إتحاف الخطيب والسامع
من خطب الجوامع
(جمعة – عيد – استغاثة)
تأليف الشيخ
فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح
(رحمه الله)
جمع وترتيب
ناصر بن محمد بن عبدالمحسن الفريح
طبع هذا الكتاب على نفقة
أم سهيل
ح فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح، 1427هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الفريح، فريح بن محمد بن عبدالمحسن
خطب الجمعة/ فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح – الرياض، 1427هـ
242 ص، 16.5(24 سم
ردمك: ؟ – ؟؟؟ – 47 – 9960
1– الخطابة 2– الوعظ والإرشاد أ. العنوان
ديوي: ؟؟؟؟ ... ... ... ؟؟؟؟/1427هـ
1427هـ/2006م
حقوق الطباعة مشاعة للجميع
مع الإشارة للمصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
المحتويات
م ... الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... 9
ترجمة موجزة للمؤلف ... 11
تأملات في سورة العصر ... 17
الأعمال الصالحات سبب للنجاة ... 22
الموت ومحاسبة النفس ... 26
محاسبة النفس مع مرور الأعوام ... 33
الحث على التوبة ... 39
فضل التوبة ... 45
فضل العلم ... 49
قصة نوح دروس وعبر ... 52
فضل العلم وتعليمه ووصية للمعلمين ... 58
أقسام القلوب ... 62
من أسباب انشراح الصدر ... 66
الإيمان بالملائكة وثماره ... 73
المحبة من الإيمان ... 77
الطهارة ... 81
عناية الإسلام بأمر الطهارة ... 84
أهمية الخشوع في الصلاة ... 89
م ... الموضوع ... الصفحة
بالشكر تدوم النعم ... 95
من الهدي النبوي ... 99
حفظ اللسان ... 104
وسائل الثبات على دين الله ... 109
فضل الذكر ... 114
موقف من مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 119
فضل القرآن في شهر رمضان ... 126
أضرار الحسد ... 129
آثار الأعمال الصالحة ... 133
مكفرات الذنوب ... 138
زيادة الإيمان ونقصانه ... 142
فضل كلمة التوحيد ... 145
سيرة الصديق - رضي الله عنه - ... 151
من وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 157
الحث على صلة الرحم والتحذير من القطيعة ... 161
توجيهات لطالب العلم ... 165(1/1)
دعوة إلى الزهد ... 171
حقوق المسلمين على بعضهم ... 175
فضل القرآن الكريم ... 181
توجيهات رمضانية ... 185
وداع رمضان ... 188
من أحكام الصيام ... 193
م ... الموضوع ... الصفحة
فضل القرآن الكريم وتدبره ... 199
توديع رمضان واستقبال العيد ... 204
خطبة عيد الفطر ... 208
دوام الأعمال الصالحة ... 215
التفكر في قصر الحياة ... 218
دروس من قصة موسى.. وفضل عاشوراء ... 222
فضل عشر ذي الحجة (1) ... 227
فضل عشر ذي الحجة (2) ... 232
فضل عشر ذي الحجة (3) ... 237
وصايا في عشر ذي الحجة ... 241
خطبة عيد الأضحى ... 246
استغاثة (1) ... 252
استغاثة (2) ... 257
استغاثة (3) ... 263
الملاحق ... 267
أ) نماذج من كتاباته ... 269
ب) مراثٍ نثرية ... 287
ج) مراثٍ شعرية ... 305
- - -(1/2)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، أمر بالتذكير، وأخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، والمبلغ عن ربه البلاغ المبين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فهذه خطب منبرية من خطب أخي الشقيق الشيخ فريح بن محمد الفريح – رحمه الله – كتبها بيده وألقى أغلبها في جامع بلدة السمار التابعة لمركز الذيبية بالقصيم، وجدتها مبثوثة مع أوراقه وكتاباته في مكتبته الخاصة، وقد رأيت جمعها وترتيبها وعنونتها ونشرها ليستفيد منها – رحمه الله – إذا نُشرت بين الناس وخصوصاً الخطباء؛ لأنها من العلم الذي ينتفع به ولا ينقطع بموته.
ثم ليستفيد منها من اقتناها وقرأها، أو خطب بها أو سمعها، ولعل جامعها لا يحرم الأجر والثواب من فضل الله الواسع الوهاب، ومن راجعها ومن طبعت على نفقته، ومن تابع طباعتها وإخراجها.
وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه الخطب عدة أمور:
أولاً:تركيزها على الزهديات، وسبب هذا أن كاتبها كان ممن اتصفوا بتلك الصفة، ولأنها ألقيت في مجتمع يؤثر فيه ذلك النوع من الخطب، وهو مجتمع «الهِجَر»
ثانياً: أن عدد الخطب ثنتان وخمسون خطبة، وهذا من توفيق الله حيث زادت على عدد أسابيع العام، واشتملت على جميع المناسبات كالأعياد ورمضان والاستغاثة وعشر ذي الحجة والإجازات ونحوها.
ثالثاً: الخطب في غالبها قصيرة لا تتجاوز العشرين دقيقة، وكأنه – رحمه الله – يتأسى بمشائخه – رحمهم الله أجمعين – فقد كانت خطب شيخه محمد العثيمين كذلك، وقد نقل الشيخ فريح عن شيخه عبدالعزيز بن باز – رحمهما الله – في فوائد حديث «فضل عائشة على النساء ...» بتاريخ 16/12/1415هـ قال: وفيه أن تقصير الخطبة ليمكن حفظها وفهمها، وأنه لا بأس بإطالتها إذا دعت الحاجة.(2/1)
رابعاً: غالب الخطب لم تكتب لها المقدمات المعتادة، ولا الخاتمة اعتماداً على أنها معلومة لدى كل خطيب.. كما أن بعض الخطب الثانية لم تكتب كذلك ولعله – رحمه الله – كان يلقيها ارتجالاً.
وأخيراً: أشير إلى أني قد رأيت أن أفتتح هذا الكتاب بترجمة موجزة للمؤلف – رحمه الله – ليُقتدى بصالح عمله وحَسَنِ سيرته، وليكْثَر من الترحم عليه.
كما استحسنت ختم الكتاب بشيء يسير من كتاباته – رحمه الله – ومما كُتب عنه بعد وفاته نثراً وشعراً.
أسأل الله سبحانه أن يجعل العمل صالحاً مقبولاً وأن يعمَّ بنفعه الجميع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ناصر بن محمد بن عبدالمحسن الفريح
البكيرية، 1/1/1428هـ
- - -(2/2)
ترجمة موجزة للمؤلف
نسبه ومولده:
هو الشيخ فريح بن محمد بن عبدالمحسن بن محمد بن فريح بن فواز بن حمد بن فواز بن سلمي من ذرية فرج الحميضي من آل حماد بن الحارث من بني العنبر بن عمرو بن تميم "التميمي" العربي التميمي العنبري النجدي الحنبلي غفر الله له.
ولد في محافظة البكيرية فجر الثلاثاء 28 رمضان عام 1391هـ الموافق 16 نوفمبر عام 1971م(1).
وقد نشأ – رحمه الله – نشأة صلاح وتقى في بيت محافظ، يعظِّم أمر الصلاة، وصلة الأرحام، بعيد عن اقتناء الملاهي والمنكرات.
طلبه للعلم وشيوخه:
كان – رحمه الله – منذ صغره حريصاً على طلب العلم، ذا حافظة قوية، كثير القراءة، صارفاً أوقاته فيها، بعيداً عن صبوات الصغار والشباب من التعلق بالرياضة أو التسكع في الأسواق.
حفظ القرآن وهو في الخامسة عشرة من عمره، ولم ينسَه، كما كان كثير المراجعة له، وقد توفي وهو متقن له – شفعّه الله به –، ثم حفظ متوناً في العقيدة والفقه والحديث والعربية وغيرها.
أما شيوخه فقد رتبهم – رحمه الله – على النحو الآتي(2):
الوالد محمد بن عبدالمحسن الفريح – رحمه الله –، وكان ملازماً له منذ صغره، وأخذ عنه الفرائض والأنساب، وقرأ عليه كثيراً من الكتب منها: البداية والنهاية، وكان والده يصفه بالفقيه.
الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –، وقد لازمه ثماني سنوات وأخذ عنه الفقه وغالب العلوم، وقد استفاد منه علماً وسمتاً، وكان منتصراً لآراء شيخه الفقهية.
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي، وقد قرأ عليه في شروح الصحيحين سنوات، وكان الشيخ يفضل قراءته على سائر الطلاب.
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله –، وقد سمع منه الحديث في مكة المكرمة، أثناء دراسته للماجستير عام 1415هـ.
__________
(1) هكذا كتب نسبه وميلاده بخط يده في مذكراته اليومية – رحمه الله – .
(2) ذكرتهم مرتبين كما رتبهم في مذكراته – رحمه الله – .(3/1)
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله السبيل، وقد سمع منه وقرأ عليه أثناء إمامته لمسجد الخضيري سنوات عديدة.
الشيخ محمد بن علي البراك، وقد قرأ وحفظ عليه ألفية ابن مالك.
الشيخ كرم الله البلوشي، وقد قرأ عليه القرآن أكثر من مرة، وحفظ عليه كثيراً منه.
الشيخ عبيدالله الأفغاني، وقد قرأ عليه أجزاء من القرآن الكريم.
كما أنه تتلمذ على كتب كثير من كبار العلماء ممن لم يتسنَ له الجلوس إليهم، ومن أبرزهم الشيخ بكر أبوزيد، حيث قرأ غالب رسائله، والشيخ صالح الفوزان – حفظهم الله –.
قراءاته وسماعاته:
كان – رحمه الله – مكباً على القراءة مع كثرة أعماله الدعوية، واعتماد والديه عليه في أعمالهما. فكان كثير القراءة لكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله –، كما قرأ كتب محمد البشير الإبراهيمي، والطنطاوي، والطناحي – رحمهم الله – وغيرهم.
وكان يقرأ في الصحف للعشماوي والسماري ومحمد البشر والقنيبط، وتعجبه كتاباتهم، كما كانت تسوؤه كتابات بعض المنحرفين فكرياً.
أما البرامج التي تعجبه ويداوم عليها فهي نور على الدرب، وأطروحة على الهواء، وخطب الحرمين، ومن التسجيلات أشرطة الشيخ كشك – رحمه الله –.
أبرز صفاته وأعماله الخيرية(1):
__________
(1) وقد أوجزت فيها اعتماداً على ما ذكر من صفاته في المراثي آخر الكتاب.(3/2)
كان – رحمه الله – متواضعاً زاهداً في دنياه، ورعاً في معاملاته، ترك إكمال دراسة الماجستير لاشتراطهم التفرغ، وكان كريماً، كثير البذل، صدقة وضيافة ومشاركة في دعم الجميعات الخيرية حتى خارج المحافظة، حاضر النكتة، سريع البديهة، محبوباً من الصغار والكبار، كثير العبادة والمكث في المسجد، يعتكف في رمضان إلا رمضان الأخير تركه من أجل مرافقة أمه في المستشفى، وكان بها وبأبيه في غاية البر ويعتمدان عليه كثيراً بعد الله، وقد لازمهما وأخر زواجه من أجلهما، كما كان حريصاً على صلة أقاربه، مريضهم قبل صحيحهم، وفقيرهم قبل غنيهم، جامعاً لشباب الأسرة كل عام على نفقته، وقد استمروا على ما سنه لهم، وخطط لمشروع تيسير زواج شباب العائلة، فكان له ما أراد بعد وفاته.
اتجه بعد وفاة شيخه ابن عثيمين للعمل الدعوي، فعمل عضواً في مركز الدعوة والإرشاد سنوات ثم انتقل إلى جمعية التحفيظ فعمل فيها مشرفاً على حلق التلقين، وأسس حلقة الجامع الكبير لتعليم القاعدة النورانية، ونشرها في أكثر المناطق، كما كان يقيم العديد من الدروس والمحاضرات خارج المنطقة وداخلها.
ابتُلي فصبر حيث كان يراجع العديد من المستشفيات، وأجريت له عدة عمليات، ولم يشتكِ لأحد، ولم يخبر أحداً، سوى إخباره لي ضرورة قبل وفاته بيومين حيث كان له مراجعات في الرياض.
كان كثير التمثل بهذه الأبيات:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو أنهم عظموه في النفوس لعظّما
لا ألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ما زلت تدأب في التأريخ مجتهداً ... حتى رأيتك في التأريخ مكتوباً
دراسته النظامية وعمله:(3/3)
بدأ دراسته النظامية في مدارس تحفيظ القرآن الكريم حيث تخرج من الابتدائية عام 1403هـ، والمتوسطة عام 1406هـ، ثم انتقل لدراسة الثانوية في المعهد العلمي إذ لم تكن ثانوية التحفيظ قد فتحت وتخرج من الثانوية عام 1409هـ ثم التحق في كلية أصول الدين في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، وتخرج منها عام 1414هـ.
وبعدها التحق بجامعة أم القرى في مكة المكرمة لدراسة الماجستير وأنهى السنة المنهجية عام 1415هـ وبدأ بإعداد البحث الذي لم يكمله لاشتراطهم عليه التفرغ له.
وفي عام 1416هـ تم تعيينه معلماً في معهد الدوادمي العلمي وأمضى فيه سنتين ثم انتقل إلى معهد بريدة العلمي وبقي فيه حتى وفاته – رحمه الله –.
مؤلفاته:
ذكر – رحمه الله – في مذكراته أنه ألف بحثاً في كيفية حفظ القرآن الكريم، وكذلك المعجم المختصر لتراجم بعض المعاصرين، ولم أعثر عليهما، وقد ذكر أنه أعارهما بعض الأصحاب.
وكذلك له شرح لمنظومة القواعد والأصول للشيخ عبدالرحمن السعدي – رحمه الله –.
ومن مؤلفاته هذا الكتاب وهو خطبه المنبرية التي كتبها بيده، وألقاها بنفسه خلال سنوات عديدة في جوامع متفرقة.
وفاته:
كان له – رحمه الله – موعد ليغادر هذه الدنيا، الساعة الواحدة والنصف من ظهر يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر شوال عام 1425هـ، وهو في طريق عودته من عمله في بريدة من طريق المطار وقع له حادث تصادم مع سيارة أخرى فقضى قبل أن يصل إلى مستشفى البكيرية.
وقد صُلي عليه في الجامع الكبير في البكيرية بعد صلاة العشاء من ذلك اليوم، ودفن في المقبرة الجنوبية في البكيرية.
وكان قد دعا بعض أقاربه خارج المنطقة قبل وفاته بيومين ليكونوا قرب والدته التي كانت ترقد في العناية المركزة، وكأنه يشير إلى قرب وفاتها ليدركوا الصلاة عليها، فكان أن أدركوا الصلاة عليه، وعاشت بعده قرابة ستة أشهر – رحمهما الله –.(3/4)
وقد رئيت له منامات صالحة فقد رآه عدد من أقاربه وأصحابه – بعد وفاته – حياً يتحدث معهم، أما أخص أصحابه فقد رأى – قبل وفاته – أن مئذنة في البكيرية قد تهاوت، وتساءل هل يمكن أن يعاد بناؤها؟
كما رُثي بالعديد من المراثي(1).
غفر الله له وأسكنه فسيح جناته.
- - -
__________
(1) انظر بعضاً من تلك المراثي في الملاحق آخر الكتاب.(3/5)
تأملات في سورة العصر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين.
( - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - ( } - } - - - - ( - - - المحتويات ( - ( - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - - ( { - (((( قرآن كريم } تم بحمد الله صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( تمهيد ( فهرس - { - (( - - - (( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( - - - (( ( - - صلى الله عليه وسلم -( - - ( - - - - - جل جلاله - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - عليه السلام - - ( قرآن كريم - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -(((- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - ( - ( - - (((( ( - ( - ( - (( - (( - ( - - - (( مقدمة ( - - عليه السلام - - ( قرآن كريم - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - ( - - ( } - قرآن كريم ( مقدمة - رضي الله عنه - - ((- عليه السلام - - ( - - ( - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( - ( - - رضي الله عنهم - - - - - ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - ( - - - (((( ( (يونس: 57 – 58).(4/1)
أيها الناس: أنزل الله هذا القرآن لهداية البشرية وإخراجها من الظلمات إلى النور؛ ليرحمهم سبحانه وتعالى بذلك، جعله موعظة يتعظ بها أولو العقول الرشيدة، والأنفس المطمئنة، هذا القرآن أعظم كتاب أنزله الله، وأشرف كتاب، من حكم به عدل، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، المتمسكون به هم الناجون يوم القيامة، السعداء في الدنيا والآخرة، المنصورون على من عاداهم، لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من عاداهم، حتى يأتي أمر الله، قيل: من هم يا رسول الله قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ولقد أخبرت عائشة – رضي الله عنها – أن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، والله يقول: ( - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنهم -( - - - - ( - ( - - بسم الله الرحمن الرحيم - ((- رضي الله عنه -( ((( ( (القلم: 4).
أيها المسلمون: لئن كان القرآن بهذه المثابة فإن في تدبر آياته نفعاً عظيماً، وعزاً دائماً، وعلماً نافعاً، ولقد نعى الله على أقوام أنهم لا يتدبرون القرآن فقال: ( - - - (- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - ( الله - صلى الله عليه وسلم - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - قرآن كريم ( - ( - - - - رضي الله عنهم - - ( - - - (( - - صلى الله عليه وسلم - - (((( ( (محمد: 24)، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }.(4/2)
عباد الله: هذه وقفات مع سورة من كتاب الله عز وجل، سورة عظيمة، جمعت خيراً كثيراً، كان من عظمتها أن قال فيها الإمام الشافعي – رحمه الله ورضي عنه – «لو ما أنزل الله حجة على العباد إلا هذه السورة لكفتهم» فهي كافية في إلزامهم بالحق، وقيامهم بما أوجب الله عليهم، وترك ما حرمه عليهم، سورة أخبر الله فيها بخسار الناس جميعاً، لم ينج منهم أحد إلا من جمع أوصافاً أربعة جامعها هو الرابح الناجي، أتدرون ما هذه السورة وما هذه الأوصاف الأربعة: إنها سورة العصر يقول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أقسم الله فيها بالعصر، وهو الدهر والزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، وهو ميدان العاملين، ومضمار المتسابقين، ويختلف الناس فيه اختلافاً عظيماً،منهم من يعمل فيه بطاعة ربه ومولاه، وإصلاح نفسه وأمته، وهذا هو الفائز المفلح، ومنهم من يقطعه في معصية الله، إفساداً لنفسه وأمته، أو يذهب هدراً لا أفاد ولا استفاد، وهؤلاء هم الخاسرون، ما أقسم الله بهذا الزمان إلا لأهميته وعظيم منزلته، فيه تستغل الأوقات في طاعة الله، وبه يعين المسلمون بعضهم بعضاً، ويزداد المرء شرفاً وجاهاً عند الله وعند خلقه، «من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخطهم، رضي الله عنه وأرضى عليه الناس»، أقسم الله بهذا الزمان العظيم تنبيهاً لنا وحفزاً على استغلاله، والعمل فيه بمرضاة الله والتقرب إليه بكل ما تستطيع، أقسم به على كل إنسان فهو خاسر مهما كثر ماله وولده، إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة التي بها حياة القلوب والأبدان والبلدان.(4/3)
أحدها: الإيمان بالله، وبكل ما يقرب إليه سبحانه من عقيدة وعمل، إيمان يجعل تعلق الإنسان بربه وحده، لا رجاء ولا خوف ولا دعاء إلا له دون من سواه، عقيدة تسمو بنفس الإنسان وقلبه، حتى يصل به الحال أنه يعبد الله سبحانه، كأنه يراه أمامه، فيجعل الغيب شهادة والخفي ظاهر.
ثاني هذه الأوصاف: العمل الصالح المقرب إلى الله، يجمع بين الإخلاص لله فلا رياء ولا شرك {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» والله يقول: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ما أحوج الأمة في هذا الزمان إلى الإخلاص لله، واتباع سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في عصر تسلط فيه أعداء الله على عباده، ساموهم فيه سوء العذاب، وما ذاك إلا لبعد أهل الإسلام عن دينهم، ولن يرفع عنهم ذلك إلا بالرجوع إلى الله والتوبة إليه «ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة»، «ولا عز لنا إلا بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله».
وثالث هذه الأوصاف: التواصي بالحق، وهو فعل ما يقرب إلى الله والحث عليه والترغيب فيه. وليبدأ الإنسان بمن حوله من أقاربه وجيرانه.
ورابعها: التواصي بالصبر على فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه، والصبر على نواهيه، والصبر على قضاء الله وقدره، وهذا التواصي بالصبر وبالحق يدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوام الأمة وعزها، فهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بسبب هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.(4/4)
أيها المسلمون: تفكروا في هذه السورة وتأملوها، واعملوا بما فيها، آمنوا بالله ورسوله واعملوا صالحاً، تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وخذوا على يد الجاهل والسفيه، وليعن بعضكم بعضاً على طاعة الله، واعلموا أن من عمل عملاً صالحاً آجره الله، وكلل عمله بالنجاح والتوفيق، ولن تؤتوا إلا من قبل أنفسكم، فلن يتخلف النجاح إلا بنقص في أحد الأمرين: إما الإخلاص أو الاتباع، فالله قد وعدكم بالنصر والعزة، والله لا يخلف الميعاد، ومن أراد الله والآخرة بعمله أعطاه الله الدنيا والآخرة، ومن أراد الدنيا فقد يعطاها أو يحرمها وهو في الآخرة من الخاسرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء، وإليه ترجعون، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وله الحمد في السماوات والأرض، وعشياً وحين تظهرون، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، بديع السماوات والأرض، كل له قانتون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الأمين المأمون، اللهم صلِّ عليه، وعلى آله وأصحابه الذين هم فيما عند الله راغبون.(4/5)
عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، فإن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، واعلموا أنكم غدا ًبين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مجزيون، وعن أفعالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها المسلمون: تناصحوا وتواصوا بالحق، وليعن بعضكم بعضاً على طاعة الله سبحانه، فلن يبقى للإنسان إلا ما قدم من مال أو قول أو عمل، ولقد كان بعض الصحابة يلقى بعضاً فيقولون: اذهب بنا نؤمن ساعة، فيذكرون الله سبحانه، وقال السلف: كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر لما فيه من أوصاف المفلحين.
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على البشير النذير...
O y o
الأعمال الصالحات سبب للنجاة
الحمد لله رب العالمين، أمر بطاعته وأخبر أنها سبب النجاة والسرور، ونهى عن معصيته، وأخبر أنها سبب للهلاك والشرور.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.(4/6)
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، ولازموا الأعمال الصالحة، وأكثروا من فعل الطاعات، فإنها سبب للنجاة من المهلكات، العاجلة والآجلة، يقول تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ }، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»، يعني أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرف إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فإذا وقع في شدة فإن الله ينجيه منها، فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإغاثة في حال شدته، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
أيها المسلمون: يروى أن يونس عليه السلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة: يا رب هذا صوت معروف، من بلاد غريبة، فقال الله عز وجل: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومن هو؟ قال: عبدي يونس قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قال: نعم قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال: بلى قال: فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء.
وقال الضحاك: اذكروا الله في الرخاء، إن يونس كان يذكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.
وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت. فقال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }.(4/7)
أيها المسلمون: إن أعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت، وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...}، فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعد حينئذ للقاء ربه عز وجل، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها وأعانه وثبته على التوحيد، وتوفاه وهو راضٍ عنه، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعد للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه تركه، وأعرض عنه ولم يعنه إذا وقع فيها.(4/8)
وانظروا حفظني الله وإياكم إلى نجاة أهل التقوى والأعمال الصالحة في هذه الواقعة العجيبة التي أخبر بها أصدق الخلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته قال: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آوهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما فجلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه، وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي، فراودتها على نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها؛ اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك – من الإبل والبقر والغنم والرقيق –، فقال: يا عبد الله لا تستهزأ بي فقلت لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئاَ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» فالأول منهم توسل إلى الله ببره بوالديه، وأنه كان لا يؤثر عليهما أهلاً ولا مالاً،(4/9)
والثاني توسل إلى الله بعفافه عن الفاحشة، وتركه إياها بعد ما قدر عليها خوفاً من الله عز وجل، والثاني توسل إلى الله بأداء حق الأجير، وحفظ الأمانة، ففرج عنهم الشدة لما دعوه بصالح أعمالهم.
عباد الله: الأعمال الصالحة تكون سبباً للنجاة من المهالك في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ولهذا أهلك الله عز وجل أعداء الرسل كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشياعهم، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحداً، وأهلك الكافرين ولم يفلت منهم أحداً، فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على دينكم الذي به نجاتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، ولا تضيعوه فتهلكوا، فإن كثيراً من الناس قد غرقوا في المعاصي والمحرمات، وهؤلاء إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب لا يحصلون على النجاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
O y o
الموت ومحاسبة النفس
الحمد لله الذي يبدي ويعيد، خلق السماوات والأرض بالحق وهو على كل شيء شهيد،جعل الشمس ضياء، والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وهو العزيز الحميد.(4/10)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، رفع الله به أعلام التوحيد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وأصحابه أولي الرأي السديد، والعمل الرشيد، والتابعين لهم بإحسان من سائر العبيد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المزيد، أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فالأعمار تُطوى، والأجيال تُفنى، والآجال تقضى، كم من الناس من عاش معنا بالأمس، عاجله أجله قبل اليوم، وكم من الناس من يعيش معنا اليوم لن يمهله أجله إلى الغد.
عباد الله: ها نحن هذا اليوم نستقبل عاماً هجرياً جديداً، بعد أن ودعنا عاماً مضى بالأمس، فماذا ادخرنا فيما مضى؟ وماذا أعددنا لما نستقبل؟ هل ادخرنا في صحفنا ما يسرنا أن نراه فيها غداً؟ أم ادخرنا غير ذلك؟!(4/11)
في استقبال عام وتوديع آخر لابد أن يعلم كل إنسان ويستقر في قلبه أن الدنيا دول، يوم لك ويوم عليك، وأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأن الإنسان لا يعلم ما في القدر، {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } ولئن كان الكافر يعيش حياته كالبهيمة، يحيا لدنياه ويموت لها، لا يرجو جنة ولا ناراً، ولا جزاء ولا شكوراً، فإن المسلم يحيا لآخرته، ودنياه تبع لأخراه، وأمله متعلق بالله عز وجل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وليعلم الإنسان أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار الجزاء ولا عمل فيها، فيخلص لله عز وجل، والعمر قصير والأيام تطوى، وعمله سيلاقيه عند لقاء ربه، {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}، أي إنك ساعٍ إلى ربك سعياً، وعامل عملاً فملاقيه، ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، فيجازيك الله على عملك ويكافئك على سعيك، في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال جبريل يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» رواه أبو داود الطيالسي.(4/12)
أيها المسلمون: إن السعيد من حاسب نفسه قبل الموت على أعماله في هذه الحياة، هل سلك بأعماله طريق الجنة أم زاغت به نفسه الأمارة بالسوء إلى طريق الجحيم، هل قدّم مراد الله على مراد النفس والهوى، أم قدم هوى نفسه على أوامر الله ورسوله، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر»، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه.
عباد الله: ها أنتم الآن في دار المهلة، فماذا أعددتم لما بعدها؟ وهل حاسبتم أنفسكم على أعمالها؟ وهل وقفتم معها موقف الناقد المحاسب الذي يسأل عن كل ما أمامه؟ فإن رأى خيراً أمضاه، وإن رأى غير ذلك رجع إليه وأصلحه، لنقف مع أنفسنا هذه الوقفات القليلة، لعل الله أن يصلح حالنا ومآلنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا.
الوقفة الأولى: أنه يجب على المسلم أن يكون متجهاً إلى ربه في كل عمل يعمله، فهو الذي يجازي الناس بأعمالهم، وهو الفعال لما يريد، والله سبحانه لا يجازي الناس بصورهم وأجسامهم، وإنما يجازيهم بأعمالهم في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وإذا علم الله من عبده حب الخير، والحرص عليه، وفقه له وقواه عليه ويسره له، ثم اعلم أن طاعة الله سبحانه وتعالى مقدمة على طاعة كل أحد، ورضاه مقدم على رضا كل أحد، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» والناس عبيد الله، والعبد لا ينفك عن طاعة مولاه، وامتثال أمره واجتناب نهيه.(4/13)
الوقفة الثانية: إنه ينبغي لكل عاقل أن ينظر في أقرانه وأحبائه وأهل بلده، كيف اختطفهم الموت من بين يديه، لم تغنهم أموالهم، ولا قوتهم، ولا كثرة أولادهم، ولو جُعل الخلد لأحد لكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله عنه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، ويقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ }، ولحرص الشاب على هذه النظرة، فالشاب يغره شبابه وقوته، ويطول به الأمل حتى يأخذه الموت على غرة، يقول ابن الجوزي – رحمه الله –: عجبت للشاب، كيف يطول به الأمل، أوما علم أن من يأخذه الموت من الشباب، أكثر ممن يأخذه من الشيوخ، قال: وانظر إلى من حولك، كم فيهم من معمِّر؟ أين البقية؟ لقد ماتوا شباباً، ولئن عشت وطال بك العمر، وهرمت فلن تكون في هرمك كشبابك، ستضعف القوة وتكثر الأمراض، وتشغلك الأعمال وكثرة الأولاد، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك». والسعيد يا عباد الله من استعد لما أمامه وجعل حياته ذخراً لمماته واعتبر بالماضين ونظر في أحوال السابقين.(4/14)
الوقفة الثالثة: الوقت هو رأس المال، وهو ميدان العمل، ومرتع الطاعة والمعصية، فحافظ على وقتك، واقضه في طاعة الله عز وجل، فما مضى لن يعود، والغد غائب لا تدري أتدركه أم لا، وإن خير ما قضيت به الأوقات الإيمان بالله سبحانه، والعمل الصالح فهو الذخر والباقي لابن آدم، ولقد حثنا الله على استغلال هذا الزمان لما يقرب إليه فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... } قال الشافعي رحمه الله:لو لم ينزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، وإن أعظم ما يفقده المسلم في هذه الأزمان المحافظة على الوقت واستغلاله في طاعة الله عز وجل
يقول ابن الجوزي – رحمه الله تعالى –: «رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو قراءة كتاب لا يفيد، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار في الأسواق، قال: فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم وما عندهم خبر».
فاتقوا الله عباد الله والزموا طريق السلف الصالح في المحاسبة والعمل، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له نصلي ونسجد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، رسول لا يكذب، وعبد لا يُعبد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما دعا الله داع وتعبد، وسلم تسليماً كثيراً
أيها الناس: اتقوا الله فتقوى الله عليها المعوّل، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول.(4/15)
عباد الله: محاسبة النفس تحقق للإنسان السعادة والعزة في الدنيا والآخرة، أليس إذا حاسب نفسه انشغل بنفسه عن الآخرين، فأصلح نفسه وراقبها، وشغلته عيوبه عن عيوب الناس، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» رواه الترمذي
وإذا كان هذا هو حال المحاسب نفسه، فإن ذلك يثمر له محبة الله ورضوانه، فالله يحب المتقين ويرضى عنهم، يقول الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، وبهذا يبتعد الإنسان عن مزالق الشيطان، ولا يجد الشيطان إليه طريقاً، ومحاسبة النفس دليل على خوف الله عز وجل وتقواه، ومن خاف من الله أسرع في السير إليه، ومن أسرع إلى الله وصل إلى الله، وفي الحديث: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» ثم اعلموا يا عباد الله، أن هذا الشهر شهر الله المحرم، يستحب كثرة الصيام فيه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»، فاغتنموا عامكم بطاعة الله عز وجل، لعلَّ الله أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله ...
O y o
محاسبة النفس مع مرور الأعوام
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، أحمده سبحانه إليه الرجعى والمآب: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الوهاب، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، سيد أولي الألباب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وسلم تسليماً كثيراً..(4/16)
أيها الناس: اتقوا الله، وتفكروا في مرور الليالي والأيام، وأن كل ساعة تمر لا تعود إلى يوم القيامة، وإنما هي مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة فمن عمل فيها خيراً فليحمد الله، وليزدد منه، ومن فعل غير ذلك فليراجع نفسه، وليخف ذنبه، فإنكم راجعون إلى الله، وموقوفون بين يديه، وسيوضع الكتاب بين أيديكم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وستجدون أعمالكم حاضرة أمامكم، ولا يظلم ربك أحداً، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ...} الآية.
عباد الله: بالأمس ابتدأ هذا العام، وكل منا ينظر إلى نهايته على أنها بعيدة، فما هو إلا أن قيل قد انقضى العام، وآذن بالزوال، وهكذا الأعمار تطوى، والأيام تمضي، فماذا فعل الإنسان فيها؟ وبماذا قضاها، يقول أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: «إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد خفي عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا»، وفي الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، فانظر يا عبدالله كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح يهيئ جهازه للرحيل.
أيها المسلمون: ها أنتم في آخر جمعة من هذا العام، وستبدؤون بعد أيام قلائل عاماً جديداً فكم ودعتم في العام الماضي من عزيز عليكم؟ وكم ولد لكم فيه من الأولاد؟ وكم افتقر فيه من الأغنياء؟ واغتنى فيه من الفقراء؟ وهكذا الدنيا لا تدوم على حال، يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.(4/17)
وإن كثيراً من الناس ليفرح ببداية العام، ويسر بها، وما درى هذا المسكين أن بداية العام محسوبة من عمره، وأن العام القادم شر من العام الماضي، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم»، وفي الحديث الآخر: «ما من عام إلا وينقص الخير فيه ويزيد الشر». إن كل الناس موقنون بالموت، مسلمهم وكافرهم، ذكرهم وأنثاهم، ما من أحد منهم يحدث نفسه بالخلود، لكن الفرق بيننا وبين الكفار أن الكفار لا يرجون جنة، ولا يخافون ناراً، ولا بعثاً ولا نشوراً، ونحن مؤمنون موقنون بذلك وأن مرجعنا إلى الله وأن الكفار هم أصحاب النار، وموقنون أن كل صغير وكبير مستطر، وأنا مجزيون بأعمالنا؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
فكونوا أيها المسلمون كما قال أمير المؤمنين عمر: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله»، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }.
تذكروا بنهاية العام نهاية الدنيا، وإذا كانت منتهية وزائلة فهي هينة وضيعة، لا ينبغي للعاقل أن يتعب نفسه خلفها وفي البحث عن ملذاتها، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وتذكروا ببداية العام الدار الآخرة، فهي حياة جديدة، ودار الأبد، ومستقر العمر، والحياة التي لا نهاية لها ولا انتهاء، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فطوبى لمن شغلته أخراه عن دنياه، ويا سعادة من كان مستقبل عمره خيراً من ماضيه، والويل والخسران لمن كان غير ذلك.(4/18)
وإن في الماضين من الأمم لعبرة للمعتبرين، وفي الأموات من الآباء والأجداد لذكرى للمتذكرين، فأين المشمرون إلى الله والدار الآخرة، وأين الذين يبدؤون بأنفسهم، فيصلحونها ويعيدونها إلى دين الله ومرضاته، فلوا أن كل إنسان أصلح نفسه لصلح أمر الدين والدنيا.
وإن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، وليست التوبة مجرد قول اللسان دون عمل، بل الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، والتوبة ندم على ما مضى من العيوب، وإقلاع عن الذنوب، وإنابة إلى علام الغيوب.
وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ رجلاً فقال: «اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»، هذه موعظة لاغتنام أوقات القوة والنشاط قبل أن ينزل على الإنسان وقت الفترة والضعف، وقلة النشاط، ومن أصلح نفسه وحفظها على أمر الله سبحانه أصلح الله حاله، وحفظه في دنياه وأخراه.
فاجعلوا الموت نصب أعينكم، وأكثروا من ذكره، وزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة، فلقد كانت هذه حال السلف، فقد قال بعضهم: ما نمت نومة فحدثت نفسي أني أستيقظ منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
بارك الله لي ولكم ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله يبدي ويعيد ذي العرش المجيد، وهو فعال لما يريد، أمر عباده بالتوحيد، وحذرهم عقابه يوم الوعيد.(4/19)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الرأي الرشيد، والقول السديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وعودوا إلى ربكم، فإن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى مراجعة أمرها والعودة إلى كتاب ربها، فقد مرت عليها في السنين الماضية أحداث جسام هزت كيانها، وأبعدتها عن مصدر عزتها وكرامتها.
بموت علمائها نقصت في علمها ودعوتها، وكم مات في الأعوام الماضية من إمام وعالم، كانوا أركاناً للملة، وأعلاماً للهدى، ونجوماً يهتدى بها، وإن الله لا ينزع العلم انتزاعاً من صدور الرجال، وإنما يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
تسلط الأعداء على ديار المسلمين بغزوهم في بيوتهم، وأماكن نزولهم، بإرسال الفساد عليهم عبر كل وسيلة يستطيعونها، ليبعدوا الأمة عن دينها، ثم تسلطهم على الديار بالحروب في كثير من بلاد المسلمين، وهم لا يرضون منا إلا اتباع دينهم، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}.
فهل من عائد إلى الله؟ وهل من قاصد لثوابه وجنته؟ وهل من مستنصر به؟ فالنصر قريب {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
وإن في شهر الله المحرم لذكرى لنصر الله للمؤمنين على الكافرين، فأروا الله من أنفسكم خيراً ينجز لكم ما وعدكم.
ثم صلوا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك..
O y o
الحث على التوبة
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه، كتب على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح أن يغفر له ويرحمه، مهما بلغت ذنوبه وعظمت عيوبه.(4/20)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبة عبده وهو غني عنه، وعبده يعرض عنه وهو فقير إليه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان يتوب إلى ربه ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا ربكم وتوبوا إليه من ذنوبكم، ولا تقنطوا من رحمته مهما بلغت ذنوبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها، كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنكم ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة» رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
عباد الله: هذا حديث عظيم تضمن أموراً ثلاثة تحصل بها المغفرة:
الأمر الأول: الدعاء مع الرجاء، وهو في قوله: «إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» ففيه أنه لابد من الجمع بين الدعاء ورجاء الإجابة فلو دعا دون رجاء لم يستجب له، لأن ذلك قنوط من رحمة الله، والقنوط من رحمة الله ضلال، كما قال تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ}، وإن رجا دون دعاء لم ينفعه هذا الرجاء، لأنه لم يفعل السبب الذي يحصل به المطلوب، والله قد ربط الأمور بأسباب لابد من فعلها، ومن تركها كان عاجزاً مهملاً، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني».
وفي قوله تبارك وتعالى: «غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي» بيان سعة مغفرة الله، وأنه مهما كثرت ذنوب العبد فإن الله يغفرها له، ولا يتعاظم كثرتها لأنه سبحانه لا يتعاظمه شيء ما دام العبد قد أتى سبب المغفرة.(4/21)
أما من يكثر من الذنوب، ويترك التوبة اعتماداً على سعة مغفرة الله وعفوه، فإنه خاسر لأنه أمن مكر الله، والله تعالى يقول: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، ومكر الله هو استدراجه للعاصي ثم أخذه بالعقوبة على غرة وغفلة، قال الحسن البصري – رحمه الله –: «المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن».
الأمر الثاني مما تضمنه الحديث: بيان أن الاستغفار (وهو طلب المغفرة) لا يبقي من الذنوب شيئاً، بل يمحوها ولو كبر حجمها وبلغ ارتفاعها العنان وهو السحاب فإن الله يغفرها.
وقد أمر الله بالاستغفار في مواضع من كتابه، ومدح أهله، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، وتكفير خطاياهم، ولابد مع الاستغفار من عدم الإصرار على الذنب، بمعنى أن المستغفر يترك الذنوب المستغفر منها، فإن لم يتركها لم ينفعه الاستغفار، لأنه حينئذ يكون استغفاراً باللسان فقط، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ ...} الآية.
وللاستغفار ساعات يرجى قبوله فيها أكثر من غيرها كأداء الصلوات ووقت الأسحار، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}، وقال: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.(4/22)
وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على الله، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة كما ثبت في الصحيح عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وينبغي الإكثار من الاستغفار اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت عنه أنه قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، وينبغي أن يقرن الاستغفار بالتوبة فيقول: أستغفر الله وأتوب إليه، كما في هذا الحديث، وكما في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}، وذلك ليجمع بين الاستغفار باللسان والإقلاع عن الذنب بالقلب والجوارح وهذا معناه عدم الإصرار على الذنب.
واعلموا يا عباد الله أن الاستغفار سبب للخصب، جالب للبركة، مكثر للنسل، مبعد للعذاب، مفرج للهموم، منفس للكروب.
الأمر الثالث مما تضمنه هذا الحديث أن التوحيد هو الشرط الأعظم بل هو الأساس لمغفرة الذنوب، فمن فقده فقد المغفرة {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}، وفي هذا الحديث يقول الله تعالى: «يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة» وقراب الأرض ملؤها أو ما يقارب ملؤها.(4/23)
دل الحديث على أن الموحد ترجى له المغفرة ولو كثرت ذنوبه، فإن ما معه من التوحيد يكفر الله به الذنوب مهما عظمت ومهما كثرت، وهذا مقيد بمشيئة الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} أي ما دون الشرك لمن يشاء، ففيه فضل التوحيد وبيان ما يكفر من الذنوب وأن من لقي الله به ومات عليه فإنه ترجى له المغفرة، وفيه التحذير من الشرك، لأنه لا يغفر لصاحبه، ولو أتعب نفسه بالعمل ولسانه بالاستغفار، ولو أنفق ما في الدنيا فلن يقبل منه، ولن يغفر له ما دام على الشرك، ولكن ما هو الشرك الذي هذا خطره؟ إنه عبادة غير الله مع الله كعبادة الأصنام والقبور والاستعانة بالأموات، ودعائهم من دون الله، وطلب المدد منهم، والتوسل بهم، والظن بأنهم يقربون من الله زلفى، وكذا السحر فإنه مخرج من الملة، ولا يغفره الله سبحانه..
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى ووثقوا صلتكم به بطاعته، وفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، والإكثار من دعائه، فإنه لا غنى بكم عنه طرفة عين، وهو يأمركم بدعائه واستغفاره مع غناه عنكم، وأنتم تعرضون عنه مع فقركم وحاجتكم إليه، وهذا من عجائب هذا الإنسان.(4/24)
{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ }، أي لا يعرف إلا الساعة الراهنة التي هو فيها، فإن أصابته نعمة أشر وبطر، وإن أصابته محنة يئس وقنط، هذه طبيعة الإنسان إلا مَن مَنَّ الله عليه بالإيمان فإن المؤمن كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن»، وكذلك هذا الإنسان هو دائماً في حاجة إلى ربه، لكنه لا يدعوه تكبراً كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ...}، وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
وكذلك هذا الإنسان لا يستغفر ربه وهو محمَّل بالذنوب، ومعرض لعقوباتها، لكنه لا يستغفر إما لأنه أمن مكر الله، أو لأنه قانط من رحمة الله، كما قال تعالى عن المنافقين {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من دعائه واستغفاره، وأخلصوا له العبادة، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة...
O y o
فضل التوبة
الحمد لله الكريم الوهاب، الغفور التواب، خلق الناس من تراب، وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه يعودون إلى رب الأرباب.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة مؤمن بيوم الحساب، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة والكتاب، صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المآب.. أما بعد:(4/25)
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وخذوا من دنياكم لأخراكم، فإن أجسامكم على النار لا تقوى، وتواصوا بالحق، وليعنْ بعضكم بعضاً.
أيها المسلمون: توبوا إلى الله فإنه يحب التوابين، وتطهروا من الذنوب والمعاصي فإنه يحب المتطهرين، واستغفروا الله فإنه خير الغافرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
التوبة النصوح إخلاص لله، وإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وندم على فعلها، وعزم على عدم العودة إليها، ليست التوبة مجرد قول باللسان بأن يقول: الله تب علي وهو مصر على المعصية، أو يقول ذلك وهو عازم على العودة إلى المعصية، أو غير مبال بما سلف من الذنوب،لابد من تواطؤ القلب واللسان والجوارح على التوبة، يخاف ذنوبه الماضية، ويخشى أن تهلكه، ويذكر الله بلسانه، ويعمل بطاعة ربه بجوارحه، يسأل الله بقلب خاشع ولسان ضارع، أن يقبل منه وينجيه.
أيها المسلمون: أيأمن أحدكم الموت أن يفاجئه في أي وقت؟ أيأمن أحدنا مكر الله؟ أيأمن أحدنا عذاب الليل أن يأتي ليلاً أو نهاراً؟ إن أحداً من الناس لا يأمن ذلك، فما بالنا نسوف ونؤخر التوبة والرجوع إلى الله {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }.(4/26)
التوبة يا عباد الله لها وقت لابد أن تقع فيه، فإن تأخرت لم تنفع صاحبها، إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بروحه، فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }.
توبوا إلى الله قبل أن يفاجئكم الموت، وتذكروا نعم الله عليكم، اشكروه عليها، ولا تبارزوه بالمعاصي فتأمنوا مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
عباد الله: انظروا إلى من حولكم كيف حلت بهم المصائب والبلايا والنكبات بسبب بعدهم عن دين الله وطاعته، وليس ما أصابهم ببعيد عنكم إذا فرطتم، أفلا تخافون الله وتخشونه، أفلا تتوبون إلى الله وتستغفرونه، {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
ما بال القلوب قد قست، وأعرضت عن دين الله، تسمع المواعظ فلا تنتهي عن المعاصي، وتسمع داعي الله فلا تستجيب له، ولا تلبي نداءه، {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.(4/27)
إن أعظم عقوبة يصاب بها المرء قسوة القلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولقد عاب الله على أقوام قسوة قلوبهم، فقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
أيها الناس: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، واستعدوا للعرض الأكبر على الله، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
توبوا إلى الله فقد أمركم الله بها، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ورغبكم فيها {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} وإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي أفلح من زكَّى نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وخاب من دسَّاها بالمعاصي والذنوب..
أقول قولي هذا...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، على رغم أنف من جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر..
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه والتزموا أمره واجتنبوا نواهيه وتوبوا إليه واستغفروه لعلكم ترحمون.(4/28)
أيها الناس: التوبة واجبة من كل ذنب، صغير أو كبير، وكل الناس خطاء، وخير الخطائين التوابون، والله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
عباد الله: أروا الله من أنفسكم خيراً، فالله قريب مجيب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
هذا وصلوا...
O y o
فضل العلم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، فضل العلم على الجهل، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}، ورفع شأن العلماء وجعلهم هداة للعالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وقيّوم السماوات والأرض، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }.
عباد الله: العلم نور يضيء لصاحبه الطريق، ويدله على الصواب، ويهديه إلى جنات النعيم، به ساد الأولون أقوامهم، وبه ارتفع دين الله وبلغ الآفاق، هو تَركَة الأنبياء، لم يخلفوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
أجره مستمر بعد وفاة بني آدم «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
آثار العلم باقية مذكورة، وأفعال أهله مشكورة، لا يزال الناس يدعون لهم، ويثنون عليهم في حياتهم وبعد مماتهم.(4/29)
أيها الناس: لابد في طلب العلم من إخلاص النية لله لتحصل البركة، ولابد من العمل به، فالعلم يراد به العمل، لا المجادلة والمخاصمة، ولا يراد به المال والجاه، فهو أشرف من هذا، بل يراد به وجه الله سبحانه.
أيها الناس: في مثل هذا الوقت من كل عام يستعد أبناؤنا لدخول عام دراسي جديد يتزوّدون فيه علماً، ويزدادون به معرفة وفهماً، ولنا مع الآباء والأبناء نصائح وتوجيهات، أولها: تقوى الله سبحانه، فمن يتق الله يجعل له فرقاناً يفرق بين الحق والباطل، والضار والنافع، وإذا اتقى العبد ربه يسر الله له أموره. وعلى الآباء تقوى الله بتوجيه أبنائهم وإرشادهم، وعلى الأبناء تقوى الله بالحرص والجد والمثابرة.
وثاني هذه التوجيهات: أن على المتعلمين احترام معلميهم، وتقديرهم ورفع مكانتهم، وإن المتعلم اليوم معلم غداً، فليحب لمعلمه ما يحب لنفسه بعد حين.
وعلى المتعلم أن يجد ويجتهد من أول العام، حتى يدرك حظاً وافراً من العلم، ويتدرج به شيئاً فشيئاً حتى لا تتراكم عليه العلوم، وتكثر فيعجز عنها ويندم على ما فرط في أول الأمر.
وثالث هذه التوجيهات يا عباد الله: أن على المتعلم أن يعمل بما علم، فمن عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال السلف.
والعمل بالعلم مُثبت للعلم وحافظ له، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: «هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل».
أيها المسلمون: وإن أول ما ينبغي تعلمه وحفظه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهما العلم الباقي للعبد، وبهما تحصل خشية الله، ولهما الثناء المذكور للعلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} أي بشريعته.
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وفي القيامة يُقال لصاحب القرآن: «اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»، و«خيركم من تعلم القرآن وعلمه».(4/30)
هذا هو التوجيه والإرشاد، وقبل ذلك وبعده لابد من عناية الآباء بالأبناء، ومَن جلساؤهم، ومن أصحابهم، فإن المرء يُعرف بجليسه، وعليهم الدعاء لهم بالتوفيق والتثبيت، وأن يرزقهم الله العلم النافع والعمل الصالح.
سدد الله الخطى، وبارك في الجهود، وجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
O y o
قصة نوح دروس وعبر
إن الحمد لله نحمده... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واعرفوا ما منّ به عليكم من النعم..
أرسل إليكم خير الرسل، وأنزل عليكم أفضل الكتب، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس، وإن في هذا القرآن الذي أنزله لعبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، بين فيه سبحانه أحكام الدين، وسنن المرسلين، وقصص الماضين، كل ذلك ليعتبر أولو الألباب ويتذكروا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
وإن في النظر في سير الماضين لتسلية للنفس، وتثبيتاً لها، وتقوية للقلب، وإسعاداً له، ينظر المسلم في تاريخ الأنبياء والصالحين فيرى أنهم قد ابتلوا وأوذوا حتى أتاهم نَصرٌ بعد تمحيصهم وتنقيتهم، فيطمئن قلبه، ويقوى جنانه، ويعلم أنه ليس وحيداً في هذا الطريق، وأن الوصول إلى المقصود دونه قطع المفاوز، كما قطعها من قد سبق.(4/31)
عباد الله: لقد أكثر الله في القرآن من القصص تثبيتاً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر رسوله أن يقص القصص ليتفكر فيها كفار قريش، لعلهم أن يتوبوا إلى ربهم، ويعودوا إلى رشدهم {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، بل لقد أخبر الله أنه لم يقص عليه جميع قصص الأنبياء، فقال: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}.
أيها المسلمون: قصص الأنبياء في القرآن كثيرة، وكل منها لها فوائدها وأحكامها، بينهم من طال انتظاره، واشتد أذاه، ومنهم من قتل، ومنهم من آمن به قومه في آخر الأمر، ومنهم من لم يؤمن به أحد، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد»، الله أكبر، نبي يبعثه الله في أمة من الأمم لم يؤمن به واحد منهم.
وأول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض نبي الله نوح، لقي من الأذى من قومه ما لقي، وصبر على أذى قومه صبراً عظيماً يدعو قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن النار إلى الجنة، فلم يلقَ مجيباً، بل لقي سخرية وتكذيباً.
دعاهم إلى توحيد الله وهذه دعوة الرسل كلهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، جادل هؤلاء عن باطلهم، واتهموا نبيهم بالضلال، وأنه ليس له فضل عليهم ولم يتبعه إلا ضعاف القوم، وهكذا كل قوم يقولون لنبيهم، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ }، يدعو النبي قومه بالتي هي أحسن، فيردون عليه بالسوء، يتودد إليهم، ويلين معهم، ولكن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.(4/32)
لبث نبي الله نوح في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما استجاب له إلا القليل، وأكثر ما قيل في عدد المؤمنين أنهم ثمانون نفساً، كل هذه المدة ولم يؤمن به إلا النزر اليسير، بل إن زوجته وابنه لم يؤمنا به، فما أشد صبر الرسل! وما أعظم أثرهم على الناس!.
ولما طال عليه الزمن، أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره بصنع الفلك، فبدؤوا يمرون عليه ويسخرون منه على هذا العمل، {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}.
ولما صنع الفلك قال الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}، وقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} الآية. قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي نراها ونحفظها ثواباً لنوح لأنه كفر به قومه، وأهلك الله قوم نوح، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، استجابة لنبيه، وتصديقاً لوعده، وغيرة على أوليائه.. {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }.(4/33)
وفي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي – لما نبع الماء وصار في السكك خشيت عليه وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها، فغرقا، فلو رحم الله أحداً لرحم أم الصبي»، ولما أغرق الله الكفار وانتهى عذابهم قال: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }، فهذا أثر الإيمان، وتلك عاقبة الكفر، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
هذه قصة نوح وقومه كما قصها الله في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله شرح صدور المؤمنين للإيمان بفضله ورحمته، وأضل من شاء من عباده بعدله وحكمته.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جعل للمتقين عقبى الدار، ولأهل الكفر والضلال الخزي والبوار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم القرار، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما قص الله عليكم، فإنما قص الله علينا هذه القصص لنتعظ بها، ولنحذر مما وقعوا به فيصيبنا ما أصابهم.(4/34)
في قصة نوح من العبر: صبر الداعية على الأذى، وتحمل المشاق في تبليغ الدعوة، ولو طال الأمد {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} ما كلَّ نوح ولا ملَّ إلى أن أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن فحينئذ دعا على قومه، ومما ينبغي للداعية أن ينظر فيه ألا ييأس ويقول: هؤلاء قوم لا خير فيهم فيترك دعوتهم بل يعيد ويبدئ فيهم، فيكثر النصح لهم فليس هو أول من لم تقبل دعوته، فَلَيَأتين بعض الأنبياء يوم القيامة ولم يستجب له أحد.
ولا يغضب الداعي والناصح والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عند عدم الاستجابة له، فإنما عليه البلاغ وهداية الناس إلى الله {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}، وليثق المسلم بنصر الله، ويطمئن إلى وعد الله، فالله لا يخلف الميعاد.
وفي الحديث عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون» رواه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
O y o
فضل العلم وتعليمه ووصية للمعلمين
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، والحمد لله الذي فضل العلم على الجهل، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }.(4/35)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العليم بمن يصلح للعلم والدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائل: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال، تعلموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ما ورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم، فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وأجر مستمر إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث...».
انظروا إلى آثار العلماء الربانيين لم تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة، وطريقتهم مأثورة، وذكرهم مرفوع، وسعيهم مشكور، إن ذكروا في المجالس ترحم الناس عليهم، ودعوا لهم، وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية فهم قدوة الناس فيها.
أيها الناس: تعلموا العلم واعملوا به، فإن تعلم العلم جهاد في سبيل الله، والعمل به نور وبصيرة من الله، {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
عباد الله: إننا على أبواب عام دراسي جديد يستقبل فيه المتعلمون ما يلقى إليهم من العلوم، ويستقبل فيه المعلمون من يتلقى عنهم الآداب والعلوم والأخلاق، فماذا أعد كل واحد منهم لما يستقبله.(4/36)
إن على المتعلمين أن يعدوا لهذا العام الجد والنشاط، وأن يحرصوا ما استطاعوا على تحصيل العلم من كل طريق وباب، وأن يبذلوا غاية الجهد لرسوخ العلم في قلوبهم، فيجتهدوا عليها من أول العام، ففي ذلك سبب لرسوخ العلم، وتيسير حصوله، لأنه إذا اجتهد من أول العام أخذ العلم شيئاً فشيئاً فسهل عليه، وأما إذا توانى في أول السنة فإنه يصعب عليه بعد ذلك، وتتراكم عليه العلوم، ويكون تصوره لها تصوراً سطحياً لا يرسخ في قلبه، ولا يبقى في ذهنه.
وإن من واجب المتعلم إذا تعلم مسألة أن يطبقها على نفسه، ويعمل بها ليكون علمه نافعاً، فإن العلم النافع هو ما طبقه الإنسان عملياً، والعمل هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به، فإن العلم سلاح فإما أن يكون سلاحاً لك على عدوك، وإما أن يكون سلاحاً عليك.
أيها المتعلم، إذا علمت مسألة دينية فاعمل بها، وإلا فما فائدة العلم، أرأيت لو أن شخصاً تعلم الطب، ولكن لم يتطبب ولم يعالج نفسه ولا غيره، فما فائدة علمه؟! فهكذا العلوم الشرعية إذا عملت بها كانت أنفع العلوم، وإن خالفتها فهي حجة عليك، واعلم أن ثبات العلم وقوة الحفظ لا يجتمع مع المعصية، لأن العلم نور من الله، والله لا يعطى نوره لمن يعصيه، كما قال الشافعي – رحمه الله –:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي
أيها المعلمون: إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقاً عظيمةً فقوموا بها لله مخلصين، وبه مستعينين، ولنفع أبنائكم ومن يتلقون العلم منكم قاصدين.
أخلصوا في التعليم، واسلكوا أسهل السبل وأقربها للتفهيم، ونزلوا الطلبة منازلهم، فالطالب المبتدئ يحتاج ما لا يحتاج غيره من العناية والحرص.
وعليكم أن تتمثلوا أمام الطلبة بكل خلق فاضل كريم، وأن تتجنبوا كل خلق سافل لئيم، فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق كما يتلقى منه العلوم.(4/37)
ووجهوا أبناءكم الطلبة في كل مناسبة ترون فيها الفرصة لذلك، فإن المعلم الناجح من يجمع بين التعليم والتربية الحسنة، والله يحب المحسنين.
أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رفع شأن العلم والعلماء، وجعلهم أهل الخشية، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، هو أهل المجد والثناء، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، إمام الأتقياء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وتعلموا من أمور دينكم ما تعبدون به ربكم على بصيرة، واعلموا أن أهل العلم معلمين ومتعلمين قد حازوا قصب السبق في ثناء ربنا سبحانه على عباده، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع»، «إن العالم ليستغفر له كل شيء...»، وفي الحديث: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة»، فاحتسبوا خطاكم إلى المدارس أنها لطلب العلم، لتكون طريقاً لكم يوم القيامة إلى الجنة.(4/38)
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم الله بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
O y o
أقسام القلوب
إن الحمد لله... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وأصلحوا قلوبكم يصلح لكم أعمالكم ويمد لكم في آجالكم ولكم الخير في دنياكم وأخراكم.
عباد الله: قلب الإنسان عليه مدار صلاح العمل وفساده.
والقلوب يا عباد الله ثلاثة:
قلب صحيح، وهو القلب السليم الذي ينفع صاحبه عند ربه، وينجيه من عذابه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وهذا القلب هو قلب أهل الإيمان والتقوى، المطيعون لله ورسوله، الذين قدموا محبة الله على محبة ما سواه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقلب ميت، وهو قلب أهل الكفر والنفاق، الذين لم يدخل قلوبهم الإيمان، ولم يرد الله بهم خيراً، أعرضوا عن الله وعن رسوله، واتبعوا الشيطان والهوى، فلا هادي لهم بعد الله، ولا منجي لهم من عذاب الجحيم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.(4/39)
عباد الله: بالعمل الصالح تحيا القلوب، وتزداد نوراً يضيء لصاحبه الطريق، ليسير به في الناس طالباً ما عند الله، وبترك العمل والإشراك بالله تموت القلوب، ليسير الكافر في الناس هملاً لا غاية له، ولا مقصداً، إلا إشباع رغباته في هذه الحياة، لتكون حياته كحياة الأنعام بل أضل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}، ولهذا قال الله في هذين القلبين: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }. وكلما كانت حياة القلب أكثر كان إيمانه ونوره أكثر، فيكون توفيقه وسعادته عند الله أكبر وأعظم.
أيها المسلمون: بعث الله رسله إلى الناس، والقلوب ميتة، والحياة مظلمة، والأرض إذا لم تجد الماء والنور لم تحيا، فجاء أنبياء الله بالنور والماء، فسقوا قلوب الناس من كلام الله ونوره، فكان من أقوامهم من قَبِلَ قلبه هُدى الله، فسرت فيه الحياة، أحياه الله بعد الموت، فكان من أئمة الدين والإصلاح وقادة نور الله إلى جنات النعيم، وأصحاب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خير مثال على ذلك، وأبو بكر مقدمهم وخيرهم.
وكان من الناس من ضل، فأضله الله لما استحب العمى على الهدى، والكفر على الإسلام {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }، فهذا مثل القلب الحي والقلب الميت.(4/40)
وقلب ثالث يا عباد الله وهو القلب المريض الذي ابْتُلي بأمراض الشهوات والشبهات يتنازعه المرض والسلامة فهو لما غلب عليه منهما، فتجده ميّالاً إلى الشهوات، لا يغض بصره عن عورة، ولا يخفض يده عن مال ليس له، ولا يكف لسانه عن غيبة ونميمة، وعن أكل لحوم الناس، ولا يعلق سمعه عما حرم الله من آلات اللهو ونحوها.
بل وأشد من ذلك، أن لا يقوم بما أمره الله به ورسوله من أداء الطاعات، وتجد في قلبه الشبه التي تشككه في ربه ودينه ونبيه وفي إخوانه المسلمين من حوله.
أيها المسلمون: إن من توفيق الله لمريض القلب، أن ييسر له الدواء في بداية مرضه وقبل أن يشتد، فإن المرض إذا اشتد مات القلب، ولم يُرجَ له صلاح بعد ذلك، لعدم تفريقه بين المعروف والمنكر، والخير والشر، والصلاح والفساد، وقد يعلم الإنسان بمرض قلبه، لكن يصعب عليه تحمل الدواء، فيبقى حبيس مرضه وألمه حتى يلقى ربه، كذلك فيكون من الخاسرين، لأن المعاصي لا تزال بالعبد حتى تهلكه، وفي الحديث: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه».
فاتقوا الله عباد الله وامتثلوا أمر نبيكم في إصلاح قلوبكم، وابتعدوا عن معصية ربكم، واجتهدوا في طاعته يصلح لكم قلوبكم، وفي الحديث: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
اللهم أصلح لنا قلوبنا، واجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين، وصلى اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خالق الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد:(4/41)
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن شفاء القلوب بيد الله عز وجل، لكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً، وإن الدواء سبب من الأسباب المشروعة، فداوِ قلبك يا عبد الله ليستقيم على دين الله، وإن أنفع الأدوية وأطيب الأغذية كتاب الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}، فكتاب الله هو الشفاء من كل داء، فأكثروا من قراءته والجؤوا إلى ربكم بقلب صادق ويقين.
O y o
من أسباب انشراح الصدر
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه، واعلموا أن تقوى الله جماع الخيرات، ومنبع المسرات، فيها سعادة الدارين، والزلفى عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، بالتقوى تشرح الصدور،وتنال المغفرة من العزيز الغفور، {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
أيها المسلمون: لقد امتن الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بمنن عظيمة، وآلاء جسيمة، فشكرها نبيُّ الله، وأدى حقها.(4/42)
امتن عليه بالرسالة، وجعله خاتم النبيين، وامتن عليه بالإيواء من اليتم، فجعل له من يحوطه ويرعاه بعد وفاة أبيه وأمه، وهداه من الضلالة، وأغناه من الفقر، قال تعالى: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}.
وإن من أعظم ما امتن الله به عليه أن شرح له صدره، فقال ممتناً عليه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، أي جعل فيه نوراً، وجعله فسيحاً رحيباً واسعاً، وهذه نعمة لا تقدر بثمن وهي منة من الله سبحانه، إذا رأى في عبده الخير شرح له صدره {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}، وإذا كان العبد ضالاً معرضاً ضيّق الله عليه صدره، وجعله حرجاً شديد الضيق، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فبسبب عدم إيمانهم أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم، لأنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والإحسان، وهذا ميزان عدل لا يميل، وطريق لا يتغير، فإن من أعطى واتقى وصدق بالحسنى يسره الله لليسرى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فسيسره الله للعسرى.
عباد الله: إذا كان انشراح الصدر وسعته نعمة عظمى، وفضيلة كبرى، لا يدركها إلا الأقلون، فإن العاجز الكسول من لم يتعب نفسه في الحصول عليها والظفر بها، والعمل بأسبابها حتى يلقى ربه سبحانه.
وإن اللبيب الفطن هو من جعل صلته بالله قوية باتباع شرعه، والحذر من غضبه ومقته، وقد ذكر أهل العلم عدداً من الأسباب تشرح الصدر، ومن أهمها:(4/43)
1) توحيد الله: فكلما كان الإنسان أكثر توحيداً لله، وأكثر معرفة بأسمائه وصفاته، ونقى هذا التوحيد مما يضاده أو ينقصه، كلما كان صدره أوسع، وعيشه أهنأ، وكلما نقص من هذا الأمر نقص من سعة صدره شيء، حتى تضيق الحياة بأسرها على المشرك والملحد، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وقال: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وقال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، وإن من أعظم العقوبات الدنيوية التي يصاب بها الإنسان ضيق الصدر، والقلق والرهبة والخوف والاضطراب، ولهذا تهدد الله بها أعداءه المشركين عقوبة لهم، فقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً }، وقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ }، وقال سبحانه: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن»، أي فهو منشرح الصدر في الحالين؛ في حال السراء والضراء بسبب قوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى.(4/44)
2) العلم النافع: فالعلماء هم أشرح الناس صدوراً، وأكثرهم حبوراً، وأعظمهم سروراً، لما عندهم من ميراث الأنبياء وهو العلم الشرعي النافع، قال الله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}.
فمن أراد الحياة السعيدة فليكثر من العلم النافع تصلح له دنياه وأخراه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: «إنها لتمر بقلبي ساعات أقول إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فهم في عيش طيب»، يقول هذا مع ما لقي من الأذى في هذه الحياة الدنيا، عودي وأوذي وسجن مرات، لكن لقوة إيمانه ويقينه، وكثرة علمه لم يضق صدره، ولم تنشغل نفسه بما هو فيه، ولما سجن – رحمه الله – قال وهو يدخل باب السجن: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}، فشبه ما هو فيه من النعيم بالجنة، وقال بعض السلف وهو يغمس خبزاً يابساً في ماء مالح ويأكل: والله لو علم الملوك...
3) ومما يشرح الصدر العمل الصالح، فإن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، يقول سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً}، وقال سبحانه عن بني إسرائيل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}.(4/45)
4) ومما يشرح الصدر اجتناب المعاصي، فإنها كدر حاضر، ووحشة جاثمة، وظلام قاتم، وسواد في الوجه دائم، وفي الحديث: «ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة»، وهي تميت القلوب، وتحجب الإنسان عن ربه، وكثرتها تورث الذل، وتحرم العبد التوفيق.
5) ومما يشرح الصدر التقليل من المباحات، فلا يكثر من الكلام والطعام والمنام والاختلاط بالناس، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، و{وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وليلجأ الإنسان إلى ربه، ولينطرح بين يديه وليكثر من الدعاء، والإلحاح على الله أن يشرح له صدره، ويغفر له ذنبه، وليكثر من الصدقات، والإحسان إلى الناس مخلصاً لله بهذا العمل، فإنه من أعظم أسباب شرح الصدور، وإزالة القلق عن النفس. وانظر يا عبدالله إلى من أسفل منك في أمور الدنيا لا أمور الآخرة، أو العلم الذي يتحقق به خشية العبد لله، ولا تنظر إلى من هو أعلى منك، كما جاء في الأثر: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو أعلى منكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وفق من شاء لطاعته، وشرح صدورهم، فجعلهم من أهل ذكره وشكره وحسن عبادته..(4/46)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الزلفى لديه في دار كرامته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، ختم الله به رسالاته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لقائه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: من أتعب نفسه في أول الطريق، جاءته الراحة في آخره، ومن أدلج في الليل في وقت الطمأنينة والهدوء، واعتدال الجو، أراح جسمه في وقت الشمس والحر والضنك في النهار.(4/47)
ومن أصلح قلبه، وأكثر من عبادة ربه في حال شبابه وصحته، وفقه الله، وكتب له ذلك في مرضه وتعبه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» تفضلاً منه ورحمة، والإنسان إذا أصلح قلبه وطهره من الغل والحقد والحسد، وطهره من الالتفاف إلى غير الله، فأصلح سريرته، أصلح الله له علانيته، فلم يقل إلا خيراً، ولا يعمل إلا خيراً، «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». فأصلحوا قلوبكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وأسروا أنفسكم على طاعة الله، ما دمتم في زمن المهلة، فإن العمر قصير، والدنيا زائلة، وإنكم موقوفون بين يدي الله ومسؤولون عن أعمالكم، ومجزيون عليها، الحسنة بعشر أمثالها، أو يتفضل الله عليكم بالزيادة، والسيئة بمثلها، أو يتفضل الله سبحانه بالعفو، فيا خسارة من باع دنياه بأخراه، ويا حسرة من وجد صحف أعماله ليس فيها عمل صالح، ووجد عمله السيئ مكتوباً بين يديه لم يترك منه شيء، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}، وستحاسب نفسك بنفسك، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً}، قال الحسن البصري – رحمه الله –: قد أنصفك من جعلك حسيب نفسك.
فاحذر أن تكون ممن قال الله فيهم: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}.(4/48)
واجتهد أن تكون ممن قال الله فيهم: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} سرور في الأهل، وحساب يسير، ومناولة الكتاب باليمين، تشريفاً وتكريماً لهم.
اللهم اجعلنا منهم بمنك وعفوك يا كريم.
O y o
الإيمان بالملائكة وثماره
إن الحمد لله نحمده... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه علي فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: أخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.(4/49)
أيها المسلمون: هذا الحديث حديث عظيم، جمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، وهو أصل الإسلام كما قال أهل العلم. ولقد مر معنا الحديث عن الإيمان بالله تعالى، وسنتكلم عن الإيمان بملائكة الله.
عالم الملائكة عالم غيبي، وهم مخلوقون عابدون لله تعالى، وليس لهم من الألوهية شيء، قال الله عنهم: {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}.
وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع له ليلة المعراج البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه.
ولا يتم الإيمان بالملائكة إلا بأربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بوجودهم.
الأمر الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم كجبريل، وإسرافيل – عليهما السلام –، ومن لم نعلم اسمه نؤمن به إجمالاً فنؤمن أن لله ملائكة موكلين ببني آدم، وأن السماء ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يعبد الله سبحانه.
الأمر الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة جبريل – عليه السلام –، فقد رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وله ستمائة جناح قد سد الأفق.
وقد يتحول الملك إلى صورة رجل بأمر الله تعالى، كما حصل لجبريل – عليه السلام – حين أرسله الله إلى مريم، وكما حصل حين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، وكذلك حين أرسل الملائكة إلى إبراهيم ولوط – عليهما السلام –.
الأمر الرابع: الإيمان بأعمالهم التي يقومون بها، من التسبيح والتعبد ليلاً ونهاراً، ولهم أعمال خاصة، فجبريل موكل بالوحي، رسول الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل موكل بالقطر، المطر والنبات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، ومالك خازن النار ونحو ذلك.(4/50)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
} - }
الخطبة الثانية:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
وأشهد أن لا إله إلا الله اللطيف الخبير، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا في مخلوقات الله فإن التفكر فيها يزيد في إيمان المسلم ويقوي يقينه.
عباد الله: الإيمان بالملائكة يورث العبد علماً بعظمة الله تعالى وقوته وسلطانه، فإن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، ويورث له ذلك شكراً لله على عنايته ببني آدم، حيث وكل بهم هؤلاء الملائكة، الذين يقومون بحفظه، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
ومحبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى، والحذر من المعاصي لوجود هؤلاء الملائكة الكاتبين.
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ}.
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}.
O y o
المحبة من الإيمان
إن الحمد لله ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، فتقوى الله هي المنجية من عذابه، الموصلة إلى جنته وثوابه، وهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ}.(4/51)
عباد الله: ثبت في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وعند الإمام أحمد «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير».
هذا الحديث فيه خلق من الأخلاق السامية الرفيعة التي جاء الإسلام بها، وغرسها في قلوب المؤمنين، هذه الأخلاق التي تزيد الألفة والمحبة بينهم، وتجعلهم سواسية، يعطف كبيرهم على صغيرهم، ويحنو غنيهم على فقيرهم.
وهذا الدين الإسلامي هو دين الأخلاق، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكان خلقه صلوات الله وسلامه عليه القرآن كما قالت عائشة – رضي الله عنها –، والله يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
في هذا الحديث نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمراد بنفى الإيمان هنا نفي كماله، وبلوغ حقيقته ونهايته، فإن الإيمان كثيراً ما ينفى لذهاب بعض أركانه وواجباته، وليس المراد أنه يذهب جميع إيمانه. فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وإن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان، قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ}.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» دليل على أن من جملة خصال الإيمان الواجبة: أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه بذلك.
عباد الله: محبة الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه دليل على قوة إيمانه بالله، وثقته بما عنده، ففضل الله واسع يسع جميع الناس، فمهما أخذ أخوك من الخير فلن يضرك.(4/52)
محبة الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه موصلة إلى الجنة، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «أتحب الجنة؟»، قال: نعم، قال: «فأحب لأخيك ما تحب لنفسك».
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه».
من كان مقتدياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فليحب لإخوانه ما يحب لنفسه، ففي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: «إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم».
أما أعداء الله اليهود فإنهم يكرهون للناس ما يحبون لأنفسهم، فقد كانوا يقولون للعرب: يوشك أن يخرج منا نبي فنقاتلكم معه، فلما خرج رسول الله عادوه، وكرهوا ما جاء به، حسداً من عند أنفسهم.
أيها المسلمون: الحسد والنميمة والبغضاء أخلاق تنافي هذا الحديث، فالمتصف بها ليس كامل الإيمان، فعلى المسلم الحذر منها.
وينبغي لمن علم علماً أو فقهاً أن يبثه في الناس، فيكونوا مثله في هذا العلم، فقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما –: «إني لأمر على الآية من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم»، وقال الشافعي – رحمه الله –: «وددت أن الناس تعلموا هذا العلم، ولم ينسب إلي منه شيء».
إذا رأى المسلم في أخيه نقصاً في دينه اجتهد في إصلاحه، فهو يكره ما هو عليه من المعصية، ويرحم صاحبها، فيريد إخراجه منها، شفقة عليه أن تمسه النار، قال بعض السلف: «أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي الله، مقتوا أعمالهم وعطفوا عليهم، ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار، لا يكون المؤمن مؤمناً حقاً حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه».(4/53)
عباد الله: اجتهدوا فيما يقربكم إلى الله ويجعلكم من أهل محبته ورضاه، وتنافسوا في الأعمال الصالحة، ففيها فليتنافس المتنافسون.
أقول قولي هذا ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جمع قلوب المؤمنين على الإيمان.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والإحسان، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، فمن اتقى الله جعل له نوراً يفرق به بين ما يبغضه ويرضاه.
عباد الله: يقول بعض السلف: ينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصراً عن الدرجات العالية، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين، أولهما: الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها، وثانيهما: النظر إلى نفسه بعين النقص.
وينشأ من هذين الأمرين أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيراً منه، لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل هو يجتهد في إصلاحها، وقد قال محمد بن واسع، أحد التابعين لابنه: أما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله. فمن كان لا يرضى عن نفسه، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم، بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيراً منه، ويحب لنفسه أن يكون خيراً مما هو عليه، يقول بكر بن عبدالله المزني وهو واقف بعرفة ينتقص نفسه: لولا أني معهم لقلت إن الله غفر لهم، فانظر كيف ازدرى نفسه، فنظر إليها بعين النقص، ونظر إلى المسلمين بعين الكمال.
فاتقوا الله عباد الله، وأحبوا للمسلمين ما تحبون لأنفسكم، ثم صلوا ...
O y o
الطهارة
إن الحمد لله ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واعرفوا ما أوجبه عليكم من أحكام دينكم لعلكم تفلحون، وتمسكوا بهدي نبيكم، واتبعوا سنته إن كنتم مؤمنين، فلقد قال ربكم سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.(4/54)
أيها المسلمون: إن مما أوجب الله عليكم في كتابه، وفي سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - عبارة ذات أثر على البدن والقلب، رتب الله عليها الثواب الجزيل، والأجر العظيم، تلكم هي الطهارة يا عباد الله.
الطهارة من المعاصي، وسيء الأخلاق، وتطهير البدن بالغسل والوضوء.
الطهارة يا عباد الله تنقسم إلى قسمين: طهارة معنوية، وطهارة حسية.
أما الطهارة المعنوية فهي أن يطهر الإنسان قلبه ونفسه من الشرك والرياء، والمعاصي وسيء الأخلاق، وهذه الطهارة هي الأهم والأعظم، وهي التي أرسل الله جميع الرسل لأجلها فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ولقد أقسم الله على هذه الطهارة أحد عشر قسماً متوالية في كتابه فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل، وقد خاب من دسسها أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي، وترك طاعة الله عز وجل.
وهذه الطهارة منها ما مخالفته خروج من الملة كالشرك بالله، ومنها ما مخالفته تنقص في الإيمان كالمعاصي وسيء الأخلاق.
أما الطهارة الحسية يا عباد الله فهي رفع الحدث، وإزالة الخبث، والتطهر لله بالغسل من الحدث الأكبر، والوضوء من الحدث الأصغر.(4/55)
فمن أراد الصلاة فليتوضأ كما شرع الله ورسوله، وصفة الوضوء أن ينوي بقلبه ثم يقول: بسم الله ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه ثلاث مرات، وحد الوجه من الأذن إلى الأذن عرضاً، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية طولاً، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ويجب مع غسلهما غسل الكفين، فإن كثيراً من الناس يغفل عن ذلك، ثم يمسح رأسه مرة واحدة، ويعمه بالمسح من مقدمته إلى قفاه ويمسح معه الأذنين، ثم يغسل رجليه ثلاثاً، فمن فعل ذلك فقد تم وضوؤه، ومن نسي أن يسمي فوضوؤه صحيح، ويسمي إن ذكر في أثناء الوضوء، ثم يقول بعد ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله، فمن قال ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء. رواه مسلم
وينبغي للمسلم أن لا يسرف في الماء، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ومن كان في عضو من أعضائه جرح فلا يغسله، وإن شده بخرقة ونحوها، فلتكن بقدر الحاجة، وليمسح عليها، ولا يتيمم، ومن توضأ فإن وضوءه ينتقص بالحدث من بول أو غائط أو ريح، وكذلك أكل لحم الإبل ناقض حتى الشحم والكبد والأمعاء، سواء أكله نيئاً أو مطبوخاً، والنوم الكثير ناقض للوضوء، ومن شك بعد وضوئه: هل أحدث أم لا؟ فإنه لم يحدث لأن الأصل بقاء الطهارة.
عن حمران مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه رأى عثمان دعا بوضوء، فأفرغ علي يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات. ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ نحو وضوئي هذا. وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه البخاري ومسلم.(4/56)
وأما الغسل فمن أراد أن يغتسل فليتوضأ هذا الوضوء، ثم يعم بدنه بالماء، وإن عمم بدنه بالماء دون وضوء وتمضمض واستنشق كفاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}.
O y o
عناية الإسلام بأمر الطهارة
الحمد لله الذي شرع لعباده العبادة ويسرها، وضاعف لهم عليها الأجور وكملها.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أفضل المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحمدوه على ما أنعم عليكم من هذا الدين القويم، والصراط المستقيم، واعرفوا نعمته بتيسيره وتسهيله. فإنه سبحانه لم يجعل عليكم فيه حرجاً ولا مشقة، ولا تضييقاً ولا عسرة، وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة، ومع ذلك منَّ علينا بكثرة الأجور، والثواب الجزيل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.
أيها المسلمون: الإسلام دين نقاء وطهارة، وتهذيب ونزاهة، طهّر القلوب والأبدان، وهذّب السلوك والأخلاق، أخرج الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم صراطه المستقيم، ورفع عنه الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس.(4/57)
عباد الله: كما اعتنى الإسلام بتطهير الباطن من الرياء والمعاصي والشرك فقد اعتنى بتطهير الظاهر من الحدث والنجس، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» رواه مسلم. وفي القرآن الكريم: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
أيها المسلمون: إن طهارة الظاهر دليل وعنوان على طهارة الباطن، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ}. وإن الله جميل يحب الجمال.
عباد الله: إن مما شرع الله من الطهارة: الطهارة للصلاة من الحدث الأكبر، وهو الجنابة من احتلام أو جماع وجب عليه أن يعم جميع بدنه بالماء تطهيراً له، وتقوية لبدنه، واستعادة للنشاط.
والأولى للمسلم أن يبادر بهذه الطهارة حتى لا ينقطع من قراءة القرآن، ودخول المسجد، والتنفل بنوافل العبادات، والأفضل في ذلك أن يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه، ويبدأ بمايمن جسمه.
ومن أصابه الحدث الأصغر فليغسل أعضاء الوضوء التي شرع الله، وهي: الوجه واليدان إلى المرفقين غسلاً، والرأس مسحاً، والرجلان إلى الكعبين غسلاً.(4/58)
وصفة الوضوء أن ينوي بقلبه ولا يتكلم بذلك، ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه كله ثلاث مرات، وحد الوجه من الأذن إلى الأذن، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية، ولا يجوز التفريط في شيء من ذلك، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، وليلاحظ غسل الكفين معهما، فقد يغفل عنه كثير من الناس. ثم يمسح رأسه كله بيديه، من مقدمه إلى قفاه مرة واحدة، ويمسح معه أذنيه، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرات.
ومن نسي التسمية فوضوؤه صحيح، وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وأكمل.
هذا هو الوضوء الكامل فمن فعله منكم فاسمعوا إلى الفضل الذي أعده الله له، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء، وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه، فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى يخرج نقياً من الذنوب»، فانظروا إلى عظيم فضل الله ونعمته، يشرع لكم الأحكام والعبادات، ثم يثيب عليها الثواب الجزيل: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}.
وإذا توضأ المسلم هذا الوضوء، فإنه ينتقض وضوؤه بالحدث من ريح أو بول أو غائط، وأكل لحم الإبل كله حتى الشحم والكبد والكلى والأمعاء، سواء أكله نيئاً أو مطبوخاً، قليلاً أو كثيراً.
وينتقض الوضوء بالنوم الكثير، فأما النعاس أو النوم القليل الذي يغلب على ظنه أنه لم يحدث فيه فإنه لا ينقض الوضوء.(4/59)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله جعل الطهور شطر الإيمان، وضاعف به المثوبة في الميزان.
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، وأسبغوا الوضوء، واعتنوا به ينفعكم في دنياكم وأخراكم.
فيه تنال محبة الله ورضاه، وهو صحة للبدن، وقوة للدين، وهو عبادة لا يطلع عليها إلا الله، فتكون دليلاً على صحة الإيمان، وهو وقاية من الأمراض والآثام ومكفر للذنوب والخطايا، فضائله كثيرة، وأجوره عظيمة، ولو لم يكن فيه إلا قول الله تعالى: { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} لكان كافياً.(4/60)
ثم لتعلموا يا عباد الله أن للوضوء آداباً تكمله، وتزيد في نفعه وفضله، فمن ذلك التسمية قبله، والسواك «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء»، والبدء بالأيمن من الأعضاء، فقد كان ذلك يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتشهد بعده، فمن فعل فتحت له أبواب الجنة الثمانية، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء». أخرجه الترمذي، وصلاة ركعتين بعده فهو من أسباب دخول الجنة.
فاتقوا الله عباد الله وطهروا قلوبكم قبل أبدانكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
O y o
أهمية الخشوع في الصلاة
الحمد لله فرض الصلوات وجعلها عمود الدين، وجعلها كفارة لما بينها من صغائر ذنوب المذنبين، وجُنة للعباد عن الفواحش والمنكر وأخلاق الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرض، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، ما ترك خيراً إلا دلّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، حتى تركهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، فتقوى الله خير الزاد، وهي أفضل ما ادخرتم، وخير ما عملتم، بها تنال محبة الله، تنجيكم من النار، وتقربكم من دار الأبرار، العون والنصر معلق بها، ومحبة الله لأهلها.(4/61)
عباد الله: إذا ذكرت التقوى ذكر العمل الصالح، فالصالحون هم أهل التقوى، أخلصوا لله، واتبعوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ابتعدوا عن المعاصي، وجانبوا اللهو واللعب. أطاعوا الله واستجابوا لندائه، فنالوا رضاه.
أيها المسلمون: أفضل العمل الصالح الصلاة، هي عمود الدين، وعنوان السعادة، أمر الله المؤمنين بالاستعانة بها عند الشدائد: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، هي الفارقة بين الكفر والإيمان، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي قرة عين المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
عباد الله: مكانة الصلاة عند الله عالية، ولهذا فرضها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة، فرضها على رسوله في ليلة الإسراء والمعراج، فرضها خمسين صلاة ثم خفضها إلى خمس صلوات بالفعل، وخمسين في الميزان، وفي هذا دليل كبير على فضلها ومكانتها.
أليس في الصلاة تعظيم لله ومناجاة له، وقراءة من كتابه؟!
أليست تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتقرّب إلى الله سبحانه؟!
أليست قرة عيون الموحدين، وراحة المؤمنين المتقين «أرحنا بها يا بلال»؟!
إن صلاة هذا شأنها، وهذه مكانتها، لحقيقة بالعناية والاهتمام، حقيقة بأن يبذل الإنسان لها جهده كله، وأن تكون أكبر همه، وأن يكون مشتاقاً إليها غاية الشوق.
أيها المسلمون: فاعل الصلاة كثير، لكن أين المستفيد منها، والمتعظ بها، والمقيم لها حق إقامتها؟؟!!(4/62)
إن كثيراً من المصلين لا يعرف للصلاة فائدة، ولا يقدرها حق قدرها، ولهذا ثقلت عليهم، وشق عليهم انتظارها، بل يشق عليهم فعلها فنقروها نقر الغراب، لم يطمئنوا فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلاً {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، فلا صلاة لمن لم يطمئن، ولو صلّى ألف مرة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي لم يطمئن في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصلِّ» فرجع فصلى عدة مرات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» حتى علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يطمئن في صلاته.
إن من الناس يا عباد الله من يصلي بجسمه لا بقلبه، ليس في قلبه خشوع، قد دخل المسجد بجسمه، وترك قلبه يهيم في كل واد، أمور لا مصلحة له منها، إن لم يكن فيها ضرر عليه، كيف يرجو مثل هذا أن تكون الصلاة نوراً له، وبرهاناً يوم القيامة.
إن الانشغال عن الصلاة، وعدم الخشوع فيها يُنقصها نقصاً كبيراً، ينقص أجرها وثوابها، ينقص أثرها وتأثيرها على القلب والجوارح والأخلاق.
وإن مما يعين المصلي على الخشوع أن يلجأ إلى الله، ويفتقر إليه، ويلوذ بجنابه سبحانه، ويسأله أن يعينه على إحسان العمل، وأن يبعد عنه الوساوس والأوهام، وأن يستحضر أنه يقف بين يدي الله سبحانه بين يدي ربه وخالقه، والمدبر له، الذي يعلم السر وأخفى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، كيف يليق بالمسلم أن يقف بين يدي مالك يوم الدين، وقلبه مشغول عنه.
لابد للمسلم أن يعتقد أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، {جَزَاء وِفَاقاً }، والجزاء من جنس العمل.(4/63)
إنّ لُبّ الصلاة وروحها هو الخشوع، فإذا ذهبت الروح زالت الحياة، وجسم بلا حياة لا خير فيه ولا فائدة.
أيها المسلمون: من أراد الخشوع في الصلاة، فليحضر قلبه مع القراءة والذكر، وليتدبر ما يقول ويفعل.
التكبير تعظيم لله، وذل بين يديه، ووضع اليد اليمنى على اليسرى ذل بين يدي الله، وفي الركوع والسجود تعظيم وتطامن أمام علوِّ الله.
وليتذكر حين قراءة الفاتحة أن الله يجيبه من فوق سبع سماوات، فإذا قال الحمد لله قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل.
أليس هذا شرفاً عظيماً للمصلي أن يجيبه الله هكذا!
تذكر أن الله يسمع صوتك، إن خفضت الصوت أو رفعته.
عظّم الله في ركوعك وسجودك، وأكثر من الدعاء في السجود.
التزم السنة في النظر إلى موضع السجود، والإشارة بالأصبع في حال الجلوس، واعلم أن الله يراك، وهو محيط بك علماً وقدرة وتدبيراً.
فاتقوا الله عباد الله، وأقيموا الصلاة، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها، تنالوا عز الدنيا والآخرة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:(4/64)
الحمد لله المعز لمن أطاعه واتبع رضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هديه بإحسان ووالاه، أما بعد:
اتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ولقد كان النبي يقول لبلال: «أقم الصلاة أرحنا بها».
تذكروا ثواب الصلاة، وما أعد الله من الأجر لمن أقامها، وأتم واجباتها وسننها، وعقابه لمن أخل بشيء من ذلك.
صلوا صلاة مودع، وابتعدوا عن كل ما يلهيكم عن الخشوع، فقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام [أي فيها خطوط]، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي».
قال بعض السلف: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله، وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقرباً، فما الظن بالخالق عز وجل.
وإذا أقبل على الخالق وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالاً، وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب.
فاتقوا الله عباد الله، وأروا الله من أنفسكم خيراً تسعدوا وتفلحوا..
ثم صلوا وسلموا...
O y o
بالشكر تدوم النعم
إن الحمد لله.. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وتذكروا نعمه عليكم، واشكروه عليها بالعمل الصالح، فإن من شكر زاده الله توفيقاً ونعمة، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.(4/65)
عباد الله: نعم الله كثيرة لا تحصى، فهو الذي خلقنا، وأوجدنا في هذه الحياة من العدم، وهو الذي هدانا للإيمان، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أنعم علينا بالصحة والأمن، ورزقنا من الطيبات، وقد حُرم منها كثير من الناس، وفضلنا على كثير من خلق تفضيلاً، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
أيها المسلمون: إن النعم إذا شكرت زادت واستقرت، وإذا كفرت وجحدت زالت، {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، وإن أول ما يجب على الإنسان فعله إذا رأى نعمة الله أن ينسبها إلى ربه، فيعتقد موقناً أن الله هو المنعم المتفضل بها، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
فمن نسب نعمة الله إلى غيره دخل في هذا الحديث، فالله لم يجعل النوء سبباً لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة، يحبسه إذا شاء، وينزله إذا شاء، فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره.(4/66)
ومما يجب على الإنسان فعله عند النعم، شكر الله عليها، قولاً وفعلاً، فيحمد الله على نعمته، ويستعين بها على طاعة الله سبحانه، والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد، وهذا هو العمل الصالح الذي أمر الله به المرسلين وأمر به المؤمنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}».
ومن شكر الله على نعمه التحدث بها، إظهاراً لنعمة الله وابتعاداً عن جحدها لا افتخاراً على الخلق، وازدراء لهم، فإن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه.
ومن شكر نعمة الله أن الإنسان إذا رأى مبتلىً ببلوى حمد الله إذ عافاه من هذا الابتلاء، فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير من عباده تفضيلاً.
ومما ينبغي للمسلم أن يطلب من ربه الإعانة على الشكر، فإنه إن لم يعنه لم يستطع شكر نعمة الله، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده فقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك»، فقال: «أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» رواه أبوداود والنسائي.(4/67)
واعلم يا عبدالله أنك لن تشكر الله حق شكره حتى تشكر الناس على إحسانهم إليك، فتثيبهم وتدعو لهم، وتثني عليهم بما هم أهله ففي الحديث: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» رواه أبوداود والترمذي من حديث أبي هريرة، وفي الحديث الآخر: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له، ومن صُنع إليه معروف فقال لصاحبه: جزاك الله خيراً فقد أبلغ الثناء» أخرجه الترمذي عن أسامة.
وفي أسماء الله سبحانه الشكور، الذي يشكر عباده على أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها، ويثني عليهم بها، ويباهي بهم ملائكته. والذي يشكره عباده فيعملون له صالحاً، ويثنون عليه سبحانه بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
بارك الله لي ولكم ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله منّ علينا بكثير النعم، ودفع عنا النقم، وجعل أمة محمد خير الأمم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، خلقنا من العدم، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، المصطفى على سائر الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من أعظم ما يجلب الشكر وييسره أن ينظر الإنسان إلى من هو دونه في الفضل والمال والصحة والخلق، فيعلم مقدار نعمة الله عليه، ولهذا جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».(4/68)
أما في أمور الدين والعلم، فإن الإنسان ينظر إلى من هو فوقه ليلحق به، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - ينظر إلى أبي بكر ويسابقه في أعمال الخير، فاتقوا الله عباد الله، وأدوا حق الله عليكم بشكر نعمه...
O y o
من الهدي النبوي
إن الحمد لله... أما بعد:
أيها الناس: فإن دين الإسلام دين كامل، به رفع الله أمة العرب وغيرهم، بما احتواه من فضائل، وما ضمه من صفات كوامل.
هذا الدين الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}، وما رضيه الله فلن يسخط منه أبد، {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
دين كامل في العبادات، كامل في السلوك والأخلاق، كامل في بعده عن المكروهات، ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وما مات حتى علم الأمة كل شيء، فصلوات الله وسلامه عليه، نشهد أنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فاللهم اجزه عن أمته خير ما جزيت نبياً عن أمته.
عباد الله: ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».(4/69)
هذه أوصاف عظيمة صدرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصف الإيمان ليبين أنها داخلة فيه، وأنها تزيده، وأن تركها ينقص الإيمان.
وأعمال الإيمان يا عباد الله تارة تتعلق بحقوق الله كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ومن ذلك قول الخير والصمت عن غيره، وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكف عن أذاه.
أيها المسلمون: هذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن.
أحدها: قول الخير والصمت عما سواه، فقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
الإكثار من الكلام يورد الإنسان المهالك، «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب»، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم»، وهو موجب لقساوة القلب التي تبعد الإنسان عن الله فقد ورد عن ابن عمر: «لا تكثروا من الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي».
وقال عمر - رضي الله عنه -: «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به».
ولقد كان السلف – رحمهم الله – يخشون أشد الخشية من ألسنتهم، ويرون أنها سبب لكثير من ذنوبهم، كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو أكثر الأمة إيماناً يأخذ بلسانه ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد».
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان»، وقال وهب بن منبه أحد التابعين: «أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت».(4/70)
عباد الله: من تأمل قول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وعلم علم اليقين أنه راجع إلى الله سبحانه، فليحفظ لسانه، وليستعد للقاء ربه، فسيعرض على العبد يوم القيامة كل قول وعمل ومن شغل نفسه بذكر الله لم يزلّ لسانه فيما يغضب الله عز وجل، ومن جاهد نفسه في حفظ لسانه، وزلّ بعض الزلل فليذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا كفر له ما كان في مجلسه ذلك» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
الثاني مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - إكرام الجار، وفي بعض الروايات النهي عن أذى الجار، أما أذى الجار فإنه محرم، فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريماً.
خرج الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال: قيل يا رسول الله، إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار، وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال: «لا خير فيها هي في النار»، وقيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة،وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار – وهو الأقط – ليس لها شيء غيره، ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: «هي في الجنة».
وقد أمر الله بإكرام الجار، والإحسان إليه في قوله: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً}.
وإكرام الجار والإحسان إليه أنواع كثيرة منها مواساته عند الحاجة، ففي الحديث «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع».(4/71)
ومنها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعدم الاستطالة عليه بالبناء، وعيادته إذا مرض، وتعزيته بمصابه، واتباع جنازته.
وفي المسند عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة، فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي، قال ذلك ثلاث مرات ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»
بارك الله لي ولكم ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله هدانا لأقوم طريق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أيها الناس: اتقوا الله، فمن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
عباد الله: ومن وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إكرام الضيف، وإكرام الضيف واجب يوماً وليلة، فما زاد فهو نافلة، قال الإمام أحمد: «له المطالبة بذلك إذا منعه لأنه حق له واجب». وهي واجبة للمسلم والكافر.
وليس للضيف أن ينزل عند رجل لا يستطيع ضيافته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه».
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
O y o
حفظ اللسان
الحمد لله، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، أحمده سبحانه على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل الفسق والضلال.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية وأتقاها، صلى الله عليه وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً...
عباد الله: الأعضاء والجوارح تقول وتعمل في هذه الحياة، وهي مسؤولة ومستنطقة يوم القيامة، فإن لم يشغلها الإنسان بالخير شغلته بالشر.(4/72)
وإن من أشدها خطراً، وأكثرها ضرراً، وأعظمها أثراً، هذا اللسان الذي تتكلم به، اللسان يا عباد الله، سيد من سادات الجوارح، تذل وتخضع له، وتقول له صباح كل يوم: إنما نحن بك فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
هذا اللسان سبب عظيم لفساد الدنيا والدين، يتكلم الإنسان بالكلمة ما يلقي لها بالاً، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
ولهذا لا عجب أن يقول نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة».
عباد الله: كم إنسان أطلق للسانه العنان، يتكلم به فيما يعنيه وما لا يعنيه، ففسد دينه، وذهب أجره، وتراكمت عليه الذنوب.
ولقد تحدث أقوام في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم بكلام قليل، لكنه كبير عند الله، أحبط به أعمالهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}.
أيها المسلمون: إن سقطات اللسان وعثراته كثيرة، تورد الإنسان موارد الهلاك، صغائر وكبائر، وكفر وشرك؛ الغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، وقول الزور وشهادة الزور.
وأشد من ذلك سب الله ورسوله،وسب الدين، والاستهزاء بعباد الله الصالحين، أنواع من الذنوب والمعاصي تخرج من هذا اللسان، وتورد الإنسان النار.
لقد استهان الناس باللسان، وأطلقوه يتكلم بما ينفع، وبما لا ينفع، بل بما هو ضرر عليهم، فما هو العلاج، وما المخرج من هذا؟(4/73)
إن المخرج والعلاج بمراجعة الإنسان لنفسه، وأسرها على الخير واستصلاحها، ولا بد من المداواة بالدواء، فمن صبر فإن الله يحب الصابرين، وأول الدواء تقوى الله سبحانه، ويقين الإنسان أنه مجزي بعمله، وأنه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، ثم ماذا {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}.
وثانيها: اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير، وتمنعه عن الشر، «مثل الجليس الصالح، والجليس السوء ...» الحديث.
وثالثها: شغل الوقت بما ينفع من قراءة القرآن وذكر الله، والتفكر في مخلوقاته: كم من الفرق بين كلمة تكتب عليك بها سيئات، وكلمة لك بكل حرف عشر حسنات.
ورابعها: أن يتذكر الإنسان أنه ما لم ينطق فهو المتحكم في نفسه، فإذا نطق صار حكمه في يد غيره.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله مولي النعم، ودافع النقم، وخالق الخلق من عدم، أحمده سبحانه، وهو للحمد أهل، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
أيها المسلمون: إذا كان خطر اللسان هكذا، والكلام يورد صاحبه المهالك، فإن السكوت في بعض الأحيان يكون أشد ضرراً من الكلام.(4/74)
اسمع إلى قول الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، أتراهم لعنوا لأجل كلامهم؟! لا، إنما لعنوا لأجل سكوتهم عن إنكار المنكر.
والعاقل من يأخذ نفسه بالحزم، كلام في الخير، وسكوت عن الشر، أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ووقوف عند حدود الله، وانظر إلى ما قرره الإمام ابن رجب – رحمه الله – قال: «فليس الكلام مأموراً به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لابد من الكلام بالخير، والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيراً يمدحون الصمت عن الشر، وعما لا يعني، لشدته على النفس، ولذلك يقع الناس فيه كثيراً. فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم» انتهى كلامه، وهو كلام يكتب بماء الذهب.
فاتقوا الله، وأكثروا من ذكر الله، يسلم لكم دينكم ودنياكم، ثم صلوا وسلموا على محمد رسول الله فقد أمركم الله بذلك: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
O y o
وسائل الثبات على دين الله
الحمد لله هدى من شاء من عباده لسلوك سبيل الرشاد، وثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم المعاد، وأضل الظالمين بعدله، فلهم النار وبئس المهاد، أحمده سبحانه حمداً مقراً بفضله ورحمته على العباد.(4/75)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له،تنزه عن الشركاء والأنداد، وعن الصاحبة والأولاد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، بعثه ربه رحمة للعباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ثبتوا على دين الله، وتزودا من التقوى، فنعم الزاد، والتابعين لهم بإحسان إلى التناد، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، والزموا طاعته في حال الصحة والقوة، يثبتكم على دينكم في حال المرض والضعف، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
عباد الله: إن من نعم الله علينا – ونعمه سبحانه كثيرة لا تحصى – أن هدانا لدينه دين الإسلام، وقد أضل عنه أمماً كثيرة من بني آدم، {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}.
وإن من شُكرِ هذه النعمة المحافظة عليها، وذلك بفعل أوامر الله ورسوله، فيزداد المؤمن ثباتاً، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}، آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان الذي هو القيام بما وُعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن، في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات، يوفقون لفعل الأوامر، وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد، فيُوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر، فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين عند الموت، وفي القبر.
وأيضاً فإن العبد القائم بما أمر الله به لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها، ويشتاق إليها، وإلى أمثالها فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات.(4/76)
أيها المسلمون: إن المؤمن الحق لا يفرح بمتاع الحياة الدنيا، ولا يحزن لزوالها، وإنما فرحه واستبشاره بأعماله الصالحة ويقدر ما يزداد في هذه الحياة من العمل الصالح {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، وخوفه وحزنه على تفريطه في حقوق الله سبحانه، ومعصيته له، وإن الله سبحانه أكرم من أن يزيغ قلب إنسان مهتد عامل بالطاعات، وإن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك»، وقال: «والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة» رواه ابن ماجه.
عباد الله: إن زيغ القلوب يكثر مع المعاصي، ولا يزال الرجل يعمل بالصغائر، فيجتمعن عليه حتى يهلكنه، ولا تزال المعصية بالرجل حتى ينقلب قلبه أسود بعد أن كان أبيض، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وإن الواجب على المسلم أن يكثر من التوبة والاستغفار في كل وقت وحين {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».(4/77)
وإن زيغ القلوب يكثر في زمن الفتن مع قلة العلم والتقوى، عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة أنه قال: دخلت المسجد فإذا عبدالله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءَه، ومنا من ينتصل، ومنا من هو في حِشره، إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه بهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عاقبتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله أأنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. رواه مسلم.
عباد الله: إن مما ينبغي على المسلم أن يكثر من سؤال التثبيت في جميع أحواله، فهذا دعاء الصالحين من هذه الأمة وفي الأمم السابقة.(4/78)
فلقد جاء بعض المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن قريشاً قد جمعت لكم، تريد استئصالكم، فقال: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، فأنزل الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، وحين ألقي إبراهيم في النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.
ومن دعاء الصالحين: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ومن دعائهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. ولا يوفق لذلك إلا من أطاع الله، وعمل بمراضيه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله منَّ على من شاء من عباده بالتوفيق، وجعلهم بفضله ورحمته مهتدين لأقوم طريق، وأضل من شاء بعدله فما لهم في الآخرة من ولي ولا صديق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول.(4/79)
عباد الله: إن الثبات على دين الله وطاعته مطلب لأولي الهمم العالية، الذين يرجون ما عند الله من ثواب، ويخشون ما أعد من عقاب، وإن مما يعين على الثبات تذكر ما أعد الله للمؤمنين، وتذكر ما في هذا العمل من الفوائد. فهو دليل على كمال الإيمان وحسن التوكل على الله عز وجل وهو من طرق الوصول إلى الجنة، وفيه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكسب المؤمن قوة في الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومما يعين على الثبات في دين الله النظر في أحوال السابقين من هذه الأمة ومن قبلهم كيف صبروا على الأذى، حتى رفع الله ذكرهم، ورفع قدرهم، يقول خباب بن الأرت - رضي الله عنه - لما اشتد أذى قريش لنا أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستظل بظل الكعبة، فقلنا: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: «إن من كان قبلكم كان الرجل ينشر من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، ويمشط ما بين لحمه وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليُتمّنّ الله هذا الأمر حتى تسير المرأة من صنعاء إلى حضر موت ما تخاف إلا الله ولكنكم قوم تستعجلون».
اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه...
O y o
فضل الذكر
إن الحمد لله ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واذكروه ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلاً.(4/80)
في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنا ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم. قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
هذا حديث عظيم، فيه دليل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة،وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير، مما يقدر عليه غيرهم.
فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلف عن الخروج في الجهاد، لعدم القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه فقال: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}، وفي الحديث: أن الفقراء غبطوا أهل الدثور – الدثور هي الأموال – بما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم، فدلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات يقدرون عليها.
عباد الله: لقد بين لنا نبينا في هذا الحديث أن الصدقة تكون بالمال وغيره، فمن عجز عن الصدقة بالمال فإن فضل الله واسع، فجميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة، فعن حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل معروف صدقة» رواه مسلم.
واعلموا يا عباد الله أن الصدقة بغير المال نوعان:(4/81)
أحدهما: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فيكون صدقة عليهم، وربما كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه، وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم النافع، وإقراء القرآن، وإزالة الأذى عن الطريق، والسعي في جلب النفع للناس، ودفع الأذى عنهم، وكذلك الدعاء للمسلمين، والاستغفار لهم، وفي الأثر عن ابن عمر - رضي الله عنه -: «من كان له مال فليتصدق من ماله، ومن كان له قوة فليتصدق من قوته، ومن كان له علم فليتصدق من علمه».
ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس، ففي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله، والجهاد في سبيله»، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً»، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: «تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق»، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل، قال: «تكف شرك عن الناس فإنها صدقة».
والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه قاصر على فاعله، كأنواع الذكر من التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد صدقة.
وقد جاءت النصوص الكثيرة بتفضيل الذكر على الصدقة وغيرها من الأعمال، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟!» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ذكر الله عز وجل» رواه الإمام أحمد.
عباد الله: هذا فضل الله لمن قل ماله، وعجز عن العمل ببدنه، فعنده هذا الذكر الذي فضله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيره من الأعمال، فتمسكوا به، وأكثروا منه، فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وسبب لصلاة الله وملائكته عليكم.(4/82)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بذكره، ووعد الذاكرين الله كثيراً والذاكرات مغفرة وأجراً عظيماً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان يذكر الله على كل أحيانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واعلموا أن الله أمركم أن تذكروه ذكراً كثيراً، وتسبحوه بكرة وأصيلاً، لأن ذكر الله تطمئن به القلوب: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.(4/83)
عباد الله: لئن كان ما مر معنا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفقراء، فإن الأغنياء يجمعون بينها وبين صدقة المال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الفقراء المهاجرين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلما صنعتم؟!» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة»، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه...
O y o
موقف من مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه.. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى،واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
عباد الله: إن في النظر في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاعتبار بها، والتفكير فيها، لصلاحاً للقلب، وزيادة في إيمان العبد، واستقامة للحال، وسعادة في المآل، ولذا كان لزاماً على كل مؤمن ومؤمنة النظر في سيرته - صلى الله عليه وسلم - للاقتداء به، امتثالاً لقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.(4/84)
لأجل ذلك، ولتكالب الأعداء على الأمة، ولحاجة الفرد والمجتمع إلى الإصلاح كانت هذه الوقفة مع حدث من أحداث الجهاد، ومواقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه في مواجهة الكفار، وكيف استطاع المسلمون التغلب على عدوهم.
أيها المسلمون: في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ألف وأربعمائة متوجهاً إلى مكة يريد العمرة، فلما كان بذي الحليفة – ميقات أهل المدينة – قلد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث عيناً له كافراً من خزاعة يخبره عن قريش، فلما كان بعسفان أتاه عينه وأخبره أن قريشاً قد جمعوا له جموعاً، وأنهم مقاتلوه، وصادوه عن البيت، فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وقال: «أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟» فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فروحوا إذن»، فراحوا حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن خالد بن الوليد بالتنعيم، في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين»، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقال الناس: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها»، ثم زجرها فوثبت به، فعدل بها حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه(4/85)
وسلم - العطش، فتمضمض في ماء ومج فيه، وألقى فيه سهماً من كنانته، فلم يزل يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
وفزعت قريش لنزوله عليهم فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه، فقال: يا رسول الله، ليس لي عشيرة تحميني، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان، فأرسله إلى قريش، وقال: «أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال، وإنما جئنا عمّاراً، وادعهم إلى الإسلام»، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان، فانطلق عثمان، فمر على قريش، فبلغ الرسالة، ثم أجاره أحد بني عمه، وحمله على فرس حتى دخل مكة، وقال المسلمون: خلص عثمان إلى البيت وطاف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون»، قالوا: وما يمنعه؟ قال: «ذاك ظني به، أن لا يطوف حتى نطوف معه»، واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح،وقتل رجل منهم وتحاجزوا، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة على أن لا يفروا، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه، وقال: «هذه عن عثمان»، ولما تمت البيعة رجع عثمان، فقال له المسلمون: اشتفيت يا أبا عبدالله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي، والذي نفسي بيده، لو مكثت بها سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، فقال المسلمون: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظناً، وسارت الرسل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين لأجل الصلح، فجاء عروة الثقفي من المشركين، فرأى الصحابة كلما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقطت في يد أحدهم فدلك(4/86)
بها وجهه وجلده، فرجع عروة إلى المشركين، فقال: لقد وفدت على الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ثم جاء رسول من المشركين وجاء آخر، حتى جاء سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد سهل لكم من أمركم» فقال: هات اكتب بيننا كتاباً، فدعا الكاتب، فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: لا تكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اكتب باسمك اللهم»، ثم قال: «اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك، اكتب محمد بن عبدالله، ثم قال: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به»، فقال سهيل: لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلماً، فبينما هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل يرسف في قيوده هارباً من مكة، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه، فقال: «إنا لم نقض الكتاب بعد»، فقال: فوالله لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأجزه لي»، فقال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى، فافعل»، فقال: ما أنا بفاعل، فقال أبوجندل: يا معشر المسلمين، أُرد إلى المشركين، وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذاباً شديداً، قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، ألستَ نبي الله؟ قال: «بلى»، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى»، فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولم يحكم الله بيننا(4/87)
وبين عدونا، فقال: «إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه»، قلت: أو لست تحدثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ قال: «بلى، أنا أخبرتك أنك تأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف»، قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: كما قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليه أبوبكر كما رد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب قام فنحر هديه وحلق شعره، وكاد المسلمون أن يقتل بعضهم بعضاً في سرعة امتثالهم لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلق شعره، وكتبت لهم عمرة، واستثنى الله المؤمنات إذا قدمن من عند الكفار أن لا يعدن إليهم، وكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً إلى المدينة فأنزل الله عليه في الطريق: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}، فقال عمر: أهو فتح يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فقال الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، فما لنا فأنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
عباد الله: هذه قصة الحديبية، سماها الله فتحاً لما ترتب عليها من الخير العظيم للمسلمين، ودخول الناس في دين الله وانتشار الدعوة، وإن كان الصلح في ظاهره فيه ظلم للمسلمين، ومشقة عليهم، لكن حكمة الله وعلمه أعظم من كل شيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعافية للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.(4/88)
وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واقتدوا بسنة نبيكم، يجعل لكم ربكم من كل كرب فرجاً، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
عباد الله: لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية أمره الله أن يخرج بمن كان معه في الحديبية إلى خيبر، فخرج إليها ففتحها الله عليهم، وحصل فيه من الغنائم الشيء الكثير، وكانت خالصة لأهل الحديبية لم يشاركهم فيها غيرهم.
وفي قصة الحديبية صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً على وضع الحرب عشر سنوات، وأنه يعتمر في السنة السابعة، وفي قصة الحديبية فوائد عظيمة:
منها: استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطيرة المذمومة لقوله لما جاء سهيل: «سهل أمركم»، ومنها تعظيم كبراء المسلمين أمام رسل العدو، وإظهار مكانتهم، كما فعل الصحابة بالرسول، ومنها: أن المسلم يحتمل ما ظاهره الظلم والشدة، إذا كان سيؤدي إلى عز ونصر في النهاية، فإن ظاهر الصلح ضيم وهضم للمسلمين لكن حقيقته نصر وعز لهم، ومنها: طاعة الله ورسوله، والثبات للحق، ولو كان في النفس شك وريبة، واستشارة أهل العلم والخير والصلاح في زمن الفتن كما حصل من عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما.
عباد الله: هذا بعض من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقتدوا به تفلحوا، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
O y o
فضل القرآن في شهر رمضان
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب..
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً، أما بعد:(4/89)
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر، يعظم الله لكم بذلك الأجر، لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عموماً وبعض السور خصوصاً.
ففي صحيح مسلم أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان» رواه أحمد ومسلم.
وكان أسيد بن حضير - رضي الله عنه - يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس مرة ثانية، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه فانصرف ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فإذا مثل الظلمة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «أتدري ما ذاك؟»، قال: لا، قال: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى فيهم».
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة، وتحاجان عنه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سورة من القرآن، ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له، تبارك الذي بيده الملك»، وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، وقال له رجل: أحبها، فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة»، وقال رجل آخر: إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخبروه أن الله يحبه».(4/90)
وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل من أصحابه: «ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس»، فاقرؤوا القرآن بتدبر وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا، في أي وقت كان فالسجود لا نهي عنه لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم فكبروا، وقولوا سبحان ربي الأعلى في السجود،وإذا رفعتم من السجود فلا تكبروا ولا تسلموا، لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي فإنه يكبر للسجود والرفع منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفق من شاء من عباده لكثرة الطاعات، وجعل لهم الأجر العظيم، وكثرة الحسنات.
وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق المخلوقات، ومجزل العطايا والهبات، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، قام يصلي حتى تفطرت قدماه من كثرة الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وأكثروا من قراءة القرآن، ولاسيما في هذا الشهر المبارك، فإن لكثرة القراءة فيه مزية خاصة، وكان جبريل يعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان، كل سنة مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه مرتين تأكيداً وتثبيتاً، وكان السلف الصالح يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان، وغيره في الصلاة وغيرها.(4/91)
كان الزهري – رحمه الله – إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، ومجالس العلم، وأقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة، وكان إبراهيم النخعي يختم في رمضان في كل ثلاث ليال، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين.
O y o
أضرار الحسد
الحمد لله رب العالمين، يفضل بعض عباده على بعض، والله ذو الفضل العظيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل الخلق، وأعظمهم شكراً لله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واشكروه على نعمه، فقد فضلكم على كثير من عباده.
خصلة ذميمة حذركم الله منها، فطهروا أنفسكم من الاتصاف بها، ألا وهي خصلة الحسد التي هي من أعظم خصال الشر. فقد حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لا تحاسدوا»، وقال: «دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء» رواه أحمد، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» أو قال: العشب.
والحسد صفة شرار الخلق، فقد اتصف به إبليس، فحسد آدم لما رآه فاق الملائكة، حيث خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه جنته، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى خرج منها.
والحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلماً، لما وهبه الله النعمة، وتقبل القربان، وقد قص الله خبرهما في القرآن تحذيراً لنا من الحسد، وبياناً لعواقبه الوخيمة.(4/92)
والحسد صفة اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله، وحسدوا هذه الأمة على ما منَّ الله به عليها من الهداية والإيمان، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
عباد الله: الحسد هو كراهية وصول النعمة إلى الغير، سواء تمنى زوالها أو لم يتمنَ ذلك، وله من الآثار السيئة ما لا يحصى، فمنها:
أن فيه اعتراضاً على الله في قضائه، واتهاماً له في قسمته بين عباده، لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما آتاه الله، وأن غيره أولى منه.
ومنها: أن الحاسد منكر لحكمة الله في تدبيره، فهو سبحانه يعطي ويمنح لحكمة بالغة، والحاسد ينكر ذلك.
ومن آثار الحسد: أنه يورث البغضاء بين الناس، لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً».(4/93)
ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن المحسود بأي طريق، ولو بقتله، كما قص الله تعالى عن ابني آدم في قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وأخيراً نفذ الجريمة، وباء بالإثم، وخسارة الدنيا والآخرة، وصار عليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلماً لأنه أول من سن القتل، وسبب ذلك كله، والدافع إليه هو الحسد.
ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قبول الحق إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه.
ومن أضراره أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة، فيغتاب المحسود ويسعى فيه بالنميمة، وهما خصلتان قبيحتان وكبيرتان من كبائر الذنوب.
ومن أضرار الحسد أنه يذهب بالحسنات والأعمال الصالحة، كما في الحديث: «إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
ومن أضراره أن الحاسد لا يزال في همّ وقلق وغيظ لما يرى من تنزل فضل الله على عباده، يقول معاوية - رضي الله عنه -: «ليس من خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود».
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي أولاكم إياها، وتذكروا حكمته في الإعطاء والمنع، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض...
بارك الله لي ولكم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.(4/94)
عباد الله: من رأى شيئاً يعجبه في هذه الحياة الدنيا فليتذكر ما أعد الله للمؤمنين في الآخرة، وليقل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، وليسعَ في إزالة ما في نفسه من الحسد بأن يتذكر ضرر الحسد في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود، وليتذكر أن الأمور بيد الله عز وجل، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وليسأل الله من فضله، ولينظر إلى من هو أسفل منه، فإنه أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه.
O y o
الأعمال الصالحة
الحمد لله جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، أحمده سبحانه جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أحاط بعباده علماً، إنه كان سميعاً بصيراً، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، أرسله ربه شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واغتنموا أوقاتكم بالعمل الصالح المقرب إلى الله سبحانه، فإن لكم آجالاً ستلقونها، وإن لكم يوماً ستبعثون فيه فتجزون على أعمالكم فمن يعمل مثقال ذرة ...
عباد الله: ما تواصى العباد بمثل طاعة الله، ولا أسدى أحدٌ لأحدٍ معروفاً خيراً من نصيحة يوجهه فيها إلى الله، ويخوفه فيها من اليوم الآخر، وإن زمانكم هذا زمان فتنة وابتلاء، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا، يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. وإن الله سبحانه أكرم وأجل من أن يتخلى عن عبده المقبل عليه، المداوم على طاعته، إذ كيف يكون ذلك وهو القائل كما في الحديث القدسي: «من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب ذراعاً تقربت منه باعاً».(4/95)
أيها المسلمون: إن لعمل اليوم والليلة من الصلوات المكتوبة، والسنن الرواتب، وقيام الليل، وصلاة الضحى، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار ما بعد الصلاة، والاستغفار، وقراءة القرآن والذكر والدعاء، إن لهذه الأعمال أثراً ظاهراً في إصلاح القلب والبدن، وفي الحياة الطيبة التي تحفظ الإنسان في نفسه وماله وأهله.
وإن في إضاعتها والتهاون بها، لإضاعة لخير عظيم، وحرماناً لعون الله وتوفيقه لعبده، واضطراباً وقلقاً نفسياً {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: «إن للقلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله».
عباد الله: إن التدنس بالمعاصي، وعدم الاحتراس منها، والتهاون بصغائر الذنوب سبب عظيم لحرمان العمل الصالح، والتفريط فيه، وقد وعى السلف مثل هذا السبب وأثره، وتنبهوا إليه كثيراً، يقول الضحاك: «ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب»، ثم قرأ {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، ثم يقول الضحاك: «وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن».
وقال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟! فقال: «ذنوبك قيدتك»، وقال سفيان الثوري: «حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته! قيل: وما ذاك الذنب؟ قال: رأيت رجلاً يبكي فقلت في نفسي: هذا مراء».
قال ابن القيم – رحمه الله –: «ومن آثار المعاصي: حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن تصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جراً فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها والله المستعان».(4/96)
ومما يقطع من العمل الصالح: التوسع في المباحات، والإكثار من الأكل والشرب، واللباس والإسراف في ذلك، ولقد كان بعض العارفين يقف على المائدة، ويقول: معاشر المؤيدين، لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً، فتتحسروا عند الموت كثيراً.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطن ...»، وأبلغ من ذلك وأعظم قوله تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}.
عباد الله: إن التسويف والتأخير في الأعمال الصالحة سبب قاطع لكثير من الخير، جالب لكثير من الشر، مانع لكثير من الأجر، فالصغير يدع العمل حتى يكبر،والشاب حتى يشيب، والكهل حتى يهرم، وما يدري كل واحد منهم لعل الموت أن يأتيه فجأة فيقطع عليه حياته، فيندم حين لا ينفع الندم، أوما علم هؤلاء أن من يأخذه الموت من الشباب أكثر مما يأخذه من الشيوخ، أوما سمع الشاب أن الله يعجب من شاب ليست له صبوة، وإن الله يظل في ظله يوم القيامة سبعة منهم شاب نشأ في طاعة الله، أليس هناك حافز لك على العمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر».
أيها المسلمون: إن العمل الصالح فيه إصلاح النفس والبدن، وهو سبب لصلاح الذرية التي ترى وليها محافظاً على أوامر الله ورسوله، فتقتدي به، ولعل هذا هو أحد الأسباب التي فضل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة النوافل في البيت حين قال: «خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة» ليراه أولاده فيقتدون به، فتصلح حالهم وهم صغار قبل أن يبلغوا الحِنْث. وإن من الإفساد لهم إظهار المعاصي أمامهم، فيألفونها فتشربها قلوبهم فلا ينكرونها فيكون إثمها عليهم، وعلى من جرأهم عليها والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {...}
} - }
الخطبة الثانية:(4/97)
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، السميع العليم، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان عليهم من ربهم الرحمة والتسليم، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أنفسكم على النار لا تقوى.
عباد الله: إن لترك الأعمال اليومية أو بعضها آثار على الإنسان قد تصل به إلى درجة الهلاك أو الضعف، فيكون نهبة لشياطين الإنس والجن، يهيمون به في كل واد، ويقطعون عليه كل طريق للخير والصلاح، وإنهم لن يألوكم جهداً في الإضلال، فاقطعوا عليهم طرقهم، وأفسدوا عليهم خططهم بطاعة الله ورسوله والالتزام بالأعمال اليومية من الصلوات والدعاء والأذكار، واعلموا أن الله معكم في ذلك، {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.
وعليكم بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمه عبد الله بن عباس: «يا غلام، إني أعلمك ...».
O y o
مكفرات الذنوب
إن الحمد لله نحمده...
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، فلا نجاة ولا خلاص إلا بتقوى الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ}.
واعلموا يا عباد الله أن من تقوى الله التعلق واللياذ بجنابه، والالتجاء إليه والاعتصام به.
أيها المسلمون: كل بني آدم خطاء، ما من أحد من الناس إلا وقد وقع في ذنب وخطيئة، ولكن السعيد من خاف ذنوبه، وسعى لإزالتها، وعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به.
وإذا كان هذا هو حال السعداء، وهذه سبيل المفلحين، فلنراجع أنفسنا، ولنسلك سبيل أولئك الصالحين.
عباد الله: هذه نظرات في سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، نلتمس بها مغفرة ربنا، ونراجع بها أنفسنا، ونعمل فيها بمكفرات ذنوبنا.(4/98)
الله يدعو عباده إليه، ويتلقاهم بعفوه ومغفرته، ويناديهم بما كرمهم به. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي..».
هذه ثلاثة أسباب لتكفير الذنوب: أولها دعاء الله سبحانه، والالتجاء إليه، والإلحاح في الدعاء، فالدعاء سلاح عظيم من أسلحة المؤمن يحبه الله، ويرغب فيه، ويدعو عباده إليه، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، أكثر منه الأنبياء والصالحون، وألح فيه المحسنون، وحمل همه المؤمنون، أثنى الله على الأنبياء به {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
استجاب الله فيه للمريض والغريق والمهموم، ومن أحاطت به الشدائد بل دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب لإجابته أسباب كثيرة.
الإلحاح، وتخيّر أوقات الإجابة، وإظهار الذلة والافتقار «رب أشعث أغبر ذي طمرين...»، ولا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، ولإجابته موانع أعظمها أكل الحرام، والتغذي به «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة»، وفي الحديث الآخر في وصف حال بعض الداعين أنه يدعو «ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له». والله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاهٍ.
وثمة مكفر آخر لا يقل أهمية عما قبله، يمحو الذنب، ويزيل الجدب، ويلين القلب، فيه الفرج من كل هم، فيه كثرة النسل والنماء، به دخول الجنات بإذن الله.
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة»، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب، ولابد مع الاستغفار من البعد عن الذنوب، فمن استغفر وهو مُقِرٌ على ذنبه فهو مستهزئ بالله سبحانه.(4/99)
بل إن الصالحين من عباد الله يكثرون من الاستغفار مع الأعمال الصالحة خشية أن لا يكونوا أدوها على وجهها، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر بعد الصلاة ثلاثاً، والله يقول: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أيها المسلمون: هذا ربكم يناديكم للرجوع، فأجيبوا داعي الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رحم عباده، فبين لهم طرق الخلاص، ووفق من شاء منهم لسلوك طريق الإخلاص، أحمده سبحانه، وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم.
إن من أعظم مظاهر التقوى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهو سبب عظيم لتكفير الذنوب، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة»، فلا إله إلا الله، ما أعظم حِكم الله سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء.(4/100)
عباد الله: حققوا توحيدكم، وخافوا من الشرك، فقد خافه من قبلكم قال الله عن إبراهيم وقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، ولا تأمنوا مكر الله، ولا تقنطوا من رحمة الله، وألحوا على ربكم بالدعاء فقد كان من دعاء نبيكم: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»، والزموا الاستغفار وتوبوا إليّ.
O y o
زيادة الإيمان ونقصانه
الحمد لله أنزل على عبده الكتاب ليكون للناس موعظة وذكرى، وجعله للمتقين زيادة في إيمانهم وذخراً، وللظالمين زيادة في ضلالهم وخسراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والأخرى، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، الشاكر لربه في اليسر والعسر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان سراً وجهراً، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتزودوا من دينكم ما يسركم أن تلقوا به ربكم غداً.
عباد الله: لقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً من ربه إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً، فانقسم الناس إلى قسمين: منهم من آمن وصدق به، فكانوا من أهل السعادة، ومنهم من كذب وكفر فكان لهم الخزي والندم في الدنيا والآخرة.
والإيمان يا عباد الله منّة وفضل من الله سبحانه، علم من عبده الخير والميل إليه فوفقه وهداه إلى الإيمان به سبحانه، ولو شاء لأضله كما أضل غيره من البشر، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمع بالأنصار بعد غزوة حنين، وكانوا قد وجدوا في أنفسهم أنه لم يعطهم من الغنائم، فقال لهم: «ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي»، قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل.(4/101)
والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر في دعائه أن يقول: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك»، فمن دخل في الإيمان فقد أحرز نفسه من الشرك والخلود في النار، ومن عصى الله بما دون الكفر من المعاصي صار ظالماً لنفسه بأعماله، وإن اقتصر على الواجبات، وترك المحرمات ولم يزد على ذلك صار مقتصراً في طاعة الله سبحانه.
وإن سارع في الطاعات والخيرات، واجتهد فيها فأدى الفرائض وأكثر من النوافل، وترك المحرمات والمكروهات، صار سابقاً للخيرات بتوفيق الله عز وجل، فلا يغتر بعمله، فما حاز ذلك إلا بمعونة الله وتوفيقه ليشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه.
وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم الذين اصطفاهم الله سبحانه لحمل كتابه ورسالته، وهم الموعودون بالنعيم المقيم يوم القيامة، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}.(4/102)
عباد الله: إن المقرر عند أهل الإسلام أن إيمان العبد يزيد وينقص، كما دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع عليه سلف هذه الأمة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن»، وقال ابن عبدالبر – رحمه الله –: «وعلى أن الإيمان يزيد وينقص جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفُتيا في الأمصار».
إذا عُلم هذا أيها المسلمون فاعلموا أن لزيادة الإيمان أسباباً تدور على طاعة الله سبحانه وترك معصيته فمن ذلك: معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، فإن العبد كلما ازداد معرفة بها، وبمقتضياتها وآثارها، ازداد إيماناً بربه وحباً له وتعظيماً.
ومنها النظر في آيات الله الكونية والشرعية، فإن العبد كلما نظر فيها وتأمل ما اشتملت عليه من القدرة الباهرة والحكمة البالغة ازداد إيمانه ويَقينه بلا ريب.
ومنها فعل الطاعات تقرباً إلى الله سبحانه، وكلما كان العمل خالصاً على سنة رسول الله كانت زيادة الإيمان به أعظم، والواجب والفرض يزيد الإيمان بها أكثر من المسنون، وكلما كان العمل أكثر كانت زيادة الإيمان به أكثر، وترك المعاصي خوفاً من الله عز وجل، وكلما كان الداعي إلى المعصية أقوى كان زيادة الإيمان بتركها أعظم، لأنه يقدم ما يحبه الله ورسوله على ما تهواه نفسه.
فاتقوا الله عباد الله، واشكروا ربكم واحمدوه أن هداكم للإيمان وقد أضل عنه كثيراً من الناس.(4/103)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
O y o
فضل كلمة التوحيد
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وهو على كل شيء شهيد.
أحمده سبحانه، وأشكره منّ علينا بدين الإسلام، وهو الولي الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، وعد الموحدين من عباده بالجنة والمزيد، فقال: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، حمى بإذن ربه جَنَابَ التوحيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل الهجرة والنصرة والتأييد، والتابعين لهم بإحسان من سائر العبيد، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقواه، فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتُحفظون في الحال والمآل. تقوى الله أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
وأوامر الله سبحانه كثيرة منها ما هو من أصول الدين وأركانه فلا يصح الدين إلا به، ومنها ما هو من واجباته وفرائضه، فتاركه آثم معرّض للوعيد والهلاك، ومنها ما هو من سنن الدين ومكملاته، يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، وإن أعظم أركان الدين، وأهم مهماته كلمة واحدة، يدخل بها الإنسان الإسلام، فيكون له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، إذا قالها الإنسان عصم ماله ودمه وحرم التعرُّض له بقتل أو سلب مال أو غير ذلك من الأذى.
من قالها بإخلاص سعدت نفسه في الحياتين، وارتفع قدره في الدارين الآخرة والأولى، ومن كانت آخر كلامه في الدنيا دخل الجنة، ألا وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له.(4/104)
عباد الله: هذه الكلمة الجامعة هي أساس دعوة المرسلين جميعاً، ما بعث الله الرسل إلا لتحقيقها، فكل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. والله يقول عن جميع الرسل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}.
هذه الكلمة العظيمة التي بعث الله بها جميع الرسل يجب على المسلم أن يعرف معناها وفضلها وثوابها، وأن يعمل بمقتضاها.
أما معناها: فإن معنى هذه الكلمة أن الذي يستحق العبادة هو الله وحده دون ما سواه، فلا معبود حق سوى الله، وكل معبود سواه فباطل، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، وأما مقتضاها فإنه أن تفرد الله وحده بالعبادة، فلا تعبد معه غيره، وتتبرأ من كل معبود سوى الله، وتفعل أوامره وتجتنب نواهيه.
فمن عرف معنى هذه الكلمة لم يقلها إلا إذا كان سيعمل بمقتضاها، فإن المشركين من قريش لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا: لا إله إلا الله». قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} لأنهم فهموا معنى الكلمة، وهو عبادة الله وحده، أما مشركو اليوم فإنهم لا يعرفون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، فتجد الواحد منهم يقول: لا إله إلا الله، ثم يتجه إلى الأصنام والأشجار والقبور يدعوها من دون الله سبحانه.(4/105)
عباد الله: إن جميع أعمال الإسلام داخلة في شهادة أن لا إله إلا الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، لمن استطاع إليه سبيلاً، وكل أمر أمر الله به ورسوله، واجتناب كل ما نهى الله عنه ورسوله، ولما منع بعض العرب الزكاة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم الصحابة - رضي الله عنهم - وقالوا: إن الزكاة من حق لا إله إلا الله، ولما قيل لوهب بن منبه – رحمه الله – أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة، قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح.
ومما يناقض هذه الشهادة الشرك بالله سبحانه بصرف شيء من العبادة لغيره، سواء كان من الشرك الأكبر أو الأصغر، وكذلك المعاصي فإنها تنقصها وتقلل من ثوابها وفائدتها.
وأما فضل هذه الكلمة فإن الله أرسل بها جميع الرسل، وجعلها الفارقة بين الإسلام والكفر، فلقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وهي المنجية من النار فعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» أخرجاه في الصحيحين.
وأما ثوابها فقد تواردت الأدلة الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل هذه الكلمة فمن ذلك «أن من قالها في يوم مائة مرة كان كمن أعتق عشرة أنفس من ولد إسماعيل، ومن قالها في يوم عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل»، وعتق الرقبة من أفضل الأعمال في الإسلام، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله بها بعد كل صلاة وإذا أصبح وأمسى.
فاتقوا الله عباد الله، والزموا أوامر ربكم، وتعلموا أحكام دينكم، وما ينجيكم من عذاب ربكم.(4/106)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى، والتابعين لهم بإحسان ومن سار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
عباد الله: إن أحرج ساعة تمر على الإنسان، هي ساعة الموت، حينما يذهل الإنسان عن كل شيء، في ذلك الموقف الصعب ينسى أهله وولده وماله، ولا يتذكر إلا نفسه، ولا يأسى إلا عليها، في ذلك الموقف ينجلي صبر الصابرين وصلاح الصالحين، فمن كان من أهل الخير والتُقى، ظهر علامة صلاحه فيه.
وإن مما ينبغي للمسلم أن يعد لذلك اليوم عدته بالتأهب بالأعمال الصالحة، واغتنام الأوقات الفاضلة، ولقد علمتم أن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، ولن يستطيع الإنسان ذلك إلا إذا كان مكثراً من قولها في هذه الحياة مخلصاً فيها لله سبحانه وتعالى.
أما من يضيع أوقاته وساعات عمره في اللهو واللعب، وانتهاك حرمات الله ثم يرجو أن يقولها فذاك هو العاجز الكسلان، فقد ورد في الأثر «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
ولقد ذكر العلماء من أحوال المحتضرين والمرضى قصصاً تبين الفرق بين ذاكر الله في حياته، ومستمع الغناء واللهو، فمن أراد العبرة فليراجعها، ليعلم أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً.
O y o
سيرة الصديق - رضي الله عنه -(4/107)
الحمد لله الذي جعل في سير الماضين عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وجعل في الصالحين منهم أسوة وقدوة للمقتدين، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الذين كانوا بالحق عاملين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأصلحوا قلوبكم وأعمالكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
عباد الله: قراءة التاريخ والتعرف على أحوال الماضين يورث الإنسان عزة ومهابة، ويكسبه إن كان عاقلاً صلاحاً في الحياة الدنيا ويوم القيامة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى}.
وفي تاريخنا الطويل من بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا الحاضر عبر ودروس في أحداث الزمان وسير العظماء.
وأول ما يتجه إليه النظر في هذا التاريخ الطويل سيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم الهداة المهتدون، الذين عرفوا الحق وبه كانوا يعملون، لم يأت ولن يأتيَ مثلهم في الناس، وهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله، لهم من الفضائل ما ليس لغيرهم، ولهم من السبق والإيمان ما لو وزن بإيمان أهل الأرض لوزنهم، فالواجب على المؤمنين محبتهم واحترامهم، ومعرفة فضلهم وسبقهم، والاستغفار لهم {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}.(4/108)
وإن من أجلّ هؤلاء وأعظمهم وأقربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة صاحبه وخليفته أبوبكر عبدالله بن قحافة التميمي القرشي، أول من أسلم من الرجال، ولد - رضي الله عنه - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعامين وأشهر، وكان أبيض نحيفاً، خفيف العارضين، قليل اللحم، ناتئ الجبهة، كثير الشعر، وكان يخضب بالحناء والكتم.
كان في جاهليته أعلم الناس بالأنساب، وفيما كان في قريش من خير أو شر، وكان تاجراً، وصاحب خلق ومعروف، يألف ويؤلف، وكان صاحب رأي ومشورة، لم يشرب الخمر في الجاهلية، ولا في الإسلام، بل قد حرمها في جاهليته - رضي الله عنه -.
ولم يسجد لصنم، يقول - رضي الله عنه - لما ناهزت الاحتلام أخذني أبو قحافة إلى الأصنام، فقال: هذه آلهتك، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، إني عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه، ولما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس إلى الإسلام كان أولهم إسلاماً أبوبكر، ففي صحيح مسلم أن عمرو بن عبسه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة: من معك في هذا الأمر؟ قال: «حر وعبد»، وليس معه إلا أبوبكر وبلال.
ولما أسلم جعل من نفسه داعية إلى دين الله، فدعا من يجلس عنده، فأسلم معه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -.
واشتد أذى المشركين له لما أسلم، ليصرفوه عن دين الله، فخرج يريد الهجرة إلى الحبشة، فلقيه رجل من سادات العرب، فقال: أين تريد يا أبابكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فقال: مثلك لا يُخرج، ولا يَخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف،وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فأرجعه إلى مكة في جواره، ووافقته قريش على ذلك.(4/109)
وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ومكثا في الغار ثلاثة أيام وطلبهما المشركون فلم يجدوهما، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا».
شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض السرايا لقتال أهل نجد من المشركين، وكانت معه راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ولم يفرَّ في غزوة حنين، بل ثبت مع من ثبت حتى جاء نصر الله، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع أميراً على الحج، ولما اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرض أمره أن يصلي بالناس فصلى بهم، ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أثبت الصحابة جأشاً، وأقواهم عزيمة، فخطب خطبة بين فيها وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله ناصر دينه، واجتمع الصحابة لاختيار الخليفة، فرضوا بأبي بكر - رضي الله عنه - وبايعه الصحابة جميعاً، فكان أول عمل قام به إنفاذ جيش أسامة إلى الشام، وقتال المرتدين.(4/110)
ولما مرض مرض الموت استخلف على الناس عمر بن الخطاب، وأوصى أن يرد ما عنده من المال إلى الخليفة بعده، فوجدوا عبداً وناضحاً كان .................. عليه، وقطيفة جردة، فبعثوا بها إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحم الله أبابكر، لقد أتعب من بعده، وتوفي - رضي الله عنه - ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ودفن إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله من الفضائل والمناقب ما لم يكن لأحد بعده، فهو أول من أسلم من الرجال، وهو أول من يدخل الجنة بعد الأنبياء، ويدعى من أبواب الجنة كلها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثني عليه دائماً، ويقول: «جئت أنا وأبوبكر وعمر»، ويقول: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر»، وقال: «سدوا كل باب على المسجد إلا باب أبي بكر»، وهو أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال علي – كرم الله وجهه –: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبوبكر ثم عمر»، وهو الذي جمع القرآن لما خاف موت القراء، وكان رجلاً خاشعاً لا يكاد يسمع له صوت من البكاء، وهو أكثر الناس ورعاً وخوفاً وزهداً في هذه الحياة الدنيا، رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد، فهذه بعض سيرة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوت من الفضائل والعبر ما لم تحوهِ سيرة رجل بعد الأنبياء، فأين المقتدون به؟ السائرون على نهجه وسيرته؟؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:(4/111)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، والزموا طريق السلف الصالح تفلحوا.
عباد الله: في سيرة أبي بكر - رضي الله عنه - عدد من العبر منها:
1. تقديمه محبة الله ورسوله على محبة كل أحد حتى على نفسه، فلقد تصدق بماله كله... وهكذا يكون المؤمن حقاً.
2. بذله ماله ونفسه في سبيل الله تعالى.
3. دعوته إلى دين الله، فقد دعا بلسانه وماله، وجعل من نفسه قدوة يقتدى به في الخير، فلم يخالف قوله فعله.
4. ورعه وزهده عن متع هذه الحياة الفانية، وطلبه ما عند الله تعالى.
5. رباطة جأشه وثباته وقوته في دين الله، فإذا ثبت عنده الحق لم ينظر إلى ما سواه.
6. وكان صاحب خير ومعروف، يوصله إلى عباد الله، فكان يقري الضيف، ويحمل الكل – أي المنقطع، ويكسب المعدوم – أي الفقير، ويعين على نوائب الدهر في المصائب العامة التي تصيب الناس.
7. ومن ذلك عبادته وبكاؤه عند ذكر الله، وهذه من أهم صفات المؤمنين {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
فيا عبدالله: إن أردت خير الدنيا والآخرة، فعليك بهؤلاء فاقتدِ بهم، ومن أحب قوماً حشر معهم، يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب»، قال أنس: «فأنا أحب رسول الله وأبابكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم».
عباد الله صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه...
O y o
من وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم -
إن الحمد لله ...(4/112)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما من به عليكم،إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، فحققوا هذه النعمة باتباع سنة رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، والوقوف عند هديه وشريعته، والبعد عما أحدثه أهل الأهواء والبدع، مما لم ينزل الله به من سلطان.
عباد الله: لقد أرسل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور،ويدلهم على الصراط المستقيم، فأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده منذ بعثته إلى أن توفاه الله عز وجل، لم يترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، فصلوات الله وسلامه عليه، ولقد روى لنا أصحابه - رضي الله عنهم - من ذلك الشيء الكثير، وتناقله علماء المسلمين نصحاً للأمة، وأداء للأمانة، وحفظاً للدين أن تنتهك جوانبه، وحرصاً على الأمة أن يكون عملها وبالاً عليها، أو تبتعد عن شرع الله فيذيقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وإن من أبلغ ما نقله الصحابة لنا من سيرته صلوات الله وسلامه عليه ما رواه الإمام أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».
عباد الله: هذه وصية أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فوعوها وعملوا بها، وهي وصية للأمة جميعاً.(4/113)
وكانت هذه الوصية في آواخر حياته - صلى الله عليه وسلم - ولهذا أبلغ في الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، ففهموا أنها موعظة مودع، فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعظ أصحابه كثيراً امتثالاً لقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
ولكنه لا يديم وعظهم، بل يتخولهم به أحياناً، وكان ابن مسعود يذكر أصحابه كل خميس، فقال له رجل: إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
وينبغي للواعظ أن يكون بليغاً فيختار ألفاظه، ويقصر خطبته ويوجزه، فقد كان هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا جمع في هذه الوصية البليغة خير الدنيا والآخرة، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة».
فأوصاهم بالتقوى، وهي كافلة لسعادة الآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً}، والتقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فيعمل بطاعة الله، ويجتنب معصيته، ولقد أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة لا تحصر، وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا وبها تنتظم مصالح العباد في معيشتهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي - رضي الله عنه -: «إن الناس لا يصلحهم إلا إمامٌ بر أو فاجر. إن كان فاجراً عبد المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيه إلى أجله».(4/114)
وقال الحسن في الأمراء: «هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون مع أن والله طاعتهم لفرض وإن فرقتهم لكفر».
ثم أخبر صلوات الله وسلامه عليه بما سيقع بعده من الفرقة والأمور المنكرة، ودل أمته على ما ينجيهم من تلك الفتن، وهي اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين، والسير على منهجهم، ومن سنته تقوى الله وطاعة أولي الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، وأوصى بالعض عليها بالنواجذ وهي الأضراس كناية عن شدة التمسك بالسنة.
فاتقوا الله، عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، جعل أمة محمد خير العالمين، وأرسل إليهم سيد ولد آدم أجمعين، وجعله خاتم النبيين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، فإن طاعته أقوم وأهدى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واحذروا أسباب سخط الجبار فإن أجسادكم على النار لا تقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.(4/115)
عباد الله: لئن كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته في آخر حياته بتقوى الله، والسمع والطاعة واجبة على كل مسلم، فإن مما ينبغي على المسلم الحذر منه سلوك سبيل المغرضين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقتل الآمنين المعصومين، وترويع الناس، والإفساد في الأرض بتدمير المباني، وإضاعة الأموال ليس من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا هدي السلف الصالح – رضوان الله عليهم أجمعين – وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً».
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن الكريم، وسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.
O y o
الحث على صلة الرحم والتحذير من القطيعة
الحمد لله الملك الحق المبين، أحمده سبحانه حمد الشاكرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه رب العالمين، وأنزل عليه: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(4/116)
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وراقبوه وامتثلوا أوامره، وانتهوا عن نواهيه، وتذكروا نعمه عليكم التي لا يحصيها تعداد، وقوموا بأداء ما افترضه عليكم، وتدبروا كتاب ربكم فقد حثكم سبحانه على تقواه، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}، فهو يأمركم بأن تتقوه، تتقوه في جميع أحوالكم، وأعمالكم، تتقوه بأداء أماناتكم، وما استرعيتم عليه، تتقوه فيما بينكم وبين أقاربكم وأرحامكم، فيما بينكم وبين أولادكم وأهليكم، تتقوه فيما بينكم وبين نفوسكم، تتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، فهو الذي خلقكم ورباكم، وهو المستحق للعبادة وحده، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، أهل لأن يُتقى ويُخاف، قال سبحانه: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}، ينبهكم بهذا على أنه يجب عليكم التعاطف والتآلف والتراحم فيما بينكم، لأن أصلكم واحد، فلا ينبغي أن يترفع أحد على أحد، ولا يفخر ولا يتعاظم عليه لنسبه أو جاهه أو ماله، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وإن للقرابة حقاً أوجبه الله تجب مراعاته، والقيام به، ومن كان أقرب فحقه ألزم وأوجب، فآكد حقوق القرابة: حق الوالدين، فهما أحق بالبر والإحسان، واللطف والإكرام، ثم الأقرب فالأقرب، كل على قدر قرابته وقربه منك.
عباد الله: إن صلة الرحم مما أمر به القرآن وحث عليه سيد الأنام، والاتصاف بها من محاسن الإسلام، فقد وعد الله بأن يصل من وصل رحمه، وعده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبسط له في رزقه، وأن يطيل عمره، ففي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه».(4/117)
إن صلة الرحم سبب لسعة الرزق، ولطول العمر مع الثواب الآجل المدخر لصاحبه يوم القيامة، روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سره أن يمدد في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه». وروى أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقول: «إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء، ويدفع بهما المكروه والمحذور».
إن صلة الرحم من الأعمال الجليلة التي رغب فيها القرآن،وحث عليها، ورغب فيها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فالله يقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه».
عباد الله: إن صلة الرحم تضاعف ويعظم أجرها مع القطيعة يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها»، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك»، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟» قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «تحلم عمن جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك».
فاحذروا عباد الله، من قطيعة الرحم، فإنها شؤم وخسران في الدنيا، وعقوبة وعذاب في الآخرة، إنها سبب للعنة الله، والإعراض عن الحق {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}.
إن قاطع الرحم عرض نفسه للحرمان العظيم، والوعيد الشديد، لقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة قاطع» بمعنى قاطع رحم، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم».(4/118)
وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - جالساً بعد الصبح في حلقة، فقال: «أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا وإن أبواب السماء مرتجة – أي مغلقة – دون قاطع رحم».
فحذارِ حذارِ عباد الله، من قطيعة الرحم، واعلموا أن لصلة الرحم حدوداً، فهي فيما يعود على الأقارب بالنفع في دينهم ودنياهم في حدود الشرع.
أما مناصرتهم على الباطل وعدم ردعهم عن غيهم وفسادهم، فإن هذا لا يعد من الصلة، وإنما هو حمية الجاهلية، وقد ذم الله المتصفين بها بقوله: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي، ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم السلطان، الكريم المنان، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ الإنعام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صاحب الإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار، أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقواه جُنة من عذابه، وهي الموصلة إلى مغفرته ومرضاته، واعلموا أن صلة الرحم من أفضل الأعمال، ومن أكبر الأسباب لسعادة الدين والدنيا، والفوز برضا الله سبحانه، والحصول على كرامته وجنته.(4/119)
وإن قطيعة الرحم سبب من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأسباب للتعرض لسخط الله، وأليم عذابه، روى البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم».
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، ثم صلوا وسلموا...
O y o
توجيهات لطالب العلم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى، والخليل المجتبى، بعثه ربه بالحق والهدى، يتلو على الأميين آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، فتقوى الله هي المنجية من المهلكات، المخرجة من الظلمات، {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}.(4/120)
عباد الله: لقد أتى على العرب حين من الدهر يعيشون فيه في جاهلية جهلاء، وظلام دامس، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، الجهل هو قائدهم، والأمية مركبهم، حتى بعث الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فبث دعوته في أوساط قومه في مكة، ثم في المدينة، يدعوهم إلى عبادة الله، وحده لا شريك له، وجعل لهذا الدين العظيم قواعد وأركاناً، يعتمد عليها، وإن من أعظم هذا القواعد التي جاء بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتي تحفظ للأمة دينها، تعلم العلم الذي جاء به من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب».
عباد الله: ها نحن نقف على أعتاب عام دراسي جديد، يبتدئ فيه أبناؤنا في طلب العلم وتحصيله، فما الواجب عليهم وعلى أولياء أمورهم، تجاه أنفسهم ومعلميهم، ومجتمعاتهم.
أيها المسلمون: إن العلم عبادة يتعبد بها الإنسان لله سبحانه، والله لا يقبل من العبادات إلا ما كان خالصاً له {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}، وفي الحديث الصحيح: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، فليحرص المتعلم على إخلاص نيته فإنه بإخلاصها يكون طلبه للعلم من أفضل العبادات، وبترك الإخلاص ينحط إلى أعظم المخالفات، فالرياء مفسد للدين والدنيا معاً، وفي الحديث: «أول من تسعر بهم النار ثلاثة، وذكر منهم قارئ تعلم القرآن ليقال هو قارئ».(4/121)
ولقد كان السلف أشد الناس حرصاً على إصلاح نياتهم، وكانوا يجدون في ذلك مشقة عظيمة، يقول سفيان الثوري – رحمه الله –: «ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي»، ومما ينبغي العناية به في طلب العلم محبة الله، ومحبة رسوله، وذلك بأن لا يقدم عليهما أحداً من الناس، لا في قول، ولا فعل، ولا اعتقاد، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.
عباد الله: إذا اجتمع الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله، حصلت التقوى التي يسهل بها طريق العلم، وإذا سلك الإنسان طريق العلم بنية خالصة، سهل الله له طريق الجنة، فكان من المصلحين.
ومما يوجه إليه في طلب العلم اللجوء إلى الله وكثرة دعائه أن يفتح عليك العلم، وييسره لك، وكان شيخ الإسلام – رحمها الله – يقول: «اللهم يا معلم آدم وإبراهيم، علمني ويا مفهم سليمان فهمني».
ومن أهم المهمات التي تحفظ العلم؛ العمل به فإن العمل بالعلم يثبته، ويجعل الجوارح موافقة للعقل فيه،وقد قال السلف: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعمل»، فإذا حفظ الإنسان شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فليبادر بالعمل به حتى يثبت ويستقر، يقول الإمام أحمد – رحمه الله –: «ما سمعت حديثاً عن رسول الله إلا عملت به»، فانظر مقدار ما حفظ، فقد حفظ – رحمه الله – مئات الآلاف من الأحاديث وكلها عمل بها، ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل».
واحذر يا عبد الله من جليس السوء فإنه يود لك أن تكون مثله، والجليس متخلق بأخلاق جليسه، وجليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة.
وليحفظ الإنسان وقته، فهو غال الثمن، رفيع القدر، ولا يسترد الزمان ولو بذل فيه الدنيا بأسرها.(4/122)
وليتعب نفسه في طلب العلم، والحرص عليه، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، ولتكن همة الإنسان معالي الأمور، وليبتعد عن ساقطها وسفاسفها، واحرص أيها المتعلم، على بر الوالدين، فإن في رضاهما رضا الله سبحانه، وإذا رضي الله وفقك في دنياك وآخرتك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وهدانا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، فتقوى الله هي الفارقة بين الحق والباطل، الموصلة بإذن الله إلى أعلى المنازل.
عباد الله: إن رفعة الأمم والأفراد بمقدار ما عندها من العلم النافع، وانحطاطها بقدر ما فيها من الجهل، ولقد رفع الله أهل العلم، وأعلى منازلهم في الدنيا والآخرة، وإن المقصود بالعلم في كتاب الله وسنة نبيه هو علم الشريعة الذي يورث خشية الله سبحانه، وإذا علم الإنسان ولم يعمل، كان جهله خيراً له من علمه، وإن من أعظم ثمرات العلم وما يحفظه البعد عن معصية الله، ودوام مراقبته سبحانه، فينال درجة الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
واعلم أن معصية الله تذهب العلم والفهم، وتضعف الحافظة، يقول الشافعي – رحمه الله –:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي(4/123)
وإن مما يجب على أولياء الأمور حفظ أولادهم، ومن تحت ولايتهم، وتربيتهم التربية الإسلامية، بإخراج المنكرات، وما يؤدي إليها من البيوت والمجتمعات، وتحذيرهم منها، ومن جلساء السوء، والحرص على تفقد أحوالهم، وحفظ أوقاتهم، وعلى جميع الناس تقوى الله، وتقدير طالب العلم، وإنزاله منزلته، صغيراً كان أو كبيراً، فإن طالب العلم يسلك طريقه في هذه الحياة إلى الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهلها.
واعلموا عباد الله، أن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها....
O y o
دعوة إلى الزهد
إن الحمد لله ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقواه، فمن اتقى الله كفاه، ووفقه لهداه، وبلغه في الدارين ما تمناه.
عباد الله: صفة عظيمة من صفات نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، تزيل عن النفس الشقاء والعناء، المتصف بها مؤمن راض بقضاء الله وقدره.
حث الله على الاتصاف بها في كتابه، وأوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، الذين صبروا أنفسهم بتعاليم دينهم، وسير سلفهم الصالح.
ما ارتفع من ارتفع من سادة الأمة إلا وهذه الخصلة موجودة فيه، بها تنال محبة الله ومحبة الناس، كما أخبر بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
هذه الصفة هي الزهد يا عباد الله. الزهد في زينة الحياة الدنيا ومتاعها الزائل، والنظر إلى ما أعده الله لعباده في الدار الآخرة، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: «الزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الآخرة وهو المباحات التي لا تعين على طاعة الله سبحانه». فمن أراد أن يعمل عملاً، أو يقول قولاً، فلينظر هل ينفعه يوم القيامة؟ فإن كان ينفعه فليعمله، وإلا فليزهد فيه.(4/124)
أيها المسلمون: ليس المراد من الزهد أن يتخلى الإنسان عما يملك، فقد كان سليمان وداود عليهما الصلاة والسلام أزهد أهل زمانهما، وقد ملكا الدنيا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس، وقد تزوج من النساء تسعاً، وكان عدد من أصحابه زهاداً كباراً، وعندهم من الأموال ما لا يحصى، لكنهم ساروا بها على مراد الله سبحانه.
وهذا عمر بن عبدالعزيز لا يذكر الزهد إلا ذكر معه، وهو ملك الدنيا في عصره، يقول الحسن - رضي الله عنه -: «ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، وإضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو لم تصبك».
أيها المسلمون: يقول ابن القيم – رحمه الله –: «الزهد أقسام: زهد في الحرام، فهذا فرض عين، وزهد في الشبهات، فإن كانت الشبهة قوية كان واجباً، وإن كانت ضعيفة كان مستحباً، وزهد في الفضول كالكلام، والنظر، والسؤال، ولقاء الناس، وزهد في النفس، فتهون عليه نفسه في ذات الله سبحانه، والجامع لذلك كله أن تزهد في كل ما سوى الله».
عباد الله: بالزهد تنال محبة الله سبحانه ومحبة الناس، فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك».
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أزهد الناس، فلقد أتته الدنيا مقبلة فردها، ولقد خيره الله بين أن يكون ملكاً رسولاً، أو عبداً رسولاً؟ فاختار أن يكون عبداً، وقال في دعائه المشهور الذي رواه البخاري ومسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً» أي لا يزيد على حاجتهم.(4/125)
ولما ذكر عمر - رضي الله عنه - ما أصاب الناس من الدنيا قال: «لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً يملأ به بطنه»، والدقل رديء التمر، وكان فراشه من جلد محشوٍ ليفاً، كما أخبرت بذلك عائشة – رضي الله عنها – وعن عبدالله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثر في جنبه - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: لو اتخذنا لك وطاً – وهو الفراش اللين – فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».
عباد الله: من ذكر الدار الآخرة وما فيها هانت عليه الدنيا وزهد فيها، وكلما كان الإنسان أكثر إيماناً كان أكثر زهداً، ولهذا لما زهد أبوبكر في الدنيا أنفق ماله كله في سبيل الله، وعثمان جهز جيش العسرة من ماله، بل جادوا بأعظم من ذلك، وهو زهدهم في أرواحهم في سبيل الله، فأين السائرون على طريقهم، المهتدون بهديهم، المقتفون لآثارهم؟
جعلني الله وإياكم من الزاهدين، وحشرنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله،الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: من أراد كمال الزهد، فليتذكر أموراً ثلاثة تعينه عليها:(4/126)
أحدها: علم العبد أن الدنيا ظل زائل، وخيال زائر، فهي كما قال الله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}، وسماها الله متاع الغرور، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المفترين، وحذرنا من مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها.
الثاني: تذكر الدار الآخرة، وأن يوقن الإنسان أن وراء هذه الدنيا داراً أعظم منها قدراً، وأجل خطراً، وهي دار البقاء، فيزهد في هذه الدنيا لما هو خير منها.
الثالث: أن يعلم الإنسان أن زهده في الدنيا لا يمنعه شيئاً كتب له، فكل ما كتب له سيأتيه، وأن حرصه لن يجلب له ما لم يقدر له، وحينئذ يزهد في هذه الدار الفانية.
فاتقوا الله، عباد الله، واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها وعملها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب...
ثم صلوا....
O y o
حقوق المسلمين على بعضهم
الحمد لله جعل المؤمنين أخوة متحابين، وقوّى الصلة بينهم، فلا أقوى من أخوة الدين، «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ألا وإن من أعظم ما يتقي الإنسان فيه ربه عز وجل أداء الحقوق إلى أهلها، والتقرب إلى الله ببذلها، ليأتي الإنسان يوم القيامة سالماً معافىً، ليس لأحدٍ عنده حق، فقد ورد في الحديث: «إن الله ينادي يوم القيامة، فيقول: لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده لأحد من أهل الجنة مظلمة، ولا لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعنده لأحد من أهل النار مظلمة».(4/127)
وإن من أعظم الحقوق التي يجب أداؤها والعناية بها: حقان عظيمان أمر الله بهما، ورغب في العمل بهما، ورتب على الوفاء بهما الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولا عز ولا نصر ولا منعة، إلا لمن التزم بهما، ولا فلاح ولا تمكين إلا للعاملين بهما.
أولهما: حق الله سبحانه، وثانيهما: حقوق المسلمين.
يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: «يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟! قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» رواه البخاري ومسلم.
هذا هو حق الله سبحانه توحيده والتزام أمره، فلا يُعبد إلا هو، ولهذا خلق الله الجن والإنس كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فانظر كيف رتب هذا الثواب الجزيل أن لا يعذب من لا يشرك به على عبادته سبحانه.
أما ثواب الدنيا للموحد فهو التمكين في الأرض، والاستخلاف فيها، والأمن بعد الخوف {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.(4/128)
أما الحقوق الأخرى التي يجب على الإنسان مراعاتها والإحسان فيها، فهي حقوق المسلمين، ابتداء من كف الأذى عنهم، ثم الإحسان إليهم بالقول والفعل، بل وحتى بالقلب من إزالة الحسد والبغضاء والغل والحقد، تزيل ذلك كله من قلبك على أخيك المسلم، وقد جمع الله ذلك كله في آية واحدة من كتابه، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، والأخ يبذل لأخيه كل ما يستطيع من أجل رفعته، وعلو شأنه هذا في أخوة النسب، فكيف بما هو أقوى وهو أخوة الدين.
ولقد بيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقوق المسلمين، بعضهم على بعض، بياناً شافياً كافياً، وجمع ذلك كله في حديث واحد يجعله المسلم أمام عينيه في كل عمل يعمله، فلقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فلن يبلغ الإنسان درجة الكمال في الإيمان حتى يحب لإخوانه المسلمين ما يحبه لنفسه.
وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
فانظر يا عبدالله كيف أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمور التي فيها حفظ حقوق المسلمين فيما بينهم، ثم انظر إلى أثر هذه الأعمال على النفوس، وما تؤديه من التباعد والتخاصم وعدم الاجتماع على كلمة واحدة، ثم تأمل حال المسلمين اليوم وما هم فيه من الفرقة، تجد أن مرد ذلك إلى بعدهم عن شرع الله حتى وصل الحال إلى تخاصم الأخوة وتقاطعهم من أجل حطام الحياة الدنيا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(4/129)
ثم نرجو بعد ذلك نصر الله سبحانه، أضعنا أمره، وارتكبنا نهيه، وحاربناه بالمعاصي، والله لا ينصر إلا الصالحين المصلحين {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} لن ينصر الله إلا من نصره، باتباع أمره، واجتناب نهيه، أما ما سوى ذلك {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} عفا عن كثير من ذنوبنا وإلا فلو عاقبنا عليها لما ترك على ظهر الأرض من دابة، لكن رحمته سبقت غضبه، وهو قد وسع كل شيء رحمة وعلماً.
الناس يبتعدون عنه بالمعاصي والمحاربة له، وهو يتقرب إليهم بالنعم، ولقد وعد الصالحين بالعز والتمكين، وأخبر أن مرد الناس جميعاً إلى الخسران إلا من عمل صالحاً، فقال:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفق من شاء من عباده لعمل الخيرات.. أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
عباد الله: حقوق المسلم على المسلم كثيرة جداً، تشمل دفع كل شر عنه، وجلب كل خير له،والإحسان إليه بكل ممكن، وهذا هو خالص المحبة والأخوة، فالمؤمنون بعضهم لبعض كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه إشارة إلى قوة التماسك والترابط.(4/130)
وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست! إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه» رواه مسلم.
هذه الحقوق ليست كل حقوق المسلم ولكن الجامع بينهم أنها تجلب الألفة والمحبة، وتقوى الصلة، وتشعر المسلم بأنه ليس غريباً بين إخوانه، وأنهم معه في سرائه وضرائه، فتجعل قلبه منشرحاً وحياته هنيئة، ليس فيها تكدير ولا تنغيص، وعلى المسلم في حال أداء هذه الحقوق أن يستشعر النية الصالحة، وأن يكون عمله خالصاً حتى تؤتي هذه الأعمال ثمارها.
وفقني الله وإياكم لكل خير وجعل عملنا خالصاً صواباً، إنه على كل شيء قدير.
O y o
فضل القرآن الكريم
الحمد لله أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، جعله شفاءً ورحمة للمؤمنين، ونوراً للموفقين، وهادياً إلى جنات النعيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وقيوم السماوات والأرض، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: التقوى خير الزاد، فاستعدوا بها ليوم المعاد.
عباد الله: ما تحدث المتحدثون، ولا درس الدارسون كتاباً أفضل من كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، هو حبل الله المتين، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، قال الله فيه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
أنزله الله من عنده فهو المتكلم به سبحانه، أنزله على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين، فيه البشارة للمؤمنين بالأجر العظيم، والنذارة لغيرهم بالعذاب الأليم، جعله الله مباركاً في كل شيء.(4/131)
في أثره فهو مؤثر على القلوب والأبدان تزل وتخشع عند سماعه، وتستكين لله سبحانه {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، لو أنزل على جبل لتشقق الجبل، وتكسر وتذلل خوفاً من الله سبحانه، هذا وهو جبل جامد، فكيف بالقلوب الحية؟!
ومن بركته أنه شفاء لأمراض القلوب والأبدان، فهو يليّن القلب القاسي، ويشقي اللديغ، ويداوي الجريح، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}.
أيها المسلمون: والقرآن مبارك في ثوابه، فمن قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.
والقرآن مبارك في آثاره، فيه فتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، وبه دخلوا بلاد كسرى وقيصر، وبه فتحوا القلوب وأدخلوها في الإسلام، عزت الأمة وارتفعت حينما تمسكت وعملت به، وذلت وهانت حين تركته وأعرضت عنه، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
أيها المسلمون: اقرؤوا هذا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا البقرة وآل عمران، فإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة (أي السحرة).
أيها المسلمون: ما تأدب الناس بمثل القرآن، وما علموا أولادهم مثله، وقد كان خلق نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن، والله يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
عباد الله: ومع القراءة لابد من العمل، فالله قد أنزل القرآن للتعبد بتلاوته، والعمل به، فاهتدوا بهديه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، تسعدوا في دنياكم وأخراكم.(4/132)
عبادة الله وحده، والبعد عن الشرك، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى اليتامى، والبعد عن الغيبة والنميمة وعدم أكل الربا واجتناب قول الزور، كل هذه توجيهات في كتاب ربكم لتصلح دينكم ودنياكم.
أيها المسلمون: ينبغي للمسلم أن يجعل له مقداراً من القرآن يقرؤه كل يوم، ليكون قريباً من كتاب ربه، فيستقيم على أمر الله، ويسير على نهجه وشريعته.
ومن لم يستطع القراءة فعليه بالاستماع، فمن استمع فله مثل أجر القارئ، وفضل الله واسع، وهو ذو الفضل العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله أنزل كتابه هدى ورحمة، وجعله لمن عمل به عزة ورفعة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا لله وآمنوا برسوله، اتبعوه واتبعوا النور الذي أنزل معه لعلكم تفلحون.(4/133)
عباد الله: خرج أمير المؤمنين عمر من المدينة إلى مكة فاستقبله أميرها في الطريق، فقال له عمر: من خلفت في أهل الوادي، قال: خلفت فيهم ابن أبزى، مولى من موالينا، قال: وخلفت فيهم مولىً. قال: يا أمير المؤمنين، إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال: نعم سمعت نبيكم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين»، فالتفضيل بالإيمان والعمل، لا بالنسب والحسب، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد يسأل إذا أراد دفن الميت: «أيهم أكثر قرآناً؟» فيقدمه جهة القبلة.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بكتاب ربكم، واتلوه آناء الليل والنهار لعلكم تفلحون.
ثم صلوا وسلموا على عبدالله ورسوله محمد، فقد أمركم الله بذلك...
O y o
توجيهات رمضانية
الحمد لله الذي جعل شهر رمضان خير الشهور، وجعله موسماً لتكفير السيئات، وتعظيم الأجور.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العزيز الغفور، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقواه، وتذكروا نعمة الله عليكم، بأن بلغكم هذا الشهر العظيم، ورزقكم صيامه، وقد حرم منه كثيراً من الناس.(4/134)
عباد الله: الناس في هذا الشهر المبارك قريبة قلوبهم إلى الله تعالى، منقادون لطاعة الله سبحانه، متقبلون لما يلقى إليهم من نصائح وتوجيهات، وإنه يجب على المسلم أن يكون ناصحاً لإخوانه، مشفقاً عليهم، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه بايع عدداً من أصحابه على النصح لكل مسلم، منهم جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه -، من أجل هذا كان لزاماً علينا التناصح، وأن يوجه بعضنا بعضاً، ويدله على خير ما يراه له، وهذه عدد من التوجيهات في منتصف هذا الشهر الكريم.
فأولها: أن من كان محسناً في أول هذا الشهر، فليحمد الله، وليزدد من الإحسان، فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن أساء وقصر في أوله فليتدارك نفسه، وليتب إلى ربه، وليرجع إليه، فباب التوبة مفتوح، وقد بقي من الشهر أفضله، ومن أحسن فيما بقي غفر له ما مضى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.(4/135)
وثاني هذه التوجيهات: أن إخوانكم المسلمين في جميع أنحاء العالم، يمرون بضيق وشدة وتسلط من الأعداء عليهم، ولهم حق عليكم بنصرتهم وتأييدهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وأنتم تمرون كل يوم بساعة إجابة عند الإفطار كما في الحديث: «للصائم عند فطره دعوة ما ترد»، فاجعلوا لهم من هذا الدعاء عل الله أن ينصرهم، ويوسع عليهم، وأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم من الخير، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ثالثاً: ينبغي للمسلم أن يكثر في هذا الشهر من قراءة القرآن وتدبره، فرمضان شهر القرآن، فيه نزل، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض القرآن على جبريل في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه عرضه عليه مرتين، وكان السلف الصالح – رحمهم الله – يتركون العلم والتعليم والعمل في رمضان، ويتوجهون إلى المساجد لتلاوة القرآن وذكر الله سبحانه.
رابعاً: احرص على أن تصوم أكثر من رمضان في هذا الشهر المبارك، وذلك بتفطير الصائمين، ففي الحديث: «من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء». عمل قليل، وثواب جزيل، والله ذو الفضل العظيم، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جواداً كريماً، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
O y o
وداع رمضان(4/136)
الحمد لله منّ علينا بمواسم الخيرات، وجعل عبادته واجبة حتى الممات، وفق من شاء من عباده للباقيات الصالحات، وجعل لهم بذلك رفعة الدرجات، أحمده سبحانه على سوابغ منته، وتعاقب نعمته، وجزيل فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الواحد القهار، الرحيم الغفار، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وتفكروا في أعمالكم وأعماركم. ها هي الأيام تطوى وتزول، والأعمار لن تطول، وأنتم مفرطون في العمل، قد ألهاكم طول الأمل.
ها هو شهر الصيام قد قرب رحيله، وهو شاهد علينا بما أودعناه من الأعمال، فمن أودعه خيراً فليحمد الله، وليزدد من الصالحات، ومن أودعه غير ذلك فليراجع نفسه، وليخف ذنبه، وليتب إلى ربه من الخطايا والسيئات، وليقض ما بقي منه بالعمل الصالح، ليبدل الله سيئاته حسنات.
أيها المسلمون: إن حياتكم مآلها الزوال، حياة قليلة ليس لعاقل أن يجعلها في قلبه، وينشغل بها عن أمور دينه، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
إن هي إلا سويعات وأيام، السعيد من عمر آخرته فيها، واستعد للقاء ربه بالعمل الصالح الذي يرفعه درجات عند الله، والخاسر من أضاعها في اللهو واللعب والانشغال بالحياة، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وشرع لكم زكاة الفطر، وهي صاع من طعام من قوت البلد، من بر أو رز أو تمر أو غيرها، مما يتقوته بنو آدم، قال أبو سعيد - رضي الله عنه - فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من طعام.(4/137)
وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء فهو أفضل وأعظم أجراً، فطيبوا بها نفساً، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد مقدار يسير لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على إخراج الطيب مع عظم الأجر، وكثرة المثوبة.
عباد الله: مقدار هذه الزكاة صاع من قوت البلد، تخرج عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وتعطى للفقراء والمساكين، ولا تنقل من البلد إلا إذا لم يوجد به فقراء، ويسن إخراجها عن الحمل ولا يجب ذلك، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين.
ولا يجوز إخراج القيمة، لأن ذلك لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرها أحد عن الصلاة بغير عذر لم تقبل منه.
أيها المسلمون: إن الحكمة من شرعية زكاة الفطر أنها تطهر الإنسان من اللغو والرفث الحاصل له في هذا الشهر، وشكر الله سبحانه على ما منّ به من إكمال الصيام والقيام، وكذا إغناء المساكين في هذا اليوم المبارك عن سؤال الناس، والنظر إلى ما في أيديهم، فأخرجوها طيبة بها نفوسكم، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم ترحمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
بار الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله منّ علينا بإكمال شهر الصيام، وجعله ماحياً للذنوب والآثام.
وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الفضل والإنعام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عبد ربه حتى أتاه الحِمام، صلى الله عليه وعلى آله الكرام، وأصحابه الأعلام، وسلم تسليماً كثيراً على الدوام، أما بعد:(4/138)
أيها الناس: اتقوا الله واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، فيجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
عباد الله: إن مما شرع الله لكم في ختام هذا الشهر، صلاة العيد، فقد أمر الله بها، وأمر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أمر بخروج الناس إليها حتى النساء، فاخرجوا إليها صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، اخرجوا في أحسن هيئة، اغتسلوا وتطيبوا وتجملوا، ولتخرج النساء غير متجملات ولا متطيبات.
والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وتراً، ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ونحوها من الوتر.
امشوا وعليكم السكينة والوقار، خاشعين لله سبحانه، معظمين له، ترجون رحمته، وتخافون عذابه.
أظهروا شعائر الإسلام بالخروج لهذه الشعيرة العظيمة، أروا الله من أنفسكم خيراً، غضوا أبصاركم، احفظوا ألسنتكم عن اللغو والرفث وقول الزور، اخفضوا سمعكم عما حرم الله من القيل والقال، وسماع الأغاني والمعازف، احذروا مما يغضب الله في أيام الأعياد، فإن الطاعة تتبع بالطاعة، لا بالمعصية، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً}، وإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
بروا والديكم، وأطيعوا من ولاه الله أمركم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وصلوا أرحامكم.
وأخيراً، لابد من النظر والتأمل في سير الصالحين من سلفنا الصالح، فهذا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله في كل أحيانه، وطلب منه رجل الوصية، فقال: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله»، وأبوبكر كان يأخذ بلسانه ويبكي ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد»، وابن مسعود يقول: «والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من لسان».(4/139)
وعمر يقول: «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به»، ولما سأل معاذ النبي - صلى الله عليه وسلم -: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» وفي الحديث: «لا يستقيم إيمان امرئ حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
واعلموا أن كثرة الكلام تعمي القلب، وأبعد القلوب من الله القلب العاصي، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأجارنا من زلات اللسان وعثراته، وهدانا صراطه المستقيم، وغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.
O y o
من أحكام الصيام
الحمد لله ذي الفضل والإنعام، أوجب الصيام على أمة الإسلام، وجعله أحد أركان الدين العظام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأطاع أمر ربه واستقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واشكروه على بلوغ شهر رمضان، واسألوه التوفيق، والإعانة على اغتنام أوقاته بالطاعة، وأن لا يجعلكم فيه من أهل التفريط والإضاعة، فإنه إنما يفرح بطول العمر، لأجل إدراك مواسم الخيرات، والإكثار من الطاعات.
في الحديث: «خيركم من طال عمره وحسن عمله»، ولا يفرح بطول العمر من أجل العيش في الدنيا فقط، لأن العيش في غير الطاعة يفنى سريعاً، ويعقبه حسرة وندامة يوم القيامة.(4/140)
وأما العيش في الدنيا في الطاعة، فإنه يبقى أثره ويمتد خيره، إلى ما لا نهاية، لأنه يتصل بعيش الآخرة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
فحياة المؤمن ممتدة متواصلة بالخير والسرور في دنياه وفي قبره ويوم نشوره، ففي الحياة الدنيا يستلذ بالطاعة، ويطمئن قلبه بذكر الله، فيعيش فيها منشرح الصدر، قرير العين، وفي قبره يفتح له باب إلى الجنة فيأتيها من طيبها ونعيمها، ويقال له: نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وفي بعثه يبعث على أحسن حال، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ويدخل الجنة دار النعيم خالداً مخلداً فيها، لا يمسه فيها نصب، ولا يخشى موتاً ولا هماً ولا مرضاً {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }.
وأما الكافر فإنه وإن حيزت له الدنيا بحذافيرها، فإنه يعيش فيها مهموماً مذموماً، وتزول عنه سريعاً، ثم يموت ويعذب في قبره، ثم يبعث إلى النار، وبئس القرار، وهكذا عذاب متواصل كما قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ}.
عباد الله: وإن من أعظم ما يمر في عمر المؤمن إدراك مواسم الخير التي من أعظمها شهر رمضان المبارك، فإنه أعظم كسب في حياة المؤمن، وفي حديث الثلاثة الذين استشهد منهم اثنان، وبقي الثالث بعدهما، ومات على فراشه، فرئي سابقاً لهما، فتعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أليس قد عاش بعدهما، وصلى كذا وكذا، وأدرك شهر رمضان فصامه، والذي نفسي بيده إن بينهما كما بين السماء والأرض».(4/141)
فاحمدوا الله أيها المسلمون على بلوغ هذا الشهر، وأكثروا فيه من فعل الطاعات واكتساب الحسنات.
واعلموا أن أعظم عمل شرعه الله في هذا الشهر بعد الصلوات المفروضة هو الصيام، فقد جعل الله صوم هذا الشهر أحد أركان الإسلام، فمن جحده فهو كافر مرتد عن دين الإسلام، ومن أقر بوجوبه، ولم يصمه كسلاً، فهو مستحق لأعظم الوعيد، ويجب عليه التوبة إلى الله وقضاء ما أفطر منه، ومن عَلِمَ بفطره من المسلمين وجب عليه أن يرفع عنه لولاة الأمور ليؤدبوه ويلزموه بالصيام، ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم صحيح.
أما الصغير الذي دون البلوغ فلا يجب عليه، ولكن يؤمر به إذا كان يطيقه ليعتاده، ويتربى عليه، ويكون له نافلة، ولوليه أجراً.
وأما المسافر والمريض فيفطران ويقضيان من أيام أخر، ومن زال عقله بجنون دائم، أو كبر وهرم فلا صوم عليه.
وأما الكبير الذي يعقل، ولكنه لا يستطيع الصيام لضعف بدنه وقواه، فإنه يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومثله المريض الذي لا يستطيع الصوم، والمرض مستمر معه دائماً، فإنه لا صوم عليه، ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
عباد الله: الصوم تعبُّد لله بالإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
والمفطرات هي الأكل والشرب، فمن أكل أو شرب متعمداً بطل صومه، ويجب عليه التوبة إلى الله، والإمساك بقية يومه، ثم يقضي ما أفطره، ومن أكل أو شرب ناسياً فلا حرج عليه، وصومه صحيح.
ومثل الأكل والشرب في إفساد الصيام ما كان بمعناهما كالإبر المغذية، والحبوب الدوائية والإبر التي تحقن عن طريق الوريد، لأن هذه الأشياء تدخل في الجسم، وتخالط الدم، أو تغذي وتفعل ما يفعل الطعام والشراب.(4/142)
ومثل الأكل والشرب استعمال القطرة والسعوط في الأنف، لأنها تتسرب إلى الحلق، وتدخل الجوف، فمن استعمل القطرة متعمداً ووجد طعمها في حلقه فإنه يفسد صومه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً»، فقد نهى عن المبالغة في الاستنشاق للصائم، لئلا يصل الماء إلى حلقه، وذلك يدل على الإخلال بصيامه، ومثله القطرة، لأنها سائل وصل إلى الحلق عمداً فتفسد الصوم.
ومن مفسدات الصوم الجماع، فمن جامع في نهار رمضان فسد صومه، ويجب عليه أن يتوب إلى الله، ويمسك بقية يومه، ثم يقضي هذا اليوم الذي جامع فيه، وعليه مع القضاء الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً.
وعلى المسلم أن يتجنب كل الوسائل التي قد توقعه في هذا المحذور من فطر بشهوة، أو تقبيل لزوجته بشهوة، أو لمس لها بشهوة، ومن المفسدات للصوم إنزال المني دون جماع بسبب مما ذكرناه من نظر أو تقبيل أو لمس أو استمناء باليد، وهو ما يسمى بالعادة السرية، أما من احتلم وهو نائم في نهار رمضان، فأنزل فإنه لا يؤثر على صيامه، لأنه بغير اختياره، وإنما يجب عليه الاغتسال.
ومن مفسدات الصوم استفراغ ما في المعدة عمداً، وهو التقيؤ، أما من غلبه القيء وخرج دون اختياره، فصيامه صحيح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من استقاء فليقضِ، ومن غلبه القيء فليس عليه شيء».
ومن مفسدات الصوم استخراج الدم الكثير من البدن، بحجامة أو فصد أو سحب للدم، فإذا فعل ذلك فقد أفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفطر الحاجم والمحتجم»، أما من انجرح فخرج منه دم كثير، أو خلع ضرساً فخرج منه دم، فلا حرج وعليه أن يتفل الدم من فمه.
ومن موانع صحة الصوم الحيض والنفاس، فالحائض والنفساء تفطران مدة الحيض والنفاس وجوباً، ولا يجوز لهما الصيام، ولا يصح منهما، وتقضيان ما أفطرتا فيهما من أيام أخر.(4/143)
فاتقوا الله، عباد الله، وحافظوا على صيامكم من المفسدات، وقد جعل الله لكم الليل لتناول ما تحتاجون إليه، أو تشتهونه مما أباح الله لكم، أما النهار فاحفظوه بالصيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، شرع لنا الصيام والقيام، لننال منه الأجر والإكرام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملك العلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عليه وعلى آله وأصحابه أزكى الصلاة والسلام، أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن هناك مفطرات معنوية إلى جانب المفطرات الحسية، فيجب عليكم معرفتها واجتنابها.(4/144)
كل قول أو فعل محرم في غير الصيام، فإنه يتأكد تحريمه ويتضاعف إثمه في وقت الصيام، وذلك كالغيبة، والنميمة، والشتم، والسباب، وقول الزور، والنظر إلى ما حرم الله النظر إليه من النساء، والصور الفاتنة، والأفلام الخليعة، والاستماع إلى ما حرم الله الاستماع إليه من الأغاني، والمعازف، والمزامير، وسائر المعاصي فإنها تؤثر على الصيام، وتوجب الآثام، فليس الصيام مجرد ترك الطعام والشراب، والجوع والعطش، ولكنه مع ذلك ترك كل ما حرم الله من الأقوال والأفعال المحرمة والمؤثمة، يصوم البطن عن الطعام والشراب، والفرج عن الاستمتاع، والنظر عن المرائي الحرام، واللسان عن الألفاظ القبيحة.
فترك الطعام والشراب لا يكفي مع عدم ترك هذه الأشياء، بل يصبح تعباً بلا فائدة، وعملاً بلا أجر.
فاتقوا الله في صيامكم، وتمسكوا بكتابه...
O y o
فضل القرآن الكريم وتدبره
إن الحمد لله... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ}.
عباد الله: في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الكتاب فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار».
أيها المسلمون: دل هذا الحديث على أنه لا ينبغي أن يغبط المسلم أخاه المسلم إلا على إحدى هاتين الخصلتين، لأجل ما رتب الله عليهما من الثواب والأجر في الآخرة، وما سواهما من الأشياء فإنه لا يساوي عند الله شيئاً، فلا ينبغي للإنسان أن يحسد أخاه.
أولهما: القرآن العظيم، فهو فضل من الله سبحانه ومنّة، فمن تعلمه وقام بحقه قراءةً وعملاً وتعليماً لا يفتر عنه آناء الليل والنهار، فقد رزق بخير كثير ينبغي لكل إنسان أن يرجو مثله.(4/145)
وثانيهما: المال، فمن آتاه الله المال، ووفقه لإنفاقه في سبيل الله، والأعمال الصالحة، فقد ادّخر هذا المال ذخراً له عند الله عز وجل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والمقصود يا عباد الله بالحسد في الحديث: تمني مثل ما عند الغير من غير كراهة لما منّ الله به عليهم من الفضل أو تمني زواله.
وأعظم هذين الأمرين وأجلهما قدراً، وأعظمهما أجراً تعلم القرآن وتعليمه، والعمل به وتدبره، فقد عاب الله على أقوام أنهم لا يتدبرون القرآن {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، بل أخبر أنه إنما أنزله للتدبر {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}.
عباد الله: من سور هذا القرآن العظيم {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}، هذه السورة العظيمة نزلت في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبشره الله فيها ببشارة عظيمة، وأمره فيها بأمر إذا حصلت تلك البشارة.(4/146)
بشره الله فيها بنصره وفتح مكة، وقد نصره الله على العرب كافة بل والعجم، وفتح عليه بلده مكة، بعد أن أخرج منها قبل ثمان سنوات من هذا الفتح، ولما فتحت مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة، قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت الأحياء تلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون: دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي، وقالت العرب لما فتحت مكة، أما إذا ظفر محمد بأهل مكة وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به بد أن تدخلوا في دين الله أفواجاً، فلما حصل هذا النصر أمر الله نبيه أن يحمده على ذلك ويشكره فيكثر من التسبيح والاستغفار، وفي هذا الأمر شيئان:
أولهما: أن النصر سيستمر لهذا الدين، ويزداد ما التزمت الأمة بتسبيح الله واستغفاره وشكره، والله يقول: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، وقد كان ذلك ظاهر في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه غيره، حتى خالفت الأمة أمر الله، وابتعدت عن دينه، فتفرقت كلمتهم وتسلط عليهم أعداؤهم، وضعفت قوتهم، ومع ذلك فلا زال في الأمة بقايا خير، وهي راجعة إلى دين الله ما ظهر فيهم تعظيم الله والتزام أمره.
وثانيهما: الإشارة إلى قرب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أن يختم حياته بالاجتهاد في العبادة، ولهذا كان بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن، وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه السورة أخذ في أشد ما كان اجتهاده في أمر الآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والعافية للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:(4/147)
فاتقوا الله عباد الله.
في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله، أَعلمه له، قال: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، فذلك علامة أجلك{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
أيها المسلمون: في هذه السورة من الفوائد: أنه ينبغي للمسلم أن يكثر من شكر الله على نعمه، فإن النعم إذا شُكرت قرت، وإذا كُفرت فرت، ومنها: أنه ينبغي لكل إنسان أن يختم حياته بكثرة الأعمال الصالحة حتى يلقى الله على عمل صالح، ولن يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه على طاعة الله.
اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وأعذنا من كيد الشيطان ونزعاته، واختم لنا حياتنا بصالح الأعمال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
O y o
توديع رمضان واستقبال العيد
الحمد لله الذي من علينا بنعمه العظيمة، منّ علينا بشريعة الإسلام، وجعلنا خير أمة أخرجت للأنام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، أتم لنا صيام رمضان والقيام، وجعل ثواب ذلك تكفير الخطايا والآثام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، أفضل من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:(4/148)
أيها الناس: اتقوا الله، وتدبروا كتابه، وتفكروا في مخلوقاته.
بالأمس القريب كنتم تستقبلوا شهر رمضان، وها أنتم تودعونه، وقد أزف رحيله، فماذا أودعتموه من العمل؟ فهنيئاً لمن كان من المقبولين، فغفر له، وويل لمن كان من المفرطين المسيئين. صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر يوماً فقال: «آمين، آمين، آمين» ثم قال: «أتاني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له، قل آمين، فقلت: آمين».
عباد الله: هاهو الشهر قد تصرم وانقضى، وهو شاهد عليكم بما أودعتموه من خير أو شر، فمن أحسن فليزدد من الحسنات، ومن أساء فليتدارك ما بقي من عمره بالأعمال الصالحات، وإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
وقد شرع الله لكم في ختام الشهر أعمالاً صالحة تجبرون بها نقص صياكم، وتزدادون بها قرباً إلى ربكم.
فأول ما شرع لكم التكبير من غروب الشمس ليلة العيد إلى الصلاة قولوا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله،والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، يجهر بها الرجال في المساجد والبيوت والأسواق، وتسر بها النساء، تكبرون الله على ما هداكم ووفقكم له من الصيام والقيام وغيرها من الطاعات، يقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.(4/149)
وثانيها: زكاة الفطر، فقد فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهرة للصائم من اللغو والرفث الذي حصل منه في هذا الشهر، وطعمة للمساكين يستغنون بها عن السؤال في هذا اليوم. وهي صاع من طعام، وكلما كان الطعام أطيب كان أفضل وأعظم أجراً لقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبله بيوم أو يومين، ويخرجها الرجل عن نفسه وعمن تجب عليه نفقته من الزوجات والأقارب، فعن ابن عمر قال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر، من رمضان على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين.
ولا تجب عن الحمل، وإن أخرجها فلا بأس، لعمل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - وتعطى لفقراء البلد، ولا تخرج عنهم، فإن لم يكن في البلد فقراء نقلت إلى بلد فيها فقير.
ومما شرع لكم في ختام الشهر صلاة العيد، فقد أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته رجالاً ونساءً، وأمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد حتى الحيّض، ويعتزلن المصلى مع أن البيوت للنساء خير فيما عدا هذه الصلاة، مما يدل على تأكد هذه الصلاة، بل لقد قال بعض العلماء: إن صلاة العيد فرض عين يجب الخروج إليها، والسنة تأخير صلاة عيد الفطر قليلاً حتى يتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر في الوقت الفاضل.
ويسن أن يأكل الإنسان قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر يقطعها على وتر، لقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، يأكلهن وتراً.
ويخرج إلى المصلى ماشياً لا راكباً، لقول علي بن أبي طالب من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً، وليلبس المسلم أحسن ثيابه، وليكثر من ذكر الله ودعائه، ويؤدي الصلاة بخشوع وحضور قلب، وليتذكر الموقف أمام الله حين يجمع الأولين والآخرين.(4/150)
أعوذ بالله من الشيطان: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، سيد الأولين والآخرين، والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وتابعوا بين الحسنات، فإن من علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
عباد الله: لئن انقضى شهر الصوم، فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ولهذا قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، والأعمال الصالحة أكثر من أن تحصر، فلقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في رمضان وغيره، ولم يكن يزيد على إحدى عشرة ركعة، وقال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى»، والسنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة، في كل يوم وليلة، أربع قبل الظهر وثنتان بعدها، وثنتان بعد المغرب، وثنتان بعد العشاء وثنتان قبل الفجر، وصلاة الضحى، وبين كل أذانين صلاة.
ولئن انتهى شهر الصوم، فإن الصوم بحمد الله لا يزال مشروعاً ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الاثنين والخميس، وأيام البيض، وستاً من شوال...
وذكر الله مشروع في كل وقت وحين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.
والصدقة والإحسان إلى الخلق ليس لها وقت محدد.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لعمل الصالحات، والبعد عن المنكرات...
O y o
خطبة عيد الفطر(4/151)
الحمد لله الذي سهل لعباده طرق العبادة ويسر، وجعل لهم عيداً يعود عليهم بعد إكمال صيامهم ويتكرر، وتابع لهم مواسم الخيرات ليوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله الذي لا يحصر، فما انقضى شهر الصيام إلا وأعقبه بأشهر الحج إلى بيته المطهر، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصر.
وأشهد أن لا إله إلا الله على رغم أنف من أبى وتكبر، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صاحب الحوض والكوثر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كلما صام صائم وأفطر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والمحشر، أما بعد:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،لا إله إلا الله والله أكبر.
الله أكبر كلما صام الصائمون، الله أكبر كلما أفطر المفطرون، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، اتقوا الله لترفع لكم الدرجات، اتقوه لتحط عنكم السيئات، اتقوا الله لتضاعف لكم الأجور والحسنات، {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، منّ عليكم بإكمال شهر الصيام، صياماً وقياماً، اسألوه أن يتقبلها منكم، وأن يغفر لكم ما حصل فيها من تقصير.
عباد الله: هذا اليوم يوم شكر وذكر، وأكل وشرب وفطر، يحرم صومه لما في صومه من الإعراض عن ضيافة الله سبحانه، ومخالفة أمره، حيث شرع الإفطار فيه، فإنه لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى»، فأبدل الله المؤمنين بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر، والمغفرة والعفو، فليس للمؤمنين في الدنيا غير ثلاثة أعياد، كل عيد يأتي بعد استكمال عبادة من العبادات العظيمة في الإسلام.(4/152)
عيد الأسبوع بعد استكمال عبادات الأسبوع من الصلاة وغيرها، وهو يوم الجمعة، وعيد الفطر بعد صيام رمضان وقيامه، كفر الله عنهم ذنوبهم، وأعتقهم من النار، شرع لهم هذا العيد ليشكروه ويكبروه وليفرحوا بمغفرة الله لهم، وعيد الأضحى بعد الحج وهو أعظم هذه الأعياد وأفضلها، وليس وراء هذه الأعياد من عيد.
عباد الله: لئن كان العيد إنما شرع لذكر الله وشكره وحمده على هذه العبادات العظيمة فإنه لا بأس فيها من يسير اللهو المباح الذي يسلي النفس ولا يلهي عن طاعة الله، وينبغي الإكثار فيه من الاستغفار، وتعظيم الله سبحانه، والذل والخضوع له، وعبادته حق عبادته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون: أحوج ما يكون المسلم إليه في حياته وبعد مماته توحيد الله سبحانه، والإيمان به فهو أصل الحياة الطيبة في الحياتين، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.(4/153)
العبادة لا تصرف إلا لله على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» كما في الحديث القدسي، عن ربنا سبحانه، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وما ترك الله أمة إلا بعث فيها نذيراً يأمرهم بتوحيد الله ينهاهم عن الشرك {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، بل لقد خاف أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم – عليه السلام – على نفسه من الشرك فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}، وقال خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، أمر يخافه الأنبياء على أنفسهم، حقيق بالمخافة والحذر، بل لقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أشد ما يخافه على أمته الشرك الخفي: «إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي» فسئل عنه فقال: «الرياء»، وقال: «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء».
شرك في العبادة، وشرك في الرجاء، شرك في الخوف والمحبة ناهيك عن أنواع السحر والكهانة والذهاب إلى العرافين ونحوهم.
أمور وأشياء يخشى الإنسان أن يدركه مقت الله وعذابه وغضبه بانتشارها ووقوعها بين الناس.
إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار، ومن سلم من الشرك فقد سلم ونجا، ومن وقع فيه فقد هلك إن لم يتداركه الله برحمته.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.(4/154)
أيها المسلمون: الصلاة عمود دينكم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، بين المرء وبين الكفر والشرك ترك الصلاة، العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة... من ترك الصلاة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
أقيموا الصلاة كما أمركم الله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، أدوها مع جماعة المسلمين في المساجد، لتكون لكم ذخراً عند الله سبحانه،مروا أولادكم بإقامتها، واعتقدوا أنها راحة لكم، تكفر ذنوبكم وخطاياكم، ولقد كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول لبلال: «أقم الصلاة، أرحنا بها»، ويقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
قرينة الصلاة الزكاة، أدوها طيبة بها نفوسكم، أنفقوا مما رزقكم الله، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
لئن انتهى شهر الصيام فإن عمل المؤمن ليس له نهاية دون الموت، سن لكم نبيكم أنواعاً من الصيام، فليعمل كل بما تيسر له، وإن من أولاها في هذه الأيام صيام ست من شوال، فمن صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر، ومن كان عليه قضاء، فلا يصمها حتى يقضي ما عليه.
ولئن انتهى شهر القيام، فإن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره.
اقرؤوا القرآن، وتدبروا كتاب الله، والزموا تلاوته آناء الليل والنهار لعلكم تفلحون.
الله أكبر.(4/155)
العيد مناسبة كبرى لمراجعة النفس والعمل وإصلاح ذات البين وصلة الأرحام والرأفة باليتامى والمساكين والإحسان إليهم، وإقامة أمر الله في الوالدين والأقربين والألفة والمحبة بين المسلمين والتزاور والتهنئة بهذه المناسبة، فلعل هذا العيد أن لا يمر مرة أخرى، فكم كان معنا في العيد الماضي من الأصحاب والأحباب، اخترمتهم يد المنون، وفرقهم مفرق الجموع، ولا يأمن الإنسان ذلك على نفسه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، ولن يبقى للإنسان إلا ما قدمه من الأعمال، فهل من مشمر لطاعة الله؟ وهل من بائع نفسه إلى الله؟ وهل طالب سلعة الله؟ ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
فبادروا أعماركم، وتنافسوا فيما بينكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً، بادروا بالأعمال سبعاً، فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً؟ أو غنىً مطغياً؟ أو مرضاً مفسداً؟ أو هرماً مفنداً؟ أو موتاً مجهزاً؟ أو الدجال فشر غائب ينتظر؟ أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.
متى يصلح نفسه من لم يصلحها اليوم؟ ومتى يعبد ربه من لم يعبده اليوم؟ ومتى يحاسب نفسه الإنسان؟ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله.
أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
} - }
الخطبة الثانية:(4/156)
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، منَّ علينا بصيام رمضان، وإدراك العيد، وأمهل عباده ليتوبوا إليه، ووعدهم سبحانه بالجنة والمزيد. أحمده سبحانه ما تعاقب الجديدان، وأشكره سبحانه في كل حين وآن.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الديان، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله إلى الثقلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، كرام النفوس والأبدان، بذلوا أرواحهم في طاعة الرحمن، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، والتزموا أمره ولا تعصوه.
عباد الله: في يوم العيد سنن ينبغي ألا تهمل إكثاراً من مواضع العبادة، وإظهاراً لشعائر الإسلام، واقتداء بنبي الإسلام، فقد كان من هديه الخروج إلى العيد بسكينة ووقار، يذهب من طريق، ويعود من آخر، يكثر من الذكر، ويغتنم الأجر، ويحسن إلى الناس.
التهنئة بالعيد من عمل السلف، فيها تأليف للقلوب، وإزالة للضغائن بين المسلمين، ودفع للشحناء والأحقاد.
الله أكبر.
عباد الله، تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر عند الله، حين تقومون من قبوركم لله رب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}.
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يوم يفر المرء من أخيه،وأمه وأبيه، يوم تفرق الصحف، فآخذ صحيفته باليمين، وآخذ بالشمال، يوم توضع الموازين، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، يوم ينصب الصراط على متن جهنم، يمر عليه الناس على قدر أعمالهم.
استبقوا الخيرات، والتجئوا إلى فاطر الأرض والسماوات، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم.
يا نساء المسلمين:(4/157)
اتقين الله في أنفسكن، احفظن حدوده، عليكن بالستر والعفاف والحشمة، والبعد عن أماكن الرجال، أطعن الله، وأطعن الرسول وأزواجكن، فمن صلت فرضها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها.
ربين أولادكن تربية إيمانية تحفظهم في دينهم ودنياهم، حتى يكونوا ذخراً لكنَّ عند الله عزوجل.
اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان، يرجون ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك، اللهم حقق لنا ما نرجو، وآمنا مما نخاف، ولا تخزنا يوم الفزع الأكبر، واجعل لنا ذكراً حسناً في العالمين.
اللهم تقبل منا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
O y o
دوام الأعمال الصالحة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}.
أما بعد:
أيها الناس: قد كنتم ترتقبون مجيء شهر رمضان، ولقد جاء شهر رمضان وخلفتموه وراء ظهوركم، وهكذا كل مستقبل سوف ينتهي إليه العبد ويصل إليه ويخلفه وراءه حتى الموت.(4/158)
أيها الناس: لقد أودعتم شهر رمضان ما شاء الله تعالى أن تودعوه من الأعمال، فمن كان منكم محسناً فليبشر بالقبول، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن كان منكم مسيئاً فليتب إلى الله، فالعذر قبل الموت مقبول، والله يحب التوابين.
عباد الله: لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت، ولئن انقضت أيام صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعاً، ولله الحمد، في كل وقت، فقد سن لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيام الإثنين والخميس، وقال: إن الأعمال تعرض فيها، وأوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام، وقال: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر»، وأمر أن تكون الأيام البيض وهي: 13 – 14 – 15 فمن أمكنه أن يجعلها في الأيام البيض فهو أفضل، وإلا ففي غيرها.
ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: ... » الحديث.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا الأوقات، فإن العمر الحقيقي للإنسان هو ما أمضاه في طاعة الله عز وجل.
أيها المسلمون: لقد يسر الله لكم سبل الخيرات، وفتح أبوابها، ودعاكم لدخولها، وبين لكم ثوابها، فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان.
وهذه النوافل التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر بسلامين، وركعتان بعدها... من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة.
وهذا الوتر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، وقال: «إن الله وتر يحب الوتر»، أقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، ووقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وهو سنة مؤكدة، لا ينبغي للإنسان تركه، حتى قال الإمام أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة.(4/159)
وهذه الأذكار بعد الصلوات المفروضة، من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين ... الحديث.
عباد الله: أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
O y o
التفكر في قصر الحياة
الحمد لله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. وفق من شاء من عباده لعمل الخيرات، واغتنام أوقات الصحة والشباب والحياة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خالق المخلوقات، شهادة أرجو بها النجاة في الحياة وبعد الممات. وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل البريات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وبادروا بالعمل الصالح أعماركم فإنها ستفنى، واعلموا يا عباد الله أن أجسادكم على النار لا تقوى، كم من مؤمل قصر به عمله!، وكم ساه غافل أدركه أجله! ما أقصر الحياة وأقلها، دار دنيئة تغر المتعلقين بها، ثم تولي عنهم أحوج ما يكونون إليها، «لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء»، و«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه».
إذا كان هذا هو حال الدنيا، وهذه نهايتها، فاجعلوها في طاعة ربكم، وفي مرضاته، ولقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، يخرجهم من الظلمات إلى النور، فكان من رحمته أن دل الأمة على كل خير، وحذرهم من كل شر، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
في الحديث الصحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».(4/160)
مهما كان الإنسان شاباً قوياً يفعل ما يريد، ويصل إلى ما يشاء، فإن مآله إلى الهرم والضعف وذهاب القوة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، فمن الذي يهب شبابه لله في منفعة عباد الله، وفي طاعة ربه، إن الشباب إذا ذهب لا عوض له، ولا مرد له، وهو ميدان العمل، وبناء المستقبل، ومن حفظ الله في شبابه حفظه الله في كبره وشيخوخته. فالشباب هم أمل الأمة ورجاؤها، وخابت أمة ليس لها منفعة في شبابها، يضاف إلى ذلك أن الله سبحانه يعجب من الشاب الصالح: «عجب ربنا من شاب ليس له صبوة».
وفي الصحة نعمة لا يقدر قدرها إلا من حرمها، فيود لو أنه عمل فيها عملاً يرفعه عند الله في الصحة والفراغ، غبن على المرء إن لم يكن من أهل الخير والتقوى، «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ» لا يستطيع الإنسان أن يعمل ما دام مريضاً، وما دام مشغولاً، وقد تأتى على الإنسان أوقات في حال صحته وشبابه أحسن ما تكون للعمل، فيفرط فيها، ثم يندم، ولات ساعة مندم، ما الذي أخّر أمتنا وجعلها في نهاية القوم؟ إلا تفريط أهلها في وقت القوة والنشاط، وركونهم إلى اللذات والمشتهيات، ثم تنبهوا بعد فوات الأوان، وانتهاء الزمان، وتكالب قوى الشر على الأمة من كل جانب، ما بالنا إذا كان الإنسان غنياً لم ير لغيره في المال حقاً؟ أليست الزكاة واجبة؟ بل ركن من أركان الإسلام، لا يخرجها كثير من الناس، أليس في السنة «إن في المال حقوقاً سوى الزكاة»، وفي القرآن الكريم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.(4/161)
أصبح كثير من الناس ينظر إلى كثرة ما عنده من المال، ولا ينظر إلى مقدار ما أنفقه في طاعة الله {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، وإن الزيارة لقصيرة، وإن بعدها لبعثاً وحياة أخرى، يسأل فيها الإنسان عن النعيم {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
الله لا يضيع أجر العاملين ولو كان قليلاً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}، تقول عائشة – رضي الله عنها –: «كم في العنبة من مثاقيل الذر، وكم في الثمرة من مثاقيل الذر؟!».
أين المشمرون إلى الله؟ المتجهون إليه قبل أن يأتيهم الموت، فيدع الإنسان ماله وأهله، ويبقى معه عمله؟ أين من يعمل على بناء دار مقره ودار منتهاه؟ وإن البناء ليسير على من يسره الله عليه.
لما كان ليلة الإسراء لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم الخليل، فقال: يا محمد أخبر أمتك أن الجنة قيعان، وأن غراسها التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير».
وفي القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}، فمن أكثر من ذكر الله حفظه الله في حال صحته وشبابه وفراغه، وفي حياته وبعد موته.(4/162)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
O y o
دروس من قصة موسى.. وفضل عاشوراء
إن الحمد لله ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه، واشكروه على ما أنعم عليكم من النعم، أمن في الأوطان، وصحة في الأبدان، ورغد في العيش.
أنعم عليكم بنعم عظيمة، لم ينلها كثير ممن قبلكم، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأعلى هذه النعم، وأرفعها قدراً نعمة الإسلام، الذي هدانا الله له، وأضل عنه كثيراً من الناس، فاللهم لك الحمد على نعمك، خلقتنا ورزقتنا وهديتنا للإسلام، كبتَ عدونا، ورفعت قدرنا وأمرنا، اللهم أتم علينا هذه النعمة، وأمتنا عليها يا رب العالمين.
عباد الله: إن نعمة الإسلام نعمة عظيمة، واجه أنبياء الله ابتلاءات وفتناً عظيمة في سبيل هداية الناس، وإرشادهم إلى دين الله، ولهذا فلا عجب أن يكون لكل نبي من هؤلاء مثل أجور من تبعه من الناس، ولقد كان من أشدهم ابتلاءً في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد لقي من كفار قريش أهوالاً عظيمة، وكان صلوات الله وسلامه عليه صابراً محتسباً في ذلك، وقد جعله الله أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، فإن أمته ثلثا أهل الجنة، كما صح بذلك الخبر.(4/163)
وممن بلغ الغاية في الصبر والاحتساب، وبلغ قومه الغاية في أذاه نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه.
فقد أرسله الله سبحانه إلى رجل من طغاة الأرض، استعبد عباد الله وأذلهم، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }.
حكم هذا المفسد على بني إسرائيل أنه من ولد له ولد قتل ولده، فلما ولدت أم موسى موسى حارت ماذا تصنع به شفقة ورحمة بهذا الولد.(4/164)
فألهمها الله سبحانه أن تلقيه في البحر، وأن لا تخاف عليه، ووعدها بأن يعود إليها، فسار به البحر حتى ألقاه عند بيت فرعون، فالتقطه آل فرعون، وسخر الله له امرأة فرعون، فحفظته واتخذته ولداً لها. وأبى هذا الولد أن يقبل الرضاع من أي امرأة حتى وجد أمه فرضع منها، فأعادوه إلى أمه تحقيقاً لوعد الله سبحانه { إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، ثم لما بلغ أشده آتاه الله العلم والحكم، وخرج هارباً من بلاد فرعون، وتزوج في خروجه ذلك، ثم أوحى الله إليه وأرسله إلى فرعون، وأرسل معه أخاه هارون، ووعدهما بالنصر والتمكين، فجاءا إلى فرعون وأبلغاه برسالة الله ودينه، وأمراه بعبادة الله وحده، وأظهرا له آيات الله العظيمة التي أرسله الله بها، فكذب وأبى، وأنكر وجود الله سبحانه، وسأل موسى سؤال استهزاء وازدراء، فقال له: وما رب العالمين، فأجابه موسى رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم مؤمنين، فزاد احتقار فرعون له، وسخريته منه، {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ}، فأجاب موسى بما يعرفه كل عاقل سائر على الفطرة، أنهم خلقوا من العدم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه آباؤهم، قال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، ولما أعيت فرعون الحيلة، وعجز عن مقارعة الحجة بالحجة لجأ إلى ما يلجأ إليه الضعفاء المتكبرون من التهديد والوعيد وبيان قوته وجبروته فقال: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.(4/165)
وما زال يجادل عن باطله، ويحاول كتمان الحق وإبطاله، حتى قال لموسى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى} أي لا يحجب الرؤية فيه شيء، فواعدهم موسى في يوم عيدهم في الضحى، فاجتمع الناس لهذا اليوم، وجاء السحرة وجاء موسى في يوم عيدهم في الضحى، فاجتمع الناس لهذا اليوم، وجاء السحرة، وجاء موسى واثقاً بنصر الله، متوكلاً عليه، مطمئن القلب، وقال لهم {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} فوقع النزاع والخصام بينهم وتفرقت كلمتهم.
وبدأ السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم، فمن شدة سحرهم وقوته أوجس في نفسه خيفة موسى، فأوحى الله إليه بما طمأن قلبه، وأمره أن يلقي العصا فألقاها {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.(4/166)
فظهر نصر الله سبحانه، وآمن السحرة وسجدوا لله، وهزم فرعون وقومه، فتهدد فرعون السحرة وتوعدهم فآثروا ما عند الله، وما زال فرعون في طغيانه مستخفاً بقومه، وهم مطيعون له، حتى كان في ليلة من الليالي في مثل هذا الشهر، وفي مثل هذا الأسبوع، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بقومه من مصر ليلاً متجهاً إلى البحر الأحمر، فعلم فرعون فأرسل في أهل مصر فأخرجهم جميعاً، ولحق بموسى فأدركهم عند البحر الأحمر، فلما رآهم قوم موسى قالوا لموسى: إنا لمدركون، البحر أمامنا، وفرعون وقومه خلفنا، قال لهم موسى وهو واثق بالله {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي سيدلني على ما فيه النجاة، فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه فجعله الله اثني عشر طريقاً، فدخل موسى وقومه وتبعهم فرعون وقومه، فخرج قوم موسى وأوحى الله إلى البحر فانطبق على فرعون وقومه.
وأورث الله بلادهم وأملاكهم لموسى وقومه {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ}، وجعل الله عليهم العذاب من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة وفي يوم القيامة يشتد عذابهم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
عباد الله: صبر نبي الله موسى صبراً عظيماً حتى نصره الله،ولما أوذي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، وهكذا عاقبة المتقين الصابرين {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، فاتخذوا أيها المسلمون منهم قدوة ومن صبرهم مثلاً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
} - }(4/167)
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وعد بالزيادة لمن شكر، والعذاب الشديد لمن كفر، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، عز سلطانه فقهر، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله خير البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان، ما تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، أما بعد:
اتقوا الله، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وكثرة الطاعات، واشكروه على نعمه جميعاً، فبالشكر تدوم النعم.
وإن هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا، فنجى موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، لنعمة عظمى تستوجب الشكر، وإن أحق الناس بموسى المؤمنون من هذه الأمة، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر الله المحرم، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، نجى الله فيه موسى وقومه من عدوهم، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أحق بموسى منكم» فصامه وأمر بصيامه، وقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»، ثم أمر بعد ذلك بمخالفة اليهود، بأن يصام معه التاسع، وهو أفضل، أو الحادي عشر، وإن صام الإنسان الأيام الثلاثة، ونواها مع ذلك أنها ثلاثة من شهر محرم فلا حرج.
اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وأعذنا من كيد الشيطان ونزعاته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...
O y o
فضل عشر ذي الحجة (1)
الحمد لله رب العالمين، أتاح لعباده مواسم الخير ونوعها، ليتزودوا منها صالح الأعمال، ويستدركوا ما يحصل من الغفلة والإهمال.
وأشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:(4/168)
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممر، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمر بكم مواسم عظيمة، تضاعف فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات.
ومن هذه المواسم شهر ذي الحجة، فقد جمع الله فيه من الفضائل، ونوّع فيه من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض، ففي أوله العشر المباركة التي نوه الله بها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، فإن المراد بها عشر ذي الحجة، فقد أقسم الله بها تعظيماً لشأنها وتنبيهاً على فضلها، وروى البخاري من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء»، فدل هذا الحديث على أن العمل في هذه الأيام العشر أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء، وأنه أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا جهاداً واحداً، وهو جهاد من خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء، فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في هذه العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في هذه العشر أفضل وأحب إلى الله منها، وقد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام، ما عدا اليوم العاشر وهو يوم النحر، ومما يشرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله ولاسيما التكبير، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}، والأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء، وأما الأيام المعدودات فهي أيام التشريق.(4/169)
فيستحب الإكثار من ذكر الله في هذه العشر المباركة من التهليل والتكبير والتحميد، وأن يجهر بذلك في الأسواق فقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر، وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لما كان ليس كل واحد يقدر على الحج، جعل موسم العشر مشتركاً بين الحجاج وغيرهم، فمن لم يقدر على الحج فإنه يقدر على أن يعمل في العشر عملاً يفضل على الجهاد.
وفي هذه العشر المباركة يوم عرفة الذي يكفر صومه السنة الماضية والسنة المقبلة، ففي الحديث عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله» رواه مسلم، فيستحب صيامه لغير الحاج، أما الحاج فلا يصومه لأجل أن يتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى، وهو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف كما في صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة»، وروى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً حاجين جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي.. فلم يرَ أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة».
وروى مالك في الموطأ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام»، روى الترمذي: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».(4/170)
وفي هذا الشهر المبارك يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، يكمل المسلمون حجهم الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، بعدما وقفوا في عرفة، وأدوا الركن الأعظم من أركان الحج، وحصلوا على العتق من النار – من حج ومن لم يحج من المسلمين – فصار اليوم الذي يلي عرفة عيداً لأهل الإسلام جميعاً لاشتراكهم في العتق من النار.
وشرع لهم فيه ذبح القرابين من هدي وأضاحي والحجاج يستكملون مناسك حجهم في هذا اليوم المبارك من الرمي والحلق والتقصير والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وأهل الأمصار في هذا اليوم يؤدون صلاة العيد لإقامة ذكر الله.
وفي هذا الشهر المبارك أيام التشريق التي هي أيام منى، روى مسلم في صحيحه من حديث نبيشة الهذلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله عز وجل»، والأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر وقد أمر الله بذكره في هذه الأيام المعدودات، وذكر الله في هذه الأيام أنواع متعددة، منها ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير المقيد في أدبارها، ومنها ذكره بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك.
ومنها ذكر الله عز وجل على الأكل والشرب، فأيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله، فإنه يسمي الله عند بداية أكله وشربه، ويحمده عند نهايتهما، ومنها ذكر الله تعالى بالتكبير عند رمي الجمار.
وبالجملة فشهر ذي الحجة قد تنوعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام، وهو من الأشهر الحرم، حرم الله القتال فيها، لوقوع الحج فيه، فاشكروا الله – أيها المسلمون – على هذه النعمة العظيمة واغتنموا خيرات هذا الشهر، ولا تكونوا من الغافلين.(4/171)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن لا إله إلا الله، الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه يحرم صيام أيام التشريق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيام منى أيام أكل وشرب» رواه مسلم.
وعن عائشة – رضي الله عنها – وابن عمر – رضي الله عنهما – قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» رواه البخاري.
وفي النهي عن صيام هذه الأيام، والأمر بالأكل والشرب فيها حكمة بالغة، وذلك أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الحجاج من مشاق السفر، وتعب الإحرام، وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل من لحوم نسكهم، فهم في ضيافة الله عز وجل.
ويشاركهم أهل الأمصار غير الحجاج في ذلك، لأنهم شاركوهم في صيامهم عشر ذي الحجة، وفي الذكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، فاشترك الجميع بالعيد، والأكل والشرب والراحة، فصار المسلمون كلهم في ضيافة الله عز وجل.
وفي هذه الأيام يأكلون من رزقه، ويشكرونه على فضله، ونُهوا عن صيام هذه الأيام من أجل ذلك.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واشكروه على نعمه، ثم صلوا وسلموا ...
O y o
فضل عشر ذي الحجة (2)
إن الحمد لله نحمده، ... أما بعد:(4/172)
أيها الناس: اتقوا الله، وكونوا مع الصادقين، فالصدق مع الله سبب الفوز والفلاح، واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة، قبل أن تندم النفس على تفريطها حين لا ينفع الندم {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.
عباد الله: إن من نعمة الله على عباده المؤمنين أن جعل مواسم الخير يتلو بعضها بعضاً، ليتمدد النشاط، وتتشوق النفس إلى العمل الصالح، وتعلو همة العامل لسبق أقرانه والفوز عليهم.
وإن من أعظم مواسم الخير بركةً، وأكثرها أجراً، وأرفعها عند الله قدراً، أيام عشر ذي الحجة، عشرة أيام أقسم الله بها في كتابه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، قال أهل العلم: «المراد بها عشر ذي الحجة، وإقسام الله بها يدل على عظمتها وشرفها، فإن الله سبحانه لا يقسم إلا بمعظم»، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
أيها المسلمون: إن مما يدل على شرف هذه العشر أنه اجتمع فيها من أنواع العمل الصالح ما لا يمكن أن يجتمع في غيرها من الأيام، فرض الله فيها الحج، ولا يمكن أن يكون في غيرها، وشرع الله فيها الأضاحي، وشرع فيها أنواعاً من العمل كثيرة، فأين المتنافسون في الخيرات؟ المسارعون إلى رب الأرض والسماوات؟
لقد كان السلف – رحمهم الله – يجتهدون فيها ما لا يجتهدون في غيرها، فقد كان ابن عمر – رضي الله عنهما – يصومها، وكذلك كان بعض التابعين، وكان سعيد بن جبير – رحمه الله – إذا دخلت العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
عباد الله: إن كل عمل صالح فهو مشروع في هذه العشر، والعمل الصالح هو ما اجتمع فيه شرطان عظيمان:(4/173)
أولهما: الإخلاص لله سبحانه، فالعمل إن لم يكن خالصاً لم يكن صالحاً، ولا مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وفي البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... » الحديث.
وثانيهما: المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بسنته، ففي صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
فإن اجتمع هذان الشرطان كان العمل صالحاً مقبولاً عند الله سبحانه، وإلا رد على صاحبه، والعمل الصالح هو الممدوح عند الله سبحانه، وهو الذي يثني عليه في كثير من آيات القرآن {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
أيها المسلمون: إن الله شرع لكم أعمالاً صالحةً كثيرة، يستحب فعلها في هذه الأيام وفي غيرها، فأكثروا منها، وتداركوا أعماركم بالعمل الصالح في هذه الأيام، ومما يشرع فيها:
1) الصلاة، فهي عمود الدين، وركنه الركين، فحافظوا على فرائضها في أوقاتها مع الجماعة، وأكملوا نقص الفرائض بالنوافل، فإنها تجبر ما فيها من خلل، واعلموا أن كل سجدة ترفع درجة وتحط خطيئة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد سجدة إلا رفعك إليه بها درجة وحط عنك بها خطيئة» رواه مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.(4/174)
2) ومن العمل الصالح: الصيام، فهو داخل في الأعمال الصالحة، وكان السلف يصومون هذه الأيام، وقال النووي – رحمه الله –: «إن صيامها مستحب استحباباً شديداً »، ويتأكد صيام يوم عرفة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» رواه مسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه -.
3) ومما يستحب في هذه العشر: كثرة ذكر الله سبحانه، بالتكبير والتهليل والتحميد، وفي الحديث عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العشر: «أكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، وكان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى الأسواق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ذكره البخاري عنهما.
4) ومما يشرع في هذه العشر: حج بيت الله الحرام، فـ «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رواه البخاري، وهو أعظم الأعمال في هذه العشر، ويجب المبادرة إليه لمن كان قادراً {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
5) ومما يشرع: ذبح الأضاحي، فما تقرب عبد إلى الله في هذه العشر بمثل إراقة الدم.
عباد الله: هذه العشر المباركة أقبلت وقد أزف دخولها، فشمروا في طاعة الله سبحانه، واحفظوا أوقاتكم أن تذهب فيما لا ينفعكم في دنياكم وأخراكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني إياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله فضل بعض الأيام والشهور، وجعلها موسماً للعمل المبرور، وضاعف فيها الحسنات والأجور.(4/175)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العزيز الغفور، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأزمان والدهور، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور، أما بعد:
فاتقوا الله، عباد الله، والزموا سنة نبيكم تفلحوا.
عباد الله: ينبغي على المسلم أن يحرص على عمله في هذه الأيام، وأن يحافظ على الفرائض من صلاة وحج وصدقة ونفقة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وغير ذلك مما أوجبه الله على عباده المؤمنين، لأن الفرائض هي أحب الأعمال إلى الله تعالى، ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله تعالى: وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ...» الحديث رواه البخاري، فالحرص على الفرائض مقدم على النوافل، ومن أحب أن يكمل نقصها تنفل ليزداد قرباً إلى سبحانه.
واعلموا يا عباد الله، أن من أراد الأضحية لم يحل له أن يأخذ من شعره ولا ظفره ولا بشرته شيئاً من دخول الشهر حتى يذبح أضحيته، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسَّ من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحّي».
O y o
فضل عشر ذي الحجة (3)
إن الحمد لله نحمده ... أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، سابقوا إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الأجل، واغتنموا الأوقات الفاضلة قبل أن ينتهي العمل، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.(4/176)
عباد الله: ها أنتم تقفون بين يدي موسم عظيم للعمل الصالح، فماذا أعددتم له؟ إنها أيام عظمها الله في كتابه، وفضلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، واعتنى بها صلحاء هذه الأمة سلفاً وخلفاً، فشكروا الله فيها. وإن من رحمة الله بعباده أن يسرها لهم، ليستكثروا من العمل الصالح، ويتزودوا للحياة الآخرة، قبل أن يفاجئهم الموت.
هذه الأيام التي أقسم الله بها في كتابه تعظيماً لها وتشريفاً، فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال ابن كثير – رحمه الله –: «المراد بها عشر ذي الحجة»، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} قال: «هي أيام العشر».
أيام حث الله فيها على الطاعة، وعظمها بالقسم، حري بالمسلم أن لا يهمل منها شيئاً، ولا يضيع منها وقتاً، فمن ضيعها مع فضلها فهو لما سواها أضيع، كيف يليق بالمسلم أن يفرط فيها وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
وإن مما ينبغي معرفته أنّ أي عمل صالح فهو فضيل في هذه العشر، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: «العمل الصالح»، والعمل الصالح يا عباد الله ما اجتمع فيه شرطان، هما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فأخلصوا نياتكم، واجتهدوا في عبادتكم، واتبعوا سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لعلكم ترحمون.(4/177)
أيها المسلمون: أفضل الأعمال وأجلها وأعظمها أجراً الصلاة، فحافظوا عليها في هذه العشر، حافظوا على الفرائض، واجبروا نقصها بالنوافل، وأكثروا منها، فالصلاة أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الفاصلة بين الإسلام والكفر، وأدوها مع جماعة المسلمين في المسجد لتكتب لكم خطاكم حسنات، وأكثروا من النوافل فلقد قال الله في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ...» الحديث، وفي الحديث: «إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة».
ومن الأعمال الصالحة: النفقة، والبذل، والمعروف على الناس، وإطعام الطعام، ولاسيما النفقة على الأقارب، فهي أفضل النفقات، وفي الحديث الصحيح: «واعلم أنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها، حتى ما تضعه في فيِّ امرأتك».
ومن أفضل الأعمال وأجلها الصيام، فهو داخل في العمل الصالح المرغَّب فيه، قال النووي – رحمه الله – عن صومها: «إنه يستحب استحباباً شديداً».
وينبغي أن يُعلم أنه لا يخص من هذه العشر شيء بالصيام إلا يوم عرفة، وغيره يصام بلا تخصيص، لأنه ليس لبعضها فضل على بعض، فليصم الإنسان ما تيسر منها، أما يوم عرفة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: «إن صيامه يكفر السنة التي قبله والتي بعده».
ومن الأعمال الصالحة: التكبير والتهليل والتحميد لحديث: «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»، وكان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
ومما ينبغي أن يُعلم – أيها المسلمون – أن أفضل الأيام، وأجلها عند الله، يوم النحر، فهو يوم الحج الأكبر، وهو أفضل من يوم عرفة، لما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر».(4/178)
وفيه نحر الأضاحي تقرباً لله سبحانه وشكراً له على نعمة، فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا ظفره ولا بشرته شيء، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ومن نوى الأضحية في أثناء العشر أمسك من حين نوى، ومن خالف وأخذ عامداً فعليه التوبة إلى الله سبحانه.
عباد الله: أكثروا من ذكر الله وشكره وحسن عبادته، أكثروا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى الناس، طهروا قلوبكم من كل سوء، وأصلحوا ما بينكم وبين الله يصلح ما بينكم وبين الناس، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله، فضل بعض الشهور والأوقات، ورغب عباده في العمل الصالح قبل الممات، ورفع لهم بذلك الأجور والدرجات.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، قيوم الأرض والسماوات، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، أفضل البريات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، ما تعاقبت الأيام والساعات، وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس: اتقوا الله، وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نوراً تمشون به في الناس...
عباد الله: حري بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب تحرم العبد فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه، والحياة قصيرة، والموت آت لا محالة، والزمان يتقلب، فيوم لك ويوم عليك، والإنسان لا يعلم متى يفاجئه الأجل، فأصلحوا فيما بقي يغفر لكم ما مضى، وكونوا ممن عناهم الله بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. فإلى متى الغفلة والتهاون، وأنت كل يوم تودع صديقاً أو حبيباً أو عزيزاً.
عباد الله: صلوا وسلموا ...
O y o
وصايا في عشر ذي الحجة(4/179)
إن الحمد لله .. أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، فمن يتق الله يجعل له مخرجاً، اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون..
عباد الله: تمضي الأيام وتنقضي، ونحن عنها غافلون، وعن الاستعداد ليوم المعاد لاهون، فهل نحن في هذه الحياة معمرون؟ أم نحن أبد الآباد خالدون؟
إن ضعفنا في العبادة، وتكاسلنا عنها يدل على خلل في أنفسنا، لابد من علاجه ومداواته، وإن القرآن لهو شفاء المؤمنين، ورحمتهم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}.
والقرآن هو الروح التي تحيا بها القلوب، وتستعيد نشاطها به {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}، فأكثروا من قراءة القرآن ولاسيما في مثل هذه العشر المباركة لعلكم أن تنالوا فضل آخرها، وتسعدوا بها في دنياكم وأخراكم.
عباد الله: ها هي أيام العشر قد أوشكت على الانتهاء، فماذا قدمنا فيها لأنفسنا؟ إن الله شرع في هذه العشر أعمالاً عظيمةً، لا تجتمع في غيرها من أيام العام، والله قد فاضل بين الأيام، لينشط المؤمن على العمل الصالح كلما زاد الفتور، جاء الزمان الفاضل، فينشط لعبادة ربه، ويتقوى على طاعته.
أيها المسلمون: إن في هذه الأيام العشر، يومين هما أعظم أيامها وأشرفها وأجلها عند الله عز وجل، شرع فيها ما يشرع في بقية العشر من العمل الصالح.
أولها: يوم عرفة صيامه يكفر سنتين؛ السنة الماضية والقادمة، والعمل الصالح فيه أحب العمل إلى الله، فأكثروا فيه من الذكر والصدقة والمعروف، واحذروا التفريط فيه فإنكم لا تدرون أيعود مرة أخرى عليكم أم لا؟ والكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاقل من استغرق أيامه في طاعة الله سبحانه.
وثاني هذه الأيام يوم النحر، يوم الحج الأكبر، الذي يكمل المسلمون فيه حجهم، ويتقربون إلى الله بذبح قرابينهم، والتقرب إلى الله بصلاة العيد، وذبح الأضاحي.(4/180)
عباد الله: لابد للمسلم أن يتنبه لعدد من الأمور في يوم العيد:
أولها: أن صلاة العيد واجبة، كما أفتى بذلك عدد من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء بالخروج إلى الصلاة حتى الحيّض، لكن يعتزلن المصلى، أمرهن بالخروج مع أن غير صلاة العيد، بيوتهن خير لهن.
ووقت صلاة العيد بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، ويسن تعجيلها، ويسن صلاتها خارج البلد، إلا إن وجد عذر من مطر أو برد أو نحو ذلك لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن دخل المسجد لصلاة العيد، فالسنة له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين، يبين فيهما أحكام الأضحية، وشروط الأضاحي، ويحث الناس على تقوى الله والتزام أمره واجتناب نهيه، ولا يجب حضور الخطبة، فمن شاء جلس، ومن شاء ذهب لترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أحكام العيد أنه يسن للإنسان أن يتنظف ويغتسل ويلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويمشي إليها بسكينة ووقار، ويكثر من ذكر الله وشكره وتعظيمه، ويتذكر بهذا اليوم يوم الحشر الأعظم إلى الله، فيحدث له ذلة وانكساراً والتجاءً إلى الله سبحانه.
ومن أحكام الأضاحي، ألا يضحّي الإنسان إلا بعد الصلاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من ذبح قبل الصلاة فليعد أخرى مكانها» والأكمل ألا يذبح إلا بعد الصلاة والخطبة، لفعله - صلى الله عليه وسلم -.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.(4/181)
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل وهدانا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا ...
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله إليه المرجع والمآب، أنزل على رسوله السنة والكتاب، وجعل فيهما الهداية لأولي الألباب.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، رب الأرباب، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المرجع والمآب، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن للأضحية أحكاماً، ينبغي للمسلم أن يعمل بها، فمن ذلك أن من أراد الأضحية فلا يأخذ من شعره، ولا أظفاره، ولا جلده شيئاً، لحديث أم سلمة في صحيح مسلم: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره»، وفي لفظ: «فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي»، وإن نوى الأضحية في أثناء العشر أمسك من حين ينوي.
والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، وأما تخصيص الأموات بالأضاحي فليس من السنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضحِ عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضحِ عن عمه حمزة، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، ولا عن زوجته خديجة، ولم يفعل ذلك أحد من أصحابه.
بل ينبغي للمسلم أن يضحي عن نفسه، ويشرك فيها من شاء من الأحياء، والأموات، أما الوصايا فتنفذ بمقتضى الوصية لقوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
عباد الله: أكثروا من التهليل والتكبير والتحميد في هذه العشر، فإنه سنة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم ترحمون.
O y o
خطبة عيد الأضحى(4/182)
الحمد لله وفق من شاء من عباده لفعل الخيرات، وتابع لهم مواسم الأعمال الصالحات، وحثهم على اغتنام الباقيات الصالحات، ووعدهم على ذلك وافر الأجر وجزيل الهبات، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تعد، وأفضاله التي لا تحد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، ما وقف الحجاج بعرفات، الله أكبر ما أفاض الحجاج من عرفة، وذبحوا من القربات، الله أكبر ما رفع المسلمون أيديهم بالدعوات، ولجؤوا إلى فاطر الأرض والسماوات.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أعطى فأجزل، وكرم عباده، ومن عليهم وتفضل، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، أخشى الناس لربه، وأزكاهم في سره وجهره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: إن يومكم هذا يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، يقضي الحجاج فيه كثيراً من مناسك الحج، يرمون الجمرة، وينحرون الهدي، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، فلذلك سمي يوم الحج الأكبر، ويذبح الناس فيه ضحاياهم تقرباً إلى الله سبحانه، وما عمل ابن آدم في هذا اليوم عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم، وهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد – عليهما الصلاة والسلام – فطيبوا بها نفساً.
واعلموا أن الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، لما فيها من إحياء السنة، والأجر العظيم، وموافقة ما يحبه الله سبحانه.
أيها المسلمون: الأضحية سنة مؤكدة، يكره للقادر عليها أن يتركها، بل قال بعض علماء المسلمين: إنها واجبة وإن تاركها يأثم، ولقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - وداوم على الأضحية عشر سنوات، وقال: «من وجد سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا»، وكان يظهرها للناس، لأنها شعيرة ظاهرة، ومن لم يجد الأضحية فقد ضحّى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -.(4/183)
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الأضحية يا عباد الله، سنة للأحياء، ولا بأس أن يشرك الإنسان في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات، وفضل الله واسع، وإن من الحرمان ما يفعله بعض الناس، من جعل الأضحية لوالديه المتوفين، ويحرم نفسه وأهله من ثوابها، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضحّ عن أحد من أمواته، فقد ماتت خديجة – رضي الله عنها – وهي أحب الناس إليه، ولم يضحّ عنها أضحية مستقلة، ومات عمه حمزة ولم يضحّ عنه أضحية مستقلة.
أما الوصايا، فإنها يعمل بها على نص الموصي سواء أضحية أم غيرها، ولا تجزي الأضاحي إلا من بهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، فتجزي الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، وللإنسان أن يشرك في أضحيته من شاء.
أيها المسلمون: إن الأضحية لابد أن تكون موافقة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فهي مردودة على صاحبها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
والموافق لسنته ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:
الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً؛ خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الأجزاء، وهي أربعة: العرجاء البين ضلعها، فلا تعانق الصحيحة في المشي، والمريضة البين مرضها فظهرت عليها علامات المرض في أكلها أو شربها أو مشيها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا تنقى. وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
الشرط الثالث: أن يذبحها في الوقت المحدد شرعاً، وهو من الفراغ من صلاة العيد إلى غروب الشمس في اليوم الثالث عشر.(4/184)
والأفضل للمضحي أن ينتظر بالذبح حتى يفرغ الإمام من خطبته، ويجوز الذبح ليلاً ونهاراً، لكن النهار أفضل، ويذبح المضحي أضحيته بنفسه، فإن لم يحسن فإنه يحضر ذبحها، ويقول عند ذبحها: اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ولا يمسح ظهرها لعدم الدليل عليه من السنة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله: الذكاة لها شروط لا تصح دونها، منها: أن يقول عند الذبح: بسم الله، فمن لم يسمِّ فذبيحته ميتة، حرام أكلها، لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل»، وسواء تركها عمداً أم نسياناً فهي حرام، لأن الشروط لا تسقط بالنسيان، ومنها: إنهار الدم، بأن يقطع الحلقوم، وهو مجرى النفس، والمري، وهو مجرى الطعام، والأوداج، وهي مجاري الدم المحيطة بالعنق.
والسنة للمضحي أن يأكل منها، ويتصدق، ويهدي، وأفضل الصدقة والهدية ما كان للأقارب، لأنه صدقة وصلة رحم، ولا يعطى الجزار أجرته منها: وإن أعطي هدية فلا بأس.
عباد الله: هذه سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وشريعة ربكم، فاعملوا بها، والتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه، واعلموا أن العيد موسم للعودة إلى الله تعالى، وترك الذنوب والآثام، والالتجاء إلى ذي الجلال والإكرام، وشكره على نعمه، وسؤاله الزيادة والتمام.(4/185)
متى يعود من لم يعد في هذه الأيام؟ ومتى يستيقظ أولو النهى والأحلام؟ أما علموا أن الدنيا دول؟ وأنها تتغير من ساعة إلى ساعة؟ كم إنسان أمسى غنياً وأصبح فقيراً؟ وكم من الناس كان في الدنيا ذا جاه فأصبح حقيراً؟ أما في الأموات معتبر؟ وفي الماضين ذكرى لمن كان له سمع وبصر؟ أما كانوا بالأمس معنا؟ فأصبحوا رهناً بأعمالهم، فماذا ينتظر المتأخرون؟ وعن أي شيء يبحث الباقون؟ أليس الله يقول في القرآن: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}؟ ولكن المؤمن يرجو ويخاف.. ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، وسلعة الله غالية، وهي الجنة، فاعملوا صالحاً، وأبشروا وأملوا، ومن حفظ الله حفظه الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.
} - }
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، ولي الصالحين، وقيوم السماوات والأراضين، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله سيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واشكروه على نعمه، وأجلها نعمة الإسلام ويسره، أكمل الله الدين، وأتم النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}، يسر لا مشقة فيه، رفع الله عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأعطانا من الأجر ما لم يعطه أحداً من العالمين.
دين كامل جعله الله مهيمناً على الشرائع السابقة، وحاكماً عليها، لم يترك خيراً إلا أمر به، ولا شراً إلا حذر منه، فلله الحمد والمنة.(4/186)
أمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الناس جميعاً، قريبهم وبعيدهم «إن الله محسن يحب الإحسان، وإن الله كتب الإحسان على كل شيء».
أمر بعبادة الله وحده وترك ما سواه «إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار»، ورغب في العمل، وأن لا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا.
أمر بالعدل، وترك الظلم {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، ونهى عن العدوان، وأكل أموال الناس بالباطل.
حفظ حقوق البشر، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
أوصى بالنساء خيراً «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم»، وإذا حفظت المرأة فرجها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها.
الله أكبر.
عباد الله: تذكروا في هذا اليوم – وأنتم تجتمعون في هذا المكان – العرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، فأعدوا لذلك اليوم عدته من الإيمان والعمل الصالح، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لعلكم ترحمون.
اللهم إن هؤلاء عبادك، خرجوا استجابة لأمرك،وطلباً لرحمتك، اللهم فلا تخيب آمالهم، ولا تردهم عن بابك، ولا تحرمهم الأجر والمثوبة، اللهم آتهم من خير ما سألوا، وجنبهم ما خافوا، وأعذهم من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
O y o
استغاثة (1)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
الحمد لله أنعم على عباده بنعم لا تحصى، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الحمد لله وسع بفضله ورحمته كل العبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله، الولي الحميد، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.(4/187)
لا إله إلا الله، المؤمل لكشف كل كرب شديد، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، وصفيه وخليله، ترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، وتوبوا إليه، واستغفروه، وأنيبوا إليه ووحدوه، فربكم غفور رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وعمّ إحسانه كل حي.
العباد يسيئون ويعصون، وهو يتوب عليهم ويرحمهم سبحانه، دعا عباده إلى التوبة ورغبهم فيها، وحثهم على الاستغفار ووعدهم بالمغفرة {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وفي الحديث القدسي «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم»، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً}، {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً}، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
علم عجز العباد وتقصيرهم، ففتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته.
الله لا يعذب أهل الاستغفار، لأنه أمان من الله للخلق، {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، بالاستغفار تنزل رحمة الله {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.(4/188)
الاستغفار جالب للخصب، والبركة وكثرة النسل والنماء {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً }، في الاستغفار الفرج من كل هم، والمخرج من كل ضيق، ورزق العبد من حيث لا يحتسب، ففي الحديث: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب».
الاستغفار ساتر للذنوب، ومُزيل لها، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. بقدر ما يكون الإيمان والصلاح والاستغفار، تكون الخيرات والبركات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
أيها المسلمون: عودوا إلى ربكم، وحاسبوا أنفسكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً. فإلى متى التفريط والبعد عن الله؟ إلى متى التواني والكسل؟ أحين يفاجئكم الموت تعودون؟ أم حين يصيبكم الهرم تفيقون؟ بادروا بالأعمال سبعاً، فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمرّ.
أكثروا من الطاعات، واغتنموا الأوقات، والزموا الباقيات الصالحات، والجؤوا إلى ربكم رب الأرض والسماوات، فربكم قد فتح أبوابه للسائلين، وكتب على نفسه الرحمة للمستغفرين التائبين، وهو قيوم السماوات والأراضين. احفظوا بيوتكم وأولادكم، عن شياطين الإنس والجن. واسألوا ربكم الثبات إلى الممات. وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلى عليه.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا، وترحمنا لنكونن من الخاسرين.(4/189)
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل.
اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِ بلدك الميت.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغاً إلى حين.
اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
سبحان الله، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين.
اللهم ارفع عنا الجهد، والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت.
اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً.
اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وأغث بلادنا بالأمطار والخيرات والبركات.
اللهم ادفع عنا كل سوء وبلاء ومكروه، وأنزل علينا كل خير وبركة، أنت ملجؤنا ومعاذنا، إياك نعبد وإياك نستعين، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله: اقلبوا أرديتكم تأسياً بنبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجتهدوا في الدعاء وألحوا في المسألة.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا من الاستغفار والصدقة وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الناس، احفظوا حقوقهم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالرجوع إليه، والبلد بإنزال المطر عليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
O y o
استغاثة (2)(4/190)
الحمد لله رب العالمين، يبتلي عباده بالشدائد ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يعلم ما كان وما يكون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأكرمين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحذروا عقابه، وحاسبوا أنفسكم وتوبوا من ذنوبكم، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..
عباد الله: إننا في هذا العام نشكو من امتناع المطر الذي به حياتنا، وحياة مواشينا وزروعنا وأشجارنا، فتذكروا أنه ما حبس عنا إلا بذنوبنا، وأن الله غني كريم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، وقد أمر الله عند انحباس المطر بالاستغفار من الذنوب التي هي السبب في منعه، فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً }، وقال تعالى على لسان هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}.
وقد شرع لنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - صلاة الاستسقاء عند انحباس المطر، ليرجع الناس إلى ربهم ويتوبوا إليه.
وليس الاستغفار مجرد لفظ يردد على اللسان، وليست صلاة الاستسقاء مجرد عادة تفعل في الأوطان، وإنما هي توبة وندم، وعبادة وخضوع لرب العالمين، وتحول من حالة فساد إلى حالة صلاح، فلابد أن تكون حال المسلمين بعد صلاة الاستسقاء أحسن من حالهم قبلها، إذا كانوا صادقين في توبتهم، ومعترفين بذنبوهم.(4/191)
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في دعاء الاستسقاء فلا يحطهما إلا وقد نشأ السحاب، وسالت الأودية والشعاب، لأنه صادق مع ربه، وكذلك خلفاؤه الراشدون، وصحابته الأكرمون، كانوا يستسقون فيسقون، ويسألون فيعطون، لصدقهم مع الله في توبتهم، ورغبتهم إلى الله في دعائهم.
استسقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعض المنافقين: لو كان نبياً لاستسقى لقومه، كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أوقد قالوها عسى ربكم أن يسقيكم» ثم بسط يديه، ودعا فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب، وأمطروا فأنعم السيل الوادي، فشرب الناس، وارتووا.
ولما شكا المسلمون في المدينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، خرج فصلى بهم، ثم دعا الله تعالى، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبدالله ورسوله».(4/192)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا، قال: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: «اللهم أغثنا» ثلاث مرات، قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، أي أسبوعاً، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر»، فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.
فقد استجاب الله دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحال بالاستسقاء والاستبطاء، كذلك هو سبحانه قريب مجيب يستجيب من عباده إذا دعوه صادقين مخلصين له الدين، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.(4/193)
أما إذا دعوه بألسنة كاذبة، وقلوب غافلة، وأفعال فاسدة، وهم مصرون على الذنوب والمعاصي لا يغيرون من أحوالهم شيئاً، فهؤلاء لا يستجاب لهم دعاء، قال بعض السلف: «أنتم تسبطئون نزول الغيث، وأنا أستبطئ نزول الحجارة من السماء». ولذلك ترون الناس اليوم يستغيثون ويستغيثون ولا يستجاب لهم، لا لقلة في خزائن الله، ولكن لذنوبهم ومعاصيهم – أما ترون الصلاة قد أضيعت؟ أما ترون المحرمات قد انتهكت؟ أما ترون جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد خف؟ أما ترون الأمانات قد ضيعت؟ أما ترون المعاملات قد فسدت؟ أما ترون الربا قد فشا وانتشر؟ أما ترون المعازف قد علت أصواتها في البيوت والأسواق؟ أما ترون الغيرة قد ذهبت؟ أما ترون المساجد قد هجرت، فلا يرتادها إلا القليل؟ أما ترون أن الآباء قد أهملوا أولادهم، والأولاد قد عقوا آباءهم؟
هل غيرنا من هذه الأمور شيئاً، قبل أن نستسقي حتى يغير الله ما بنا؟
لا نقول إن هذه الأوصاف السيئة عمت جميع المسلمين، فهناك من عباد الله الصالحين من هم سالمون منها في أنفسهم، لكنهم لا يحاولون إصلاح غيرهم، ولا يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب استطاعتهم، والعقوبة إذا نزلت عمت الجميع، عمت العاصين لمعصيتهم، والصالحين لسكوتهم، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
عن ثوبان – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» رواه النسائي بإسناد صحيح، وعن أبي الأحوص قال قرأ ابن مسعود: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فقال: كاد الجعل يعذب في حجره بذنب ابن آدم، الحاكم.(4/194)
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} أن الحشرات تلعن عصاة بني آدم وتقول: إننا منعنا القطر بمسيئهم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، أي أصابهم الله بالجدب والقحط، وأصاب ثمارهم وغلاتهم بالآفات والعاهات، ليتعظوا بذلك ويتوبوا.
وها هي سنة الله لا تتبدل في عالمنا المعاصر، فكم أصابهم من احتباس الأمطار واجتياح الثمار، والأمراض والمجاعات، فهل غيروا من حالهم وأصلحوا ما فسد من أعمالهم؟ هل تذكروا ذنوبهم فأصلحوا عيوبهم؟ إن الكثير والكثير في غفلة معرضون، ونخشى أن يصيبنا ما أصاب الأولين.
عباد الله: إن في تصريف الأمطار بإنزالها في بعض الأقطار وحبسها عن بعض الديار لعبرة لأولي الأبصار، وعظة للعصاة والفجار، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}.(4/195)
وإن القادر على منع نزول الأمطار قادر على تغوير المياه من الآبار، قال تعالى مخوفاً عباده من ذلك {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً }، وقال: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً}، وقال: {وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدائر والعيون، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}، أي كما قدرنا على إنزاله فنحن القادرون على سحبه من مخازنه في الأرض وتغويره في أعماقها فلا تستطيعون الحصول عليه مهما بذلتم في طلبه والبحث عنه حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم وحروثهم.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من هذه التهديدات، وتوبوا إلى ربكم، وادعوه أن يغيثكم ويسقيكم فإنه قريب مجيب، يجيب من دعاه ولا يخيّب من رجاه. وإياكم وقسوة القلوب عند نزول المصائب، فإنها سبب الهلاك والدمار، {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
بارك الله لي ولكم ...
O y o
استغاثة (3)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
الحمد لله الغني الحميد، الرؤوف المجيد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
الحمد لله غفار الذنوب، وكاشف الكروب، وساتر العيوب.(4/196)
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يجيب دعوة المضطر، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا الله فتقوى الله فيها الفرج من كل كربة، والمخرج من كل شدة، اتقوا الله فمن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
أيها المسلمون: يبتلي الله عباده بالشدائد والكروب، ليتوبوا إليه، ويراجعوا أنفسهم ويلجؤوا إلى ربهم، وهذا من رحمة الله بعباده.
إذا كثرت ذنوب الناس ومعاصيهم ابتلاهم الله بقلة الأمطار، وحبس خيرات السماء لعلهم يتذكرون، لعلهم يتذكرون ربهم وخالقهم، فيُحدِّثوا التوبة، وينيبوا إلى ربهم، وما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
عباد الله: ذنوبنا كثيرة، ورحمة الله قريب من المحسنين، وأعمالنا سيئة، والله لا يصلح عمل المفسدين، وباب التوبة مفتوح، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فأنيبوا إلى الله قبل أن يفاجئكم الموت بغتة فتندموا ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون: إذا اشتد الأمر، وضاقت الحياة، وتكالبت على الإنسان المحن، فقد قُرب الفرج، وحان انتهاء الشدة، ولكن بعد الرجوع إلى مالك الملك وخالق الأرض والسماوات «عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره ينظر إليكم أذلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».(4/197)
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «حاسبوا أنفسكم قبل تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله» أليس في المسلمين من يتهاون في أداء الصلاة؟ وإذا أداها نقرها نقراً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً؟ أليس فيهم مانع الزكاة، أمواله تزيد وزكاته تنقص؟ تزداد حاجة الفقراء، ولا يكثر من النفقة والمعروف؟ أين الرحمة من قلوب هؤلاء؟ لو رحم هؤلاء أهل الأرض لرحمهم من في السماء؟
أليس فينا من عقَّ والديه، وقطع رحمه، وآذى المسلمين، والله يقول للرحم: «من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته».
أما غفلنا عن ذكر الله حتى أصيبت قلوبنا بالران؟ واسودّت حتى استوى عندنا المعروف والمنكر؟
ندعو الله وقلوبنا غافلة لاهية، ثم نستبطئ الإجابة، والله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهٍ.
إن الله أمر بدعائه ووعد بالإجابة {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، والله قريب من عباده، يسمع دعاءهم، ويرى أفعالهم، ويجيب دعواتهم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فمن دعا الله بقلب صالح فإما أن يستجيب له، أو يؤجل له أجرها يوم القيامة، أو يدفع عنه من البلاء بقدر دعوته.
أكثروا من الاستغفار، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب.(4/198)
الاستغفار سبب لنزول الأمطار، وكثرة الخيرات والنسل، يقول نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} ويقول هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }.
اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات، واجعل لنا أنهاراً.
اللهم أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، لا إله إلا الله الغني الحميد، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم اجعل ما أنزلته علينا قوة على طاعتك، ومتاعاً إلى حين.
اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً غدقاً عاماً، تحيي به البلاد، وترحم به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم ارحم الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق.
اللهم اسقِ عبادك، وبلادك وبهائمك.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء، يا حي يا قيوم.
اللهم إن نسألك من فضلك ورحمتك، فإنها بيديك، ولا يملكها أحد سواك يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى اليوم الدين.
O y o(4/199)
الملاحق
(أ) نماذج من كتابات المؤلف.
(ب) مراثٍ نثرية في المؤلف.
(ج) مراثٍ شعرية في المؤلف.
(أ)
نماذج من كتابات المؤلف
1. ترجمته لوالده.
2. توجيهات لطالب العلم.
3. من مذكراته.
(1)
ترجمته لوالده
الشيخ محمد بن عبدالمحسن الفريح
هو الشيخ الوجيه الفرضي المؤرخ النسابة الإخباري محمد بن الشيخ عبدالمحسن ابن محمد بن فريح (الفريح) بن فواز بن حمد بن فواز بن سلمي، وآل سلمي أسرة تميمية عنبرية(1).
أسرته:
تنتمي أسرة آل فريح إلى آل سلمي وهي أسرة تميمية كانت تسكن بلدة قفار قاعدة بلاد حائل سابقاً، ثم نزح جد المترجم فواز بن حمد وعمه رشيد إلى بلدة البكيرية عام 1185هـ، وهم أول من سكنها مع آل سويلم الذين اشتروا البلد.
وتضم أسرة آل سلمي مع أسرة الفريح: الجويخان، والربع، والرشود، والعبيد، والقميع، والمحمود، وهؤلاء أبناء فواز ورشيد بن سلمي.
والعصيمي في الزلفي أبناء سليمان بن سلمي.
وقد أنجبت الأسرة عدداً من العلماء والأعيان والوجهاء.
ولادته:
ولد – رحمه الله – في شهر ربيع الأول عام 1332هـ، يقول – رحمه الله –: "ولدت سنة جراب أو قبلها بسنة".
نشأته وتربيته:
نشأ – رحمه الله – وتربى بين أبوين صالحين:
فأبوه الشيخ عبدالمحسن كان من أهل العلم البارزين(2).
ووالدته سارة بنت علي العواد من المعروفات بالخير والصلاح وحسن التربية.
وجده الشيخ محمد كان من وجهاء البلدة وأعيانها وهو أول إمام للجامع الأوسط (الكبير الذي بني عام 1292هـ) في البلد.
عاش المترجم – رحمه الله – عيشة الكفاف حيث كانت أسرته أسرة متوسطة المعيشة، فليست من الأغنياء ولا الفقراء وهو – كما يحدث عن نفسه – لم يذق طعم الجوع.. ولم يستدن في حياته.. في وقت كانت غالب الأسر تعاني من الفقر والجوع.
__________
(1) هكذا أملى نسبه – رحمه الله – على الشيخ عبدالله البسام – رحمه الله – لما التقى به في بلدة الهلالية في منزل الشيخ فراج العقلا.
(2) المتوفى في شهر شوال عام 1379هـ.(5/1)
يقول – رحمه الله –: «لم ينلني الجوع بفضل الله ثم بجهد الوالدة التي كانت تعمل ليل نهار لتوفر لنا لقمة العيش».
وقد حفظه الله في صغره من الدخول في متاهات الفساد والشر، وذلك فضل الله سبحانه يؤتيه من يشاء.
قرأ القرآن على الشيخ محمد بن محمود آل سلمي وهو من أشهر المقرئين في البلد في وقته، وكانت مدرسته بجوار الجامع الأوسط.
وأخذ عن والده علم الفرائض والتاريخ والأنساب ولازم الشيخ محمد بن مقبل قاضي البكيرية في وقته.
وكذلك لازم مجالس الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن سبيل، بل كان من خواصه الذين يستشيرهم في كثير من الأمور ويخرجون معه في مهامه خارج البلد.
كما استفاد – رحمه الله – فائدة عظيمة من مطالعته لكتب الفقه والحديث والتاريخ والأدب. وكان وقته مشغولاً دائماً بالسماع من أحد الفنون السابقة يتناوب أولاده بالقراءة عليه، وآخر ما قرئ عليه جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب والبيان والتبيين للجاحظ قبل وفاته بأيام – رحمه الله –.
واستفاد – رحمه الله – من مكاتباته العديدة للمفتي الأكبر محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ورئيس مجلس القضاء الأعلى عبدالله بن محمد بن حميد. والمفتي العام للمملكة عبدالعزيز بن باز – رحمهم الله –. وله عدد كبير من المراسلات والمباحثات في التاريخ والأنساب وغيرها مع الشيخ حمد الجاسر – رحمه الله – وله معه اتصالات كثيرة عبر الهاتف.
كما استفاد – رحمه الله – من مجالسته لخواص الناس من أعيان الحاضرة وأمراء البادية والذين كانوا يأنسون به ويكثرون التردد عليه لكرمه وعلمه وأدبه.
أعماله:(5/2)
في عام 1373هـ قدم الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ إلى البكيرية فطلب منه الأهالي إنشاء هيئة للأمر بالمعروف.. فاجتمع الشيخ عمر بالشيخ عبدالعزيز السبيل في منزل المترجم وتم كتابة بعض الأسماء لتعيينهم فطلب الشيخ عمر من الشيخ عبدالعزيز أن يكتب اسم المترجم معهم فأخبره أنه رفض ذلك فأخذ الشيخ عمر الأوراق وكتب اسمه بيده فكان كالإلزام له بالعمل.. وقد استمر – رحمه الله – في هذا العمل عضواً في الهيئة حتى عام 1391هـ، ثم أصبح بعد ذلك رئيساً للهيئة بعد وفاة رئيسها، وفي عام 1398هـ صدر قرار إحالته للتقاعد ثم مدد له حتى عام 1408هـ.
وكان له مكانة خاصة عند أهل العلم والفضل، يقول الشيخ محمد بن عبدالله سبيل: «إنه كان من أميز طلاب الشيخ عبدالعزيز بن سبيل، وكان أهلاً للقضاء لكنه لم يرغب فيه، وكانت له مواقف في دفع الظلم عن المظلومين، وكان الشيخ عبدالعزيز يثني عليه كثيراً».
وقال الشيخ إبراهيم الخضيري عنه: كان عالماً بالفرائض.
وقال الشيخ عمر السبيل – رحمه الله – عنه: «لم أسمع أبي وعمي يدعوان لأحد دعاءهما له».
وقد اشتهر – رحمه الله – في عمله بالنزاهة والنصح والإرشاد والستر على المسلمين وإخفاء ما يجده من مخالفات على بعض الناس حتى عن زملائه في العمل، ولهذا كانت فترة رئاسته من أفضل الفترات التي مرت على الهيئة.
وكان – رحمه الله – مهتماً بأمر الستر على الناس ممن أمر الشرع بالستر عليهم..
وكان يردد الحديث: «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة».
وكان حتى مفارقته الدنيا يحزن إذا شهر بأحد العصاة، ويقول: «ليتهم نصحوه وستروا عليه فذلك أقرب لتوبته وندمه».
وكان عضواً في كثير من اللجان الخيرية والإصلاحية في البلد فهو عضو في لجان النظر المعتمدة من الإمارة والشرطة والمحكمة..
واستفادت منه جمعية البر الخيرية في البلد أول إنشائها في معرفة المحتاجين في البلد.(5/3)
وكان له جهة خاصة في إصلاح ذات البين وحل المشكلات الزوجية ونحوها.. وكانت الآية: ( - صدق الله العظيم - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - (( - - - ( - - - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( الله أكبر ... ( [النساء: 114] دائماً على لسانه.
وكانت له مكانة وتقدير خاص عند أمراء البلد والمسؤولين فيه، وكانوا يجلونه ويعرفون له فضله وجهوده في خدمة البلد وأهله.
وقد عرضت عليه إمارة البلد عام 1374هـ لكنه رفضها طاعة لوالده الذي نهاه عنها ورفض دخوله فيها.
صفاته:
اجتمعت فيه – رحمه الله – صفات كثيرة قلّ أن تجتمع في إنسان، فمن أبرز صفاته:
الكرم، وكرمه – رحمه الله – مشهور عند الخاصة والعامة وعند المقيم والمسافر، فقل أن يأتي يوم إلا وعنده ضيف.
وكان – رحمه الله – براً بوالديه، وصولاً للرحم، حيث كان لا يدخل بلداً إلا ويزور أقاربه.
وكان حليماً لا يغضب كتوماً للغيظ، يتخير منطقه إذا أراد الكلام، ويسكت في كثير من الأحيان خشية أن يؤدي الكلام إلى ما لا تحمد عقباه.
وكان حكيماً يعرف مواضع الزلل ويبتعد عنها ويحذر منها.
وكان صاحب رأي ومشورة معروفة يقصده ويهاتفه الكثير للتنور برأيه في كثير من المسائل.
وكان ذا فراسة عجيبة في الأشخاص لا يكاد يخطئ فيها.
وكان صاحب حافظة عجيبة، أهلته لأن يحفظ كثيراً من تواريخ الوقائع والأحداث وميلاد الأشخاص، ولذلك كان مرجعاً في هذا الشأن للقاصي والداني، وفيه يصح قول الشاعر:
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً ... حتى يرى خبراً من الأخبار
وينطبق عليه قول الآخر:
ما زلت تكتب في التاريخ مجتهداً ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا
وكان – رحمه الله – ذا معرفة بالنجوم، ولذلك كان دليل أصحابه في طريق الحج الذي أداه راجلاً خمس مرات قبل عام 1360هـ.(5/4)
وكان صبوراً لا يكاد يشكو من ألم حل به أو يطلب حاجة يريدها من مخلوق، وقد تجلى ذلك في مرضه الذي مات فيه. وقد وصفه مدير المستشفى بأنه "جبار"، لعدم شكواه من المرض مع شدة الآلام التي يعانيها.
وبالجملة فقد كانت وفاته خسارة ليس لأسرته فحسب بل للمنطقة بأجمعها، فقد اجتمع فيه من الصفات ما لا يكاد يجتمع في غيره فهو حقيق بقول الشاعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
ومن أبرز صفاته – رحمه الله – عنايته بأملاك أهله وأقاربه وأوقافهم فقد قام عليها وأصلحها من ماله الخاص حتى يستمر أجرها لمن أوقفها.
مرضه ووفاته:
مرض – رحمه الله – في شهر شعبان من عام 1421هـ، ولم يُبدِ ذلك لأحد، لكن آثار المرض بدت عليه فأصر عليه أبناؤه بالذهاب للمستشفى عملاً بالسبب الذي لا ينافي التوكل.. فراجع المستشفى على كره ولم يكمل المراجعة وقتها.
وبعد صيامه شهر رمضان عام 1421هـ بدأ جسمه بالهزال وصحته عموماً بالتراجع، وكان يرفض مراجعة الطبيب، وكان يقول إذا طلب منه مراجعة الطبيب: استوفينا العمر وزيادة.. والأصحاب كلهم اليوم تحت الثرى.
وفي شهر صفر من عام 1422هـ، زادت صحته سوءاً وانسدت شهيته عن الطعام تماماً، وهو مع ذلك يرفض مراجعة الطبيب.
وفي 26 صفر صلى صلاة المغرب في المسجد الجامع الكبير وقد أنهكه السير إلى المسجد، وكان يمشي ويهتز ويجلس أثناء ذلك مع قرب المسافة، وقد انقطع بعدها عن الصلاة في المسجد لكنه لم يترك صلاة الجماعة، حيث كان ينتظر أحد الأبناء بعد انصرافه من الصلاة في المسجد ليصلي معه، وفي يوم الأحد 4/3/1422هـ أُدخل المستشفى وأجريت له الفحوصات اللازمة، وتبين أنه كان يشكو من آلام حادة جداً في المعدة والمرارة والكبد.
وفي يوم الأربعاء 7/3/1422هـ دخل في غيبوبة استمرت أسبوعاً كاملاً حتى وافاه الأجل في تمام الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دققية من عصر يوم الثلاثاء 13/3/1422هـ.(5/5)
وقد أسرع في تجهيزه والصلاة عليه عملاً بالسنة النبوية وتلبية لرغبته – رحمه الله – حيث أم المصلين ابنه ناصر بعد صلاة العشاء من ذلك اليوم.
وقد شهد الصلاة عليه جمع كبير جداً امتلأ بهم الجامع الكبير الذي لم يشهد قبله مثلهم، وكان يوم تشييعه مشهوداً جعل الله جميع أولئك شافعين له.
وقد خلَّف – رحمه الله – عدداً من الأبناء والبنات والأحفاد، جعلهم الله خير خلف لخير سلف.
- - -
(2)
توجيهات لطالب العلم(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله..
أما بعد.. فنحمد الله تعالى على ما منّ به من هذه اللقاءات المباركة التي نسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان حسناتنا يوم القيامة.
وفي البداية لابد أن نتكلم عن عدد من التوجيهات والفوائد التي تعين طالب العلم على السير في هذا الطريق فأول هذه التوجيهات: أن الإنسان ينبغي له بل يجب عليه أن يصلح نيته، ويجعلها خالصة لله تعالى، فإن العلم عبادة، والعبادة لاتصح ولا تنفع صاحبها إلا بالإخلاص، قال الله تعالى: ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - (- صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - - صدق الله العظيم ( { } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد ((- عليه السلام - - ( - { - - - - رضي الله عنه -((((( - ( - ( - ( - - - - رضي الله عنه -(((- صلى الله عليه وسلم - - - - - - عليه السلام -( - - - (- عليه السلام - - ( مقدمة } - قرآن كريم ( - - ( { ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - } - قرآن كريم ( - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم - - } - - - - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( صدق الله العظيم - ( - ( { - رضي الله عنهم - - ( - - - { ( - - - ((( ( [البينة: 5] أي مخلصين له العمل.
__________
(1) كتبها مقدمة لأحد دروسه العلمية.(5/6)
وهذا الأمر هو الذي به التوفيق في الدنيا، وبه يحصل الأجر والثواب في الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر المتفق عليه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
وثانيها: اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعلم العلم، ويحصل ذلك بمعرفة سيرة الصحابة وكيفية تلقيهم العلم، وأدبهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وثالثها: أن يبدأ الإنسان بالأهم فالمهم، فيتعلم القرآن قبل تعلم الحديث، ويتعلم أحكام الصلاة قبل تعلم أحكام الصيام ونحو ذلك، ويتعلم الفرائض قبل السنن، لأن تعلم العلم إنما يراد به التقرب إلى الله، والتقرب إلى الله يكون بتعلم ما قدمه الله قبل غيره.
الرابع: أن يتعب الإنسان نفسه في طلب العلم، ويعطيه وقته كله، ليحصل له شيء من العلم، فالإنسان الذي يجعل العلم مشاركاً لغيره لا يحصِّل إلا القليل، لكن الإنسان يعمل العمل الذي لا يشغله عن طلب العلم، ذكر الإمام مسلم – رحمه الله – في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير: «لا ينال العلم براحة الجسم»، وهذا صحيح فالذي يريد اللهو واللعب لا يحصل العلم.
الخامس: العمل بالعلم، وهو مقصود العلم، فالإنسان إنما يتعلم ليعبد ربه على بصيرة، فإذا لم يعمل فلماذا يتعلم، ذكر الفضيل بن عياض عند الإمام أحمد، وكان صاحب عبادة عظيمة وخشية لله، فقال بعض القوم: لم يكن الفضيل عالماً، فقال الإمام أحمد: اسكت فهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه الفضيل، وفي مأثور الحكم من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم. ثم إن العمل مثبت للعلم ومرسخ له في قلب الإنسان، وهذه طريقة الصحابة، قال أبوعبدالرحمن السلمي: حدثنا الذين كان يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان...
السادس: العناية بالحفظ، فهو رأس المال، وإليه المرجع، وعليه المعول، وقد قيل: من حفظ المتون حاز الفنون، وما ارتفع من ارتفع من العلماء إلا بكثرة محفوظهم ثم بقوة فهمهم.(5/7)
السابع: العناية بالقرآن، حفظاً وقراءة وتدبراً، فهو أساس العلوم، وهو كلام رب العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، سماه الله روحاً ونوراً فهو يحييك ثم ينير لك الطريق فتسير فيه على صراط مستقيم. قال شيخ الإسلام: «ومن تدبر القرآن طالباً الهدى تبين له الحق»، قال ابن القيم: «فتدبر القرآن ...».
الثامن: العناية بالعبادة، لاسيما الصلاة، فرضها ونفلها، فهي المعينة في كل عمل، وجالبة الرزق، قال الله تعالى: ( } - قرآن كريم ( - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - ( - - - ( - ( - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( [البقرة: 45]،
( - - رضي الله عنهم - - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - ( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم (- جل جلاله - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - ( - - - ( - ( - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( [البقرة: 153]، وقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: ( ( - ( تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - فهرس - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - ( - ( - ( - - ((( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } - صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - ( - - رضي الله عنه -(( - فهرس - - { - ( - ( - } ( [طه: 132].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: «أقم الصلاة، أرحنا بها يا بلال».
هذه بعض توجيهات في بداية هذه الدروس..
أما درسنا فهو شرح منظومة القواعد الفقهية للشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى.(5/8)
وقبل أن نبدأ بهذا الشرح نتكلم بنبذة يسيرة عن الشيخ عبدالرحمن.
فهو عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر آل سعدي، من بني العنبر بن عمرو بن تميم...
- - -
علو الهمة(1)
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
__________
(1) كلمة مرتجلة ألقاها الشيخ فريح – رحمه الله – بين يدي شيخه محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – عام 1420هـ، في جامع عنيزة، وهي آخر كلمة ألقيت عند الشيخ.(5/9)
فإن الله خلق الخلق، وفاوت بينهم في الأقدار، والأعمار، والعقول؛ لحكم عظيمة يعلمها الله، قد نعلم بعضها وقد لا نعلمه، ومن هذه الحكم التي فاوت الله بسببها بين الخلق عمارة هذا الكون كما قال الله تعالى: ( ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - - جل جلاله -( - - - - - المحتويات ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -( - (( } تم بحمد الله - (( ( - - قرآن كريم - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - عليه السلام - - ( الله أكبر - - - - - - - - عليه السلام - - (( - (- عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - (((- رضي الله عنه - - - - ( قرآن كريم - ( - (((- رضي الله عنه - - - تمهيد (- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - - ( - ( - - عليه السلام - - ( - - المحتويات ( - ((((- رضي الله عنه - - - - (((- رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم - ( - ( - ( - - ( تمهيد - عليه السلام - - ( قرآن كريم - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - عليه السلام - - ( - ( - - رضي الله عنهم - - - - - ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((- رضي الله عنهم - - ( - - - (((( ( [الزخرف: 32]، ومما فاوت الله سبحانه وتعالى به بين الخلق الهمم، فبعض الناس عالي الهمة، وبعض الناس قاصر الهمة، في الجاهلية والإسلام، بل منذ خلق الله آدم صلوات الله وسلامه عليه، إلى عصرنا الحاضر، من ذلك في الجاهلية تفاوت هممهم بين عالي الهمة في الأمور الدنيوية وبين قاصرها، فمما يذكر من علو الهمة في الجاهلية:
ما ذكر عن امرئ القيس أنه لما قتل أبوه؛ ترك الخمر، وبدأ يبحث عن الملك:
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة(5/10)
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وممن علت همته أيضاً النابغة الجعدي:
بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤدداً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقيل: إلى أين يا أبي ليلى؟ قال: إلى الجنة.
وفي الإسلام ظهر علو الهمة ظهوراً جلياً في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، ففي عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى». وهذا يدل على علو همة السائل، ولما حدَّث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن الجنة فقال: «منهم من يدعى من باب الصلاة، ومنهم من يدعى من باب الريان» قال أبوبكر الصديق - رضي الله عنه -: يا رسول الله ما على من دعي من هذه الأبواب، كلها من ضرورة فهل يدعى أحد منها كلها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم، وأرجو أن تكون منهم»، وهذا يدل على علو همة أبي بكر - رضي الله عنه - حيث يرجو أن يكون ممل يدخل من الأبواب كلها، وعمر - رضي الله عنه - يقول: ما سابقت أبابكر - رضي الله عنه - في شيء إلا سبقني، فهو حريص على مسابقة أبي بكر - رضي الله عنه - حتى يحصل الكمال، وعثمان، وكذلك علي - رضي الله عنهم - كانوا أصحاب علو الهمة، ولقد اجتمع أربعة نفر من الصحابة والتابعين في المسجد الحرام، فقال واحد منهم: ليتمن كل واحد منكم أمنيته، فكان أول من تمنى الأمنية ... (1)
- - -
(3)
من مذكراته
اليوم الثالث من شهر محرم عام 1416هـ الموافق 1/6/1995م(2)
__________
(1) تجد تكملة هذه الكلمة في رسالة لطيفة مطبوعة، اعتنى بإخراجها الدكتور: علي بن فريح العقلا –حفظه الله–.
(2) نماذج من مذكراته.(5/11)
فيه حدثني بعضهم حديثاً مسهباً عن فقه الواقع واستدل له بأحاديث ووقائع من عصر النبوة وشنع على علمائنا كيف أنهم لم يحصل لديهم شيء من فقه الواقع – قلت: وهذا وصف لهم بالحمير التي تحمل أسفاراً – فانظر رعاك الله كيف زلت به قدمه – ورأيي في هذا هو رأي شيخي(1).
«إن العمدة فقه الشريعة المراد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيراً يفقه في الدين» وأن فقه الواقع مما أحدثه الناس» قلت: ومن فقه الشريعة لم يحتج إلى فقه الواقع، وقد فقهه مع فقه الشريعة، والله أعلم.
( وفيه صليت العصر والمغرب والعشاء في الحرم المكي الشريف، وجلست في هذا الوقت في توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله وأمد في عمره وجزاه عن الأمة خيراً.
اليوم الحادي عشر من شهر الله المحرم عام 1416هـ الموافق 9/6/1995م:
فيه صليت الجمعة في الحرم المكي، وكان الخطيب الشيخ عمر بن محمد السبيل، وكانت الخطبة عن بر الوالدين، وقد أجاد فيها وأفاد، وقد حدثني بعضهم أنه صلى في مسجد فقيه، وأن الخطبة عن قتل الحسن، وأنه قال فيها: إنه سمه معاوية رضي الله عنه، وقوله: سمه معاوية لا ينبغي ذكره إلا على وجه الإنكار، لاسيما في هذه الأزمان لأن هذا يورث حزازة في النفوس على معاوية مع عدم صحة الخبر فيما يبدو للمتأمل، وهو يحتاج إلى بحث ونظر فيه.
( وفيه قُرئت الأخبار من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية، (في الساعة التاسعة والساعة الحادية عشرة) بسبب نقل إحدى المسابقات الرياضية التي أقيمت في جدة، وحضرها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله تعالى، قلت: وهذه أول مرة أسمع فيها بقراءة الأخبار من إذاعة القرآن الكريم.
__________
(1) يعني الشيخ محمد العثيمين – رحمه الله –.(5/12)
( وفيه لقيت رجلاً من السودان في الحرم قبل صلاة العشاء وجلست معه، وذكر لي أنه تلميذ لمحمد الهاشم الهدية رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، وأخبرني أن الجماعة مضيق عليها هناك.
( وفيه صليت في الحرم العصر والمغرب والعشاء كما هي الحال كل يوم.
( وفيه ذهبت إلى الأخ خالد اللهيبي في ركن الجامعة، وأخذت منه مذكرة تفسير لتصويرها لأجل الاختبار غداً.
- - -
(ب)
مراثٍ نثرية
قصة حب ووفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
العم الكريم الشيخ فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح
.. قصة حب ووفاء
إذا الأجل جاء فلا يطرق الأبواب، وإذا دنت ساعة امرئ فإنها لا تفرق بين شيخ أو طفل أو شاب، وهكذا تتفرق الأحباب، ويذهب الأصحاب ذهاباً ليس له في هذه الدنيا إياب، وهكذا فجعت كما فجع غيري من أبناء أسرتي وأهل مدينتي وكثير من أقاربه وطلابه ومحبيه، تلك هي مصيبة وفاة العم الكريم الفاضل الشيخ (فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح) رحمه الله، والحقيقة أنني لا أجيد الكتابة والتعبير في مثل هذه الظروف، ولكنها رغبة ألحت في النفس إلحاحاً شديداً لإعطاء هذا الرجل جزءاً يسيراً من حقه علينا؛ فنحن شهداء الله في أرضه.
والحقيقة أن العم فريح – رحمه الله – على الرغم من حداثة سنه الذي لم يتجاوز الرابعة والثلاثين إلا أنه فاق أقرانه، وذلك لحدة ذكائه، وولعه بالعلم وأهله ولعاً أنساه الاهتمام بأبسط حقوقه الشخصية، وعلى الرغم من معايشتي له عن قرب معايشة استمرت منذ بلوغه سن الرشد وحتى اليوم الذي انتقل فيه إلى جوار به إلا أنني لم أعرفه حق المعرفة إلا بعد وفاته – رحمه الله –، وسأسرد لكم بعضاً مما عايشته معه ورأيته منه رأي العين، وليس سردي لهذه المواقف سرد من يريد المفاخرة والمباهاة؛ فقد أفضى – رحمه الله – إلى ما قدم، ولكنها ذكرى لمن بعده لأن الذكرى تنفع المؤمنين، فمن أبرز ملامح شخصيته – رحمه الله –:(5/13)
أولاً: ولعه الشديد بمعرفة كثير من الأحكام والآداب الشرعية؛ ولا أدل على ذلك من حرصه الشديد على حضور كثير من حلقات ومجالس العلم، فلقد كان واحداً من تلاميذ العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمهما الله –، حتى صار أحد المراجع الفقهية لكثير من أبناء أسرته وأبناء جيله.
ثانياً: حبه للخير والبذل أنى كان؛ فلقد أسهم مساهمة مباشرة في كثير من المناشط الخيرية، لعل من أبرزها ما يأتي:
إسهامه المباشر وغير المباشر في تزويج عدد كبير من أبناء أسرته، وتبنيه – رحمه الله – تأسيس صندوق خيري لمساعدة شباب الأسرة على الزواج، ودعمه الكامل لهذا المشروع الذي بدأت ثماره تظهر جلياً من خلال الدعم غير المحدود من بعض موسري الأسرة.
إسهامه في دفع كثير من نوائب الدهر عن عدد كبير من أبناء أسرته وزملائه.
إسهاماته الفاعلة في تأسيس نظام الرسائل الجماعية عبر الجوال لأبناء مدينته البكيرية التي يتم من خلالها إرسال أخبار الجمعيات الخيرية والتذكير بمواعيد الدروس والمحاضرات والمشاركة في التبرعات للمشاريع الخيرية، وكذلك أخبار الوفيات.
إسهاماته المباشرة في دعم المخيمات الدعوية التي كان لأسرته نصيب الأسد منها خلال عدد م المخيمات التي لا تزال قائمة ببركة جهوده الخيرة – رحمه الله –.
دفاعه عن حقوق الموظفين الملتحقين بالجمعيات الخيرية من خلال الاتصالات والمراسلات العديدة لطلب ضمهم لأنظمة التأمينات الاجتماعية والتقاعد التي كان آخرها قبيل وفاته بمدة وجيزة.
دعمه المادي والمعنوي لإنشاء عدد غير محدود من الجمعيات العلمية لتحفيظ القرآن الكريم في كل من الأفلاج والدوادمي وغيرها من المدن التي لم نكن نعرف عنها شيئاً إلا من خلال من حضروا للعزاء بعد وفاته.
صلته للرحم وبره بوالديه:(5/14)
لقد كان – رحمه الله – مثالاً يحتذى لصلة الرحم والبر بالوالدين، فلقد كان يبذل لذلك النفس والنفيس، وترى منه هذا الخلق سمتاً دون تكلف أو تصنع، ولكنها أريحية يجعلها في قلوب الخلص من عباده، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ومن صلته لرحمه تبنيه لإدارة الوقف الخاص بجد والده – رحمهم الله أجمعين _، وبذله في سبيل ذلك الجهد والوقت وراحة النفس، وحرصه على عدم انقطاع هذه الصدقة الجارية لآبائه واقتفائه لمسيرة والده الشيخ محمد بن عبدالمحسن الفريح – رحمه الله – الذي تولى إدارة دفة الأمور في هذا الوقف مدة تزيد عن السبعين عاماً.
لقد رحل الشيخ فريح – رحمه الله – مخلفاً وراءه مدرسة يتعلم منها الكبار قبل الصغار، يتعلم منها المرء بذل الوقت والمال والجهد والتضحية بملذات الحياة وإنكار الذات بالكامل في سبيل مرضاة ربه ووالديه وإسعاد من حوله من الناس.
هنيئاً لك أبا محمد هذا الجمع الغفير الذي حضر من كل حدب وصوب، لا لأنك من المشاهير، ولا لأنك من المسؤولين، ولا لأنك صاحب ثراء، ولكن لأنك أحسنت ما بينك وبين ربك فأحسن الله لك ما بينك وبين الناس.
حزن عميق، صدمة فاقت الاحتمال لكل من وقع عليه الخبر، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها، واخلف لنا على كل غائبة بخير.
رحل فريح.. خليفة جده في العلم، وشبيه والده في الحكمة والحلم.
رحل فريح وبقيت آثاره الطيبة، رحل وبقيت محبته تملأ القلوب.
رحمك الله أبا محمد فقد ذهبت إلى خير جوار.
محمد بن عبدالله بن محمد الفريح
الرياض – الأربعاء 10 ذوالقعدة 1425هـ
- - -
رحمك الله يا شيخ فريح
عبدالمحسن بن محمد الزامل
التويم – سدير
بعد عصر نابني أمر جلل
ذرفت عيني وقد حق لها
يا حبيباً غاب عنا فجأة
ليت شعري هل سنبقى بعده
أين من قد عاش فيها حقباً
كل حي ذائق الموت فكم
لا تُعارض ربنا عز وجل(5/15)
قسمة الباري لها فارض وقل
يا إلهي لا تخيب دعوتي
فارحم الشيخ ونور قبره
واجعل الفردوس مأوى شيخنا ... حين قالوا الشيخ وافاه الأجلْ
فاض دمعي واعترى قلبي الوجلْ
رحل الشيخ وأبقى ما بذلْ
لا وكلا بل سيفنينا الأجلْ
أين من قد كان يُلهيه الأملْ
فرق الموت جموعاً وأقلْ
في أمور قد قضاها في الأزلْ
قدر الله وما شاء فعلْ
أنت أهل الفضل والمولى الأجلْ
وامح ما قد كان منه من زللْ
يا إلهي لا تخيب من سألْ
( - - ( - - { ((- رضي الله عنه - الله أكبر ( { - { (( - - - - ( المحتويات ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - - - ( ( - ( الله أكبر ( { ( - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - - ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - (- عليه السلام - - ( .
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أبا محمد لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
إن البيان ليضعف، وإن التعبير لا يسعف، ولكنها كلمات في سطور، علها تكشف شيئاً مما في مكنون الصدور.
بعد عصر يوم الثلاثاء الموافق 18/10/1425هـ، جاءني نبأ وفاة الشيخ الفاضل والصديق العزيز فريح بن محمد الفريح من مدينة القصيم عن طريق رسالة الجوال، فأخذت أقلب طرفي فيها بين مصدق ومكذب لا اعتراضاً على قدر الله، ولكن ربما التبس علي الأمر، ولكن ما لبثت قليلاً حتى أكد لي الخبر من بعض من كانت له صلة مباشرة بالشيخ، فرحم الله شيخنا رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، فلقد عُهد محباً للعلم، محباً لنشره، طيب الأخلاق والعشرة، لا يتردد في إجابة دعوة، حتى وإن كانت بعيدة، لاسيما إذا كانت على مائدة العلم طلباً أو إبلاغاً ونشراً.(5/16)
ولقد نشأت علاقتي بالشيخ – رحمه الله – منذ أن لبى دعوة لإقامة دورة علمية لمدة أسبوع ببلدة التويم قبل سنة ونصف تقريباً عن طريق بعض الأخيار (نحسبهم كذلك والله حسيبهم)، الذين كانت له بالشيخ صلة مباشرة، ولقد كنت ممن يحضر معه، ودونت معظم الدروس التي ألقاها، ومن أهمها شرحه لمنظومة القواعد والأصول للشيخ عبدالرحمن السعدي – رحمه الله – ولقد أفدت من ذلك إفادة عظيمة، وعرضت على الشيخ إرسالها إليه لينقحها ثم أوزعها على طلاب العلم فوافق – رحمه الله – إلا أن الأجل المحتوم قد وافاه قبل إرسالها فالحمد لله على قضائه، وقابلت الشيخ قبل وفاته بأسبوع تقريباً بجامع بلدة التويم حين لبى دعوة لتكريم حفظة كتاب الله، فسررت بمجيئه، وأنست بلقائه، وقد كان هذا آخر العهد به.
فالعزاء العزاء لكل أهله وطلابه ومحبيه، وأسأل الله تعلى أن يمن عليهم بالصبر والسلون.. ( - ( الله أكبر ( { ( - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( مقدمة ( - - - ( { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((( - (- عليه السلام - - ( .
اللهم اغفر لشيخنا ونور عليه قبره، وأسكنه فردوسك الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله يا أرحم الراحمين.
الله آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
- - -
فريح الفريح.. وتباريح الوداع!!
سليمان بن فهد المطلق
بريدة – جامعة القصيم(5/17)
رسالة جوال مشوبة بالحزن، وعليها معالم الألم تنبينا عنك.. وتفجعنا برحيلك المر.. آنذاك كنت أطالع صحيفة الجزيرة لأقرأ اسمك من المنقولين للمعهد العلمي في (بريدة) لأنتظر هذا القادم، فإذا هو أنت.. رسمت في أجوائنا معالم الأخوة.. وزرعت في وجداننا مراسم كيف نسديك الحب.. ونبادلك الود.. حقاً! لن أنسى بسمتك التي لا تبرح شفاهك توزعها يمنة ويسرة، ولم يصل الكبر إلى (جواك).. ولا خالج ظاهرك العجب.. بل كنت رمزاً يشار إليه.. كأني بك قبل سويعات الوداع، وأنت تسمر مع الأساتذة.. وتقلب معهم صفحات الأيام.. وتركبون قاطرة الذكريات.. ومن ثم تعرجون إلى مخططات المستقبل لتبنوا أحلامكم الوردية.. كأني بك وقدمك في (يوم رحيلك) تسارع الخطى، لتخرج من بوابة المعهد، ولسان حالها يقول: وداعاً فلن يكون هناك أوب.. ولن أرجع إلى هذا المكان.. كأني بك وأنت سائر في طريقك ترسم التفكير تارة.. وتعرج إلى الواقع تارة أخرى، كأني بك وأنت ترقب السيارات تلك في ذهاب، وأخرى في إياب، وكأنك تقول في قرارة نفسك هؤلاء يرحلون، وأمثالهم يقدمون، كأني بك وقد أغمضت عينيك ثم فتحتهما، لترى مصيرك قد حلّ.. وساعتك قد دنت.. روحك أسلمت لباريها وبقيت جسداً لا حراك فيه.. لينعاك الناعون، وتكون خبراً بعد عين، فسبحان مغير الأحوال بين طرفة عين وانتباهتها.. لقد تركتنا نعاني الوحدة.. تركتنا نستعيد ذكرياتنا معك، فتشتعل صدورناً هماً وكدراً، وتسكب عيوننا لوحة من أنهار جارية.. عزاؤنا فيك أننا نحبك.. عزاؤنا أن ألسنتنا ترطبت بالدعاء لك.. عزاؤنا أن الموت غاية كل حي، لكن مَن منا المدكر، ومَن منا المتعظ لصروف الدهر ونوبات الزمان، فها أنت رحلت سليماً معافى.. شاباً نشيطاً.. لكن فلسفة الموت لا تعترف بكل هذا.. فرحمك الله يا شيخنا، وصبّرنا على الفراق، وما نقول إلا ما يرضي ربنا.
- - -
وللثمر إيناع
عبدالحميد بن حوشان
القصيم(5/18)
بدأت أعرف أن الدنيا عطاء.. عندما زرت الأستاذ فريح الفريح يوم السبت الماضي، كنت أعيش جواً ألفته.. جواً أحببته، إنه عالم الأحبة الصغار الذين هم زينة الدنيا وعالمها الحقيقي.. دخلت الجامع – جامع البكيرية وأهلها سلوة القلب المحزون – قابلني شباب تعلوم محياهم بسمة وبشر مألوف ومعروف، فهم أهل المحبة والإيثار.. دخلت دون مقدمات في حديث شيق عن الحلقات التي شدتني وأبهجتني.
رأيت فيها جداً واجتهاداً، أدباً وهدوءاً.. تعرفت على الفكرة الرائدة، وخلال الحديث سارقت أخي النظر مرات إلى أولئك الصبية الذين نورت قلوبهم الطاهرة جنبات الجامع.. وصدحت حناجرهم الطرية بالحروف فكاً وربطاً.. وبعد الجلسة داخل الحلقة ومشاهدة الجوائز والحوافز الفورية وبعد السلام والتحية على المدرسين الفضلاء جلست مع المشرف أنتشي العبق الروحاني والألق القرآني.. رأيت كل ما يعجبني بحق.. ووقفت بقدمي على مشروع يضيء منه الأمل..
عندها أقبل الأخ أبومحمد ليسلم ويألف ويؤلف.. الرجل كان عنده فكرة لا تحتمل التأخير.. بدأنا في الحديث عن الفكرة.. بدأ هو بالهدف والوسيلة وعرج على التكلفة التي هانت عنده إلى حد قوله: إنه عازم على إنفاق ما يملك بسخاء لفكرته..
ضيَّفنا في داره بعد المغرب ليقول: إنه يرغب في أن ينشر فكرته حتى لا تموت بموته.. الحياة اسمها العبادة في قلوب المسلمين.. والعبادة عندهم إحسان..(5/19)
فهم على الدوام مؤمنون محتسبون.. لذا فالأستاذ فريح لم يمت لأنه خلف إرثاً ووارثين؛ إرثاً يبقى لأن الله جل وعلا حكم له بالبقاء: ( - ( الله أكبر ( { ( صدق الله العظيم (- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - - عليه السلام - - ( - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( الله أكبر ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( مقدمة - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ((((( { - رضي الله عنه - مقدمة - ((( ( [الحجر: 9]..
ووارثين أكفاء لأنه لم يعش منعزلاً بل عاش محبوباً يغرس في قلبك الخير.. ويمضي خفيف الظل..
فرحت به لأنه فرح بالقرآن.. ووعدني بأن يجيب دعوتي حتى يقول الخير الذي عنده.. رحمك الله أبا محمد..
أبقيت إرثاً سيحمل اسمك.. وسيثمر وللثمر – بإذن الله – إيناع.
- - -
تلميذ ابن عثيمين يلحق بشيخه
أبومشاري: عمر بن عبدالعزيز العلي
البكيرية(5/20)
في مثل هذه الأيام وقبل أربع سنوات فقد العالم الإسلامي أحد علمائه الربانيين الكبار، ألا وهو صاحب الفضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله تعالى – وفي يوم الثلاثاء 18/10/1425هـ فجع أبناء البكيرية بوفاة أحد تلاميذه، وهو الأستاذ الفاضل والشيخ الكريم فريح بن محمد بن عبدالمحسن الفريح، مدرس العلوم الشرعية في المعهد العلمي في مدينة بريدة، وذلك في حادث سير أثناء رجوعه من دوام يوم الثلاثاء من مدينة بريدة إلى مدينة البكيرية، وقد كانت الفاجعة بوفاته كبيرة؛ إذ لا يزال في عمر الشباب لم يتجاوز سنه الخامسة والثلاثين، كما كان معروفاً بحسن خلقه، ورجاحة عقله، ودقة فهمه، وسرعة بديهته، ذا تدين حقيقي، وعلم صحيح، كثير الفائدة لجلسائه، أم في أحد المساجد لبضع سنوات، ثم تفرغ لحضور دروس العلامة ابن عثيمين في عنيزة منذ عام 1413هـ تقريباً، تخرج من كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم، ودرس في المعاهد العلمية حتى استقر قبل سنوات في معهد بريدة العلمي، له مشاركات كبيرة في مكتب الدعوة والإرشاد، وكذلك في جمعية تحفيظ القرآن الكريم في محافظة البكيرية، حيث عمل في السنوات الأخيرة موجهاً لحلقاتها.(5/21)
وكان ذا إلمام كبير بدروس العلامة ابن عثيمين، وكتبه، وفتاويه المطبوعة، والمسجلة، وكان على علاقة بكبار تلاميذه، وأظن الفاضل أبا محمد ممن وضع لهم الثناء الحسن بين الناس، يشهد بذلك الجموع الغفيرة التي حضرت لأداء صلاة الجنازة من مدن القصيم حيث حضر عدد كبير من أساتذة المعهد العلمي في بريدة، وتلاميذه، وكذلك جمع غفير من أبناء القرى التي كان يقيم فيها بعض الدروس، فضلاً عن أهالي البكيرية، حتى امتلأ الجامع الكبير في مدينة البكيرية – على سعته – بالمصلين عليه، كما حصل زحام شديد في المقبرة لم تشهد مثله منذ سنوات، وقد كان الأستاذ على جانب عظيم من التواضع ودماثة الأخلاق، وحب للخير، وغير ذلك من الأخلاق الحسنة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق»، ولقد كان شيخنا العلامة ابن عثيمين يشجع على الكتابة عن أهل الفضل والخير، معللاً ذلك بأن فيه دعوة للاقتداء بهم، كما أن فيه تذكيراً بالدعاء لهم، وإني إذ أعزي إخوته، وأسرته، لأسأل الله عزوجل أن يغفر له، ويفسح له في قبره، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، وكما قال الشاعر:
عزاء فما يصنع الجاهل
بكى الناس من قبل أحبابهم ... ودمع الأسى دائماً ضائع
فهل منهم أحد راجع
وكم هو ديننا عظيم في شرع صلاة الجنازة، ليتضح للإنسان حقيقة هذه الدنيا، فيغسل عن قلبه الاغترار بها، ويلجأ إلى ربه فراراً من الانخداع بزخرفها، فكم في الموت من عظات، وكم للشارع من حكم ظاهرات، ولكن أين من يتامل قبل حصول الحسرات.
- - -
"ما يكفيه ديوان"
بسم الله الرحمن الرحيم
فريح الفريح.. قصة محبة ووفاء.. وحزن عميق.. هل مات حقاً؟ أم أننا في وهم.. تلك صدمة فاقت الاحتمال، كانت حياة جميلة وكان رجلاً رائعاً.. و.. فجأة.. رحل...
رحل شيخ الشباب، رحل الفقيه الزاهد.(5/22)
فريح.. تأنس به النفس ويرتاح له القلب، محبوب لدى الجميع.. لدى الصغير والكبير، بكى عليه الطلاب والمشايخ، والأعراب والأعاجم.. والقريب والبعيد.
كان عفيف اللسان، بليغ البيان، قوي الحجة، حاضر البديهة، استفدت منه فوائد عظيمة، وتعلمت منه الكثير، وقرأت بسببه كتباً مختلفة، فقد كان يذكر لي بعض اللطائف والنوادر التي قرأها، فلا أملك إلا أن أسأله عن اسم الكتاب ثم أجدني قد اقتنيت الكتاب، وقرأته من الغلاف إلى الغلاف، كان ناصحاً مخلصاً، صاحب رأي ومشورة، لا يتدخل فيما لا يعنيه ولا يتكلف النصيحة، بل يصدق فيها إذا أتى مجالها.
زارنا في مسجدنا بمكة المكرمة وطرح فكرة حلقات تلقين حروف الهجاء للأبناء بين 4 – 6 سنوات فتم تنفيذ الفكرة وكانت ناجحة، والحلقة الآن بها أكثر من ثلاثين طالباً يدرسون كتاب (قاعدة النور)، ومن المفارقات أن وفاة الشيخ – رحمه الله – تزامنت مع تخرج أول طالب من حلقة التلقين ويتلو ذلك الطالب طلاب وطلاب بإذن الله.
فأسأل الله أن يأجر الشيخ بكل حرف تعلمه أولئك الصبية وبكل آية رتلوها.
مجالسته – رحمه الله – لا تخلو من فائدة ونفع لجليسه، أما الآن فقد رحل..
رحل فريح.. خليفة جده في العلم وشبيه والده في الحكمة والحلم.
رحل فريح وبقيت آثاره الطيبة.. رحل وبقيت محبته تملأ القلوب.
يا فريح مثلك ما تسده قصيدة
بر وإحسان ونفس رشيدة ... مثلك ولا يا فريح يكفيه (ديوان)
وسعي لأجل الدين في كل ميدان
رحمك الله يا فريح..
بشير بن عبدالله الفريح
مكة المكرمة – الاثنين 24 شوال 1425هـ.
- - -
(ج)
مراثٍ شعرية
بسم الله الرحمن الرحيم
دمع بعيني لا أكاد أراك
يا أم من ضرب المثال ببره
أجزعت حين فقدته وعجبت من
وسألت هل ينسى (فريح) أمه
وتكررين السؤل عن أخباره
أواه لو تدرين كنت عذرته
قد جاء مندفعاً كعادته لكي
سبق القضاء إليه فامتنع اللقا
هل تعذرين بنيك إن لم يكشفوا
لم يخبروك بشر نازلة بهم
ذهب الأريب الفذ من إخوانهم(5/23)
أولا يسرك أن قضى متزملاً
أولا يسرك أن مضى متمسكاً
حفظ الكتاب مع الحديث المنتقى
إن غاب عنك فحق أن تتذكري
أماه صبراً فالحياة قصيرة ... أوشكت أذرفه دماً لولاك
كل درى بوفاته إلاك
تقصيره وتحيرت عيناك؟
وهي المريضة دون أي حراك؟
من ذا يجيبك والقلوب بواكي؟
ينسى الحياة (فريح) لا ينساك
يبقى بقربك راغباً برضاك
لم ينشغل لم يشتغل بسواك
سر اختفاء غامض أزراك
يفداك من لم يستطع يفداك
لبى الندا لمسيِّر الأفلاك
ثوب الشهادة دونما إشراك
بعرى الفضيلة أيما إمساك
بشراك يا أم الفتى بشراك
لله عين دائماً ترعاك
يمشى التقاة بها على الأشواك
إبراهيم بن عبدالله الفريح
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المرثية قيلت في وفاة الأستاذ فريح بن محمد الفريح المتوفى يوم الثلاثاء 17/10/1425هـ
فريح رجوت الله يسبل عفوه
ويجعل قرآناً تلوت حروفه
لقد كنتَ أياماً خلت في دروسنا
فنوِّر إلهي قبرَه وافسحنّه
وقد كنتَ سباقاً إلى الخير والهدى
لقد هالني إذ شيعتك جموعهم
فليتك قد أبصرت حين تزاحمت
أعزي جميع الأهل والصحب راجياً
وصلِ إله العرش ما ذر شارقٌ ... عليك من الرحمات في ساحة القبرِ
شفيعاً أنيساً مستمراً إلى الحشرِ
تُنافس في حفظٍ لآيٍ من الذكرِ
وثقِّل له الميزان بالخير والأجرِ
تُساهم في نشر الفضيلة والخيرِ
وأثلج ذلك الحشد من فرحٍ صدري
لدى السوقِ أفواجٌ كما النهر إذ يجري
لهم من إلهي خيرَ أجر مع الصبرِ
على المصطفى المختار من جاء بالذكرِ
صالح بن عطا الله الخزيم
منارة الهدى
بسم الله، هذه أبيات تسابق على تسطيرها حبر قلمي ودمع عيني
عيني التي فقدت صفيها من أهل الأرض، اللهم إني أحتسبه عندك وبكل القبول والرضا أقول: حمداً لله وشكراً
آجالنا مضروبة بأوان
وعقيدة الإسلام تمنح مؤمناً
حمداً إلهي دائماً كل الرضا
عظم المصاب وجل حتى أنه
مات الحبيب أبومحمد الذي
مات الوَصُولُ الشهم مَن أفعاله
أنا قد صحبتك يا ابن عمي يافعاً
عقل وإيمان ونخوة ماجد(5/24)
أنا ما عرفتك غير تالٍ مصحفاً
يا طالب العلم الذي أفنى به
أنا لست أنسى "نور درب" لم تزل
وكذا دروس العالم الفذ الذي
"ابن العثيمين" الذي لازمته
حتى اكتسبت من العلوم أجلها
يا زاهداً – والمال ملك يمينه –
أسرجت خيلك للمعالي لم تُرَ
وأخذت من كل الأمور رفيعها
ومضيت في دأب لتبلغ جنةً
وسعيت تجهد في "مشاريع" غدت
أتُراك من دون النساء أردتها
نعم الحليلة من عشقت وإنها
ويضج أبناء تركت كبيرهم
"حلق التهجي" قد بكتك لأنها
ستظل شامخة بإذن إلهها
أما "مشاريع الفريح" فإنها
صلة الأقارب همكم ومرادكم
يا منبر العلم المجلل بالتقى
بكت الأحبة فقدكم وتجمعوا
سل جامعاً قد كنت دهرك جلسه
عن ثلة ممن أفضت عليهم
ملأت جموعهم جميع صفوفه
أواه لو أبصرت كيف تسابقوا
لعلمت أنك في القلوب مبجل
أما مسيرتهم فسيل عارم
في موكب ملأ القلوب مهابة
عجبي يطول وفكرتي لا تنقضي
لا لم تمس ترابه إلا يدٌ
حتى أتمته وبلت تربه
أفريح هذي "سارةٌ" تبكي أسىً
وتقول: ما مات الحبيب، وكيف لي
عفت الحياة بدونه وسئمتها
أواه لو أبصرتها لبكيتها
أما الكريمة من غذتك بفضلها
فتُسائل الغادين: أين حُشاشتي؟
أين الذي ما كنت أفقده سوى
أين الذي قد كان يلبسني الحذا
أين الذي قد كان يحملني إذا
ويمر بي بين النخيل وزرعها
هي في "العناية" من سيخبرها بما
وتظل تأكلها الظنون كشمعة
ولقد بكاك "النخل" و"الدار" التي
لما مضى من كان يرعاها رأت
أفريح أرهقني الحنين وليت لي
إني لأعلم أن لطفك قاهر
حل الوداع أيا صفيي إنني
لكنني رغم الفجيعة والأسى
سأظل أذكركم إلى أن نلتقي
رباه أكرمه ووسع قبره
ارفع منازله بجنات الرضا
ثم الصلاة على النبي محمد ... ويقيننا بالله خيراً أمان
صبراً وتسليماً مع الإذعان
فيما قضيت وما أردت بشان
من هوله قد هز كل كياني
قد كان زين الصحب والأقران
بين الفعال ككوكب نوراني
لم ألقَ فيكم صبوة الشبان
وعزيمة ما تنثني بهوان
حفظاً وتطبيقاً وفهم معاني
سنوات عمر مفعم بأماني(5/25)
تجني فوائده بكل مكان
ملأ الدنا بالعلم والإتقان
عمراً مديداً دون أي توان
ومن المناهج منهج القرآن
في بهرج الدنيا وفي اللمعان
في لهو أقران ولا أخدان
وسموت في فكر وفي ميدان
وبها شُغلت عن المتاع الفاني
هماً لقلبك ما له من ثاني
أم البنين وصفوة الخلان
تبكيك في لهف المحب العاني
طفلاً رضيعاً من لظى الفقدان
فقدت أباها المصلح الرباني
وتعم في نجد وفي البلدان
تخطو بثوب مشرق الألوان
تسعون فيها دائماً بتفاني
ومنارة الإصلاح والإيمان
من دون تأخير ولا خذلان
عمن إليه أتى قبيل أذان
علماً غزيراً زنته ببيان
والسوح أيضاً دونما نقصان
لوداعكم في قبلة اللهفان
ورأيت منزلكم من الوجدان
سيل من الأبدان والأحزان
فقد النظير أو الشبيه الداني
قبر حثت ترباً عليه يدان
ترجو ثواب الواحد المنان
ودعت إله الكون بالغفران
وتعيش وهماً مغرقاً بأماني
أنسى فريح الشهم من أرضاني؟!!
الصمت نطقي والغذا أحزاني
وسألت ربك أوفر السلوان
من أرضعتك وأنت في الأحضان
أين المحب البر ذو الإحسان؟
عند الصلاة وبعدما استئذان؟
ويسير يسندني برفق الحاني؟
ما ضاق صدري أو مللت مكاني؟
فيزيل هماً ظاهراً آذاني؟
أدمى القلوب وعاث في الأذهان
ذابت لحر النار والأشجان
شهدت لكم بالفضل في عرفان
منك الرعاية دونما نسيان
قلباً أصم كصخرة صفوان
سيذيب صخراً مصمت الأركان
عن وصف فاجعتي بكل لسان
وتورم العينين والأجفان
في ظل مغفرة لدىالرحمن
واجعله في روح وفي ريحان
وأنله في الفردوس خير مكان
خير الأنام وسيد الإنسان
كتبها: أبوعبدالله
صالح بن عبدالله بن عبدالمحسن الفريح
مكة المكرمة 20/10/1425هـ
مذكرة
الحمد لله الجليل حبانا
ما بال عيني يا أُخيَّ اغرورقت
نبأ الكريم بن الكريم أحاطه
ذاكم فريح بن الفريح أخاله
سل عنه أماً والداً أو أخوة
كان الحبيب إلى الجميع محبباً
تعلو محياه الكريم بشاشة
وبمسجد كنا سوياً إخوة
نرجو اجتماعاً في ظلال إلهنا(5/26)
صلى الإله على الحبيب رسوله ... والشكر للجبار أن أعطانا
بالدمع حزناً بعد أن وافانا
ربُّ البرية بالرضى وأمانا
براً رحيماً صالحاً حنانا
بل قل جميع الخلق والإخوانا
سبحان من أعطى التقيَّ وزانا
يخشى الإله بسره إعلانا
نتلو كتاب الله آي قرآنا
في دار فردوس ونعم مكانا
خير الورى بين الورى إنسانا
إبراهيم المسلم
23/1/1425هـ(5/27)