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم .. ومن ثم جعل لهم وجودا وذكرا وتاريخا وحضارة - يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم اللّه إياه وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد .. بل إلى الوجود يوم أخرج اللّه منهم الأمة المسلمة!
نقول .. إن القرآن حين كان «ينشىء» هذه الأمة و «ينشئها» .. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الأمة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها .. وينظم مجتمعها - أو يقيمه ابتداء - على أساس الميلاد الجديد .. وحين كان يخوض بالأمة المسلمة المعركة في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها - ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها - والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان!(1/2)
حين كان القرآن يصنع ذلك كله .. كان يبدأ فيقيم للأمة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام ويربط بهذا التصور - في هذه النقطة بالذات - نظامها الأساسي، الذي يميزُ وجودها من وجود الجاهلية حولها ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى اللّه ..
إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها والطريقة التي تتلقى بها والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وتردُّ إليه ما يجدُّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها .. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].وعندئذ يلتقي «النظام الأساسي» لهذه الأمة بالعقيدة التي تؤمن بها .. في وحدة لا تتجزأ ولا تفترق عناصرها .. (1)
وفي هذا الكتاب ذكر لكثير من قضايا العقيدة التي ذكرها القرآن الكريم سواء في العهد المكي أو المدني، والتي نحن اليوم بأمس الحاجة لها، وذلك بسبب بعد المسلمين عن منهج القرآن الكريم، واتباعهم مناهج أخرى ما زادتهم إلا خبالا.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]
أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدالُّ عليه في الدارين.
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 15 شوال 1431 هـ الموافق ل 24/ 9/2010م
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1025] بتصرف(1/3)
جِنْسِيّة المُسْلِم وَعَقِيدَتُه
جاء الإسلام إلى هذه البشرية بتصور جديد لحقيقة الروابط والوشائج، يوم جاءها بتصور جديد لحقيقة القيم والاعتبارات، ولحقيقة الجهة التي تتلقى منها هذه القيم وهذه الاعتبارات.
جاء الإسلام ليرد الإنسان إلى ربه، وليجعل هذه السلطة هي السلطة الوحيدة التي يتلقى منها موازينه وقيمه، كما تلقى منها وجوده وحياته، والتي يرجع إليها بروابطه ووشائجه، كما أنه من إرادتها صدر وإليها يعود.
جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله فإذا انبتَّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ... [المجادلة:22]
وأن هناك حزباً واحداً لله لا يتعدد، وأحزاباً أخرى كلها للشيطان وللطاغوت: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ... [النساء:76]
وأن هناك طريقاً واحداً يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ... [الأنعام:153]
وأن هناك نظاماً واحداً هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]
وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو هوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ... [الجاثية:18]
وأن هناك حقاً واحداً لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .. [يونس:32]
وأن هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضاً، وما عداها فهو دار(1/4)
حرب، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ... } [الأنفال:72 - 75]
بهذه النصاعة الكاملة، وبهذا الجزم القاطع جاء الإسلام .. جاء ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام "،ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله ...
ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجه وعشيرته، ما لم تنعقد الآصرة الأولى في الخالق، فتتصل من ثم بالرحم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ... [النساء:1]
ولا يمنع هذا من مصاحبة الوالدين بالمعروف مع اختلاف العقيدة ما لم يقفا في الصف المعادي للجبهة المسلمة، فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي يعطينا المثل في جلاء:روى ابن جرير بسنده قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُسَمُّونَ الْمُهَاجِرِينَ: الْجَلَابِيبَ؛ وَقَالَ: قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْجَلَابِيبِ أَمْرِي، قَالَ: هَذَا بَيْنَ أَمَجٍ وَعُسْفَانَ عَلَى الْكَدِيدِ تَنَازَعُوا(1/5)
عَلَى الْمَاءِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى الْمَاءِ؛ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ أَيْضًا: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ، لَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ مَا وَجَدُوا مَا يَأْكُلُونَ، وَيَخْرُجُوا وَيَهْرُبُوا؛ فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أُبَيٍّ؟ قَالَ: " وَمَا ذَاكَ؟ " فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " إِذًا تَرْعَدُ لَهُ آنَفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ ". قَالَ عُمَرُ: فَإِنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ بِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَيَقْتُلَانِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ادْعُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ". فَدَعَاهُ، فَقَالَ: " أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ؟ " قَالَ: وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: " يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ "؛ فَقَالَ: فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي، وَلَئِنْ كَانَ يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لَآتِيَنَّهُمَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا ". فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ، وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَالَ: يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: " اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خِلِّهِ وَمَسْكَنَهُ "؛ فَأَتَوْهُ، فَقَالَ: أَمَا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَمْ ". (1) ..
فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .. على سبيل القصر والتوكيد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ... [الأنفال:72]
__________
(1) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (23/ 405) فيه ضعف(1/6)
وهي ولاية تتجاوز الجيل الواحد إلى الأجيال المتعاقبة، وتربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، برباط الحب والمودة والولاء والتعاطف المكين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10]
ويضرب الله الأمثال للمسلمين بالرهط الكريم من الأنبياء الذين سبقوهم في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ... [هود:45 - 47]
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ... [البقرة:124]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ... [البقرة:126]
ويعتزل إبراهيم أباه وأهله حين يرى منهم الإصرار على الضلال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} ... [مريم:48]
ويحكي الله عن إبراهيم وقومه ما فيه أسوة وقدوة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. [الممتحنة:4]
والفتية أصحاب الكهف يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا لله بدينهم، ويفرُّوا إلى ربهم بعقيدتهم، حين عز عليهم أن يجدوا لها مكاناً في الوطن والأهل والعشيرة.(1/7)
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} .. [الكهف:13 - 16]
وامرأة نوح وامرأة لوط يفرق بينهما وبين زوجيهما حين تفترق العقيدة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. [التحريم:10]
وامرأة فرعون على الضفة الأخرى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ... [التحريم:11]
وهكذا تتعدد الأمثال في جميع الوشائج والروابط .. وشيجة الأبوة في قصة نوح، ووشيجة البنوة والوطن في قصة إبراهيم، ووشيجة الأهل والعشيرة والوطن جميعاً في قصة أصحاب الكهف، ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون ..
وهكذا يمضي الموكب الكريم في تصوره لحقيقة الروابط والوشائج .. حتى تجيء الأمة الوسط، فتجد هذا الرصيد من الأمثال والنماذج والتجارب، فتمضي على النهج الرباني للأمة المؤمنة، وتفترق العشيرة الواحدة، ويفترق البيت الواحد، حين تفترق العقيدة، وحيث تنبت الوشيجة الأولى، ويقول الله سبحانه في صفة المؤمنين قوله الكريم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ... [المجادلة:22]
وحين انبتَّت وشيجة القرابة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي لهب، وابن عمه عمرو بن هشام (أبو جهل) وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر .. حينئذ(1/8)
اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، فإذا هم أهل وإخوة، واتصلت الوشيجة بين المسلمين العرب وإخوانهم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي. وتوارت عصبية القبيلة، وعصبية الجنس، وعصبية الأرض. قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا فِى غَزَاةٍ - قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فِى جَيْشٍ - فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِىُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ فَقَالَ فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ. قَالَ سُفْيَانُ فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ..
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (2). .. فانتهى أمر هذا النتن .. نتن عصبية النسب. وماتت هذه النعرة .. نعرة الجنس، واختفت تلك اللوثة .. لوثة القوم، واستروح البشر أرج الآفاق العليا، بعيداً عن نتن اللحم والدم، ولوثة الطين والأرض .. منذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، إنما عاد وطنه هو " دار الإسلام " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها .. وهي " دار الإسلام " لكل من يدين بالإسلام عقيدة ويرتضي شريعته شريعة، وكذلك لكل من يرتضي شريعة الإسلام نظاماً - ولو لم يكن مسلماً - كأصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار الإسلام " .. والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب " بالقياس إلى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4905) -كسع: ضرب دبره بيده
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5123) حسن(1/9)
المسلم، وإلى الذمي المعاهد كذلك .. يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده، وفيها قرابته من النسب وصهره، وفيها أمواله ومنافعه.
وكذلك حارب محمد - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي مسقط رأسه، وفيها عشيرته وأهله، وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها. فلم تصبح دار إسلام له ولأمته إلا حين دانت للإسلام وطبِّقت فيها شريعته.
هذا هو الإسلام .. هذا هو وحده .. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، ولا ميلاداً في أرض عليها لافتة إسلامية وعنوان إسلامي! ولا وراثة مولد في بيت أبواه مسلمان.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. [النساء:65]
هذا هو وحده الإسلام، وهذه هي وحدها دار الإسلام .. لا الأرض ولا الجنس، ولا النسب وإلا الصهر، ولا القبيلة، ولا العشيرة.لقد أطلق الإسلام البشر من اللصوق بالطين ليتطلعوا إلى السماء، وأطلقهم من قيد الدم .. قيد البهيمة .. ليرتفعوا في عليين.
وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم، وانتصار المسلم الذي يهفوا إليه ويشكر الله عليه ليس غلبة جيش. إنما هو كما قال الله عنه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ... [سورة النصر]
إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات. والجهاد لنصرة دين الله وشريعته لا لأي هدف من الأهداف، والذياد عن " دار الإسلام " بشروطها تلك لا أية دار، والتجرد بعد هذا كله لله، لا لمغنم ولا لسمعة، ولا حمية لأرض أو قوم، أو ذود عن أهل أو ولد، إلا لحمايتهم من الفتنة عن دين الله: فعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ(1/10)
يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَىُّ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» (1). ...
وفي هذا وحده تكون الشهادة لا في أية حرب لأي هدف غير هذا الهدف الواحد .. لله .. وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته، وتصدُّه عن دينه، وتعطل عمل شريعته، فهي " دار حرب " ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته .. وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته، فهي " دار إسلام " ولو لم يكن فيها أهل ولا عشيرة، ولا قوم ولا تجارة.الوطن: دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله .. هذا هو معنى الوطن اللائق " بالإنسان ". والجنسية: عقيدة ومنهاج حياة. وهذه هي الآصرة اللائقة بالآدميين. إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة .. عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " منتنة " بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز.
ولما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار بجنسهم وقومهم ردَّ الله عليهم هذه الدعوى، ورد ميزان القيم إلى الإيمان وحده على توالي الأجيال، وتغاير الأقوام والأجناس والأوطان: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} ... [البقرة:135 - 138]
فأما شعب الله المختار حقاً فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ... [آل عمران:110]
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5029)(1/11)
الأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام. والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع .. الجنسية فيها العقيدة، والوطن فيها هو دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن. هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختلط به أوشاب التصورات الجاهلية الدخيلة، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية: الشرك بالأرض، والشرك بالجنس، والشرك بالقوم، والشرك بالنسب، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة، تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة، ويضع الإيمان ومقتضياته في كفة أخرى، ويدع للناس الخيار: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ... [التوبة:24]
كذلك لا ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام، وفي صفة دار الحرب ودار الإسلام .. فمن هنا يؤتى الكثير منهم في تصوراته ويقينه .. إنه لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام، ولا تقوم فيها شريعته، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه، وليس وراء الإيمان إلا الكفر، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية .. وليس بعد الحق إلا الضلال .. (1)
__________
(1) - معالم في الطريق بتحقيقي [ص 127] فما بعدها(1/12)
الآصرة التي يتجمع عليها الناس آصرة العقيدة في اللّه
لقد عشت أسمع اللّه - سبحانه - يتحدث إليّ بهذا القرآن .. أنا العبد القليل الصغير .. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة .. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال .. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال .. وأعجب .. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود .. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني .. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب .. وأسأل .. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها اللّه، وحركة هذا الكون الذي أبدعه اللّه .. ثم أنظر .. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها اللّه عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟
يا حسرة على العباد!!!
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود .. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه .. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه(1/13)
الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها .. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول .. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه مقدمة كله. إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» .. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد .. إنه إنسان بنفخة من روح اللّه: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» .. وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. ومسخر له كل ما في الأرض: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» ..
ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل اللّه الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في اللّه .. فعقيدة المؤمن هي وطنه.
وهي قومه، وهي أهله .. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج! ..
والمؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف، وموسى وعيسى، ومحمد .. عليهم الصلاة والسلام .. «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» ..(1/14)
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر اللّه، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد اللّه الصادق الأكيد: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم .. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد .. (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 11](1/15)
الحجُّ يجمع المسلمين من خلال العقيدة فقط
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} [البقرة: 198] ..
والمشعر الحرام هو المزدلفة. والقرآن هنا يأمر بذكر اللّه عنده بعد الإفاضة من عرفات. ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية اللّه لهم وهو مظهر الشكر على هذه الهداية. ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم: «وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها .. لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال .. ضلال في التصور، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة، ونسبة بنوة الملائكة إلى اللّه، ونسبة الصهر إلى اللّه مع الجن .. إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة، التي كانت تنشئ بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك: من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة. ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها. ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة .. وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية .. تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ».إلى إزالتها كما سيجيء. وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي. وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية، والعلاقات الزوجية، وعلاقات الأسرة بصفة عامة. وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع .. وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام.
وحين كانوا يسمعون: «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..(1/16)
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام، والذي هداهم اللّه إليه بهذا الدين، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال،وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل .. من هم بغير الإسلام؟
وما هم بغير هذه العقيدة؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم. ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي .. وإن البشرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي .. لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال! وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي، على البشرية كلها في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت، ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله! فهذا هو الذي يذكر اللّه به المسلمين، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى: «وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فردا عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنسا عن جنس .. إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها(1/17)
الصبغة. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها «الحمس» جمع أحمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب. ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يفيضون - أي يرجعون - من حيث يفيض الناس. فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»،فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْتِىَ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفَ بِهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) (1).قفوا معهم حيث وقفوا، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا .. إن الإسلام لا يعرف نسبا، ولا يعرف طبقة.
إن الناس كلهم أمة واحدة. سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت اللّه إخوانا متساوين. فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب .. ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام .. واستغفروا اللّه ..
استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية. واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان. مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال.
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه. أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعا .. وهكذا يردهم إلى استغفار اللّه من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع .... (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [15/ 8] (4520) وصحيح مسلم- المكنز [8/ 60] (3013)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 199](1/18)
الدخول في السلم الحقيقي
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة: 208، 209] ..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم باللّه الذي يدعوهم .. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ..
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم للّه، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع للّه ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة. وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته ..(1/19)
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا، وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه، وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى(1/20)
هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع(1/21)
وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة .. ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه، في طاعة اللّه، لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه، وفي سبيل اللّه، ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.(1/22)
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». (1) ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء .. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان .. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6751)(1/23)
أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا».وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». (1) ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور .. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
.. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور .. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6706)(1/24)
مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب ..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان!
وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.(1/25)
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد».حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس(1/26)
عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار .. والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها، أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان .. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل. والغفلة لا تكون مع الإيمان. (1).
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات. وخلود. وتكريم من اللّه: «جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. «خالِدِينَ فِيها» .. «نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 206](1/27)
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة، وهذا النصيب في كفة، أن ما عند اللّه خير للأبرار. وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان. وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب! إن اللّه - سبحانه - في موضع التربية، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة .. مما يعدهم به في مواضع أخرى، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه.
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا. هو «ما عِنْدَ اللَّهِ».فهذا هو الأصل في هذه الدعوة. وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة اللّه وقهر أعداء اللّه - حتى هذه الرغبة يريد اللّه أن يتجرد منها المؤمنون، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها! هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء .. فقط. وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء .. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء .. ولكن هذا ليس داخلا في البيعة. ليس جزءا من الصفقة.
ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا. وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء .. والابتلاء ..
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة وعلى هذا كان البيع والشراء. ولم يمنح اللّه المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية، إلا حين تجردوا هذا التجرد، ووفوا هذا الوفاء:
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَتِ الْأَنْصَارُ وَعَدَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ , فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمُوا وَأَوْجِزُوا فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا " فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِكَ , فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:" أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَلِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ , وَلِأَصْحَابِي الْمُسَاوَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ " ثُمَّ خَطَبَ خُطْبَةً لَمْ(1/28)
يَخْطُبِ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ خُطْبَةً مِثْلَهَا قَالَ: فَمَا لَنَا قَالَ:" الْجَنَّةُ " قَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ بَايِعُكَ. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فَقَالَ يَعْنِي أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ , إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ , فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَيْهَا إِذَا مَسَّتْكُمْ وَقُتِلَ خِيَارُكُمْ وَمُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ , وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ , فَقَالُوا يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنْهُ يَدَكَ فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا , قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشَرْطِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ." (1)
هكذا .. «الجنة» .. والجنة فقط! لم يقل: النصر والعز والوحدة. والقوة. والتمكين. والقيادة. والمال. والرخاء - مما منحهم اللّه وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة! وهكذا .. ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل .. لقد أخذوها صفقة بين متبايعين أنهي أمرها، وأمضي عقدها.
ولم تعد هناك مساومة حولها! وهكذا ربى اللّه الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها. فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة (2).
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (4/ 232) (2540) صحيح لغيره
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 550](1/29)
الأمة المسلمة تجمعها آصرة المنهج الإلهي
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26 - 28] ..
إن اللّه سبحانه- يتلطف مع عباده فيبين لهم حكمة تشريعاته لهم، ويطلعهم على ما في المنهج الذي يريده لحياتهم من خير ويسر. إنه يكرمهم - سبحانه - وهو يرفعهم إلى هذا الأفق. الأفق الذي يحدثهم فيه، ليبين لهم حكمة ما يشرعه لهم وليقول لهم: إنه يريد: أن يبين لهم ..
«يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» .. يريد اللّه ليكشف لكم عن حكمته ويريد لكم أن تروا هذه الحكمة، وأن تتدبروها، وأن تقبلوا عليها مفتوحي الأعين والعقول والقلوب فهي ليست معميات ولا ألغازا وهي ليست تحكما لا علة له ولا غاية وأنتم أهل لإدراك حكمتها وأهل لبيان هذه الحكمة لكم .. وهو تكريم للإنسان، يدرك مداه من يحسون حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فيدركون مدى هذا التلطف الكريم.
«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. فهذا المنهج هو منهج اللّه الذي سنه للمؤمنين جميعا. وهو منهج ثابت في أصوله، موجد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه .. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد. ومنهج الأمة الواحدة التي يجمعها موكب الإيمان على مدار القرون.
بذلك يجمع القرآن بين المهتدين إلى اللّه في كل زمان ومكان ويكشف عن وحدة منهج اللّه في كل زمان ومكان ويربط بين الجماعة المسلمة والموكب الإيماني الموصول، في الطريق اللاحب الطويل. وهي لفتة تشعر المسلم بحقيقة أصله وأمته ومنهجه وطريقه .. إنه من هذه الأمة المؤمنة باللّه، تجمعها آصرة المنهج الإلهي، على اختلاف الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والألوان وتربطها سنة اللّه المرسومة للمؤمنين في كل جيل، ومن كل قبيل.(1/30)
«وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» .. فهو - سبحانه - يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ليرحمكم ... ليأخذ بيدكم إلى التوبة من الزلل، والتوبة من المعصية. ليمهد لكم الطريق، ويعينكم على السير فيه ..
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ... فعن العلم والحكمة تصدر هذه التشريعات. ومن العلم والحكمة تجيء هذه التوجيهات. العلم بنفوسكم وأحوالكم. والعلم بما يصلح لكم وما يصلحكم. والحكمة في طبيعة المنهج وفي تطبيقاته على السواء ... «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» .. وتكشف الآية الواحدة القصيرة عن حقيقة ما يريده اللّه للناس بمنهجه وطريقته، وحقيقة ما يريده بهم الذين يتبعون الشهوات، ويحيدون عن منهج اللّه - وكل من يحيد عن منهج اللّه إنما يتبع الشهوات - فليس هنالك إلا منهج واحد هو الجد والاستقامة والالتزام،وكل ما عداه إن هو إلا هوى يتبع، وشهوة تطاع، وانحراف وفسوق وضلال. فماذا يريد اللّه بالناس، حين يبين لهم منهجه، ويشرع لهم سنته؟ إنه يريد أن يتوب عليهم. يريد أن يهديهم.
يريد أن يجنبهم المزالق. يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة.
وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات، ويزينون للناس منابع ومذاهب لم يأذن بها اللّه، ولم يشرعها لعباده؟
إنهم يريدون لهم أن يميلوا ميلا عظيما عن المنهج الراشد، والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
وفي هذا الميدان الخاص الذي تواجهه الآيات السابقة: ميدان تنظيم الأسرة وتطهير المجتمع وتحديد الصورة النظيفة الوحيدة، التي يحب اللّه أن يلتقي عليها الرجال والنساء وتحريم ما عداها من الصور، وتبشيعها وتقبيحها في القلوب والعيون .. في هذا الميدان الخاص ما الذي يريده اللّه وما الذي يريده الذين يتبعون الشهوات؟
فأما ما يريده اللّه فقد بينته الآيات السابقة في السورة. وفيها إرادة التنظيم، وإرادة التطهير، وإرادة التيسير، وإرادة الخير بالجماعة المسلمة على كل حال.(1/31)
وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي .. يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، من أي لون كان. السعار المحموم الذي لا يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة. يريدون أن يعود الآدميون قطعانا من البهائم، ينزو فيها الذكران على الإناث بلا ضابط إلا ضابط القوة أو الحيلة أو مطلق الوسيلة! كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر باسم الحرية، وهي - في هذا الوضع - ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة! وهذا هو الميل العظيم الذي يحذر اللّه المؤمنين إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات. وقد كانوا يبذلون جهدهم لرد المجتمع المسلم إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوقوا فيه وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف. وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام الهابطة والأجهزة الموجهة لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع دون الانطلاق البهيمي، الذي لا عاصم منه، إلا منهج اللّه، حين تقره العصبة المؤمنة في الأرض إن شاء اللّه .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 630](1/32)
آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة وحدها
قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 138 - 139] ..
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود الذين كان المنافقون يأوون إليهم ويتخنسون عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
واللّه - جل جلاله - يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر اللّه - عز وجل - بالعزة فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه.
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة للّه وحده فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها .. العبودية للّه .. فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى وأشخاص شتى واعتبار ات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار .. وإنه إما عبودية للّه كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد اللّه كلها استخذاء وذلة وأغلال .. ولمن شاء أن يختار .. وما يستعز المؤمن بغير اللّه وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء اللّه وهو يؤمن باللّه. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء اللّه في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن .. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين .. وإلا فإن اللّه غني عن العالمين! ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين(1/33)
ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية ..
عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَشَرَفًا فَهُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ " (1) ..
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون باللّه منذ فجر التاريخ.
في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال.
وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى .. يسمي ذلك تسامحا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!!
وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان! إن الحمية للّه، ولدين اللّه، ولآيات اللّه. هي آية الإيمان. وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار. وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا. ثم تهمد. ثم تخمد. ثم تموت!
فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس، فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله. فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة. وهو المعبر بين الإيمان والكفر على قنطرة النفاق!
وقد كان بعض المسلمين في المدينة يجلسون في مجالس كبار المنافقين - ذوي النفوذ - وكان ما يزال لهم ذلك النفوذ. وجاء المنهج القرآني ينبه في النفوس تلك الحقيقة .. حقيقة أن غشيان هذه المجالس والسكوت على ما يجري فيها، هو أولى مراحل الهزيمة. وأراد أن يجنبهم إياها .. ولكن الملابسات في ذلك الحين لم تكن تسمح بأن يأمرهم أمرا بمقاطعة مجالس القوم إطلاقا. فبدأ يأمرهم بمقاطعتها حين يسمعون آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها
__________
(1) - شعب الإيمان - (7/ 129) (4769) صحيح(1/34)
. وإلا فهو النفاق .. وهو المصير المفزع، مصير المنافقين والكافرين: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ. إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ... والذي تحيل إليه الآية هنا مما سبق تنزيله في الكتاب، هو قوله تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية - «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» ..
والتهديد الذي يرتجف له كيان المؤمن: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» .. والوعيد الذي لا تبقى بعده بقية من تردد: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» ..
ولكن قصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات اللّه ويستهزأ بها، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين، يشي - كما أسلفنا - بطبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة - إذ ذاك - والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى وبيئات أخرى - كما تشي بطبيعة المنهج في أخذ الأمر رويدا رويدا ومراعاة الرواسب والمشاعر والملابسات والوقائع .. في عالم الواقع .. مع الخطو المطرد الثابت نحو تبديل هذا الواقع!
ثم يأخذ في بيان سمات المنافقين، فيرسم لهم صورة زرية منفرة وهم يلقون المسلمين بوجه ويلقون الكفار بوجه ويمسكون العصا من وسطها، ويتلوون كالديدان والثعابين: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ، قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وهي صورة منفرة. تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر، وما يتربصون بها من الدوائر. وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من اللّه ونعمة فيقولون: حينئذ: «أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟» .. ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم! «وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟» ..(1/35)
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم وخذّلوا عنهم وخلخلوا الصفوف!!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين. في قلوبهم السم. وعلى ألسنتهم الدهان! ولكنهم بعد ضعاف صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين .. وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين.
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه ربه في مسألة المنافقين، هي الإغضاء والإعراض، وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين! فإنه يكلهم هنا إلى حكم اللّه في الآخرة حيث يكشف الستار عنهم، وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور. ويطمئن الذين آمنوا بوعد من اللّه قاطع أن هذا الكيد الخفي الماكر، وهذا التآمر مع الكافرين، لن يغير ميزان الأمور ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» ..
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة. حيث يحكم اللّه بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل.
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط اللّه الكافرين على المسلمين تسليط استئصال. وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين.
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب، لأنه ليس فيه تحديد.
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد .. أما بالنسبة للدنيا، فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا. ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من اللّه قاطع. وحكم من اللّه جامع: أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة، ونظاما للحكم، وتجردا للّه في كل خاطرة وحركة، وعبادة للّه في الصغيرة والكبيرة .. فلن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ..
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها! وأنا أقرر في ثقة بوعد اللّه لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان. إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة(1/36)
في كل حين بنية الجهاد في سبيل اللّه وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون!
ففي «أحد» مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطمع في الغنيمة. وفي «حنين» كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد اللّه فهو حق في كل حين. نعم. إن المحنة قد تكون للابتلاء .. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة، هي استكمال حقيقة الإيمان، ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه اللّه على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه، جاء النصر وتحقق وعد اللّه عن يقين.
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك .. إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح، وكلال العزيمة. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا. فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق .. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد. ولو طال الطريق!
كذلك حين يقرر النص القرآني: أن اللّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا .. فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود. وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا وفي حياتها واقعا وعملا. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها. فالنصر ليس للعنوانات. إنما هو للحقيقة التي وراءها ..
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان. ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .. ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة. ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من اللّه. ووعد اللّه هذا الأكيد، يتفق تماما مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ..(1/37)
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى، التي لا تضعف ولا تفنى .. وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها .. ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية، أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا. غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان .. إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية. ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل. وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها .. ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن «حقيقة» الكفر تغلبه، إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها .. لأن حقيقة أي شيء أقوى من «مظهر» أي شيء. ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان!
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق. وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل. مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون .. «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» .. «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 779](1/38)
العقيدة قائمة على الاقتناع التام
إن قضية العقيدة - كما جاء بها هذا الدين - قضية اقتناع بعد البيان والإدراك وليست قضية إكراه وغصب وإجبار. ولقد جاء هذا الدين يخاطب الإدراك البشري بكل قواه وطاقاته. يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، ويخاطب الوجدان المنفعل، كما يخاطب الفطرة المستكنة. يخاطب الكيان البشري كله، والإدراك البشري بكل جوانبه في غير قهر حتى بالخارقة المادية التي قد تلجىء مشاهدها إلجاء إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يتدبرها وإدراكه لا يتعقلها لأنها فوق الوعي والإدراك.
وإذا كان هذا الدين لا يواجه الحس البشري بالخارقة المادية القاهرة، فهو من باب أولى لا يواجهه بالقوة والإكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد أو مزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع.
وكانت المسيحية - آخر الديانات قبل الإسلام - قد فرضت فرضا بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا! ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا في المسيحية بل إنها ظلت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح! فلما جاء الإسلام عقب ذلك جاء يعلن - في أول ما يعلن - هذا المبدأ العظيم الكبير: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم اللّه للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه .. وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني .. التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب معتسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه اللّه - باختياره لعقيدته - أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها(1/39)
التوجيهية، وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا - وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون - وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب!
إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق «الإنسان» التي يثبت له بها وصف «إنسان».فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء .. ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة .. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة.
والإسلام - وهو أرقى تصور للوجود وللحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء - هو الذي ينادي بأن لا إكراه في الدين وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين ..
فكيف بالمذاهب والنظم الأرضية القاصرة المعتسفة وهي تفرض فرضا بسلطان الدولة ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. نفي الجنس كما يقول النحويون .. أي نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداء. فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع. وليس مجرد نهي عن مزاولته. والنهي في صورة النفي - والنفي للجنس - أعمق إيقاعا وآكد دلالة.
ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير البشري لمسة توقظه، وتشوقه إلى الهدى، وتهديه إلى الطريق وتبين حقيقة الإيمان التي أعلن أنها أصبحت واضحة وهو يقول: «قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» ..
فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخاه ويحرص عليه. والكفر هو الغي الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه ويتقي أن يوصم به.
والأمر كذلك فعلا. فما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان، وما تمنحه للإدراك البشري من تصور ناصع واضح،،وما تمنحه للقلب البشري من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشرية من اهتمامات رفيعة ومشاعر نظيفة، وما تحققه في المجتمع الإنساني من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة وترقية الحياة .. ما يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو حتى يجد فيها(1/40)
الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه، يترك الرشد إلى الغي، ويدع الهدى إلى الضلال، ويؤثر التخبط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام والرفعة والاستعلاء!
ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحا وتحديدا وبيانا: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها» .. إن الكفر ينبغي أن يوجه إلى ما يستحق الكفر، وهو «الطاغوت».وإن الإيمان يجب أن يتجه إلى من يجدر الإيمان به وهو «اللَّهُ».
والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها اللّه للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في اللّه، ومن الشريعة التي يسنها اللّه، ومنه كل منهج غير مستمد من اللّه، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليد لا يستمد من اللّه. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره ويؤمن باللّه وحده ويستمد من اللّه وحده فقد نجا .. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وهنا نجدنا أمام صورة حسية لحقيقة شعورية، ولحقيقة معنوية .. إن الإيمان باللّه عروة وثيقة لا تنفصم أبدا .. إنها متينة لا تنقطع .. ولا يضل الممسك بها طريق النجاة .. إنها موصولة بمالك الهلاك والنجاة .. والإيمان في حقيقته اهتداء إلى الحقيقة الأولى التي تقوم بها سائر الحقائق في هذا الوجود .. حقيقة اللّه .. واهتداء إلى حقيقة الناموس الذي سنه اللّه لهذا الوجود، وقام به هذا الوجود. والذي يمسك بعروته يمضي على هدى إلى ربه فلا يرتطم ولا يتخلف ولا تتفرق به السبل ولا يذهب به الشرود والضلال.
«وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب. فالمؤمن الموصول به لا يبخس ولا يظلم ولا يخيب.
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال .. يصور كيف يأخذ اللّه - ولي الذين آمنوا - بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهابا من هناك. بدلا من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالا، ولا يلمس حسا، ولا يستجيش وجدانا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.(1/41)
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا ذهنيا أيا كان. لنقل مثلا: اللّه ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران .. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع! (1).
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» ..
إن الإيمان نور .. نور واحد في طبيعته وحقيقته .. وإن الكفر ظلمات .. ظلمات متعددة متنوعة. ولكنها كلها ظلمات.
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور، والتعبير عن الكفر بالظلمة.
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره. تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا .. نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش، بينة بغير لبس، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه .. نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ويمضي في طريقه إلى اللّه هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات، ولا يخبط هنا وهناك. فالطريق في فطرته مكشوف معروف.
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد. فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة .. ظلمة الهوى والشهوة.
وظلمة الشرود والتيه. وظلمة الكبر والطغيان. وظلمة الضعف والذلة. وظلمة الرياء والنفاق. وظلمة الطمع والسعر. وظلمة الشك والقلق ... وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق اللّه، والتلقي من غير اللّه، والاحتكام لغير منهج اللّه
__________
(1) - يراجع بتوسع فصل: «طريقة القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» .. «دار الشروق».(1/42)
وما يترك الإنسان نور اللّه الواحد الذي لا يتعدد. نور الحق الواحد الذي لا يتلبس. حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف .. وكلها ظلمات .. !
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات: «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. وإذ لم يهتدوا بالنور، فليخلدوا إذن في النار!
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط .. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ (1)
__________
(1) -في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 537](1/43)
محاولة اليهود إفساد عقيدة المسلمين
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى(1/44)
حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)} [سورة البقرة]
يمضي هذا الدرس في كشف دسائس اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين وتحذير الجماعة المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم، وما تكنه نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر، وما يبيتون لهم من الكيد والضر ونهى الجماعة المسلمة عن التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في قول أو فعل ويكشف للمسلمين عن الأسباب الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال اليهود وأفعالهم، وكيدهم ودسهم، وألا عيبهم وفتنهم، التي يطلقونها في الصف الإسلامي.
ويبدو أن اليهود كانوا يتخذون من نسخ بعض الأوامر والتكاليف، وتغييرها وفق مقتضيات النشأة الإسلامية الجديدة، والظروف والملابسات التي تحيط بالجماعة المسلمة .. يبدو أنهم كانوا يتخذون من هذا ذريعة للتشكيك في مصدر هذه الأوامر والتكاليف ويقولون للمسلمين: لو كانت من عند اللّه ما نسخت ولا صدر أمر جديد يلغي أو يعدل أمرا سابقا ..
واشتدت هذه الحملة عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اتجه بالصلاة - عقب الهجرة - إلى بيت المقدس - قبلة اليهود ومصلاهم - فاتخذ اليهود من هذا التوجه حجة على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة مما جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرغب ولا يصرح في التحول عن بيت المقدس إلى الكعبة، بيت اللّه المحرم. وظلت هذه الرغبة تعتمل في نفسه حتى استجاب له ربه فوجهه إلى القبلة التي يرضاها - كما سيجيء في سياق السورة - ونظرا لما يحمله هذا التحول من دحض لحجة بني إسرائيل فقد عز عليهم أن يفقدوا مثل هذه الحجة، فشنوها حملة دعاية ماكرة في وسط المسلمين، بالتشكيك في مصدر الأوامر التي يكلفهم بها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -(1/45)
وفي صحة تلقيه عن الوحي .. أي إنهم وجهوا المعول إلى أساس العقيدة في نفوس المسلمين! ثم قالوا لهم: إن كان التوجه إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم وعبادتكم طوال هذه الفترة. وإن كان صحيحا ففيم التحول عنه؟ أي إنهم وجهوا المعول إلى أساس الثقة في نفوس المسلمين برصيدهم من ثواب اللّه، وقبل كل شيء في حكمة القيادة النبوية! ويبدو أن هذه الحملة الخبيثة الماكرة آتت ثمرتها الكريهة في بعض نفوس المسلمين. فأخذوا يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قلق وزعزعة ويطلبون البراهين والأدلة، الأمر الذي لا يتفق مع الطمأنينة المطلقة إلى القيادة، والثقة المطلقة بمصدر العقيدة. فنزل القرآن يبين لهم أن نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة اللّه الذي يختار الأحسن لعباده ويعلم ما يصلح لهم في كل موقف. وينبههم في الوقت ذاته إلى أن هدف اليهود هو ردهم كفارا بعد إيمانهم حسدا من عند أنفسهم على اختيار اللّه لهم، واختصاصهم برحمته وفضله، بتنزيل الكتاب الأخير عليهم، وانتدابهم لهذا الأمر العظيم. ويكشف لهم ما وراء أضاليل اليهود من غرض دفين! ويفند دعواهم الكاذبة في أن الجنة من حقهم وحدهم. ويقص عليهم التهم المتبادلة بين فريقي أهل الكتاب إذ يقول اليهود: ليست النصارى على شيء، وتقول النصارى ليست اليهود على شيء وكذلك يقول المشركون عن الجميع! ثم يفظع نيتهم التي يخفونها من وراء قصة القبلة وهي منع الاتجاه إلى الكعبة بيت اللّه ومسجده الأول، ويعده منعا لمساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعيا في خرابها.
ويمضي السياق في هذا الدرس على هذا النحو، حتى ينتهي إلى أن يضع المسلمين وجها لوجه أمام الهدف الحقيقي لأهل الكتاب من اليهود والنصارى .. إنه تحويل المسلمين من دينهم إلى دين أهل الكتاب ولن يرضوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يتبع ملتهم، وإلا فهي الحرب والكيد والدس إلى النهاية! وهذه هي حقيقة المعركة التي تكمن وراء الأباطيل والأضاليل، وتتخفى خلف الحجج والأسباب المقنعة!!! (1)
__________
(1) -في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 300](1/46)
أصحاب عقيدة التوحيد هم الذين يرثون النبي إبراهيم عليه السلام
إن أهل الكتاب ليرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق - عليهما السلام - ويعتزون بنسبتهم إليه، وبوعد اللّه له ولذريته بالنمو والبركة، وعهده معه ومع ذريته من بعده. ومن ثم يحتكرون لأنفسهم الهدى والقوامة على الدين، كما يحتكرون لأنفسهم الجنة أيا كان ما يعملون! وإن قريشا لترجع بأصولها كذلك إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل - عليهما السلام - وتعتز بنسبتها إليه وتستمد منها القوامة على البيت، وعمارة المسجد الحرام وتستمد كذلك سلطانها الديني على العرب، وفضلها وشرفها ومكانتها. وقد وصل السياق فيما مضى إلى الحديث عن دعاوى اليهود والنصارى العريضة في الجنة: «وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» .. وعن محاولتهم أن يجعلوا المسلمين يهودا أو نصارى .. ليهتدوا ..
«وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا» .. كذلك وصل إلى الحديث عن الذين يمنعون مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها. وقلنا هناك: إنها قد تكون خاصة بموقف اليهود من قضية تحويل القبلة، وبالدعاية المسمومة التي أثاروها في الصف الإسلامي بهذه المناسبة.
فالآن يجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره .. في جوه المناسب، لتقرير الحقائق الخالصة في ادعاءات اليهود والنصارى والمشركين جميعا حول هذه النسب وهذه الصلات. ولتقرير قضية القبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون .. كذلك تجيء المناسبة لتقرير حقيقة دين إبراهيم - وهي التوحيد الخالص - وبعد ما بينها وبين العقائد المشوهة المنحرفة التي عليها أهل الكتاب والمشركون سواء وقرب ما بين عقيدة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب - وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه - وعقيدة الجماعة المسلمة بآخر دين. ولتقرير وحدة دين اللّه، واطراده على أيدي رسله جميعا، ونفي فكرة احتكاره في أيدي أمة أو جنس. وبيان أن العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية العمياء. وأن وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس(1/47)
ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة. فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أي جيل ومن أي قبيل فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء العصب! فالدين دين اللّه. وليس بين اللّه وبين أحد من عباده نسب ولا صهر!!!
هذه الحقائق التي تمثل شطرا من الخطوط الأساسية في التصور الإسلامي، يجلوها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع .. يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم - عليه السلام - منذ أن ابتلاه ربه واختبره فاستحق اختياره واصطفاءه، وتنصيبه للناس إماما .. إلى أن نشأت الأمة المسلمة المؤمنة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - استجابة من اللّه لدعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام فاستحقت وراثة هذه الأمانة دون ذرية إبراهيم جميعا، بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة. سبب الإيمان بالرسالة، وحسن القيام عليها، والاستقامة على تصورها الصحيح.
وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق:
أن الإسلام - بمعنى إسلام الوجه للّه وحده - كان هو الرسالة الأولى، وكان هو الرسالة الأخيرة .. هكذا اعتقد إبراهيم، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، حتى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى .. ثم آلت أخيرا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين ..
فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها، ووريث عهودها وبشاراتها. ومن فسق عنها، ورغب بنفسه عن ملة إبراهيم، فقد فسق عن عهد اللّه، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته.
عندئذ تسقط كل دعاوى اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم، لمجرد أنهم أبناء إبراهيم وحفدته، وهم ورثته وخلفاؤه! لقد سقطت عنهم الوراثة منذ ما انحرفوا عن هذه العقيدة .. وعندئذ تسقط كذلك كل دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته، لأنهم قد فقدوا حقهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده(1/48)
بانحرافهم عن عقيدته .. ثم تسقط كل دعاوى اليهود فيما يختص بالقبلة التي ينبغي أن يتجه إليها المسلمون. فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم
كل ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب حافل بالإشارات الموحية، والوقفات العميقة الدلالة، والإيضاح القوي التأثير. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 316](1/49)
العقيدة أساس بناء الأسرة في الإسلام
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] ..
إنه الخطاب "للناس" .. بصفتهم هذه , لردهم جميعا إلى ربهم الذي خلقهم .. والذي خلقهم (من نفس واحدة) .. (وخلق منها زوجها. وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) ..
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جدا , وعميقة جدا , وثقيلة جدا .. ولو القى "الناس" أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم وبنقلهم من الجاهلية - أو من الجاهليات المختلفة - إلى الإيمان والرشد والهدى , وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة "بالناس" و "بالنفس" واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله ..
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالا فسيحا لتأملات شتى:
1 - إنها أبتداء تذكر "الناس" بمصدرهم الذي صدروا عنه ; وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض .. هذه الحقيقة التي ينساها "الناس" فينسون كل شيء! ولا يستقيم لهم بعدها أمر!
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه .. فمن الذي جاء بهم ? أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم. فقد كانوا - قبل أن يجيئوا - عدما لا إرادة له .. لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء. فإرادة أخرى - إذن - غير إرادتهم , هي التي جاءت بهم إلى هنا .. إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي قررت أن تخلقهم. إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي رسمت لهم الطريق , وهي التي اختارت لهم خط الحياة .. إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم , ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم , ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا(1/50)
يشعرون! وعلى غير استعداد , إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد.
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق ..
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم , وخطت لهم طريق الحياة فيه , ومنحتهم القدرة على التعامل معه , لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء , وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء , وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير.وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم , وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم. وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده اللّه رب العالمين.
2 - كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» ..
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخرة، ففرقت بين أبناء «النفس» الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة. وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة، وصلة الربوبية وحقها في التقوى.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا باستبعاد الصراع العنصري، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة في الجاهلية الحديثة، التي تفرق بين الألوان، وتفرق بين العناصر، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة.
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي، الذي تسيل فيه الدماء أنهارا، في الدول الشيوعية، والذي ما تزال الجاهلية(1/51)
الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية، ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع!
3 - والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة «خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» .. كانت كفيلة - لو أدركتها البشرية - أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة، التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشر والبلاء .. وهي من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها اللّه لتكون لها زوجا، وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء، فلا فارق في الأصل والفطرة، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة ..
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلا. جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها. فترة من الزمان. تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له. فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى، وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان.
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد ..
4 - كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة. فقد شاء اللّه أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة. فخلق ابتداء نفسا واحدة، وخلق منها زوجها. فكانت أسرة من زوجين. «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» .. ولو شاء اللّه لخلق - في أول النشأة - رجالا كثيرا ونساء، وزوجهم، فكانوا أسرا شتى من أول الطريق. لا رحم بينها من مبدأ الأمر. ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد.
وهي الوشيجة الأولى. ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها، أن يضاعف الوشائج. فيبدأ بها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى - هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى بيت رجالا كثيرا ونساء، كلهم يرجعون ابتداء إلى(1/52)
وشيجة الربوبية، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة. التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني. بعد قيامه على أساس العقيدة.
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء - وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى.
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي .. وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية - كل جاهلية - ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة (1).
5 - وأخيرا فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعدادتهم - بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة - على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال .. التنوع في الأشكال والسمات والملامح. والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر. والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف .. إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبرة عن علم وحكمة، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائما تتجدد، والتي لا يقدر عليها إلا اللّه، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير اللّه. فالإرادة التي لا حد لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد! والتأمل في «النَّاسُ» على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادا من الأنس والمتاع، فوق زاد الإيمان والتقوى ..
__________
(1) - يراجع بتوسع فصل «سلام البيت» في كتاب «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق».(1/53)
وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع! وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر، يردّ «النَّاسُ» إلى تقوى اللّه، الذي يسأل بعضهم بعضا به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» ..
واتقوا اللّه الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضا الوفاء باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه .. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات.
.. وتقوى اللّه مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن. أما تقوى الأرحام، فهي تعبير عجيب. يلقي ظلاله الشعورية في النفس، ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال! اتقوا الأرحام. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها. والإحساس بحقها. وتوقي هضمها وظلمها، والتحرج من خدشها ومسها .. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها .. أرهفوا حساسيتكم بها، وتوقيركم لها، وحنينكم إلى نداها وظلها. ثم رقابة اللّه يختم بها الآية الموحية: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» ..
وما أهولها رقابة! واللّه هو الرقيب! وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب (1).
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 892](1/54)
المؤمن لا يخاف إلا من الله تعالى دون سواه
قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} [آل عمران: 176 - 179] ..
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة .. فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب، أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل. ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة، ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة! هناك دائما الشبهة الكاذبة، أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولما ذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل، ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة، وفيها فتنة للقلوب وهزة؟!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب: «أَنَّى هذا؟!» ..
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير، والبيان الأخير. ويريح اللّه القلوب المتعبة، ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله: أمس واليوم وغدا وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:(1/55)
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك. وبقاءه منتفشا فترة من الزمان، ليس معناه أن اللّه تاركه، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب، أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا ..
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان، ليس معناه أن اللّه مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه ..
كلا. إنما هي حكمة وتدبير .. هنا وهناك .. يملى للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق! .. ويبتلى الحق، ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت .. فهو الكسب للحق والخسار للباطل، مضاعفا هذا وذاك! هنا وهناك! «وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً، يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
إنه يواسي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره وهو يرى المغالين في الكفر، يسارعون فيه، ويمضون بعنف واندفاع وسرعة، كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه! وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية. فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف، أو من يهتف له من الأمام، إلى جائزة تنال! وكان الحزن يساور قلب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حسرة على هؤلاء العباد الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار، وهو لا يملك لهم ردا، وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر، من الشر والأذى يصيب المسلمين، ويصيب دعوة اللّه، وسيرها بين الجماهير، التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية .. فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين اللّه أفواجا .. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم. فيطمئن اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويواسي قلبه، ويمسح عنه الحزن الذي يساوره.
«وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» ..(1/56)
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا اللّه شيئا. والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان. إنما يريد اللّه سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو. ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعاتق المسلمين جملة .. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون اللّه، وهم أضعف من أن يضروا اللّه شيئا .. وهم إذن لن يضروا دعوته. ولن يضروا حملة هذه الدعوة. مهما سارعوا في الكفر، ومهما أصابوا أولياء اللّه بالأذى.
إذن لماذا يتركهم اللّه يذهبون ناجين، وينتفشون غالبين، وهم أعداؤه المباشرون؟
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى! «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ» ..
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله وأن يحملوا وزرهم كله، وأن يستحقوا عذابهم كله، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق! «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ..
ولما ذا يريد اللّه بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان.
«إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ..
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون، وفي أعماق الفطرة. وأماراته قائمة في «تصميم» هذا الوجود العجيب، وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في «تصميم» الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة .. ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة، ومن جمال التناسق، ومن صلاحية للحياة والناس ..
أجل كان الإيمان مبذولا لهم، فباعوه واشتروا به الكفر، على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم اللّه يسارعون في الكفر، ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا اللّه شيئا. فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل اللّه بالضلالة سلطانا ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء اللّه ودعوته، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة، مهما(1/57)
انتفشت، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين! «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام!
«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء اللّه وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية يحسبون أن اللّه - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن اللّه - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه اللّه ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم .. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!!
وهذا كله وهم باطل، وظن باللّه غير الحق، والأمر ليس كذلك. وها هو ذا اللّه سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن .. إنه إذا كان اللّه لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه .. إذا كان اللّه يأخذهم بهذا الابتلاء،فإنما هي الفتنة وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ .. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً»! ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم اللّه من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم .. ولكنه لا يريد بهم خيرا، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم اللّه من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء! «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.(1/58)
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من اللّه نعمة لا تصيب إلا من يريد له اللّه به الخير. فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده اللّه لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل اللّه على أوليائه المؤمنين.
وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم.
ولقد شاءت حكمة اللّه وبره بالمؤمنين، أن يميزهم من المنافقين، الذين اندسوا في الصفوف، تحت تأثير ملابسات شتى، ليست من حب الإسلام في شيء. فابتلاهم اللّه هذا الابتلاء - في أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم، ليميز الخبيث من الطيب، عن هذا الطريق: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ..
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن اللّه - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام. فقد أخرج اللّه الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعا فريدا، ونظاما جديدا .. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل .. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره اللّه لها في هذه الأرض وتسامي المكانة التي أعدها اللّه لها في الآخرة ..
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر .. ومن ثم كان شأن اللّه - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن اللّه - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على(1/59)
الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه اللّه لهم ليس «مصمما» على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض.
وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض! من أجل ذلك لم يكن من شأن اللّه سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.
إذن كيف يميز اللّه الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
«وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» .. وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد .. عن طريق هذا كله يتم شأن اللّه، وتتحقق سنته، ويميز اللّه الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس .. ويكون من قدر اللّه ما يكون ..
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة اللّه، وهي تتحقق في الحياة وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة ..
وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل اللّه العظيم، الذي ينتظر المؤمنين.
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 832](1/60)
طبيعة القرآن المكي وبدؤه بالعقيدة
لقد كان القرآن المكيُّ يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا الدين الجديد، «قضية العقيدة» ممثلة في قاعدتها الرئيسية .. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة.
لقد كان يخاطب بهذه القضية «الإنسان».الإنسان بما أنه إنسان .. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان. كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان. في ذلك الزمان وفي كل زمان! إنها قضية «الإنسان» التي لا تتغير، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء .. وهي قضية لا تتغير، لأنها قضية الوجود والإنسان!
لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله .. كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء وكيف جاء ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟ .. وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ .. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضا، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد.
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود «الإنسان».وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده، على توالي الأزمان .. وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى. القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات ..
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم اللّه أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان، وأنها(1/61)
استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان، التي قدر اللّه لها أن يقوم هذا الدين عليها وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين اللّه، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما .. لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: «إله» ومعنى: «لا إله إلا الله» .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا .. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى اللّه .. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن: «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه .. ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة: «لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم .. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام(1/62)
. فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس .. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا .. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة ..
ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه .. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللّه: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن اللّه - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه .. إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق .. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي .. إلى يد طاغوت عربي .. فالطاغوت كله طاغوت! ..(1/63)
إن الأرض للّه، ويجب أن تخلص للّه. ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية: «لا إله إلا اللّه» .. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.
إلى طاغوت عربي .. فالطاغوت كله طاغوت!
إن الناس عبيد للّه وحده، ولا يكونون عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية: «لا إله إلا اللّه» .. «لا إله إلا اللّه» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا للّه، ولا شريعة إلا من اللّه، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله للّه .. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللّه. وهذا هو الطريق ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة .. قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع .. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا!
وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة، لا نقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه: «لا إله إلا اللّه» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها .. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق .. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله للّه ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به اللّه من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع(1/64)
ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللّه ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: «لا إله إلا الله» ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - - والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» (1).
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته .. كالذي يقوله طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد!
... إلخ وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع .. فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِى إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ.وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا.فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالِىَ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا
__________
(1) - وقد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه، فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا، كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ:تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ. أخرجه الجماعة المسند الجامع [2/ 440] (1039و1040)(1/65)
تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ.تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِىَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. (أخرجه البخاري في كتاب النكاح) (1).
وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين ..
وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير ..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها .. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا اللّه المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق.
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة .. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده .. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء .. لما تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله» .. صنع اللّه بها وبأهلها
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - 20/ 7 (5127) -التاط: التصق به(1/66)
كل شيء مما يقترحه المقترحون .. تطهرت الأرض من الرومان والفرس .. لا ليتقرر فيها سلطان العرب .. ولكن ليتقرر فيها سلطان اللّه ..
لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل اللّه، ويزن بميزان اللّه، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم اللّه وحده؟ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها: «لا إله إلا اللّه»! وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها اللّه - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى اللّه وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات ..
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ..
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا، لا يدخل فيه الغلب والسلطان .. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم .. وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا .. وعدا واحدا هو الجنة .. هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان، في كل زمان وفي كل مكان، وهو: «لا إله إلا اللّه»! فلما أن ابتلاهم اللّه فصبروا ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي(1/67)
السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال .. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها، وعلى عدل اللّه يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من اللّه، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها .. راية لا إله إلا اللّه .. ولا ترفع معها سواها .. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية .. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: «لا إله إلا اللّه» ..
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: «لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق ..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها .. فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية ..
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا .. فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة .. كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير .. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء .. لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء .. فكذلك هذا الدين .. إن نظامه يتناول الحياة كلها ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار(1/68)
الآخرة ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ولا في المعاملات الظاهرة المادية، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا .. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ..
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها .. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء، والضارب من جذورها في الأعماق ..
ومتى استقرت عقيدة: «لا إله إلا اللّه» في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه: «لا إله إلا اللّه» وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة .. واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان .. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطانها، ودعايتها وإعلامها .. فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات! (1)
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم .. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد .. جاء ليحكم الحياة في واقعها ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره .. يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه
__________
(1) - يراجع كيف حرم اللّه الخمر في الجزء الخامس من هذه الظلال ص 663 - 667 وكيف عجزت أمريكا عن ذلك في كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.(1/69)
ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية اللّه وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا اللّه، وأن الحاكمية ليست إلا للّه ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون اللّه ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا، تكون له حياة واقعية، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع .. لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة اللّه .. ومن ثم لم ينزل اللّه في هذه الفترة تنظيمات وشرائع وإنما نزل لهم عقيدة، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ..
ولم يشأ اللّه أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا .. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة اللّه وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له اللّه ..(1/70)
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض، تواجه مستقبلا غير موجود ..
واللّه يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا للّه، ولا يتلقوا الشرائع إلا من اللّه. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا اللّه بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم .. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ..
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة .. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة ..
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس وألا تحكم في حياتها كلها إلا اللّه.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد ..(1/71)
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني القويم، المؤسس على حكمة العليم الحكيم، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة .. نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين! وهذا وهم تنشئه العجلة! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أولها تحت راية قومية، أو اجتماعية، أو أخلاقية، تيسيرا للطريق! إن النفوس يجب أن تخلص أولا للّه، وتعلن عبوديتها له، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره ..
من ناحية المبدأ .. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه! إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية للّه، والتحرر من سلطان سواه .. لا من أن النظام المعروض عليها .. في ذاته .. خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام اللّه خير في ذاته، لأنه من شرع اللّه. ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع اللّه .. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة .. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع اللّه وحده ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام. وليس للإسلام مدلول سواه. فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان!
وبعد فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما .. إنه لم يعرضها في صورة «نظرية»! ولم يعرضها في صورة «لاهوت» ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي ب «علم التوحيد» أو «علم الكلام»! كلا .. لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة «الإنسان» بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها .. والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل ..(1/72)
هذا بصفة عامة. وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية .. كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة .. في نفوس آدمية حاضرة واقعة .. ومن ثم لم يكن شكل «النظرية» هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر. إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية .. ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد، هو الشكل المناسب كذلك .. فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع .. وكذلك لم يكن «اللاهوت» هو الشكل المناسب.
فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة، إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية! كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها ..
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة، لا في صورة نظرية، ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي .. ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها. وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها .. كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي، وترجمة حية له .. وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك ..
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه .. ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة .. لم تكن مرحلة تلقي «النظرية» ودراستها!(1/73)
ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا .. وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى ..
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت .. وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة.
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام - أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية .. المعرفية الثقافية .. بل خطر أي خطر كذلك ..
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى .. كلا!
فلو أراد اللّه لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا «النظرية الإسلامية»! ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا آخر. كان يريد منهجا معينا متفردا. كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد. كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة .. وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة .. فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة .. حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات(1/74)
البشرية! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود، كما أخرجها اللّه أول مرة ..
يجب أن ندرك خطأ المحاولة، وخطرها معا، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك، إلى «نظرية» للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه «النظريات» البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية!
إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية، وفي تنظيم واقعي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي. وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله «النظرية» وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها. ولكنها لا تقتصر عليها.
إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان، تصور شامل كامل. ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي. وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي. لأن هذا يخالف طبيعته وغايته. ويجب أن يتمثل في أناسي، وفي تنظيم حي، وفي حركة واقعية .. وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ولا ينفصل في صورة نظرية بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية ..
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي، ولا يتمثل من خلاله، هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين، وغايته، وطريقة تركيبه الذاتي.
واللّه سبحانه يقول: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ..
فالفرق مقصود. والمكث مقصود كذلك .. ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة «منظمة حية» لا في صورة «نظرية معرفية»!(1/75)
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا، أنه كما أن هذا الدين دين رباني، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك، متواف مع طبيعته. وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل.
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي - فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي ..
جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة .. ثم لينشئ منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشئ بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا. ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي، فكلها حزمة واحدة.
فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى. إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به.
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب. ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم، وتناولهم للتصور وللواقع. ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة.
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك. منهج أراد اللّه أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي.
ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير. ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج اللّه في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد! والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا. والهزيمة تكون قاتلة!
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض والتي تضغط على(1/76)
عقولنا وتترسب في ثقافتنا .. فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا.
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا، والخسارة تكون قاتلة ..
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ولا ينفصل عنه كذلك .. ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشئ «الإسلام» في الأرض في صورة حركة واقعية، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية. وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة!
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي.
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني، وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس، قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري.
وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال - فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام.
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي، كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من(1/77)
بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم، وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته، التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة، ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة، وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية ..
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون! ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة. فهذا من أسرار قوته، وهذا هو مصدر قوتهم كذلك.
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ولا انفصام بينهما .. وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية. والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني
فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية. لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس! هذه هي كلمتي الأخيرة .. وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه، قد بلغت وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم، ويثقوا به، ويطمئنوا إليه ويعلموا أن ما عندهم خير، وأنهم هم الأعلون .. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» .. صدق اللّه العظيم .. ونمضي بعد ذلك لمواجهة السورة. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1408](1/78)
مجالات عرض الألوهية والعبودية والحاكمية في سورة الأنعام
هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية .. قضية الألوهية والعبودية .. تعالجها بتعريف العباد برب العباد .. من هو؟ ما مصدر هذا الوجود؟ ماذا وراءه من أسرار؟ من هم العباد؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود؟
من أنشأهم؟ من يطعمهم؟ من يكفلهم؟ من يدبر أمرهم؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم؟ من يقلب ليلهم ونهارهم؟ من يبدئهم ثم يعيدهم؟ لأي شيء خلقهم؟ ولأي أجل أجلهم؟ ولأي مصير يسلمهم؟ .. هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك .. من بثها في هذا الموات؟ .. هذا الماء الهاطل. هذا البرعم النابغ. هذا الحب المتراكب. هذا النجم الثاقب. هذا الصبح البازغ. هذا الليل السادل. هذا الفلك الدوار .. هذا كله من وراءه؟ وماذا وراءه من أسرار، ومن أخبار؟ .. هذه الأمم، وهذه القرون، التي تذهب وتجيء، وتهلك وتستخلف ..
من ذا يستخلفها؟ ومن ذا يهلكها؟ لماذا تستخلف؟ ولما ذا يدركها البوار؟ وماذا بعد الاستخلاف والابتلاء والوفاة من مصير وحساب وجزاء؟؟؟
هكذا تطوّف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق، وفي هذه الأغوار والأعماق .. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي .. الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة - وعلى منهج القرآن كله .. إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار .. إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم، وتعبيد سعيهم وحركتهم، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد ..
سلطان اللّه الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء ..
ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد .. من أولها إلى آخرها .. فاللّه هو الخالق. واللّه هو الرازق. واللّه هو المالك. واللّه هو صاحب القدرة والقهر والسلطان. واللّه هو العليم بالغيوب والأسرار.(1/79)
واللّه هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار .. وكذلك يجب أن يكون اللّه هو الحاكم في حياة العباد وألا يكون لغيره نهي ولا أمر، ولا شرع ولا حكم، ولا تحليل ولا تحريم. فهذا كله من خصائص الألوهية، ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون اللّه، لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يضر ولا ينفع، ولا يمنح ولا يمنع، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة ..
وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية، من كل درب ومن كل باب! والقضية الكبيرة التي تعالجها السورة هي قضية الألوهية والعبودية في السماوات والأرض. في محيطها الواسع، وفي مجالها الشامل .. ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك، المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة، هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحليل والتحريم في الذبائح والمطاعم، ومن حق تقرير بعض الشعائر في النذور من الذبائح والثمار والأولاد .. وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» .. (118 - 121).
«وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِراءً عَلَيْهِ - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ(1/80)
الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ - افْتِراءً عَلَى اللَّهِ - قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. (136 - 140) هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة ..
قضية التشريع .. ومن ورائها القضية الكبرى .. قضية الألوهية والعبودية التي تعالجها السورة كلها، ويعالجها القرآن المكي كله، كما يعالجها القرآن المدني أيضا كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.
والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور - وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق التشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها - قضية الألوهية والعبودية - وجعلها مسألة إيمان أو كفر، ومسألة إسلام أو جاهلية .. هذا الحشد - على النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين.
وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية اللّه المباشرة، الممثلة في شريعته. وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية اللّه المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.
كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين .. وهو حاكمية اللّه المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك.(1/81)
إن سياق السورة يعقب على تلك الشعائر الجاهلية في شأن الأنعام والثمار، والنذور منها ومن الأولاد تعقيبات منوعة. بعضها مباشر، لتصوير مدى السخف والتناقض في هذه الشعائر، وبعضها للربط بين مزاولة البشر لحق التحريم والتحليل وقضية العقيدة الكبرى، ولبيان أن اتباع أمر اللّه فيها هو صراطه المستقيم، الذي يخرج من لا يتبعه عن هذا الدين .. على النحو التالي بعد ذكر تلك الشعائر في الآيات السابقة: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ، وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ. كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ. قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. قُلْ: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ - فَإِنَّهُ رِجْسٌ - أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما - إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ - ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ. فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء.كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلا تَقْرَبُوا(1/82)
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ - إِلَّا بِالْحَقِّ - ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ - إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ - حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ - لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها - وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا - وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى - وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» .. (141 - 153)
وكذلك نرى أن هذه المسألة الجزئية الخاصة بالتحريم والتحليل في الأنعام والنذور في الأنعام والثمار، وفي الأولاد - على ما كان متبعا في الجاهلية - يربطها السياق بتلك القضايا الكبيرة: بالهدى والضلال. واتباع منهج اللّه أو اتباع خطوات الشيطان، وبرحمة اللّه أو بأسه وبالشهادة بوحدانية اللّه أو عدل غيرها به. وباتباع صراطه مستقيما أو التفرق عنه. ويستخدم نفس التعبيرات التي استخدمها وهو بصدد القضية الكبرى في محيطها الشامل ..
كما نراه يحشد لها من المؤثرات والموحيات - في هذا الموضع وحده - مشهد الخلق والإحياء في الجنات المعروشات وغير المعروشات. ومشهد النخل والزرع مختلفا ألوانه والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه.
وموقف الإشهاد والمفاصلة. وموقف البأس والتدمير على المشركين ..
وهي ذات المشاهد التي حشدها السياق في السورة كلها من قبل، وهو يتناول قضية العقيدة بجملتها، قبل أن يتعرض لهذه المناسبة الخاصة التي تتمثل فيها. ولكل هذا دلالته التي لا تخطئ على طبيعة هذا الدين، ونظرته لقضية الحاكمية والتشريع في الكثير والقليل ..
ولعلنا قد سبقنا سياق السورة ونحن نبين منهجها الموضوعي وهي تتناول قضية العقيدة بجملتها، في مواجهة مناسبة جزئية تتعلق بأمر التشريع والحاكمية. وهي المناسبة التي لا نقول: إنها اقتضت ذلك الحشد المجتمع المتدفق من التقريرات والتأثيرات في سياق السورة كله، وهذا البيان الرائع الباهر لحقيقة الألوهية في مجالها الواسع الشامل. ولكننا نقول: إنها المناسبة التي ربطت في سياق السورة بهذا كله فدل هذا الربط على طبيعة هذا الدين(1/83)
ونظرته لقضية التشريع والحاكمية في الكبير والصغير، وفي الجليل والحقير من شؤون هذه الحياة الدنيا .. كما أسلفنا .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1423](1/84)
مواقف الإشهاد على العقيدة، ومواقف الإشهاد على الشريعة في سورة الأنعام
وتلتقي بها مواقف الإشهاد على العقيدة، ومواقف الإشهاد على الشريعة .. كلتاهما سواء.
في أول السورة عند الحديث عن العقيدة في محيطها الشامل يجيء هذا الموقف: «قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قُلْ: لا أَشْهَدُ. قُلْ: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».
حتى إذا جاء السياق إلى المناسبة الخاصة في السورة، المتعلقة بالعقيدة في قضية التحريم والتحليل أقام مشهدا آخر، ودعا إلى إشهاد على هذه القضية الخاصة، كالإشهاد على تلك القضية العامة، للدلالة على أنها هي هي من ناحية الموضوع ولضمان التناسق الذي هو طابع التعبير القرآني العام (1):
«قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..
لون ثالث من ألوان التناسق هو التناسق التعبيري الذي يقتضيه التقرير الموضوعي. والذي يتمثل في تكرار عبارات بعينها للدلالة على أنها تعبير عن حقيقة واحدة في صور متعددة.
وهذا كالتعبير في أول السورة عن الذين كفروا حين يشركون باللّه غيره بأنهم بربهم يعدلون. ثم التعبير كذلك في أواخرها عن الذين يشرعون لأنفسهم بأنهم كذلك بربهم يعدلون. على النحو التالي: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» ..
«قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ».
ففي الآية الأولى هم يعدلون بربهم لأنهم يشركون به .. وفي الثانية هم يعدلون بربهم لأنهم يشركون به كذلك. ممثلا هذا الشرك في ادعاء حق الألوهية في التشريع ...
__________
(1) - يراجع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» فصل: «التناسق». «دار الشروق».(1/85)
ولهذا دلالته الموضوعية، وجماله التعبيري أيضا .. كذلك يكرر كلمة الصراط، وهو يعبر عن الإسلام جملة وهو يعبر عن قضية التشريع على هذا النحو:
«فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ. كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» ..
وبعد أن يتحدث عن الأنعام والحرث، والحلال والحرام في نهاية السورة كما جاء في مقدمة التعريف بالسورة يقول: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
فيدل على أن هذه القضية هي قضية العقيدة. وأن الالتزام فيها هو المضي على صراط اللّه، وأن الانحراف فيها هو الخروج عن هذا الصراط .. وأنها قضية إيمان أو كفر، وجاهلية أو إسلام .. كما فصلنا ذلك في مطلع الكلام! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1435](1/86)
إخلاص الولاء لله وحده
قال تعالى: «قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» ..
إن هذه القضية .. قضية اتخاذ اللّه وحده وليا. بكل معاني كلمة (الولي).أي اتخاذه وحده ربا ومولى معبودا يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده ويدين له بالعبادة فيقدم له شعائرها وحده. واتخاذه وحده ناصرا يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمات .. إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها. فإما إخلاص الولاء للّه - بهذه المعاني كلها - فهو الإسلام. وإما إشراك غيره معه في أي منها، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام! وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع: «قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ؟ قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
إنه منطق الفطرة القوي العميق .. لمن يكون الولاء ولمن يتمحض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاما؟
«قُلْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» .. وهذه صفاته سبحانه .. أي منطق يسمح بأن يتخذ غير اللّه وليا؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه، فاللّه هو فاطر السماوات والأرض، فله السلطان في السماوات والأرض. وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فاللّه هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض. ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟(1/87)
ثم .. «قُلْ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير اللّه وليا. فاتخاذ غير اللّه وليا - بأي معنى - هو الشرك. ولن يكون الشرك إسلاما ..
قضية واحدة محددة، لا تقبل لينا ولا تميعا .. إما إفراد اللّه سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك .. إما هذا كله فهو الإسلام .. وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك. الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.
لقد أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة ليجعل لآلهتهم مكانا في دينه، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين. وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم، .. وأولها تقاليد التحريم والتحليل .. في مقابل أن يكفوا عن معارضته، وأن يجعلوه رئيسا فيهم ويجمعوا له من مالهم، ويزوجوه أجمل بناتهم! لقد كانوا يرفعون يدا للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يدا بالإغراء والمصالحة واللين ..
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف، وبهذا الحسم الصريح، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالا للتمييع.
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد: «قُلْ: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» ..
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه أمر ربه له وتجسيم لخوفه من عذابه. العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمة من اللّه وفوزا مبينا. ولكنه في الوقت ذاته حملة مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان، وقلوب المشركين باللّه في كل زمان. حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم يطلب الفريسة، ويحلق عليها، ويهجم(1/88)
ليأخذها. فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها! وإن أنفاس القارئ لهذا التصوير لتحتبس - وهو يتمثل المشهد - في انتظار هذه اللقطة الأخيرة! (1)
ثم إنه لماذا يتخذ غير اللّه وليا، ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب؟ .. ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء ورجاء نفع الناس له بالسراء؟ .. إن هذا كله بيد اللّه وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب وله القهر كذلك على العباد وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» ..
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر وتتبع مكامن الرغائب والمخافات، ومطارح الظنون والشبهات وتجلية هذا كله بنور العقيدة، وفرقان الإيمان، ووضوح التصور، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية. ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع، وفي جملة هذا القرآن (2)
__________
(1) - يراجع فصل: طريقة القرآن. في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق».
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1466](1/89)
النبي إبراهيم عليه السلام وقضية التوحيد
قال تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات .. مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها. وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في ضميرها، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها. وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته .. ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها. وهي تنطلق بالفرحة الكبرى، والامتلاء الجياش، بهذه الحقيقة، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها! .. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السّلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار .. إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل. وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما .. كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفة الصلبة الحاسمة الصريحة: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم. إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهه - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم(1/90)
من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء .. هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر، أو وثنا من خشب .. وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد! وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السّلام - للوهلة الأولى. وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر اللّه الناس عليها .. ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين، فتنكره وتستنكره، وتجهر بكلمة الحق وتصدع، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة: «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. كلمة يقولها إبراهيم - عليه السّلام - لأبيه. وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم. ولكنها العقيدة هنا. والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة. وإبراهيم هو القدوة التي أمر اللّه المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها. والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا ..
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السّلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف اللّه لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» ..
بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة .. نري إبراهيم حقيقة هذا الملك .. ملك السماوات والأرض .. ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب. لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق ..
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق .. وعي لا يطمسه الركام. وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع اللّه. وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون .. وهداية من اللّه جزاء على الجهاد فيه .. وكذلك سار إبراهيم - عليه السّلام - وفي هذا الطريق(1/91)
وجد اللّه .. وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره .. ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير.
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة .. إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع والذي لا يكل اللّه - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلا منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما ..
فأما إبراهيم - عليه السّلام - فهو إبراهيم! خليل الرحمن وأبو المسلمين .. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام. وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه .. صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» .. كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً، قالَ: هذا رَبِّي» ..
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق - الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة! وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم. وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا .. ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه: «قالَ: هذا رَبِّي» .. فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا! .. ولكن لا! إنه يكذب ظنه: «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..(1/92)
إنه يغيب .. يغيب عن هذه الخلائق. فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها .. إذا كان الرب يغيب؟! لا، إنه ليس ربا، فالرب لا يغيب! إنه منطق الفطرة البديهي القريب .. لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم. لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق .. «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب والآصرة هي آصرة القلب .. وفطرة إبراهيم «لا تحب» الآفلين، ولا تتخذ منهم إلها. إن الإله الذي تحبه الفطرة .. لا يغيب .. !
«فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
إن التجربة تتكرر. وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه! فهو الليلة في نظره جديد: «قالَ: هذا رَبِّي» .. بنوره الذي ينسكب في الوجود وتفرده في السماء بنوره الحبيب .. ولكنه يغيب! .. والرب - كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب! هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته. ربه الذي يحبه، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه .. ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته. إن لم يمد إليه يده.
ويكشف له عن طريقه: «قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
«فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة .. الشمس .. والشمس تطلع كل يوم وتغيب. ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد. إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
«قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ».ولكنها كذلك تغيب ..(1/93)
هنا يقع التماس، وتنطلق الشرارة، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة واللّه الحق، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي .. هنا يجد إبراهيم إلهه .. يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره .. هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح ..
وهنا يجد إبراهيم إلهه. ولكنه لا يجده في كوكب يلمح، ولا في قمر يطلع، ولا في شمس تسطع ..
ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس .. إنه يجده في قلبه وفطرته، وفي عقله ووعيه، وفي الوجود كله من حوله .. إنه يجده خالقا لكل ما تراه العين، ويحسه الحس، وتدركه العقول.
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك - وهم لم يكونوا يجحدون اللّه البتة، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة - وإبراهيم يتجه إلى اللّه وحده بلا شريك: «قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض. الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك. وهي الكلمة الفاصلة، واليقين الجازم، والاتجاه الأخير .. فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1568](1/94)
قضية العقيدة هي قضية القرآن الأولى
قال تعالى: «قُلْ: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».
إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه، والحق الذي وراءه ومن القوة التي في الحق، والقوة التي وراء الحق .. التهديد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نافض يديه من أمرهم، واثق مما هو عليه من الحق، واثق من منهجه وطريقه، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ..
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف .. إنه لا يفلح المشركون، الذين يتخذون من دون اللّه أولياء. وليس من دون اللّه ولي ولا نصير. والذين لا يتبعون هدى اللّه. وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين ..
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم اللّه عليه وما لم يذكر اسم اللّه عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد ..
هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة كما تضمنت مشاهد وصورا وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء اللّه والمؤمنين بهم كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض. حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل ..
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية، وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية وكم يحفل بانطباقها على شريعة اللّه وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه وهو حاكمية اللّه .. أو بتعبير آخر ربوبية اللّه ..
فلما ذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية؟(1/95)
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية «العقيدة» في الإسلام كما تلخص قضية «الدين». فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة: أن لا إله إلا اللّه. وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية للّه. ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها للّه .. والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة. فهو من ثمّ مزاولة لحق الألوهية، يأباه المسلم إلا اللّه .. والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم - العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية اللّه، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير اللّه من العباد المتألهين! والتشريع هو مزاولة للألوهية، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية .. ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا للّه وحده ويخلع ويرفض الدينونة لغير اللّه من العباد المتألهين! من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية .. والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع (1) - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ولكنه كان يواجه قضية العقيدة والتصور. ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية .. ولهذا دلالته العميقة الكبيرة (2) ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1645
(2) - يراجع فصل: «ألوهية وعبودية» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».(1/96)
لا انفصال بين توحيد الألوهية وتوحيد الحاكمية
قال تعالى: «قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ونرى من الآية إلى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ، أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم. وهم الذين كذبوا بآيات اللّه. وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة. فلو أنهم صدقوا بآيات اللّه وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى اللّه ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون اللّه. وما حرموا وحللوا بغير إذن من اللّه.
وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه اللّه حقا .. وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية، في مقدمتها توحيد اللّه. وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب، فجعلها عنوانا للكل: لقد نهى اللّه عن الشرك. وأمر بالإحسان للوالدين. ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق.
ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ونهى عن قتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق. ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. وأمر بالعدل في القول - في الشهادة والحكم - ولو كان ذا قربى. وأمر بالوفاء بعهد اللّه كله. وجعل هذا جميعه وصية من اللّه كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي.
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادئ الشريعة اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق، وتمتزجان هذا الامتزاج وتعرضان جملة واحدة، وكتلة واحدة، بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه .. هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:(1/97)
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة .. بل إن شريعته هي عقيدته .. إذ هي الترجمة الواقعية لها .. كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني ..
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم «الدين» في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة .. حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة! ولا يعدون المروق منها مروقا من الدين، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة. إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة، قرونا طويلة، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة، إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات، وكل هذه التقريرات بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية. ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير .. أصل الحاكمية .. وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي ..
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك .. إن هؤلاء لا يقرأون القرآن. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين .. فليقرأوا القرآن كما أنزله اللّه وليأخذوا قول اللّه بجد: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون، أو هذا الإجراء، أو هذا القول، منطبقا على شريعة اللّه أو غير منطبق .. وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك .. كأن الإسلام كله قائم، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات! هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون. بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه(1/98)
الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يفرغون الطاقة العقدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية. شهادة بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات. بينما الدين كله متوقف عن «الوجود» أصلا، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع، الحاكمية فيها للّه وحده من دون العباد.
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية اللّه. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين .. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية اللّه، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد .. وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام.
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين! .. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون .. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية للّه وحده لا يدعيها لنفسه مسلم ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم .. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، بسر اللّه لهم مزاولتها الواقعية في المدينة .. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين! (1)
وقال تعالى: «قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ - ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ - وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1650](1/99)
هذا هو الذي حرمه اللّه. الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود اللّه. ظاهرة للناس أو خافية. والإثم.
وهو كل معصية للّه على وجه الإجمال. والبغي بغير الحق. وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما اللّه أيضا - وإشراك ما لم يجعل اللّه به قوة ولا سلطانا مع اللّه - سبحانه - في خصائصه. ومنه هذا الذي كان واقعا في الجاهلية، وهو الواقع في كل جاهلية. من إشراك غير اللّه ليشرع للناس ويزاول خصائص الألوهية. وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون. كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم. ومن نسبتهم هذا إلى أمر اللّه بغير علم ولا يقين ..
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ .. » ما رواه الكلبي قال: «لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها .. فنزلت الآية .. » (1)
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون ببيت اللّه عرايا فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» .. فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة اللّه التي أنعم بها على البشر لإرادته بهم الكرامة والستر ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني .. الجسمي والنفسي .. إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت اللّه في زينة اللّه وفق فطرة اللّه «عيروهم»! إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس .. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل
__________
(1) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (7/ 200)
قلت: الكلبي متهم فلا يوثق بما تفرد به(1/100)
مكان؟! ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيا وحضارة وتجديدا ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن «رجعيات».
«تقليديات». «ريفيات»! المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح .. «أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!».
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون اللّه؟
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم، لضمان السيادة لها في الجزيرة .. ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء .. فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك .. ولا يملكون لأمرهم ردا ..
إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة .. تطيع تلك الأرباب. وإلا «عيرت» من بقية البهائم المغلوبة على أمرها! ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة .. وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخورا متنقلا للدعارة؟! من الذي يقبع وراء هذا كله؟
الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها، في العالم كله .. يهود .. يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان .. أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار وإشاعة الانحلال(1/101)
النفسي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه! إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع اللّه ومنهجه للحياة .. ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق.
إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى:
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة.
كذلك تتعلق بإبراز خصائص «الإنسان» في الجنس البشري، وتغليب الطابع «الإنساني» في هذا الجنس على الطابع الحيواني. والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق. وتجعل العري - الحيواني - تقدما ورقيا. والستر - الإنساني - تأخرا ورجعية! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان. وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ ما للدين والتجميل؟ ..
إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان!!! ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية، لها كل هذه الأهمية في ميزان اللّه وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ولارتباطها ثانيا بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله ..
فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة .. إنه يعقب بتنبيه بني آدم، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة! والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى(1/102)
الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون.
وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لاحظناه من التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم - في سورة الأنعام - (1) ومواجهته للجاهلية - هنا في شأن اللباس والطعام ..
ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار، بدأ أولا بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلا من هذه التقاليد وعما تزعمه - افتراء على اللّه - من أن هذا الذي تزاوله هو من شرع اللّه. ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن اللّه حرم هذا الذي يحرمونه، وأحل هذا الذي يحلونه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر اللّه وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهية: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء! كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ: قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه، قال لهم: تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم اللّه عليكم وحقيقة ما أمركم به: عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن والذي لا يجوز الأخذ عن غيره: «قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .. إلخ» ..
وهنا كذلك سار على نفس النسق، وعلى ذات الخطوات .. ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام. وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك، وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل
__________
(1) - ص 1196 - 1229 في هذا الجزء الثامن(1/103)
الشيطان وكيده ونعمة اللّه عليهم في إنزال اللباس والرياش .. ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع اللّه وأمره: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ». مشيرا هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم .. حتى إذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلا: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ - ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ - وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر اللّه به في شأن اللباس والطعام - لا ما يدعونه هم وينسبونه إلى اللّه -: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» ...
«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ..
وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك. لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية، ومن الذي يزاولها في حياة البشر. وقضية عبودية الناس ولمن تكون! ذات القضية، وذات المنهج في مواجهتها. وذات الخطوات .. وصدق اللّه العظيم: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة .. فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية .. وسبحان منزل هذا القرآن! (1) ..
وقال تعالى: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً. قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ... ».
إنها الدينونة للّه وحده قاعدة العقيدة الأولى. وقاعدة الحياة الأولى. وقاعدة الشريعة الأولى. وقاعدة المعاملات الأولى .. القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1731](1/104)
«وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة - بعد قضية العقيدة والدينونة - أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة .. فقد كان أهل مدين - وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام - ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات. وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآئبة بين شمال الجزيرة وجنوبها. ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائرة التي وصفها اللّه في هذه السورة.
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة للّه وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول. فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس. وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من اللّه وطلب رضاه، فتستند إلى أصل ثابت، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء ..
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة .. هذه هي نظرة الإسلام.
وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم! وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها.
فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة .. إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية، حين يصبح(1/105)
مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة اللّه وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء اللّه وانتظار ثوابه وتوقي عقابه، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضعية من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغوا في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية! (1)
«وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ».فقد رزقكم اللّه رزقا حسنا، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان .. بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة، أو غصب في الأخذ والعطاء.
«وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» .. إما في الآخرة عند اللّه. وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة. وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك.
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية: «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» .. وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما، لأنه أقرب إلى جانب الزيادة.
وللعبارات ظل في الحس. وظل الإيفاء غير ظل عدم النقص، فهو أكثر سماحة ووفاء.
«وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» .. وهذه أعم من المكيلات والموزونات. فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع. تقويمها كيلا أو وزنا أو سعرا أو تقديرا. وتقويمها ماديا أو معنويا. وقد تدخل في ذلك الأعمال والصفات. لأن كلمة «شيء» تطلق أحيانا ويراد بها غير المحسوسات.
وبخس الناس أشياءهم - فوق أنه ظلم - يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من الألم أو الحقد، أو اليأس من العدل والخير وحسن التقدير .. وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الاجتماعية والنفوس والضمائر، ولا تبقي على شيء صالح في الحياة.
__________
(1) - يراجع بتوسع كتاب: «نظرية الإسلام الخلقية» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الإسلامية بباكستان. كما يراجع فصل: «نظام أخلاقي» في كتاب: «نحو مجتمع إسلامي» للمؤلف. نشر «دار الشروق».(1/106)
«وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» .. والعثو هو الإفساد، فلا تفسدوا متعمدين الإفساد، قاصدين إلى تحقيقه. ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
فما عند اللّه أبقى وأفضل .. وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة اللّه وحده - أي الدينونة له بلا شريك -فهو يذكرهم بها هنا، مع ذكر الخير الباقي لهم عند اللّه إن آمنوا كما دعاهم، واتبعوا نصيحته في المعاملات. وهي فرع عن ذلك الإيمان.
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ .. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. ثم يخلي بينهم وبين اللّه الذي دعاهم إليه، ويبين لهم أنه هو لا يملك لهم شيئا، كما أنه ليس موكلا بحفظهم من الشر والعذاب. وليس موكلا كذلك بحفظهم من الضلال ولا مسؤولا عنهم إن هم ضلوا، إنما عليه البلاغ وقد أداه: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» .. ومثل هذا الأسلوب يشعر المخاطبين بخطورة الأمر، وبثقل التبعة، ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بلا وسيط ولا حفيظ.
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود:87] ..
وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعه. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
«أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟» .. فهم لا يدركون - أولا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد اللّه، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع اللّه في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.(1/107)
وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معا بالمعاملات ..
قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها - بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر للّه ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير اللّه، ووفق أمر غيره .. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله ..
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم - وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف - فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده - مهما تعرضت للخسارة - فأين من يدعون أنفسهم «مسلمين!» من هذا الاستمساك بالدين؟!!
إن بيننا اليوم - ممن يقولون: إنهم مسلمون! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية. وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله «المتحضرون»؟! .. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: «أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟» ..(1/108)
وهم يتساءلون ثانيا. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد .. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية - النظرية الأخلاقية مثلا - ويعدونها تخليطا من أيام زمان! فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في اللّه، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق .. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!!
وما تستقيم عقيدة توحيد اللّه في القلب، ثم تترك شريعة اللّه المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان! ويسخر أهل مدين من شعيب - كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق - فيقولون: «إنك لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!! ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم .. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ(1/109)
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود:88] ..
«يا قوم ... » .. في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة.
«أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟» .. أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقا مستيقنا.
«وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» .. ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها.
«وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» .. فأنها كم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به!
«إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» .. الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا، ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام! «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» .. فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي.
«عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» .. عليه وحده لا أعتمد على غيره.
«وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي.
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط:
فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [هود:89] ..(1/110)
لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم - وهم في مواجهة العذاب والهلاك - باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة اللّه والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» ..
وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب: «قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» ..
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه: «قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» ..
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ..
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
«وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» .. ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة اللّه على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
«وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» .. لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة!
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه وإلا أن تكون معه قوة مادية(1/111)
تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية.
وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع اللّه المحيط بما يعملون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين اللّه، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون: «قالَ: يا قَوْمِ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا؟ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟» .. أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد اللّه .. أهؤلاء أعز عليكم من اللّه؟ .. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من اللّه؟
«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» .. وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون اللّه ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير.
«إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .. والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه.
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه .. إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه - الذين افترق طريقهم عن طريقه - وهذا هو الإيمان في حقيقته .. أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه، إنما هي لربه ودينه. وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه(1/112)
وبيئاته! ومن هذه الغضبة للّه. والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم - بعد أن كان واحدا منهم - ويفترق الطريقان فلا يلتقيان: «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» ..
وامضوا في طريقكم وخطتكم، فقد نفضت يديّ منكم.
«إِنِّي عامِلٌ» .. على طريقتي ومنهجي.
«سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» .. أنا أم أنتم؟
«وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» .. للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم .. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق ..
ويسدل الستار هنا. على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة، ليرفع هناك على مصرع القوم، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح، فكان مصيرهم كمصيرهم، خلت منهم الدور، كأن لم يكن لهم فيها دور، وكأن لم يعمروها حينا من الدهر. مضوا مثلهم مشيعين باللعنة، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ، كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ... ».وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد. (1)
: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود:87] ..
وهو رد واضح التهكم، بيّن السخرية في كل مقطع من مقاطعه. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه.
«أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟» .. فهم لا يدركون - أولا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد اللّه، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2547](1/113)
وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع اللّه في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة.
وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معا بالمعاملات ..
قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها - بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر للّه ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير اللّه، ووفق أمر غيره .. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله ..
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم - وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف - فلقد قامت أزمة في «الكنيست» مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده - مهما تعرضت للخسارة - فأين من يدعون أنفسهم «مسلمين!» من هذا الاستمساك بالدين؟!!
إن بيننا اليوم - ممن يقولون: إنهم مسلمون! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية. وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا(1/114)
الذي يفعله «المتحضرون»؟! .. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: «أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟» ..
وهم يتساءلون ثانيا. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد .. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية - النظرية الأخلاقية مثلا - ويعدونها تخليطا من أيام زمان! فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في اللّه، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق .. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!!
وما تستقيم عقيدة توحيد اللّه في القلب، ثم تترك شريعة اللّه المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان! ويسخر أهل مدين من شعيب - كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق - فيقولون: «إنك لأنت الحليم الرشيد!» ..
وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!! ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ويعرض عن تلك السخرية لا يباليها وهو يشعر بقصورهم وجهلهم .. يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا، وأنه إذ يدعوهم إلى الأمانة في المعاملة سيتأثر مثلهم بنتائجها لأنه مثلهم ذو مال وذو معاملات فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق! إنما هي دعوة الإصلاح العامة لهم وله(1/115)
وللناس. وليس فيما يدعوهم إليه خسارة عليهم كما يتوهمون: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود:88] ..
«يا قوم ... » .. في تودد وتقرب، وتذكير بالأواصر القريبة.
«أرأيتم إن كنت على بينة من ربي؟» .. أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه. وعن هذه البينة الواضحة في نفسي، أصدر واثقا مستيقنا.
«وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» .. ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها.
«وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» .. فأنها كم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعا به!
«إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» .. الإصلاح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلاحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه وإن خيل إلى بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي، ويضيع بعض الفرص. فإنما يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلالا، ومجتمعا متضامنا متعاونا لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام! «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» .. فهو القادر على إنجاح مسعاي في الإصلاح بما يعلم من نيتي، وبما يجزي على جهدي.
«عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» .. عليه وحده لا أعتمد على غيره.
«وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. إليه وحده أرجع فيما يحزبني من الأمور، وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي.
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير، فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط:
فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [هود:89] ..(1/116)
لا يحملنكم الخلاف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة، خشية أن يصيبكم ما أصاب الأقوام قبلكم. وهؤلاء قوم لوط قريب منكم في المكان. وقريب كذلك في الزمان. فمدين كانت بين الحجاز والشام.
ثم يفتح لهم - وهم في مواجهة العذاب والهلاك - باب المغفرة والتوبة، ويطمعهم في رحمة اللّه والقرب منه بأرق الألفاظ وأحناها: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» ..
وهكذا يطوف بهم في مجالات العظة والتذكر والخوف والطمع، لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين.
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب: «قالُوا: يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ، وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ، وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» ..
فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه: «قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» ..
وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة: «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» ..
فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها.
«وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» .. ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة اللّه على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.
«وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» .. لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة!
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه وإلا أن تكون معه قوة مادية(1/117)
تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية.
وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود، وبسوء الأدب مع اللّه المحيط بما يعملون. ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة. ويفاصل قومه على أساس العقيدة، ويخلي بينهم وبين اللّه، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون: «قالَ: يا قَوْمِ: أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا؟ إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ، سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
«أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ؟» .. أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس، وهم ضعاف، وهم عباد من عباد اللّه .. أهؤلاء أعز عليكم من اللّه؟ .. أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من اللّه؟
«وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» .. وهي صورة حسية للترك والإعراض، تزيد في شناعة فعلتهم، وهم يتركون اللّه ويعرضون عنه، وهم من خلقه، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه. فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير.
«إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» .. والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه.
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره. الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه .. إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه - الذين افترق طريقهم عن طريقه - وهذا هو الإيمان في حقيقته .. أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه، إنما هي لربه ودينه. وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه(1/118)
وبيئاته! ومن هذه الغضبة للّه. والتنصل من الاعتزاز أو الاحتماء بسواه، ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى قومه وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم - بعد أن كان واحدا منهم - ويفترق الطريقان فلا يلتقيان: «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» ..
وامضوا في طريقكم وخطتكم، فقد نفضت يديّ منكم.
«إِنِّي عامِلٌ» .. على طريقتي ومنهجي.
«سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» .. أنا أم أنتم؟
«وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» .. للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم .. وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير. كما يوحي بالمفاصلة وافتراق الطريق ..
ويسدل الستار هنا. على هذه الكلمة الأخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة، ليرفع هناك على مصرع القوم، وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم، أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح، فكان مصيرهم كمصيرهم، خلت منهم الدور، كأن لم يكن لهم فيها دور، وكأن لم يعمروها حينا من الدهر. مضوا مثلهم مشيعين باللعنة، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ، كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ... » (1).
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2549](1/119)
حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية
إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها. فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية. لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى .. وعند ما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة ولا يسلم اللّه الرسل إلى الجاهلية ..
إن التجمع الجاهلي - بطبيعة تركيبه العضوي - لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره .. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم اللّه منها ..
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل، وإن كانوا طغاة متجبرين: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ».
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائما بعد مفاصلة الرسل لقومهم .. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم اللّه منها .. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته(1/120)
الخاصة. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا .. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة، ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين، ولتمكن للمؤمنين في الأرض، ولتحقق وعد اللّه لرسله بالنصر والتمكين ... ولا يكون هذا التدخل أبدا والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة ..
«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» .. نون العظمة ونون التوكيد .. كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد. لنهلكن المتجبرين المهددين، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد .. «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» .. لا محاباة ولا جزافا، إنما هي السنة الجارية العادلة:
«ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» .. ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر. وخاف وعيد، فحسب حسابه، واتقى أسبابه، فلم يفسد في الأرض، ولم يظلم في الناس. فهو من ثم يستحق الاستخلاف، ويناله باستحقاق.
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة - قوة الطغاة الظالمين - بالقوة الجبارة الطامة - قوة الجبار المهيمن المتكبر - فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين.
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة اللّه - سبحانه - في صف. ودعا كلاهما بالنصر والفتح .. وكانت العاقبة كما يجب أن تكون". (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2737](1/121)
وزن الناس على أساس العقيدة
قال تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» ..
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قَالَ: جَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدُوهُ قَاعِدًا مَعَ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي أُنَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحِي أَنْ تَرَانَا مَعَ هَذِهِ الْأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، وَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ "،قَالَ:" نَعَمْ "،قَالُوا: فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا، فَدَعا بِالصَّحِيفَةِ لِتُكْتَبَ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ، فَلَمَّا أَرَادَ ذَلِكَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِي نَاحِيَةٍ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إِلَى قَوْلِهِ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" (1).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَرَّ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ صُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَعَمَّارٌ، وَخَبَّابٌ وَنَحْوُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اطْرُدْهُمْ، أَرَضِيتَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمَكَ، أَفَنَحْنُ نَكُونُ تَبَعًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا، فَلَعَلَّ إِنْ طَرَدْتَهُمْ أَنْ تَأْتِيَكَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيُّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ " (2).
__________
(1) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ >> كِتَابُ الْفَضَائِلِ >> مَا جَاءَ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ >> (31900) حسن
(2) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ (1802) حسن(1/122)
وعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَسْتَبِقُونَ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ بِلَالٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسَلْمَانُ.قَالَ: فَيَجِيءُ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَسَادَتُهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ هَؤُلَاءِ الْمَجْلِسَ، فَيَجْلِسُونَ نَاحِيَةً، فَقَالُوا: صُهَيْبٌ رُومِيٌّ، وَسَلْمَانُ فَارِسِيٌّ، وَبِلَالٌ حَبَشِيٌّ، يَجْلِسُونَ عِنْدَهُ وَنَحْنُ نَجِيءُ فَنَجْلِسُ نَاحِيَةً، حَتَّى ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , إِنَّا سَادَةُ قَوْمِكَ وَأَشْرَافُهُمْ، فَلَوْ أَدْنَيْتَنَا مِنْكَ إِذَا جِئْنَا، قَالَ: فَهَمَّ أَنْ يَفْعَلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يَعْنِي: سَلْمَانَ وَأَصْحَابَهُ " (1).
وعَنْ سَعْدٍ، قَالَ لِي:" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ: هَؤُلَاءِ السَّفِلَةُ هُمُ الَّذِينَ يَلُونَكَ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَتْ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] " (2).
أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطىء. وبعد ذلك «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» فالإسلام لا يتملق أحدا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه.
«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» .. لا تمل ولا تستعجل «مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» .. فاللّه غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.
اصبر نفسك مع هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى اللّه خالصة له، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
__________
(1) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ >> سُورَةُ الْأَنْعَامِ >> قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الْآيَةَ >> (7365) حسن مرسل
(2) - شعب الإيمان [13/ 95] (10008) وهو في مسلم(1/123)
«وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة «الدُّنْيا» لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، وَاتَّبَعَ هَواهُ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» .. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا اللّه لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال اللّه الذي تتساوى في ظله الرؤوس وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية. ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر اللّه.
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام اللّه. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند اللّه. ومكانها عند اللّه يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
«وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا» .. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع للّه. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر اللّه، فيزيده اللّه غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده اللّه لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم: «وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .. بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند اللّه فلا مجاملة على حساب العقيدة ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال اللّه فلا حاجة بالعقيدة إليه.
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك للّه، واللّه غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي(1/124)
بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين". (1)
وقال تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى.وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟! كَلَّا! إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» ..
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا - تعقيبا على حادث فردي - على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام - وكل رسالة سماوية قبله - غرسها في الأرض.
هذه الحقيقة ليست هي مجرد:كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جدا، وأعظم من هذا جدا. إنها:كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي:أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا بمواضعات حياتهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات.
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2947](1/125)
وهو أمر عظيم جدا، كما أنه أمر عسير جدا. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات.
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس.
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى هذا التوجيه من ربه بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه:إن نفس محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم - قد احتاجت - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها، تجعل الأمر الذي يحتاج منها - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض، بمناسبة هذا الحادث المفرد .. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله .. وهذا هو الأمر العظيم ..
إن الميزان الذي أنزله اللّه للناس مع الرسل، ليقوّموا به القيم كلها، هو: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا ..
ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى .. فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال. وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية .. اقتصادية وغير اقتصادية .. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض ..(1/126)
ثم يجيء الإسلام ليقول: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس، العنيفة الضغط على مشاعرهم، الشديدة الجاذبية إلى الأرض. ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء، المعترف بها وحدها في ميزان السماء! ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي:وهو أن الميزان ميزان السماء، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده! ويجيء الرجل الأعمى الفقير .. ابن أم مكتوم .. إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، ومعهم العباس بن عبد المطلب .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الإسلام ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا. بينما يقف الآخرون خارج مكة، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدهم عصبية له، في بيئة جاهلية قبلية، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار.
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لا نزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة ولا نساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار. يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -:يا رسول اللّه أقرئني وعلمني مما علمك اللّه، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أُنْزِلَ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فِى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْشِدْنِى وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الآخَرِ وَيَقُولُ أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا فَيُقَالُ لاَ. فَفِى هَذَا أُنْزِلَ ". (1) ..
__________
(1) -.سنن الترمذى- المكنز [12/ 189] (3651) صحيح(1/127)
ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه - الذي لا يراه الرجل - فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم - بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -.
وهنا يجىء العتاب من اللّه العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد.
وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب: «كلا» وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية.
فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية! «عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى» .. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند اللّه بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه.
عطفا عليه، ورحمة به، وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير - بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب - يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب.
فيبدأ هادئا شيئا ما: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى؟» .. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير - الذي جاءك راغبا فيما(1/128)
عندك من الخير - وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور اللّه، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان اللّه ..
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟! وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟! وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؟!» ..
أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة .. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض! «وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» .. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تنصر به. وأنت لا تقوم بأمره .. «وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى» طائعا مختارا، «وَهُوَ يَخْشى» ويتوقى «فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى!» .. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا .. وهو وصف شديد ..
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر: «كَلَّا!» .. لا يكن ذلك أبدا .. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام. ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها، واستغناءها عن كل أحد. وعن كل سند. وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا: «إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ» .. فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة .. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها ..
هذا هو الميزان. ميزان اللّه. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع .. وهذه هي الكلمة. كلمة اللّه. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل.(1/129)
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولا وأخيرا. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم ..
ثم إن الأمر - كما تقدم - أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية .. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. والأكرم عند اللّه هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال .. وسائر القيم الأخرى، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى. هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد.
ولقد انفعلت نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا التوجيه، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها، وفي حياة الجماعة المسلمة. بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى. وكانت الحركة الأولى له - صلى الله عليه وسلم - هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث.
وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا. أمر لا يقوى عليه إلا رسول، من أي جانب نظرنا إليه في حينه.
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم - غير الرسول - أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها(1/130)
الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» .. وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض ..
ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البيئة من حوله فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة.
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطرا في قيمته .. أن ينطلق الإنسان حقيقة - شعورا وواقعا - من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلما بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين.
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب «التقدمية!» أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان ..
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم .. ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية، ولا في المسلمين أنفسهم .. غير أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -(1/131)
قد استطاع - بإرادة اللّه، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت - أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة وأن يحرسها ويرعاها، حتى تتأصل جذورها، وتمتد فروعها، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة .. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى ..
كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه ويقول له كلما لقيه: «أهلا بمن عاتبني فيه ربي» وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة (1) ..
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة.
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة، جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين. وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين! وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللّه بن رواحة الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار، فيهم خالد بن الوليد. وخرج رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يشيعهم .. وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي اللّه عنهم.
وكان آخر عمل من أعماله - صلى الله عليه وسلم - أن أمّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه، وصاحباه، والخليفتان بعده بإجماع المسلمين. وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم - ومن أسبق قريش إلى الإسلام.
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِى إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «إِنْ تَطْعُنُوا فِى إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ» (2) ...
__________
(1) - تفسير القرطبي - دار عالم الكتب، الرياض [19/ 213]
(2) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 5] (3730)(1/132)
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة (1)،ضرب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فعَنِ كثير بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَّ الْخَنْدَقَ فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ، وَكَانَ رَجُلًا قَوِيًّا فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ". (2)
وعَنْ كَثِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَّ الْخَنْدَقَ مِنْ أَحْمَرَ الْبَسْخَتَيْنِ طَرَفِ بني حَارِثَةَ عَامَ حِزْبِ الأَحْزَابِ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَابِحَ، فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ رَجُلا قَوِيًّا، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ" (3)
فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها .. وجعله من أهل البيت رأسا!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي اللّه عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة «يا بن السوداء» .. غضب لها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة فعَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (4).
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ بِلَالًا بِأُمِّهِ، فَقَالَ:يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ، وَإِنَّ بِلَالًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ، فَجَاءَ أَبُو ذَرٍّ وَلَمْ يَشْعُرْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ:مَا أَعْرَضَكَ عَنِّي
__________
(1) - قلت: التنازع بينهم حول كل منهم يريد نسبته له وليس الكلام عن العربية والفارسية أبدا.
(2) - معرفة الصحابة لأبي نعيم [3/ 1329] (3347) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني [6/ 10] (5908) صحيح لغيره
(4) - صحيح البخارى- المكنز [1/ 61] (30) وصحيح مسلم- المكنز [11/ 180] (4403)(1/133)
إِلَّا شَيْءٌ بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:" أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلَالًا بِأُمِّهِ؟ " قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:" وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ - أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحْلِفَ - مَا لِأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا كَطَفِّ الصَّاعِ " (1)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:" مَاتَ أَخٌ لِي وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ، فَخَطَبَ إِلَيَّ أَخٌ لَهُ لِأُمِّهِ، فَأَتَيْتُهَا فَقُلْتُ: لَا تَزَوَّجِي فُلَانًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فَمَرَّ بِي فَقَالَ:" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ، طَفَّ الصَّاعُ " (2)
وعَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ قَالَ: تُوُفِّيَ أَخٌ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ أَبِيهِ وَتَرَكَ أَخًا مِنْ أُمِّهِ، فَنَكَحَ امْرَأَتَهُ، فَغَضِبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا فَوَقَفَ عَلَيْهَا فَقَالَ:" أَنَكَحْتِ ابْنَ الْأَمَةِ؟ " فَرَدَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ:" أَصْلَحَكَ اللهُ، إِنَّهُ كَانَ أَخَا زَوْجِي، وَكَانَ أَحَقَّ بِي، يَضُمُّنِي وَوَلَدَهُ " فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ حَتَّى وَقَّفَهُ ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ فَقَالَ:" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ طَفَّ الصَّاعُ، طَفَّ الصَّاعُ، طَفَّ الصَّاعُ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا، مُؤْمِنٌ تَقِيُّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيُّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْجُعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ " (4)
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (4919) حسن
(2) - شرح مشكل الآثار [9/ 78] (3456) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار [9/ 79] (3457) صحيح
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: تَأَمَّلْنَا مَا فِيهِ مِمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْ أَجْلِهِ مَا قَالَهُ لَهُ فِيهِ، فَوَجَدْنَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَدْ كَانَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْغَضَبِ عَلَى زَوْجَةِ أَخِيهِ الْمُتَوَفَّى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا لَمَّا نَكَحَتْ أَخَاهُ لِأُمِّهِ الَّذِي كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً، مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعُدُّونَهُ نَقْصًا فِي مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، وَيَعُدُّونَ مَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ فَوْقَهُ، وَمِنْ وَعِيدِهِ لَهَا عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا أَوْعَدَهَا عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ مَنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ، إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ أَمَرَ بِتَرْكِ الِافْتِخَارِ بِالْأَنْسَابِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْتَخِرُونَ بِهَا، وَيَعْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ أَجْلِهَا، وَأَعْلَمَهُمْ بِتَسَاوِي النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ.
(4) - شرح مشكل الآثار [9/ 80] (3458) صحيح
قال أبو جعفر:" فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَخْرَ الَّذِي لِبَنِي آدَمَ مِمَّا يَكُونُ بَعْضُهُمْ أَعْلَى بِهِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى التَّقِيِّ الَّذِي يَكُونُ فِي مُؤْمِنِهِمْ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ أَعْلَى مِنْ فَاجِرِهِمُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ بِفُجُورِهِ الشَّقَاءُ، وَكَانَ قَوْلُهُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ " طَفَّ الصَّاعُ " مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ; لِأَنَّ طَفَّ الصَّاعُ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْصِيرُ عَنْ مِلْءِ الصَّاعِ، وَالتَّسَاوِي فِيهِ، وَجَمْعِهِ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، وَتَبَايُنِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمَا بَايَنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي رَفَعَ بِهَا الدَّرَجَاتِ لِأَهْلِهَا، وَجَعَلَهُمْ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَضْدَادِهِمْ مِمَّنْ مَعَهُ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، وَالِاخْتِيَارَاتُ الْقَبِيحَةُ(1/134)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسَابٍ عَلَى أَحَدٍ، إِنَّمَا أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِدِينٍ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ، بِحَسْبِ الرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيئًا بَخِيلًا جَبَانًا " (1)
ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة .. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض! ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيرا عن قولته الكبيرة! وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء .. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ «يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ».قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِى سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ.قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ دَفَّ نَعْلَيْكَ يَعْنِى تَحْرِيكَ. (2).
__________
(1) - شرح مشكل الآثار [9/ 81] (3459) صحيح
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ الطَّفُّ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هُوَ النُّقْصَانُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] أَيِ: الْمُنْقِصِينَ فِي الْكَيْلِ، فَمِنْ ذَلِكَ انْتِقَاصُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَخَا أَخِيهِ لِأُمِّهِ، بِمَا انْتَقَصَهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْنُ أَمَةٍ، حَتَّى خَاطَبَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَجْلِهِ بِمَا خَاطَبَهُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَا.وَقَدْ حَدَّثَنَا وَلَّادٌ النَّحْوِيُّ عَنِ الْمَصَادِرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ:" الْمُطَفِّفُ: الَّذِي لَا يُوَفِّي عَلَى النَّاسِ مِنَ النَّاسِ " فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِهِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ الَّذِي أَجَازَهُ لَنَا عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الطَّفُّ: أَنْ يَقْرُبَ الْإِنَاءُ مِنَ الِامْتِلَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْتَلِئَ، يُقَالَ: هَذَا طَفُّ الْمِكْيَالِ، وَطِفَافُهُ إِذَا كَرَبَ أَنْ يَمْلَأَهَ، وَمِنْهُ التَّطْفِيفُ فِي الْكَيْلِ، إِنَّمَا هُوَ نُقْصَانُهُ.قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ نِهَايَةُ الشَّرَفِ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي يَتَفَاضَلُ فِيهِ أَهْلُ الْأَعْمَالِ الْمَحْمُودَةِ وَالِاخْتِيَارَاتِ الْعَالِيَةِ تَفَاضُلُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَمَاكِنِهِمْ مَعَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِخَيْرِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفْوَتِهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَاخْتِيَارِهِ لِرِسَالَتِهِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، فَيَكُونُ مَعَهُ بِاكْتِسَابِهِ لِنَفْسِهِ الْأُمُورَ الْمَحْمُودَةَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ مَعَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَفَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَأَثَابَهُ بِهِ عَنْ مَنْ سِوَاهُ مِنْ ذَوِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -:" خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا "،وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ عُقِلَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُلُوُّ مَرْتَبَةِ الْفِقْهِ، وَجَلَالَةِ مَقَادِيرِ أَهْلِهِ، وَعُلُوِّهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهُ، وَاللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ.
(2) - صحيح البخارى- المكنز [4/ 428] (1149) وصحيح مسلم- المكنز [16/ 141] (6478) الدَّف: التحريك(1/135)
وعَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ:اسْتَأْذَنَ عَمَّارٌ عَلَى عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،يَقُولُ:عَمَّارٌ مُلِئَ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ أَيْ مَثَانَتِهِ .. (1).
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ» (2) ...
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُلُوسًا فَقَالَ:إِنِّي لاَ أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ (3).
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول اللّه .. فعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى الأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِىَّ - رضى الله عنه - يَقُولُ قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِى مِنَ الْيَمَنِ، فَمَكُثْنَا حِينًا مَا نُرَى إِلاَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -،لِمَا نَرَى مِنْ دُخُولِهِ وَدُخُولِ أُمِّهِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (4).
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:خَطَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ:حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:فَنَعَمْ إِذًا قَالَ:فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ:لاَهَا اللَّهُ إِذًا، مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ؟ قَالَ:وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ.قَالَ:فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ:أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ، فَأَنْكِحُوهُ قَالَ:فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالاَ:صَدَقْتِ.فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ.قَالَ:فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ.فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فُزِّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ
__________
(1) - صحيح ابن حبان- ط2 مؤسسة الرسالة [15/ 552] (7076) صحيح
(2) - سنن النسائي- المكنز [15/ 310] (5024) صحيح
المشاش: رءوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) [7/ 702] (23276) 23665 صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 51] (3763)(1/136)
فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ. قَالَ أَنَسٌ:فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ ثَيِّبٍ فِي الْمَدِينَةِ. (1).
وقد افتقده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ:أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ، قَالَ أَبُو بَرْزَةَ:فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي:لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ جُلَيْبِيبٌ، قَالَ:فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَلِرَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ:يَا فُلاَنُ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ، قَالَ:نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ، قَالَ:إِنِّي لَسْتُ لِنَفْسِي أُرِيدُهَا، قَالَ:فَلِمَنْ؟ قَالَ:لِجُلَيْبِيبٍ، قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَأَتَاهَا، فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ابْنَتَكِ، قَالَتْ:نَعَمْ وَنُعْمَى عَيْنٍ، قَالَ:إِنَّهُ لَيْسَتْ لِنَفْسِهِ يُرِيدُهَا، قَالَتْ:فَلِمَنْ يُرِيدُهَا؟ قَالَ:لِجُلَيْبِيبٍ، قَالَتْ:حَلْقَى أَلِجُلَيْبِيبٍ؟ قَالَتْ:لاَ لَعَمْرُ اللهِ، لاَ أُزَوِّجُ جُلَيْبِيبًا، فَلَمَّا قَامَ أَبُوهَا لَيَأْتِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَتِ الْفَتَاةُ مِنْ خِدْرِهَا لِأُمِّهَا:مَنْ خَطَبَنِي إِلَيْكُمَا قَالاَ:رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَتْ:أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَهُ ادْفَعُونِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ:شَأْنُكَ بِهَا، فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا.
قَالَ حَمَّادٌ:قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ:هَلْ تَدْرِي مَا دَعَا لَهَا بِهِ قَالَ:وَمَا دَعَا لَهَا بِهِ؟ قَالَ:اللَّهُمَّ صُبَّ الْخَيْرَ عَلَيْهِمَا صَبًّا، وَلاَ تَجْعَلْ عَيْشَهُمَا كَدًّا. قَالَ ثَابِتٌ:فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزَاةٍ، قَالَ:تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا:لاَ، قَالَ:لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ، قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:أَقَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ ? هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، يَقُولُهَا سَبْعًا، فَوَضَعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سَاعِدَيْهِ، مَا لَهُ سَرِيرٌ إِلاَّ سَاعِدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،حَتَّى وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ. قَالَ ثَابِتٌ:وَمَا كَانَ فِي الأَنْصَارِ أَيِّمٌ أَنْفَقُ مِنْهَا. (2)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) [4/ 352] (12393) 12420 صحيح
(2) - صحيح ابن حبان- ط2 مؤسسة الرسالة [9/ 343] (4035) وصحيح مسلم- المكنز [16/ 181] (6512) مختصرا(1/137)
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقا من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض .. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند اللّه، وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير اللّه لهذا الأمر أن يليه بعد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأول أبو بكر، وصاحبه الثاني عمر .. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعا بهدي رسول اللّه، وأعمق اثنين حبا لرسول اللّه، وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه.
حفظ أبو بكر - رضي اللّه عنه - عن صاحبه - صلى الله عليه وسلم - ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس الجيش الذي أعده رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. وعن الحسن بن أبي الحسن البصري، قال:ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بعثاً على أهل المدينة ومن حولهم؛ وفيهم عمر ابن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد.فلم يجاوز آخرهم الخندق، حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فوقف أسامة بالناس، ثم قال لعمر:ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه؛ يأذن لي أن أرجع بالناس؛ فإن معت وجوه الناس وحدهم؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن ينخطفهم المشركون.وقالت الأنصار:فإن أبي إلا أن نمضى فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولى أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة.فخرج عمر بأمر أسامة، وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر، لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال:فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة؛ فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر، فقال له:ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له:ما صنعت؟ فقال:امضوا، ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله! ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي(1/138)
بكر، فقال له أسامة:يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن! فقال:والله لا تنزل ووالله لا أركب! وما علي أن أغبر قدمى في سبيل الله ساعة؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترتفع له، وترفع عنه سبعمائة خطيئة! حتى إذا انتهى قال:إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل! فأذن له، ثم قال:يأيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فاحفظوها عني:لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها.وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب؛ فاخفقوهم بالسيف خفقاً.اندفعوا باسم الله، أفناكم الله بالطعن والطاعون. (1)
يا للّه! إن رأيت أن تعينني فافعل .. إنها آفاق عوال، لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة اللّه، على يدي رسول من عند اللّه! ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة.
وعن الْحَسَنَ قَالَ:حَضَرَ بَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الرُّءُوسِ، وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ، وَتِلْكَ الْمَوَالِي الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا، فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ فَأَذِنَ لَهُمْ، وَتَرَكَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ، يَأْذَنُ لِهَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ وَيَتْرُكُنَا عَلَى بَابِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْنَا،" قَالَ:فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلًا عَاقِلًا:" أَيُّهَا الْقَوْمُ، إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ أَرَى الَّذِي فِي وُجُوهِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ غَضَابَا فَاغْضَبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، دُعِيَ الْقَوْمُ وَدُعِيتُمْ فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْتُمْ فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا دُعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتُرِكْتُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَمَّا سَبَقُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ مِمَّا لَا تَرَوْنَ أَشَدَّ عَلَيْكُمْ فَوْتًا
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك [2/ 128] حسن مرسل(1/139)
مِنْ بَابِكُمْ هَذَا الَّذِي نُنَافِسُهُمْ عَلَيْهِ "،قَالَ:وَنَفَضَ ثَوْبَهُ وَانْطَلَقَ، قَالَ الْحَسَنُ وَصَدَقَ وَاللَّهِ سُهَيْلٌ لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عَبْدًا أَسْرَعَ إِلَيْهِ كَعَبْدٍ أَبْطَأَ عَنْهُ " (1).
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَمْسَحَ مُخَاطَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:دَعْنِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَفْعَلُهُ، قَالَ:" يَا عَائِشَةُ، أَحِبِّيهِ فَإِنِّي أُحِبُّهُ " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَغْسِلَ وَجْهَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَوْمًا وَهُوَ صَبِيٌّ، قَالَتْ:وَمَا وَلَدْتُ وَلَا أَعْرِفُ كَيْفَ يُغْسَلُ الصِّبْيَانُ، قَالَتْ:فَآخُذُهُ فَأَغْسِلُهُ غَسْلًا لَيْسَ بِذَاكَ، قَالَتْ:فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ:" لَقَدْ أُحْسِنَ بِنَا إِذْ لَمْ تَكُ جَارِيَةً، وَلَوْ كُنْتَ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ " (3)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:عَثَرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِعَتَبَةِ الْبَابِ، فَشُجَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ:أَمِيطِي عَنْهُ الأَذَى، فَقَذَّرَتْهُ، قَالَتْ:فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمُجُّهَا، وَيَقُولُ:لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ. (4)
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد اللّه بن عمر. فعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَفَرَضَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِى ثَلاَثَةِ آلاَفٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لأَبِيهِ لِمَ فَضَّلْتَ أُسَامَةَ عَلَىَّ فَوَاللَّهِ مَا سَبَقَنِى إِلَى مَشْهَدٍ. قَالَ لأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَبِيكَ وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْكَ فَآثَرْتُ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حُبِّى. (5) ..
يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان مقوما بميزان السماء! ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد - القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه .. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه
__________
(1) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (599) صحيح مرسل
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (7183) صحيح
(3) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (4344) حسن
(4) - صحيح ابن حبان- ط2 مؤسسة الرسالة [15/ 532] (7056) صحيح
(5) - سنن الترمذى- المكنز [13/ 443] (4183) حسن(1/140)
ويعممه بيده .. وخالد لا يرى في هذا كله بأسا. فإنما هو عمار صاحب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ما قال! (1)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا.يَعْنِى بِلاَلاً (2) .. الذي كان مملوكا لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذابا شديدا. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه .. وعنه يقول عمر بن الخطاب .. عن بلال .. سيدنا!
عَنْ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَفَاتِي مِنْ سَبْيِ العَرَبِ، فَهُوَ مِنْ مَالِ اللهِ. فَقَالَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَشَرْتَ بِرَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ، لاَئْتَمَنَكَ النَّاسُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ وَائْتَمَنَهُ النَّاسُ. فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ أَصْحَابِي حِرْصاً سَيِّئاً، وَإِنِّي جَاعِلُ هَذَا الأَمْرِ إِلَى هَؤُلاَءِ النَّفَرِ السِّتَّةِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَدْرَكَنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ، ثُمَّ جَعَلْتُ إِلَيْهِ الأَمْرَ، لَوَثِقْتُ بِهِ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (3).
يقول هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا، ولا طلحة ولا الزبير .. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته!
وعلي بن أبي طالب - كرم اللّه وجهه - يرسل عمارا والحسن بن علي - رضي اللّه عنهما - إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة - رضي اللّه عنها - عَنِ الْحَكَمِ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ لَمَّا بَعَثَ عَلِىٌّ عَمَّارًا وَالْحَسَنَ إِلَى الْكُوفَةِ لِيَسْتَنْفِرَهُمْ خَطَبَ عَمَّارٌ فَقَالَ إِنِّى لأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلاَكُمْ لِتَتَّبِعُوهُ أَوْ إِيَّاهَا (4).
__________
(1) - انظر البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع [7/ 23]
(2) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 37] 3754
(3) - سير أعلام النبلاء [1/ 170] حسن
وقال الذهبي:"عَلِيُّ بنُ زَيْدٍ: لَيِّنٌ،فَإِنْ صَحَّ هَذَا، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى جَلاَلَةِ هَذَيْنِ فِي نَفْسِ عُمَرَ، وَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُجَوِّزُ الإِمَامَةَ فِي غَيْرِ القُرَشِيِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ."
(4) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 63] 3772(1/141)
وعَنْ أَبِى وَائِلٍ قَامَ عَمَّارٌ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، فَذَكَرَ عَائِشَةَ وَذَكَرَ مَسِيرَهَا وَقَالَ إِنَّهَا زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا ابْتُلِيتُمْ (1) .. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر - رضي اللّه عنهم جميعا.
وعن عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنِى أَبِى:أَنَّ أَخًا لِبِلاَلٍ كَانَ يَنْتَمِى فِى الْعَرَبِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فَخَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ فَقَالُوا:إِنْ حَضَرَ بِلاَلٌ زَوَّجْنَاكَ قَالَ فَحَضَرَ بِلاَلٌ فَقَالَ:أَنَا بِلاَلُ بْنُ رَبَاحٍ وَهَذَا أَخِى وَهُوَ امْرُؤُ سَوْءٍ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُ فَزَوِّجُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَدَعُوا فَدَعُوا فَقَالُوا:مَنْ تَكُنْ أَخَاهُ نُزَوِّجْهُ فَزَوَّجُوهُ .. (2).
فلا يدلس عليهم، ولا يخفي من أمر أخيه شيئا، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام اللّه فيما يقول .. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق .. ويزوجون أخاه، وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. «وقد كان عبد اللّه بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة. وكان عبد اللّه ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة» (3) ..
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها .. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [23/ 303] 7101
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز [7/ 137] 14161 فيه انقطاع
(3) - مستقى من كتاب أبو حنيفة للأستاذ عبد الحليم الجندي.(1/142)
فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها.
وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى ..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4735](1/143)
توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه من خلال سورة لقمان
جاء هذا القرآن الكريم ليخاطب الفطرة البشرية بمنطقها. نزله الذي خلق هذه الفطرة، والذي يعلم ما يصلح لها وما يصلحها، ويعلم كيف يخاطبها، ويعرف مداخلها ومساربها. جاء يعرض على هذه الفطرة الحقيقة المكنونة فيها من قبل والتي تعرفها قبل أن تخاطب بهذا القرآن، لأنها قائمة عليها أصلا في تكوينها الأول .. تلك هي حقيقة الاعتراف بوجود الخالق وتوحيده، والتوجه إليه وحده بالإنابة والعبادة مع موكب الوجود كله المتجه إلى خالقه بالحمد والتسبيح .. إنما تغشى على الفطرة غواش من دخان هذه الأرض وتغمرها غمرات من فورة اللحم والدم وتنحرف بها عن الطريق دفعات من الهوى والشهوة. هنا يجيء هذا القرآن ليخاطب الفطرة بمنطقها الذي تعرفه ويعرض عليها الحقيقة التي غفلت عنها بالأسلوب الذي تألفه ويقيم على أساس هذه الحقيقة منهاج الحياة كله، مستقيما مع العقيدة، مستقيما مع الفطرة، مستقيما على الطريق إلى الخالق الواحد المدبر الخبير ..
وهذه السورة المكية نموذج من نماذج الطريقة القرآنية في مخاطبة القلب البشري. وهي تعالج قضية العقيدة في نفوس المشركين الذين انحرفوا عن تلك الحقيقة. إنها القضية التي تعالجها السور المكية في أساليب شتى، ومن زوايا منوعة، تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها ..
هذه القضية الواحدة - قضية العقيدة - تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده وشكر آلائه. وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل. وفي اتباع ما أنزل اللّه والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات.
والسورة تتولى عرض هذه القضية بطريقة تستدعي التدبر لإدراك الأسلوب القرآني العجيب في مخاطبة الفطر والقلوب. وكل داع إلى اللّه في حاجة إلى تدبر هذا الأسلوب.
إنها تعرض هذه القضية في مجال العرض القرآني. وهو هذا الكون الكبير. سماؤه وأرضه. شمسه وقمره.(1/144)
نهاره وليله. أجواؤه وبحاره، أمواجه وأمطاره. نباته وأشجاره .. وهذا المجال الكوني يتكرر في القرآن الكريم. فيحيل الكون كله مؤثرات ناطقة، وآيات مبثوثة عن الإيمان والشمائل، تخاطب القلوب البشرية وتؤثر فيها وتستحييها، وتأخذ عليها المسالك والدروب.
ومع أن القضية واحدة ومجال العرض واحد، فإنها تعرض في السورة أربع مرات في أربع جولات، تطوف كل منها بالقلب البشري في ذلك المجال الفسيح، مستصحبة في كل مرة مؤثرات جديدة، ومتبعة أسلوبا كذلك جديدا في العرض والتناول. وتتبع هذه الجولات وهي تبدأ وتنتهي بطريقة عجيبة فيه متاع للقلب والعقل. إلى جانب ما فيه من دواعي التأثر والاستجابة. (1)
قال تعالى: «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. ويؤكد هذه القضية بمؤثر آخر فيعرض لعلاقة الأبوة والأمومة بأسلوب يفيض انعطافا ورحمة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ويقرن قضية الشكر للّه بالشكر لهذين الوالدين، فيقدمها عليها: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» ..
ثم يقرر القاعدة الأولى في قضية العقيدة، وهي أن وشيجة العقيدة هي الوشيجة الأولى، المقدمة على وشيجة النسب والدم. وعلى ما في هذه الوشيجة من انعطاف وقوة إلا أنها تالية للوشيجة الأولى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ».ويقرر معها قضية الآخرة: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ويتبع هذه القضية بمؤثر هائل وهو يصور عظمة علم اللّه ودقته وشموله وإحاطته، تصويرا يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الرحيب: «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» .. ثم يتابع لقمان وصيته لابنه بتكاليف العقيدة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يستتبعه هذا وذلك من مواجهة المتاعب التي لا بد أن تواجه صاحب العقيدة، وهو يخطو بها الخطوة الطبيعية، فيتجاوز بها نفسه إلى غيره: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3522](1/145)
الْأُمُورِ» .. ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصاب الأدب الواجب. أدب الداعي إلى اللّه. (1)
وسورة الأحقاف كذلك، فهذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة .. قضية الإيمان بوحدانية اللّه وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه. والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول سبقته الرسل، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب. والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا، وظل يتكىء عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية اللّه سبحانه، وبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء .. هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان. وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل وتوقع فيها على كل وتر وتعرضها في مجالات شتى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه. وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا. سواء بسواء. ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة. كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة. وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء. (2)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3523]
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4037](1/146)
النهي عن موالاة الكفار والتهييج على معاداتهم
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ».
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. نداء من ربهم الذي آمنوا به، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه. يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم، ويحذرهم حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم.
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه، وعدوه عدوهم: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» .. فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه. يعاديهم من يعاديه. فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أوداؤه وأحباؤه. فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه.
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم: «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» ..
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق. وأخرجوا الرسول والمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا باللّه ربهم؟ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم. وهي التي حاربهم المشركون من أجلها، لا من أجل أي سبب آخر. ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب. فهي قضية العقيدة دون سواها. قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم.
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان اللّه وجهادا في سبيله: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ(1/147)
جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» .. فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل اللّه ابتغاء مرضاة اللّه، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه باللّه، وهو عدو اللّه وعدو رسول اللّه! ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء اللّه من المودة، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ».
ثم يهددهم تهديدا مخيفا، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة: «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» .. وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟! وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد.
ثم تجيء البقية: «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ» ..
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل. ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل.
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» ..
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان. فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز. كنز الإيمان. ويرتد إلى الكفر، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر، ويهتدي بنوره بعد الضلال، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. أو أشد. فعدو اللّه هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور. لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» ..(1/148)
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة. ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة والتي تشتجر في القلوب فتجرها جرا إلى المودة وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة:
«لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ. يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة. يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك. فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة:
ومن ثم يقول لهم: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ» .. التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها وتضطركم إلى موادة أعداء اللّه وأعدائكم وقاية لها - كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله - وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم.
ذلك أنه «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» .. لأن العروة التي تربطكم مقطوعة. وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند اللّه. «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .. مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير.
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة: أمة التوحيد. وهذه القافلة الواحدة: قافلة الإيمان. فإذا هي ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة .. إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم. أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى. وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ(1/149)
الْحَكِيمُ .. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان. وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك. فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه. إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين اللّه، الواقفين تحت راية اللّه، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته. فليس الأمر جديدا ولا مبتدعا ولا تكليفا يشق على المؤمنين .. ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها، إذا أنبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته. فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال .. الشجرة التي غرسها أول المسلمين .. إبراهيم .. مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: «إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ».
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهو الكفر بهم والإيمان باللّه. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم باللّه وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئا من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا فصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل. وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين.
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه - وهو مشرك - ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» .. فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .. كما جاء في سورة أخرى. ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله للّه، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. رَبَّنا(1/150)
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .. وهذا التسليم المطلق للّه، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين. كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم (1).
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا».
فلا تسلطهم علينا. فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان - لحكمة يعلمها اللّه - في فترة من الفترات. والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو اللّه ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور. وبقية الدعاء: «وَاغْفِرْ لَنا» .. يقولها إبراهيم خليل الرحمن. إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوي الذي يكافئ به نعم اللّه وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء: «رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .. فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي. فمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة .. وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.
__________
(1) - يراجع فصل: القصة في القرآن في كتاب: التصوير الفني في القرآن «دار الشروق».(1/151)
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج. من يريد أن يحيد عن طريق القافلة. من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق. فما باللّه من حاجة إليه - سبحانه - «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» .. وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة ووجدوها طريقا معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها. والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك - ولو كان وحده في جيل!
ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق! (1)
إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء اللّه إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس. فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.
وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» .. وهذا الرجاء من اللّه، معناه القطع بتحققه. والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب.
«وَاللَّهُ قَدِيرٌ» .. يفعل ما يريد بلا معقب.
«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. يغفر ما سلف من الشرك والذنوب ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4409](1/152)
وإلى أن يتحقق وعد اللّه الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص اللّه لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم. وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون .. ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف! وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع (1).
وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد. وهو كذلك اعتداء. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين (2).
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها. فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج اللّه في الأرض، وإعلاء كلمة اللّه.
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو
__________
(1) - يراجع فصل: طبيعة الإسلام في الإسلام: في كتاب: السلام العالمي والإسلام. «دار الشروق»
(2) - يراجع فصل: سلام العالم في كتاب السلام العالمي والإسلام. «دار الشروق».(1/153)
عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله. فلا خصومه على مصلحة، ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة اللّه هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج في الحياة. ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .. إلخ» ..
فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة. بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة. ولكن هذا إنما كان بعد ما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .. وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود. وهي حالة اعتداء في صميمها. تنطبق عليها حالة الاعتداء. وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية. فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4414](1/154)
لا يوجد أنصاف حلول في الإسلام
سورة القلم تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» .. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها.
وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها. ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا. وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر.
لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا.
وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد - صلى الله عليه وسلم - متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان.(1/155)
وكانت النقلة عظيمة بين الشرك باللّه وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية .. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق.
كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين .. وبين البساطة والمساواة أمام اللّه والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن. ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو إليها ويمثلها.
وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها. كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» ..
والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار. فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المشيخة!
وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل (عمرو بن هشام) يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف .. فعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ، وَأَبَا سُفْيَانَ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ(1/156)
بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا , ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ., ثُمَّ انْصَرَفُوا فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ لَا نَعُودُ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ , ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا.فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتُ بِهِ , ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتَ؟ تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ، فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ " (1).
وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية وأمر اللّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر بالدعوة وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى .. هو بشر، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين.
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (511) صحيح مرسل(1/157)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، «وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» .. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى والتي كانت توجه إلى شخصه - صلى الله عليه وسلم - وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين! والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول.
ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن اللّه كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4541](1/158)
الصراع في العالم كله عبر التاريخ صراع عقديٌّ
قال تعالى: «قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟ قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ .. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» ..
إن هذا السؤال الذي وجه اللّه رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب، هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها. وهو من ناحية سؤال استنكاري، لاستنكار هذا الواقع منهم، واستنكار البواعث الدافعة عليه .. وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين، وتنفير لهم من موالاة القوم، وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير.
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي - إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون باللّه وما أنزله اللّه إليهم من قرآن وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله اللّه من قبل من كتب أهل الكتاب ..
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون! لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى. ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله اللّه إليهم وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم - لا ما ابتدعوه وحرفوه - ولا يؤمنون بالرسول الأخير، وهو مصدق لما بين يديه معظم لرسل اللّه أجمعين.
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء التي لم تضع أوزارها قط، ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة وتميزت لهم شخصية وأصبح لهم وجود مستقل ناشئ من دينهم المستقل، وتصورهم المستقل، ونظامهم المستقل، في ظل منهج اللّه الفريد.(1/159)
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم - قبل كل شيء - مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم فيصبحوا غير مسلمين .. ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين! واللّه - سبحانه - يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة، وهو يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في السورة الأخرى: «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» .. ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم: «قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ؟» ..
وهذه الحقيقة التي يقررها اللّه سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين، هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب، وكثيرون ممن يسمون أنفسهم «مسلمين» .. باسم تعاون «المتدينين» في وجه المادية والإلحاد كما يقولون! أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها، لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم. ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي، فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي .. ولم يكن بد لهؤلاء - بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة، وفي حرب التبشير السافرة كذلك - أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير، فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين، أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا! ثم تنور العالم و «تقدم» فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة .. وإنما الصراع اليوم على المادة! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب! وإذن فما يجوز للمسلمين - أو ورثة المسلمين - أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين! وحين يطمئن أهل الكتاب - وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين - إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير وحين تتميع القضية في ضمائرهم فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين للّه وللعقيدة .. الغضبة التي لم يقفوا لها(1/160)
يوما .. ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير .. ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها. بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ويغلبون في معركة «المادة» بعد ما يغلبون في معركة «العقيدة» .. فهما قريب من قريب .. وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي، ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية، يقولون القول نفسه .. لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود .. وهؤلاء يقولون عن «الحروب الصليبية» ذاتها: إنها لم تكن «صليبية»!!! ويقولون عن «المسلمين» الذين خاضوها تحت راية العقيدة: إنهم لم يكونوا «مسلمين» وإنما هم كانوا «قوميين»! وفريق ثالث مستغفل مخدوع يناديه أحفاد «الصليبيين» في الغرب المستعمر: أن تعالوا إلينا. تعالوا نجتمع في ولاء لندفع عن «الدين» غائلة «الملحدين»! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ناسيا أن أحفاد الصليبيين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين صفا واحدا، حينما كانت المواجهة للمسلمين! على مدار القرون! وما يزالون! وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام. ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارئ وعدو موقوت وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين - في الوقت ذاته - ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون! وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين .. حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم ..
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق، فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن «الدين» إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا - لا استثناء فيها - كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات، وهو تعليم لا مواربة فيه، ولا مجال للحيدة عنه، وفي النفس ثقة باللّه ويقين بجدية ما يقول! إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك. ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم والتقريرات الواعية عن بواعثهم، والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة(1/161)
الإسلامية، وخطة التنظيم، التي تحرم التناصر والموالاة، لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية، وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه - مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها - إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين، ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين .. كما يقول رب العالمين ..
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين يجزئونه ويمزقونه، فيأخذون منه ما يشاءون - مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها - ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب! ونحن نؤثر أن نسمع كلام اللّه، في هذه القضية، على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين! وكلام اللّه - سبحانه - في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين ..
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى - بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل - أن بقية السبب: «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» فهذا الفسق هو شطر الباعث! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم .. وهي قاعدة نفسية واقعية تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة .. إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم .. إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه. إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه .. ومن ثم يكرهه وينقم عليه. يكره استقامته وينقم منه التزام ه ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده! إنها قاعدة مطردة، تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة، إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة. إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة .. والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار، وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين، وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين ..
هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ..
ولقد علم اللّه - سبحانه - أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر، وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل، وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق، وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين.(1/162)
وعلم اللّه - سبحانه - أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف. وأنها معركة لا خيار فيها، ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل. لأن الباطل سيهاجمه، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه ..
وغفلة - أي غفلة - أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف وأنهم يملكون تجنب المعركة وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة من أن يستسلموا للوهم والخديعة .. وهم يومئذ مأكولون مأكولون!
ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه اللّه - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - لمواجهة أهل الكتاب، بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين .. فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم، وشأن لهم مع ربهم، وعقاب أليم: «قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ!» وهنا تطالعنا سحنة يهود، وتاريخ يهود! إنهم هم الذين لعنهم اللّه وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير. إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت ..
وقصة لعنة اللّه لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير .. فأما قضية عبادتهم للطاغوت، فتحتاج إلى بيان هنا، لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة ..
إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان اللّه، وكل حكم لا يقوم على شريعة اللّه، وكل عدوان يتجاوز الحق .. والعدوان على سلطان اللّه وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا، وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى ..
وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة اللّه. فسماهم اللّه عبادا لهم وسماهم مشركين .. وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق. فهم عبدوا الطاغوت .. أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها .. وهم لم يعبدوها(1/163)
بمعنى السجود لها والركوع، ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة. وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة اللّه ومن دين اللّه (1).
واللّه - سبحانه - يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ، وبذلك الجزاء الذي استحقوه من اللّه على هذا التاريخ .. كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة .. يوجهه ليقول لهم: إن هذا شر عاقبة: «قُلْ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ» ..
أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين، وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم. وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة اللّه وعذابه، وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل: «أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» (2) ..
__________
(1) - يراجع كتاب: «المصطلحات الأربعة» للسيد أبي الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية بباكستان .. فصل: «العبادة» .. ويراجع كتاب: «هذا الدين» فصل: «منهج متفرد» ويراجع كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» فصل: «التوحيد». «دار الشروق»
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1313](1/164)
تصحيح القرآن الكريم لعقيدة النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام
وليس بعد قول اللّه - سبحانه - قول. واللّه يقول الحق وهو يهدي السبيل: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَقالَ الْمَسِيحُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْواهُ النَّارُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ».
وهكذا حذرهم المسيح عليه السّلام فلم يحذروا، ووقعوا بعد وفاته عنهم فيما حذرهم من الوقوع فيه، وما أنذرهم عليه الحرمان من الجنة والانتهاء إلى النار .. ونسوا قول المسيح - عليه السّلام -: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» .. حيث أعلن لهم أنه هو وهم في العبودية سواء، لربوبية اللّه الواحد الذي ليس له من شركاء.
ويستوفي القرآن الحكم على سائر مقولاتهم الكافرة: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» ..
ويقرر الحقيقة التي تقوم عليها كل عقيدة جاء بها رسول من عند اللّه: «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» ..
ويهددهم عاقبة الكفر الذي ينطقون به ويعتقدونه: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. والكافرون هم الذين لا ينتهون عن هذه المقولات التي حكم عليها اللّه بالكفر الصراح. ثم أردف التهديد والوعيد بالتحضيض والترغيب: «أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. ليبقي لهم باب التوبة مفتوحا وليطمعهم في مغفرة اللّه ورحمته، قبل فوات الأوان ...
ثم واجههم بالمنطق الواقعي القويم، لعله يرد فطرتهم إلى الإدراك السليم. مع التعجيب من أمرهم في الانصراف عن هذا المنطق بعد البيان والإيضاح: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .. »(1/165)
وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السّلام - وأمه الصديقة. وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها. ولا يكون إلها من يحتاج إلى الطعام ليعيش. فاللّه حي بذاته، قائم بذاته، باق بذاته، لا يحتاج، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام ..
ونظرا لوضوح هذا المنطق الواقعي ونصاعته التي لا يجادل فيها إنسان يعقل، فإنه يعقب عليه باستنكار موقفهم والتعجيب من انصرافهم عن ذلك المنطق البين: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» ..
ولقد كانت هذه الحياة البشرية الواقعية للمسيح عليه السّلام، مصدر تعب لمن أرادوا تأليهه - على الرغم من تعاليمه - فقد احتاجوا إلى كثير من الجدل والخلاف حول لاهوتية المسيح عليه السّلام وناسوتيته واستطرادا في ذلك المنطق القرآني المبين من زاوية أخرى يجيء هذا الاستنكار: «قُلْ: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»؟
ويختار التعبير بكلمة «بما» بدل كلمة «من» في هذا الموضع قصدا. ليدرج «المخلوقات» التي تعبد كلها - بما فيها من العقلاء - في سلك واحد. لأنه يشير إلى ماهيتها المخلوقة الحادثة البعيدة عن حقيقة الألوهية.
فيدخل عيسى، ويدخل روح القدس، وتدخل مريم، كلهم في «ما» لأنهم بماهيتهم من خلق اللّه. ويلقي هذا التعبير ظله كذلك في هذا المقام فيبعد أن يكون أحد من خلق اللّه مستحقا للعبادة وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. الذي يسمع ويعلم ومن ثم يضر وينفع. كما أنه هو الذي يسمع دعاء عبيده وعبادتهم إياه، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يكمن وراء الدعاء والعبادة .. فأما ما سواه فلا يسمع ولا يعلم ولا يستجيب الدعاء ..(1/166)
وينهي هذا كله بدعوة جامعة، يكلف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجهها إلى أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة
فمن الغلو في تعظيم عيسى - عليه السّلام - جاءت كل الانحرافات. ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين اللّه الذي أرسل به المسيح، فبلغه بأمانة الرسول، وهو يقول لهم: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْواهُ النَّارُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» ..
وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ..
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة، يحسن الإلمام بها في إجمال:
الحقيقة الأولى: هي حقيقة هذا الجهد الكبير، الذي يبذله المنهج الإسلامي، لتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بخصائصها، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص ..
وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم، يدل على أهمية هذا التصحيح. وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني، ولكل ارتباط إنساني كذلك.
والحقيقة الثانية: هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا: إن اللّه هو المسيح ابن مريم أو قالوا: إن اللّه ثالث ثلاثة: فلم يعد لمسلم - بعد قول اللّه - سبحانه - قول. ولم يعد يحق(1/167)
لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين اللّه. واللّه سبحانه يقول: إنهم كفروا بسبب هذه المقولات.
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لا يكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه اللّه. بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه اللّه.
والحقيقة الثالثة: المترتبة على هاتين الحقيقتين، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية اللّه كما جاء بها الإسلام، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وحده «الدين» عند اللّه.
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل «الأديان» أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها. فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة .. في اعتبار الإسلام .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1338](1/168)
كيف ينحدر الناس من التوحيد للجاهلية
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة .. ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته، وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها .. وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك. فيهلك من يهلك، ويحيا من يحيا. والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة. هم الذين علموا أن لهم إلها واحدا، واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد. هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: «يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره» .. فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين اللّه كله، ويتعاقب بها الرسل جميعا على مدار التاريخ .. فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها، فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع اللّه آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل .. وعلى أساسها يأخذ اللّه المكذبين بها وينجي المؤمنين .. والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات اللّه عليهم - مع اختلاف لغاتهم .. يوحد حكاية ما قالوه، ويوحد ترجمته في نص واحد: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة، ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويرا حسيا .. ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة ..
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج «الأديان المقارنة» مع المنهج القرآني .. يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا «تطور» في مفهوم العقيدة الأساسي، الذي جاءت به الرسل كلها من عند اللّه، وأن الذين يتحدثون عن «تطور» المعتقدات وتدرجها ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج «والتطور» يقولون غير ما يقوله اللّه سبحانه! فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائما بحقيقة واحدة. وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم(1/169)
إليه هو «رب العالمين» .. الذي يحاسب الناس في يوم عظيم .. فلم يكن هنا لك رسول من عند اللّه دعا إلى رب قبيلة، أو رب أمة، أو رب جنس .. كما أنه لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة .. وكذلك لم يكن هناك رسول من عند اللّه دعا إلى عبادة طوطمية، أو نجمية، أو «أرواحية!» أو صنمية! ولم يكن هناك دين من عند اللّه ليس فيه عالم آخر .. كما يزعم من يسمونهم «علماء الأديان» وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة، ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان، دون غيرها! لقد جاءت الرسل - رسولا بعد رسول - بالتوحيد الخالص، وبربوبية رب العالمين! وبالحساب في يوم الدين .. ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد، مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة، بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها .. هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية .. هي هذه التي يدرسها «علماء الأديان!» ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها! وعلى أية حال فهذا هو قول اللّه - سبحانه - وهو أحق أن يتبع، وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية، أو صدد الدفاع عنها! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فهم وما هم فيه ..
واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين ..
إن كل رسول من الرسل - صلوات اللّه عليهم جميعا - قد جاء إلى قومه، بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه .. فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى. ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون. وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم .. حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم .. ثم تكررت القصة .. وهكذا ..(1/170)
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. وقال كل رسول لقومه: «إني لكم ناصح أمين»،معبرا عن ثقل التبعة وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ورغبته في هداية قومه، وهو منهم وهم منه .. وفي كل مرة وقف «الملأ» من عليه القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ورفضوا الاستسلام للّه رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة للّه وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين اللّه كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت .. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا «القوم» الواحد، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة! .. وعندئذ يجيء الفتح .. ويفصل اللّه بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المكذبين المستكبرين، وينجي الطائعين المستسلمين .. وما جرت سنة اللّه قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم للّه وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم .. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة اللّه على مدار التاريخ.
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد: هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية للّه الواحد، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلا من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعا. ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان اللّه هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان بل في القرآن كله .. ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام (1) أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه.
__________
(1) - الجزء السابع: ص 1004 - 1015(1/171)
إن لهذا الدين «حقيقة» و «منهجا» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه .. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة .. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية .. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة ..
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ويعرض نموذجا مكررا للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجا مكررا للقلوب المستعدة للكفر أيضا .. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام للّه والطاعة لرسوله ولم يعجبوا أن يختار اللّه واحدا منهم ليبلغهم وينذرهم.
فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم للّه صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم .. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم .. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين .. إنها عقدة الحاكمية والسلطان .. فالملأ كانوا يحسون دائما ما في قول رسولهم لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ... «وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم ورده إلى صاحبه الشرعي .. إلى اللّه رب العالمين .. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك! .. إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات اللّه وانحراف عن طريقه. إنذار من اللّه للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية للّه وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة .. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة اللّه على مدار التاريخ! وأخيرا فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق .. وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل -(1/172)
تاركا مصيرهما لفتح اللّه وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده .. ولقد قال شعيب لقومه: «وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ولا رؤية جماعة تدين للّه وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. وهنا صدع شعيب بالحق رافضا هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: «قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها .. »
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى اللّه أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضا، وأنه لا يجديهم فتيلا أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم اللّه منها. وقد نجاهم اللّه منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية للّه وحده .. فلا مفر من خوض المعركة، والصبر عليها، وانتظار فتح اللّه بعد المفاصلة فيها وأن يقولوا مع شعيب: «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. ثم تجري سنة اللّه بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ ..
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل اللّه الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ..
وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر.(1/173)
إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط اللّه فأضلها عنه وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ولكنها كلها تتسم بإشراك غير اللّه معه في الربوبية.
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون للّه، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه والإسلام للّه الذي أسلم له الكون كله والذي يتحرك مسخرا بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزا وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة فلا يكون هو وحده نشازا في نظام الوجود كله! إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود .. وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيدا عن حقيقتها الأصيلة .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1757](1/174)
الاعتقاد في اللّه الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه
إن الاعتقاد في اللّه الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه. وقد شاءت سنة اللّه أن يخلق البشر ذكرا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى .. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء .. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة اللّه في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية. من حمل ووضع ورضاعة.
ومن نفقة وتربية وكفالة .. ثم لتكون كذلك ضمانا لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة اللّه التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في اللّه وحكمته ولطف تدبيره وتقديره.
ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج اللّه للحياة.
ويبدو انحراف الفطرة واضحا في قصة قوم لوط، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق اللّه فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ؟ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ - شَهْوَةً - مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» ..
والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج اللّه الممثل في الفطرة السوية. والإسراف في الطاقة التي وهبهم اللّه إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب. فهي مجرد «شهوة» شاذة. لأن اللّه جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة اللّه الطبيعية. فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد(1/175)
الأخلاق .. ولا فرق في الحقيقة. فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد.
إن التكوين العضوي للأنثى - كالتكوين النفسي - هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد «الشهوة». إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من اللّه ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوبا بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر - بالنسبة للذكر - فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة.
وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن ..
فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا.
بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقدي والأخلاقي .. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى - كما في عالم البهائم! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء .. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: «السلوك الجنسي عند الرجال» و «السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي .. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمرات المبشرين! (1)
ونعود إلى قوم لوط! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ»! يا عجبا! أو من يتطهر
__________
(1) - يراجع كتاب: «هل نحن مسلمون» وكتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» لمحمد قطب. «دار الشروق».(1/176)
يخرج من القرية إخراجا، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقديمة وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ولا تطيق أن تراهم يتطهرون لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!! وتعرض الخاتمة سريعا بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى: «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ - إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ - وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» ..
إنها النجاة لمن تهددهم العصاة. كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج. فامرأته - وهي ألصق الناس به - لم تنج من الهلاك. لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد.
وقد أمطروا مطرا مهلكا مع ما صاحبه من عواصف .. ترى كان هذا المطر المغرق، والماء الدافق، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟! على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1769](1/177)
لا ولاية بين المؤمنين والكافرين
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» ..
إنها العودة إلى نداء الذين آمنوا، بالصفة التي تفرقهم وتميزهم ممن حولهم. والتي بها يتميز منهجهم وسلوكهم وواقعهم. والتي بها يستجيبون للنداء كذلك ويطيعون التوجيهات.
نداء لهم بهذه الصفة أن يحذروا سلوك طريق المنافقين، ويحذروا أن يتولوا الكفار من دون المؤمنين ..
وهو نداء لا بد كانت هناك حاجة إليه في المجتمع المسلم يومذاك. حيث كانت الصلات ما تزال قائمة في المجتمع بين بعض المسلمين واليهود في المدينة وبين بعض المسلمين وقرابتهم في قريش - ولو من الناحية النفسية - ونقول «بعض المسلمين» لأن هناك البعض الآخر الذي فصم كل علاقاته بالمجتمع الجاهلي - حتى مع الآباء والأنباء - وجعل العقيدة وحدها هي آصرة التجمع ووشيجة الرحم كما علمهم اللّه.
وذلك البعض هو الذي كانت الحاجة قائمة لتنبيهه إلى أن هذا هو طريق النفاق والمنافقين - بعد تصوير النفاق والمنافقين تلك الصور الزرية المنفرة البغيضة - وتحذيره من التعرض لغضب اللّه وبطشه ونقمته: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً؟» ولا يفرق قلب المؤمن ويرتجف أكثر من فرقه وارتجافه من التعرض لبطش اللّه ونقمته .. ومن ثم جاء التعبير في صورة الاستفهام .. ومجرد التلويح بالاستفهام يكفي في خطاب قلوب المؤمنين! وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب. غير موجهة إليها مباشرة. ولكن عن طريق التلويح .. طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً».في الدرك الأسفل .. إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب، فلا ينطلقون ولا يرتفعون. ثقلة المطامع والرغائب، والحرص والحذر، والضعف(1/178)
والخور! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين. والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ. لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» .. فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين «فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» .. بلا أعوان هنالك ولا أنصار .. وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا، فأنى ينصرهم الكفار؟
ثم يفتح لهم - بعد هذا المشهد المفزع - باب النجاة .. باب التوبة لمن أراد النجاة: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ. فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» .. وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقول: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا» .. فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام باللّه، وإخلاص الدين للّه. ولكنه هنا ينص على الاعتصام باللّه، وإخلاص الدين للّه. لأنه يواجه نفوسا تذبذبت، ونافقت، وتولت غير اللّه. فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح، على التجرد للّه، والاعتصام به وحده وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة .. ليكون في الاعتصام باللّه وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص للّه وحده خلوص وتجرد .. بذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار. وبذلك يرتفع التائبون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة اللّه وحده. المستعلين بالإيمان. المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان .. وجزاء المؤمنين - ومن معهم - معروف: «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً».وبهذه اللمسات المنوعة، يكشف حقيقة المنافقين في المجتمع المسلم، ويقلل من شأنهم وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره. ويفتح باب التوبة للمنافقين ليحاول من فيه منهم خير، أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وفي حرارة وفي إخلاص .... (1)
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 784](1/179)
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة ..
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال اللّه سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» .. «يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ثم بين له لماذا يكون ابنه .. ليس من أهله .. «إنه عمل غير صالح» .. إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح: «فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة .. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب وآنا هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك .. وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي! والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير .. والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق ..
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ..
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً؟ يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ(1/180)
يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا .. قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ! وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» ... (مريم:41 - 50).
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه اللّه سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه.
ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً، قالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .. »
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ - مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. (البقرة:124 - 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته.
وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ، فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» ...
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ... (التحريم:10 - 11) وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...(1/181)
«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ... » .. (الممتحنة:4).
«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ - إِلَّا اللَّهَ - فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» ... (الكهف:9 - 16).
وبهذه الأمثلة التي ضربها اللّه للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة ..
هذه نماذج منها ..
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ - أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة:22) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ(1/182)
فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» ... (الممتحنة:1) «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... إلخ» .. (الممتحنة:3 - 4) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» ... (التوبة:23). «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ... (المائدة:51).
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين «الإسلام» وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها اللّه للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا! وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة اللّه في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة ..
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص «الإنسان» التي تفرقه من عالم البهيمة لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان (1).
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من
__________
(1) - من هؤلاء جوليان هاكسلي من علماء الداروينية الحديثة!(1/183)
مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة .. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم .. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش ..
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها .. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق! ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها اللّه له متمشية مع تلك الخصائص يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يدله فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشىء مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي لا(1/184)
يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ «حضارة إنسانية» تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض ..
«ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة!
ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان. «لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس .. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية» ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية»
«ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! «لقد كان أشهر تجمع(1/185)
بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على «آصرة إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
«كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها .. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. كلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة، إنما أقامته على القاعدة «الطبقية».فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
«لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال متفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن(1/186)
السخيف، هم أعداء «الإنسان» حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق» (1) ..
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته وهم الذين يقول اللّه تعالى فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس ..
ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم .. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناما تعبد من دون اللّه، اسمها تارة «الوطن» واسمها تارة «القوم» واسمها تارة «الجنس».
وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم «الشعوبية» وتارة باسم «الجنسية الطورانية» وتارة باسم «القومية العربية» وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة وإلى أن أصبحت تلك «الأصنام» مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!! وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ .. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح «القومية» في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية .. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود! وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة
__________
(1) - مقتطفات من فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» من كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/187)
النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي .. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون. حتى يأذن اللّه بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد ..
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة للّه وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم. يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد «المقدسات»! ويجب أن يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد «الشعارات» ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات ..
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون اللّه أيا كانت أسماؤها. وأيا كانت مراسمها. وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان .. وما إليها .. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى اللّه وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري .. أمة المسلمين من أتباع الرسل - كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون ..
وعند ما أراد اللّه أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» .. ولم يقل للعرب: إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي: إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب(1/188)
الرومي: إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي: إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى، ومريم .. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات:48 - 91).
هذه هي أمة «المسلمين» في تعريف اللّه سبحانه .. فمن شاء له طريقا غير طريق اللّه فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين!
أما نحن الذين أسلمنا للّه، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا اللّه. واللّه يقص الحق وهو خير الفاصلين .. (1)
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: «قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر .. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم، كما جاء عنهم في قول اللّه تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى: «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2512](1/189)
عَظِيمٍ. قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»! .. (الشعراء:123 - 138)
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة والذين أبطرتهم النعمة والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود! .. هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال! لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة، بعد ما بذل لقومه من النصح ما يملك وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد .. ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة اللّه وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على اللّه ..
لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض، وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء، ولا يضرونه شيئا، ولا يردون له قضاء .. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم .. أمام القوة المادية. وقوة الصناعة. وقوة المال.
وقوة العلم البشري. وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات .. وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب! وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان .. أمة تدين للّه وحده وترفض الدينونة لسواه. وأمة تتخذ من دون اللّه أربابا، وتحاد اللّه!(1/190)
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد اللّه بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى اللّه على مدار التاريخ! لم يفصل اللّه بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا اللّه وحده .. وكانوا هم حزب اللّه الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2534](1/191)
الأمة المسلمة بعقيدتها لا بجنسها، ولا بأرضها، ولا بموروثاتها الجاهلية
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب اللّه الأخير للبشر وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير - يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة اللّه التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع اللّه وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» ..
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية تقيم العدل في الأرض، غير متأثرة بمودة أو شنآن، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة .. وغير متأثرة كذلك بانحرافات الآخرين وأهوائهم وشهواتهم فلا تنحرف فيه شعرة عن منهجها وشريعتها وطريقها القويم لاسترضاء أحد أو لتأليف قلب وغير ناظرة إلا إلى اللّه وتقواه:
«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
«وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» ..
«وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».(1/192)
ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات وصاحبة الرسالة الأخيرة، والدين الأخير وصاحبة الوصاية والقوامة على البشرية بهذا الدين الأخير .. ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا. إنما تتولى اللّه ورسوله، ولا تركن إلى ولاية غير المؤمنين باللّه ورسوله. فإنما هي أمة بعقيدتها لا بجنسها، ولا بأرضها، ولا بموروثاتها الجاهلية. إنما هي «أمة» بهذه العقيدة الجديدة، وبهذا المنهج الرباني، وبهذه الرسالة الأخيرة .. وهذه هي آصرة التجمع الوحيدة:
«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ..
«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» ..
أما أعداء هذه الأمة فهم أعداء الهدى، وأعداء منهج اللّه الصحيح دائما. وهم لا يريدون رؤية الحق كما أنهم لا يريدون ترك العداء المستحكم في قلوبهم لهذا الحق من قبل ومن بعد. وعلى الأمة المسلمة أن تعرفهم على حقيقتهم، من تاريخهم القديم مع رسل اللّه ومن موقفهم الجديد منها ومن رسولها ودينها القويم (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 829](1/193)
بين النبي موسى عليه السلام وقومه
قال تعالى: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً، وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» ..
هنا تبرز قيمة الإيمان باللّه، والخوف منه .. فهذان رجلان من الذين يخافون اللّه، ينشىء لهما الخوف من اللّه استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة وقيمة الخوف من اللّه في مواطن الخوف من الناس. فاللّه سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين: مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس .. والذي يخاف اللّه لا يخاف أحدا بعده ولا يخاف شيئا سواه .. «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» ..
قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب .. أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم ..
«وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .. فعلى اللّه - وحده - يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه .. ولكن لمن يقولان هذا الكلام؟ لبني إسرائيل؟! «قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ..
وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان. يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن. فيحرج بأنه ناكل عن الواجب، فيسب هذا الواجب ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد! «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا. إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ..(1/194)
هكذا في وقاحة العاجز، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان! «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ»! ..
فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال! «إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .. لا نريد ملكا، ولا نريد عزا، ولا نريد أرض الميعاد .. ودونها لقاء الجبارين!
هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام. نهاية الجهد الجهيد. والسفر الطويل. واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل! نعم ها هي ذي نهاية المطاف .. نكوصا عن الأرض المقدسة، وهو معهم على أبوابها. ونكولا عن ميثاق اللّه وهو مرتبط معهم بالميثاق .. فماذا يصنع؟ وبمن يستجير؟
«قالَ: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» ..
دعوة فيها الألم. وفيها الالتجاء. وفيها الاستسلام. وفيها - بعد ذلك - المفاصلة والحسم والتصميم! وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه .. ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول. وفي إيمان النبي الكليم. وفي عزم المؤمن المستقيم، لا يجد متوجها إلا للّه. يشكو له بثه ونجواه، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين. فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق اللّه الوثيق .. ما يربطه بهم نسب. وما يربطه بهم تاريخ. وما يربطه بهم جهد سابق. إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى اللّه، وهذا الميثاق مع اللّه. وقد فصلوه. فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق. وما عاد يربطه بهم رباط .. إنه مستقيم على عهد اللّه وهم فاسقون .. إنه مستمسك بميثاق اللّه وهم ناكصون ..
هذا هو أدب النبي. وهذه هي خطة المؤمن. وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون .. لا جنس. لا نسب. لا قوم. لا لغة. لا تاريخ. لا وشيجة من كل وشائج الأرض إذا انقطعت وشيجة العقيدة وإذا اختلف المنهج والطريق .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 869](1/195)
الولاء والبراء لا يكون إلا على أساس العقيدة
قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة ..
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ..
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة. ومسألة الحركة بهذه العقيدة. وليكون الولاء للّه خالصا، والثقة به مطلقة، وليكون الإسلام هو «الدين».وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا، ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة. ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة. ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ..
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان، أو مجرد راية وشعار، أو مجرد كلمة تقال باللسان، أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة، أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ راكِعُونَ» ..
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا، تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» .. والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يقم الصلاة فلو أقامها لنهته كما يقول اللّه! ومن صفتهم إيتاء الزكاة .. أي أداء حق المال طاعة للّه وقربى عن رضى نفس ورغبة، فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية، إنما هي كذلك عبادة. أو هي عبادة مالية. وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي. الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة. وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف ..(1/196)
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة (مدنية!) أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة، أو باسم الشعب، أو باسم جهة أرضية ما .. فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا وهو إيصال المال للمحتاجين ..
فأما الزكاة .. فتعني اسمها ومدلولها .. إنها قبل كل شيء طهارة ونماء .. إنها زكاة للضمير بكونها عبادة للّه. وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء، بما أنها عبادة للّه يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة، كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك. ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم إذ يشعرون أنها فضل اللّه عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء (مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال) .. وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب .. جو الزكاة والطهارة والنماء ..
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة اللّه في شئون الحياة فهي إقرار منهم بسلطان اللّه في أمرهم كله .. وهذا هو الإسلام ..
«وَهُمْ راكِعُونَ» .. ذلك شأنهم، كأنه الحالة الأصلية لهم .. ومن ثم لم يقف عند قوله: «يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل. إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم. فأبرز سمة لهم هي هذه السمة، وبها يعرفون .. وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات! واللّه يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به، والالتجاء إليه، والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ..
ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض للّه.يعدهم النصر والغلبة: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» .. وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها .. وأنها هي الولاء للّه ورسوله وللمؤمنين وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتبار ه خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى، وارتدادا عن الدين ..(1/197)
وهنا لفتة قرآنية مطردة .. فاللّه - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير! لا لأنه سيغلب، أو سيمكن له في الأرض فهذه ثمرات تأتي في حينها وتأتي لتحقيق قدر اللّه في التمكين لهذا الدين لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين .. والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم. لا شيء لذواتهم وأشخاصهم. وإنما هو قدر اللّه يجريه على أيديهم، ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم! فيكون لهم ثواب الجهد فيه وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين اللّه في الأرض، وصلاح الأرض بهذا التمكين ..
كذلك قد يعد اللّه المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة وتخطي العقبة، والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد اللّه للأمة المسلمة، فيكون لهم ثواب الجهاد، وثواب التمكين لدين اللّه، وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين.
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال، بحالة الجماعة المسلمة يومذاك، وحاجتها إلى هذه البشريات. بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب اللّه .. مما يرجح ما ذهبنا إليه عن تاريخ نزول هذا القطاع من السورة.
ثم تخلص لنا هذه القاعدة التي لا تتعلق بزمان ولا مكان .. فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن اللّه التي لا تتخلف. وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف. فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب اللّه هم الغالبون .. ووعد اللّه القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق! وأن الولاء للّه ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد اللّه في نهاية الطريق!! (1)
إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة. فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة .. ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء - وهو التناصر - بين المسلم وغير المسلم إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 920](1/198)
العقيدة .. ولا حتى أمام الإلحاد مثلا - كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن! - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه؟
إن بعض من لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون حقيقة الإسلام وبعض المخدوعين أيضا .. يتصورون أن الدين كله دين! كما أن الإلحاد كله إلحاد! وأنه يمكن إذن أن يقف «التدين» بجملته في وجه الإلحاد.
لأن الإلحاد ينكر الدين كله، ويحارب التدين على الإطلاق ..
ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام. ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة، وحركة بهذه العقيدة، لإقامة النظام الإسلامي.
إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد .. الدين هو الإسلام .. وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام .. لأن اللّه - سبحانه - يقول هذا. يقول: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. ويقول: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» .. وبعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعد هناك دين يرضاه اللّه ويقبله من أحد إلا هذا «الإسلام» .. في صورته التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل. كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السّلام، لم يعد يقبل منهم بعد بعثته ..
ووجود يهود ونصارى - من أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس معناه أن اللّه يقبل منهم ما هم عليه أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي .. لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير .. أما بعد بعثته فلا دين - في التصور الإسلامي وفي حس المسلم - إلا الإسلام .. وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل ..
إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام .. لأنه «لا إكراه في الدين» ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه «دينا» ويراهم على «دين» ..
ومن ثم فليس هناك جبهة تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد! هناك «دين» هو الإسلام .. وهناك «لا دين» هو غير الإسلام .. ثم يكون هذا اللادين .. عقيدة أصلها(1/199)
سماوي ولكنها محرفة، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها. أو إلحادا ينكر الأديان .. تختلف فيما بينها كلها. ولكنها تختلف كلها مع الإسلام. ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء ...
والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء وهو مطالب بإحسان معاملتهم - كما سبق - ما لم يؤذوه في الدين ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن - على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته، وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابية تحل أم مشركة تحرم - وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامة .. فإن حسن المعاملة وجواز النكاح، ليس معناها الولاء والتناصر في الدين وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين يقبله اللّه ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهة واحدة لمقاومة الإلحاد! إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء.
ودعاهم إلى الإسلام جميعا، لأن هذا هو «الدين» الذي لا يقبل اللّه غيره من الناس جميعا. ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام، وكبر عليهم أن يدعوا إليه، جابههم القرآن الكريم بأن اللّه يدعوهم إلى الإسلام، فإن تولوا عنه فهم كافرون! والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء. وهو غير مأذون في أن يكره أحدا من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام. لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه. فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له.
ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب - بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو دين يقبله اللّه .. ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام! .. إنه لا يكون مكلفا بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين. وأنه يدعوهم إلى الدين.
وإذا تقررت هذه البديهية، فإنه لا يكون منطقيا مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض، مع من لا يدين بالإسلام.
إن هذه القضية في الإسلام قضية اعتقادية إيمانية. كما أنها قضية تنظيمية حركية! من ناحية أنها قضية إيمانية اعتقادية نحسب أن الأمر قد صار واضحا بهذا البيان الذي(1/200)
أسلفناه، وبالرجوع إلى النصوص القرآنية القاطعة بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب.
ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك .. فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج اللّه في الحياة - وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج، وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة .. فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام - إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا - «والَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» ..
والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام .. ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام .. لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي .. ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام، أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه، كما نص اللّه في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه! .. إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء ..
ولقد كان اعتذار عبد اللّه بن أبي بن سلول، وهو من الذين في قلوبهم مرض، عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود، والاستمساك بحلفه معها، هي قوله: إنني رجل أخشى الدوائر! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة، وأن تنزل بنا الضائقة .. وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان
فالولي هو اللّه والناصر هو اللّه والاستنصار بغيره ضلالة، كما أنه عبث لا ثمرة له .. ولكن حجة ابن سلول، هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب، لا يدرك حقيقة الإيمان .. وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء(1/201)
يهود بعد ما بدا منهم ما بدا. لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به، حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبد اللّه بن أبي بن سلول!
إنهما نهجان مختلفان، ناشئان عن تصورين مختلفين، وعن شعورين متباينين، ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان!
ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم، المتألبين عليهم، المنافقين الذين لا يخلصون للّه اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم .. يهددهم برجاء الفتح أو أمر اللّه الذي يفصل في الموقف أو يكشف المستور من النفاق: «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ».وعندئذ - عند الفتح - سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر اللّه - يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض، على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره، وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين، ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران!
«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ!» ..
ولقد جاء اللّه بالفتح يوما، وتكشفت نوايا، وحبطت أعمال، وخسرت فئات. ونحن على وعد من اللّه قائم بأن يجيء الفتح، كلما استمسكنا بعروة اللّه وحده وكلما أخلصنا الولاء للّه وحده. وكلما وعينا منهج اللّه، وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا. وكلما تحركنا في المعركة على هدى اللّه وتوجيهه. فلم نتخذ لنا وليا إلا اللّه ورسوله والذين آمنوا .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1303](1/202)
تحريم تولي أهل الكتاب
إن اللّه - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم .. وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان باللّه والنبي. في المواضع الأخرى المتعددة .. فهم إذن لم يعودوا على «دين اللّه» ولم يعودوا أهل «دين» يقبله اللّه.
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم اللّه أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا .. ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة. ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها! فإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب .. أهل دين .. يستطيع «المسلم» أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم حتى يعتبرهم المسلم «على شيء» وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره اللّه: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. وكلمة اللّه باقية لا تغيرها الملابسات والظروف! وإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة، في هياجهم علينا، وفي اشتداد حربهم لنا، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله اللّه من الناس ..
إن اللّه - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه. ولا يقبل منا هذا الاعتراف. ولا يغفر لنا هذا التناصر. ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه. لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ونختار في أمرنا غير ما يختار ونعترف بعقائد محرفة أنها «دين» إلهي، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي .. واللّه يقول: إنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من(1/203)
ربهم .. وهم لا يفعلون! والذين يقولون: إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء. ليسوا على شيء كذلك. فهذه كلمة اللّه عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء. والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب اللّه في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه. وأن دعواهم أنهم على دين، يردها عليهم رب الدين. فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ودعوتهم إلى «الإسلام» من جديد هي واجب «المسلم» الذي أقام كتاب اللّه في نفسه وفي حياته.
فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما، ولا تحقق إيمانا، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين اللّه، في أي ملة، وفي أي زمان! وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ويقيموا كتاب اللّه في حياتهم يملك «المسلم» أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين، عن «الدين» وعن «المتدينين» .. فأما قبل ذلك فهو عبث وهو تمييع، يقوم به خادع أو مخدوع! إن دين اللّه ليس راية ولا شعارا ولا وراثة!
إن دين اللّه حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء. تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة .. ولا يقوم دين اللّه إلا في هذا الكل المتكامل ولا يكون الناس على دين اللّه إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم .. وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير لا يقدم عليه «مسلم» نظيف الضمير! وعلى «المسلم» أن يجهر بهذه الحقيقة ويفاصل الناس كلهم على أساسها ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة. واللّه هو العاصم. واللّه لا يهدي القوم الكافرين ..
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن اللّه ولا يكون قد أقام الحجة للّه على الناس، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته، بلا مجاملة ولا مداهنة .. فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه .. يدعوهم إلى نقلة بعيدة، ورحلة طويلة، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم(1/204)
. فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه .. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ..
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم .. حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات، وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه اللّه تبليغه! إن التلطف في دعوة الناس إلى اللّه، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها .. إن الحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة. أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة ..
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية. وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض، وهم أصحاب كلمة مسموعة، في الشئون الدولية. وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة.
وينظر فيرى الذين يقولون: إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب اللّه المنزل إليهم .. فيتعاظمه الأمر، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء! وأن يبين لهم «الدين» الحق! وليس هذا هو الطريق .. إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين اللّه الحق، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه لا تغيره كثرة الضلّال ولا ضخامة الباطل .. فالباطل ركام .. وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة: أنهم ليسوا على شيء .. كذلك ينبغي أن تستأنف .. وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وناداه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ(1/205)
اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 940](1/206)
الفرق بين الإسلام والجاهلية
إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه! .. إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة .. وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة! ..
إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها - وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة - وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضا!
ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .. ويعلم - من طبيعة الواقع - من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار.
ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادا كبيرا ..
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكتاب، مأمورا من ربه أن ينذر به ويذكر وألا يكون في صدره حرج منه، وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق ..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق! انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا(1/207)
الدين، المسلمين للّه المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق ..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالما آخر، يقر فيه سلطان اللّه وحده، ويبطل سلطان الطواغيت.
عالما يعبد فيه اللّه وحده - بمعني «العبادة» الشامل (1) - ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالما يخرج اللّه فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده. عالما يولد فيه «الإنسان» الحر الكريم النظيف .. المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير اللّه.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: «أشهد أن لا إله إلا اللّه» التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا اللّه ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا للّه في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته .. وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن للّه شريكا في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلّا للّه وحده.
ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من اللّه، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع اللّه.
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد .. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعا كلها جاهلية. شيعة ملحدة تنكر وجود اللّه أصلا وهم الملحدون .. فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان! وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابا كثيرة. كما في الهند، وفي أواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.
__________
(1) - يراجع فصل «العبادة» في كتاب: «المصطلحات الأربعة في القرآن» للمسلم العظيم السيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(1/208)
وشيعة «أهل كتاب» من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديما بنسبة الولد إلى اللّه. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع.
وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلا! .. ثم هم اليوم يقصون حاكمية اللّه بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها «الرأسمالية» و «الاشتراكية» .. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعا للحكم يسمونها «الديمقراطية» و «الديكتاتورية» ... وما إليها. ويخرجون بذلك عن قاعدة دين اللّه كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.
وشيعة تسمي نفسها «مسلمة»! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوك النعل بالنعل! - خارجة من دين اللّه إلى دين العباد. فدين اللّه هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية .. شيعها جميعا لا تتبع دين اللّه أصلا .. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين اللّه بعد ذلك من ناحية النظام والواقع .. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المسسلمة لاستهواء الشيطان في التيه! .. وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا اللّه. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه اللّه وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه!
إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه .. إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد ... التي واجهها أول مرة.(1/209)
إن الجاهلية حالة ووضع وليست فترة تاريخية زمنية .. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع .. إنها تقوم ابتداء على قاعدة: «حاكمية العباد للعباد»،ورفض حاكمية اللّه المطلقة للعباد .. تقوم على أساس أن يكون «هوى الإنسان» في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون «شريعة اللّه» هي القانون المحكم .. ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها .. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها ..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وأن الإسلام اليوم متوقف عن «الوجود» مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - تماما ويواجهون ما كان يواجهه - صلى الله عليه وسلم - تماما، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول اللّه - سبحانه - له: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ»
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات «متخلفة» أو «رجعية»! بمعنى أنها «رجعت» إلى الجاهلية، بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية، وقيادتها في طريق التقدم و «الحضارة» بقيمها وموازينها الربانية.
إنه حين تكون الحاكمية العليا للّه وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا حقيقيا كاملا من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد.
وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان اللّه - لأن الحضارة التي يريدها اللّه للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد .. لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع(1/210)
لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد .. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين! .. ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف .. أو بالاصطلاح الإسلامي: «مجتمع جاهلي مشرك»! وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادرا من اللّه، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا متحضرا متقدما. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا ربانيا مسلما .. لأن التجمع حينئذ يكون ممثلا لأعلى ما في «الإنسان» من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط .. فإنه يكون مجتمعا رجعيا متخلفا .. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهليا مشركا ..
ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض ... وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في «الإنسان».
فالإنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنسانا بعد الروح والفكر! ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه اللّه به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبدا أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفا مولده في جنس ولا لون كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض .. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها! وحين تكون «إنسانية الإنسان» هي القيمة العليا في مجتمع وتكون «الخصائص الإنسانية» فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانيا مسلما .. فأما حين تكون «المادة» - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا .. سواء في صورة «النظرية» كما في الماركسية، أو في صورة «الإنتاج المادي» كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية -(1/211)
فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا رجعيا متخلفا .. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا جاهليا مشركا ..
إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة لا في صورة «النظرية» باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ولا في صورة «الإنتاج المادي» والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد اللّه وشرطه والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص «الإنسان» ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية .. الملحدة أو المشركة ..
وحين تكون القيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» - كما هي في ميزان اللّه - هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما .. أو بالاصطلاح الإسلامي .. ربانيا مسلما .. والقيم «الإنسانية» والأخلاق «الإنسانية» ليست مسألة غامضة ولا مائعة وليست كذلك قيما وأخلاقا متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنا لك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم .. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان «خصائص الإنسان» التي ينفرد بها دون الحيوان. وتغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنسانا. وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان .. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها «التطوريون»! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية. ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية. ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها .. إنما تكون هناك فقط «قيم وأخلاق إنسانية» يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر. «وقيم وأخلاق حيوانية» - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف .. أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية وقيم وأخلاق رجعية جاهلية! إن(1/212)
المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية! إن المفهوم «الأخلاقي» ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحيانا في حدود مصلحة الدولة! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية! مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر «الإنسانية». وبمقياس خط التقدم الإنساني .. وهي كذلك غير إسلامية .. لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية ..
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة، وإغراقها في الجاهلية .. من العقيدة إلى الخلق. ومن التصور إلى أوضاع الحياة .. ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة. ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين اللّه .. إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقا ونظاما .. إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة. وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه وربه - سبحانه - يخاطبه: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ»
وفي الوقت الذي وجه اللّه - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون اللّه. ذلك أن القضية في(1/213)
صميمها هي قضية «الاتباع» .. من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر اللّه فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟
إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ».
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية .. إنه إما اتباع لما أنزل اللّه فهو الإسلام للّه، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه .. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف للّه بالربوبية الخالصة .. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟! وفي الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - كان الكتاب منزلا إليه بشخصه: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ..
وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلا إليهم من ربهم: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» .. فأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره .. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتابا، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر ..
ولأن المحاولة ضخمة .. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها باللّه، وبالكون، وبالناس .. (1)
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم .. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها. كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1255](1/214)
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة. أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة .. إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة. ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب .. ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول .. لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم للّه وفي سبيل اللّه. من أجل عقيدتهم، لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر .. بهذه النصاعة.
وبهذا الحسم. وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى، أو مصالح أخرى، أو أهداف أخرى .. فإن هم فعلوا. فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم .. في دار الحرب .. وهاجروا إلى دار الإسلام، ليعيشوا بالنظام الإسلامي، المنبثق من العقيدة الإسلامية، القائم على الشريعة الإسلامية .. إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم، مواطنون في الأمة المسلمة. وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة. إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته. ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام. في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين. فقد ورد في القرآن من استنكار مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا!(1/215)
وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته. وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة .. ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال. لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون اللّه ويشهدون أن لا إله إلا اللّه. ثم يعترفون لغير اللّه بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون، لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم .. لا لأنهم عبدوهم. ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون. لأنهم شهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول اللّه. ثم بقوا في دار الكفر، يناصرون أعداء المسلمين!
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا. إنما هو تميع. والإسلام عقيدة التسامح. ولكنه ليس عقيدة «التميع».إنه تصور جاد. ونظام جاد. والجد لا ينافي التسامح. ولكنه ينافي التميع.
وفي هذه اللفتات واللمسات من المنهج القرآني للجماعة المسلمة الأولى، بيان، وبلاغ .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 732](1/216)
قواعد التعامل مع المخالفين في العقيدة
قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ(1/217)
مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
هذا الدرس الأخير من سورة الأنفال يتضمن الكثير من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال ونظرته كذلك إلى علاقات الدم والجنس والأرض وعلاقات العقيدة.
ومنه تتبين عدة قواعد وأحكام بعضها نهائي في موضوعه وبعضها مرحلي كان يواجه أحوالا معينة واقعة، ثم أدخلت عليه التعديلات النهائية المستقرة في سورة التوبة قرب نهاية العهد المدني.
ومن بين هذه القواعد والأحكام حسب ورودها في السياق القرآني:
أن الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي، ثم يخلفون عهدهم معه هم شر الدواب .. ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديبا يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي.
أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم، وتعلنهم بإلغائه. ومن ثم تصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب من وراءهم من أمثالهم.
أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائما واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض التي ترهبها جميع القوى المبطلة والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض، فتهاب أولا أن تهاجم دار الإسلام وتستسلم كذلك لسلطان اللّه فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد(1/218)
أحدا من أهلها عن الاستجابة، ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله للّه.
أنه إذا جنح فريق من غير المسلمين إلى مسالمه المعسكر الإسلامي وموادعته وعدم الوقوف في وجهه فإن القيادة الإسلامية تقبل منهم المسالمة، وتعاهدهم عليها. فإن أضمروا الخديعة ولم يبد في الظاهر ما يدل عليها، ترك أمرهم إلى اللّه، وهو يكفي المسلمين شر الخادعين.
أن الجهاد فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم. وأنهم منصورون بعون اللّه على أعدائهم، وأن الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء، وكفء لاثنين في أضعف الحالات وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى، وأن يثقوا باللّه، وأن يثبتوا في المعركة، ويصبروا عليها والبقية على اللّه. ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة ..
أن المعسكر الإسلامي يجب أن يكون همه ابتداء القضاء على قوة الطاغوت بتحطيم كل أسباب القوة. فإذا كان أسر المقاتلين وفداؤهم لا يحقق هذه الغاية، فإن هذا الإجراء يستبعد .. ذلك أنه لا يكون للرسل وأتباعهم أسرى إلا بعد أن يثخنوا في الأرض، فيدمروا قوة عدوهم، ويستعلوا هم في الأرض ويتمكنوا بقوتهم وعندئذ لا يكون هناك من بأس في أخذ الأسرى وفدائهم. أما قبل ذلك فالتقتيل في المعركة أولى وأجدى.
أن الغنائم حل للمسلمين في المعركة من أموال المشركين. كما أحل لهم أن يأخذوا فدية الأسرى بعد أن يثخنوا في الأرض ويتمكنوا فيها ويخضدوا شوكة عدوهم ويحطموها.
أن الأسرى في المعسكر المسلم ينبغي أن يرغبوا في الإسلام. بوعد اللّه لهم أن يعطيهم خيرا مما أخذ منهم من الغنيمة أو الفداء. مع تحذيرهم من الخيانة ببأس اللّه الذي أمكن منهم أول مرة.
أن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس العقيدة والتنظيم الحركي معا، فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الإسلام، فلا ولاء بينهم وبين(1/219)
المعسكر المسلم في دار الإسلام .. أي لا تناصر ولا تكافل .. ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد.
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي، لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي ". (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2071](1/220)
وجوب تقديم الولاء للعقيدة على كل ولاء
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ - وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها .. أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
إن هذه العقيدة لا تحتمل لها في القلب شريكا فإما تجرد لها، وإما انسلاخ منها. وليس المطلوب أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة والحاكمة، وهي المحركة والدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الأرض. فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة وبالزوج والعشيرة ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن ولا عليه أن يستمتع بزينة اللّه والطيبات من الرزق - في غير سرف ولا مخيلة - بل إن المتاع بها حينئذ لمستحب، باعتبار ه لونا من ألوان الشكر للّه الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ - إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ -» ..
وهكذا تتقطع أواصر الدم والنسب، إذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة. وتبطل ولاية القرابة في الأسرة إذا بطلت ولاية القرابة في اللّه. فلله الولاية الأولى، وفيها ترتبط البشرية جميعا، فإذا لم تكن فلا ولاية بعد ذلك، والحبل مقطوع والعروة منقوضة.(1/221)
«وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. و «الظَّالِمُونَ» هنا تعني المشركين. فولاية الأهل والقوم - إن استحبوا الكفر على الإيمان - شرك لا يتفق مع الإيمان.
ولا يكتفي السياق بتقرير المبدأ، بل يأخذ في استعراض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها) .. وفي الكفة الأخرى: حب اللّه ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشقاته. الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان، وما يتبعه من ألم وتضحية، وما يتبعه من جراح واستشهاد .. وهو - بعد هذا كله - «الجهاد في سبيل اللّه» مجردا من الصيت والذكر والظهور. مجردا من المباهاة، والفخر والخيلاء. مجردا من إحساس أهل الأرض به وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه. وإلا فلا أجر عليه ولا ثواب ..
«قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها، أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ .. فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ... »
ألا إنها لشاقة. ألا وإنها لكبيرة. ولكنها هي ذاك .. وإلا: «فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ».
وإلا فتعرضوا لمصير الفاسقين: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، والدولة المسلمة. فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في اللّه ومقتضيات الجهاد في سبيل اللّه.
وما يكلف اللّه الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه - فاللّه لا يكلف نفسا إلا وسعها - وإنه لمن رحمة اللّه بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها .. لذة الشعور بالاتصال باللّه، ولذة الرجاء في رضوان اللّه، ولذة الاستعلاء على الضعف(1/222)
والهبوط، والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك. (1).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1615](1/223)
رابطة العقيدة تقوم مقام رابطة الدم والنسب
لقد انخلع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد .. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
ثم لما فتح اللّه للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول اللّه فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة .. وكان حكم اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا .. لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة اللّه وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة اللّه ويحقق فيها وجوده(1/224)
الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل اللّه لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية .. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولا، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي .... وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..
والتعقيب على هذا الحكم: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره.(1/225)
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما .. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1558](1/226)
آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (74) سورة الأنفال ..
أولئك هم المؤمنون حقا .. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان .. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين .. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها .. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي .. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..
وهؤلاء المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم .. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله .. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم. ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائما حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريبا لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة اللّه وسلطانه .. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم اللّه - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها .. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها(1/227)
المرحلية، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن اللّه - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل كما حدث في الجولة الأولى ..
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة، وتكاليفها الخاصة .. قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم، في كل صوره وأشكاله، وفي كل التزاماته ومقتضياته. بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم .. فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية، اللازمة لعملية البناء الأولى، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية. وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في اطار المجتمع المسلم في دار الإسلام: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ..
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام .. إن هذا يلبي جانبا فطريا في النفس الإنسانية. ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي .. إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ولكنه يضبطها. يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام. ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية .. وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى .. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها. فهي من العلم المحيط بكل شيء. علم اللّه تعالى ..
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز «إنسانية الإنسان» وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع(1/228)
الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني. وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه ..
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب «الجهالة العلمية!» مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه «الصفات» مع الحيوان ومع المادة له «خصائص» تميزه وتفرده وتجعل منه كائنا فريدا - كما اضطر أصحاب «الجهالة العلمية!» أخيرا أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة! (1)
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز «الإنسان» وتفرده بين الخلائق فيبرزها وينميها ويعليها .. وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة، إنما يمضي على خطته تلك. فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في «الإنسان» من «خصائص» ..
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح، ولا المصير الأرضي المشترك .. فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان. وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع، وإلى اهتمامات القطيع، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده، ووجود هذا الكون من حوله تفسيرا كليا كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق والذي يقرر «إنسانيته» في أعلى مراتبها حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية. فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضا، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها .. إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ولا تغيير
__________
(1) - في مقدمة هؤلاء جوليان ها كسلي من أصحاب «الداروينية الحديثة».(1/229)
الجنس الذي تسلسل منه ولا تغيير اللون الذي ولد به. فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة ..
كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ومجال «الإرادة الحرة» فيها محدود .. ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني .. فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائما للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره ... وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي ..
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز «خصائص الإنسان» في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان .. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة. على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء(1/230)
المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما «عربية» إنما كانت دائما «إسلامية». ولم تكن يوما ما «قومية» إنما كانت دائما «عقدية» ..
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة .. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد وتبرز فيها «إنسانيتهم» وحدها بلا عائق .. وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ! ..
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد ضمت بالفعل أجناسا متعددة ولغات متعددة، وأرضين متعددة ... ولكن هذا كله لم يقم على آصرة «إنسانية» ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة .. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى .. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى .. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا .. ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية .. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها: الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية .. وكلها في ذلك المستوي الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون.
ولكنها لم تقمه على قاعدة «إنسانية» عامة. إنما أقامته على القاعدة «الطبقية» .. فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم .. هذا تجمع على قاعدة طبقة «الأشراف» وذلك تجمع على قاعدة طبقة «الصعاليك» (البروليتريا) والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير(1/231)
أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني .. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن «المطالب الأساسية» للإنسان هي «الطعام والمسكن والجنس» - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!!
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني .. وما يزال مفردا .. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة .. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره اللّه ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق .. وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه «البهائم» من الحظيرة والكلأ! بعد أن رفعه اللّه إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه «الناس»! وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصبا وجمودا ورجعية، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدما ورقيا ونهضة وأن تقلب القيم والاعتبار ات كلها لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة .. خصيصة الإنسان العليا .. ولكن اللّه غالب على أمره .. وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء .. وسيكون ما يريده اللّه حتما .. وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم اللّه الإنسان بها. والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق. وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1560](1/232)
الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي
إن الذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه .. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين - وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة - كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم».
كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير اللّه، أو تجعل فيه شركاء للّه .. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول اللّه سبحانه: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. (الحج:40) والذي يقول عنه سبحانه كذلك: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .. (البقرة:251)
وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين:
إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة لنشر منهج اللّه في الأرض حوله وإبلاغ كلمة اللّه إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة - في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان - حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف. وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة - تمهيدا لما وراءها من أرض اللّه حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للّه.(1/233)
وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين - في ظروف مختلفة - عهدا بعد عهد بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين - ومن أهل الكتاب من قبلهم - فما كانت هذه العهود - إلا نادرا - عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين!
فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلا أن ترى الإسلام ما يزال قائما حيالها مناقضا في أصل وجوده لأصل وجودها مخالفا لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعا إلى عبادة اللّه وحده.
وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها اللّه سبحانه في قوله عن المشركين: «وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا» ... (البقرة:217)
والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» .. (البقرة:109)
ويقول فيها كذلك: «وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» .. (البقرة:120)
فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه - على مدار التاريخ - بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي(1/234)
لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنا والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين - وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان - في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا. وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة ..
وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أدق - وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئا من هذا كله لا يصبح مفهوما بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها ..
وقد تجلى ذلك القانون - كما أسلفنا - قبيل نزول سورة التوبة وبعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين - وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة - أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده ..
ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة - حينذاك - لم يكن معناه وضوحه - بنفس الدرجة - لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلا على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم - من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعا - بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئا ولم يظاهروا عليهم أحدا - ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» .. (الأنفال:58) فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفا لما عهدوه(1/235)
وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين .. ولكن اللّه - سبحانه - كان يريد أمرا أكبر من المألوف وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك - ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك - من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام بعد ما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويدا رويدا - في ظل السلم - إلى الإسلام .. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف .. ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم - ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضا! - من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد اللّه.
وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة! ..
ولكن اللّه سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها - كما تقدم - وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات أم من المنافع والمصالح. كما أنه - سبحانه - كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته.
وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين اللّه أفواجا ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال(1/236)
المشركين كافة ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال. ولا يجد في نفسه دافعا لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر فهي صفقة رابحة بلا عناء كبير .. أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟! ..
وكان اللّه - سبحانه - يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط - بعد الفتح - اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين .... (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1592](1/237)
التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (116) سورة التوبة
فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة .. كلها بيد اللّه دون سواه. وفي الصلة باللّه وحده كفاية وغناء.
وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله .. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه .. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.
إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضا ..
ولما كانت تلك طبيعة البيعة، كان التخلف عن الجهاد للقادرين - أيا كانت الأسباب - أمرا مستنكرا عظيما وكان ما بدا في الغزوة من التردد والتخلف ظاهرة لا بد من تتبعها والتركيز عليها ... (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1722](1/238)
الدينونة والاتباع والحاكمية هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام
إنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق ..
ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك فإن قضية «العبادة» ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة .. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين .. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.
والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية:
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح (1) أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح - عليه السلام - أبي البشر الثاني .. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول .. وأن الإسلام يعني توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجيه والتشريع.
ثم بينا كذلك أن الجاهلية - سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع - أو هما معا - كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم بالدينونة لغير اللّه - سبحانه - سواء
__________
(1) - ص 1882 - 1886 من هذا الجزء.(1/239)
كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب، أو روح أو أرواح شتى أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم .. فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية.
ومن هذا التتابع التاريخي - الذي يقصه اللّه سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ..
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ - ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد - ولو على سبيل الاحتمال - وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف - عليه السلام - وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم - حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف -: «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيء، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ... (يوسف:37 - 40)
وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ(1/240)
البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس، حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع ..
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم .. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول اللّه سبحانه في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج.
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية .. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة.
وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول اللّه سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول اللّه في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنيا ولا مفهوما! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير .. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث اللّه للناس رسولا يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير اللّه سبحانه من الأرباب المتفرقة .. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة للّه وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده.(1/241)
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك ..
إن البشرية اليوم - بجملتها - تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد باللّه سبحانه، وإنكار لوجوده .. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود اللّه سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم .. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود اللّه سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه - بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم ودينونتهم لغير اللّه من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر باللّه كالأولين. أو شرك باللّه كالآخرين (1) ..
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية اللّه وحده، وتقديم الشعائر التعبدية للّه وحده
__________
(1) - يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق» نشر «دار الشروق»(1/242)
والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها للّه وحده .. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ..
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى اللّه مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ..
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوي من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية .. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي - وهي تحسبه مجتمعا مسلما - وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع .. بعيدة جدا ..
ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة:
لقد أرسل كل رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه اللّه إليه والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه.
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء .. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم(1/243)
. عبدوا اللّه وحده كما طلب إليهم، وخلعوا من أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه .. وبذلك صاروا مسلمين .. صاروا «أمة مسلمة» ..
ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به وظلوا في دينونتهم لغير اللّه من خلقه وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام .. ولذلك صاروا «أمة مشركة» ..
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة .. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة .. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه .. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة .. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد بروز هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه قومهم على أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم .. لقد افترق المنهجان، فاختلفت الجنسيتان. وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعند ما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل اللّه بينهما فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة .. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة ..
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن اللّه سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك وعالنوهم بأنهم يدينون للّه وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها اللّه. سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع.(1/244)
إن يد اللّه سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون .. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرأوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد اللّه سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين ..
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام والدينونة للّه وحده بلا شريك ونبذ الدينونة لأحد من خلقه - في صورة من صور الدينونة - ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون للّه وحده صفا - أو أمة - ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق اللّه صفا آخر .. ثم يفاصل المؤمنون المشركين .. ثم يحق وعد اللّه بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين .. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري.
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى.
ولقد يبطئ الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر .. ولكن وعد اللّه بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف اللّه وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري.
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان .. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في(1/245)
طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن سنة اللّه جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى.
وأخيرا، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين، كما يتمثل في القرآن الكريم .. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية ..
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ويريهم معالمه في مراحله جميعا ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق وقد بات لا حبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا! .. إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف وليسوا مجموعة شاردة في تية مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ..
وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم ..
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق.
والقرآن - بهذه الصورة - لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود اللّه فيه.
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعا لن يدركوا(1/246)
من هذا القرآن شيئا يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه.
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده ..
إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه: ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع .. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام.
أأقول: جزاء؟! كلا. واللّه. إنه لفضل من اللّه كبير .. «قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. والحمد للّه العظيم رب الفضل العظيم .. (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1943](1/247)
العقيدة وحدها هي الآصرة وليس الرابطة القومية والعصبية
لقد جاء هذا الكتاب لينشىء أمة وينظم مجتمعا، ثم لينشىء عالما ويقيم نظاما. جاء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية. ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود:
جاء «بِالْعَدْلِ» الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل، لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالود والبغض، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب، والغنى والفقر، والقوة والضعف. إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للجميع. وإلى جوار العدل .. «الْإِحْسانِ» .. يلطف من حدة العدل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.
والإحسان أوسع مدلولا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا (1).
ومن الإحسان «إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه، وتوكيدا عليه. وما يبني هذا على عصبية الأسرة، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام. وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل (2).
«وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» .. والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد. ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها. والمنكر كل فعل تنكره
__________
(1) - بعض التفاسير تقول: إن العدل هو الواجب والإحسان هو الندب في العبادات خاصة. استنادا إلى أن هذه الآية مكية، ولم يكن التشريع قد نزل بعد. ولكن عموم اللفظ يطلق مفهوم العدل ومفهوم الإحسان. فضلا على أن العدل والإحسان مبدآن عامان من الناحية الأخلاقية البحتة، وليسا مجرد تشريع قانوني. (السيد رحمه الله)
(2) - فصل التكافل الاجتماعي في كتاب «دراسات إسلامية». «دار الشروق». (السيد رحمه الله)(1/248)
الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة. وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها. والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل.
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي. ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها، والمنكر بكل مغرراته، والبغي بكل معقباته، ثم يقوم ..
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة، مهما تبلغ قوتها، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها. وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي. فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر، فالانتقاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة، فهي تنتفض لطردها، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه. وأمر اللّه بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم اللّه. لذلك يجيء التعقيب: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهي عظة للتذكر تذكر وحي الفطرة الأصيل القويم.
«وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» ..
والوفاء بعهد اللّه يشمل بيعة المسلمين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويشمل كل عهد على معروف يأمر به اللّه. والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعمال بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع، ولا تقوم إنسانية. والنص يخجل المتعاهدين أن ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا اللّه كفيلا عليهم، وأشهدوه عهدهم، وجعلوه كافلا للوفاء بها. ثم يهددهم تهديدا خفيا «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ».
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدا، لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات:(1/249)
«وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ. إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ. وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».
فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة! وكل جزئية من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود. وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه! وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن محمدا ومن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أن هذا ليس مبررا لأن يتخذوا أقسامهم غشا وخديعة فيتخلوا عنها: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» أي بسبب كون أمة أكثر عددا وقوة من أمة. وطلبا للمصلحة مع الأمة الأربى.
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقا لما يسمى الآن «مصلحة الدولة» فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقا «لمصلحة الدولة»! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدا ولا تعاونا على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب .. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو ابتلاء من اللّه لهم ليمتحن إرادتهم ووفاءهم وكرامتهم على أنفسهم وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا اللّه عليه: «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» ..(1/250)
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى اللّه في يوم القيامة للفصل فيه: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ولو شاء اللّه لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس للهدى والضلال، تمضي بها مشيئته في الناس. وكل مسؤول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببا في نقض العهود. فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة اللّه. والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات.
وهذه قمة في نظافة التعامل، والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية. ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية،وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات. وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة، ويلوح بما عند اللّه من عوض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند اللّه الذي لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع رزقه: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
واتخاذ الأيمان غشا وخداعا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يقسم وهو يعلم أنه خادع في قسمه، لا يمكن أن تثبت له عقيدة، ولا أن تثبت له قدم على صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند من يقسم لهم ثم ينكث، ويعلمون أن أقسامه كانت للغش والدخل ومن ثم يصدهم عن سبيل اللّه بهذا المثل السيئ الذي يضربه للمؤمنين باللّه.(1/251)
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومن صدقهم في وعدهم، ومن إخلاصهم في أيمانهم، ومن نظافتهم في معاملاتهم. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين أثرا قويا وطابعا عاما في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز .. عَنْ أَبِي الْفَيْضِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَتَعَجَّلَ شَهْرًا.قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ الرُّومِ عَلَى بِرْذَوْنٍ، يَقُولُ: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ.فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ:" مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ عُقْدَةً حَتَّى يَنْقَضِي أَمَدُهَا أَوْ يُنْبِذُ إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ " (1).
والروايات عن حفظ العهود - مهما تكن المصلحة القريبة في نقضها - متواترة مشهورة.
وقد ترك هذا القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز. وهو يرغب ويرهب، وينذر ويحذر ويجعل العهد عهد اللّه، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلا هزيلا، وما عند اللّه على الوفاء عظيما جزيلا: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .. ويذكر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل، وما عند اللّه باق دائم: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ»،ويقوي العزائم على الوفاء، والصبر لتكاليف الوفاء، ويعد الصابرين أجرا حسنا «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيئ، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه.
وبمناسبة العمل والجزاء، يعقب بالقاعدة العامة فيهما: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. فيقرر بذلك القواعد التالية: أن الجنسين: الذكر والأنثى. متساويان في قاعدة العمل والجزاء، وفي صلتهما باللّه، وفي جزائهما عند اللّه. ومع أن لفظ «من» حين يطلق يشمل الذكر والأنثى
__________
(1) - شعب الإيمان [6/ 201] (4049) صحيح
تهيأ للأمر: تأهب له وأعد نفسه لمزاولته =البرذون: يطلق على غير العربي من الخيل والبغال وهو عظيم الخلقة غليظ الأعضاء قوي الأرجل عظيم الحوافر =نبذ: أعلن نقض العهد وألقاه إلى من عاهده = السواء: المساواة في العلم(1/252)
إلا أن النص يفصل: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» لزيادة تقرير هذه الحقيقة. وذلك في السورة التي عرض فيها سوء رأي الجاهلية في الأنثى، وضيق المجتمع بها، واستياء من يبشر بمولدها، وتواريه من القوم حزنا وغما وخجلا وعارا! وأن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة يرتكز عليها. قاعدة الإيمان باللّه «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء، وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
والعقيدة هي المحور الذي تشد إليه الخيوط جميعا، وإلا فهي أنكاث. فالعقيدة هي التي تجعل للعمل الصالح باعثا وغاية. فتجعل الخير أصيلا ثابتا يستند إلى أصل كبير. لا عارضا مزعزعا يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل.
وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال باللّه والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة .. وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند اللّه. وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة.
وأن هذا الأجر يكون على أحسن ما عمل المؤمنون العاملون في الدنيا، ويتضمن هذا تجاوز اللّه لهم عن السيئات. فما أكرمه من جزاء!.!. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2190](1/253)
التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن
لا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن: إن «هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها» التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها، هي «مكة» وطن المهاجرين، الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها. ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه!
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة اللّه ومنهجه وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم، وعذبوا في عقيدتهم .. بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم «دار حرب» .. دار حرب، هم لا يدافعون عنها، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها ..
إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة اللّه فيه وأرضه التي يدفع عنها هي «دار الإسلام» التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة .. وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي، تنضح به الجاهليات، ولا يعرفه الإسلام. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1056](1/254)
القيمة الأولى في الحياة هي قيمة الإيمان
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 69 - 77] ..
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: «ما تعبدون؟».
«قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ»! وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبىء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم! ويأخذ إبراهيم - عليه السّلام - يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير: «قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟» فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه! ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير: «قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» ..(1/255)
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم - على حلمه وأناته - إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! «قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون. (1).
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم - عليه السّلام - من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه «فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه» وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة .. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في اللّه، ولا تقوم صلة بين
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2602](1/256)
فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2604](1/257)
رابطة العقيدة مقدمة على رابطة الأبوة
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 13 - 15] ..
وإنها لعظة غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين. مرة بتقديم النهي وفصل علته. ومرة بإنّ واللام .. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد - صلى الله عليه وسلم - على قومه، فيجادلونه فيها ويشكون في غرضه من وراء عرضها ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه اللّه الحكمة من الناس يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه .. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة. ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ..
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه. فالفطرة مدفوعة إلى(1/258)
رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها اللّه وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّى الذاهب في أدبار الحياة، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما. وهذه الصورة الموحية: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» ترسم ظلال هذا البذل النبيل. والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق .. عن سَعِيدَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ.
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ (1).
هكذا .. ولا بزفرة .. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر اللّه المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات، فيجيء شكر اللّه أولا ويتلوه شكر الوالدين .. «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» .. ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» حيث ينفع رصيد الشكر المذخور.
ولكن رابطة الوالدين بالوليد - على كل هذا الانعطاف وكل هذه الكرامة - إنما تأتي في ترتيبها بعد وشيجة العقيدة. فبقية الوصية للإنسان في علاقته بوالديه: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. فإلى هنا ويسقط واجب الطاعة، وتعلو وشيجة العقيدة على كل وشيجة. فمهما بذل الوالدان من جهد ومن جهاد ومن مغالبة ومن اقناع ليغرياه بأن يشرك باللّه ما يجهل ألوهيته - وكل ما عدا اللّه لا ألوهية له فتعلم! - فهو مأمور بعدم الطاعة من اللّه صاحب الحق الأول في الطاعة.
__________
(1) -الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (11) صحيح(1/259)
ولكن الاختلاف في العقيدة، والأمر بعدم الطاعة في خلافها، لا يسقط حق الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة: «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» فهي رحلة قصيرة على الأرض لا تؤثر في الحقيقة الأصيلة: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» من المؤمنين «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» بعد رحلة الأرض المحدودة «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ولكل جزاء ما عمل من كفران أو شكران، ومن شرك أو توحيد.
روي أن هذه الآية نزلت هي وآية العنكبوت المشابهة وآية الأحقاف كذلك في سعد بن أبي وقاص وأمه (كما قلت في تفسيرها في الجزء العشرين في سورة العنكبوت).وروي أنها نزلت في سعد بن مالك (1).
ورواه الطبراني في كتاب العشرة - بإسناده - عن داود بن أبي هند. والقصة في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص (2).وهو الأرجح. أما مدلولها فهو عام في كل حال مماثلة، وهو يرتب الوشائج والروابط كما يرتب الواجبات والتكاليف. فتجيء الرابطة في اللّه هي الوشيجة الأولى، ويجيء التكليف بحق اللّه هو الواجب الأول. والقرآن الكريم يقرر هذه القاعدة ويؤكدها في كل مناسبة وفي صور شتى لتستقر في وجدان المؤمن واضحة حاسمة لا شبهة فيها ولا غموض .. (3)
__________
(1) -قلت: سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص ...
(2) -صحيح مسلم- المكنز [16/ 38] (6391) وقد مر سابقا
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2789](1/260)
وجوب الهجرة إذا تعرضت العقيدة للخطر
قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (99) سورة الصافات ..
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شي ء، طارحا وراءه كل شي ء، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! (1)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء ..
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة .. لذلك يرسم هذا المشهد .. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية ..
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2994](1/261)
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم .. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا: «قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟» ..
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع! ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جوابا كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة.
«قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ» .. كنا مستضعفين. يستضعفنا الأقوياء. كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا. وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة .. فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم. بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة:
«قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟!» ..
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان .. إنما كان هناك شيء آخر .. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام. ويمسكهم في الضيق وهناك أرض اللّه الواسعة. والهجرة إليها مستطاعة مع احتمال الآلام والتضحيات.
وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة: «فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً» ..
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر والتعرض للفتنة في الدين والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال فيعلقهم بالرجاء في عفو اللّه ومغفرته ورحمته. بسبب(1/262)
عذرهم البين وعجزهم عن الفرار: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين، وفي بيئة معينة .. يمضي حكما عاما يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها. متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة اللّه، ويستمتع بهذا المستوي الرفيع من الحياة ..
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها وتشفق من التعرض لها. وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا. فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل اللّه وبضمان اللّه للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجرا في سبيله. ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج: «وَمَنْ يُهاجِرْ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ - يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ - فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (1) ..
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:"كَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ضَمْرَةُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ لأَهْلِهِ: اخْرِجُونِي مِنْ مَكَّةَ، فَإِنِّي أَجِدُ الْحَرَّ. فَقَالُوا: أَيْنَ نُخْرِجَكَ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ يَعْنِي. فَمَاتَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 327] (5921) صحيح
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ:"هَاجَرَ خَالِدُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَنَهِشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً " قَالَ الزُّبَيْرُ: وَكُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ وَأَنْتَظِرُ قُدُومَهُ وَأَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَمَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ حُزْنِي وَفَاتُهُ حِينَ بَلَغَنِي، لأَنَّهُ قَلَّ أَحَدٌ مَنْ هَاجَرَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلا مَعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ أَوْ ذِي رَحِمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَلا أَرْجُو غَيْرَهُ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 328] (5922) صحيح
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَزَلَتْ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " الآيَةَ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 328] (5923) صحيح
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ بْنِ الْعِيصِ الزَّرْقِيِّ الَّذِي كَانَ مُصَابُ الْبَصَرِ وَكَانَ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:" " إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً " فَقُلْتُ: إِنَّنِي لَغَنِيُّ وَإِنِّي لَذُو حِيلَةٍ، قَالَ: فَتَجَهَّزَ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " ".تفسير ابن أبي حاتم [4/ 329] (5924) صحيح مرسل(1/263)
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة اللّه سبحانه وتعالى ..
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها «في سبيل اللّه» .. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل اللّه - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» ..
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. واللّه يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل اللّه .. إنه سيجد في أرض اللّه منطلقا وسيجد فيها سعة. وسيجد اللّه في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه ..(1/264)
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل اللّه .. والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة إنما هو حتم محتوم عند ما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة ... والمنهج يراعي هذا ويعالجه. فيعطي ضمانة اللّه بوقوع الأجر على اللّه منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى اللّه ورسوله: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ - فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ..
أجره كله. أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام .. فماذا بعد ضمان اللّه من ضمان؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب. وهذا فوق الصفقة الأولى.
«وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».إنها صفقة رابحة دون شك. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى اللّه ورسوله - والموت هو الموت. في موعده الذي لا يتأخر. والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة.
ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده. ولخسر الصفقة الرابحة. فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة. بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه! وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير! ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبار ات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات:
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل اللّه والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد .. اللهم إلا من عذرهم اللّه من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ..
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني .. وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا. لولا ما ورد في(1/265)
حديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،وَإِقَامِ الصَّلاَةِ،وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ،وَالْحَجِّ،وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (1).
ولكن قوة التكليف بالجهاد وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات. وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس. ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد. وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ويقود المجتمع المسلم ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى اللّه. (2)
آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام، متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد، أولئك بعضهم أولياء بعض .. والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة، ولم يدينوا بعد للقيادة ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد .. وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره .. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك .. هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات، كما
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [1/ 19] (8) وأخرجه الحماعة المسند الجامع [10/ 5] (7164)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 744](1/266)
تصورها هذه النصوص الحاسمة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ .. فِي الدِّينِ .. فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ .. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر، كانت ولاية توارث وتكافل في الديات وولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة .. حتى إذا وجدت الدولة ومكن اللّه لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة، ورد اللّه الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم، داخل المجتمع المسلم ..
فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطا لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا، استمساكا بمصالح أو قرابات مع المشركين، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة .. وهؤلاء وأولئك أوجب اللّه على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية! ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبار ات الأساسية في تركيبه العضوي، وقيمه الأساسية. ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ومنهجه الحركي والتزاماته.(1/267)
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام .. وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمرا واحدا: هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق .. ولم يكن الناس - فيما عدا أفرادا معدودة فى فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود اللّه البتة إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق، أو يشركون مع اللّه آلهة أخرى: إما في صورة الاعتقاد والعبادة وإما في صورة الحاكمية والاتباع وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين اللّه، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد، ويرتدون إلى الجاهلية، التي أخرجهم منها، ويعودون إلى الشرك باللّه مرة أخرى .. إما في الاعتقاد والعبادة، وإما فى الاتباع والحاكمية، وإما فيها جميعا ..
هذه طبيعة الدعوة إلى اللّه على مدار التاريخ البشري .. إنها تستهدف «الإسلام» .. إسلام العباد لرب العباد وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم، إلى سلطان اللّه وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة .. وفى هذا جاء الإسلام على يد محمد - صلى الله عليه وسلم -،كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله .. جاء ليرد الناس إلى حاكمية اللّه كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هى السلطة التي تنظم وجوده فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله. بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم. فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع اللّه في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها وهم لا يملكون تغيير سنة اللّه بهم فى هذا كله كما أنهم لا يملكون تغيير سنة اللّه فى القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه. ومن ثم ينبغى أن يثوبوا إلى الإسلام فى الجانب الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة اللّه هى(1/268)
الحاكمة فى كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني (1).
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري .. هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام للّه وحده. والتي واجهها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بدعوته .. هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في «نظرية» مجردة. بل ربما أحيانا لم تكن لها «نظرية» على الإطلاق! إنما كانت متمثلة دائما في تجمع حركي. متمثلة في مجتمع، خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد.
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في «نظرية» مجردة، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية، ورد الناس إلى اللّه مرة أخرى، لا يجوز - ولا يجدي شيئا - أن تتمثل في «نظرية» مجردة. فإنها حينئذ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلا والمتمثلة في تجمع حركي عضوي، فضلا على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل، لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته. بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلا.
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة: «شهادة أن لا إله إلا اللّه». أي إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة
__________
(1) - يراجع بتوسع في هذه النقطة كتاب: «مبادئ الإسلام» للسيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان. كما يراجع فصل: «شريعة كونية» في كتاب «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/269)
والسلطان والحاكمية .. إفراده بها اعتقادا في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. فشهادة أن لا إله إلا اللّه، لا توجد فعلا ولا تعتبر موجودة شرعا إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجودا جديا حقيقيا يقوم عليه اعتبار قائلها مسلما أو غير مسلم ..
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية .. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى اللّه، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند أنفسهم بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم اللّه فيها ليتبعوه .. وحكم اللّه هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه وهو رسول اللّه .. وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: «شهادة أن محمدا رسول اللّه».
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجا كاملا للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية، في داخل دار الإسلام وخارجها في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى (1)
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في «نظرية» مجردة ليعتنقها من يعتنقها اعتقادا ويزاولها عبادة ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفرادا ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلا. فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى «وجود فعلي» للإسلام.
لأن الأفراد «المسلمين نظريا» الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتما للإستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية. سيتحركون طوعا أو كرها، بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا .. أي أن الأفراد «المسلمين نظريا» سيظلون يقومون «فعلا» بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون «نظريا» لإزالته وسيظلون
__________
(1) - يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/270)
خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى، وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي، لإقامة المجتمع الإسلامي! ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى .. لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه. وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية اللّه وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية، من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة.
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا. لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملا عضويا - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه. ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه، وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي. ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي.
وهكذا وجد الإسلام .. هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع .. ولم يوجد قط في صورة «نظرية» مجردة عن هذا الوجود الفعلي ..(1/271)
وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى .. ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان، بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية.
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي - على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع (1) - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة، في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا وعلاقاته مع الذين آمنوا ولم يهاجروا وعلاقاته مع الذين كفروا ..
إنها كلها تقوم على أساس ذلك الفقه بطبيعة النشأة العضوية الحركية للمجتمع الإسلامي.
ونستطيع الآن أن نواجه هذه النصوص والأحكام الواردة فيها.
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ - إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
لقد انخلع كل من قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه في مكة من الولاء لأسرته، والولاء لعشيرته، والولاء لقبيلته، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد .. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا، إلى «مجتمع» متكافل، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
__________
(1) - ص 1431 - 1452 من الجزء التاسع.- دار الشروق(1/272)
ثم لما فتح اللّه للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وحماية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول اللّه فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة .. وكان حكم اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة، وأولياء في الإرث، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا .. لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة اللّه وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة اللّه ويحقق فيها وجوده الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة، أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل اللّه لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ، إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..(1/273)
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية .. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولا، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي .... وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..
والتعقيب على هذا الحكم: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه، ومقدماته ونتائجه، وبواعثه وآثاره.
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد، فكذلك المجتمع الجاهلي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي، تندفع أعضاؤه، بطبيعة وجوده وتكوينه، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما .. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام(1/274)
وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير، ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة، يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض، وتبعة هذا الفساد الكبير.
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .. أولئك هم المؤمنون حقا .. فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان .. هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين .. إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ولا بمجرد اعتناقها ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها .. إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي، إلا إذا تمثل في تجمع حركي .. أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي، لا يصبح (حقا) إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية ..
وهؤلاء المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم .. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله .. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم. بل هي أكرم الرزق الكريم.
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» ..
ولقد ظل شرط الهجرة قائما حتى فتح مكة حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض(1/275)
ألفا ومائتي عام تقريبا لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة اللّه وسلطانه .. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية وارتفع حكم اللّه - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها ... (1)
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم كل شيء، فارين إلى اللّه بدينهم، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى، وذخائر المال، وأسباب الحياة، وذكريات الطفولة والصبا، ومودات الصحبة والرفقة، ناجين بعقيدتهم وحدها، متخلين عن كل ما عداها. وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة، واستيلائها على القلب، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة. وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول اللّه تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» .. كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى. فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت، وظل آخرون فيها على الشرك. فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم. ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية.
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة.
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة، تغطي على كل العواطف والمشاعر، وكل الأوضاع والتقاليد، وكل الصلات والروابط. لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة فتقوم بينها مقام الدم والنسب، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة. لا بنصوص التشريع، ولا بأوامر الدولة ولكن بدافع داخلي ومد
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1554](1/276)
شعوري. يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية. وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع.
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة. إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار. وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس، وطيب خاطر، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة! وآخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد. وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها. وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة. بل بما هو أكثر. وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها.
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها. وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية.
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما، مستعدة للفيضان. لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي، وللنظام العادي، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة.
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار، ووجود أسباب معقولة للارتزاق، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا(1/277)
التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم .. عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة. ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية. فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب اللّه القديم وناموسه الطبيعي: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» ..
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم، بل على قرابة النفس!: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .. وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لجميع المؤمنين: «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .. وولاية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات اللّه وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ (1).
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» (2).
وفي الصحيح عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ».فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «الآنَ يَا عُمَرُ» (3).
__________
(1) -السنة لابن أبي عاصم 287 [1/ 12] (15) حسن لغيره
(2) -صحيح البخارى- المكنز [1/ 31] (14)
(3) -صحيح البخارى- المكنز [22/ 61] (6632)(1/278)
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوّع مشاعره، وراض نفسه، وخفض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه، فإن ملكه كمن في مشاعره، وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ولكنه يصعب عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها، أو عيبا لشيء من خصائصها، أو نقدا لسمة من سماتها، أو تنقصا لصفة من صفاتها. وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره!
والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون اللّه ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر (1) كما سماه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .. (2)
__________
(1) - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمٌ غُزَاةٌ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - " قَدِمْتُمْ خَيْرَ مَقْدَمٍ مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ قَالُوا: وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ؟ قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ ".وعَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ "الْجِهَادُ لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (11) صحيح -المجاهدة: الاجتهاد في طاعة الله وزيادة النوافل تقربا إليه سبحانه
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [5/ 2827](1/279)
يجب تقديم رابطة العقيدة على كل الروابط
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها اللّه تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة تبلغ إليه البشرية أحيانا، وتقصر عنه أحيانا، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوما في هذه الأرض.
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم اللّه، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة لأن اللّه الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير(1/280)
المتكرر، والصهر المتوالي .. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر اللّه، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة.
وكان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه - صلى الله عليه وسلم - حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين اللّه. بتوفيق اللّه. على يدي رسول اللّه.
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الإيمان باللّه وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان باللّه. والوقوف تحت راية اللّه. في حزب اللّه.
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه اللّه وحكمه، ويتجه إلى اللّه بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على اللّه، المتضمن كيانه نفحة من روح اللّه.
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض.
كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية .. وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور! وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج اللّه في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.(1/281)
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات! وكان اللّه يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا.
وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عمّ عليهم خبرنا» فعَنْ جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بنتُ الْحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاتَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، ثُمَّ قَامَ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ فِي مُتَوَضَّئِهِ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، وَنُصِرْتُ وَنُصِرْتُ، ثَلاثًا، قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ فِي مُتَوَضَّئِكَلَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، وَنُصِرْتُ نُصِرْتُ، ثَلاثًا، كَأَنَّكَ تُكَلِّمُ إِنْسَانًا فَهَلْ كَانَ مَعَكَ أَحَدٌ؟، قَالَ: هَذَا رَاجِزُ بني كَعْبٍ يَسْتَصْرِخُنُي، وَيَزْعُمُ أَنَّ قُرَيْشًا أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ بني بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُجَهِّزَهُ وَلا تُعْلِمُ أَحَدًا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُوهَا، فَقَالَ: يَا بنيَّةُ مَا هَذَا(1/282)
الْجِهَازُ؟، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، قَالَ: مَا هَذَا بِزَمَانِ غَزْوِ بني الأَصْفَرِ فَأَيْنَ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟، قَالَتْ: لا عِلْمَ لِي، قَالَتْ: فَأَقَمْنَا ثَلاثًا، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ بِالنَّاسِ فَسَمِعْتُ الرَّاجِزَ يَنْشُدُهُ:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا خِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلُدَا
إِنَّا وَلَدْنَاكَ فَكُنْتَ وَلَدًا ثَمَّةَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ تَنْزَعْ يَدًا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَ وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَزَعَمَتْ أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدًا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَلْبَدَا
وَادْعُ عَبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدًا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا
أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يُنَحِّي صُعُدًا لَوْ سِيمَ خَسَفَا وَجْهِهِ تَرَبَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:نُصِرْتُ، ثَلاثًا، أَوْ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثَلاثًا، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ نَظَرَ إِلَى سَحَابٍ مُنْتَصِبٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا السَّحَابَ لَيَنْتَصِبُ بنصْرِ بني كَعْبٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بني نَصْرِ بن عَدِيِّ بن عَمْرٍو أَخُو بني كَعْبِ بن عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنُصِرَ بني عَدِيٍّ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:تَرِبَ خَدُّكَ وَهَلْ عَدِيٌّ إِلا كَعْبٌ وَكَعْبٌ إِلا عَدِيٌّ، فَاسْتُشْهِدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي ذَاكَ السَّفَرِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِمْ خَبَرَنَا حَتَّى نَأْخُذَهُمْ بَغْتَةً، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى نَزَلَ مَرْوَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ قَدْ خَرَجُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَأَشْرَفُوا عَلَى مَرْوِ فَنَظَرَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى النِّيرَانِ، فَقَالَ: يَا بُدَيْلُ، لَقَدْ أَمْسَكَتْ بنو كَعْبٍ أَهْلَهُ، فَقَالَ: حَاشَتْهَا إِلَيْكَ الْحَرْبُ، ثُمَّ هَبَطُوا فَأَخَذَتْهُمْ مُزَيْنَةُ وَكَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحِرَاسَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِمْ إِلَى الْعَبَّاسِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَذَهَبُوا بِهِمْ فَسَأَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ، فَقَالَ: أَسْفِرُوا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ، فَابْتَدَرَ الْمُسْلِمُونَ وُضُوءَهُ يَنْضَحُونَهُ فِي وُجُوهِهِمْ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا(1/283)
الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكٍ وَلَكِنَّهَا النُّبُوَّةُ وَفِي ذَلِكَ يَرْغَبُونَ. (1)
وأخبر رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب.
فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع اللّه - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ". (2)
وقد روى البخاري ومسلم وعَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرَ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ».فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا الْكِتَابُ.فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ.فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ.فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ».قَالَ حَاطِبٌ وَاللَّهِ مَا بِى أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا».فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ.فَقَالَ «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ».فَقَالَ «لَعَلَّ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني [17/ 248] (19482) حسن لغيره، وقد جاء من حديث: المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 625 من طريق ابن إسحاق وصرح بالتحديث فإسناده حسن ...
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) [1/ 370] (1083) صحيح(1/284)
اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1).
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَافِعٍ - وَهُوَ كَاتِبُ عَلِىٍّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رضى الله عنه وَهُوَ يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا».فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ فَقُلْنَا أَخْرِجِى الْكِتَابَ. فَقَالَتْ مَا مَعِى كِتَابٌ. فَقُلْنَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا».قَالَ لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِى قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِى ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِى وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا وَلاَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِى وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «صَدَقَ».فَقَالَ عُمَرُ دَعْنِى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (2)
والوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن «ظلال القرآن» والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - القائد المربي العظيم
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على سر الحملة .. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها وأن لا عاصم إلا اللّه من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 341] (3983) وصحيح مسلم- المكنز [16/ 236] (6558)
(2) - صحيح مسلم- المكنز [16/ 235] (6557) -العقاص: جمع عقيصة أو عقصة وهى الضفائر(1/285)
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق لا تقولوا إلا خيرا» .. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: «إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.
فدعني فلأضرب عنقه» .. فعمر - رضي اللّه عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر اللّه وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح .. ذلك حين يقول: «أردت أن تكون لي عند القوم يد .. يدافع اللّه بها عن أهلي ومالي» .. فاللّه هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع اللّه بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدافع .. اللّه .. به عن أهله وماله» فهو اللّه حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع اللّه بها ..
ولعل حس رسول اللّه الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «صدق. لا تقولوا إلا خيرا» ..
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير اللّه في الحادث وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر اللّه بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم ... والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات(1/286)
فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن. كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف اللّه ليعلمهم اللّه ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر .. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء اللّه، ممن غضب عليهم اللّه، سواء من المشركين أو من اليهود. ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [6/ 3536](1/287)
ولادة المجتمع المسلم على أساس عقدي
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: «أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان اللّه ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى اللّه.
ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة للّه ولرسول اللّه ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة ..
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه .. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية اللّه للعالمين في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض (1)!
وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان .. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه للّه وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان ..
__________
(1) - يراجع في هذا الجزء التعليق على الآيات الأخيرة في سورة الأنفال ص 1555 - 1558.دار الشروق(1/288)
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودا في المجتمع العربي فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى وكان هذا النوع قليلا، فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار اللّه السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين ..
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا وَعَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فَالْتَقَوْا بِالْعَقَبَةِ فَقَالُوا: سَلْ لِرَبِّكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -:" أَسْأَلُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ " قَالُوا: فَمَاذَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -:" لَكُمُ الْجَنَّةُ " (1)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا جَاءَتِ الْأَنْصَارُ وَعَدَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ , فَأَتَاهُمْ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ تَكَلَّمُوا وَأَوْجِزُوا فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا " فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِكَ , فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:" أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , وَلِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ , وَلِأَصْحَابِي الْمُسَاوَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ " ثُمَّ خَطَبَ خُطْبَةً لَمْ يَخْطُبِ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ خُطْبَةً مِثْلَهَا قَالَ: فَمَا لَنَا قَالَ:" الْجَنَّةُ " قَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ بَايِعُكَ.ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فَقَالَ يَعْنِي أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ , إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ , فَإِمَّا
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي [4/ 26] (2325) صحيح(1/289)
أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَيْهَا إِذَا مَسَّتْكُمْ وَقُتِلَ خِيَارُكُمْ وَمُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ , وَإِمَّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ , فَقَالُوا يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنْهُ يَدَكَ فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا , قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشَرْطِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ. (1)
قال ابن كثير في التفسير: وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ -:اشترط لربك ولنفسك ما شئت! فقال:"أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم".قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال:"الجنة".قالوا: رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية. (2)
ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول اللّه هذه البيعة ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم وأنهم لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، أَوْ مِنْ مِصْرَ، كَذَا قَالَ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلاَمَ قُرَيْشٍ، لاَ يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلاَمِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الإِِسْلاَمَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطْرَدُ فِي
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي [4/ 232] (2540) صحيح لغيره - هذان من عندي
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة [4/ 218] وتفسير الطبري - مؤسسة الرسالة [14/ 499] (17270) صحيح لغيره(1/290)
جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً (1) حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، علاَمَ نُبَايِعُكَ، قَالَ: تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ، لاَ تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الإِِبِلِ إِلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ أَعْذَرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لاَ نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلاَ نَسْلُبُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْنَا، وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ. رواه الإمام أحمد (2)
فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة .. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها .. فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة ..
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء .. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم .. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد اللّه بن أبيّ بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في
__________
(1) - المحقق أنهم اثنان وسبعون: ولكن العرب كثيرا ما تحذف الكسر!
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) [5/ 85] (14456) 14510 والمستدرك للحاكم مشكلا [4/ 15] (4251) صحيح(1/291)
الإسلام ولا انطبعوا بطابعه .. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة ..
ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر .. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية .. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة .. نذكر منها على سبيل المثال:
«كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (1) ... (الأنفال:5 - 8)
__________
(1) - يراجع تفسير هذه الآيات والملابسات التي أحاطت بنزولها في الجزء التاسع من الظلال ص 1479 - 1482 من الطبعة الثانية المنقحة.(1/292)
«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» ... (آل عمران:7 - 9)
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ... (الحشر:11 - 13)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ - وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ - إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ... إلخ» (الأحزاب:9 - 14)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ، فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ، فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» ... (النساء:71 - 73) «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ! قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ(1/293)
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ... » ... النساء:77 - 78)
«إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» .. (محمد:36 - 38).
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيء، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ. اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ... (المجادلة:14 - 22).
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْ الماْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ،يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا(1/294)
بِاللَّهِ وَحْدَهُ. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيء، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ... (الممتحنة:1 - 4).
وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض .. نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة ..
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ومن المترددين كذلك والمتهيبين وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين .. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد ..
نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقدية ذاتها فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها .. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها.
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. (التوبة:100).(1/295)
عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرْثَدٍ وَالزُّبَيْرَ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ».فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا الْكِتَابُ.فَقَالَتْ مَا مَعَنَا كِتَابٌ.فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ.فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ».قَالَ حَاطِبٌ وَاللَّهِ مَا بِى أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِى عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِى وَمَالِى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا».فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِى فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ.فَقَالَ «أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ».فَقَالَ «لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ... أخرجه البخاري (1).
وكان هذا رد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - على عمر - رضي اللّه عنه - وقد استأذن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة).
«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (الفتح:18 - 19).
«لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ... (الحديد:10).
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز [13/ 341] (3983)(1/296)
عَنْ أَنَسٍ،قَالَ:كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلاَمٌ،فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ:تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا،فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ:دَعُوا لِي أَصْحَابِي،فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ،أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ،ذَهَبًا،مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ. " (1).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:وَقَعَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سِبَابٌ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي،فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ عَمَلَ صَاحِبِهِ،وَلاَ نَصِيفَهُ. (2)
وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.
ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقدي، والنفاق .. من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزا قويا دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك - فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) [4/ 679] (13812) 13848 وصحيح مسلم- المكنز [16/ 348] (6652) -النَّصيف:النصف
(2) - فضائل الصحابة لعبد الله بن أحمد 290 [1/ 365] (535) صحيح - زيادة مني(1/297)
الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها! ... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائيا فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير ... كان ذلك إيذانا بدخول الناس في دين اللّه أفواجا، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن اللّه الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة .. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ..
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة: «التوبة»: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» ..
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من «الطلقاء» الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة آلاف - سببا في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.(1/298)
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة .. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.
ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح عند ما قبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فارتدت الجزيرة العربية كلها ولم يثبت إلا مجتمع المدينة - القاعدة الصلبة الخالصة - فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها .. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين اللّه بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قبض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار وأن ترده عن مجراه الجارف وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى ..
إن رؤية هذه الحقيقة - على هذا النحو - كفيلة بأن ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة - في أول الأمر - وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل! لقد كان اللّه سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة.
وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل اللّه على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي ... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى ..
إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في(1/299)
فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي.
وأخيرا فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
إن هذه الحقيقة - كما أنها ترينا تدبير اللّه الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية - هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.
إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيا ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ما حق يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن اللّه - سبحانه - هو الذي يتكفل بهذا لدعوته. فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرّض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر وقللهم وبطأ الناس عنهم حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة .. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده - سبحانه - واللّه غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2114](1/300)
الكفار لا عهد لهم ولاذمة
قال تعالى: «كَيْفَ؟ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم. ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم، وفي غير ذمة يرعونها لكم أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم! فهم لا يرعون عهدا، ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها. فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم، لو أنهم قدروا عليكم. مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة. فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم! .. وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد. فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد وتأبى أن تقيم على العهد فما بهم من وفاء لكم ولا ود! «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم، وإضمار عدم الوفاء بعهودكم، والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم .. إنه الفسوق عن دين اللّه، والخروج عن هذاه. فلقد آثروا على آيات اللّه التي جاءتهم ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته. وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئامن مصالحهم أو أن يكلفهم شيئا من أموالهم! فصدوا عن سبيل اللّه بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات اللّه. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم (فسيجيء أنهم أئمة الكفر) .. أما فعلهم هذا فهو الفعل السيئ الذي يقرر اللّه سوءه الأصيل:
«إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ!» ..(1/301)
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم .. إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم .. إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها .. للإيمان ذاته .. كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين، على مدار التاريخ والقرون .. فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل: «وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» .. وكذلك قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكتاب بتوجيه من ربه: «قل: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللّه؟» وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين: «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».فالإيمان هو سبب النقمة، ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن، ولا يراعون فيه عهدا ولا يتذممون من منكر: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم .. تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه وتنتهي بالوقوف في وجهه وتربصهم بالمؤمنين وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة، إذا هم ظهروا عليهم وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم، ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم .. وهم آمنون .. !
ثم يبين اللّه كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك. لا يقعدهم عهد معقود، ولا ذمة مرعية، ولا تحرج من مذمة، ولا إبقاء على صلة .. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل، يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل، ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم! هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي بالإضافة إلى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج اللّه الذي يخرج(1/302)
الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة اللّه وحده، وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد .. يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من اللّه سبحانه، بهذا الحسم الصريح: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .. «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..
فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون، وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء. وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة ويصبح المسلمون الجدد إخوانا للمسلمين القدامى ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب! «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
فهذه الأحكام إنما يدركها ويدرك حكمتها الذين يعلمون وهم المؤمنون.
وإما نكث لما يبايعون عليه من الإيمان بعد الدخول فيه، وطعن في دين المسلمين. فهم إذن أئمة في الكفر، لا أيمان لهم ولا عهود. وعندئذ يكون القتال لهم لعلهم حينئذ أن يثوبوا إلى الهدى .. كما سبق أن قلنا:
إن قوة المعسكر المسلم وغلبته في الجهاد قد ترد قلوبا كثيرة إلى الصواب وتريهم الحق الغالب فيعرفونه ويعلمون أنه إنما غلب لأنه الحق ولأن وراءه قوة اللّه وأن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما أبلغهم من أن اللّه غالب هو ورسله. فيقودهم هذا كله إلى التوبة والهدى. لا كرها وقهرا، ولكن اقتناعا بالقلب بعد رؤية واضحة للحق الغالب. كما وقع وكما يقع في كثير من الأحايين. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2171](1/303)
موقف المشركين من المؤمنين عبر التاريخ العداء المستحكم
إن علينا أن نتتبع موقف المشركين - على مدى التاريخ - من المؤمنين. ليتكشف لنا المدى الحقيقي لهذه النصوص القرآنية ولنرى الموقف بكامله على مدار التاريخ:
فأما في الجزيرة العربية فلعل ذلك معلوم من أحداث السيرة المشهورة. ولعل في هذا الجزء من الظلال وحده ما يكفي لتصوير مواقف المشركين من هذا الدين وأهله منذ الأيام الأولى للدعوة في مكة حتى هذه الفترة التي تواجهها نصوص هذه السورة.
وحقيقة إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي تصوره آيات هذا المقطع من السورة: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً! يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين. فأما أهل الكتاب فندع الحديث عنهم إلى موعده في المقطع الثاني من السورة وأما المشركون فقد كان هذا دأبهم من المسلمين على مدار التاريخ ..
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ختم بهذه الرسالة. وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين اللّه على الإطلاق فإن أبعاد المعركة تترامى ويتجلى الموقف على حقيقته كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء! ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم صلوات اللّه وسلامه والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم ..(1/304)
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ما يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟ .. إنهم لا يرقبون فيهم إلّا ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الصادق الخالد ..
عند ما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ «البداية والنهاية» لابن كثير فيما رواه من أحداث عام 656 ه: ثمّ دخلت سنة ستّ وخمسين وستّمائة. فيها أخذت التّتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتّى الخليفة، وانقضت دولة بني العبّاس منها.
استهلّت هذه السّنة وجنود التّتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللّذين على مقدّمة عساكر سلطان التّتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمدد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكلّ ذلك خوفا على نفسه من التّتار، ومصانعة لهم- قبّحهم اللّه تعالى-،وقد سترت بغداد ونصبت المجانيق والعرّادات وغيرها من آلات الممانعة الّتي لا تردّ من قدر اللّه- سبحانه وتعالى- شيئا، كما ورد في الأثر (لن يغني حذر عن قدر)،وكما قال تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ (نوح/ 4)،وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (الرعد/ 11)،وأحاطت التّتار بدار الخلافة يرشقونها بالنّبال من كلّ جانب حتّى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولّدة تسمّى عرفة، جاءها سهم من بعض الشّبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا، وأحضر السّهم الّذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب، إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم.
ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرّجال والنّساء والولدان والمشايخ والكهول والشّبّان، ودخل كثير من النّاس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أيّاما لا يظهرون، وكان الجماعة من النّاس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التّتار إمّا بالكسر وإمّا بالنّار، ثمّ يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتّى تجري الميازيب من الدّماء في الأزقّة، فإنّا للّه وإنّا إليه(1/305)
راجعون. وكذلك المساجد والجوامع والرّبط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذّمّة من اليهود والنّصارى (1) ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقميّ الرّافضيّ وطائفة من التّجّار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها كأنّها خراب ليس فيها إلّا القليل من النّاس، وهم في خوف وجوع وذلّة وقلّة، وكان الوزير العلقميّ قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الدّيوان، فكانت العساكر في آخر أيّام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثمّ كاتب التّتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرّجال، وذلك كلّه طمعا منه أن يزيل السّنّة بالكلّيّة، وأن يظهر البدعة الرّافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميّين، وأن يبيد العلماء والمفتين، واللّه غالب على أمره، وقد ردّ كيده في نحره، وأذلّه بعد العزّة القعساء، وجعله (حوشكاشا) للتّتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرّجال والنّساء والأطفال، فالحكم للّه العليّ الكبير، ربّ الأرض والسّماء.
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب ممّا جرى على أهل بغداد كما قصّ اللّه تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا (الإسراء/ 4 - 5) الآيات. وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصّلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرّب بيت المقدس بعدما كان معمورا بالعبّاد والزّهّاد والأحبار والأنبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.
__________
(1) - ذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة!) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها وممن دلّوا على عورات المدينة، وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقضوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الأمن والحماية.(1/306)
وقد اختلف النّاس في كمّيّة من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرّم، وما زال السّيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم باللّه أمير المؤمنين يوم الأربعاء، رابع عشر صفر وعفّي قبره، وكان عمره يومئذ ستّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدّة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيّام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العبّاس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثمّ قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرّحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثّلاث: فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، واللّه أعلم، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.
وقتل أستاذ دار الخلافة الشّيخ محيي الدّين يوسف ابن الشّيخ أبي الفرج ابن الجوزيّ، وكان عدوّ الوزير، وقتل أولاده الثّلاثة: عبد اللّه، وعبد الرّحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدّولة واحدا بعد واحد، منهم الدّيودار الصّغير مجاهد الدّين أيبك، وشهاب الدّين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السّنّة وأكابر البلد. وكان الرّجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العبّاس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشّاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشّيوخ مؤدّب الخليفة صدر الدّين عليّ بن النّيّار، وقتل الخطباء والأئمّة، وحملة القرآن، وتعطّلت المساجد والجمعات والمدارس والرّبط مدّة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقميّ قبّحه اللّه- ولعنه، أن يعطّل المساجد والمدارس والرّبط ببغداد، ويستمرّ بالمشاهد ومحالّ الرّفض، وأن يبني للرّافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره اللّه تعالى على ذلك بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا- واللّه أعلم- بالدّرك الأسفل من النّار.
ولمّا انقضى الأمر المقدّر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلّا الشّاذّ من النّاس، والقتلى كأنّها التّلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صورهم(1/307)
وأنتنت من جيفهم البلد، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشّديد حتّى تعدّى وسرى في الهواء إلى بلاد الشّام، فمات خلق كثير من تغيّر الجوّ وفساد الرّيح، فاجتمع على النّاس الغلاء والوباء والفناء والطّعن والطّاعون، ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى." (1) إلخ إلخ.
هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة. فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟
كلا! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن هذه الصورة! ..
إن ما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد .. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا بالطريق .. طلعت عليهم العصابات الهندية الوثنية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش، بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة، لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد! ..
أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الاتفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف .. ودخل
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم [11/ 5721] والبداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع [13/ 235]
قلت: وما فعله أعداء الإسلام اليوم في العراق وغيرهما من بلدان المسلمين أدهى وأمر أيضا(1/308)
القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية يسمى (ممر خيبر) .. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار! .. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة، القطار في النفق. ولم تسمح له بالمضي في طريقه إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء! .. وصدق قول اللّه سبحانه: «كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمة» .. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟ .. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا .. بمعدل مليون في السنة .. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق .. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. وفي هذا العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يغطي على بشاعات التتار .. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام. وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية (التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!!) فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته .. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات! كذلك فعلت يوغسلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم. وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين رجالا ونساء في «مفارم» اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجينة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن!!! وما يجري في يوغسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية .. الآن .. في هذا الزمان .. ويصدق قول اللّه سبحانه: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً؟». «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
إنها لم تكن حالة طارئة ولا وقتية في الجزيرة العربية. ولم تكن حالة طارئة ولا وقتية في بغداد .. إنها الحالة الدائمة الطبيعية الحتمية حيثما وجد مؤمنون يدينون بالعبودية للّه وحده ومشركون أو ملحدون يدينون بالعبودية لغير اللّه. في كل زمان وفي كل مكان.(1/309)
ومن ثم فإن تلك النصوص - وإن كانت قد نزلت لمواجهة حالة واقعة في الجزيرة، وعنت بالفعل تقرير أحكام التعامل مع مشركي الجزيرة - إلا أنها أبعد مدى في الزمان والمكان. لأنها تواجه مثل هذه الحالة دائما في كل زمان وفي كل مكان. والأمر في تنفيذها إنما يتعلق بالمقدرة على التنفيذ في مثل الحالة التي نفذت فيها في الجزيرة العربية، ولا يتعلق بأصل الحكم ولا بأصل الموقف الذي لا يتبدل على الزمان .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2173](1/310)
التجرد لله والخلوص لدينه
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها، هي قمة التجرد للّه، والخلوص لدينه.
وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة. وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج اللّه الذي يجعل الناس كلهم عبيدا للّه وحده، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض .. وهما منهجان لا يلتقيان .. ولا يتعايشان ..
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها لا يملك إنسان أن يقوّم الأحكام الإسلامية، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2189](1/311)
لا فرق بين أهل الكتاب وغيرهم من المشركين في عدائهم للمسلمين
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم .. ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماما وجه الجاهلية! ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب (ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم، كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم «مسلمين») ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيرا من البيان في هذه السورة، نظرا للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك. حيث قال اللّه - سبحانه - للمؤمنين: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ».
«أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟ أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ..
«ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ».
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .... إلخ ... إلخ ...(1/312)
وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة - وأمرهم ظاهر - نظرا لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة .. فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق. تستهدف - أول ما تستهدف - تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك «اللافتة» الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية .. مشركين كالمشركين .. كفارا كالكفار .. محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين .. ضلالا يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه .. في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللَّهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ .. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... إلخ» ..
وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة - في السور المكية والمدنية على السواء - عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل فضلا على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة، التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان.
فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلا في قوله تعالى: «قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ .. وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ». (المائدة:68).(1/313)
كذلك سبق وصفهم بالكفر، وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة .. يهودا ونصارى .. أو مجتمعين في صفة «أهل الكتاب» في مثل قوله تعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ! غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ... » ... (المائدة:64).
«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... » ... (المائدة:72) «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ... » ... (المائدة:73) «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» .. «البينة:1».
وغيرها كثير، أثبتنا بعضه فيما تقدم، والقرآن الكريم - مكيّه ومدنيّه - حافل بمثل هذه التقريرات.
وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين. وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين، وإجازة التزوج بالمحصنات (أي العفيفات) من نسائهم .. فإن ذلك لم يكن مبنيا على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق ولكن كان مراعى فيه - واللّه أعلم - أن لهم أصلا من دين وكتاب - وإن كانوا لا يقيمونه - فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له .. أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين، فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم! وفي قول اللّه - سبحانه - فصل الخطاب في هذا الموضوع! والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين ..
إن هذه «اللافتة» المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة، تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة «الجاهلية».فتتحتم - إذن - إزالة هذه اللافتة وتعريتهم من ظلها الخادع وكشفهم على حقيقتهم الواقعة .. ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك - والتي أشرنا إليها من قبل - سواء منها ما يختص بالتكوين(1/314)
العضوي لهذا المجتمع يومها، وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة! وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب - قبل الإسلام - من هيبة وسمعة ومخافة! .. ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة، عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل .. وهم أهل كتاب!!!
وأعداء هذا الدين، الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية، وبتاريخ الحركة الإسلامية، على السواء .. وهم من أجل ذلك حريصون - كل الحرص - على رفع «لافتة إسلامية» على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعا. ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة «الجاهلية» الحقيقة القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة! لقد أخطأوا - مضطرين - مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها .. وأقرب مثال لذلك حركة «أتاتورك» اللاإسلامية الكافرة في تركيا .. وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة. ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام «الخلافة» .. وهو - وإن كان مجرد مظهر - كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة!
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا: الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ (1).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفِلَسْطِينِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، يَقُولُ: لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامُ عُرْوَةً عُرْوَةً , وَلَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ , لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ , وَلَا يُخْطَأُ بِكُمْ , حَتَّى يَكُونَ أَوَّلَ نَقْضِكُمْ مِنْ عُرَى الْإِيمَانِ الْأَمَانَةُ , وَآخِرَهَا الصَّلَاةُ وَحَتَّى
__________
(1) - صحيح ابن حبان [15/ 111] (6715) صحيح(1/315)
يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا أَصْبَحَ فِينَا مُنَافِقٌ وَلَا كَافِرٌ , وَإِنَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَقًّا حَقًّا , وَذَلِكَ بِسَبَبِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ , حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِهِ " (1)
ولكن أولئك الأعداء الواعين - من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة «أتاتورك» حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة «أتاتورك» في وجهتها الدينية، بستار الإسلام ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطرا على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة - ويفتنون افتنانا في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصاديا وسياسيا وفكريا ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديما ولا حديثا يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين! والسذج ممن يدعون أنفسهم «مسلمين» يخدعون في هذه اللافتة .. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن «الجاهلية» القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة .. صفة الشرك والكفر الصريحة ..
ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة! بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة
__________
(1) - السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْفِتَنِ لِلدَّانِي >> بَابُ مَا جَاءَ فِي فَقْدِ الْأَمَانَةِ وَالصَّلَاةِ >> (274) وتهذيب الآثار للطبري [7/ 71] (2002و2003) حسن لغيره
العروة: ما يُستمسك به ويُعتصم من الدين وأحكامه وشرائعه =الحيض: جمع الحائض وهي التي ينزل الدم من رحمها في أيام معلومة من كل شهر = حذوَ الشيء: في موازاته ومقابلته ومساواته = القذة بالقذة: المراد أنهم يسيرون على نهج واحد ولا يختلفان ويتبع بعضهم بعضا(1/316)
لحركات البعث الإسلامي كما تقوم حاجزا دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين (1).
هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين! إن هذا الدين يغلب دائما عند ما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان -.والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامنا في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة! إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعا! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف وإظهارها على حقيقتها .. شركا وكفرا .. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة. بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون! وكل تحرج في غير موضعه وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعا وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة «أتاتورك» في التاريخ الحديث وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة. نظرا لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح .. مما دعا كاتبا صليبيا
__________
(1) - راجع كتاب: «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق».(1/317)
شديد المكر عميق الخبث مثل «ولفرد كانتول سميث» في كتابه: «الإسلام في التاريخ الحديث» إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى، ونفي الإلحاد عنها، واعتبار ها أعظم وأصح حركة بعث «إسلامي» (كذا) في التاريخ الحديث!!! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2247](1/318)
وجوب قتال الكفار لكفرهم
وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية - بعد ما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه - وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه ..
وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ..
وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي .. يعرض السياق مشهدا من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموجبات الإيمان القلبية، وبالتكاليف والواجبات العملية. ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات، ولا تعظهم النذر والابتلاء ات: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ. أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ؟ وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ..
ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته. مع توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتماد على اللّه وحده، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ».
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض - وفقا للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال - لتقرير حدود اللّه(1/319)
والمحافظة عليها أي لتقرير حاكمية اللّه للعباد، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية! ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات اللّه وشريعة اللّه في هذا الزمان وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود الدفاع الإقليمي عن «أرض الإسلام»! بينما كلمات اللّه - سبحانه - تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون «أرض الإسلام» هذه من الكفار دون ذكر لأنهم معتدون! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية اللّه - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير اللّه. وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد! (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2326](1/320)