وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا
إبليس بين الكفر والإيمان !!!
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولى الصالحين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبى الأمين ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه فى قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.
وبعد ،
فهذا مبحث عن " الشيطان الرجيم " أسأل الله أن يعيذنا جميعًا منه، وما كنت لأسطر هذه الكلمات لولا أنه قد وُجه سؤالٌ أمامى إلى أحد العلماء يقول فيه السائل : ( هل إبليس كافر؟ أليس إبليس قد قال لرب العزة " قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ "(1)مما يدل على أنه موقن بوجود الله ؟ ) واتضح لى من سياق كلام السائل أن أحد الدعاة قال هذا الكلام فأنكر عليه آخرون مقولته.
وفى صدد البحث العلمى ينبغى على الباحث إذا أراد أن يبحث مسألة أن لا ينظر إلى ( القائل )، بل ينظر إلى ( العبارة المقولة ) ويصب بحثه عليها بالبحث والدرس إلى أن يصل إلى ما يفتح الله تعالى عليه. فكما يقولون ( لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ).
ثم بعد ذلك يجمع جميع الأدلة الواردة فى هذا الصدد، بحيث يستطيع أن يرى المسألة من جميع جوانبها .
فنستعين بالله تعالى أولا ، ثم نقول :
لعل من قال هذه العبارة قد ظن أنه طالما أن إبليس اللعين قال لرب العزة "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ "(2)إذًا فهو يعلم بوجود الله، وطالما يعلم ويوقن بوجود الله فهو ليس بكافر، ثم بعد ذلك علينا أن نأوَّل آيات القرآن التى جاءت تصف إبليس بالكفر على أنه عصى ولم يكفر.
وباستقراء آيات القرآن وجدنا ما يلى :
__________
(1) سورة ص آية 82
(2) سورة ص آية 82(1/1)
* أن الكفر ليس معناه فقط إنكار وجود الله، بل إنكار وجود الله نوع واحد من أنواع الكفر الكثيرة، ذلك لأن طائفة من الكفار قال عنهم ربنا جل وعلا: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ )(1).
فهؤلاء ينكرون وجود الله بالكلية ويقولون أن الطبيعة والدهر هى التى أحيتهم وأوجدتهم وهى التى تهلكهم .
وليس الكفر هو إنكار وجود الله فقط، وإلا أين نذهب بهذه الآيات التى تتحدث عن كفار مقطوع بكفرهم :
* قال تعالى : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(2).
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ )(3).
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )(4).
* وقال تعالى ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )(5).
فهؤلاء كفار مقطوع بكفرهم أقروا بوجود الله، وأقروا بأنه هو الذى خلقهم، وأنه هو الذى خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، و أنه هو الذى ينزل المطر ويحيى الأرض بعد موتها، ومع ذلك لم ينتفعوا بذلك لأنهم حاربوا الأنبياء المرسلين وباتوا يعرضون ويصدون عن سبيل الله.
و إذا كان إبليس قد أقسم بعزة الله، فبالاستقراء وجدنا ما يلى :
__________
(1) سورة الجاثية آية 24
(2) سورة الزخرف آية 87
(3) سورة الزخرف آية 9
(4) سورة العنكبوت آية 61
(5) سورة العنكبوت آية 63(1/2)
أن الأمم الكافرة الذى قطع القرآن الكريم بكفرهم قد أقسموا بالله ، ومع ذلك لم تنفعهم هذه الأيمان :
* قال تعالى ( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ)(1).
* وقال تعالى ( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )(2).
* وقال تعالى ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا )(3).
* وقال تعالى ( قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )(4).
فانظر إلى الضلال الكبير الذى وقعوا فيه؛ تقاسموا بالله أن يغتالوا نبيهم وأهل بيته وقت مبيته ليلا، كما أقسم إبليس بعزة الله أن يغوى بنى آدم. فهل أغنت عنهم أيمانهم بالله من شيئ ؟!
ثم وجدنا أقوما من الكفار وقفوا فى أنفسهم على حقيقة الأمر، ومع ذلك استكبروا وجحدوا ما فى قرارة أنفسهم :
* قال تعالى ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )(5).
فهل أغنى عنهم يقينهم النفسى، بعد أن جحدوا آيات الله الواضحة واستعلوا عليها ؟!
ثم وجدنا أقوما من الكفار دعوا الله بالعذاب والنقمة :
__________
(1) سورة الأنعام آية 109
(2) سورة النحل آية 38
(3) سورة فاطر آية 42
(4) سورة النمل آية 49
(5) سورة النمل آية 14(1/3)
* قال تعالى ( وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )(1)
فهل منع ذلك عنهم الكفر - رغم دعائهم الله تعالى - ؟!
ثم وجدنا أقوما منهم احتجوا بمشيئة الله على شركهم و ضلالهم :
* قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )(2).
فهل إقرارهم بالله وبمشيئته رفعت عنهم شركهم وضلالهم ؟! مع أنهم احتجوا بأمر أقرهم الله على صحته وهو " مشيئة الله وقدره " فقال تعالى: (...فلو شاء لهداكم أجمعين )، إنما عاب عليهم أنهم احتجوا بالمشيئة والقدر لتبرير شركهم وضلالهم ، فهل أغنى عنهم ذلك شيئًا ؟!
ثم وجدنا طائفة من الآيات تتحدث عن دور إبليس وكذلك الشياطين فى كفر الناس وغوايتهم وضلالهم وتزيين الكفر لهم :
* قال تعالى ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(3).
* وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(4).
__________
(1) سورة الأنفال آية 32
(2) سورة الأنعام آية 148 - 149
(3) سورة النحل آية 63
(4) سورة مريم آية 83(1/4)
* وقال تعالى ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )(1).
* وقال تعالى ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )(2).
* وقال تعالى ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )(3).
* وقال تعالى ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ )(4).
* وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا )(5).
* وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(6).
__________
(1) سورة العنكبوت آية 38
(2) سورة لقمان آية 21
(3) سورة المجادلة آية 19
(4) سورة الحشر آية 16- 17
(5) سورة النساء آية 60
(6) سورة النور آية 21(1/5)
* وقال تعالى ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ )(1).
فإذا كان الشيطان هو الراضى بالكفر والآمرُ به والمزينُ له والقائدُ للبقية، فهو قائد فرعون وهامان وأبى جهل وكل كافر على مر العصور ، أيكون الأتباع كفار وقائدهم لهذا الطريق والذى فتنهم وأضلهم ليس بكافر ؟! أيكون حزب الشيطان كفار، وإبليس نفسه ليس بكافر ؟!
بل تعدى الأمر إلى أن زين للناس عبادته ورضى بذلك ودعا إليه :
* قال تعالى ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )(2).
فكل من أطاع الشيطان وعبد غير الله، قد عبد الشيطان الرجيم ، ولذا قال ربنا جل وعلا ( أن لا تعبدوا الشيطان ) مع أنهم لم يقصدوا عبادة الشيطان ، لكنهم حين أطاعوه عبدوه من حيث لا يشعرون .
وإذا كان الشيطان قد زين لأناس أن يعبدوه ويسموا أنفسهم "عبدة الشيطان"، فهل يكونون كفارًا وهو مؤمن ( بعد أن رضى بذلك )؟!
ثم وجدنا طائفة تصرح بكفر إبليس والشياطين :
* قال تعالى ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(3).
* وقال تعالى ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(4).
* وقال تعالى ( ... وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )(5).
أفبعد أن أبى، واستكبر وتعالى يكون قد أبقى لنفسه ذرة من الإيمان؟!
__________
(1) سورة الأعراف آية 27
(2) سورة يس آية 60
(3) سورة البقرة آية 34
(4) سورة البقرة آية 101
(5) سورة الإسراء آية 27(1/6)
ثم وجدنا طائفة من الآيات عن خلوده فى النار، ومعلوم فى عقيدة المسلمين أن الخلود فى النار لا يكون إلا لمن كفر الكفر الأكبر :
* قال تعالى ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ )(1).
* وقال تعالى ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(2)
* وقال تعالى ( وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ . فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )(3).
فهو وأتباعه خالدون فى النار ، وإذا كانوا هم جنوده ، أليس هو قائد دربهم وزعيم حزبهم ؟!
إطلالة سريعة
__________
(1) سورة الحشر آية 16 - 17
(2) سورة إبراهيم آية 22
(3) سورة الشعراء آية 92-95(1/7)
هذا ، ولو رجعنا لكتب السنة النبوية الشريفة لوجدنا فيها الكثير والكثير الذى يشير إلى ذلك، ولكى لا يطول بنا البحث ويخرج عما أردناه له، يكفى أن تعلم أن كفار مكة كانوا يطوفون بالبيت الحرام ويعبدون الله تعالى. وفى صلح الحديبية طلبوا من النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب فى كتاب الصلح (باسمك اللهم) ، والوليد بن المغيرة يقول عن القرآن (إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هذا بقول بشر) ثم جحدوا رسالة نبيهم، فهل أغنى عنه ذلك بشيئ؟!
وقد قال أبو طالب :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
فهل أخرجه هذا العلم من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان ؟! لقد مات أبو طالب على غير الجادة، وحزن النبى - صلى الله عليه وسلم - لموته على كفره، أليس كذلك؟!
واليهود علموا صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفوه معرفة تامة كما قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )(1). ومع ذلك كتموا وهم يعلمون ، فهل نفعهم ذلك بشيئ ؟!
ولقد قال "ياسر بن أخطب " لأخيه " حيى بن أخطب " : أهو هو ؟ (يعنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) قال أجل. قال فما أنت فاعل ؟ قال عداوته ما حييت ، فهل نفعهم ذلك بشئ .
* وقد حدثنى أحد الحراس الذين كانوا يقومون على حراسة المساجين قائلا : أن رجلا قد حُكم عليه بالإعدام، فكنت أنظر إليه – من ثقب الباب - من حين لآخر لأطمئن عليه ، فرأيت السجين – والعياذ بالله – يرفع وجهه للسماء ( ويبصق ) مخاطبا رب العزة قائلا : أنت الذى فعلت بىَّ هكذا ؟!
فهل يغنى عن مثل هذا إقراره بوجود الله ومخاطبته إياه ، بعدما تمرد وعاند وكابر وأبى واستكبر وأصر إلى آخر لحظة فى حياته ؟!
ثم أليس الشيطان قد رضى له ذلك وزين له هذا الفعل ؟!
__________
(1) سورة البقرة آية 146(1/8)
مما قدمنا يتبين أن :
* أنه لا يعفى إبليس اللعين من الكفر علمه ويقينه بوجود الله ، ولا يعفيه قسمه بالله تعالى، وإلا للزم أن نقول بعدم كفر من فعل مثله.
* أن الكفر له صور كثيرة، وما إنكار وجود الله إلا صورة من صوره.
* أن الإيمان ليس معناه الإقرار فقط بوجود الله، بل لا بد أن يصحب ذلك طاعة وانقياد وتذلل وإقرار باللسان والجوارح لما أمر الله تعالى به، وقد فصل ذلك علماؤنا فى كتبهم عن الإيمان والتوحيد فليراجع .
* ومن تمام هذا البحث ؛ فقد اطلعنا على مقالات أهل العلم فى ذلك وكذلك ما قاله علماؤنا المفسرون وغيرهم ؛ فلم نجد واحدًا من أهل العلم المعتبرين قال مثل هذه المقالة المنحرفة ، إنما وجدناها لأناس عُرفوا بالضلال والغلو فى عقائدهم كأهل الحلول والاتحاد والضلال المبين.
أخى الكريم
بعدما تركنا النصوص هى التى تتكلم، ثمة ملاحظة ينبغى أن ننتبه إليها:
* لقد أصبح هناك اليوم حرب على ثوابت هذا الدين. وللأسف الشديد يقع فى ذلك بعض الدعاة - بعلم وبغير علم - :
- فنرى رجلا يقول ( أن آدم ليس أول البشر ) مخالفا بذلك صريح القرآن والسنة وإجماع المسلمين قاطبة إجماع الكافة " العلماء وغيرهم "، بل وجميع الطوائف والفرق الإسلامية، بل أجمع معنا في ذلك أهل الكتاب السابقين كاليهود والنصارى.
- ونرى رجلا يقول أن ( الشيطان ليس بكافر ) - كما قدمنا مخالفا بذلك صريح القرآن والسنة وإجماع المسلمين قاطبة إجماع الكافة (العلماء وغيرهم)، بل أجمع معنا فيه أهل الكتاب السابقين كاليهود والنصارى.
- ونرى رجلا يقول ( أن عذاب القبر ونعيمه ليس ثابتا ) يقول ذلك، وقد ورد في ذلك ما يقارب ستمائة رواية عن النبى - صلى الله عليه وسلم - . ( وهو ما يسميه أهل الحديث بالتواتر المعنوى ) !(1/9)
- ونرى رجلا يقول ( أن الحجاب لا يلزم فيه تغطية شعر الرأس، لأن هذه ضرورة عصر الرسالة لشدة الحر ) وغفل أن الله تعالى قال (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ )(1)ومعلوم فى لغة العرب أن الخمار لا يكون إلا للتغطية. فمعنى خمر الشيئ أى غطاه ولذا سميت الخمر خمرا لأنها تغطى العقل(2)وتذهب به، ثم تناقلت الأمة صفة هذا الخمار بوجوب تغطية الشعر، فجاء هو بعد أربعة عشر قرنا يبين لنا شيئًا جديدًا ودينًا جديدًا ما أنزل الله به من سلطان !
- ونرى رجلا يقول ( أنه يجوز زواج المسلمة من الكتابى "نصرانى أو يهودى") مخالفا بذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وعمل الأمة طيلة القرون السابقة.
- ونرى رجلا يقول ( أن ختان المرأة ظلم عليها ) مخالفا بذلك سنة النبى - صلى الله عليه وسلم - الذى علمنا أنه متى التقى الختانان فقد وجب الغسل، وعلم - صلى الله عليه وسلم - أم عطية الأنصارية صفة الختان الصحيحة ولم ينهها بالكلية بل أرشدها ألا جور ولا نهك، ومخالفا اتفاق كلمة فقهاء الإسلام على مشروعية الختان ، رغم اختلافهم فى حُكمه هل هو واجب أو مكرمة.
.....................
- ونرى رجلا - والحرب مستعرة على بلد مسلم وهو لبنان - يقول (أن حزب الله شيعة ولا يجوز مناصرتهم) مخالفًا بذلك كلمة الفقهاء على مر الدهور أنه متى اجتاح العدوُ بلدًا مسلمًا وجب الدفع، بل يجب الدفع إذا اغتُصب شبرٌ واحدٌ من أرض الإسلام ، ولم يفرق الفقهاء بين عصاة المسلمين وطوائفهم المختلفة، بل إن كلمة الفقهاء أننا كمسلمين نقاتل أعداء الإسلام مع كل بر وفاجر.
__________
(1) سورة النور آية 31
(2) لسان العرب لابن منظور ( 5 / 339 ) مادة : خمر .(1/10)
* بل متناسيًا الأدب القرآنى فى قول الله تعالى عن غلبة الروم مع الفرس (الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ . وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(1)
ويومها - والحرب مشتعلة - لم يذكر الله ولا رسوله ولا المؤمنون كفر النصارى وفظاعة ما قالوا مثل : أن المسيح هو الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، أو أن المسيح ابن الله ، ولا غير ذلك من العقائد الضالة ، ومن يقرأ سورة الروم لا يجد الحديث عن ذلك أبدًا. إنما يفرح المؤمنون بنصر الله لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إلينا من الفرس عباد النار، ذلك لأن الحديث لو دار فى هذه المرحلة عن عقائد الروم الباطلة والضالة لأدى ذلك إلى تقوية الجانب الآخر عليهم.
* ونسمع أصواتًا اليوم تصرح بكفر هذه طائفة الشيعة الإمامية الموجودين فى إيران وفى بعض الدول الأخرى المجاورة ؛ والتى ينتمى إليها حزب الله فى لبنان ، ولنا هنا أن نسأل سؤالا واحدًا ؛ لماذا لم يُمنع هؤلاء الإمامية من الحج على مر تاريخ الأمة الإسلامية وفى عصرنا الحالى ؛ مع أن الله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(2). أنتركهم يشاركوننا فى الحج على أنهم مسلمون فى الجملة ثم بعد ذلك نتركهم والحرب دائرة يقتلون فى الجملة؟! ... ( عجيب )
__________
(1) سورة الروم آية 1 – 6
(2) سورة التوبة آية 28(1/11)
إذا علمنا ذلك فهمنا ما قاله الإمام الشاطبي فى اعتصامه : ( وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء أصحاب البدع العظمى ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ....)(1)ثم أخذ الشاطبى يعدد موقف علىّ بن أبى طالب مع من كفر جميع الصحابة بما فيهم علىّ وعائشة ، لكنه قاتلهم كضلال قائلا : ( من الكفر فروا ، إخوانكم ضلوا ) ومع أن السلف كانوا يعاملونهم بالإبعاد والطرد لكنهم عاملوهم كضلال وليسوا ككفار وذكر أمثلة كالقدرية(2)وعامة أهل الأهواء ومعاملة السلف لهم كعلى وكذلك عمر بن عبد العزيز .
* ثم – إذا سلمنا بما يقولون ونحن لا نسلم بذلك - ألا تعتبر جميع الدول العربية والإسلامية فى عهد واحد وفى حلف واحد وفى حماية متكاملة وإن كانت ضمنية غير مكتوبة، ألم تقم غزوة فتح مكة انتصارًا لقبيلة خزاعة التى هى فى حلف المسلمين – رغم أنها قبيلة كافرة – ضد قبيلة بكر التى هى فى حلف قريش ؟!
* ثم قبل البعثة ألم يشارك النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم(3)– فى حرب الفجار مع أعمامه الأقرب للحق ضد أعدائهم.
__________
(1) الاعتصام للإمام الشاطبى ص 405 ، 406 – ط دار الكتب العلمية . وقد فصل الشاطبى وبين استدلالات عدة فى هذا الموطن حول هذه القضية .
(2) القدرية : هم الذين يقولون ( لا قدر ) ، ومعلوم أن من الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره . ومع ذلك لم يعاملهم السلف ككفار .
(3) وقد عصم النبى - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها لذلك كان ينام إذا هم بحضور مجالس اللهو وكان يلبط إذا كُشفت عورته كما هو ثابت فى كتب السيرة.(1/12)
* وتركُ مناصرة هؤلاء اليوم دعوى فى منتهى الخطورة على عالمنا الإسلامى كله، وينبغى على الأمة كلها وعلى رأسها قياداتها الدينية والسياسية أن يواجهوا هذه الدعوى بقوة، وإلا لأدى ذلك إلى تآكل الأمة كلها، فإذا تركنا لبنان اليوم لأن بها شيعة، وترك غيرنا العراق بالأمس محتجًا بظلم صدام ومحتجا بحكم البعثيين، وغدًا هل تُترك عمان لأن أغلبها إباضية، أو تُترك سوريا لوجود الشيعة النصيرية العلوية بها " الذين هم أشد غلوا من الإمامية"، أو تُترك بلاد المغرب لأن بها غلاة الصوفية؟! حتى تصير ديار الإسلام نهبًا لأعدائها ، أنها يقينا دعوى باطلة دنيا ودينا .
* ثم إذا كانت المسألة عن الشيعة، أين نصرتنا لأهل السنة الموجودين بلبنان وفلسطين ؟!
أليس الأولى بنا أن نحكم بخطإ من يقول ذلك، وأنه جانب الصواب فى هذه المسألة عن أن ننال من ثوابت هذا الدين ؟!
- وثم وثم مئات المسائل المتفق عليها يقوم البعض بمحاولة ذبذبتها فى النفوس، وصدق النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم - ( فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )(1).
* لا ينبغى أبدا لأى مسلم وهو يبحث أى مسألة أن ينتصر لها أو ضدها لأن قائلها فلان بل يردها إلى الله ورسوله، إذ كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - . ولا يضير الداعية المسلم أبدًا أن يخطئ ، فكل بنى آدم خطاء ، إنما يضيره ويضيرنا إذا تمسكنا بهذا الخطأ .
* ولا ينبغى أبدا أن نفرط فى ثابتٍ واحدٍ من ثوابت هذا الدين، لأن فلان أو علان قال بعكس ذلك، بل ينبغى علينا أن ندعو فلانًا هذا إلى التوبة إلى الله من هذا القول بالحكمة والموعظة الحسنة.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود – واللفظ له - والترمذى وقال حديث حسن صحيح .(1/13)
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله أولا وآخرا .
منير عرفه
مدرس بمعهد فارسكور
الإعدادى الثانوى الأزهرى
ولا يصح فى الأذهان شيئٌ
إذا احتاج النهار إلى دليل(1/14)