ـ[القُرآنُ الكريمُ في مواجهِةِ الجاهليَّة]ـ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
الطبعة الأولى
1431 هـ - 2010 مـ(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ الناس قبل الإسلام كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء، وأجمل وصف لذلك ما جاء عن أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى، وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاؤُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمِ إلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمِ إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاؤُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمِ أشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، لِتَرُدَّهُمِ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ(1/1)
قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمِ إلَيْهِمَا، فَلْيَرُدَّاهُمِ إلَى بِلادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، قَالَت: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لاَ هَا اللهِ، ايْمُ اللهِ إِذَنْ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا، وَلاَ أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولانِ أَسْلَمْتُهُمِ الَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمِ الَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي.قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -،فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم -،كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ.فَلَمَّا جَاؤُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلاَ فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ،وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِِسْلامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا(1/2)
وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ .... " (1)
وما جاء عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِى إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ.وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا.فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالِىَ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ.تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِىَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ." (2)
لقد كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) [1/ 539] (1740) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5127) -التاط: التصق به(1/3)
وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم أو بقيت، ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب فضلاً عن البيوت فضلاً عن البلاد، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس والخلوات، فراراً بدينهم من الفتن وضناً بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكوت، وفراراً من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة والروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل ... على حساب الضعفاء والمحكومين.وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إلى فرد آخر من جنسه، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان، وإن هذا الكون لا يتفجع ولا يتألم فقط بانحطاط أمة أدركها الهرم وسرى فيها الوهن، وسقوط دولة تآكلت جذورها وتفككت أوصالها، بل بالعكس تقتضي ذلك سنَّة الكون، وإن دموع الإنسان لأعز من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل، وإنه لفي غنىً، وإنه لفي شغل عن أن يندب من لم يعمل يوماً لإسعاده، ولم يكدح ساعة لصالحه، وإنَّ السماء والأرض لتقسوان كثيراً على هذه الحوادث التي تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف المرات {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} سورة الدخان.
بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا كَلاً على ظهر الأرض، وويلاً للنوع الإنساني وعذاباً للأمم الصغيرة والضعيفة، ومنبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري، يسري منه السم في أعصابه وعروقه، ويتعدى المرض إلى الجسم السليم فكان لا بد من عملية جراحية، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته، يستوجب الحمد والامتنان من جميع أعضاء الأسرة الإنسانية، بل من جميع أفراد الكون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ(1/4)
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44 - 45] (1)
ولذلك عندما نزل القرآن الكريم، فقد غيَّر معالم الجاهلية كلها وتصوراتها وقيمها، وأخرج أهلها من الظلمات إلى النور، والجاهليةُ تشملُ جميع التصورات والأوضاع والقيم وما ينبثق عنها من سلوك وتصرفات قد استمدت من غير الإسلام، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]
والجاهليةُ هي الجاهلية سواء أكانت قديمة أم حديثة، فلا علاقة لها بقدم أو حداثة.
والإسلامُ لا يمكن أن يلتقي مع الجاهلية على أي صعيد.
والذين يحاولون الجمع بين الإسلام والجاهلية، لم يعرفوا الإسلام ولا الجاهلية حقًّا.
ومن ثم فلا يجوز التعويل على هؤلاء ولا على جمعهم المزعوم، لأنه لا وجود له على أرض الواقع.
فإما الإسلام بكل قيمه وتصوراته وتشريعاته المنزلة من عند الله تعالى، وإما الجاهلية والتي تستمد قيمها وتصوراتها من القيم الأرضية الهابطة، القاصرة، المتغيرة، العفنة، النتنة .....
وفي هذا الكتاب توضيح لهذه الحقيقة، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية: 18، 19]
جمعهُ وأعدَّهُ
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 22 شعبان 1431 هـ الموافق 2/ 8/2010 م
__________
(1) - انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين [ص 42](1/5)
نَقْلةٌ بَعِيدَة
هناك حقيقة أولية، ينبغي أن تكون واضحة في نفوسنا تماماً ونحن نقدم الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء .. هذه الحقيقة تنبثق من طبيعة الإٍسلام ذاته، وتنبع من تاريخه
إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة.
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً. وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية، ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها.
ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور، وتمثله في صورة واقعية، وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله، وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه، وهو - سبحانه - يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ... [آل عمران:110]
ويقول في صفة هذه الأمة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ... [الحج:41]
وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل .. فالجاهلية هي الجاهلية، الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي .. الإسلام وهو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام!(1/6)
الجاهلية هي عبودية الناس للناس: بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله، كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع .. !
والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد!
هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام، وطبيعة دوره في الأرض، هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء!
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية. لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور .. فإما إسلام وإما جاهلية. وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه .. فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال. وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج. وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله، وإما الهوى .. والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .. [المائدة:49]
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .. [الشورى:15]
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .. [القصص:50]
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} .. [الجاثية:18 - 19]
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .. [المائدة:50]
فهما أمران لا ثالث لهما. إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى. إما حكم الجاهلية. إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله .. وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..(1/7)
وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية، وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص، المستقل الملامح، الأَصيل الخصائص .. يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر. الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها، واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية، وتولي هذه القيادة منهجه الخاص، المستقل، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى.
فلننظر ماذا فعل ربعي بن عامر رضي الله عنه مع رستم،قال ابن كثير:" قَالُوا: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ، وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ. فَقَالَ رُسْتُمُ: ائْذَنُوا لَهُ. فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا، فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ. قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ. فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا. فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ. فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ. فَاجْتَمَعَ رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ(1/8)
؟! فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ، وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ.
ثُمَّ بَعَثُوا يَطْلُبُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رَجُلًا، فَبُعِثَ إِلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَتَكَلَّمَ نَحْوَ مَا قَالَ رِبْعِيٌّ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ طَوِيلٍ، قَالَ فِيهِ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ: إِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي دُخُولِكُمْ أَرْضَنَا كَمَثَلِ الذُّبَابِ رَأَى الْعَسَلَ فَقَالَ: مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟ فَلَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِ غَرِقَ فِيهِ، فَجَعَلَ يَطْلُبَ الْخَلَاصَ فَلَا يَجِدُهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَنْ يُخَلِّصُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟ وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ ثَعْلَبٍ ضَعِيفٍ دَخَلَ جُحْرًا فِي كَرْمٍ، فَلَمَّا رَآهُ صَاحِبُ الْكَرْمِ ضَعِيفًا رَحِمَهُ فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا سَمِنَ أَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا فَجَاءَ بِجَيْشِهِ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِغِلْمَانِهِ، فَذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسِمَنِهِ، فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَهَكَذَا تَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِنَا. ثُمَّ اسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ لَأَقْتُلَنَّكُمْ غَدًا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَتَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ: قَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ، وَلِأَمِيرِكُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكِسْوَةٍ وَمَرْكُوبٍ وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَبْعَدَ أَنْ أَوْهَنَّا مُلْكَكُمْ وَضَعَّفْنَا عِزَّكُمْ؟! وَلَنَا مُدَّةٌ نَحْوَ بِلَادِكُمْ، وَنَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْكُمْ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ، وَسَتَصِيرُونَ لَنَا عَبِيدًا عَلَى رَغْمِكُمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَشَاطَ غَضَبًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: جَاءَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَمَعَهُ النَّاسُ. قَالَ: لَا أَدْرِي لَعَلَّنَا لَا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَدَ لَكُمْ وَلَا قُوَّةَ وَلَا سِلَاحَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ ارْجِعُوا. قَالَ: قُلْنَا: مَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ. فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نَبْلِنَا، وَيَقُولُونَ: دُوكْ دُوكْ. وَشَبَّهُونَا بِالْمَغَازِلِ. فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ. قَالُوا: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْكُمْ عَاقِلًا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَا. فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ فَقَعَدَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ فَنَخَرُوا وَصَاحُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ. فَقَالَ رُسْتُمُ: صَدَقَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا قَوْمًا فِي شَرٍّ وَضَلَالَةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا رَزَقَنَا حَبَّةٌ تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا، قَالُوا: لَا صَبْرَ(1/9)
لَنَا عَنْهَا، أَنْزِلُونَا هَذِهِ الْأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذَنْ نَقْتُلُكُمْ. قَالَ: إِنْ قَتَلْتُمُونَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ، أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ: أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ. نَخَرُوا وَصَاحُوا وَقَالُوا: لَا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ رُسْتُمُ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ. فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرُوا، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ سَعْدًا كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَتَلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (105) سورة الأنبياء. وَصَلَّى بِالنَّاسِ الظَّهْرَ، ثُمَّ كَبَّرَ أَرْبَعًا، وَحَمَلُوا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي طَرْدِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَقَتْلِهِمْ لَهُمْ، وَقُعُودِهِمْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَحَصْرِهِمْ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَمَا رُدَّ شَارِدُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلَجَأَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَبْوَابِهَا، وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ بَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى كِسْرَى يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى كِسْرَى، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْكَالِهِمْ، وَأَرْدَيَتِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَسِيَاطِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَالنِّعَالِ فِي أَرْجُلِهِمْ، وَخُيُولِهِمُ الضَّعِيفَةِ، وَخَبْطِهَا الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهَا، وَجَعَلُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُمْ غَايَةَ الْعَجَبِ، كَيْفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ يَقْهَرُونَ جُيُوشَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهَا وَعُدَدِهَا. وَلَمَّا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْمَلِكِ يَزْدَجِرْدَ أَذِنَ لَهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ مُتَكَبِّرًا قَلِيلَ الْأَدَبِ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ مَلَابِسِهِمْ هَذِهِ مَا اسْمُهَا؛ عَنِ الْأَرْدِيَةِ، وَالنِّعَالِ، وَالسِّيَاطِ، ثُمَّ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَفَاءَلَ، فَرَدَّ اللَّهُ فَأْلَهَ عَلَى رَأْسِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ أَظْنَنْتُمْ أَنَّا لَمَّا تَشَاغَلْنَا بِأَنْفُسِنَا اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا؟! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ: إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ، وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَدْعُ إِلَى ذَلِكَ قَبِيلَةً إِلَّا صَارُوا فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً تُقَارِبُهُ وَفِرْقَةً تُبَاعِدُهُ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي دِينِهِ إِلَّا الْخَوَاصُّ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَبْدَأَ بِهِمْ، فَفَعَلَ، فَدَخَلُوا مَعَهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهَيْنِ؛ مَكْرُوهٍ عَلَيْهِ فَاغْتَبَطَ، وَطَائِعٍ أَتَاهُ(1/10)
فَازْدَادَ، فَعَرَفْنَا جَمِيعًا فَضْلَ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالضِّيقِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يَلِينَا مِنَ الْأُمَمِ فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَمْرٌ مِنَ الشَّرِّ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ آخَرَ شَرٍّ مِنْهُ؛ الْجِزَاءُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْمُنَاجَزَةُ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ وَنَرْجِعَ عَنْكُمْ، وَشَأْنَكُمْ وَبِلَادَكُمْ، وَإِنِ اتَّقَيْتُمُونَا بِالْجِزَيِ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ، وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ يَزْدَجِرْدُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمَّةً كَانَتْ أَشْقَى وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا وَلَا أَسْوَأَ ذَاتِ بَيْنٍ مِنْكُمْ، قَدْ كُنَّا نُوَكِّلُ بِكُمْ قُرَى الضَّوَاحِي فَيَكْفُونَاكُمْ، لَا تَغْزُوكُمْ فَارِسُ وَلَا تَطْمَعُونَ أَنْ تَقُومُوا لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُكُمْ كَثُرَ فَلَا يُغْرُنَّكُمْ مِنَّا، وَإِنْ كَانَ الْجَهْدُ دَعَاكُمْ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ، وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ. فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْعَرَبِ وَوُجُوهُهُمْ، وَهُمْ أَشْرَافٌ يَسْتَحْيُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُ الْأَشْرَافَ الْأَشْرَافُ، وَيُعَظِّمُ حُقُوقَ الْأَشْرَافِ الْأَشْرَافُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرْسِلُوا لَهُ جَمَعُوهُ لَكَ، وَلَا كُلُّ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ أَجَابُوكَ عَنْهُ، وَقَدْ أَحْسَنُوا، وَلَا يَحْسُنُ بِمِثِلِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَجَاوِبْنِي فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي أُبَلِّغُكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ إِنَّكَ قَدْ وَصَفْتَنَا صِفَةً لَمْ تَكُنْ بِهَا عَالِمًا، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ، فَمَا كَانَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَّا، وَأَمَّا جُوعُنَا فَلَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ الْجُوعَ؛ كُنَّا نَأْكُلُ الْخَنَافِسَ وَالْجِعْلَانَ وَالْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ وَنَرَى ذَلِكَ طَعَامَنَا، وَأَمَّا الْمَنَازِلُ فَإِنَّمَا هِيَ ظَهْرُ الْأَرْضِ، وَلَا نَلْبَسُ إِلَّا مَا غَزَلْنَا مِنْ أَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْغَنَمِ، دِينُنَا أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَأَنْ يُغِيرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَدْفِنُ ابْنَتَهُ وَهَى حَيَّةٌ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ، فَكَانَتْ حَالُنَا قَبْلَ الْيَوْمِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَجُلًا مَعْرُوفًا؛ نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَنَعْرِفُ وَجْهَهُ وَمَوْلِدَهُ، فَأَرْضُهُ خَيْرُ أَرْضِنَا، وَحَسَبُهُ خَيْرُ أَحْسَابِنَا، وَبَيْتُهُ خَيْرُ بُيُوتِنَا، وَقَبِيلَتُهُ خَيْرُ قَبَائِلِنَا، وَهُوَ نَفْسُهُ كَانَ خَيْرُنَا فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَصْدَقَنَا وَأَحْلَمَنَا، فَدَعَانَا إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْ تِرْبٍ كَانَ لَهُ وَكَانَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ وَقُلْنَا، وَصَدَقَ وَكَذَبْنَا، وَزَادَ وَنَقَصْنَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا كَانَ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا التَّصْدِيقَ لَهُ وَاتِّبَاعَهُ، فَصَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَا قَالَ لَنَا فَهُوَ قَوْلُ(1/11)
اللَّهِ، وَمَا أَمَرَنَا فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ، فَقَالَ لَنَا: إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي، كُنْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهِي، وَأَنَا خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَإِلَيَّ يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنَّ رَحْمَتِي أَدْرَكَتْكُمْ، فَبَعَثْتُ إِلَيْكُمْ هَذَا الرَّجُلَ لِأَدُلَّكُمْ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي أُنْجِيكُمْ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِي، وَلِأُحِلَّكُمْ دَارِي دَارَ السَّلَامِ. فَنَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ. وَقَالَ: مَنْ تَابَعَكُمْ عَلَى هَذَا فَلَهُ مَا لَكَمَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْكُمْ، وَمَنْ أَبَى فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، ثُمَّ امْنَعُوهُ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَمَنْ أَبَى فَقَاتِلُوهُ، فَأَنَا الْحَكَمُ بَيْنَكُمْ، فَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي، وَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَعْقَبْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ. فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفَ، أَوْ تُسْلِمُ فَتُنَجِّيَ نَفْسَكَ. فَقَالَ يَزْدَجِرْدُ: اسْتَقْبَلْتَنِي بِمِثْلِ هَذَا؟! فَقَالَ: مَا اسْتَقْبَلْتُ إِلَّا مَنْ كَلَّمَنِي، وَلَوْ كَلَّمَنِي غَيْرُكَ لَمْ أَسْتَقْبِلْكَ بِهِ. فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ، لَا شَيْءَ لَكُمْ عِنْدِي. وَقَالَ: ائْتُونِي بِوَقْرٍ مِنْ تُرَابٍ، فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْمَدَائِنِ، ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ رُسْتُمَ حَتَّى يَدْفِنَهُ وَجُنْدَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ وَيُنَكِّلَ بِهِ وَبِكُمْ مِنْ بَعْدُ، ثُمَّ أُورِدُهُ بِلَادَكُمْ حَتَّى أَشْغَلَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا نَالَكُمْ مِنْ سَابُورَ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَشْرَفُكُمْ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَافْتَاتَ لِيَأْخُذَ التُّرَابَ: أَنَا أَشْرَفُهُمْ، أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ، فَحَمِّلْنِيهِ. فَقَالَ: أَكَذَاكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِيوَانِ وَالدَّارِ حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ، فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْجَذَبَ فِي السَّيْرِ فَأَتَوْا بِهِ سَعْدًا، وَسَبَقَهُمْ عَاصِمٌ، فَمَرَّ بِبَابِ قُدَيْسٍ فَطَوَاهُ فَقَالَ: بَشِّرُوا الْأَمِيرَ بِالظَّفَرِ، ظَفِرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مَضَى حَتَّى جَعَلَ التُّرَابَ فِي الْحِجْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَى سَعْدٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: أَبْشِرُوا فَقَدْ وَاللَّهِ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ. وَتَفَاءَلُوا بِذَلِكَ أَخْذَ بِلَادِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُ الصَّحَابَةِ يَزْدَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُلُوًّا وَشَرَفًا وَرِفْعَةً، وَيَنْحَطُّ أَمْرَ الْفُرْسِ سُفْلًا وَذُلًّا وَوَهَنًا. ." (1)
لم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم .. سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (7/ 46)(1/12)
الآن، في الشرق أو في الغرب سواء .. إنما جاء هذا كله إلغاءً، وينسخه نسخاً، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة. جاء لينشئ الحياة إنشاءً. لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً. وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية. ولكنها ليست هي، وليست منها. إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع. أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً. تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} .. [الأعراف:58]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله .. إنه هوى البشر الجهال المغرضين، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير. حتى تجيء شريعة الله فتنسخ هذا كله، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر، ولا يلوِّثه هواهم، ولا تميل به مصلحة فريق منهم.
ولأن هذا هو الفارق الأَصيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد. ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به. فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسواء. لأن هذه هي تلك على وجه اليقين.
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم، ولا ندع الناس في شك منها، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدِّل حياتهم تبديلاً .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها. كما سيبدل أوضاعهم كذلك. سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس. سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان. ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه. وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه(1/13)
الآن: أصل الجاهلية النكد الخبيث! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة " العلمية البحتة " بل سيدفعها قوية إلى الأمام ..
يجب ألاَّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية .. بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً .. وإنما هو الإسلام فقط!
الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل، وأوضاعه المستقلة. الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع. الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير.
وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة .. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل. وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم. ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً (1). ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة .. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة .. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد
__________
(1) - (دسس) الدَّسُّ إِدخال الشيء من تحته دَسَّه يَدُسُّه دَسّاً فانْدَسَّ ودَسَّسَه ودَسَّاه الأَخيرة على البدل كراهية التضعيف وفي الحديث اسْتَجِيدوا الخالَ فإِن العِرْقَ دَسَّاسٌ أَي دَخَّال لأَنه يَنْزِعُ في خَفاءٍ ولُطْفٍ ودسَّه يَدُسُّه دَسّاً إِذا أَدخله في الشيءِ بقهر وقوَّة وفي التنزيل العزيز قد أَفْلَحَ من زَكَّاها وقد خابَ من دَسَّاها يقول أَفلح من جعل نفسه زكية مؤمنة وخابَ من دَسَّسَها في أَهل الخير وليس منهم وقيل دَسَّاها جعلها خسيسة قليلة بالعمل الخبيث قال ثعلب سأَلت ابن الأَعرابي عن تفسير قوله تعالى وقد خابَ من دَسَّاها فقال معناه من دسَّ نَفْسَه مع الصالحين وليس هو منهم قال وقال الفراء خابت نفس دَسَّاها اللَّه عز وجل ويقال قد خاب من دَسَّى نَفْسَه فأَخْمَلَها بترك الصدقة والطاعة قال ودَسَّاها من دَسَّسْتُ بُدِّلَتْ بعض سيناتها ياء كما يقال تَظَنَّيْتُ من الظَنِّ قال ويُرَى أَن دَسَّاها دَسَّسَها لأَن البخيل يُخْفي مَنْزِله وماله والسَّخِيُّ يُبْرِزُ منزله فينزل على الشَرَفِ من الأَرض لئلا يستتر عن الضيفان ومن أَراده ولكلٍّ وَجْهٌ الليث الدَّسُّ دَسُّك شيئاً تحت شيء وهو الإِخْفاءُ ودَسَسْتُ الشيء في التراب أَخفيته فيه ومنه قوله تعالى أَم يَدُسُّه في التراب أَي يدفنه قال الأَزهري أَراد اللَّه عز وجل بهذا الموءُودة التي كانوا يدفنونها وهي حية وذَكَّرَ فقال يَدُسُّه وهي أُنثى لأَنه رَدَّه على لفظة ما في قوله تعالى يَتَوارى من القوم من سُوءِ ما بُشِّرَ به فردَّه على اللفظ لا على المعنى ولو قال بها كان جائزاً والدَّسِيسُ إِخفاء المكرِ والدَّسيسُ من تَدُسُّه ليأْتيك بالأَخبار وقيل الدَّسِيسُ شبيه بالمُتَجَسِّس "لسان العرب - (6/ 82)(1/14)
أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم .. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً .. وإذا كنتم أنتم - لشقوتكم - لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية، لأن أعداءكم - أعداء هذا الدين - يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة، ودون تجسد هذه الصورة، فنحن قد رأيناها - والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه!
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام. لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة. سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم. أم في أي مكان خاطب الناس فيه.
نظر إليهم من عل، لأن هذه هي الحقيقة. وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنها حقيقة كذلك في طبيعته. وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته .. ولم يقل لهم أبداً: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها .. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام .. مرة تحت عنوان:" ديمقراطية الإسلام "! ومرة تحت عنوان " اشتراكية الإسلام "! ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة!!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات!
كلا. إن الأمر مختلف جداً. والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعيدة، وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً. وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع. ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة. النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق، ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر، ومن أحكام العبيد إلى حكم(1/15)
رب العبيد. هذه حقيقة. وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس.
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر، وقد يجفلون منه ويشفقون. ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام. أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد - صلى الله عليه وسلم - تصوراتهم، ويعيب آلهتهم، وينكر أوضاعهم، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها. ثم ماذا؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة، والذي أجفلوا منه: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .. [المدثر:50 - 51]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة .. ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من الجاهلية، وكانت محصورة في شعاب مكة، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله. وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها. ولكنها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية .. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً. إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي تقوم عليه. وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي .. كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها، ولا تربت على شهوات الجاهلية، ولا تتدسس إليها تدسساً. إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..(1/16)
والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً. في صراحة وقوة. بلا تلعثم ولا وصوصة (1)!
إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة. وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة .. والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف، انتقال له ما يبرره في منطق النفس .. ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام، إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا، وتعديلاً طفيفاً هناك؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلى المنطق. لأنه على الأقل نظام قائم، قابل للإصلاح والتعديل، فلا ضرورة لطرحه، والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق، مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه!
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً - في هذه الأمور - إلا ما تصنعه " الحضارات " الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام! وهان ذلك دفاعاً! وساء ذلك دفاعاً!
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعت منها. وهذه " الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها. وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام .. ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو " العالم الإسلامي "! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون .. وحجة الإسلام التي
__________
(1) - الوَصْوَصُ والوَصْوَاصُ " الأَخِيرُ عن اللَّيْث وعلى الأَوَّل اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ: " خَرْقٌ " - وفي الصّحاح: ثَقْبٌ - في " السِّتْرِ " ونَحْوِه " بمِقْدَارِ عَيْنٍ تَنْظُر فيه ". قال: " في وَهَجَانٍ يَلِجُ الوَصْوَاصَا " ووَصْوَصَ: نَظَرَ فِيهِ ". وَصْوَصَ " الجِرْوُ: فَتَح عَيْنيْه " كبَصْبَصَ عن ابنِ عَبّادٍ. وَصْوَصَت " المَرأَةُ: ضَيَّقَتْ نِقَابَهَا " فَلَمْ يُرَ منه إِلاَّ عَيْنَاهَا. وقال الفَرَّاءُ: إِذا أَدْنَت المَرْأَةُ نِقَابَهَا إِلى عَيْنيْهَا فتِلْكَ الوَصْوَصَةُ " كوَصَّصَتْ " تَوْصِيصاً. قال أَبْو زيْدٍ: النِّقَابُ على مَارِنِ الأَنْفِ. والتَّرْصِيصُ لا يُرَى إِلا عَيْنَاهَا. وتَمِيمٌ تَقُولُ. هو التَّوْصِسصُ بالوَاو وقد رَصَّصَتْ ووَصَّصَت. وقال الجوهَرِيُّ: التَّوْصِيصُ في الانْتِقابٍ مِثْلُ التَّرْصِيصِ. " والوَصَاوِصُ: بَرَاقِعُ صِغَارٌ تَلبَسُها الجارِيَةُ " جَمْعُ وَصْوَاصٍ. وفي الصّحاح: الوَصْوَاصُ: البُرْقُعُ الصَّغِيرُ "تاج العروس - (1/ 4556) ولسان العرب - (1/ 239) وكتاب العين - (7/ 177)(1/17)
يدلي بها للناس: إنه خير منها بما لا يقاس، وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب " الحضارة " ..
فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة. فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء .. إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه. وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة، ونقدم لهم القاعدة العقدية للتصور الإسلامي الشامل، يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور، ومن وضع إلى وضع. ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم: تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق، لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً. وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو، ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم، وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً!!
هذا الذي يبدو سهلاً في ظاهره، ليس مغرياً في طبيعته، فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة .. فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر، كما يبدل النظم والأوضاع، كما يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية، التي تحياها البشرية .. ويكفي أنه ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ..
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام. وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً .. إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدّعون - وهم يحيون حياة الجاهلية. وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك. ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً .. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد.
ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً. ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً. ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس. إنما نحن ندعو الناس إلى(1/18)
الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير .. مهما آذونا .. لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام، وهذه هي دوافعه .. ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام، وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم، في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم. كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية .. إنها الجاهلية وليست في شيء من الإسلام، إنها " الهوى " ما دام أنها ليست هي " الشريعة ".إنها " الضلال " ما دام أنها ليست هي الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال!
وليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته .. إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .. " المسلمين " .. يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية، أو يتلمس من أعمال " الحضارة " الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور .. إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس. وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات للجاهلية. وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا - نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام - في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك - وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير .. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية .. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة. أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية .. هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء، وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير .. وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فيها من بشاعة كالحة .. وهذه الفردية الأثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون .. وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة .. وحرية البهائم التي يسمونها " حرية الاختلاط " .. وسوق الرقيق التي يسمونها " حرية المرأة " .. والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق، والتفريق العنصري الحادّ الخبيث ..(1/19)
ثم .. ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة، وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها. ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة. وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية .. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام .. ولكن ناساً - يدّعون الإسلام - ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب. وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً!
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول: إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها. مهما يشتد ضغطها علينا.
إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية. ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق، كما قد يخيل إلى البعض منا .. إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق ..
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة، ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة. ولكن لا بد مما ليس منه بد. لا بد أن نثبت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانياً، ولا بد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها. ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل .. كلا، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع. والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة. وهي أننا نعيش في وسط جاهلية، وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية، وإنها نقلة بعيدة واسعة، هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام، وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق، ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام، سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي، ويزعمون أنهم مسلمون، أو كانوا يعيشون في غير الوطن " الإسلامي "،وليخرجوا من الظلمات إلى النور، ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها، وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا(1/20)
الإسلام وحاولنا أن نعيش به .. وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ... [الكافرون:6](1/21)
لكل جاهلية أرجاسها وأدناسها
إن الجاهلية هي الجاهلية. ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها. لا يهم موقعها من الزمان والمكان. فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم، ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم، فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة .. والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها، لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض، حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها.
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها. ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها. وإذاعاتها. ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها .. إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون (1) ..
وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني .. نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.
إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر. لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه اللّه منها، والتي يمتن اللّه على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» ..
__________
(1) - يراجع ما جاء عن الربا في الجزء الثالث من الظلال ص 318 - 328 ويراجع كتاب: الربا للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.(1/22)
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا. أمية القلم، وأمية العقل سواء. وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة، في أي باب من الأبواب. وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشئ معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب. فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا، وحكماء العالم، وأصحاب المنهج العقدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي، الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان. والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن اللّه - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة، التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة من النواحي الأخلاقية والاجتماعية وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي، والرخاء الحضاري! «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
ضلال في التصور والاعتقاد، وضلال في مفهومات الحياة، وضلال في الغاية والاتجاه، وضلال في العادات والسلوك. وضلال في الأنظمة والأوضاع، وضلال في المجتمع والأخلاق ..
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم، ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام، وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان.
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة، واهتمامات القبيلة، وثارات القبيلة، لا ليكونوا أمة فحسب. ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية، وترسم لها مثلها، ومناهج حياتها، وأنظمتها كذلك، في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل.
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي، ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي .. وقبل كل شيء وأهم من كل شيء .. وجودهم الإنساني، الذي يرفع إنسانيتهم، ويكرّم آدميتهم، ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم، الذي جاءهم هدية ومنة من لدن ربهم الكريم.
والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك، وعلموها كيف تحترم «الإنسان» وتكرمه بتكريم اللّه. غير مسبوقين في هذا، لا في الجزيرة العربية، ولا في أي مكان .. وفي اللفتة(1/23)
السابقة إلى «الشورى» طرف من هذا المنهج الإلهي، الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من اللّه.
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعالم، ونظرية للحياة البشرية، ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية .. والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب، تقدمه للبشرية، لتدفع بالبشرية إلى الأمام.
وقد كان الإسلام، وتصوره للوجود، ورأيه في الحياة، وشريعته للمجتمع، وتنظيمه للحياة البشرية، ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله «الإنسان» .. كان الإسلام بخصائصه هذه هو «بطاقة الشخصية» التي تقدم بها العرب للعالم، فعرفهم، واحترمهم، وسلمهم القيادة.
وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة. ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم. وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا - كما كانوا - لا يعرفهم أحد، ولا يعترف بهم أحد! وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة؟
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم؟ لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول. والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة. وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة! يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق، تنحني له الجباه، ويغرقون به أسواقها، ويغطون به على ما عنده من إنتاج؟؟ لقد سبقتهم شعوب كثيرة، في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار! يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية، ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم، ومن وحي أفكارهم البشرية؟ إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية. وتشقى بها جميعا غاية الشقاء! ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به، وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز؟
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة. لا شيء إلا هذا المنهج الفريد. لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم اللّه لها، وأكرمهم بها، وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم. والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها، وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس! إنها -(1/24)
وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية، فأحنت لها هامتها. والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم، فيكون فيها الخلاص والإنقاذ.
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة. وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة. وهي التي تقدم أكبر منهج.
وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة.
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء، وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم؟ أي شيطان؟! لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة. وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان .. وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 510](1/25)
الفرق بين التصور الإسلامي للإله والتصورات الجاهلية
قال تعالى:: «وَقالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. سُبْحانَهُ! بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» ..
وهذه المقولة الفاسدة: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .. ليست مقولة النصارى وحدهم في المسيح، فهي كذلك مقولة اليهود في العزير. كما كانت مقولة المشركين في الملائكة. ولم تفصل الآية هنا هذه المقولات، لأن السياق سياق إجمال للفرق الثلاث التي كانت تناهض الإسلام يومئذ في الجزيرة - ومن عجب أنها لا تزال هي التي تناهضه اليوم تماما، ممثلة في الصهيونية العالمية والصليبية العالمية، والشيوعية العالمية، وهي أشد كفرا من المشركين في ذلك الحين! - ومن هذا الإدماج تسقط دعوى اليهود والنصارى في أنهم وحدهم المهتدون وها هم أولاء يستوون مع المشركين!
وقبل أن يمضي إلى الجوانب الفاسدة الأخرى من تصورهم لشأن اللّه - سبحانه - يبادر بتنزيه اللّه عن هذا التصور، وبيان حقيقة الصلة بينه وبين خلقه جميعا: «سُبْحانَهُ! بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ. فَيَكُونُ» ..
هنا نصل إلى فكرة الإسلام التجريدية الكاملة عن اللّه سبحانه، وعن نوع العلاقة بين الخالق وخلقه، وعن طريقة صدور الخلق عن الخالق، وهي أرفع وأوضح تصور عن هذه الحقائق جميعا .. لقد صدر الكون عن خالقه، عن طريق توجه الإرادة المطلقة القادرة: «كُنْ، فَيَكُونُ» .. فتوجه الإرادة إلى خلق كائن ما كفيل وحده بوجود هذا الكائن، على الصورة المقدرة له، بدون وسيط من قوة أو مادة .. أما كيف تتصل هذه الإرادة التي لا نعرف كنهها، بذلك الكائن المراد صدوره عنها، فذلك هو السر الذي لم يكشف للإدراك البشري عنه، لأن الطاقة البشرية غير مهيأة لإدراكه. وهي غير مهيأة(1/26)
لإدراكه لأنه لا يلزمها في وظيفتها التي خلقت لها وهي خلافة الأرض وعمارتها .. وبقدر ما وهب اللّه للإنسان من القدرة على كشف قوانين الكون التي تفيده في مهمته، وسخر له الانتفاع بها، بقدر ما زوى عنه الأسرار الأخرى التي لا علاقة لها بخلافته الكبرى .. ولقد ضربت الفلسفات في تيه لا منارة فيه، وهي تحاول كشف هذه الأسرار وتفترض فروضا تنبع من الإدراك البشري الذي لم يهيأ لهذا المجال، ولم يزود أصلا بأدوات المعرفة فيه والارتياد. فتجيء هذه الفروض مضحكة في أرفع مستوياتها. مضحكة إلى حد يحير الإنسان: كيف يصدر هذا عن «فيلسوف»! وما ذلك إلا لأن أصحاب هذه الفلسفات حاولوا أن يخرجوا بالإدراك البشري عن طبيعة خلقته، وأن يتجاوزوا به نطاقه المقدور له! فلم ينتهوا إلى شيء يطمأن إليه بل لم يصلوا إلى شيء يمكن أن يحترمه من يرى التصور الإسلامي ويعيش في ظله. وعصم الإسلام أهله المؤمنين بحقيقته أن يضربوا في هذا التيه بلا دليل، وأن يحاولوا هذه المحاولة الفاشلة، الخاطئة المنهج ابتداء. فلما أن أراد بعض متفلسفتهم متأثرين بأصداء الفلسفة الإغريقية - على وجه خاص - أن يتطاولوا إلى ذلك المرتقى، باءوا بالتعقيد والتخليط، كما باء أساتذتهم الإغريق! ودسوا في التفكير الإسلامي ما ليس من طبيعته، وفي التصور الإسلامي ما ليس من حقيقته .. وذلك هو المصير المحتوم لكل محاولة للعقل البشري وراء مجاله، وفوق طبيعة خلقته وتكوينه ..
والنظرية الإسلامية: أن الخلق غير الخالق. وأن الخالق ليس كمثله شيء .. ومن هنا تنتفي من التصور الإسلامي فكرة: «وحدة الوجود» (1) على ما يفهمه غير المسلم من هذا الاصطلاح - أي بمعنى أن الوجود وخالقه وحدة واحدة - أو أن الوجود إشعاع ذاتي للخالق، أو أن الوجود هو الصورة المرئية لموجده .. أو على أي نحو من أنحاء التصور على هذا الأساس .. والوجود وحدة في نظر المسلم على معنى آخر: وحدة صدوره عن الإرادة الواحدة الخالقة، ووحدة ناموسه الذي يسير به، ووحدة تكوينه وتناسقه واتجاهه إلى ربه في عبادة وخشوع: «بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» ..
__________
(1) - هذا يؤكد أن السيد رحمه الله لا يقول بوحدة الوجود كما أخذ ذلك من ظاهر كلامه في تفسير سورة الإخلاص(1/27)
فلا ضرورة لتصور أن له من بين ما في السماوات والأرض ولدا .. فالكل من خلقه بدرجة واحدة، وبأداة واحدة: «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» ..
وتوجه الإرادة يتم بكيفية غير معلومة للإدراك البشري، لأنها فوق طاقة الإدراك البشري. فمن العبث إنفاق الطاقة في اكتناه هذا السر، والخبط في التيه بلا دليل!
وإذ ينتهي من عرض مقولة أهل الكتاب في ادعاء الولد للّه - سبحانه - وتصحيح هذه المقولة وردها، يتبعها بمقولة للمشركين فيها من سوء التصور ما يتسق مع سوء التصور عن أهل الكتاب: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ: لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ! كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» ..
والذين لا يعلمون هم الأميون الذين كانوا مشركين إذ لم يكن لديهم علم من كتاب. وكثيرا ما تحدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم اللّه أو أن تأتيهم خارقة من الخوارق المادية .. وذكر هذه المقولة هنا مقصود لبيان أن الذين من قبلهم - وهم اليهود وغيرهم - طلبوا مثل هذا من أنبيائهم. فلقد طلب قوم موسى أن يروا اللّه جهرة، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة. فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة، وشبه في التصور، وشبه في الضلال: «تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» .. فلا فضل لليهود على المشركين. وهم متشابهو القلوب في التصور والعنت والضلال: «قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» .. والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات مصداق يقينه، ويجد فيها طمأنينة ضميره. فالآيات لا تنشئ اليقين، إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها. ويهيىء القلوب للتلقي الواصل الصحيح (1).
إنَّ القرآن كان دائما في المعركة. سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب.
هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة. فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 310](1/28)
والقرآن حاضر .. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة .. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح! وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس .. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور. أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشئ التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، يقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي الأمر .. إنه لأمر غير هذا نزّل اللّه القرآن .. لقد نزله لينشئ حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطئ الأمان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات (1).
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 399](1/29)
الإنسان بفطرته ينكر تصورات الجاهلية
قال تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يرسمه السياق القرآني في هذه الآيات .. مشهد الفطرة وهي - للوهلة الأولى - تنكر تصورات الجاهلية في الأصنام وتستنكرها. وهي تنطلق بعد إذ نفضت عنها هذه الخرافة في شوق عميق دافق تبحث عن إلهها الحق، الذي تجده في ضميرها، ولكنها لا تتبينه في وعيها وإدراكها. وهي تتعلق في لهفتها المكنونة بكل ما يلوح أنه يمكن أن يكون هو هذا الإله! حتى إذا اختبرته وجدته زائفا، ولم تجد فيه المطابقة لما هو مكنون فيها من حقيقة الإله وصفته .. ثم وهي تجد الحقيقة تشرق فيها وتتجلى لها. وهي تنطلق بالفرحة الكبرى، والامتلاء الجياش، بهذه الحقيقة، وهي تعلن في جيشان اللقيا عن يقينها الذي وجدته من مطابقة الحقيقة التي انتهت إليها بوعيها للحقيقة التي كانت كامنة من قبل فيها! .. إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يتجلى في قلب إبراهيم - عليه السّلام - والسياق يعرض التجربة الكبرى التي اجتازها في هذه الآيات القصار .. إنها قصة الفطرة مع الحق والباطل. وقصة العقيدة كذلك يصدع بها المؤمن ولا يخشى فيها لومة لائم ولا يجامل على حسابها أبا ولا أسرة ولا عشيرة ولا قوما .. كما وقف إبراهيم من أبيه وقومه هذه الوقفة الصلبة الحاسمة الصريحة: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ..
إنها الفطرة تنطق على لسان إبراهيم. إنه لم يهتد بعد بوعيه وإدراكه - إلى إلهه - ولكن فطرته السليمة تنكر ابتداء أن تكون هذه الأصنام التي يعبدها قومه آلهة - وقوم إبراهيم(1/30)
من الكلدانيين بالعراق كانوا يعبدون الأصنام كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم - فالإله الذي يعبد، والذي يتوجه إليه العباد في السراء والضراء، والذي خلق الناس والأحياء .. هذا الإله في فطرة إبراهيم لا يمكن أن يكون صنما من حجر، أو وثنا من خشب .. وإذا لم تكن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق وتسمع وتستجيب - وهذا ظاهر من حالها للعيان - فما هي بالتي تستحق أن تعبد وما هي بالتي تتخذ آلهة حتى على سبيل أن تتخذ واسطة بين الإله الحق والعباد! وإذن فهو الضلال البين تحسه فطرة إبراهيم - عليه السّلام - للوهلة الأولى. وهي النموذج الكامل للفطرة التي فطر اللّه الناس عليها .. ثم هي النموذج الكامل للفطرة وهي تواجه الضلال البين، فتنكره وتستنكره، وتجهر بكلمة الحق وتصدع، حينما يكون الأمر هو أمر العقيدة: «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. كلمة يقولها إبراهيم - عليه السّلام - لأبيه. وهو الأواه الحليم الرضي الخلق السمح اللين، كما ترد أوصافه في القرآن الكريم. ولكنها العقيدة هنا. والعقيدة فوق روابط الأبوة والبنوة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة. وإبراهيم هو القدوة التي أمر اللّه المسلمين من بنيه أن يتأسوا بها. والقصة تعرض لتكون أسوة ومثالا ..
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السّلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف اللّه لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» ..
بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة .. نري إبراهيم حقيقة هذا الملك .. ملك السماوات والأرض .. ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب. لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق ..
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق .. وعي لا يطمسه الركام. وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع اللّه. وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون .. وهداية(1/31)
من اللّه جزاء على الجهاد فيه .. وكذلك سار إبراهيم - عليه السّلام - وفي هذا الطريق وجد اللّه .. وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره .. ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير.
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة .. إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع والذي لا يكل اللّه - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلا منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما ..
فأما إبراهيم - عليه السّلام - فهو إبراهيم! خليل الرحمن وأبو المسلمين .. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً. قالَ: هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. إنها صورة لنفس إبراهيم، وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام. وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله، وتزحم عالمه .. صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» .. كأنما الليل يحتويه وحده، وكأنما يعزله عن الناس حوله، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً، قالَ: هذا رَبِّي» ..
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهه الحق - الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة! وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم. وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا .. ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله، ويزحم عليه عالمه: «قالَ: هذا رَبِّي» .. فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا! .. ولكن لا! إنه يكذب ظنه: «فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..(1/32)
إنه يغيب .. يغيب عن هذه الخلائق. فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها .. إذا كان الرب يغيب؟! لا، إنه ليس ربا، فالرب لا يغيب! إنه منطق الفطرة البديهي القريب .. لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم. لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق .. «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» .. فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب والآصرة هي آصرة القلب .. وفطرة إبراهيم «لا تحب» الآفلين، ولا تتخذ منهم إلها. إن الإله الذي تحبه الفطرة .. لا يغيب .. !
«فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ: هذا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
إن التجربة تتكرر. وكأن إبراهيم لم ير القمر قط ولم يعرف أن أهله وقومه يعبدونه! فهو الليلة في نظره جديد: «قالَ: هذا رَبِّي» .. بنوره الذي ينسكب في الوجود وتفرده في السماء بنوره الحبيب .. ولكنه يغيب! .. والرب - كما يعرفه إبراهيم بفطرته وقلبه - لا يغيب! هنا يحس إبراهيم أنه في حاجة إلى العون من ربه الحق الذي يجده في ضميره وفطرته. ربه الذي يحبه، ولكنه بعد لم يجده في إدراكه ووعيه .. ويحس أنه ضال مضيع إن لم يدركه ربه بهدايته. إن لم يمد إليه يده.
ويكشف له عن طريقه: «قالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» ..
«فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
إنها التجربة الثالثة مع أضخم الأجرام المنظورة وأشدها ضوءا وحرارة .. الشمس .. والشمس تطلع كل يوم وتغيب. ولكنها اليوم تبدو لعيني إبراهيم كأنها خلق جديد. إنه اليوم يرى الأشياء بكيانه المتطلع إلى إله يطمئن به ويطمئن إليه ويستقر على قرار ثابت بعد الحيرة المقلقة والجهد الطويل:
«قالَ: هذا رَبِّي. هذا أَكْبَرُ».ولكنها كذلك تغيب ..(1/33)
هنا يقع التماس، وتنطلق الشرارة، ويتم الاتصال بين الفطرة الصادقة واللّه الحق، ويغمر النور القلب ويفيض على الكون الظاهر وعلى العقل والوعي .. هنا يجد إبراهيم إلهه .. يجده في وعيه وإدراكه كما هو في فطرته وضميره .. هنا يقع التطابق بين الإحساس الفطري المكنون والتصور العقلي الواضح ..
وهنا يجد إبراهيم إلهه. ولكنه لا يجده في كوكب يلمح، ولا في قمر يطلع، ولا في شمس تسطع ..
ولا يجده فيما تبصر العين، ولا فيما يحسه الحس .. إنه يجده في قلبه وفطرته، وفي عقله ووعيه، وفي الوجود كله من حوله .. إنه يجده خالقا لكل ما تراه العين، ويحسه الحس، وتدركه العقول.
وعندئذ يجد في نفسه المفاصلة الكاملة بينه وبين قومه في كل ما يعبدون من آلهة زائفة ويبرأ في حسم لا مواربة فيه من وجهتهم ومنهجهم وما هم عليه من الشرك - وهم لم يكونوا يجحدون اللّه البتة، ولكنهم كانوا يشركون هذه الأرباب الزائفة - وإبراهيم يتجه إلى اللّه وحده بلا شريك: «قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. فهو الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض. الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك. وهي الكلمة الفاصلة، واليقين الجازم، والاتجاه الأخير .. فلا تردد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلى للعقل من تصور مطابق للحقيقة التي في الضمير .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1568](1/34)
الذبائح بين التصور الإسلامي وتصرات الجاهلية
قال تعالى:: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ .. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ - إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ - وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ - وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» ..
وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها. إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم اللّه عليه. والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه. ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من اللّه: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» .. ثم يسألهم: وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم اللّه عليه، وقد جعله اللّه لهم حلالا؟ وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطرارا؟ فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته وفي الأكل منه أو تركه؟ «وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ؟» ..
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة، حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح أحلها اللّه ويحلون ذبائح حرمها اللّه - ويزعمون أن هذا هو شرع اللّه! - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء المشترعين المفترين على اللّه، فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع، ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم، ويعتدون على ألوهية اللّه وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد: «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ .. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ» .. ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله - ظاهره وخافيه - ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم وحملهم على شرائع ليست من عند اللّه، وافتراء أنها شريعة اللّه! ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي(1/35)
يقترفونه: «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» ..
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم اللّه عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، يزعمون أن اللّه ذبحها! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح اللّه؟! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات:
«وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ - وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ - وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ .. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. » ..
وأمام هذا التقرير الأخير نقف، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين ..
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة اللّه، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية .. أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام للّه، إلى الشرك باللّه. وفي هذا يقول ابن كثير:
«وقوله تعالى: (وإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) .. أي حيث عدلتم عن أمر اللّه لكم وشرعه، إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره .. فهذا هو الشرك .. كقوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. الآية. وقد روى الترمذي في تفسيرها عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ «يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ».وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» (1).
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز [11/ 354] (3378) صحيح لغيره(1/36)
أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام. وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ) ..
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير .. وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا .. مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا اللّه بلسانه. بينما هو يتلقى من غير اللّه، ويطيع غير اللّه.
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم اللّه، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ولم يقبل منها شرعا ولا حكما ... إلا في حدود الإكراه .. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1628](1/37)
تصورات الجاهلية حول الثمار والأنعام والأولاد
قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا(1/38)
لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} سورة الأنعام
هذا الشوط الطويل كله - وغيره - في سياق سورة مكية، من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة - إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي - حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته فصان اللّه هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن، وموضوعات دراسة قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه للّه جملة، ويعبد اللّه بالطاعة لشريعته وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه، كما هي طبيعة هذا الدين، وكما هو منهجه، الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار ..
نقول: هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية يتناول قضية التشريع والحاكمية. فيدل على طبيعة هذه القضية - إنها قضية عقدية .. ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين .. إنها قضيته الرئيسية (1)
__________
(1) - يراجع بتوسع فصل: «عبودية وألوهية» في القسم الثاني من كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» «دار الشروق».(1/39)
وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا، نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته .. لنرى محتوياته على وجه الإجمال. ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك ..
إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد - أي في شأن المال والاجتماع - في جاهليتهم. فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في:
1 - تقسيمهم ما رزقهم اللّه من رزق، وأنشأ لهم من زروع وأنعام، إلى قسمين: قسم يجعلونه للّه - زاعمين أن هذا مما شرعه اللّه - وقسم يجعلونه لشركائهم - وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون اللّه: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا»!
2 - أنهم بعد ذلك، يجورون على النصيب الذي قسموه للّه. فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائهم، ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء!: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ»!
3 - أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء - وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم - ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع، بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية، وحكم التأثر بالأساطير الدينية من ناحية - وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار. كما قد يتناول الذكور في النذور، كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه اللّه عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة! «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ، لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ»!
4 - أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من اللّه - هكذا يزعمون! - كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب. ويمنعون أن يذكر اسم اللّه على بعضها عند الذبح أو الركوب أو لا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر اللّه. مع الزعم بأن هذا كله قد أمر اللّه به: «وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِراءً عَلَيْهِ -!».(1/40)
5 - وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم، ويجعلونه محرما على إناثهم. إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث! مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى اللّه: «وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية، والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل - في سورة مكية - للقضاء عليها، وتطهير النفوس والقلوب منها، وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي.
ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة:
لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم اللّه - افتراء على اللّه - وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى اللّه بغير علم.
ثم لفت أنظارهم إلى أن اللّه هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات .. هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات. وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام .. والذي يرزق هو وحده الذي يملك، وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال .. وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات، ومن نعمة اللّه عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشا، يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره .. كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان. فكيف يتبعون خطوات الشيطان، وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين؟! بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام، وخلوها من كل منطق، وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة .. وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل: علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق: «أم كنتم شهداء إذ وصاكم اللّه بهذا؟» فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم! ويشنع بجريمة(1/41)
الافتراء على اللّه، وإضلال الناس بغير علم. ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها ..
وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع. ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم. سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله اللّه للمسلمين.
ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية - الممثلة في الشرك باللّه وتحريم ما أحل اللّه وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند اللّه - على إرادة اللّه وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء» .. فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل، وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس اللّه: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» فالشرك كالتحريم بدون شرع اللّه، كلاهما سمة المكذبين بآيات اللّه. ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها: «قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا. إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ»! ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة - تماما كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد - مع استخدام نفس العبارات والأوصاف، بل نفس الألفاظ، للدلالة على أن القضية واحدة: قضية الشرك باللّه، وقضية التشريع بغير إذن من اللّه: «قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا، فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ونرى من الآية إلى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ، أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم. وهم الذين كذبوا بآيات اللّه. وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة. فلو أنهم صدقوا بآيات اللّه وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى اللّه ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون اللّه. وما حرموا وحللوا بغير إذن من اللّه.
وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه اللّه حقا .. وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية،في مقدمتها توحيد اللّه. وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب، فجعلها عنوانا للكل: لقد نهى اللّه عن الشرك. وأمر بالإحسان للوالدين. ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق.(1/42)
ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ونهى عن قتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق. ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. وأمر بالعدل في القول - في الشهادة والحكم - ولو كان ذا قربى. وأمر بالوفاء بعهد اللّه كله. وجعل هذا جميعه وصية من اللّه كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي.
هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادئ الشريعة اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق، وتمتزجان هذا الامتزاج وتعرضان جملة واحدة، وكتلة واحدة، بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه .. هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» ..
وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم:
إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة .. بل إن شريعته هي عقيدته .. إذ هي الترجمة الواقعية لها .. كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني ..
وهذه هي الحقيقة التي زحزح مفهوم «الدين» في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة .. حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين - ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه - أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة! ولا يعدون المروق منها مروقا من الدين، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة. إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة، قرونا طويلة، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية - موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة، إنما موضوعها هو العقيدة - وتحشد لها كل هذه المؤثرات، وكل(1/43)
هذه التقريرات بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية.ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير .. أصل الحاكمية .. وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي ..
إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك .. إن هؤلاء لا يقرأون القرآن. ولا يعرفون طبيعة هذا الدين .. فليقرأوا القرآن كما أنزله اللّه وليأخذوا قول اللّه بجد: «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».
وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون، أو هذا الإجراء، أو هذا القول، منطبقا على شريعة اللّه أو غير منطبق .. وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك .. كأن الإسلام كله قائم، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات! هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون. بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يفرغون الطاقة العقدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة .. إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية. شهادة بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات. بينما الدين كله متوقف عن «الوجود» أصلا، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع، الحاكمية فيها للّه وحده من دون العباد.
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية اللّه. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين .. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية اللّه، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد .. وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام.(1/44)
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين! .. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون .. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية للّه وحده لا يدعيها لنفسه مسلم ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم .. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، بسر اللّه لهم مزاولتها الواقعية في المدينة .. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين!
قال تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ - بِزَعْمِهِمْ - وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ. ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» ..
يقرر السياق - وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام - أن اللّه هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام فما من أحد غير اللّه يرزق الناس من الأرض والسماء .. ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم. إذ يجعلون له منه سبحانه جزءا، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا (وطبيعى أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير!).ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه للّه. على النحو الذي تقرره الآية! عن ابن عباس قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما، جعلوا منه للّه سهما وسهما لآلهتهم. وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه للّه، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه للّه إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقروه ولم يردوه. فذلك قوله: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ».
وعن مجاهد قال: يسمون للّه جزءا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءا. فما ذهبت به الريح مما سموا للّه إلى جزء أوثانهم تركوه. وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء اللّه ردوه. وقالوا: «اللّه عن هذا غني»! والأنعام: السائبة والبحيرة التي سموا.(1/45)
وعن قتادة قال: عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءا للّه وجزءا لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا للّه فيما جزأوا لشركائهم خلوه. فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا للّه ردوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السنة (يعني الجدب) استعانوا بما جزأوا للّه، وأقروا ما جزأوا لشركائهم. قال اللّه، «ساءَ ما يَحْكُمُونَ».
وعن السدي قال: كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه للّه، ويزرعون زرعا فيجعلونه للّه. ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك .. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها، وما خرج للّه تصدقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي للّه، قالوا: «ليس بد لآلهتنا من نفقة»! وأخذوا الذي للّه فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي للّه، وكثر الذي لآلهتهم، قالوا: «لو شاء أزكى الذي له»! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة. قال اللّه .. لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني! فذلك حين يقول: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ».
وعن ابن جرير: وأما قوله: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» فإنه خبر من اللّه جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جل ثناؤه: وقد أساءوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك - تعالى ذكره - الخبر عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه! هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع. وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم. فأما مصلحة شياطين الإنس - من الكهنة والسدنة والرؤساء - فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة! .. وأما مصلحة(1/46)
شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم، ويفسدوا عليهم دينهم، ويقودوهم ذللا إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى: للإغريق والفرس والرومان، والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا ... هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به اللّه.
وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة. تلتقي في الأصل والقاعدة. فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من اللّه. ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف .. فإن هي إلا أشكال .. «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ».
يقول: وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم .. وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق - أو خشية السبي والعار - ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده، إن رزقه اللّه بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه! وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية. العرف الذي وضعه الناس للناس. والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن .. من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس، ومن القرناء الموسوسين من الجن، بالتعاون والموالاة فيما بينهم! والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين: «لِيُرْدُوهُمْ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ».
ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبسا غامضا لا يقفون منه على تصور واضح .. فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم ويتمثل أخيرا في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا، وفق أهوائهم ومصالحهم! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع. لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة - وما هي منها(1/47)
- بكل ثقلها وعمقها، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها، وتنشئ ثقلا ساحقا لا تقف له جماهير الناس. ما لم تعتصم منه بدين واضح وما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت.
وهذه التصورات المبهمة الغامضة وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق .. لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة. فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة .. هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا .. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها .. أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء .. الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف ... إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ .. من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟
تقف وراءه بيوت الأزياء. وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها! .. ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها، ويؤصلونها بنظريات وثقافات «1» ويطلقونها تضغط على الناس في صورة (عرف اجتماعي).
فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم، وأوضاع مجتمع، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه! إنه فعل الشياطين .. شياطين الإنس والجن .. وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها، وتتحد جذورها ومنابعها، وتتماثل قوائمها وقواعدها ..
وإننا لنبخس القرآن قدره، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة. ومواجهة للواقع المنحرف دائما ورده إلى صراط اللّه المستقيم .. ومع ضخامة الكيد، وثقل الواقع، فإن السياق القرآني يهوّن(1/48)
أمر الجاهلية، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر .. إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة اللّه وسلطانه. وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم. ولكن بترك الحبل ممدودا لهم قليلا بمشيئة اللّه وقدره، تحقيقا لحكمة اللّه في ابتلاء عباده. ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه. ولكنه شاء للابتلاء.فلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على المؤمنين. فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على اللّه وما يكيدون: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» ..
ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا: إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم.
إنما يفترون على اللّه، فيزعمون أنه هو شرعها لهم .. ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل - بزعمهم! كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهليات الحديثة .. إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين فينفي وجود اللّه جملة ويتنكر للدين علانية. إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب! يقولون: إنهم يحترمون الدين! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين! ..
إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس - وإن لم تكن هي الإسلام، فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة - ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية. وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب! ثم يجيء «المتحمسون» لهذا الدين فيفرغون جهدهم في استنكار جزئيات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة، المغتصبة لألوهية اللّه وسلطانه بالجملة. وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام. ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقا، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة! (1)
__________
(1) - يراجع فصل: «اليهود الثلاثة» في كتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» لمحمد قطب. «دار الشروق».(1/49)
ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها. وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة، التي تلبس مسوح الدين!
وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن! «وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ - بِزَعْمِهِمْ - وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا - افْتِراءً عَلَيْهِ - سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
قال أبو جعفر بن جرير الطبري: «وهذا خبر من اللّه - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين. إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم، من غير أن يكون اللّه أذن لهم بشيء من ذلك».
والحجر: الحرام .. فهؤلاء المعتدون على سلطان اللّه، الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة اللّه، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام، فعزلوها لآلهتهم - كما تقدم - وقالوا: هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها. لا يطعمها إلا من شاء اللّه! - بزعمهم! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء! وعمدوا إلى أنعام قيل: إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة:
«ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ (1)» فجعلوا ظهورها حراما على الركوب. كما عمدوا إلى أنعام فقالوا: هذه لا يذكر اسم اللّه عليها عند ركوبها ولا عند حلبها، ولا عند ذبحها .. إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها! كل ذلك «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ»! قال أبو جعفر بن جرير: «وأما قوله «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ (2)» فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبا على اللّه، وتخرصا بالباطل عليه، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أن اللّه هو الذي حرمه، فنفى اللّه ذلك عن نفسه، وأكذبهم. وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون».
__________
(1) - سبق بيان أوصافها في الجزء السابع ص 989 - 990
(2) - «افتراء على اللّه» وردت في آية سابقة. فأما في هذه الآية فالذي ورد (افتراء عليه).(1/50)
وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية، التي تتكرر في معظم الجاهليات، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون اللّه البتة، أن يجهروا بأن «الدين» مجرد «عقيدة» وليس نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا، يهيمن على الحياة! وإن كان ينبغي أن ندرك دائما أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاما أرضيا، الحاكمية فيه للبشر لا للّه، ثم تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية .. أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة اللّه. بعد ما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك! .. لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة. لقد انخلعت من الدين، فأصبحت أجنبية عن الجميع، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم .. ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية، التي تستهدف نفس الهدف، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية. فتضع على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة، سواء بالدعاية المباشرة أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين ..
على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة، وبكل تضامنها وتجمعها، وبكل تجاربها وخبرتها، تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلا! ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهدا كبيرا .. ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا .. وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض .. ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات(1/51)
الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية! ومن تبديل الدين باسم الدين! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا. ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية .. الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام، من الكيد للإسلام! .. «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ» ..
«وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه اللّه. استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام - ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة - إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور .. هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضا ملتبسا في الأفهام.
ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على اللّه فوصفوها بأنها من شرع اللّه: «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» .. «إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» ..
يعلم حقائق الأحوال، ويتصرف فيها بحكمة، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال.
وإن الإنسان ليعجب، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات .. يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع اللّه ونهجه، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط اللّه المستقيم. ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون. ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير .. نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها، والسير فيها بلا ضابط، سوى الوهم والهوى والتقليد. وأمامهم التوحيد البسيط الواضح يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ويطلق العقل البشري من عقال(1/52)
التقليد الأعمى ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ويطلق «الإنسان» من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين، وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة، وتصورا واضحا ميسرا مريحا، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة، وانطلاقا من العبودية للعبيد، وارتفاعا إلى مقام العبودية للّه وحده .. المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء! ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط اللّه المستقيم وتتردى في حمأة الجاهلية وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ - سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ - افْتِراءً عَلَى اللَّهِ - قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. خسروا الخسارة المطلقة. خسروا في الدنيا والآخرة. خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم. خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم. خسروا الكرامة التي جعلها اللّه لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد حين أسلموها لحاكمية العبيد! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة، خسروا الخسارة المؤكدة، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه: «قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ». (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1648](1/53)
القرآن الكريم يرفع الحرج عن الكلام على تصورات الجاهلية وفسادها
قال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]
إنه يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا، دونه صعاب جسام .. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور، وقيم وموازين، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس، ومن تصورات الجاهلية في العقول، ومن قيم الجاهلية في الحياة، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها، غريبة على البيئة، ثقيلة على النفوس مستنكرة في القلوب ..
كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار، والقيم والموازين، والشرائع والقوانين، والعادات والتقاليد، والأوضاع والارتباطات .. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل، الحرج الذي يدعو اللّه - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه وأن يمضي به ينذر ويذكر ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء ..
ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم، ويذكرهم بمصائر المكذبين، ويعرض عليهم مصارع الغابرين .. جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق: «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ. فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ. وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ(1/54)
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» (1) ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1686](1/55)
لا فرق بين تصورات الجاهلية القديمة والجاهلية المعاصرة
قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} سورة الأعراف آية:10
إن خالق الأرض وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض. هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش ..
هو الذي جعلها مقرا صالحا لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر، ودورتها حول الشمس، وميلها على محورها، وسرعة دورتها .. إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها.
وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا .. وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض، قادرا على تطويعها واستخدامها بما أودعه اللّه من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته ..
ولولا تمكين اللّه للإنسان في الأرض بهذا وذلك، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن «يقهر الطبيعة» كما يعبر أهل الجاهلية قديما وحديثا! ولا كان بقوته الذاتية قادرا على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة! إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة .. هي التي تصور الكون عدوا للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها «قهرا للطبيعة» في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني! إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة! لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلا! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه(1/56)
وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق .. إن اللّه هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعريف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته .. وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة اللّه الذي أحسن كل شيء خلقه.
ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة! وفي ظل هذا التصور يعيش «الإنسان» في كون مأنوس صديق وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة .. يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن اللّه في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معان على الخلافة ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ويشكر اللّه كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته وتيسر له قدرا جديدا من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعريف إلى نواميسه .. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة .. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه .. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله! إن مأساة «الوجودية» الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث .. تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكسا في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجها بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم .. وهما سواء ..
وهي ليست مأساة «الوجودية» وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها(1/57)
وبيئاتها. المأساة التي يضع الإسلام حدا لها بعقيدته الشاملة. التي تنشئ في الإدراك البشري تصورا صحيحا لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة.
إن «الإنسان» هو ابن هذه الأرض وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه اللّه من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته ..
ولكن الناس قليلا ما يشكرون .. ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون .. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة اللّه عليهم حقها من الشكر، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن اللّه يقبل منهم ما يطيقون: وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبار ين قوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ». (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 1707](1/58)
انحراف العقيدة يؤدي إلى انحراف السلوك
قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} (56) سورة النحل
إنهم يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام. لا يركبونها أو لا يذوقون لحومها. أو يبيحونها للذكور دون الإناث - كما أسلفنا في سورة الأنعام - باسم الآلهة المدعاة التي لا يعلمون عنها شيئا، إنما هي أوهام موروثة من الجاهلية الأولى. واللّه هو الذي رزقهم هذه النعمة التي يجعلون لما لا يعلمون نصيبا منها، فليست هي من رزق الآلهة المدعاة لهم ليردوها عليها، إنما هي من رزق اللّه، الذي يدعوهم إلى توحيده فيشركون به سواه!.
وهكذا تبدو المفارقة في تصورهم وفي تصرفهم على السواء .. الرزق كله من اللّه. واللّه يأمر ألا يعبد سواه فهم يخالفون عن أمره فيتخذون الآلهة. وهم يأخذون من رزقه فيجعلونه لما نهاهم عنه! وبهذا تتبدى المفارقة واضحة جاهرة عجيبة مستنكرة!.
وما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت، يجعلون نصيبا من رزق اللّه لهم موقوفا على ما يشبه آلهة الجاهلية. ما يزال بعضهم يطلق عجلا يسميه «عجل السيد البدوي» يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد، ولا ينتفع به أحد، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم اللّه! وما يزال بعضهم ينذرون للأولياء ذبائح يخرجونها من ذمتهم لا للّه، ولا باسم اللّه، ولكن باسم ذلك الولي، على ما كان أهل الجاهلية يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقهم اللّه. وهو حرام نذره على هذا الوجه. حرام لحمه. ولو سمي اسم اللّه عليه. لأنه أهلّ لغير اللّه به!.
«تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» بالقسم والتوكيد الشديد. فهو افتراء يحطم العقيدة من أساسها لأنه يحطم فكرة التوحيد.
وقال تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ - سُبْحانَهُ - وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» ..(1/59)
إن الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها.
فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة، سواء ظهرت أو كمنت. وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن للّه بنات - هن الملائكة - على حين أنهم كانوا يكرهون لأنفسهم ولادة البنات! فالبنات للّه أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور!.
وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة. ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات. إذ البنات لا يقاتلن ولا يكسبن، وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار، أو يعشن كلّا على أهليهن فيجلبن الفقر.
والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله. إذ الرزق بيد اللّه يرزق الجميع ولا يصيب أحدا إلا ما كتب له ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على اللّه، والأنثى - من حيث إنسانيتها - صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام.
ويرسم السياق صورة منكرة لعادات الجاهلية: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» مسودا من الهم والحزن والضيق، وهو كظيم، يكظم غيظه وغمه، كأنها بلية، والأنثى هبة اللّه له كالذكر، وما يملك أن يصور في الرحم أنثى ولا ذكرا، وما يملك أن ينفخ فيه حياة، وما يملك أن يجعل من النطفة الساذجة إنسانا سويا. وإن مجرد تصور الحياة نامية متطورة من نطفة إلى بشر - بإذن اللّه - ليكفي لاستقبال المولود - أيا كان جنسه - بالفرح والترحيب وحسن الاستقبال، لمعجزة اللّه التي تتكرر، فلا يبلي جدتها التكرار! فكيف يغتم من يبشر بالأنثى ويتوارى من القوم من سوء ما بشر به وهو لم يخلق ولم يصور. إنما كان أداة القدرة في حدوث المعجزة الباهرة؟.
وحكمة اللّه، وقاعدة الحياة، اقتضت أن تنشأ الحياة من زوجين ذكر وأنثى. فالأنثى أصيلة في نظام الحياة أصالة الذكر بل ربما كانت أشد أصالة لأنها المستقر. فكيف يغتم من يبشر بالأنثى، وكيف يتوارى من القوم من سوء ما يشربه ونظام الحياة لا يقوم إلا على وجود الزوجين دائما؟.(1/60)
إنه انحراف العقيدة ينشئ آثاره في انحراف المجتمع وتصوراته وتقاليده .. «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وما أسوأه من حكم وتقدير.
وهكذا تبدو قيمة العقيدة الإسلامية في تصحيح التصورات والأوضاع الاجتماعية.وتتجلى النظرة الكريمة القويمة التي بثها في النفوس والمجتمعات تجاه المرأة، بل تجاه الإنسان. فما كانت المرأة هي المغبونة وحدها في المجتمع الجاهلي الوثني إنما كانت «الإنسانية» في أخص معانيها. فالأنثى نفس إنسانية، إهانتها إهانة للعنصر الإنساني الكريم، ووأدها قتل للنفس البشرية، وإهدار لشطر الحياة ومصادمة لحكمة الخلق الأصيلة، التي اقتضت أن يكون الأحياء جميعا - لا الإنسان وحده - من ذكر وأنثى.
وكلما انحرفت المجتمعات عن العقيدة الصحيحة عادت تصورات الجاهلية تطل بقرونها .. وفي كثير من المجتمعات اليوم تعود تلك التصورات إلى الظهور. فالأنثى لا يرحب بمولدها كثير من الأوساط وكثير من الناس، ولا تعامل معاملة الذكر من العناية والاحترام. وهذه وثنية جاهلية في إحدى صورها، نشأت من الانحراف الذي أصاب العقيدة الإسلامية.
ومن عجب أن ينعق الناعقون بلمز العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية - في مسألة المرأة -،نتيجة لما يرونه في هذه المجتمعات المنحرفة ولا يكلف هؤلاء الناعقون اللامزون أنفسهم أن يراجعوا نظرة الإسلام، وما أحدثته من ثورة في التطورات والأوضاع. وفي المشاعر والضمائر. وهي بعد نظرة علوية لم تنشئها ضرورة واقعية ولا دعوة أرضية ولا مقتضيات اجتماعية أو اقتصادية. إنما أنشأتها العقيدة الإلهية الصادرة عن اللّه الذي كرم الإنسان، فاستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى، ووصفها بأنها شطر النفس البشرية، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على اللّه.
والفارق بين طبيعة النظرة الجاهلية والنظرة الإسلامية، هو الفارق بين صفة الذين لا يؤمنون بالآخرة وصفة اللّه سبحانه - وللّه المثل الأعلى -: «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ. وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ..(1/61)
وهنا تقترن قضية الشرك بقضية إنكار الآخرة، لأنهما ينبعان من معين واحد وانحراف واحد. ويختلطان في الضمير البشري، وينشئان آثارهما في النفس والحياة والمجتمع والأوضاع. فإذا ضرب مثل للذين لا يؤمنون بالآخرة فهو مثل السوء. السوء المطلق في كل شيء: في الشعور والسلوك، في الاعتقاد والعمل. في التصور والتعامل، في الأرض والسماء .. «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى» الذي لا يقارن ولا يوازن بينه وبين أحد، بله الذين لا يؤمنون بالآخرة هؤلاء .. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ذو المنعة وذو الحكمة الذي يتحكم ليضع كل شيء موضعه، ويحكم ليقر كل شيء في مكانه بالحق والحكمة والصواب.
وإنه لقادر أن يأخذ الناس بظلمهم الذي يقع منهم ولو فعل لدمرها عليهم تدميرا ولكن حكمته اقتضت أن يؤخرهم إلى أجل. وهو العزيز الحكيم: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
واللّه خلق هذا الخلق - البشري - وأنعم عليه بآلائه. وهو وحده الذي يفسد في الأرض ويظلم، وينحرف عن اللّه ويشرك ويطغى بعضه على بعض، ويؤذي سواه من الخلق .. واللّه بعد هذا كله يحلم عليه ويرأف به، ويمهله وإن كان لا يهمله. فهي الحكمة تصاحب القوة، وهي الرحمة تصاحب العدل. ولكن الناس يغترون بالإمهال، فلا تستشعر قلوبهم رحمة اللّه وحكمته، حتى يأخذهم عدله وقوته. عند الأجل المسمى الذي ضربه اللّه لحكمة، وأمهلهم إليه لرحمة. «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».
وأعجب ما في الأمر أن المشركين، يجعلون للّه ما يكرهون من البنات وغير البنات، ثم يزعمون كاذبين أن سينالهم الخير والإحسان جزاء على ما يجعلون ويزعمون! والقرآن يقرر ما ينتظرهم وهو غير ما يزعمون: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى.لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ».
والتعبير يجعل ألسنتهم ذاتها كأنها الكذب ذاته، أو كأنها صورة له، تحكيه وتصفه بذاتها. كما تقول قوامه يصف الرشاقة وعينه تصف الحور. لأن ذلك القوام بذاته تعبير عن الرشاقة مفصح عنها، ولأن هذه العين بذاتها تعبير عن الحور مفصح عنه. كذلك قال: تصف ألسنتهم(1/62)
الكذب، فهي بذاتها تعبير عن الكذب مفصح عنه مصور له، لطول ما قالت الكذب وعبرت عنه حتى صارت رمزا عليه ودلالة له!.
وقولهم: أن لهم الحسنى، وهم يجعلون للّه ما يكرهون هو ذلك الكذب الذي تصفه ألسنتهم أما الحقيقة التي يجبههم بها النص قبل أن تكمل الآية، فهي أن لهم النار دون شك ولا ريب، وعن استحقاق وجدارة: «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ» وأنهم معجلون إليها غير مؤخرين عنها: «وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» والفرط هو ما يسبق، والمفرط ما يقدم ليسبق فلا يؤجل. (1)
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 2828](1/63)
المرأة بين عفاف الإسلام ورجس الجاهلية
قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} [الأحزاب: 32 - 34]
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي - كغيره من المجتمعات في ذلك الحين - ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع، وإشباع الغريزة. ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة.
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية. ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة.
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس وانحطاط الذوق الجمالي والاحتفال بالجسديات العارمة، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف .. يبدو هذا في أشعار الجاهلين حول جسد المرأة، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه، وإلى أغلظ معانيه! فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد، وإطفاء لفورة اللحم والدم، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة، بينهما مودة ورحمة، وفي اتصالهما سكن وراحة ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة اللّه في خلق الإنسان، وعمارة الأرض، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة اللّه.
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات.(1/64)
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن. وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي، وبالنظافة في علاقات الجنسين، وصيانتها من كل تبذل، وتصفيتها من عرامة الشهوة، حتى في العلاقات الجسدية المحضة.
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا. وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس، وفي خاصة أنفسهن، وفي علاقتهن باللّه. توجيه يقول لهن اللّه فيه: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ - أَهْلَ الْبَيْتِ - وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس، ووسائل التطهر، التي يحدثهن اللّه - سبحانه - عنها، ويأخذهن بها. وهن أهل البيت، وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطهر من عرفت الأرض من النساء. ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبيته الرفيع.
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن، ورفيع مقامهن، وفضلهن على النساء كافة، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين. على أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ» .. لستن كأحد من النساء إن اتقيتن .. فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد، ولا تشاركن فيه أحدا. ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى. فليست المسألة مجرد قرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن.
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين والذي يقرره رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته، فإنه لا يملك لهم من اللّه شيئا فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ «يَا بَنِى كَعْبِ بْنِ لُؤَىٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ(1/65)
أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِى نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ فَإِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا». (1).
وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:] جَمَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا، فقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ، قَالَ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -،أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا، إِلاَّ أَنَّ لَكِ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا. (2)
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها، وهو التقوى، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد اللّه أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا: «فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» .. ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم!
ومن هن اللواتي يحذرهن اللّه هذا التحذير إنهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة. وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار ..
ولكن اللّه الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب. وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
__________
(1) -صحيح مسلم- المكنز [2/ 124] (522) -أبل: أصل
(2) -صحيح ابن حبان [2/ 412] (646) صحيح(1/66)
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه. في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث. وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد اللّه أن يذهبه عن عباده المختارين؟! «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» ..
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.
واللّه سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات. كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق! «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» ..
من وقر. يقر. أي ثقل واستقر. وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا. إنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر وما عداه استثناء طارئا لا يثقلن فيه ولا يستقررن. إنما هي الحاجة تقضى، وبقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها اللّه تعالى. غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها اللّه لها بالفطرة.
«ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها، أوجب على الرجل النفقة، وجعلها فريضة، كي يتاح للأم من الجهد، ومن الوقت، ومن هدوء البال، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب، وما تهيئ به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها. فالأم المكدودة بالعمل للكسب، المرهقة بمقتضيات العمل، المقيدة بمواعيده، المستغرقة الطاقة فيه .. لا يمكن(1/67)
أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها. وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والخانات وما يشيع فيها ذلك الأرج الذي يشيع في البيت. فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلقها امرأة، وأرج البيت لا يفوح إلا أن تطلقه زوجة، وحنان البيت لا يشيع إلا أن تتولاه أم. والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.
«وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة. أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول، في عصور الانتكاس والشرور والضلال (1)
فأما خروج المرأة لغير العمل. خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي. والتسكع في النوادي والمجتمعات.
فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان!
ولقد كان النساء على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعا من هذا. ولكنه كان زمان فيه عفة، وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج إلى الصلاة متلفعة لا يعرفها أحد، ولا يبرز من مفاتنها شيء. ومع هذا فقد كرهت عائشة لهن أن يخرجن بعد وفاة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -! فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ كُنَّ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَرْجِعْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّ نِسَاءُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ ثُمَّ يَرْجِعْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفْنَ (3).
وفي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِى إِسْرَائِيلَ.قُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَ مُنِعْنَ قَالَتْ نَعَمْ " (4)
__________
(1) -عن كتاب: «السلام العالمي والإسلام» فصل: «سلام البيت» ص 54 - 55 «دار الشروق».
(2) -صحيح مسلم- المكنز [4/ 262] (1489) -المروط: جمع المرط وهو الكساء من صوف وغيره
(3) -سنن الدارمى- المكنز [3/ 462] (1263) صحيح
(4) -صحيح البخارى- المكنز [3/ 457] (869)(1/68)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا قَالَتْ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِى إِسْرَائِيلَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ أَوَمُنِعَ نِسَاءُ بَنِى إِسْرَائِيلَ الْمَسَاجِدَ قَالَتْ نَعَمْ. (1)
فما ذا أحدث النساء في حياة عائشة - رضي اللّه عنها -؟ وماذا كان يمكن أن يحدثن حتى ترى أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان مانعهن من الصلاة؟! ماذا بالقياس إلى ما نراه في هذه الأيام؟!
«وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى» .. ذلك حين الاضطرار إلى الخروج، بعد الأمر بالقرار في البيوت. ولقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج.
ولكن جميع الصور التي تروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة! قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
وقال قتادة: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} يقول: إذا خرجتن من بيوتكن -وكانت لهن مشية وتكسر وتغنُّج -فنهى الله عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} والتبرج: أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج (2).
قال ابن كثير:" وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني: المقانع يعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء، لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [
__________
(1) -موطأ مالك- المكنز [2/ 115] (472) صحيح
(2) -تفسير ابن كثير-دار طيبة [6/ 410](1/69)
الأحزاب:59].وقال في هذه الآية الكريمة: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخُمُر: جمع خِمار، وهو ما يُخَمر به، أي: يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع." (1)
هذه هي صور التبرج في الجاهلية التي عالجها القرآن الكريم. ليطهر المجتمع الإسلامي من آثارها ويبعد عنه عوامل الفتنة، ودواعي الغواية ويرفع آدابه وتصوراته ومشاعره وذوقه كذلك! ونقول: ذوقه .. فالذوق الإنساني الذي يعجب بمفاتن الجسد العاري ذوق بدائي غليظ. وهو من غير شك أخط من الذوق الذي يعجب بجمال الحشمة الهادئ، وما يشي به من جمال الروح، وجمال العفة، وجمال المشاعر.
وهذا المقياس لا يخطئ في معرفة ارتفاع المستوي الإنساني وتقدمه. فالحشمة جميلة جمالا حقيقيا رفيعا.
ولكن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الجاهلي الغليظ، الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر!
ويشير النص القرآني إلى تبرج الجاهلية، فيوحي بأن هذا التبرج من مخلفات الجاهلية. التي يرتفع عنها من تجاوز عصر الجاهلية، وارتفعت تصوراته ومثله ومشاعره عن تصورات الجاهلية ومثلها ومشاعرها.
والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان! وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين. وندرك أنه لا طهارة ولا زكاة ولا بركة في مجتمع يحيا هذه الحياة ولا يأخذ بوسائل التطهر والنظافة التي جعلها اللّه سبيل البشرية إلى التطهر من الرجس، والتخلص من الجاهلية الأولى وأخذ بها، أول من أخذ، أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على طهارته ووضاءته ونظافته.
__________
(1) -تفسير ابن كثير-دار طيبة [6/ 46](1/70)
والقرآن الكريم يوجه نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تلك الوسائل ثم يربط قلوبهن باللّه، ويرفع أبصارهن إلى الأفق الوضيء الذي يستمددن منه النور، والعون على التدرج في مراقي ذلك الأفق الوضيء: «وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وعبادة اللّه ليست بمعزل عن السلوك الاجتماعي أو الأخلاقي في الحياة إنما هي الطريق للارتفاع إلى ذلك المستوي والزاد الذي يقطع به السالك الطريق. فلا بد من صلة باللّه يأتي منها المدد والزاد. ولا بد من صلة باللّه تطهر القلب وتزكيه. ولا بد من صلة باللّه يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة. وأنه حري أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى الجاهلية التي تغرق فيها الحياة، كلما انحرفت عن طريق اللّه.
والإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم .. كلها في نطاق العقيدة. ولكل منها دور تؤديه في تحقيق هذه العقيدة وتتناسق كلها في اتجاه واحد ومن هذا التجمع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدين. وبدونهما لا يقوم هذا الكيان.
ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة اللّه ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الشعورية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكريم. لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة .. وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ..
وفي التعبير إيحاءات كثيرة، كلها رفاف، رفيق، حنون .. فهو يسميهم «أَهْلَ الْبَيْتِ» بدون وصف للبيت ولا إضافة. كأنما هذا البيت هو «الْبَيْتِ» الواحد في هذا العالم، المستحق لهذه الصفة. فإذا قيل «الْبَيْتِ» فقد عرف وحدد ووصف. ومثل هذا قيل عن الكعبة. بيت اللّه. فسميت البيت. والبيت الحرام. فالتعبير عن بيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كذلك تكريم وتشريف واختصاص عظيم.
وهو يقول: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ - أَهْلَ الْبَيْتِ - وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .. وفي العبارة تلطف ببيان علة التكليف وغايته. تلطف يشي بأن اللّه سبحانه - يشعرهم بأنه بذاته العلية - يتولى تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم. وهي رعاية علوية مباشرة بأهل(1/71)
هذا البيت. وحين نتصور من هو القائل - سبحانه وتعالى - رب هذا الكون. الذي قال للكون: كن. فكان. اللّه ذو الجلال والإكرام. المهيمن العزيز الجبار المتكبر .. حين نتصور من هو القائل - جل وعلا - ندرك مدى هذا التكريم العظيم.
وهو - سبحانه - يقول هذا في كتابه الذي يتلى في الملأ الأعلى، ويتلى في هذه الأرض، في كل بقعة وفي كل أوان وتتعبد به ملايين القلوب، وتتحرك به ملايين الشفاه.
وأخيرا فإنه يجعل تلك الأوامر والتوجيهات وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت. فالتطهير من التطهر، وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم، ويحققونها في واقع الحياة العملي. وهذا هو طريق الإسلام ..
شعور وتقوى في الضمير. وسلوك وعمل في الحياة. يتم بهما معا تمام الإسلام، وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.
ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما بدأها به .. بتذكيرهن بعلو مكانتهن، وامتيازهن على النساء، بمكانهن من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وبما أنعم اللّه عليهن فجعل بيوتهن مهبط القرآن ومنزل الحكمة، ومشرق النور والهدى والإيمان: «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» .. وإنه لحظ عظيم يكفي التذكير به، لتحس النفس جلالة قدره، ولطيف صنع اللّه فيه، وجزالة النعمة التي لا يعدلها نعيم.
وهذا التذكير يجيء كذلك في ختام الخطاب الذي بدأ بتخيير نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين متاع الحياة الدنيا وزينتها، وإيثار اللّه ورسوله والدار الآخرة. فتبدو جزالة النعمة التي ميزهن اللّه بها وضآلة الحياة الدنيا بمتاعها كله وزينتها (1) ..
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 3616](1/72)
تحريم التخلي عن أي مبدأ من مبادئ الإسلام أمام وطأة الجاهلية
قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 8، 9]
فهي المساومة إذن، والالتقاء في منتصف الطريق. كما يفعلون في التجارة. وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير!
فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها لأن الصغير منها كالكبير. بل ليس في العقيدة صغير وكبير. إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء. لا يطيع فيها صاحبها أحدا، ولا يتخلى عن شيء منها أبدا. وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق. وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان. جاهلية الأمس وجاهلية اليوم، وجاهلية الغد كلها سواء. إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر، ولا تقام عليها قنطرة، ولا تقبل قسمة ولا صلة. وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق!
ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليدهن لهم ويلين ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول! ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حاسما في موقفه من دينه، لا يدهن فيه ولا يلين. وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين! وهو فيه عند توجيه ربه: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ»! ولم يساوم - صلى الله عليه وسلم - في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة. وهو محاصر بدعوته.
وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في اللّه أشد الإيذاء وهم صابرون. ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين، تأليفا لقلوبهم، أو دفعا لأذاهم. ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد ..
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بَهْ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا؛ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ إلّا مَنْ عَصَمَ اللّه تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ(1/73)
قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّه - صلى الله عليه وسلم - عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ وَمَضَى رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَمْرِ اللّهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدّهُ عَنْهُ شَيْءٌ.فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ.وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ.قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ.قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ وَاسْمُهُ الْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْبَخْتَرِيّ الْعَاصِ بْنُ هَاشِمٍ. [ص 265] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.وَأَبُو جَهْلٍ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الْحَكَمِ - بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هَصِيص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ.فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفّهُ أَحْلَامَنَا، وَضَلّلَ آبَاءَنَا؛ فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ عَنّا، وَإِمّا أَنّ تُخِلّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّك عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدّهُمْ رَدّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
وَمَضَى رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهَا، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا، وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ(1/74)
فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلِكَ أَحَدُ قَالُوا لَهُ. (ثُمّ) انْصَرَفُوا عَنْهُ فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ قَالَ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ بَدَاءٌ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ.قَالَ فَقَالَ رَسُول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يَا عَمّ، وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَدًا (1).
وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا.فَقَالَ: يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِمُحَمَّدٍ، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ أَوْ قَالَ: مِنْ حِفْشٍ يَقُولُ: بَيْتٌ صَغِيرٌ فَجَاءَ بِهِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ قَدْ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:" أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ " قَالُوا: نَعَمْ , قَالَ:" فَمَا أَنَا بِأَقْدَرِ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً " فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَّبْتَ ابْنَ أَخِي قَطُّ فَارْجِعُوا " (2)
وعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جاءُونِي فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ أَنَا
__________
(1) - سيرة ابن هشام [1/ 263] صحيح مرسل شري: زاد واشتد= تذامروا: تغيظوا وحض بعضهم بعضا عليه.
(2) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (494) حسن(1/75)
وَلَا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكِ مَا يَكْرَهُوَنَ مِنْ قَوْلِكَ، فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:" يَا عَمِّ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ " ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَى، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:يَا ابْنَ أَخِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:" امْضِ عَلَى أَمْرِكَ وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا " قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرٍ قَالَهُ حِينَ أَجْمَعَ لِذَلِكَ مِنْ نُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ قَوْمِهِ:
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَامْضِي لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ أَبْشِرْ وَقِرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيونَا
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحِي فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارِي سُبَّةً لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا " (1).
فهذه صورة من إصرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه. حاميه وكافيه، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه! هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها ... جديدة جدة هذه العقيدة، رائعة روعة هذه العقيدة، قوية قوة هذه العقيدة. فيها مصداق قول اللّه العظيم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».
وصورة أخرى رواها كذلك ابن اسحق، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعد إذ أعياهم أمره، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِي
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (495) حسن مرسل
استعبر: استفعل من العَبْرة، وهي تَحلُّب الدمع =الغضاضة: الذلة والمنقصة والعيب =البرية: الخَلْق(1/76)
الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيّهَا شَاءَ وَيَكُفّ عَنّا؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ قُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا.قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك عَلَيْنَا، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك، طَلَبْنَا لَك الطّبّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ غَلَبَ التّابِعُ عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ.حَتّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاسْمَعْ مِنّي؛ قَالَ أَفْعَلُ فَقَالَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ.فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ.فَلَمّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ وَرَائِي أَنّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت مِثْلَهُ قَطّ، وَاَللّهِ مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ فَوَاَللّهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ(1/77)
بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزّهُ عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا: سَحَرَك وَاَللّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ (1).
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» .. فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنشدك اللّه والرحم يا محمد! وذلك مخافة أن يقع النذير. وقام إلى القوم فقال ما قال! (2)
وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة. وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم. تبدو في أدبه - صلى الله عليه وسلم - وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - في تصوره لقيم هذا الكون، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض. ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر، حتى يفرغ الرجل من مقالته، وهو مقبل عليه. ثم يقول في هدوء: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» زيادة في الإملاء والتوكيد. إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث .. وهما معا بعض دلالة الخلق العظيم.
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال: اعْتَرَضَ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ - فِيمَا بَلَغَنِي - الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نَعْبُدُ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظّنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا تَعْبُدُ كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك مِنْهُ.فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أَيْ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ إلّا اللّهَ إلّا أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا، وَلِي دِينِي ". (3)
__________
(1) - سيرة ابن هشام [1/ 292] حسن مرسل
(2) - هي بمعنى التي قبلها ولم أجدها
(3) - سيرة ابن هشام [1/ 362] بلا سند(1/78)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثني سَعِيدُ بْنُ مِينَا مَوْلَى الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ:" لَقِيَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، وَنُشْرِكْكَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمَّا بِأَيْدِينَا كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ، وَأَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا مِمَّا فِي يَدَيْكَ، كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنَا فِي أَمْرِنَا، وَأَخَذْتَ مِنْهُ بِحَظِّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ حَتَّى انْقَضَتِ السُّورَةُ " (1)
وحسم اللّه المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. وقال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أمره ربه أن يقول. (2)
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (35481) صحيح مرسل - زيادة مني
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4551](1/79)
الفرق بين عبادة الإله الواحد وبين عبادة غيره
التعبد لإله واحد، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد، فلا يذل لأحد، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار .. ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان. الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود. إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد. فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد.
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه، وكل ما يربطه باللّه، أو بالوجود، أو بالناس. فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة، وتحل محلهما الشريعة والعدالة.
وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .. ولو كان فردا واحدا، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من اللّه مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام (1).
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد، وبلا وساطة في الطريق. ويودع القلب نورا، والروح طمأنينة، والنفس أنسا وثقة. وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء! والاستقامة على المنهج الذي يريده اللّه. فلا يكون الخير فلتة عارضة، ولا نزوة طارئة، ولا حادثة منقطعة.
إنما ينبعث عن دوافع، ويتجه إلى هدف، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في اللّه، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح، والراية الواحدة المتميزة. كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين.
__________
(1) - يراجع تفسير سورة «عَبَسَ وَتَوَلَّى» في هذا الجزء ص 3821.(1/80)
والاعتقاد بكرامة الإنسان على اللّه، يرفع من اعتباره في نظر نفسه، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه اللّه إليها. وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه .. أنه كريم عند اللّه .. وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه، ويرده إلى منبت حقير، ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى .. هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة! ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع، ليس فيه ما يستغرب، ومن ثم ليس فيه ما يخجل .. وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء! (1)
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على اللّه. ثم برقابة اللّه على الضمائر واطلاعه على السرائر. وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره. والمؤمن يحس وقع نظر اللّه - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز. فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه! والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم، يكره الشر ويحب الخير. ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية، ومن رزانة وتدبر. وهي ليست تبعة فردية فحسب، إنما هي كذلك تبعة جماعية، وتبعة تجاه الخير في ذاته، وإزاء البشرية جميعا .. أمام اللّه .. وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله، فيكبر في عين نفسه، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله .. إنه كائن له قيمة في الوجود، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود .. والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند اللّه، وهو خير وأبقى. «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» .. والتنافس على ما عند اللّه يرفع ويطهر وينظف .. يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن .. بين الدنيا
__________
(1) - يراجع كتاب: الإنسان بين المادية والإسلام (لمحمد قطب) «دار الشروق».(1/81)
والآخرة، والأرض والملأ الأعلى. مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة. فهو يفعل الخير لأنه الخير، ولأن اللّه يريده، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود. فاللّه الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى، ولا يغفل شيئا من عمله. والأرض ليست دار جزاء. والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف. ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب. وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا، لا دفعة طارئة، ولا فلتة مقطوعة. وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر. سواء تمثل في طغيان طاغية، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته. هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا (1).
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته، صائر إلى ذبول وجفاف. وإلا فهي ثمرة شيطانية، وليس لها امتداد أو دوام! وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة. وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء، ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات ..
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون، وتنسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم، ولها هدف مرسوم .. ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشد إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج. والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة .. جاء في سورة إبراهيم: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ. لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ» .. وجاء في سورة النور:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» .. وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله، ما لم يستند إلى الإيمان، الذي يجعل له
__________
(1) - يراجع تفسير سورة البروج في هذا الجزء ص 3871.(1/82)
دافعا موصولا بمصدر الوجود، وهدفا متناسقا مع غاية الوجود. وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى اللّه. فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه (1).
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني، وتناسقه مع فطرة الكون كله، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله. فهو يعيش في هذا الكون، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب. ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق. فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل، كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى، وهو هذا الكيان الإنساني. وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران. ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح.
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية .. خاسرة أي خسران! والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب. فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة. ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح .. هذا هو الإيمان الإسلامي .. لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك، كامنا لا يتبدى في صورة حية
__________
(1) - جاء في تفسير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .. «وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة،ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما،لا أصل له» .. وها نحن أولاء نرى أن المسألة لم تجىء من إجماع،ولكن من نصوص قرآنية صريحة هي أصل بذاتها.
قلت: لم يرد استثناء بذلك إلا لأبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -،فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ،كَمَا يَغْلِى الْمِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ» صحيح البخارى- المكنز [21/ 466] (6562).
الأخمص: باطن القدم الذى يتجافى عن الأرض عند الوطء =المرجل: القِدر من النحاس أو الحجارة =القمقم: ما يسخن فيه من نحاس وغيره
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِى مِنْهُمَا دِمَاغُهُ».صحيح مسلم- المكنز [2/ 141] (537)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِى دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ».صحيح مسلم- المكنز [2/ 140] (536)(1/83)
خارج ذات المؤمن .. فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت. شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها. فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا. وإلا فهو غير موجود! ومن هنا قيمة الإيمان .. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير .. يتجه إلى اللّه .. إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة. وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني. وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود. صادرة عن تدبير، متجهة إلى غاية. وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود. الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن اللّه.
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة. الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها. والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى. فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة. الأمة الخيرة. الواعية. القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير .. وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة .. وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام .. هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن.
والتواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير. والمعوقات عن الحق كثيرة:هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين .. والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة. فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معا فتتضاعف. تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله .. وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال.(1/84)
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة. فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بد من الصبر. لا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية! والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار .. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها، ولا تبرز إلا من خلالها .. وإلا فهو الخسران والضياع.
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء. يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه اللّه عليها مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض .. هذا والمسلمون - أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير، وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره اللّه لهم، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع. والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها اللّه، راية الإيمان، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله. لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء. حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة للّه، لا شريك له، المسماة باسم اللّه لا شريك له، الموسومة بميسم اللّه لا شريك له .. الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم: «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» .. عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله، وتحت عنوان «عهد القيادة الإسلامية»: «الأئمة المسلمون وخصائصهم»: «ظهر المسلمون، وتزعموا العالم، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها، وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا(1/85)
عادلا، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
«أولا:أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم. لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء، وقد جعل اللّه لهم نورا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها؟» وقد قال اللّه تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ».
ثانيا:- أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر، بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق، يزكيهم ويؤدبهم، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية اللّه، وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها. عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِى عَمِّى فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ «إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّى عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ». (1).
ولا يزال يقرع سمعهم: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .. فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب، فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة، ويزكوا أنفسهم، وينشروا دعاية لها، وينفقوا الأموال سعيا وراءها. فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد بل عدوه أمانة في عنقهم، وامتحانا من اللّه ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم، ومسؤولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائما قول اللّه تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز [12/ 200] (4821)(1/86)
تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» .. وقوله. «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ».
«ثالثا:أنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم. ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة اللّه وحده. كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:فقال:""اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ. قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ. فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا. فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ "" (1).
فالأمم عندهم سواء، والناس عندهم سواء. الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ».
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا:خذها من ابن الأكرمين. فاقتص منه عمر -:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم (2)؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم
__________
(1) - أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - (1/ 373) والمنتظم - (1/ 475) والبداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (7/ 46) وتاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 268)
(2) - القصة بتمامها في تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي.(1/87)
يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها. في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد، بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين ..
«رابعا:إن الإنسان جسم وروح، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها، ويتغذى غذاء صالحا، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني. وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة» .. إلى أن يقول تحت عنوان: «دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة»: «وكذلك كان، فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل. وفي ظهور المدنية الصالحة .. كانت حكومة من أكبر حكومات العالم، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها، تسود فيها المثل الخلقية العليا، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة، فتقل الجنايات، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها، وتحسن علاقد الفرد بالفرد، والفرد بالجماعة، وعلاقة الجماعة بالفرد. وهو دور كما لي لم يحلم الإنسان بأرقى منه، ولم يفترض المفترضون أزهى منه .. ».(1/88)
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع «سورة العصر» قواعده، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة. ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة. وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار. وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة للّه. وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق. وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية اللّه ما تزال. وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح.
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض. وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير. وهناك. هناك الربح الحق والخسر الحق. هناك في الأمد الطويل، وفي الحياة الباقية، وفي عالم الحقيقة .. هناك الربح والخسر:ربح الجنة والرضوان، أو خسر الجنة والرضوان. هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له، أو يرتكس فتهدر آدميته، وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة:يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ:يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» ..
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق .. إنه الخسر .. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .. طريق واحد لا يتعدد. طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر. وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر.(1/89)
إنه طريق واحد. عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ" (1) ..
لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي، يتعاهدان على الإيمان والصلاح، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور. ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور .. (2)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني [20/ 70] (1366) صحيح
(2) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 4915](1/90)
الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ. إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر.
وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء. ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم، يأخذ البشر عن بشر مثلهم: التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها. الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر، حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون اللّه.
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر. لأنهم يتلقون التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد، من يد اللّه - سبحانه - فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها للّه وحده، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون اللّه وحده، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون للّه وحده. ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد، حين يصبحون كلهم عبيدا للّه بلا شريك.
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية - في كل صورة من صورها - وبين الإسلام. وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب.
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم، كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي، وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة، وإما إبطال حالة قائمة .. وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .. ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا. وفي هذا تمكن المعجزة. فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها، هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية، في أي طور من أطوارها. والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة - أيا كان موقفها على الدرج الصاعد - ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة، التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى، يوم التقطها من ذلك السفح السحيق!(1/91)
ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي، من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها، وأن يثبتها في المجتمع الجديد ..
فماذا نحن واجدون - في هذه السورة - من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة، منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية؟ وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها! إننا نجد مجتمعا تؤكل فيه حقوق الأيتام - وبخاصة اليتمات - في حجور الأهل والأولياء والأوصياء، ويستبدل الخبيث منها بالطيب، ويعمل فيها بالإسراف والطمع، خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال، ليتخذهن الأولياء زوجات، طمعا في مالهن لا رغبة فيهن! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته! ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث. إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء، القادرون على حمل السلاح ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات.
وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات، هو الذي يحتجزن من أجله، ويحبسن على الأطفال من الذكور أو على الشيوخ من الأولياء. كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء! ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم، ويعاملها بالعسف والجور. في كل أدوار حياتها. يحرمها الميراث - كما قلنا - أو يحبسها لما ينالها منع، ويورّثها للرجل كما يورثه المتاع! فإذا مات زوجها جاء وليه، فألقي عليها ثوبه، فيعرف أنها محجوزة له. إن شاء نكحها بغير مهر، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها! ويعضلها زوجها إذا طلقها، فيدعها لا هي زوجة، ولا هي مطلقة، حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها! ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه، علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء، واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب، فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية. حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة.(1/92)
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية. وتغتصب فيه الحقوق. وتجحد فيه الأمانات.
وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح. ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء. كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس، اجتلابا للمفاخر، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء! وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب، وفيمن حولهم من الأمم»
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل. فقد كانت له فضائله، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى.
ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا، ووجهها الوجهة البناءة. وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل، مفرقة غير متجمعة، وضائعة غير موجهة. وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة، لولا هذا المنهج، الذي جعل يمحو ملامح الجاهلية الشائهة، وينشئ أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها، والتي اندثرت كلها، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة! من تلك الجاهلية، التي هذه بعض ملامحها، التقط الإسلام المجموعة التي قسم اللّه لها الخير، وقدّر أن يسلمها قيادة البشر، فكون منها الجماعة المسلمة، وأنشأ بها المجتمع المسلم. ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط، والتي ما تزال أملا للبشرية، يمكن أن تحاوله، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق. (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 557](1/93)
الجاهلية في كل العصور هي هي
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع! وقد علم اللّه ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات. تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة. فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة. ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات، فيعفيها نهائيا من العقوبة.
قوام وسط. يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات.
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الأرض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف، وتقسو على الضعاف.
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة. فكان يقول: «ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله. وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض» (1).
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه «منو» وهو القانون المعروف باسم «منوشاستر» أن البرهمي إن استحق القتل، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه. أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده ... إلخ (2)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِى سَرَقَتْ، فَقَالَ وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صل - صلى الله عليه وسلم -،فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ».ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ
__________
(1) - مدونة جوستنيان ترجمة عبد العزيز فهمي.
(2) - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - (1/ 70)(1/94)
تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (1).
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه وليأخذ الجاني بالعقوبة، مراعيا جميع اعتبارات «الواقع».وليجعل حد الأمة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان. فلا يترخص فيعفيها من العقوبة، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف. فهذا خلاف الواقع. ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة. ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف!!!
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب إفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية، وتغفر للأشراف «البيض» ما لا تغفره للضعاف «الملونين» والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت. والإسلام هو الإسلام .. حيث كان ..
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة. فمن استطاع الصبر - في غير مشقة ولا فتنة - فهو خير. لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
إن اللّه لا يريد أن يعنت عباده، ولا أن يشق عليهم. ولا أن يوقعهم في الفتنة. وإذا كان دينه الذي اختاره لهم، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية، وفي حدود طاقتهم الكامنة، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك .. ومن ثم فهو منهج ميسر، يلحظ الفطرة، ويعرف الحاجة، ويقدر الضرورة. كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط، ولا يقف أمامهم - وهم غارقون في الوحل - يبارك هبوطهم، ويمجد سقوطهم. أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء! وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج، وان تقوم عليهن البيوت، وأن ينجبن كرام الأبناء، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشئ، وأن يحفظن فراش الأزواج .. فأما إذا خشي العنت: عنت المشقة عند الصبر، وعنت الفتنة التي لا تقاوم، فهناك الرخصة، والمحاولة لرفع مستوى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3475)(1/95)
الإماء، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن. فهن «فتياتكم» وهم «أهلهن».والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان. واللّه أعلم بالإيمان. ولهن مهورهن فريضة. وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح .. وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة .. ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 629](1/96)
لا لقاء بين الإسلام والجاهلية
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ .. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى .. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق .. هذا، وإلا فما بلغ وما أدّى وما قام بواجب الرسالة .. واللّه يتولى حمايته وعصمته من الناس، ومن كان اللّه له عاصما فما ذا يملك له العباد المهازيل! إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم!
إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ولا تراعي مواقع الرغبات إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ ..
وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى .. وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة! «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ..
وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة .. والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق! إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة، لا يعني الخشونة والفظاظة فقد أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا(1/97)
تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق. فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه. والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة، وعدم اللقاء في منتصف الطرق في الحقيقة ذاتها. فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول ..
ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة، فكان مأمورا أن يقول: «يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ .. » فيصفهم بصفتهم ويفاصلهم في الأمر، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه، ولا يدهن فيدهنون، كما يودون! ولا يقول لهم: إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه، بل يقول لهم: إنهم على الباطل المحض، وإنه على الحق الكامل .. فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة ..
وهذا النداء، وهذا التكليف، في هذه السورة: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ..
يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه .. ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء .. ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان .. ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ .. ».
وحينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان .. بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه! حينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة، كانوا يتلون كتبهم وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية وكانوا يقولون: إنهم مؤمنون .. ولكن التبليغ الذي كلف رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم به، لم يعترف لهم بشيء أصلا مما كانوا يزعمون لأنفسهم، لأن(1/98)
«الدين»،ليس كلمات تقال باللسان وليس كتبا تقرأ وترتل وليس صفة تورث وتدعى. إنما الدين منهج حياة. منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج .. ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه، فقد كلف «الرسول» - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل!
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، مقتضاها الأول الدخول في دين اللّه الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أخذ اللّه عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه. وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر اللّه وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم: (سواء كان المقصود بقوله: «وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ» هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود) .. نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه .. فهم ليسوا على شي ء - بشهادة اللّه سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الأخير .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم وإلا فما بلغ رسالة ربه.
ويا له من تهديد! وكان اللّه - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة، وبهذه الكلمة الفاصلة، ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا، وعنادا ولجاجا .. ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بها وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والضلال والشرود بسبب مواجهتهم بها لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق. فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. وكان اللّه - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ويطلعه على حكمة اللّه في هذا المنهج ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا(1/99)
طغيانا وكفرا فهم يستحقون هذا المصير البائس لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ولا خير في أعماقها ولا صدق. فمن حكمة اللّه أن تواجه بكلمة الحق ليظهر ما كمن فيها وما بطن ولتجهر بالطغيان والكفر ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين!
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب - على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى ضوء نتائجه التي قدر اللّه أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا .. فماذا نجد .. ؟
نجد أن اللّه - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم .. وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان باللّه والنبي. في المواضع الأخرى المتعددة .. فهم إذن لم يعودوا على «دين اللّه» ولم يعودوا أهل «دين» يقبله اللّه.
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم اللّه أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا .. ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة. ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها! فإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب .. أهل دين .. يستطيع «المسلم» أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم حتى يعتبرهم المسلم «على شي ء» وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره اللّه: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» .. وكلمة اللّه باقية لا تغيرها الملابسات والظروف!
وإذا نحن اعتبرنا كلمة اللّه هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة، في هياجهم علينا، وفي اشتداد حربهم لنا، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه - كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله اللّه من الناس ..(1/100)
إن اللّه - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه. ولا يقبل منا هذا الاعتراف. ولا يغفر لنا هذا التناصر. ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه. لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ونختار في أمرنا غير ما يختار ونعترف بعقائد محرفة أنها «دين» إلهي، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي .. واللّه يقول: إنهم ليسوا على شي ء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم .. وهم لا يفعلون! والذين يقولون: إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء. ليسوا على شيء كذلك. فهذه كلمة اللّه عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء. والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب اللّه في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه. وأن دعواهم أنهم على دين، يردها عليهم رب الدين. فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ودعوتهم إلى «الإسلام» من جديد هي واجب «المسلم» الذي أقام كتاب اللّه في نفسه وفي حياته.
فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما، ولا تحقق إيمانا، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين اللّه، في أي ملة، وفي أي زمان! وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ويقيموا كتاب اللّه في حياتهم يملك «المسلم» أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين، عن «الدين» وعن «المتدينين» .. فأما قبل ذلك فهو عبث وهو تمييع، يقوم به خادع أو مخدوع! إن دين اللّه ليس راية ولا شعارا ولا وراثة!
إن دين اللّه حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء. تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة .. ولا يقوم دين اللّه إلا في هذا الكل المتكامل ولا يكون الناس على دين اللّه إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم .. وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير لا يقدم عليه «مسلم» نظيف الضمير! وعلى «المسلم» أن يجهر بهذه الحقيقة ويفاصل الناس كلهم على أساسها ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة. واللّه هو العاصم. واللّه لا يهدي القوم الكافرين ..
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن اللّه ولا يكون قد أقام الحجة للّه على الناس، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته، بلا مجاملة ولا(1/101)
مداهنة .. فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شي ء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه .. يدعوهم إلى نقلة بعيدة، ورحلة طويلة، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم .. فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه .. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ..
وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم .. حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات، وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه اللّه تبليغه! إن التلطف في دعوة الناس إلى اللّه، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها .. إن الحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة. أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة ..
ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية. وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض، وهم أصحاب كلمة مسموعة، في الشئون الدولية. وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة.
وينظر فيرى الذين يقولون: إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب اللّه المنزل إليهم .. فيتعاظمه الأمر، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شي ء! وأن يبين لهم «الدين» الحق! وليس هذا هو الطريق .. إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين اللّه الحق، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه لا تغيره كثرة الضلّال ولا ضخامة الباطل .. فالباطل ركام .. وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة: أنهم ليسوا على شيء .. كذلك ينبغي أن(1/102)
تستأنف .. وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وناداه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ - وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ». (1)
إن اللّه قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون .. ويا ويل من كان عدوه وليه! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء، بلا عون ولا نصير، ولا ولاية من اللّه: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» .. وإنها لحقيقة .. أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون كما أن اللّه هو ولي المؤمنين .. وهي حقيقة رهيبة، ولها نتائجها الخطيرة .. وهي تذكر هكذا مطلقة ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة فنرى كيف تكون ولاية الشيطان وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم .. وهذا نموذج منها: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» .. وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت اللّه الحرام - وفيهم النساء! - ثم يزعمون أن اللّه أمرهم بها. فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها! وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول: ما للدين وشؤون الحياة؟
وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون اللّه! إنما كانوا يفترون الفرية، ويشرعون الشريعة، ثم يقولون: اللّه أمرنا بها! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند اللّه .. ولكنها على كل حال أقل تبجحا ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون اللّه! واللّه - سبحانه - يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على اللّه وبتقرير طبيعة شرع اللّه وكراهته للفاحشة، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها: «قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟»:
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 941](1/103)
إن اللّه لا يأمر بالفحشاء إطلاقا - والفاحشة: كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة، فاللّه لا يأمر به. وكيف يأمر اللّه بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر اللّه ذاك؟ إن أوامر اللّه وشرائعه ليست بالادعاء. إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله.
وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول اللّه وشرعه. وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة اللّه، إلا أن يستند إلى كتاب اللّه وإلى تبليغ رسول اللّه. فالعلم المستيقن بكلام اللّه هو الذي يستند إليه من يقول في دين اللّه .. وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه، وهو يزعم أنه دين اللّه!! إن الجاهلية هي الجاهلية. وهي دائما تحتفظ بخصائصها الأصيلة. وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاما متشابها وتسود فيهم تصورات متشابهة، على تباعد الزمان والمكان .. وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول: شريعة اللّه! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أو امر الدين ونواهيه المنصوص عليها، وهو يقول: إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك، .. وحجته هي هواه!!! «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» .. وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن اللّه أمرهم بهذه الفاحشة، يبين لهم أن أمر اللّه يجري في اتجاه مضاد ..
لقد أمر اللّه بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز. وأمر بالاستقامة على منهج اللّه في العبادة والشعائر، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل المسألة فوضى، يقول فيها كل إنسان بهواه، ثم يزعم أنه من اللّه. وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له، والعبودية كاملة فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ، وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» ..
هذا ما أمر اللّه به، وهو يضاد ما هم عليه .. يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم، مع دعواهم أن اللّه أمرهم بها .. ويضاد العري والتكشف وقد امتن اللّه على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم وريشا يتجملون به كذلك .. ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم ..(1/104)
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ويلوّح لهم بالمعاد إلى اللّه بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء وبمشهدهم في العودة وهم فريقان: الفريق الذي اتبع أمر اللّه، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» ..
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية. نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» ..
وقد بدأوا الرحلة فريقين: آدم وزوجه. والشيطان وقبيله .. وكذلك سيعودون .. الطائعون سيعودون فريقا مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين باللّه المتبعين لأمر اللّه .. والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ اللّه منهم جهنم، بولائهم لإبليس وولايته لهم. وهم يحسبون أنهم مهتدون. (1)
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون!
ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة!
إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة. وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين .. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس .. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة، وفي ملامحها المميزة عن
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1280](1/105)
كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام .. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! ..
إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟ (1)
إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر .. ولا يلتقيان .. التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى اللّه وحده لا شريك له. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود. هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي اللّه، اللّه وحده بلا شريك. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس. غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية .. وهي تسير .. وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية. وضرورية للمدعوين ..
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها. وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف. أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا. ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد .. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة! إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام. والفارق بينهما بعيد. والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته. هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2034](1/106)
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصورا ومنهجا وعملا. الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق. والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام. لا ترقيع. ولا أنصاف حلول. ولا التقاء في منتصف الطريق .. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان!
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس. شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء. لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه. لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم. ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير! وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ».
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم .. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد «فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .. وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق، ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج .. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان، الدعوة بين الجاهلية. والتميز الكامل عن الجاهلية .. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .. وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته .. كلها من اللّه .. دون شريك .. كلها .. في كل نواحي الحياة والسلوك. وبغير هذه المفاصلة. سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع .. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة. إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح .. وهذا هو طريق الدعوة الأول: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [6/ 3992](1/107)
وجوب كفاح الجاهلية بكل الوسائل والسبل
لقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» كما ورد في سورة المؤمنون: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ... «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» .. وكرر هذا القول في سورة المعارج.
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنها في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث. لأن الإسلام دين واقعي، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة. وأن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير. بلا سلطة وبلا تشريع، وبلا منهج محدد، ودستور معلوم! ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب، وتطهرها وتزكيها. فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة معلومة.
وتحقق في الأرض منهج اللّه في صورة محددة، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير، إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة.
وكذلك كان كل دين جاء من عند اللّه. على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة، وبغير نظام، وبغير سلطان .. كلا! فالدين منهج للحياة. منهج واقعي عملي.
يدين الناس فيه للّه وحده، ويتلقون فيه من اللّه وحده. يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية. وتقوم على هذه الشرائع سلطة(1/108)
تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية. لتكون الدينونة للّه وحده، ويكون الدين كله للّه. أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس، وتضع لهم القيم والموازين، والشرائع والأنظمة. فالإله هو الذي يصنع هذا كله. وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس .. وما من دين من عند اللّه يسمح لبشر أن يكون إلها، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى، ويباشرها .. ومن ثم فإنه ما من دين من عند اللّه يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا، بلا شريعة عملية، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة!
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ، والعقوبة والتأديب. على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة، والتي عدلت فيما بعد، ثم استقرت على ذلك التعديل. كما أرادها اللّه.
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة. فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية، والانطلاق البهيمي، بلا ضابط من خلق أو قانون. واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر «الحرية الشخصية» لا يقف في وجهها إلا متعنت! ولا يخرج عليها إلا متزمت! ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم «الإنسانية» كلها، ولا يتسامحون في حريتهم «البهيمية» هذه! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها! وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها، وضوابط المجتمع ورقابته، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية، وعلى تمجيد هذه الشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري! كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها.(1/109)
وهي هي بعينها سمة كل جاهلية .. والذي يراجع أشعار امرئ القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في أشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية .. كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع، وتبذل المرأة، ومجون العشاق، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة، ويجدها تنبع من تصورات واحدة، وتتخذ لها شعارات متقاربة!
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والحضارة الفارسية قديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوربية وفي الحضارة الأمريكية كذلك، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية. الأمر الذي يفزع العقلاء هناك. وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر (1)!
مع أن هذه هي العاقبة، فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم «الإنسانية» كلها أحيانا، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم «البهيمية».ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني! وهو ليس انطلاقا، وليس حرية. إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة! بل هم أضل! فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال. فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد! أما الإنسان فقد تركه اللّه لعقله وضبط عقله بعقيدته. فمتى انطلق من العقيدة، ضعف عقله أمام الضغط، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه. ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس، إلا بعقيدة تمسك بالزمام، وسلطان يستمد من هذه العقيدة، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين
__________
(1) - يراجع كتاب «الحجاب» للسيد أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان.(1/110)
بالتأديب والعقوبة. وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام «الإنسان» الكريم على اللّه.
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية، تعيش بلا عقيدة، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية. وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها اللّه الحيوان! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها اللّه الإنسان! وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة. مهما بدا من متانة هذه الحضارة، وضخامة الأسس التي تقوم عليها. «فالإنسان» - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس. ومتى دمر الإنسان، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها، ولا على الإنتاج! وحين ندرك عمق هذه الحقيقة، ندرك جانبا من عظمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية «الإنسان» من التدمير كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل. كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها، وتسمية ذلك أحيانا «بالفن» وأحيانا «بالحرية» وأحيانا «بالتقدمية» .. وكل وسيلة من وسائل تدمير «الإنسان» ينبغي تسميتها باسمها .. جريمة .. كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة! ..
وهذا ما يصنعه الإسلام. والإسلام وحده بمنهجه الكامل المتكامل القويم (1).
__________
(1) - في ظلال القرآن للسيد قطب - ت- علي بن نايف الشحود [ص 928] ويراجع فصل: «سلام البيت» في كتاب: «السلام العالمي والإسلام». «دار الشروق».(1/111)
الجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون
لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولتتمثل فيه حاكمية اللّه وألوهيته. ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلا، محتويا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة. كما أنه تضمن أحكاما تفصيلية في المسائل التي يريد اللّه تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة .. وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير اللّه في شأن من شؤون الحياة .. هذا ما يقرره اللّه - سبحانه - عن كتابه. فمن شاء أن يقول: إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل .. ولكن ليقل معه .. إنه - والعياذ باللّه - كافر بهذا الدين، مكذب بقول رب العالمين! ثم إن هناك من حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير اللّه حكما في شأن من الشؤون أمرا مستنكرا غريبا ..
إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند اللّه، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» ..
ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة، يخاطب اللّه بها المشركين .. سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا - كما وقع من بعضهم ممن شرح اللّه صدره للإسلام - أو كتموها وجحدوها - كما وقع من بعضهم - فالأمر في الحالين واحد وهو إخبار اللّه سبحانه - وخبره هو الصدق - أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق .. فالحق محتواه كما أن الحق متلبس بتنزيله من اللّه ..
وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من اللّه بالحق. وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به، ومن هذا الحق الذي يحتويه. وما يزالون - من أجل علمهم بهذا كله - يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب، حربا لا تهدأ .. وأشد هذه الحرب وأنكاها، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر. وجعل غير اللّه حكما، حتى لا تقوم لكتاب اللّه قائمة، ولا(1/112)
يصبح لدين اللّه وجود. وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها للّه وحده يوم كانت تحكمها شريعة اللّه التي في كتابه ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب اللّه كتب أخرى، تستمد منها أوضاع المجتمع، وأصول التشريعات، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها كما يستشهد المسلم بكتاب اللّه وآياته! وأهل الكتاب - من صليبيين وصهيونيين - من وراء هذا كله ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة! وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله اللّه مفصّلا وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من اللّه بالحق، يلتفت إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من المؤمنين به يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» ..
وما شك رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا امترى. ولقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - عند ما نزل اللّه عليه: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» .. قال: «لا أشك، ولا أسأل».
ولكن هذا التوجيه وأمثاله وهذا التثبيت على الحق ونظائره تدل على ضخامة ما كان يلقاه - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود ورحمة اللّه - سبحانه - به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت ..
ويمضي السياق في هذا الاتجاه يقرر أن كلمة اللّه الفاصلة قد تمت وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق، بالغا ما بلغ كيدهم: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
لقد تمت كلمة اللّه - سبحانه - صدقا - فيما قال وقرر - وعدلا - فيما شرع وحكم - فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان. ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم، أو عادة أو تقليد .. ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه ..
«وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. الذي يسمع ما يقوله عباده، ويعلم ما وراءه، كما يعلم ما يصلح لهم، وما يصلحهم.(1/113)
وإلى جانب تقرير أن «الحق» هو ما تضمنه الكتاب الذي أنزله اللّه، يقرر أن ما يقرره البشر وما يرونه إن هو إلا اتباع الظن الذي لا يقين فيه واتباعه لا ينتهي إلا إلى الضلال. وأن البشر لا يقولون الحق ولا يشيرون به إلا إذا أخذوه من ذلك المصدر الوحيد المستيقن ويحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطيع الناس في شيء يشيرون به عليه من عند أنفسهم مهما بلغت كثرتهم فالجاهلية هي الجاهلية مهما كثر أتباعها الضالون: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» ..
ولقد كان أكثر من في الأرض - كما هو الحال اليوم بالضبط - من أهل الجاهلية .. لم يكونوا يجعلون اللّه هو الحكم في أمرهم كله، ولم يكونوا يجعلون شريعة اللّه التي في كتابه هي قانونهم كله. ولم يكونوا يستمدون تصوراتهم وأفكارهم، ومناهج تفكيرهم ومناهج حياتهم من هدى اللّه وتوجيهه .. ومن ثم كانوا - كما هو الحال اليوم - في ضلالة الجاهلية لا يملكون أن يشيروا برأي ولا بقول ولا بحكم يستند على الحق ويستمد منه ولا يقودون من يطيعهم ويتبعهم إلا إلى الضلال .. كانوا - كما هم اليوم - يتركون العلم المستيقن ويتبعون الظن والحدس .. والظن والحدس لا ينتهيان إلا إلى الضلال .. وكذلك حذر اللّه رسوله من طاعتهم واتباعهم كي لا يضلوا عن سبيل اللّه .. هكذا على وجه الإجمال. وإن كانت المناسبة الحاضرة حينذاك كانت هي مناسبة تحريم بعض الذبائح وتحليل بعضها كما سيجيء في السياق ..
ثم قرر أن الذي يحكم على العباد بأن هذا مهتد وهذا ضال هو اللّه وحده. لأن اللّه وحده هو الذي يعلم حقيقة العباد، وهو الذي يقرر ما هو الهدى وما هو الضلال: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» .. فلا بد من قاعدة للحكم على عقائد الناس وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ونشاطهم وأعمالهم. لا بد من قاعدة لتقرير ما هو الحق وما هو الباطل في هذا كله - كي لا يكون الأمر في هذه المقومات هو أمر هوى الناس المتقلب واصطلاحهم الذي لا يقوم على علم مستيقن .. ثم لا بد من جهة تضع الموازين لهذه المقومات، ويتلقى منها الناس حكمها على العباد والقيم سواء.(1/114)
واللّه - سبحانه - يقرر هنا أنه هو - وحده - صاحب الحق في وضع هذا الميزان. وصاحب الحق في وزن الناس به، وتقرير من هو المهتدي، ومن هو الضال.
إنه ليس «المجتمع» هو الذي يصدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة .. ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية، فتتغير قيمه وأحكامه .. حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي. وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البر جوازي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي .. ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات! الإسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره .. الإسلام يعين قيما ذاتية له يقررها اللّه - سبحانه - وهذه القيم تثبت مع تغير «أشكال» المجتمعات .. والمجتمع الذي يخرج عليها له اسمه في الاصطلاح الإسلامي .. إنه مجتمع غير إسلامي .. مجتمع جاهلي .. مجتمع مشرك باللّه، لأنه يدع لغير اللّه - من البشر - أن يصطلح على غير ما قرره اللّه من القيم والموازين والتصورات والأخلاق، والأنظمة والأوضاع .. وهذا هو التقسيم الوحيد الذي يعرفه الإسلام للمجتمعات وللقيم وللأخلاق .. إسلامي وغير إسلامي .. إسلامي وجاهلي .. بغض النظر عن الصور والأشكال!! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1195](1/115)
الجاهليات متشابهة
إن دين اللّه منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها للّه. وهذا هو معنى عبادة اللّه وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره .. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة اللّه وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة اللّه وقدره.
وعلى نفس المستوي يتمثل في الاعتقاد بربوبية اللّه لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده .. كلها حزمة واحدة .. غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير اللّه معه، أو من دونه!
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ..
وهنا نرى أن ديانة نوح .. أقدم الديانات .. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب .. وهكذا تتبين مفارقة منهج اللّه وتقريره في شأن العقيدة، ومناهج الخابطين في الظلام من «علماء الأديان» وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن.
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟
«قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»! كما قال مشركو العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم! وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعد ما يبلغ المسخ في الفطر! .. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى ما دام أن الميزان ليس هو ميزان اللّه الذي لا ينحرف ولا يميل.
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين يهدى اللّه؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول! .. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي(1/116)
تتمرغ الجاهلية فيه! وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟
إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما «رجعية» وتخلفا وجمودا وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما وتطهرهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه!
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه «جامد».ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته ..
إن الجاهلية هي الجاهلية .. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1308](1/117)
الجاهلية كلها رجس
إن الاعتقاد في اللّه الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه. وقد شاءت سنة اللّه أن يخلق البشر ذكرا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى .. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء .. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة اللّه في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية. من حمل ووضع ورضاعة. ومن نفقة وتربية وكفالة .. ثم لتكون كذلك ضمانا لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة اللّه التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في اللّه وحكمته ولطف تدبيره وتقديره.
ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج اللّه للحياة.
ويبدو انحراف الفطرة واضحا في قصة قوم لوط، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق اللّه فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ؟ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ - شَهْوَةً - مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» .. والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج اللّه الممثل في الفطرة السوية. والإسراف في الطاقة التي وهبهم اللّه إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب. فهي مجرد «شهوة» شاذة. لأن اللّه جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة اللّه الطبيعية. فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد الأخلاق .. ولا فرق في الحقيقة. فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد.(1/118)
إن التكوين العضوي للأنثى - كالتكوين النفسي - هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد «الشهوة».إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من اللّه ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوبا بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر - بالنسبة للذكر - فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة. وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن .. فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا. بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه. وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقدي والأخلاقي .. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى - كما في عالم البهائم! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء .. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: «السلوك الجنسي عند الرجال» و «السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي .. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، (1) ووصايا مؤتمرات المبشرين! (2)
__________
(1) - يراجع كتاب: «هل نحن مسلمون» وكتاب: «التطور والثبات في حياة البشرية» لمحمد قطب. «دار الشروق».
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1315](1/119)
بعض خصائص الجاهلية
لقد حكى القرآن عن يوسف عليه السلام استعمال كلمة «رب» بمدلولها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. واللّه رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه .. ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن - والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه -: «قالَ: ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟» ..
والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقررا الاتهام، ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير: «ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟».
ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير ما قالته النسوة ليوسف وما لمّحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائما هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!
وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار: «قُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ! ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ»! وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولو من مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1995](1/120)
الجاهلية عبر التاريخ
إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل اللّه الكرام، داعين بحقيقة واحدة، جاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد .. كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة وكلهم لا يدعو مع اللّه أحدا، ولا يتوكل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سندا إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في اللّه الواحد - إذن - ليس كما يزعم «علماء الدين المقارن» أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة اللّه الواحد وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد ...
إن الاعتقاد في اللّه الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك «العلماء»:إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين. حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت، بفعل توالي رسالات التوحيد وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ... لو قال أولئك «العلماء» قولا كهذا لساغ .. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند اللّه إنما كان اجتهادا من البشر، ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء .. ومن ذلك العداء القديم ومن هذه(1/121)
الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ويسمى مع ذلك «علما» ينخدع به الكثيرون!
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا «العلم» فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه، ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه، ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير.
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة، مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان، مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل! إنها حقيقة تستوقف النظر حقا! .. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان .. إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات ..
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ومن تأليه غير اللّه. أو من ربوبية غير اللّه - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى! ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد اللّه وتنحية الأرباب الزائفة، وإخلاص الدين للّه - أي إخلاص الدينونة للّه وإفراده سبحانه بالربوبية، أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص، يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد، ومن ناحية القيادة، ومن ناحية الولاء .. الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان ..(1/122)
وعند ما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له ..
فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام! إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر. فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة، أو تعدد الأرباب، ومن ثم يدين فيه العباد للعباد. والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد ..
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي، في أول الأمر وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده .. لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح، فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام .. ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! .. إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاحتياج ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد! وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! ..
إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات اللّه وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة .. «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» ..
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص.(1/123)
إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم، ويندمجوا في تجمعهم، ويذوبوا في هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم ..
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي، ولا أن يذوبوا فيه، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص .. هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي .. ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام .. ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي، لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه ..
وليس في ذلك اختيار .. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات .. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس للّه وحده وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار!
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى اللّه في جميع الأحوال. وهي أن تحقيق وعد اللّه لأوليائه بالنصر والتمكين والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم .. فذلك الفصل من اللّه لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته .. وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد اللّه بالنصر والتمكين .. وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى اللّه، وهم واعون مقدرون .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2100](1/124)
الشيطان يزين للإنسان أمور الجاهلية
المعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج اللّه والتزيين له فيما عداه. استدراجه إلى الخروج من عبادة اللّه - أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور، وشعيرة ونسك، وشريعة ونظام - فأما الذين يدينون له وحده - أي يعبدونه وحده - فليس للشيطان عليهم من سلطان .. «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» ..
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون وبين الاتجاه إلى جهنم التي وعد بها الغاوون، هو الدينونة للّه وحده - التي يعبر عنها في القرآن دائما بالعبادة - أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة.
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود اللّه سبحانه، ولا صفاته .. أي إنه لم يكن يلحد في اللّه من ناحية العقيدة! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة للّه .. وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين.
إن الدينونة للّه وحده هي مناط الإسلام. فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير اللّه في حكم من الأحكام. وسواء كان هذا الحكم خاصا بالاعتقاد والتصور. أو خاصا بالشعائر والمناسك. أو خاصا بالشرائع والقوانين. أو خاصا بالقيم والموازين ... فهو سواء .. الدينونة فيه للّه هي الإسلام. والدينونة فيه لغير اللّه هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان.
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع. فالدينونة للّه كل لا يتجزأ. وهي العبادة للّه في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء .. وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2145](1/125)
وجوب تعرية الجاهلية والتبرؤ منها
إن الصدع بحقيقة هذه العقيدة والجهر بكل مقوّماتها وكل مقتضياتها. ضرورة في الحركة بهذه الدعوة فالصدع القوي النافذ هو الذي يهز الفطرة الغافية ويوقظ المشاعر المتبلدة ويقيم الحجة على الناس «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أما التدسس الناعم بهذه العقيدة وجعلها عضين يعرض الداعية منها جانبا ويكتم جانبا، لأن هذا الجانب يثير الطواغيت أو يصد الجماهير! فهذا ليس من طبيعة الحركة الصحيحة بهذه العقيدة القوية.
والصدع بحقيقة هذه الحقيقة لا يعني الغلظة المنفرة، والخشونة وقلة الذوق والجلافة! كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني التدسس الناعم، وكتمان جانب من حقائق هذه العقيدة وإبداء جانب، وجعل القرآن عضين ..
لا هذا ولا تلك .. إنما هو البيان الكامل لكل حقائق هذه العقيدة في وضوح جلي، وفي حكمة كذلك في الخطاب ولطف ومودة ولين وتيسير.
" إن الإسلام تصور مستقل للوجود والحياة، تصور كامل ذو خصائص متميزة، ومن ثَمَّ ينبثق منه منهج ذاتي مستقل للحياة كلها، بكل مقوماتها وارتباطاتها، ويقوم عليه نظام ذو خصائص معينة.
هذا التصور يخالف مخالفة أساسية سائر التصورات الجاهلية قديماً وحديثاً. وقد يلتقي مع هذه التصورات في جزئيات عرضية جانبية، ولكن الأصول التي تنبثق منها هذه الجزئيات مختلفة عن سائر ما عرفته البشرية من نظائرها.
ووظيفة الإسلام الأولى هي أن ينشئ حياة إنسانية توافق هذا التصور، وتمثله في صورة واقعية، وأن يقيم في الأرض نظاماً يتبع المنهج الرباني الذي اختاره الله، وهو يخرج هذه الأمة المسلمة لتمثله وتقوم عليه، وهو - سبحانه - يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ... [آل عمران:110](1/126)
ويقول في صفة هذه الأمة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ... [الحج:41]
وليست وظيفة الإسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ولا في المستقبل .. فالجاهلية هي الجاهلية، الجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم والشرائع والقوانين والعادات والتقاليد والقيم والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي .. الإسلام وهو الإسلام، ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام!
الجاهلية هي عبودية الناس للناس: بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله، كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع .. !
والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقيهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم والتحرر من عبودية العبيد!
هذه الحقيقة المنبثقة من طبيعة الإسلام، وطبيعة دوره في الأرض، هي التي يجب أن نقدم بها الإسلام للناس: الذين يؤمنون به والذين لا يؤمنون به على السواء!
إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية.لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور .. فإما إسلام وإما جاهلية.وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه .. فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال.وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج.وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله، وإما الهوى .. والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .. [المائدة:49]
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .. [الشورى:15]
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .. [القصص:50](1/127)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} .. [الجاثية:18 - 19]
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .. [المائدة:50]
فهما أمران لا ثالث لهما.إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى.إما حكم الجاهلية.إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله .. وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو للمحال ..
وظيفة الإسلام إذن هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية، وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص، المستقل الملامح، الأَصيل الخصائص .. يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية واليسر.الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها، واليسر الذي ينشأ من التنسيق بين حركة البشرية، وتولي هذه القيادة منهجه الخاص، المستقل، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي أراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى.
فلننظر ماذا فعل ربعي بن عامر رضي الله عنه مع رستم،قال ابن كثير:" قَالُوا: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا آخَرَ بِطَلَبِهِ، وَهُوَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَهُ بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وَبَيْضَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي، فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ. فَقَالَ رُسْتُمُ: ائْذَنُوا لَهُ. فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا، فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ. قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى،(1/128)
وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ. فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ أَيَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا. فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ، وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ. فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أَدْنَاهُمْ عَلَى أَعْلَاهُمْ. فَاجْتَمَعَ رُسْتُمُ بِرُؤَسَاءِ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ تَمِيلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَتَدَعَ دِينَكَ لِهَذَا الْكَلْبِ! أَمَا تَرَى إِلَى ثِيَابِهِ؟! فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَنْظُرُوا إِلَى الثِّيَابِ، وَانْظُرُوا إِلَى الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالسِّيرَةِ، إِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَخِفُّونَ بِالثِّيَابِ وَالْمَأْكَلِ، وَيَصُونُونَ الْأَحْسَابَ.
ثُمَّ بَعَثُوا يَطْلُبُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رَجُلًا، فَبُعِثَ إِلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَتَكَلَّمَ نَحْوَ مَا قَالَ رِبْعِيٌّ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ طَوِيلٍ، قَالَ فِيهِ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ: إِنَّمَا مَثَلُكُمْ فِي دُخُولِكُمْ أَرْضَنَا كَمَثَلِ الذُّبَابِ رَأَى الْعَسَلَ فَقَالَ: مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟ فَلَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِ غَرِقَ فِيهِ، فَجَعَلَ يَطْلُبَ الْخَلَاصَ فَلَا يَجِدُهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَنْ يُخَلِّصُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟ وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ ثَعْلَبٍ ضَعِيفٍ دَخَلَ جُحْرًا فِي كَرْمٍ، فَلَمَّا رَآهُ صَاحِبُ الْكَرْمِ ضَعِيفًا رَحِمَهُ فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا سَمِنَ أَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا فَجَاءَ بِجَيْشِهِ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِغِلْمَانِهِ، فَذَهَبَ لِيَخْرُجَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسِمَنِهِ، فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَهَكَذَا تَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِنَا. ثُمَّ اسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ لَأَقْتُلَنَّكُمْ غَدًا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَتَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ رُسْتُمُ لِلْمُغِيرَةِ: قَدْ أَمَرْتُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ، وَلِأَمِيرِكُمْ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَكِسْوَةٍ وَمَرْكُوبٍ وَتَنْصَرِفُونَ عَنَّا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَبْعَدَ أَنْ أَوْهَنَّا مُلْكَكُمْ وَضَعَّفْنَا عِزَّكُمْ؟! وَلَنَا مُدَّةٌ نَحْوَ بِلَادِكُمْ، وَنَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْكُمْ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ، وَسَتَصِيرُونَ لَنَا عَبِيدًا عَلَى رَغْمِكُمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ اسْتَشَاطَ غَضَبًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: جَاءَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَمَعَهُ النَّاسُ. قَالَ: لَا أَدْرِي لَعَلَّنَا لَا نَزِيدُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، بَيْنَ ذَلِكَ،(1/129)
وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَدَ لَكُمْ وَلَا قُوَّةَ وَلَا سِلَاحَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ ارْجِعُوا. قَالَ: قُلْنَا: مَا نَحْنُ بِرَاجِعِينَ. فَكَانُوا يَضْحَكُونَ مِنْ نَبْلِنَا، وَيَقُولُونَ: دُوكْ دُوكْ. وَشَبَّهُونَا بِالْمَغَازِلِ. فَلَمَّا أَبَيْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ نَرْجِعَ. قَالُوا: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلًا مِنْكُمْ عَاقِلًا يُبَيِّنُ لَنَا مَا جَاءَ بِكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَا. فَعَبَرَ إِلَيْهِمْ فَقَعَدَ مَعَ رُسْتُمَ عَلَى السَّرِيرِ فَنَخَرُوا وَصَاحُوا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَزِدْنِي رِفْعَةً وَلَمْ يُنْقِصْ صَاحِبَكُمْ. فَقَالَ رُسْتُمُ: صَدَقَ، مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا قَوْمًا فِي شَرٍّ وَضَلَالَةٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ وَرَزَقَنَا عَلَى يَدَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا رَزَقَنَا حَبَّةٌ تَنْبُتُ بِهَذَا الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَكَلْنَاهَا وَأَطْعَمْنَاهَا أَهْلِينَا، قَالُوا: لَا صَبْرَ لَنَا عَنْهَا، أَنْزِلُونَا هَذِهِ الْأَرْضَ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ هَذِهِ الْحَبَّةِ. فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذَنْ نَقْتُلُكُمْ. قَالَ: إِنْ قَتَلْتُمُونَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ، أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ: أَوْ أَدَّيْتُمُ الْجِزْيَةَ. نَخَرُوا وَصَاحُوا وَقَالُوا: لَا صُلْحَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَوْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ رُسْتُمُ: بَلْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ. فَاسْتَأْخَرَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى عَبَرُوا، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ سَعْدًا كَانَ بِهِ عِرْقُ النَّسَا يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَتَلَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (105) سورة الأنبياء. وَصَلَّى بِالنَّاسِ الظَّهْرَ، ثُمَّ كَبَّرَ أَرْبَعًا، وَحَمَلُوا بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي طَرْدِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَقَتْلِهِمْ لَهُمْ، وَقُعُودِهِمْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَحَصْرِهِمْ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَمَا رُدَّ شَارِدُهُمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلَجَأَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَبْوَابِهَا، وَكَانَ سَعْدٌ قَدْ بَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى كِسْرَى يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ، فَاسْتَأْذَنُوا عَلَى كِسْرَى، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَشْكَالِهِمْ، وَأَرْدَيَتِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَسِيَاطِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَالنِّعَالِ فِي أَرْجُلِهِمْ، وَخُيُولِهِمُ الضَّعِيفَةِ، وَخَبْطِهَا الْأَرْضَ بِأَرْجُلِهَا، وَجَعَلُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُمْ غَايَةَ الْعَجَبِ، كَيْفَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ يَقْهَرُونَ جُيُوشَهُمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهَا وَعُدَدِهَا. وَلَمَّا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْمَلِكِ يَزْدَجِرْدَ أَذِنَ لَهُمْ وَأَجْلَسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ مُتَكَبِّرًا قَلِيلَ الْأَدَبِ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ مَلَابِسِهِمْ هَذِهِ مَا اسْمُهَا؛ عَنِ الْأَرْدِيَةِ، وَالنِّعَالِ،(1/130)
وَالسِّيَاطِ، ثُمَّ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَفَاءَلَ، فَرَدَّ اللَّهُ فَأْلَهَ عَلَى رَأْسِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: مَا الَّذِي أَقْدَمَكُمْ هَذِهِ الْبِلَادَ؟ أَظْنَنْتُمْ أَنَّا لَمَّا تَشَاغَلْنَا بِأَنْفُسِنَا اجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا؟! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ: إِنَّ اللَّهَ رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ، وَوَعَدَنَا عَلَى إِجَابَتِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَدْعُ إِلَى ذَلِكَ قَبِيلَةً إِلَّا صَارُوا فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً تُقَارِبُهُ وَفِرْقَةً تُبَاعِدُهُ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي دِينِهِ إِلَّا الْخَوَاصُّ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَرَبِ وَيَبْدَأَ بِهِمْ، فَفَعَلَ، فَدَخَلُوا مَعَهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهَيْنِ؛ مَكْرُوهٍ عَلَيْهِ فَاغْتَبَطَ، وَطَائِعٍ أَتَاهُ فَازْدَادَ، فَعَرَفْنَا جَمِيعًا فَضْلَ مَا جَاءَ بِهِ عَلَى الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالضِّيقِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يَلِينَا مِنَ الْأُمَمِ فَنَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِنْصَافِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى دِينِنَا، وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ وَقَبَّحَ الْقَبِيحَ كُلَّهُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَأَمْرٌ مِنَ الشَّرِّ هُوَ أَهْوَنُ مِنْ آخَرَ شَرٍّ مِنْهُ؛ الْجِزَاءُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْمُنَاجَزَةُ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى دِينِنَا خَلَّفْنَا فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ تَحْكُمُوا بِأَحْكَامِهِ وَنَرْجِعَ عَنْكُمْ، وَشَأْنَكُمْ وَبِلَادَكُمْ، وَإِنِ اتَّقَيْتُمُونَا بِالْجِزَيِ قَبِلْنَا وَمَنَعْنَاكُمْ، وَإِلَّا قَاتَلْنَاكُمْ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ يَزْدَجِرْدُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمَّةً كَانَتْ أَشْقَى وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا وَلَا أَسْوَأَ ذَاتِ بَيْنٍ مِنْكُمْ، قَدْ كُنَّا نُوَكِّلُ بِكُمْ قُرَى الضَّوَاحِي فَيَكْفُونَاكُمْ، لَا تَغْزُوكُمْ فَارِسُ وَلَا تَطْمَعُونَ أَنْ تَقُومُوا لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُكُمْ كَثُرَ فَلَا يُغْرُنَّكُمْ مِنَّا، وَإِنْ كَانَ الْجَهْدُ دَعَاكُمْ فَرَضْنَا لَكُمْ قُوتًا إِلَى خِصْبِكُمْ، وَأَكْرَمْنَا وُجُوهَكُمْ وَكَسَوْنَاكُمْ، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلِكًا يَرْفُقُ بِكُمْ. فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ زُرَارَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَؤُلَاءِ رُءُوسُ الْعَرَبِ وَوُجُوهُهُمْ، وَهُمْ أَشْرَافٌ يَسْتَحْيُونَ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُ الْأَشْرَافَ الْأَشْرَافُ، وَيُعَظِّمُ حُقُوقَ الْأَشْرَافِ الْأَشْرَافُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا أُرْسِلُوا لَهُ جَمَعُوهُ لَكَ، وَلَا كُلُّ مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ أَجَابُوكَ عَنْهُ، وَقَدْ أَحْسَنُوا، وَلَا يَحْسُنُ بِمِثِلِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ، فَجَاوِبْنِي فَأَكُونَ أَنَا الَّذِي أُبَلِّغُكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ إِنَّكَ قَدْ وَصَفْتَنَا صِفَةً لَمْ تَكُنْ بِهَا عَالِمًا، فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ سُوءِ الْحَالِ، فَمَا كَانَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَّا، وَأَمَّا جُوعُنَا فَلَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ الْجُوعَ؛ كُنَّا نَأْكُلُ الْخَنَافِسَ وَالْجِعْلَانَ وَالْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ وَنَرَى ذَلِكَ طَعَامَنَا، وَأَمَّا الْمَنَازِلُ فَإِنَّمَا هِيَ ظَهْرُ الْأَرْضِ، وَلَا نَلْبَسُ إِلَّا مَا غَزَلْنَا مِنْ أَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْغَنَمِ، دِينُنَا(1/131)
أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَأَنْ يُغِيرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَدْفِنُ ابْنَتَهُ وَهَى حَيَّةٌ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ، فَكَانَتْ حَالُنَا قَبْلَ الْيَوْمِ عَلَى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَجُلًا مَعْرُوفًا؛ نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَنَعْرِفُ وَجْهَهُ وَمَوْلِدَهُ، فَأَرْضُهُ خَيْرُ أَرْضِنَا، وَحَسَبُهُ خَيْرُ أَحْسَابِنَا، وَبَيْتُهُ خَيْرُ بُيُوتِنَا، وَقَبِيلَتُهُ خَيْرُ قَبَائِلِنَا، وَهُوَ نَفْسُهُ كَانَ خَيْرُنَا فِي الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَصْدَقَنَا وَأَحْلَمَنَا، فَدَعَانَا إِلَى أَمْرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْ تِرْبٍ كَانَ لَهُ وَكَانَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ وَقُلْنَا، وَصَدَقَ وَكَذَبْنَا، وَزَادَ وَنَقَصْنَا فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا إِلَّا كَانَ، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا التَّصْدِيقَ لَهُ وَاتِّبَاعَهُ، فَصَارَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَمَا قَالَ لَنَا فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ، وَمَا أَمَرَنَا فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ، فَقَالَ لَنَا: إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي، كُنْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهِي، وَأَنَا خَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَإِلَيَّ يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنَّ رَحْمَتِي أَدْرَكَتْكُمْ، فَبَعَثْتُ إِلَيْكُمْ هَذَا الرَّجُلَ لِأَدُلَّكُمْ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي أُنْجِيكُمْ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ عَذَابِي، وَلِأُحِلَّكُمْ دَارِي دَارَ السَّلَامِ. فَنَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ الْحَقِّ. وَقَالَ: مَنْ تَابَعَكُمْ عَلَى هَذَا فَلَهُ مَا لَكَمَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْكُمْ، وَمَنْ أَبَى فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، ثُمَّ امْنَعُوهُ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَمَنْ أَبَى فَقَاتِلُوهُ، فَأَنَا الْحَكَمُ بَيْنَكُمْ، فَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي، وَمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَعْقَبْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ. فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِنْ شِئْتَ فَالسَّيْفَ، أَوْ تُسْلِمُ فَتُنَجِّيَ نَفْسَكَ. فَقَالَ يَزْدَجِرْدُ: اسْتَقْبَلْتَنِي بِمِثْلِ هَذَا؟! فَقَالَ: مَا اسْتَقْبَلْتُ إِلَّا مَنْ كَلَّمَنِي، وَلَوْ كَلَّمَنِي غَيْرُكَ لَمْ أَسْتَقْبِلْكَ بِهِ. فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ، لَا شَيْءَ لَكُمْ عِنْدِي. وَقَالَ: ائْتُونِي بِوَقْرٍ مِنْ تُرَابٍ، فَاحْمِلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ سُوقُوهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْمَدَائِنِ، ارْجِعُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَأَعْلِمُوهُ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ رُسْتُمَ حَتَّى يَدْفِنَهُ وَجُنْدَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ وَيُنَكِّلَ بِهِ وَبِكُمْ مِنْ بَعْدُ، ثُمَّ أُورِدُهُ بِلَادَكُمْ حَتَّى أَشْغَلَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بِأَشَدَّ مِمَّا نَالَكُمْ مِنْ سَابُورَ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَشْرَفُكُمْ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَافْتَاتَ لِيَأْخُذَ التُّرَابَ: أَنَا أَشْرَفُهُمْ، أَنَا سَيِّدُ هَؤُلَاءِ، فَحَمِّلْنِيهِ. فَقَالَ: أَكَذَاكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَحَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنَ الْإِيوَانِ وَالدَّارِ حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ، فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ انْجَذَبَ فِي السَّيْرِ فَأَتَوْا بِهِ سَعْدًا، وَسَبَقَهُمْ عَاصِمٌ، فَمَرَّ بِبَابِ قُدَيْسٍ فَطَوَاهُ فَقَالَ: بَشِّرُوا الْأَمِيرَ بِالظَّفَرِ، ظَفِرْنَا إِنْ شَاءَ(1/132)
اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ مَضَى حَتَّى جَعَلَ التُّرَابَ فِي الْحِجْرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ عَلَى سَعْدٍ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: أَبْشِرُوا فَقَدْ وَاللَّهِ أَعْطَانَا اللَّهُ أَقَالِيدَ مُلْكِهِمْ. وَتَفَاءَلُوا بِذَلِكَ أَخْذَ بِلَادِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ أَمْرُ الصَّحَابَةِ يَزْدَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عُلُوًّا وَشَرَفًا وَرِفْعَةً، وَيَنْحَطُّ أَمْرَ الْفُرْسِ سُفْلًا وَذُلًّا وَوَهَنًا .. " (1)
لم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم .. سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام، أو ما تخوض البشرية فيه الآن، في الشرق أو في الغرب سواء .. إنما جاء هذا كله إلغاءً، وينسخه نسخاً، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة.جاء لينشئ الحياة إنشاءً.لينشئ حياة تنبثق منه انبثاقاً، وترتبط بمحوره ارتباطاً.وقد تشابه جزئيات منه جزئيات في الحياة التي يعيشها الناس في الجاهلية.ولكنها ليست هي، وليست منها.إنما هي مجرد مصادفة هذا التشابه الظاهري الجانبي في الفروع.أما أصل الشجرة فهو مختلف تماماً.تلك شجرة تطلعها حكمة الله، وهذه شجرة تطلعها أهواء البشر: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} .. [الأعراف:58]
وهذه الجاهلية خبثت قديماً وخبثت حديثاً .. يختلف خبثها في مظهره وشكله، ولكنه واحد في مغرسه وأصله .. إنه هوى البشر الجهال المغرضين، الذين لا يملكون التخلص من جهلهم وغرضهم، ومصلحة أفراد منهم أو طبقات أو أمم أو أجناس يغلبونها على العدل والحق والخير.حتى تجيء شريعة الله فتنسخ هذا كله، وتشرِّع للناس جميعاً تشريعاً لا يشوبه جهل البشر، ولا يلوِّثه هواهم، ولا تميل به مصلحة فريق منهم.
ولأن هذا هو الفارق الأَصيل بين طبيعة منهج الله ومناهج الناس، فإنه يستحيل الالتقاء بينهما في نظام واحد، ويستحيل التوفيق بينهما في وضع واحد.ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هنا ونصفه من هناك.وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به.فكذلك هو لا يقبل منهجاً مع منهجه .. هذه كتلك سواء بسواء.لأن هذه هي تلك على وجه اليقين.
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير - موافقة للمطبوع - (7/ 46)(1/133)
هذه الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتلعثم، ولا ندع الناس في شك منها، ولا نتركهم حتى يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدِّل حياتهم تبديلاً .. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها.كما سيبدل أوضاعهم كذلك.سيبدلها ليعطيهم خيراً منها بما لا يقاس.سيبدلها ليرفع تصوراتهم ويرفع أوضاعهم، ويجعلهم أقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان.ولن يبقى لهم شيئاً من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزيئات التي يتصادف أن يكون لها من جزئيات النظام الإسلامي شبيه.وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأصل الذي هم مشدودون إليه الآن: أصل الجاهلية النكد الخبيث! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة " العلمية البحتة " بل سيدفعها قوية إلى الأمام ..
يجب ألاَّ ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية .. بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جميعاً .. وإنما هو الإسلام فقط!
الإسلام بشخصيته المستقلة وتصوره المستقل، وأوضاعه المستقلة.الإسلام الذي يحقق للبشرية خيراً مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع.الإٍسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير.
وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة .. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل.وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم.ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!(1/134)
لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً (1).ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم المنحرفة .. سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة .. هذه الجاهلية التي أنتم فيها نجس والله يريد أن يطهركم .. هذه الأوضاع التي أنتم فهيا خبث، والله يريد أن يطيِّبكم .. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم .. هذا الذي أنتم فيه شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم .. والإسلام سيغير تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة التي تعيشونها، وإلى أوضاع أخرى تحتقرون معها أوضاعكم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى قيم أخرى تشمئزون معها من قيمكم السائدة في الأرض جميعاً .. وإذا كنتم أنتم - لشقوتكم - لم تروا صورة واقعية للحياة الإسلامية، لأن أعداءكم - أعداء هذا الدين - يتكتلون للحيلولة دون قيام هذه الحياة، ودون تجسد هذه الصورة، فنحن قد رأيناها - والحمد لله ممثلة في ضمائرنا من خلال قرآننا وشريعتنا وتاريخنا وتصورنا المبدع للمستقبل الذي لا نشك في مجيئه!
هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام.لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة.سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم.أم في أي مكان خاطب الناس فيه.
__________
(1) - (دسس) الدَّسُّ إِدخال الشيء من تحته دَسَّه يَدُسُّه دَسّاً فانْدَسَّ ودَسَّسَه ودَسَّاه الأَخيرة على البدل كراهية التضعيف وفي الحديث اسْتَجِيدوا الخالَ فإِن العِرْقَ دَسَّاسٌ أَي دَخَّال لأَنه يَنْزِعُ في خَفاءٍ ولُطْفٍ ودسَّه يَدُسُّه دَسّاً إِذا أَدخله في الشيءِ بقهر وقوَّة وفي التنزيل العزيز قد أَفْلَحَ من زَكَّاها وقد خابَ من دَسَّاها يقول أَفلح من جعل نفسه زكية مؤمنة وخابَ من دَسَّسَها في أَهل الخير وليس منهم وقيل دَسَّاها جعلها خسيسة قليلة بالعمل الخبيث قال ثعلب سأَلت ابن الأَعرابي عن تفسير قوله تعالى وقد خابَ من دَسَّاها فقال معناه من دسَّ نَفْسَه مع الصالحين وليس هو منهم قال وقال الفراء خابت نفس دَسَّاها اللَّه عز وجل ويقال قد خاب من دَسَّى نَفْسَه فأَخْمَلَها بترك الصدقة والطاعة قال ودَسَّاها من دَسَّسْتُ بُدِّلَتْ بعض سيناتها ياء كما يقال تَظَنَّيْتُ من الظَنِّ قال ويُرَى أَن دَسَّاها دَسَّسَها لأَن البخيل يُخْفي مَنْزِله وماله والسَّخِيُّ يُبْرِزُ منزله فينزل على الشَرَفِ من الأَرض لئلا يستتر عن الضيفان ومن أَراده ولكلٍّ وَجْهٌ الليث الدَّسُّ دَسُّك شيئاً تحت شيء وهو الإِخْفاءُ ودَسَسْتُ الشيء في التراب أَخفيته فيه ومنه قوله تعالى أَم يَدُسُّه في التراب أَي يدفنه قال الأَزهري أَراد اللَّه عز وجل بهذا الموءُودة التي كانوا يدفنونها وهي حية وذَكَّرَ فقال يَدُسُّه وهي أُنثى لأَنه رَدَّه على لفظة ما في قوله تعالى يَتَوارى من القوم من سُوءِ ما بُشِّرَ به فردَّه على اللفظ لا على المعنى ولو قال بها كان جائزاً والدَّسِيسُ إِخفاء المكرِ والدَّسيسُ من تَدُسُّه ليأْتيك بالأَخبار وقيل الدَّسِيسُ شبيه بالمُتَجَسِّس "لسان العرب - (6/ 82)(1/135)
نظر إليهم من عل، لأن هذه هي الحقيقة.وخاطبهم بلغة الحب والعطف لأنها حقيقة كذلك في طبيعته.وفاصلهم مفاصلة كاملة لا غموض فيها ولا تردد لأن هذه هي طريقته .. ولم يقل لهم أبداً: إنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو أنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها .. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام .. مرة تحت عنوان:" ديمقراطية الإسلام "! ومرة تحت عنوان " اشتراكية الإسلام "! ومرة بأن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا لتعديلات طفيفة!!! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات!
كلا.إن الأمر مختلف جداً.والانتقال من هذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض إلى الإسلام نقلة واسعة بعيدة، وصورة الحياة الإسلامية مغايرة تماماً لصور الحياة الجاهلية قديماً وحديثاً.وهذه الشقوة التي تعانيها البشرية لن يرفعها عنها تغييرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع.ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة.النقلة من مناهج الخلق إلى منهج الخالق، ومن نظم البشر إلى نظام رب البشر، ومن أحكام العبيد إلى حكم رب العبيد.هذه حقيقة.وحقيقة مثلها أن نجهر بها ونصدع، وألا ندع الناس في شك منها ولا لبس.
وقد يكره الناس هذا في أول الأمر، وقد يجفلون منه ويشفقون.ولكن الناس كذلك كرهوا مثل هذا وأشفقوا منه في أول العهد بالدعوة إلى الإسلام.أجفلوا وآذاهم أن يحقر محمد - صلى الله عليه وسلم - تصوراتهم، ويعيب آلهتهم، وينكر أوضاعهم، ويعتزل عاداتهم وتقاليدهم، ويتخذ لنفسه وللقلة المؤمنة معه أوضاعاً وقيماً وتقاليد غير أوضاع الجاهلية وقيمها وتقاليدها.ثم ماذا؟ ثم فاؤوا إلى الحق الذي لم يعجبهم أول مرة، والذي أجفلوا منه: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .. [المدثر:50 - 51]
والذي حاربوه ودافعوه بكل ما يملكون من قوة وحيلة، والذي عذبوا أهله عذاباً شديداً وهم ضعاف في مكة، ثم قاتلوهم قتالاً عنيداً وهم أقوياء في المدينة .. ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن .. كانت مجهولة مستنكرة من(1/136)
الجاهلية، وكانت محصورة في شعاب مكة، مطاردة من أصحاب الجاه والسلطان فيها، وكانت غريبة في زمانها في العالم كله.وكانت تحف بها امبراطوريات ضخمة عاتية تنكر كل مبادئها وأهدافها.ولكنها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية .. إن عناصر القوة الحقيقية كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها، ومن ثَمَّ فهي تملك أن تعمل في أسوأ الظروف وأشدها حرجاً.إنها تكمن في الحق البسيط الوضاح الذي تقوم عليه.وفي تناسقها مع الفطرة التي لا تملك أن تقاوم سلطانها طويلاً، وفي قدرتها على قيادة البشرية صعداً في طريق التقدم، في أية مرحلة كانت البشرية من التأخر أو التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعقلي .. كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية فلا تخرم حرفاً واحداً من أصولها، ولا تربت على شهوات الجاهلية، ولا تتدسس إليها تدسساً.إنما تصدع بالحق صدعاً مع إشعار الناس بأنها خير ورحمة وبركة ..
والله الذي خلق البشر يعلم طبيعة تكوينهم ومداخل قلوبهم ويعلم كيف تستجيب حين تصدع بالحق صدعاً.في صراحة وقوة.بلا تلعثم ولا وصوصة (1)!
إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة.وذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة .. والانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه وأكمل وأنظف، انتقال له ما يبرره في منطق النفس .. ولكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام، إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييراً طفيفاً هنا، وتعديلاً طفيفاً هناك؟ إن البقاء على النظام المألوف أقرب إلى المنطق
__________
(1) - الوَصْوَصُ والوَصْوَاصُ " الأَخِيرُ عن اللَّيْث وعلى الأَوَّل اقْتَصَرَ الجَوْهَرِيُّ: " خَرْقٌ " - وفي الصّحاح: ثَقْبٌ - في " السِّتْرِ " ونَحْوِه " بمِقْدَارِ عَيْنٍ تَنْظُر فيه ". قال: " في وَهَجَانٍ يَلِجُ الوَصْوَاصَا " ووَصْوَصَ: نَظَرَ فِيهِ ". وَصْوَصَ " الجِرْوُ: فَتَح عَيْنيْه " كبَصْبَصَ عن ابنِ عَبّادٍ. وَصْوَصَت " المَرأَةُ: ضَيَّقَتْ نِقَابَهَا " فَلَمْ يُرَ منه إِلاَّ عَيْنَاهَا. وقال الفَرَّاءُ: إِذا أَدْنَت المَرْأَةُ نِقَابَهَا إِلى عَيْنيْهَا فتِلْكَ الوَصْوَصَةُ " كوَصَّصَتْ " تَوْصِيصاً. قال أَبْو زيْدٍ: النِّقَابُ على مَارِنِ الأَنْفِ. والتَّرْصِيصُ لا يُرَى إِلا عَيْنَاهَا. وتَمِيمٌ تَقُولُ. هو التَّوْصِسصُ بالوَاو وقد رَصَّصَتْ ووَصَّصَت. وقال الجوهَرِيُّ: التَّوْصِيصُ في الانْتِقابٍ مِثْلُ التَّرْصِيصِ. " والوَصَاوِصُ: بَرَاقِعُ صِغَارٌ تَلبَسُها الجارِيَةُ " جَمْعُ وَصْوَاصٍ. وفي الصّحاح: الوَصْوَاصُ: البُرْقُعُ الصَّغِيرُ "تاج العروس - (1/ 4556) ولسان العرب - (1/ 239) وكتاب العين - (7/ 177)(1/137)
لأنه على الأقل نظام قائم، قابل للإصلاح والتعديل، فلا ضرورة لطرحه، والانتقال إلى نظام غير قائم ولا مطبق، مادام أنه شبيه به في معظم خصائصه!
كذلك نجد بعض الذين يتحدثون عن الإسلام يقدمونه للناس كأنه منهم يحاولون هم دفع التهمة عنه! ومن بين ما يدفعون به أن الأنظمة الحاضرة تفعل كذا وكذا مما تعيب على الإسلام مثله، وأن الإسلام لم يصنع شيئاً - في هذه الأمور - إلا ما تصنعه " الحضارات " الحديثة بعد ألف وأربعمئة عام! وهان ذلك دفاعاً! وساء ذلك دفاعاً!
إن الإسلام لا يتخذ المبررات له من النظم الجاهلية والتصرفات النكدة التي نبعت منها.وهذه " الحضارات " التي تبهر الكثيرين وتهزم أرواحهم ليست سوى نظم جاهلية في صميمها.وهي نظم معيبة مهلهلة هابطة حين تقاس إلى الإسلام .. ولا عبرة بأن حال أهلها بخير من حال السكان في ما يسمى الوطن الإسلامي أو " العالم الإسلامي "! فهؤلاء صاروا إلى هذا البؤس بتركهم للإسلام لا لأنهم مسلمون .. وحجة الإسلام التي يدلي بها للناس: إنه خير منها بما لا يقاس، وإنه جاء ليغيّرها لا ليقرّها، وليرفع البشرية عن وهدتها لا ليبارك تمرغها في هذا الوحل الذي يبدو في ثوب " الحضارة " ..
فلا تبلغ بنا الهزيمة أن نتلمس للإسلام مشابهات في بعض الأنظمة القائمة، وفي بعض المذاهب القائمة، وفي بعض الأفكار القائمة.فنحن نرفض هذه الأنظمة في الشرق أو في الغرب سواء .. إننا نرفضها كلها لأنها منحطة ومتخلفة بالقياس إلى ما يريد الإسلام أن يبلغ بالبشرية إليه.وحين نخاطب الناس بهذه الحقيقة، ونقدم لهم القاعدة العقدية للتصور الإسلامي الشامل، يكون لديهم في أعماق فطرتهم ما يبرر الانتقال من تصور إلى تصور، ومن وضع إلى وضع.ولكننا لا نخاطبهم بحجة مقنعة حين نقول لهم: تعالوا من نظام قائم فعلاً إلى نظام آخر غير مطبق، لا يغير في نظامكم القائم إلا قليلاً.وحجته إليكم أنكم تفعلون في هذا الأمر وذاك مثلما يفعل هو، ولا يكلفكم إلا تغيير القليل من عاداتكم وأوضاعكم وشهواتكم، وسيبقى لكم كل ما تحرصون عليه منها ولا يمسه مساً خفيفاً!!
هذا الذي يبدو سهلاً في ظاهره، ليس مغرياً في طبيعته، فضلاً على أنه ليس هو الحقيقة .. فالحقيقة أن الإسلام يبدل التصورات والمشاعر، كما يبدل النظم والأوضاع، كما(1/138)
يبدل الشرائع والقوانين تبديلاً أساسياً لا يمت بصلة إلى قاعدة الحياة الجاهلية، التي تحياها البشرية .. ويكفي أنه ينقلهم جملة وتفصيلاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ..
والمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام.وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً .. إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدّعون - وهم يحيون حياة الجاهلية.وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك.ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً .. ليس هذا إسلاماً، وليس هؤلاء مسلمين.والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد.
ونحن لا ندعو الناس إلى الإسلام لننال منهم أجراً.ولا نريد علوّاً في الأرض ولا فساداً.ولا نريد شيئاً خاصاً لأنفسنا إطلاقاً، وحسابنا وأجرنا ليس على الناس.إنما نحن ندعو الناس إلى الإسلام لأننا نحبهم ونريد لهم الخير .. مهما آذونا .. لأن هذه هي طبيعة الداعية إلى الإسلام، وهذه هي دوافعه .. ومن ثَمَّ يجب أن يعلموا منا حقيقة الإسلام، وحقيقة التكاليف التي سيطلبها إليهم، في مقابل الخير العميق الذي يحمله لهم.كما يجب أن يعرفوا رأينا في حقيقة ما هم عليه من الجاهلية .. إنها الجاهلية وليست في شيء من الإسلام، إنها " الهوى " ما دام أنها ليست هي " الشريعة ".إنها " الضلال " ما دام أنها ليست هي الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال!
وليس في إسلامنا ما نخجل منه، وما نضطر للدفاع عنه، وليس فيه ما نتدسس به للناس تدسساً، أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته .. إن الهزيمة الروحية أمام الغرب وأمام الشرق وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض الناس .. " المسلمين " .. يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية، أو يتلمس من أعمال " الحضارة " الجاهلية ما يسند به أعمال الإسلام وقضاءه في بعض الأمور .. إنه إذا كان هناك من يحتاج للدفاع والتبرير والاعتذار فليس هو الذي يقدم الإسلام للناس.وإنما هو ذاك الذي يحيا في هذه الجاهلية المهلهلة المليئة بالمتناقضات وبالنقائض والعيوب، ويريد أن يتلمس المبررات(1/139)
للجاهلية.وهؤلاء هم الذين يهاجمون الإسلام ويلجئون بعض محبيه الذين يجهلون حقيقته إلى الدفاع عنه، كأنه متهم مضطر للدفاع عن نفسه في قفص الاتهام!
بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا - نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام - في أمريكا في السنوات التي قضيتها هناك - وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير .. وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية .. سواء في معتقداتها الدينية المهلهلة.أو في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المؤذية .. هذه التصورات عن الأقانيم وعن الخطيئة وعن الفداء، وهي لا تستقيم في عقل ولا ضمير .. وهذه الرأسمالية باحتكارها ورباها وما فيها من بشاعة كالحة .. وهذه الفردية الأثرة التي ينعدم معها التكافل إلا تحت مطارق القانون .. وهذا التصور المادي التافه الجاف للحياة .. وحرية البهائم التي يسمونها " حرية الاختلاط " .. وسوق الرقيق التي يسمونها " حرية المرأة " .. والسخف والحرج والتكلف المضاد لواقع الحياة في نظم الزواج والطلاق، والتفريق العنصري الحادّ الخبيث .. ثم .. ما في الإسلام من منطق وسمو وإنسانية وبشاشة، وتطلع إلى آفاق تطلع البشرية دونها ولا تبلغها.ومن مواجهة الواقع في الوقت ذاته ومعالجته معالجة تقوم على قواعد الفطرة الإنسانية السليمة.وكانت هذه حقائق نواجهها في واقع الحياة الغربية .. وهي حقائق كانت تخجل أصاحبها حين تعرض في ضوء الإسلام .. ولكن ناساً - يدّعون الإسلام - ينهزمون أمام ذلك النتن الذي تعيش فيه الجاهلية، حتى ليتلمسون للإسلام مشابهات في هذا الركاب المضطرب البائس في الغرب.وفي تلك الشناعة المادية البشعة في الشرق أيضاً!
ولست في حاجة بعد هذا إلى أن أقول: إننا نحن الذين نقدم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها.مهما يشتد ضغطها علينا.
إن وظيفتنا الأولى هي إحلال التصورات الإسلامية والتقاليد الإسلامية في مكان هذه الجاهلية.ولن يتحقق هذا بمجاراة الجاهلية والسير معها خطوات في أول الطريق، كما قد يخيل إلى البعض منا .. إن هذا معناه إعلان الهزيمة منذ أول الطريق ..(1/140)
إن ضغط التصورات الاجتماعية السائدة، والتقاليد الاجتماعية الشائعة، ضغط ساحق عنيف، وبخاصة في دنيا المرأة. ولكن لا بد مما ليس منه بد. لا بد أن نثبت أولاً، ولا بد أن نستعلي ثانياً، ولا بد أن نُرى الجاهلية حقيقة الدرك الذي هي فيه بالقياس إلى الآفاق العليا المشرفة للحياة الإسلامية التي نريدها. ولن يكون هذا بأن نجاري الجاهلية في بعض الخطوات، كما أنه لن يكون بأن نقاطعها الآن وننزوي عنها وننعزل .. كلا، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة، والاستعلاء بالإيمان في تواضع. والامتلاء بعد هذا كله بالحقيقة الواقعة. وهي أننا نعيش في وسط جاهلية، وأننا أهدى طريقاً من هذه الجاهلية، وإنها نقلة بعيدة واسعة، هذه النقلة من الجاهلية إلى الإسلام، وإنها هوة فاصلة لا يقام فوقها معبر للالتقاء في منتصف الطريق، ولكن لينتقل عليه أهل الجاهلية إلى الإسلام، سواء كانوا ممن يعيشون فيما يسمى الوطن الإسلامي، ويزعمون أنهم مسلمون، أو كانوا يعيشون في غير الوطن " الإسلامي "،وليخرجوا من الظلمات إلى النور، ولينجوا من هذه الشقوة التي هم فيها، وينعموا بالخير الذي ذقناه نحن الذين عرفنا الإسلام وحاولنا أن نعيش به .. وإلا فلنقل ما أمر الله سبحانه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. [الكافرون:6] (1)
وهذه الحقيقة الأساسية الكبيرة هي التي يجب أن يصدع بها أصحاب الدعوة الإسلامية، ولا يخفوا منها شيئا وأن يصروا عليها مهما لاقوا من بطش الطواغيت وتململ الجماهير. (2)
__________
(1) - معالم في الطريق بتحقيقي [ص 136] بتحقيقي
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2155](1/141)
جوانب تفوق المجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)} سورة النساء
لقد كان القرآن فيها جميعا، يخوض المعركة بالجماعة المسلمة، في كل جبهة .. كان يخوضها في الضمائر والمشاعر، حيث ينشىء فيها عقيدة جديدة، ومعرفة بربها جديدة، وتصورا للوجود جديدا، ويقيم فيها موازين جديدة، وينشىء فيها قيما جديدة ويستنقذ فطرتها من(1/142)
ركام الجاهلية ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع وينشىء ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة .. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج .. اليهود والمنافقين والمشركين .. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم بمتانة بنائها الداخلي الجديد: الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء.
ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله - بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة - هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي - بفضل المنهج القرآني الرباني - قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا - ماديا - فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك .. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد.
وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي - ومن ثم السياسي والقيادي - اجتاح الإسلام الجاهلية .. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله: إمبراطوريتي كسرى وقيصر .. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث ..
ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب. ولكنه كان اكتساحا عقيديا. ثقافيا. حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي - من غير إكراه - عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها .. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما أو حديثا! لقد كان تفوقا «إنسانيا» كاملا. تفوقا في كل خصائص «الإنسانية» ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان.(1/143)
ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته وترك عليها طابعه الخاص وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والآشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات.
وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ أن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر «اللغة العربية».فاللغة العربية كانت قائمة ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض - قبل الإسلام - ومن ثم سميتها «اللغة الإسلامية» فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي «الإسلام» قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة (المفتوحة للحرية والنور والطلاقة) اتجهت إلى التعبير عن ذاتها - لا بلغاتها الأصلية - ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة - غير اللغة الأم - لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات .. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا ومن ملاصقة الفطرة ثانيا بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضا! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشأه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة - لغة الإسلام - بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش - جيوش الإسلام - بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل(1/144)
تلك الظاهرة التاريخية الفريدة. وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحه. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال ..
منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة .. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله
وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها .. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها وكشف للمنافقين المندسين فيها وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر اللّه الذي يجري بهما وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها .. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها - أي لقواعد قانون المعاملات الدولية - وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجا لرفعة الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي! ..
والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة .. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة .. ثم يجيء الدرس الأخير - في هذا الجزء - خاصا بالنفاق والمنافقين يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار! وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة - في الداخل والخارج .. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول .. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغدا في أساسها وحقيقتها. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 672](1/145)
لا هوادة في التعامل مع المنافقين
قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء: 88 - 90] ..
إنهم قد كفروا .. على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون، ونطقوا بالشهادتين نطقا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين .. وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد. فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين. ولا بد له من عمل وسعي، ولا بد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر. ليكونوا كلهم سواء.
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين .. وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين. وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق: والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم، وهو يقول لهم: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» ..
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر. وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية .. ثم في الإسلام. وكان الفرق واضحا بارزا في مشاعرهم وفي واقعهم، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط - سفح الجاهلية - الذي التقطهم منه الإسلام فسار بهم صعدا في المرتقى الصاعد، نحو القمة السامقة.
ومن ثم يتكىء المنهج القرآني على هذه الحقيقة فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ..(1/146)
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم .. أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة - وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضا - وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها. كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة. أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة، أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة .. إنما تقوم الأمة على العقيدة وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة. ومن ثم فلا ولاية بين المسلمين في دار الإسلام، وبين غيرهم ممن هم في دار الحرب .. ودار الحرب هي يومئذ مكة موطن المهاجرين الأول .. لا ولاية حتى يهاجر أولئك الذين يتكلمون بكلمة الإسلام وينضموا إلى المجتمع المسلم - أي إلى الأمة المسلمة - حيث تكون هجرتهم للّه وفي سبيل اللّه. من أجل عقيدتهم، لا من أجل أي هدف آخر ولإقامة المجتمع المسلم الذي يعيش بالمنهج الإسلامي لا لأي غرض آخر .. بهذه النصاعة.
وبهذا الحسم. وبهذا التحديد الذي لا يقبل أن تختلط به شوائب أخرى، أو مصالح أخرى، أو أهداف أخرى .. فإن هم فعلوا. فتركوا أهلهم ووطنهم ومصالحهم .. في دار الحرب .. وهاجروا إلى دار الإسلام، ليعيشوا بالنظام الإسلامي، المنبثق من العقيدة الإسلامية، القائم على الشريعة الإسلامية .. إن هم فعلوا هذا فهم أعضاء في المجتمع المسلم، مواطنون في الأمة المسلمة. وإن لم يفعلوا وأبوا الهجرة، فلا عبرة بكلمات تقال فتكذبها الأفعال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ (أي أسرى) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً».
وهذا الحكم - كما قلنا - هو الذي يرجح عندنا، أنهم لم يكونوا هم منافقي المدينة. إذ قد اتبعت مع منافقي المدينة سياسة أخرى.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته. ولهم - حتى وهم يعيشون في ظل نظامه ودولته - أن يجهروا بمعتقداتهم المخالفة للإسلام. في غير ما دعوة للمسلمين ولا طعن في الدين. فقد ورد في القرآن من استنكار(1/147)
مثل هذا الطعن من أهل الكتاب ما لا يدع مجالا للشك في أن الإسلام لا يدع غير المعتنقين له ممن يعيشون في ظله يطعنون فيه ويموهون حقائقه ويلبسون الحق بالباطل كما تقول بعض الآراء المائعة في زماننا هذا! وحسب الإسلام أنه لا يكرههم على اعتناق عقيدته. وأنه يحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم وأنه يمتعهم بخير الوطن الإسلامي بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وأنه يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفيه جهارا نهارا في العقيدة .. ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمة باللسان تكذبها الأفعال. لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون اللّه ويشهدون أن لا إله إلا اللّه. ثم يعترفون لغير اللّه بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس فيصم أهل الكتاب بأنهم مشركون، لأنهم اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه والمسيح ابن مريم .. لا لأنهم عبدوهم. ولكن لأنهم أحلوا لهم الحلال، وحرموا عليهم الحرام فاتبعوهم! ولا يتسامح هذا التسامح في وصف جماعة من المنافقين بأنهم مؤمنون. لأنهم شهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول اللّه. ثم بقوا في دار الكفر، يناصرون أعداء المسلمين!
ذلك أن التسامح هنا ليس تسامحا. إنما هو تميع. والإسلام عقيدة التسامح. ولكنه ليس عقيدة «التميع».إنه تصور جاد. ونظام جاد. والجد لا ينافي التسامح. ولكنه ينافي التميع. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 731](1/148)
محاولة أعداء الإسلام إضلال الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب. ولكن اللّه - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة.
وكان الكائدون المتآمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة .. وسيرة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حافلة بتلك المحاولات ونجاته وهدايته وضلال المتآمرين وخيبتهم.
واللّه - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا. بفضل من اللّه ورحمة.
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة .. تجيء المنة الكبرى .. منة الرسالة: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً».
وهي منة اللّه على «الإنسان» في هذه الأرض. المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا. ونشأ بها «الإنسان» كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى ..
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة. عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب ..
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية ..(1/149)
وإذا كانت منة يذكر اللّه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلأنه هو أول من عرفها وذاقها. وأكبر من عرفها وذاقها. وأعرف من عرفها وذاقها .. «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (1).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 756](1/150)
كيف أنقذ القرآن المسلمين من الجاهلية للإسلام
قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147] ..
نعم! ما يفعل اللّه بعذابكم - إن شكرتم وآمنتم؟ إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان .. إنها ليست شهوة التعذيب، ولا رغبة التنكيل ولا التذاذ الآلام، ولا إظهار البطش والسلطان .. تعالى اللّه عن ذلك كله علوا كبيرا .. فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان فهنالك الغفران والرضوان. وهناك شكر اللّه - سبحانه - لعبده. وعلمه - سبحانه - بعبده ..
وشكر اللّه - سبحانه - للعبد، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة .. إنه معلوم أن الشكر من اللّه - سبحانه - معناه الرضى، ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب .. ولكن التعبير بأن اللّه - سبحانه - شاكر .. تعبير عميق الإيحاء! وإذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين .. يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم .. وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم .. إذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين يشكر .. فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين المغمورين بنعمة اللّه .. تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم؟! ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب. ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق .. الطريق إلى اللّه الواهب المنعم، الشاكر العليم ..
وبعد .. فهذا جزء واحد، من ثلاثين جزءا، من هذا القرآن .. يضم جناحيه على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم والتنظيف والتقويم. وينشئ في عالم النفس، وفي واقع المجتمع، وفي نظام الحياة، ذلك البناء الضخم المنسق العريض. ويعلن مولد الإنسان الجديد الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلا ولا شبيها، في مثاليته وواقعيته. وفي نظافته وتطهره، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين .. هذا الإنسان(1/151)
الذي التقطة المنهج الرباني من سفح الجاهلية، ودرج به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. في يسر. وفي رفق وفي لين .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 786](1/152)
بناء المجتمع المسلم وتطهيره من أدران الجاهلية
إن هذه السورة (سورة النساء) تعالج بناء التصور الإسلامي الصحيح، في ضمير الجماعة المسلمة التي التقطها الإسلام من سفح الجاهلية، ليرقى بها صعدا في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة وتخليص هذا الضمير من رواسب الجاهلية، التي تغبش الصورة! أو - كما قلنا هناك - محو الملامح الجاهلية وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة ..
ثم تعالج - على ضوء التصور الجديد - ضمير الأمة المسلمة، وخلقها، وتقاليدها الاجتماعية، وتخلصه من رواسب الجاهلية في الخلق والتقاليد كما خلصته من رواسب الجاهلية في التصور والاعتقاد. وتنظم حياتها الاجتماعية، وروابطها العائلية، على أساس المنهج الرباني القويم.
وهي - في أثناء هذا وذلك - تواجه العقائد المنحرفة، وتواجه أصحاب هذه العقائد، سواء منهم المشركون أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى وتصحح هذه العقائد وتقرر وجه الحق في الانحرافات التي تفسدها.
ثم تخوض بالجماعة المسلمة معركة حامية مع أهل الكتاب بصفة عامة، واليهود من أهل الكتاب بصفة خاصة. فهم الذين وقفوا للدعوة الجديدة منذ أن وصل رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومنذ أن تبين اليهود خطر هذه الدعوة الجديدة على كيانهم ووضعهم الممتاز في يثرب، ودعاويهم في التفرد بالقرب من اللّه، وأنهم شعب اللّه المختار، ومن ثم حربهم للدعوة الجديدة بكل سلاح! والسورة تكشف طبيعتهم ووسائلهم، وتاريخهم مع أنبيائهم أنفسهم، مما يصور موقفهم من دعوة الحق أياً كان ممثلها، ولو كان هو نبيهم وقائدهم ومنقذهم!
كذلك تبين السورة للأمة المسلمة - بعد هذا كله - جسامة التبعة الملقاة على عاتقها، وضخامة الدور المقدر لها، وحكمة إعدادها وتطهيرها وتصفية رواسب الجاهلية في ضميرها وفي حياتها، وضرورة أخذها هذا الأمر بما يستحق من يقظة وقوة، وأداء للتكاليف(1/153)
التي يتطلبها هذا الدور الضخم، بما في ذلك من جهاد في عالم النفس وجهاد في عالم الواقع، وتضحيات ثقال ..
وقد سارت السورة في طريقها هذا، في كل حلقاتها الماضية، وبقيتها في هذا الجزء، بقية من هذا المنهج، على نفس الطريق ..
يبدأ هذا الجزء بطرف من تطهير النفس وتطهير المجتمع، وإشاعة الثقة في جو الجماعة المسلمة، واستبعاد قالة السوء فيها - مع الانتصاف من الظلم - والحض على العفو والسماحة، وتقرير أن اللّه لا يحب الجهر بالسوء - إلا من مظلوم ينتصف لظلمه - ومع هذا فإنه سبحانه يحب العفو عن السوء، وهو «عفو» «قدير».
ثم بيان لطبيعة التصور الإسلامي، الذي يجعل دين اللّه واحدا، ويجعل رسل اللّه موكبا يحمل هذا الدين الواحد ويجعل التفرقة بين الرسل، والتفرقة بين ما جاءوا به كفرا صراحا .. هذا البيان يجيء بصدد التنديد باليهود - من أهل الكتاب - الذين ينكرون النبوة والأنبياء - بعد أنبيائهم - تعصبا وحقدا.
ومن هنا تبدأ جولة مع اليهود تكشف عن تعنتهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم: موسى - عليه السلام - مما يكشف عن طبيعة السوء فيهم، وموقفهم تجاه الحق ودعوته أيا كان الداعي إلى هذا الحق ولو كان هو نبيهم الأكبر موسى، وكذلك موقفهم من عيسى عليه السلام وأمه وإطلاق قالة السوء فيها - مما يكرهه اللّه ولا يحبه - فيبدو عندئذ موقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن دعوة الحق الأخيرة مفهوما ومكشوفا!
وبمناسبة دعاوى اليهود على المسيح عليه السلام، وتبجحهم بقتله! يقرر القرآن حقيقة الأمر، وطبيعة هذا الزعم. ويذكر كيف عاقب اللّه اليهود على ظلمهم وصدهم عن سبيل اللّه، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل .. بحرمانهم من بعض الطيبات التي أحلت لهم في الدنيا، وبالعذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة. مستثنيا الراسخين في العلم والمؤمنين الذين عرفوا الحق وآمنوا به واتبعوه
ويرد على تكذيب اليهود برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقرير أنها أمر طبيعي مألوف لا يثير عجبا ولا غرابة ولا استنكارا. إذ هو جاء على سنة اللّه في إرسال الرسل للبشر من لدن نوح(1/154)
عليه السلام ثم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود .. وغيرهم ممن يقر اليهود برسالة بعضهم وينكرون رسالة بعضهم تعنتا وحقدا. وهو الأمر الطبيعي أن يرسل اللّه لعباده رسلا مبشرين ومنذرين .. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. فهو أمر ضروري، فوق أنه طبيعي ..
وفي مقابل إنكار اليهود يقرر شهادة اللّه - سبحانه - وشهادة الملائكة. وكفى باللّه شهيدا. ويتوعد الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه .. الذين كفروا وظلموا .. يتوعدهم ألا يغفر اللّه لهم وألا يهديهم سبيلا إلا سبيل جهنم خالدين فيها أبدا .. ويعقب على هذا بنداء للناس كافة، وإعلانهم أن هذا الرسول قد جاءهم بالحق من ربهم، ودعوتهم إلى الإيمان، وإلا فإن للّه ما في السماوات والأرض. وقد شهد بصحة هذه الرسالة ودعاهم إلى الإيمان بها، فهم إذن وما يختارون لأنفسهم بإزاء دعوة ممن له ما في السماوات والأرض.
وهكذا تنتهي هذه الجولة مع اليهود من أهل الكتاب. وقد كشفت عن طبيعتهم ووسائلهم وعادة السوء فيهم من قديم، وردت كيدهم بهذا الكشف، وقررت كلمة الحق في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقامت الحجة على الناس بشهادة اللّه سبحانه .. فوق ما قررته من جسامة تبعة الرسل، وأصحاب دعوة الحق، فهي إقامة الحجة على الناس من جانب، ومن الجانب الآخر أن أمر الناس كلهم معلق بأعناق الرسل والمؤمنين برسالتهم، لينجو الناس من عقاب اللّه أو يستحقوه عن بينة .. وهي تبعة خطيرة جسيمة.
فإذا انتهت هذه الجولة مع اليهود وأنصف اللّه عيسى بن مريم وأمه منهم وكذب دعاوى السوء اليهودية عن عيسى وعن مريم .. بدأت الجولة الثانية مع النصارى - أتباع عيسى عليه السلام - لتصحيح غلوهم في أمر المسيح - عبد اللّه ونبيه - وكفهم عن هذا الغلو، وتقرير الحق في شأنه: فهو عبد اللّه لا يستنكف أن يكون عبدا للّه. وكذلك الملائكة - تصحيحا لمزاعمهم عن روح القدس - ونفي التثليث ونفي الأبوة عن اللّه سبحانه وتعالى(1/155)
وفي ثنايا هذا التصحيح يتقرر التصور الإسلامي الصحيح، ويتمحض الأمر كله في أن يكون: ألوهية وعبودية .. ألوهية اللّه وحده وعبودية كل من عداه .. وهي القاعدة الكبرى في العقيدة الإسلامية، والسمة البارزة، والمقوم الأساسي ..
ومن ثم يجيء التبشير للمؤمنين، والإنذار للكافرين المستنكفين عن العبودية للّه ويجيء إعلان عام للناس كالذي ختمت به الجولة الأولى مع اليهود، بأنه قد جاء للناس برهان من ربهم ونور مبين، فلا حجة ولا شبهة ولا معذرة للمتخلفين.
وتختم السورة بآية تحتوي بقية في أحكام المواريث في حالة الكلالة. وقد سبق في السورة حكم بعض الحالات. وهذه بقيتها .. وهي بقية من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي الجديد الذي جاء الإسلام ليقيم على أساسه حياة الجماعة المسلمة ويحولها - كما قلنا في أول السورة - إلى أمة، لها طابع الأمة المتميزة ونظامها وخصائصها المستقلة. لتؤدي دورها الضخم في الحياة البشرية وفي المجتمع الإنساني. دور القيادة والوصاية والتقويم.
وهكذا يبدو - من استعراض السورة كلها، ثم استعراض هذا القطاع منها - أن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، يسير مع التهذيب الخلقي، مع تصحيح العقيدة والتصور، مع خوض المعركة مع الأعداء المتربصين بالجماعة المسلمة، مع بيان ضخامة التبعة والدور الذي على هذه الجماعة أن تقوم به .. وأن القرآن - كتاب هذه الدعوة ودستور هذه الأمة - ينهض بهذا كله .. في صورة شاملة كاملة متوازنة دقيقة. صورة تجعل من الحتم على كل من يريد إعادة بناء هذه الأمة وإحياءها وبعثها، لتنهض من جديد بتبعاتها ودورها، أن يتخذ من هذا القرآن منهجا لدعوته، ومنهجا لحركته، ومنهجا لكل خطوة في طريق الإحياء والبعث وإعادة البناء .. والقرآن حاضر لأداء دوره الذي أداه أول مرة. وهو خطاب اللّه الباقي للنفس البشرية في كل أطوارها. لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد .. كما يقول عنه أعرف الناس به - صلى الله عليه وسلم - الذي جاهد به الكفار والمنافقين وأهل الكتاب المنحرفين وأقام به هذه الأمة المتفردة في تاريخ الناس أجمعين. (1).
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 791](1/156)
كمال الدين برسالة الإسلام
قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} [المائدة: 3] ..
اليوم .. الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع .. أكمل اللّه هذا الدين. فما عادت فيه زيادة لمستزيد. وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل. ورضي لهم «الإسلام» دينا فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه اللّه للمؤمنين.
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة، وتوجيهات عميقة، ومقتضيات وتكاليف ..
إن المؤمن يقف أولا: أمام إكمال هذا الدين يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة. رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين .. فماذا يرى؟ .. يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل. موكب الهدى والنور. ويرى معالم الطريق، على طول الطريق. ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه. ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان .. رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة .. ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه متكيفة بهذه الظروف .. كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف ..
حتى إذا أراد اللّه أن يختم رسالاته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة، رسولا خاتم النبيين برسالة «للإنسان» لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة .. رسالة تخاطب «الإنسان» من وراء الظروف والبيئات والأزمنة لأنها تخاطب(1/157)
فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة «الإنسان» من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان .. وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة «الإنسان» منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار .. وقال اللّه - سبحانه - للذين آمنوا: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
فأعلن لهم إكمال العقيدة، وإكمال الشريعة معا .. فهذا هو الدين .. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال. ولا قصورا يستدعي الإضافة. ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير .. وإلا فما هو بمؤمن وما هو بمقر بصدق اللّه وما هو بمرتض ما ارتضاه اللّه للمؤمنين! إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن، هي شريعة كل زمان، لأنها - بشهادة اللّه - شريعة الدين الذي جاء «للإنسان» في كل زمان وفي كل مكان لا لجماعة من بني الإنسان، في جيل من الأجيال، في مكان من الأمكنة، كما كانت تجيء الرسل والرسالات.
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي. والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان دون أن تخرج عليه، إلا أن تخرج من اطار الإيمان! واللّه الذي خلق «الإنسان» ويعلم من خلق هو الذي رضي له هذا الدين المحتوي على هذه الشريعة.
فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من اللّه بحاجات الإنسان وبأطوار الإنسان! ويقف المؤمن ثانيا: أمام إتمام نعمة اللّه على المؤمنين، بإكمال هذا الدين وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة.(1/158)
النعمة التي تمثل مولد «الإنسان» في الحقيقة، كما تمثل نشأته واكتماله. «فالإنسان» لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له. وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين. وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه.
و «الإنسان» لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة اللّه وحده وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع اللّه وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه.
إن معرفة «الإنسان» بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد «الإنسان» .. إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوي يمكن أن يكون «حيوانا» أو أن يكون «مشروع إنسان» في طريقه إلى التكوين! ولكنه لا يكون «الإنسان» في أكمل صورة للإنسان، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن ..
والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان! (1)
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية، لهو الذي يحقق «للإنسان» «إنسانيته» كاملة .. يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي، في اللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات، إلى دائرة «التصور» الإنساني، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات.
عالم الشهادة وعالم الغيب .. عالم المادة وعالم ما وراء المادة .. وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود! ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد اللّه، من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه. فإلى اللّه وحده يتجه بالعبادة، ومن اللّه وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام، وعلى اللّه وحده يتوكل ومنه وحده يخاف (2) .. ويحققها له، بالمنهج الرباني، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء، والاستعلاء على نوازع الحيوان، ولذائذ البهيمة وانطلاق
__________
(1) - تراجع المقدمة ص 11 - ص 18 وكتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».
(2) - راجع كتاب «هذا الدين» ص 15 - ص 20. «دار الشروق».(1/159)
الأنعام! (1) ولا يدرك حقيقة نعمة اللّه في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه اللّه - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها .. ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة .. هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة اللّه في هذا الدين
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان .. هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان. (2)
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى، وويلات التخبط والاضطراب، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام. (3)
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات. لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن ..
كانوا قد ذاقوا الجاهلية .. ذاقوا تصوراتها الاعتقادية. وذاقوا أوضاعها الاجتماعية. وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية. وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة اللّه عليهم بهذا الدين وحقيقة فضل اللّه عليهم ومنته بالإسلام.
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية وساربهم في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء (4) - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك.
__________
(1) - راجع تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» الجزء الثاني من الظلال: ص 206 - ص 211.
(2) - يراجع فصل: «تيه وركام» في كتاب: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».
(3) - يراجع فصل: «تخبط واضطراب» في كتاب: «الإسلام ومشكلات الحضارة». «دار الشروق».
(4) - يراجع مقدمة الحديث عن سورة النساء في الجزء الرابع من الظلال من هذه الطبعة ص 554 - ص 571(1/160)
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام، والملائكة، والجن، والكواكب، والأسلاف وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة لينقلهم إلى أفق التوحيد. إلى أفق الإيمان بإله واحد، قادر قاهر، رحيم ودود، سميع بصير، عليم خبير. عادل كامل. قريب مجيب. لا واسطة بينه وبين أحد والكل له عباد، والكل له عبيد .. ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة، ومن سلطان الرياسة، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة ..
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية. من الفوارق الطبقية ومن العادات الزرية ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان (لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية!).
«فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال. وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه، لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
«وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول: أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامة ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامة «وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره.
«وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء.
«وقد قيل عن عزة كليب وائل: إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه. وقيل: «لا حر بوادي عوف»(1/161)
لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره. فكلهم أحرار في حكم العبيد .. » (1)
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية .. كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة، والمرأة المنكودة، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها، والثارات والغارات والنهب والسلب، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة، وتخاذل وخذلان القبائل كلها، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا! (2)
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة. في جيل واحد. عرف السفح وعرف القمة. عرف الجاهلية وعرف الإسلام. ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول اللّه لهم: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» ..
ويقف المؤمن ثالثا: أمام ارتضاء اللّه الإسلام دينا للذين آمنوا .. يقف أمام رعاية اللّه - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه .. وهو تعبير يشي بحب اللّه لهذه الأمة ورضاه عنها، حتى ليختار لها منهج حياتها ..
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا، يكافىء هذه الرعاية الجليلة .. أستغفر اللّه .. فما يكافىء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه .. وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة، ومعرفة المنعم .. وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه.
إن ارتضاء اللّه الإسلام دينا لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار. ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار .. وإلا فما أنكد
__________
(1) - من كتاب: «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» للأستاذ العقاد ص 150 ص 151
(2) - يراجع تفسير سورة الفيل في الجزء الثلاثين من الظلال وكذلك الجزء الرابع من ص 501 - ص 513.(1/162)
وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه اللّه له، ليختار لنفسه غير ما اختاره اللّه! .. وإنها - إذن - لجريمة نكدة لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له اللّه .. ولقد يترك اللّه الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين .. فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه .. واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم اللّه .. فلن يتركهم اللّه أبدا ولن يمهلهم أبدا، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 842](1/163)
إخراج الأمة المسلمة
لقد كان اللّه الذي أخرج هذه الأمة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، يعدها لأمر عظيم هائل .. كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط. ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة. رياضة تخلعها أولا من جاهليتها وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته. ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان اللّه .. حتى تكون ربانية حقا .. وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم .. وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ولو أعجبها كثرة الخبيث! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس. ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان اللّه، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته .. وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة .. القوامة على البشرية .. تزن لها بميزان اللّه وتقدر لها بقدر اللّه وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث! وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان .. ذلك حين ينتفش الباطل فتراه النفوس رابيا وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته .. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان اللّه إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ولا عدة حوله ولا عدد .. إنما هو الحق .. الحق المجرد إلا من صفته وذاته وإلا من ثقله في ميزان اللّه وثباته وإلا من جماله الذاتي وسلطانه! لقد ربى اللّه هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوي الذي تؤتمن فيه على دين اللّه .. لا في نفوسها وضمائرها فحسب، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع، وأهواء ومشارب، وتصادم بين المصالح، وغلاب بين الأفراد والجماعات. ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام.(1/164)
لقد رباها بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى الابتلاءات، وشتى التشريعات وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها، وبمشاعرها واستجاباتها، وبسلوكها وأخلاقها، وبشريعتها ونظامها، لأن تقوم على دين اللّه في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر ..
وحقق اللّه ما يريده بهذه الأمة .. واللّه غالب على أمره .. وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين اللّه .. حلما يتمثل في واقع .. وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها اللّه .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 984](1/165)
إنشاء القرآن للأمة المسلمة
إن القرآن - وهو ينشىء هذه الأمة وينشئها - وهو يخرجها إلى الوجود إخراجا. كما قال اللّه تعالى في التعبير القرآني الدقيق: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ..
إن القرآن وهو ينشىء هذه الأمة من حيث لم تكن وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» .. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث: حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معا .. فقد كانت - على التحقيق - إنشاء وتنشئة، كانت ميلادا جديدا للأمة بل ميلادا جديدا «للإنسان» في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت - على وجه التحديد - «نشأة»! و «ميلادا» للأمة العربية وللإنسان كله! وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي - والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية - وهو ديوان العرب، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود، والكون والإنسان والخلق والسلوك كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم ولباب ثقافتهم وحضارتهم وكينونتهم كلها بالاختصار ..
حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان في ظل القرآن وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان ومن قيم في الحياة الإنسانية ومن نظام للمجتمع ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور .. ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده .. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني ..
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية .. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد .. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت «إخراجا» من صنع اللّه كتعبير القرآن الدقيق .. وكانت أعجب نشأة وأغرب إخراج .. فهي المرة الأولى والأخيرة - فيما نعلم - التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب!(1/166)
و «تخرج» فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب .. فهذه الكلمات .. كلمات اللّه ..
ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن «يخرجها» اللّه بكلماته وقبل أن ينشئها اللّه بقرآنه؟
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية! ولكن أين كانت في الوجود «الإنساني»؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟
لقد «نشأت» هذه الأمة نشأتها بهذا الدين ونشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب اللّه الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها .. لا بشيء آخر .. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها اللّه وعده وهو يقول للعرب: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ .. أَفَلا تَعْقِلُونَ»؟
فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض وكان لها دورها في التاريخ وكان لها «وجود إنساني» ابتداء، وحضارة عالمية ثانيا .. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة اللّه هذه على الأمة العربية ويجحدوا فضل اللّه في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم .. ومن ثم جعل لهم وجودا وذكرا وتاريخا وحضارة - يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم اللّه إياه وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد .. بل إلى الوجود يوم أخرج اللّه منهم الأمة المسلمة! نقول .. إن القرآن حين كان «ينشى ء» هذه الأمة و «ينشئها» .. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها .. وينظم مجتمعها - أو يقيمه ابتداء - على أساس الميلاد الجديد ..
وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها - ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها - والمعركتان(1/167)
موصولتان في الزمان والمكان! حين كان القرآن يصنع ذلك كله .. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحدّ الإسلام ويربط بهذا التصور - في هذه النقطة بالذات - نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى اللّه ..
نظامها الرباني .. وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائما ومنبثقا من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحدّ الإسلام! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها والطريقة التي تتلقى بها والمنهج الذي تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجدّ من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها .. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحدّه الإسلام ..
وعندئذ يلتقي «النظام الأساسي» لهذه الأمة بالعقيدة التي تؤمن بها .. في وحدة لا تتجزأ ولا تفترق عناصرها ..
وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقا كاملا .. وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل «مسلم» فيها! إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع - بإذن اللّه - لا لمجرد الإبلاغ والإقناع: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» ..
ويقول لها: إن الناس لا يؤمنون - ابتداء - إلا أن يتحاكموا إلى منهج اللّه ممثلا - في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الرسول. وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة ولا يكفي أن يتحاكموا إليه - ليحسبوا مؤمنين - بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين: «فَلا وَرَبِّكَ .. لا يُؤْمِنُونَ .. حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» .. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - أي إلى غير شريعة اللّه - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ(1/168)
آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ - وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ - وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً».
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل اللّه والتحاكم إلى رسول اللّه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً».
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع اللّه - عز وجل - في هذا القرآن - وأن تطيع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في سنته - وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ..
ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية .. إن المرجع هو اللّه ورسوله .. أي شريعة اللّه وسنة رسوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ..
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة .. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه .. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى اللّه ورسوله .. شرط الإيمان وحد الإسلام .. شرطا واضحا ونصا صريحا: «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
ولا ننس ما سبق بيانه عند قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ»
من أن اليهود وصموا بالشرك باللّه، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أربابا من دون اللّه - لا لأنهم عبدوهم - ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع - ابتداء من عند أنفسهم - فجعلوا بذلك مشركين .. الشرك الذي يغفر اللّه كل ما عداه. حتى الكبائر .. «وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر» .. فرد الأمر كله إلى إفراد اللّه - سبحانه - بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص(1/169)
الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلما ويبقى المؤمن مؤمنا. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره .. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره اللّه أبدا .. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. «إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. »
هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض.
من إقرار مبادئ العدل والخلق على أساس منهج اللّه القويم السليم: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ .. إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ .. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 685](1/170)
حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الاجتماعية أو الأخلاقية
إن أصحاب الدعوة إلى دين اللّه، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما .. لتقرير هذه العقيدة ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها ..
لقد شاءت حكمة اللّه أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة.
وأن يبدأ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن يمضي في دعوته يعرّف الناس بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: «إله» ومعنى: «لا إله إلا الله» .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا .. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد اللّه - سبحانه - بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى اللّه .. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان ..
كانوا يعلمون أن: «لا إله إلا اللّه» ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها اللّه .. ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة: «لا إله إلا اللّه» - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم .. ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام(1/171)
. فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة اللّه أن تبدأ بكل هذا العناء؟
لقد بعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس .. وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا .. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة ..
ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه .. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا اللّه: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن اللّه - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه .. إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق .. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي .. إلى يد طاغوت عربي ..(1/172)
فالطاغوت كله طاغوت! ..
إن الأرض للّه، ويجب أن تخلص للّه. ولا تخلص للّه إلّا أن ترتفع عليها راية: «لا إله إلا اللّه» .. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي ..
إلى طاغوت عربي .. فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد للّه وحده، ولا يكونون عبيدا للّه وحده إلا أن ترتفع راية: «لا إله إلا اللّه» .. «لا إله إلا اللّه» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا للّه، ولا شريعة إلا من اللّه، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله للّه .. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية اللّه. وهذا هو الطريق ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة .. قلة قليلة تملك المال والتجارة وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع .. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا! وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا يومها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة، لا نقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه: «لا إله إلا اللّه» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها .. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه ..(1/173)
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق .. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله للّه ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به اللّه من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه اللّه ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: «لا إله إلا الله» ..
وبعث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - والمستوي الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته .. كالذي يقوله طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد!
... إلخ وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع .. فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ، فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا، وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِى إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِى مِنْهُ.وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِى تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِى نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الاِسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا.فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالِىَ(1/174)
بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِى كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلاَنُ.تُسَمِّى مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لاَ تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمُ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِى يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِىَ ابْنَهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، إِلاَّ نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. (أخرجه البخاري في كتاب النكاح) (1).
وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين ..
وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير ..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها .. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا اللّه المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن اللّه - سبحانه - وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق ..
لقد كان اللّه - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء! فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة .. لما عرف الناس ربهم
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - 20/ 7 (5127) -التاط: التصق به(1/175)
وعبدوه وحده .. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء .. لما تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله» .. صنع اللّه بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون ..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس .. لا ليتقرر فيها سلطان العرب .. ولكن ليتقرر فيها سلطان اللّه ..
لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل اللّه، ويزن بميزان اللّه، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم اللّه وحده؟ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها: «لا إله إلا اللّه»! وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها اللّه - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى اللّه وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات ..
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام ..
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا، لا يدخل فيه الغلب والسلطان .. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم .. وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا .. وعدا واحدا هو الجنة .. هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان، في كل زمان وفي كل مكان، وهو: «لا إله إلا اللّه»! فلما أن ابتلاهم اللّه فصبروا ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ولما أن علم اللّه منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم(1/176)
- ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت ..
لما أن علم اللّه منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها اللّه سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال .. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة اللّه ينفذونها، وعلى عدل اللّه يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم إنما يكون السلطان الذي في أيديهم للّه ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من اللّه، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوي الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها .. راية لا إله إلا اللّه .. ولا ترفع معها سواها .. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص للّه، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية .. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: «لا إله إلا اللّه» ..
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: «لا إله إلا اللّه» في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق ..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها .. فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية ..
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا .. فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة .. كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير .. وكما أن الشجرة الضخمة(1/177)
الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء .. لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء .. فكذلك هذا الدين .. إن نظامه يتناول الحياة كلها ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ولا في المعاملات الظاهرة المادية، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا .. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية ..
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا ..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها .. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء، والضارب من جذورها في الأعماق ..
ومتى استقرت عقيدة: «لا إله إلا اللّه» في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه: «لا إله إلا اللّه» وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة .. واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته.
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان .. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها(1/178)
وأوضاعها، وجندها وسلطانها، ودعايتها وإعلامها .. فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات! (1)
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم .. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد .. جاء ليحكم الحياة في واقعها ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره .. يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه
ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية اللّه وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا اللّه، وأن الحاكمية ليست إلا للّه ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون اللّه ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة ..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا، تكون له حياة واقعية، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع .. لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع ..
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها .. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها ..
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة اللّه .. ومن ثم لم ينزل اللّه في هذه الفترة تنظيمات وشرائع وإنما نزل لهم عقيدة، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ ..
__________
(1) - يراجع كيف حرم اللّه الخمر في الجزء الخامس من هذه الظلال ص 663 - 667 وكيف عجزت أمريكا عن ذلك في كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.(1/179)
ولم يشأ اللّه أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا .. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته ..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة اللّه وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له اللّه ..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض، تواجه مستقبلا غير موجود ..
واللّه يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده .. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا للّه، ولا يتلقوا الشرائع إلا من اللّه. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا اللّه بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية للّه في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان اللّه بادعاء هذا الحق لأنفسهم .. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ..(1/180)
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة .. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة ..
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس وألا تحكم في حياتها كلها إلا اللّه.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي .. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد ..
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني القويم، المؤسس على حكمة العليم الحكيم، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة .. نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين! وهذا وهم تنشئه العجلة! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في أولها تحت راية قومية، أو اجتماعية، أو أخلاقية، تيسيرا للطريق! إن النفوس يجب أن تخلص أولا للّه، وتعلن عبوديتها له، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره ..
من ناحية المبدأ .. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه! إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية للّه، والتحرر من سلطان سواه .. لا من أن النظام المعروض عليها .. في ذاته .. خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام اللّه خير في ذاته، لأنه من شرع اللّه. ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع اللّه .. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة .. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع اللّه وحده ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام. وليس للإسلام مدلول سواه. فمن رغب في الإسلام فقد(1/181)
فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 1004](1/182)
الأمر بالزينة الحلال والنهي عن الفواحش
قال تعالى: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى ..
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها اللّه لعباده دون إذن منه ولا شرع وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على اللّه ما لا يعلم، ويزعم من ذلك ما يزعم.
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله اللّه عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه اللّه، بل أنعم به على العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم، لا نجلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» .. ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب. وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك! في صحيح مسلم عَنْ عروة قَالَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً إِلاَّ أَنْ تُعْطِيَهُمُ الْحُمْسُ ثِيَابًا فَيُعْطِى الرِّجَالُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءُ النِّسَاءَ وَكَانَتِ الْحُمْسُ لاَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَبْلُغُونَ عَرَفَاتٍ.(1/183)
قَالَ هِشَامٌ فَحَدَّثَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتِ الْحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قَالَتْ كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَكَانَ الْحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ يَقُولُونَ لاَ نُفِيضُ إِلاَّ مِنَ الْحَرَمِ فَلَمَّا نَزَلَتْ (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ." (1) ..
وجاء في تفسير القرطبي المسمى «أحكام القرآن»: «وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسما في أيام حجهم، ويكتفون باليسير من الطعام، ويطوفون عراة. فقيل لهم: {آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} أي في تحريم ما لم يحرم عليكم.» (2) ..
والإسراف يكون بتجاوز الحد، كما قد يكون بتحريم الحلال. كلاهما تجاوز للحد. هذا باعتبار، وذاك باعتبار.
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب. بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها اللّه لعباده، وتحريم الطيبات من الرزق. فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه اللّه للناس من الزينة أو من الطيبات. فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من اللّه: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ»؟
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس، وهذه الطيبات من الرزق، هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا: «قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. ولن يكون الشأن كذلك، ثم تكون محرمة عليهم فما يخصهم اللّه في الآخرة بشيء هو حرام! «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».
والذين «يعلمون» حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (3014)
(2) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (7/ 195)(1/184)
فأما الذي حرمه اللّه حقا، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه اللّه حقا هو الذي يزاولونه فعلا! «قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ - ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ - وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ..
هذا هو الذي حرمه اللّه. الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود اللّه. ظاهرة للناس أو خافية. والإثم.
وهو كل معصية للّه على وجه الإجمال. والبغي بغير الحق. وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما اللّه أيضا - وإشراك ما لم يجعل اللّه به قوة ولا سلطانا مع اللّه - سبحانه - في خصائصه. ومنه هذا الذي كان واقعا في الجاهلية، وهو الواقع في كل جاهلية. من إشراك غير اللّه ليشرع للناس ويزاول خصائص الألوهية. وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون. كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم. ومن نسبتهم هذا إلى أمر اللّه بغير علم ولا يقين ..
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ووجه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ .. » ما رواه الكلبي قال: «لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها .. فنزلت الآية .. » (1)
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها! ناس يطوفون ببيت اللّه عرايا فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: «فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» .. فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين، في زينة اللّه التي أنعم بها على البشر لإرادته بهم الكرامة والستر ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري، وليتميزوا عن العري الحيواني .. الجسمي والنفسي .. إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت اللّه في زينة اللّه وفق فطرة
__________
(1) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (7/ 200)
قلت: الكلبي متهم فلا يوثق بما تفرد به(1/185)
اللّه «عيروهم»! إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس .. هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب؟ وجاهلية المشركين الإغريق؟ وجاهلية المشركين الرومان؟ وجاهلية المشركين الفرس؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان؟! ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس، وتعريهم من التقوى والحياء؟ ثم تدعو هذا رقيا وحضارة وتجديدا ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات، بأنهن «رجعيات».
«تقليديات». «ريفيات»! المسخ هو المسخ. والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس. وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين. والتبجح بعد ذلك هو التبجح .. «أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!».
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري، وهذا الانتكاس، وهذه البهيمية، وهذا التبجح، بالشرك، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون اللّه؟
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم، لضمان السيادة لها في الجزيرة .. ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء .. فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك .. ولا يملكون لأمرهم ردا ..
إن بيوت الأزياء ومصمميها، وأساتذة التجميل ودكاكينها، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح، فهي تطيع صاغرة .. تطيع تلك الأرباب. وإلا «عيرت» من بقية البهائم المغلوبة على أمرها! ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ ووراء دكاكين التجميل؟ ووراء سعار العري والتكشف؟ ووراء الأفلام والصور والروايات(1/186)
والقصص، والمجلات والصحف، التي تقود هذه الحملة المسعورة .. وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخورا متنقلا للدعارة؟! من الذي يقبع وراء هذا كله؟
الذي يقبع وراء هذه الأجهزة كلها، في العالم كله .. يهود .. يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان .. أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه، وإفساد الفطرة البشرية، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه! إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع اللّه ومنهجه للحياة .. ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق. إنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى:
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة.
كذلك تتعلق بإبراز خصائص «الإنسان» في الجنس البشري، وتغليب الطابع «الإنساني» في هذا الجنس على الطابع الحيواني. والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق. وتجعل العري - الحيواني - تقدما ورقيا. والستر - الإنساني - تأخرا ورجعية! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان. وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: ما للدين والزي؟ ما للدين وملابس النساء؟ ما للدين والتجميل؟ ..
إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان!!! ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية، لها كل هذه الأهمية في ميزان اللّه وفي حساب الإسلام، لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ولارتباطها ثانيا بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته، أو بفساد هذا كله .. فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة .. إنه يعقب بتنبيه بني آدم، إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».(1/187)
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة! والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون. وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لاحظناه من التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم - في سورة الأنعام - (1) ومواجهته للجاهلية - هنا في شأن اللباس والطعام ..
ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار، بدأ أولا بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلا من هذه التقاليد وعما تزعمه - افتراء على اللّه - من أن هذا الذي تزاوله هو من شرع اللّه. ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن اللّه حرم هذا الذي يحرمونه، وأحل هذا الذي يحلونه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر اللّه وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهية: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيء! كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ: قُلْ: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. قُلْ: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه، قال لهم: تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم اللّه عليكم وحقيقة ما أمركم به: عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن والذي لا يجوز الأخذ عن غيره: «قُلْ: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً .. إلخ» ..
__________
(1) - ص 1196 - 1229 في هذا الجزء الثامن(1/188)
وهنا كذلك سار على نفس النسق، وعلى ذات الخطوات .. ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام. وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك، وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل الشيطان وكيده ونعمة اللّه عليهم في إنزال اللباس والرياش .. ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع اللّه وأمره: «قُلْ: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. قُلْ: هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».مشيرا هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم .. حتى إذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلا: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ - ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ - وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر اللّه به في شأن اللباس والطعام - لا ما يدعونه هم وينسبونه إلى اللّه -: «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» ... «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك. لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية، ومن الذي يزاولها في حياة البشر. وقضية عبودية الناس ولمن تكون! ذات القضية، وذات المنهج في مواجهتها. وذات الخطوات .. وصدق اللّه العظيم: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة .. فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية .. وسبحان منزل هذا القرآن! (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1282](1/189)
سورة الأنعام في مواجهة الجاهلية
إن سورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهلية بها، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود .. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا .. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة .. بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة! ..
فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا ..
ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف! والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة ..
والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة، التي تحدد شخصيتها وملامحها .. ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحدا واحدا في إجمال، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون اللّه: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟(1/190)
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .. «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟ قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
وتواجه طلبهم خارقة مادية - غير القرآن - واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وأن الآيات في يد اللّه ومشيئته وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد اللّه.- وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية -: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً؟ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!» .. «وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ! فَقُلْ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ».
وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - الأمر الذي يحدثهم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فيه، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه ويطلبون قرآنا غيره، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته - بينما هم سادرون في عبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند اللّه كما يزعمون للّه الولد سبحانه بلا علم ولا بينة .. فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم، وفي وجودهم هم أنفسهم، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون، وما يتقلب بهم هم من أحوال وهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا اللّه .. وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى(1/191)
الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ. قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. «قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؟ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ. فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ! فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟» .. «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ قُلِ: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟ قُلْ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ؟ قُلِ: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» ..
«أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ..(1/192)
«قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً - سُبْحانَهُ - هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا؟ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ قُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» .. «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
وتصور لهم حضور اللّه - سبحانه - وشهوده لكل ما يهم به البشر، وكل ما يزاولون من نية وعمل مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة، كما يملؤه بالحذر واليقظة .. وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس اللّه في كل لحظة، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس اللّه الذي يأتي بغتة: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ، وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً، فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»
.. «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً! ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!».
وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة، وتكذيبهم بلقاء اللّه، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء، وفي الآخرة الجزاء .. ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم، وتبرئهم منهم إلى اللّه، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها، وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ. أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا(1/193)
يَكْسِبُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ..
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .. «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً. مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» .. «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ! فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ. هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم اللّه يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون ..
وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها: «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا؟ قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ؟ وَما ظَنُّ الَّذِينَ(1/194)
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ».
والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء. وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [3/ 1745](1/195)
وحدة العقيدة الإسلامية من لدن نوح عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -
من خلال استعراض سورة هود لحركة العقيدة الإسلامية. في التاريخ البشري كله، من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة: هي الدينونة للّه وحده بلا شريك، والعبودية له وحده بلا منازع والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل اللّه وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة وأن حرية الاختيار التي أعطاها اللّه للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ...
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق ..
لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .. «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ .. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ(1/196)
بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» ..
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة ..
ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والتهديد والإيذاء، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق، وفي نصر اللّه الذي لا شك آت ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم، بالتدمير على المكذبين، وبالنجاة للمؤمنين:
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)} وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)} [هود: 27، 33] ..
ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وفي قصة هود نجد هذا المشهد: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} [هود: 53 - 57] .. ثم(1/197)
تجيء العاقبة: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ!».
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)} [هود: 62 - 63] .. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!» ..
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)} [هود: 87، 93] .. ثم تجيء الخاتمة: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ!» ..(1/198)
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إلى دلالته: والتسرية عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله وبما أولاهم اللّه من رعايته ونصره وتوجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به .. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» .. «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ، وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» ... «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» ..
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق(1/199)
السورة وجوها وموضوعها، متوافيا مع أهدافها، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1841](1/200)
الإسلام أول عقيدة عرفتها البشرية والجاهلية طارئة
إن قوم نوح - عليه السلام - هؤلاء الذين شهدنا مدى جاهليتهم، ومدى إصرارهم على باطلهم، ومدى استنكارهم لدعوة الإسلام الخالص التي حملها نوح - عليه السلام - إليهم، وخلاصتها: التوحيد الخالص الذي يفرد اللّه - سبحانه - بالدينونة والعبودية ولا يجعل لأحد معه صفة الربوبية ..
إن قوم نوح هؤلاء .. هم ذرية آدم .. وآدم - كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل - وفي سورة البقرة كذلك - قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها - وهي المهمة التي خلقه اللّه لها وروده بالكفايات والاستعدادات اللازمة لها - بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها، وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها. وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق - هو وزوجه وبنوه - أن «يتبع» ما يأتيه من هدى اللّه، ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين.
وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما للّه متبعا هداه .. وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض حيث لم تكن معها عقيدة أخرى! فإذا نحن رأينا قوم نوح - وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا اللّه - قد صاروا إلى هذه الجاهلية - التي وصفتها القصة في هذه السورة - فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا. وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية. تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو اللّه وعدو الناس، كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى اللّه، واتباعه وحده، وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة .. ولقد خلق اللّه الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار - هو مناط الابتلاء - وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدى اللّه وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه، كما يملك أن ينحرف - ولو قيد شعرة - عن هدى اللّه إلى تعاليم غيره فيجتاله الشيطان حتى(1/201)
يقذف به - بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم - النبي المسلم - بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا اللّه.
وهذه الحقيقة .. حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة للّه وحده .. تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم «علماء الأديان المقارنة» وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح، وتأليه الشموس والكواكب .. إلى آخر ما تخبط فيه هذه «البحوث» التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند اللّه وإثبات أن الأديان من صنع البشر وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان! وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان - وفق ذلك المنهج الموجه! - من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم - عليه السلام - هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحا - عليه السلام - واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه .. القائم على التوحيد المطلق .. وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام .. القائم على التوحيد المطلق .. وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد - إنما كان الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة - وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية - حتى بعد انحراف الأجيال عنها - ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا! وقد وجدت هكذا كاملة منذ(1/202)
وجدت، لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية إنما هي آتية لهم من عند اللّه سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى ..
هذا ما يقرره القرآن الكريم ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال - إذن - لباحث مسلم - وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! - أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا!
ومع أننا هنا - في ظلال القرآن - لا نناقش الأخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن الإسلام - إذ أن مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل - .. ولكننا نلم بنموذج واحد، نعرضه في مواجهة المنهج القرآني والتقريرات القرآنية في هذه القضية ..
كتب الأستاذ العقاد في كتابه: «اللّه» في فصل أصل العقيدة: .. «ترقى الإنسان في العقائد. كما ترقى في العلوم والصناعات.
«فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته. فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى.
«وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات.
«لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى.
«وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة، وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه الأبدان، ولبثوا إلى زمن قريب يقولون بدورانها حول الأرض، ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر الألغاز والأحلام. ولم يخطر لأحد أن ينكر وجود الشمس لأن العقول كانت في ظلام من أمرها فوق ظلام. ولعلها لا تزال.
«فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال. وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس(1/203)
كاملة شاملة في عصر واحد وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر، وطورا بعد طور. وأسلوبا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى، بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل ويتناولها الحس والعيان.
«وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة. ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة. فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها. وليس في هذه النتيجة جديد يستغفر به العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء، إنما يبحث عن محال ... ».
كذلك كتب في فصل: «أطوار العقيدة الإلهية» في الكتاب نفسه:
«يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالآلهة والأرباب: وهي دور التعدد ودور التمييز والترجيح ودور الوحدانية «ففي دور التعدد كانت القبائل الأولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات، وقد تتجاوز العشرات إلى المئات.
ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده، أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور، وتقبل الصلوات والقرابين.
«وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقي الأرباب على كثرتها، ويأخذ رب منها في البروز والرجحان على سائرها. إما لأنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الأخرى بالزعامة، وتعتمد عليها في شؤون الدفاع والمعاش، وإما لأنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها الأرباب المختلفة، كأن يكون رب المطر والإقليم في حاجة إليه، أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الأرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية.(1/204)
«وفي الدور الثالث تتوحد الأمة، فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الأرباب في كل إقليم من الأقاليم المتفرقة. ويحدث في هذا الدور أن تفرض الأمة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها وصاحب عرشها، ويحدث أيضا أن ترضى من إله الأمة المغلوبة بالخضوع لإلها، مع بقائه وبقاء عبادته كبقاء التابع للمتبوع، والحاشية للملك المطاع.
«ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة إلّا بعد أطوار من الحضارة تشيع فيها المعرفة، ويتعذّر فيها على العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية، فتصف اللّه بما هو أقرب إلى الكمال والقداسة من صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلاقتها بإرادة اللّه وحكمته العالية، وكثيرا ما يتفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة، وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحظيرة السماوية ... » إلخ.
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية. وأن التطور من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الإجمال ..
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه: «موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية، منذ أن اتخذ الإنسان ربا، إلى أن عرف اللّه الأحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد» ..
والذي لا شك فيه أن اللّه سبحانه يقرر في كتابه الكريم، تقريرا واضحا جازما، شيئا آخر غير ما يقرره صاحب كتاب: «اللّه» متأثرا فيه بمنهج علماء الأديان المقارنة .. وأن الذي يقرره اللّه - سبحانه - أن آدم وهو أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة، وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية، وعرف الدينونة للّه وحده باتباع ما يتلقى منه وحده. وأنه عرّف بنيه بهذه العقيدة، فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ البشرية لا تعرف إلا الإسلام دينا، وإلا التوحيد عقيدة .. وأنه لما طال الأمد على الأجيال المتتابعة من(1/205)
ذرية آدم انحرفت عن التوحيد .. ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد .. ودانت لشتى الأرباب الزائفة ...
حتى جاءها نوح عليه السلام بالتوحيد من جديد. وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ولم ينج إلا المسلمون الموحدون الذين يعرفون «نزاهة التوحيد» وينكرون التعدد والتثنية وسائر الأرباب والعبادات الجاهلية!
ولنا أن نجزم أن أجيالا من ذراري هؤلاء الناجين عاشت كذلك بالإسلام القائم على التوحيد المطلق. قبل أن يطول عليهم الأمد، ويعودوا إلى الانحراف عن التوحيد من جديد .. وأنه هكذا كان شأن كل رسول: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ..
والذي لا شك فيه أن هذا شيء، والذي يقرره علماء الأديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب: «اللّه» شيء آخر. وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها .. وآراء الباحثين في تاريخ الأديان ليست سوى نظريات يعارض بعضها بعضا، فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين!
وما من شك أنه حين يقرر اللّه - سبحانه - أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمرا آخر مغايرا له تمام المغايرة، فإن قول اللّه يكون أولى بالاتباع. وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة .. وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند اللّه، ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم وأنه جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور ولم يجئ بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ، ولا في أية رسالة. كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء إنما يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين اللّه كله وهي أنه وحي من اللّه، وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور! وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية! ولعل هذه اللمحة المختصرة - التي لا نملك الاستطراد فيها في كتاب الظلال - تكشف لنا عن مدى الخطورة في تلقي مفهوماتنا الإسلامية - في أي جانب من(1/206)
جوانبها - عن مصدر غير إسلامي. كما تكشف لنا عن مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون منها. حتى وهم يتصدون لرد الافتراءات عن الإسلام من أعدائه .. «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (1) ..
ومن هذا التتابع التاريخي - الذي يقصه اللّه سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ..
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم - وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ - ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد - ولو على سبيل الاحتمال - وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف - عليه السلام - وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم - حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف -: «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيء، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ... (يوسف:37 - 40)
وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوربية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1882](1/207)
فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس، حتى صارت من أصول المنهج!
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع ..
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم .. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول اللّه سبحانه في مسألة من المسائل فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه «مسلم» أن يأخذ بتلك النتائج.
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية .. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة.
وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول اللّه سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول اللّه في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنيا ولا مفهوما! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير .. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث اللّه للناس رسولا يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة(1/208)
لغير اللّه سبحانه من الأرباب المتفرقة .. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة للّه وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده.
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك ..
إن البشرية اليوم - بجملتها - تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد باللّه سبحانه، وإنكار لوجوده .. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود اللّه سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم .. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود اللّه سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم «مسلمين» ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه - بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم ودينونتهم لغير اللّه من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر باللّه كالأولين. أو شرك باللّه كالآخرين (1) ..
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة.
__________
(1) - يراجع فصل: «لا إله إلا اللّه منهج حياة» في كتاب: «معالم في الطريق» نشر «دار الشروق»(1/209)
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية اللّه وحده، وتقديم الشعائر التعبدية للّه وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها للّه وحده .. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ..
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى اللّه مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده ..
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوي من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية .. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي - وهي تحسبه مجتمعا مسلما - وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع .. بعيدة جدا .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 1943](1/210)
كيف نشأ الفقه الإسلامي
لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ المجتمع المسلم إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي ..
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان عظيمتا الدلالة كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي وإدراك الطبيعة الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام المدونة، دون إدراك لهاتين الحقيقتين ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها وتحكمها وتعيش فيها .. الذين يفعلون ذلك ويحاولون تطبيق هذه الأحكام كأنها نشأت في فراغ وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ .. هؤلاء ليسوا «فقهاء»! وليس لهم «فقه» بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلا!
إن «فقه الحركة» يختلف اختلافا أساسيا عن «فقه الأوراق» مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي يقوم عليها ويستمد منها «فقه الأوراق»!
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره «الواقع» الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام. ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره. فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل تركيبه! ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي نشأ نشأته الأولى فيها .. إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن يعيش في فراغ!(1/211)
ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» ومن قول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - «إنا واللّه لا نولي هذا العمل أحدا سأله» ..
لقد نشأ هذا الحكم - كما نزلت تلك النصوص - في مجتمع مسلم ليطبق في هذا المجتمع وليعيش في هذا الوسط وليلبي حاجة ذلك المجتمع. وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي .. وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع إسلامي .. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة .. وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقوّمات كلها يعتبر «فراغا» بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح له، ولا يصلحه كذلك! .. ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي. وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني ..
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة ...
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم. كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه - اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة الشاقة ابتغاء رضوان اللّه تعالى - ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون عليها لحاجة في نفوسهم.
وهؤلاء يجب أن يمنعوها! ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا ..
إن الحركة هي العنصر المكوّن لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية ..(1/212)
أولا: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند اللّه وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة. فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد اللّه عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه بالحق ..
هؤلاء يفتح اللّه عليهم، ويجعل منهم ستارا لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة اللّه في الأرض - أي لينفذ حكم اللّه في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء إنما هو نصر لدين اللّه، وتمكين لربوبية اللّه في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة ولا عند حدود جنس معين ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوّم واحد من تلك المقوّمات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا «الإنسان» .. كل الإنسان: في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت (1).
وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لا حظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة .. وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها .. ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية ..
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين
__________
(1) - يراجع فصل «الجهاد في سبيل اللّه» في كتاب: «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/213)
ثم الأنصار. وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام .. في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة من جانب آخر إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية ..
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة .. لن يوجد اليوم أو غدا، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها .. وهذه نقطة البدء .. ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا اللّه عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء. وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار حتى يحكم اللّه بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكّن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض اللّه نظام إسلامي .. ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين والقيم الإيمانية .. ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم! ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى. فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة .. يتحرك لتحرير «الإنسان».كل الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه وليرفعه عن العبودية للطواغيت بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام -(1/214)
وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم .. ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه.
ثم يقال: ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية!
وهذا القول كذلك وهم ناشئ من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة .. إن المجتمع المسلم يكون أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه، والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية ..
سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية. أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له .. يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة. والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر!
وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام .. إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم. فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام. مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من فتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف. أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية ..(1/215)
وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام! هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟ ...
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة! أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة .. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر، وبقيمة وأخلاقه الحاضرة! هذه نقطة البدء في المتاهة .. ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ، ويوغل في هذا الفراغ، حتى يبعد في التيه، وحتى يأخذه الدوار! إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام .. لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ، ولم تتحرك في فراغ كذلك! إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي .. ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.(1/216)
إنه مجتمع جديد .. ومجتمع وليد .. ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير «الإنسان»، .. كل الإنسان .. في «الأرض» .. كل الأرض .. من العبودية لغير اللّه، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت .. أيا كانت هذه الطواغيت ..
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة، واختيار الإمام، واختيار أهل الشورى ... وما إليها ... قضايا كثيرة تثار، ويطرقها الباحثون في الإسلام .. في الفراغ .. في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه .. بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم .. وبقيمة وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته .. أعمال البنوك وأساسها الربوي .. شركات التأمين وقاعدتها الربوية .. تحديد النسل وما أدري ماذا؟! إلى آخر هذه «المشكلات» التي يشغل «الباحثون» بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم ..
إنهم جميعا - مع الأسف - يبدأون من نقطة البدء في المتاهة! يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام!
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة! إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم. إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية .. والعكس لا يمكن أن يكون أصلا! إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك .. لا ينشأ في الأدمغة والأوراق إنما ينشأ في واقع الحياة. وليست أية حياة. إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد .. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق .. وعندئذ تختلف الأمور جدا ..(1/217)
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل ... إلخ وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها، ولا شكلها، حتى نشرّع لها سلفا! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها .. ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها. ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك! إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين اللّه أن يطابق نفسه عليه!
ولكن الأمر غير ذلك تماما .. إن دين اللّه هو الأصل الذي يجب على البشرية أن تطابق نفسها عليه وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة .. ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد .. هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية اللّه في الأرض وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة اللّه وحدها في حياتهم ..
وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء. فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد، ويصدق اللّه من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم اللّه بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن اللّه له في الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه، وتميزوا بقيمة .. وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها .. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات ..
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر .. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية(1/218)
. من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا؟! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات؟!
وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته؟! وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا؟ .. وهكذا ..
وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه .. فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته!
إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها.
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين اللّه أن يطابق نفسه عليه. وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها .. حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره! ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية، والمجتمعات الجاهلية، والحاجات الجاهلية. وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه .. أو بعبارة أخرى .. تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين اللّه، وأعلنوا عبوديتكم للّه وحده، واشهدوا أن لا إله إلا اللّه بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به. وهو إفراد اللّه بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية(1/219)
في السماء وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها. وتنحية ربوبية العباد للعباد، بتنحية حاكمية العباد للعباد، وتشريع العباد للعباد.
وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود. وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة اللّه فعلا ..
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس، باستنبات البذور في الهواء، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء! إن العمل في الحقل «الفكري» للفقه الإسلامي عمل مريح! لأنه لا خطر فيه! ولكنه ليس عملا للإسلام ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته! وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة! أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - واللّه أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا!
إن دين اللّه يأبي أن يكون مجرد مطية ذلول، ومجرد خادم مطيع، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه، المتنكر له، الشارد عنه .. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه ..
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ، ولا تعمل في فراغ .. وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان اللّه ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع .. ولن تنعكس الآية أبدا.
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا. ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي. ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على «الجاهز» والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام. وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية «الجاهزة»! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن(1/220)
قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة .. إلى آخر ما يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر! كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية للّه فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض للّه وحده.
وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا. يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة .. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون اللّه - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة. وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك .. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام .. وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية:
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم اللّه بين من يسلمون للّه وبين قومهم بالحق .. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين! إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع .. ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا(1/221)
الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية ..
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية .. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة اللّه في خلال القرنين الأخيرين وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين وتوهمهم أنه لا يزال بخير وهو يمحى من الوجود محوا!
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد .. وجد من يوم أن قيل للناس: اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره، فعبدوه. ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت. إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدأ فلم تكن بعد قد نزّلت شرائع! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة للّه وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة ..
وهذا هو الطريق وحده وليس هنالك طريق آخر ..
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وببيان أحكام الإسلام! ولكن هذه إنما هي «الأمانيّ»!
فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة اللّه وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة .. والذي يبدؤه فرد، ثم تتبعه طليعة، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم اللّه بينها وبين قومها بالحق ويمكّن لها في الأرض .. ثم .. يدخل الناس في دين اللّه أفواجا .. ودين اللّه هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» ..(1/222)
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف يوسف - عليه السلام.
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2006](1/223)
مفهوم الدين في القرآن الكريم
قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] ..
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة «الدين» - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا .. إنه يعني: نظام الملك وشرعه .. فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته. إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه. وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم فطبقها يوسف عليهم عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيه .. وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها «الدين» ..
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا. سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهليين!
إنهم يقصرون مدلول «الدين» على الاعتقاد والشعائر .. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية اللّه وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ويؤدي الشعائر المكتوبة ... داخلا في «دين اللّه» مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير اللّه من الأرباب المتفرقة في الأرض .. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول «دين الملك» بأنه نظام الملك وشريعته. وكذلك «دين اللّه» فهو نظامه وشريعته ..
إن مدلول «دين اللّه» قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر .. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات اللّه وسلامه أجمعين.
لقد كان يعني دائما: الدينونة للّه وحده بالتزام ما شرعه، ورفض ما يشرعه غيره. وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء وتقرير ربوبيته وحده للناس: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره. وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين «اللّه» ومن هم في «دين الملك» أن الأولين يدينون لنظام اللّه وشرعه وحده، وأن الآخرين(1/224)
يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون للّه في الاعتقاد والشعائر، ويدينون لغير اللّه في النظام والشرائع! وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما.
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة «دين اللّه» وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة اللّه وحدها بوصفها هي «الدين».وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين! وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين! إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها. فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يخفف عنهم العذاب فيها ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها .. ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها للّه، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل. وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض! إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم .. إنه ليس دين اللّه قطعا. فدين اللّه هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة. فمن كان في نظام اللّه وشرعه فهو في «دين للّه».ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في «دين الملك».ولا جدال في هذا.
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين. لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية. والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به. إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة .. وهذه بديهية ..
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين اللّه - ونتلمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من اللّه الذي يقرر مدلول دينه وحدوده! .. خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول «دين اللّه» ليدخلوا فيه .. أو يرفضوه ..
هذا خير لنا وللناس أيضا .. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة .. وخير للناس لأن مواجهتهم(1/225)
بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملك لا في دين اللّه - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين اللّه! كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات اللّه وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى اللّه في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2020](1/226)
وقوف الرسل جميعا في وجه الجاهلية
لقد تضمنت سورة إبراهيم عدة حقائق رئيسية في العقيدة. ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها.
وهما الحقيقتان المتناسقتان مع ظل إبراهيم في جو السورة: حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين اللّه على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة اللّه على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران ..
وبروز هاتين الحقيقتين، أو هذين الظلين. لا ينفي أن هناك حقائق أخرى في سياق السورة. ولكن هاتين الحقيقتين تظللان جو السورة. وهذا ما أردنا الإشارة إليه:
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب .. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن اللّه: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ».
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولمثل ما أرسل به، حتى في ألفاظ التعبير: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن اللّه، وحين يشاء اللّه، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم، فالهدى والضلال متعلقان بسنة اللّه التي اقتضتها مشيئته المطلقة.(1/227)
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين: «قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».
وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين: «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. وكل رسول يبين لقومه «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة الرسول، فتتحدد وظيفته في حدود هذه الحقيقة، ولا تشتبه حقيقة الرسل البشرية وصفاتهم، بشيء من حقيقة الذات الإلهية وصفاتها. وكذلك يتجرد توحيد اللّه بلا ظل من مماثلة أو مشابهة.
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد اللّه للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ .. وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ .. ».
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ(1/228)
اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيء. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة، وتتسقان مع ظل إبراهيم: أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة.
وحقيقة نعمة اللّه على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة .. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول، فيقول كلمته لقومه ويمضي، ثم يجيء رسول ورسول.
كلهم يقولون الكلمة ذاتها، ويلقون الرد ذاته، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض، ثم لا تنتهي هنا، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب! ونبصر فنشهد أمة الرسل، وأمة الجاهلية، في صعيد واحد، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ(1/229)
مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 9 - 17] ..
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى:
حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر اللّه للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف اللّه للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة.
وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة .. وذلك إلى التماثل بين قول اللّه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ».
وحكاية قوله لموسى - عليه السلام -: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ».
ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة. فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة. وهذه نماذج منها: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيء؟ قالُوا: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ(1/230)
مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» ..
«وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ...
وهي كلها تشير إلى أنها معركة واحدة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال.
وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز معالم المعركة بين الفريقين، ونتائجها الأخيرة: مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النبوة، وشجرة الإيمان، وشجرة الخير. والكلمة الخبيثة: كالشجرة الخبيثة: شجرة الجاهلية والباطل والتكذيب والشر والطغيان.
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله، وتتناثر في سياقها.
يعدد اللّه نعمه على البشر كافة، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، برهم وفاجرهم، طائعهم وعاصيهم. وإنها لرحمة من اللّه وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في هذه الأرض، كالمؤمن والبار والطائع: لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها، ويضعها داخل اطار من مشاهد الوجود العظيمة: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً(1/231)
لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
والنور أجلّ نعم اللّه في الوجود. والنور هنا هو النور الأكبر. النور الذي يشرق به كيان الإنسان، ويشرق به الوجود في قلبه وحسه .. وكذلك كانت وظيفة موسى في قومه. ووظيفة الرسل كما بينتها السورة.
وفي قول الرسل مجتمعين: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» ..
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور، وهي منه قريب ..
وفي جو الحديث عن النعمة يذكّر موسى قومه بأنعم اللّه عليهم: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ».
وفي هذا الجو يذكر وعد اللّه للرسل: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» ..
وهي نعمة من نعم اللّه الكثار الكبار.
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» .. مع بيان أن اللّه غني عن الشكر وعن الشاكرين: «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
ولكن الذين يتدبرون آيات اللّه، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».(1/232)
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع، وفي دعاء واجف، عند بيت اللّه الحرام، كله حمد وشكر وصبر ودعاء.
«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ..
ولأن النعمة والشكر عليها والكفر بها تطبع جو السورة تجيء التعبيرات والتعليقات فيها متناسقة مع هذا الجو: «وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ..
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» ..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» ..
«اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ..
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ» ..
وفي رد الأنبياء على اعتراض المكذبين بأنهم بشر يجيء: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ..
فيبرز منة اللّه تنسيقا للرد مع جو السورة كله. جو النعمة والمنة والشكر والكفران .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2077](1/233)
موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول
إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل اللّه الكرام، داعين بحقيقة واحدة، جاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد .. كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة وكلهم لا يدعو مع اللّه أحدا، ولا يتوكل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سندا إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في اللّه الواحد - إذن - ليس كما يزعم «علماء الدين المقارن» أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة اللّه الواحد وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد ...
إن الاعتقاد في اللّه الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك «العلماء»:إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين. حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت، بفعل توالي رسالات التوحيد وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ... لو قال أولئك «العلماء» قولا كهذا لساغ .. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند اللّه إنما كان اجتهادا من البشر، ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء .. ومن ذلك العداء القديم ومن هذه(1/234)
الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ويسمى مع ذلك «علما» ينخدع به الكثيرون! وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا «العلم» فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه، ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه، ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير (1) ..
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة، مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان، مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل!
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا! .. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان .. إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات ..
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ومن تأليه غير اللّه. أو من ربوبية غير اللّه - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى! ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد اللّه وتنحية الأرباب الزائفة، وإخلاص الدين للّه - أي إخلاص الدينونة للّه وإفراده سبحانه بالربوبية، أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص، يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد، ومن ناحية القيادة، ومن ناحية الولاء .. الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان ..
__________
(1) - يراجع ما كتب عن هذه القضية في الجزء الثاني عشر ص 1882 - 1886 من هذه الطبعة المنقحة.(1/235)
وعند ما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له .. فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام!
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر. فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة، أو تعدد الأرباب، ومن ثم يدين فيه العباد للعباد. والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد ..
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي، في أول الأمر وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية للّه وحده .. لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح، فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام .. ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! .. إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاحتياج ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد! وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! ..
إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات اللّه وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة .. «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص.
إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم، ويندمجوا في تجمعهم، ويذوبوا في هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم .. ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع(1/236)
الجاهلي، ولا أن يذوبوا فيه، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص .. هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي .. ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام .. ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي، لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه.
وليس في ذلك اختيار .. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات .. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس للّه وحده وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار (1)!
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى اللّه في جميع الأحوال. وهي أن تحقيق وعد اللّه لأوليائه بالنصر والتمكين والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم .. فذلك الفصل من اللّه لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته .. وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد اللّه بالنصر والتمكين .. وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى اللّه، وهم واعون مقدرون ..
وأخيرا .. نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان، وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان .. جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق، الواثق المطمئن، الرصين المكين: «قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؟» ..
__________
(1) - يراجع بتوسع فصل: «نشأة المجتمع المسلم وخصائصه» في كتاب «معالم في الطريق». «دار الشروق».(1/237)
. «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» ..
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية الموحدة ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم، من وراء الزمان والمكان، ومن وراء الأجناس والأقوام! ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام، والحق الكامن في كيان هذا الوجود: «قالَتْ رُسُلُهُمْ: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» ..
«وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا؟» ..
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» .. وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة، والحق الكامن في الوجود كله. ويبدو أنه حق واحد موصول باللّه الحق، ثابت وطيد عميق الجذور: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ» .. وأن ما عداه هو الباطل الزائل «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» ..
كذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة اللّه ربهم وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» .. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2100](1/238)
تطهير المجتمع المسلم من أدران الجاهلية
هذه السورة (سورة النساء) تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة، وإنشاء المجتمع الإسلامي وفي حماية تلك الجماعة، وصيانة هذا المجتمع. وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد، الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني. وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني .. تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد، من السفح الهابط، إلى القمة السامقة .. خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة .. بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك! وكما رأينا من قبل - في سورة البقرة وسورة آل عمران - مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف، وما في وسائلهم من خسة والتواء ... إلخ ... فكذلك نرى القرآن - في هذه السورة - يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق ..
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا .. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها، وتتميز به شخصيتها. كالكائن الحي المميز السمات والملامح، وهو - مع هذا - واحد من جنسه على العموم! ونحن نرى في هذه السورة - ونكاد نحس - أنها كائن حي، يستهدف غرضا معينا، ويجهد له، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل .. والفقرات والآيات والكلمات في(1/239)
السورة، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها - كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن - إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي، المعروف السمات، المميز الملامح، صاحب القصد والوجهة، وصاحب الحياة والحركة، وصاحب الحس والشعور! إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي - الذي منه التقطت المجموعة المسلمة - ونبذ رواسبه وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم، وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه، وجلاء شخصيته الخاصة.
كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله - من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود - وأعدائه المتميعين فيه - من ضعاف الإيمان والمنافقين - وكشف وسائلهم وحبلهم ومكايدهم، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم. مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط.
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية، وهي تتصارع مع المنهج الجديد، والقيم الجديدة، والاعتبارات الجديدة. ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة. ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان. وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة، عن المعركة التي يخوضها في الميدان الآخر، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه! وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها - كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى - قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها .. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر .. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط، الذي تمثله تلك الرواسب، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة .. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط، إلا على حداء ذلك(1/240)
المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح، فيرتقي بها إلى تلك القمة، رويدا رويدا، في يسر ورفق، وفي ثبات وصبر، وفي خطو متناسق موزون! والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة اللّه في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة .. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره، وبكل تجاربه، ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد.
سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحه الذي التقط منه «الأميين»! إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته، لأنه يتعامل مع «الإنسان».وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوّله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة، تلك الكينونة البشرية الثابتة. ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجه بها «الإنسان» ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة، وهو محافظ على مقوماته الأساسية .. مقوّمات الإنسان ..
وفي «الإنسان» هذا الاستعداد، وهذه المرونة، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله. وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان، ذات الخصائص، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان، ومودع خصائصه ذاتها، ومعدّ للعمل معه إلى آخر الزمان.(1/241)
وهكذا يستطيع ذلك المنهج، وتستطيع هذه النصوص، أن تلتقط الفرد الإنساني، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية، من أي مستوى، ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد، فينتهي به وبها إلى القمة السامقة ..
إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء، ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى. كما أنه لا يضيق به ولا بها، ولا يعجز عن رفعه ورفعها، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق! المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة، والمجتمع الصناعي المتحضر، كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة .. كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانه، ويجد من يأخذ بيده من هذا المكان، فيرقى به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة، التي حققها الإسلام، في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني ..
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ. إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر.
وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء. ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم، يأخذ البشر عن بشر مثلهم: التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد.
وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها. الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر، حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون اللّه.
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر. لأنهم يتلقون التصورات والمبادئ، والموازين والقيم، والشرائع والقوانين، والأوضاع والتقاليد، من يد اللّه - سبحانه - فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها للّه وحده، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون اللّه وحده، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون للّه وحده. ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد، حين يصبحون كلهم عبيدا للّه بلا شريك.
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية - في كل صورة من صورها - وبين الإسلام. وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب.(1/242)
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم، كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي، وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة، وإما إبطال حالة قائمة .. وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .. ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا. وفي هذا تمكن المعجزة. فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها، هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية، في أي طور من أطوارها. والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة - أيا كان موقفها على الدرج الصاعد - ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة، التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى، يوم التقطها من ذلك السفح السحيق! ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي، من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها، وأن يثبتها في المجتمع الجديد ..
فماذا نحن واجدون - في هذه السورة - من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة، منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية؟ وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها! إننا نجد مجتمعا تؤكل فيه حقوق الأيتام - وبخاصة اليتمات - في حجور الأهل والأولياء والأوصياء، ويستبدل الخبيث منها بالطيب، ويعمل فيها بالإسراف والطمع، خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال، ليتخذهن الأولياء زوجات، طمعا في مالهن لا رغبة فيهن! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته! ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث. إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء، القادرون على حمل السلاح ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات.
وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات، هو الذي يحتجزن من أجله، ويحبسن على الأطفال من الذكور أو على الشيوخ من الأولياء. كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء! ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم، ويعاملها بالعسف(1/243)
والجور. في كل أدوار حياتها. يحرمها الميراث - كما قلنا - أو يحبسها لما ينالها منع، ويورّثها للرجل كما يورثه المتاع! فإذا مات زوجها جاء وليه، فألقي عليها ثوبه، فيعرف أنها محجوزة له. إن شاء نكحها بغير مهر، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها! ويعضلها زوجها إذا طلقها، فيدعها لا هي زوجة، ولا هي مطلقة، حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها! ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه، علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء، واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب، فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية. حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة.
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية. وتغتصب فيه الحقوق. وتجحد فيه الأمانات.
وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح. ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء. كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس، اجتلابا للمفاخر، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء! وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب، وفيمن حولهم من الأمم» (1) ..
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل. فقد كانت له فضائله، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى.
ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا، ووجهها الوجهة البناءة. وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل، مفرقة غير متجمعة، وضائعة غير موجهة. وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة، لولا هذا المنهج، الذي جعل يمحو ملامح الجاهلية الشائهة، وينشئ أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها، والتي اندثرت كلها، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة! من تلك الجاهلية، التي هذه بعض
__________
(1) - يراجع ما سبق تفصيله من ملامح الجاهلية العربية في هذا الجزء عند تفسير قوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ... » ص 508(1/244)
ملامحها، التقط الإسلام المجموعة التي قسم اللّه لها الخير، وقدّر أن يسلمها قيادة البشر، فكون منها الجماعة المسلمة، وأنشأ بها المجتمع المسلم. ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط، والتي ما تزال أملا للبشرية، يمكن أن تحاوله، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق.
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم، بعد تطهيره من رواسب الجاهلية، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [1/ 555](1/245)
وجوب الإصلاح بين الزوجين
قال تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً» ..
وهكذا لا يدعو المنهج الإسلامي إلى الاستسلام لبوادر النشوز والكراهية ولا إلى المسارعة بفصم عقدة النكاح، وتحطيم مؤسسة الأسرة على رؤوس من فيها من الكبار والصغار - الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حيلة - فمؤسسة الأسرة عزيزة على الإسلام بقدر خطورتها في بناء المجتمع، وفي إمداده باللبنات الجديدة، اللازمة لنموه ورقيه وامتداده.
إنه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة - عند خوف الشقاق - فيبادر قبل وقوع الشقاق فعلا .. يبعث حكم من أهلها ترتضيه، وحكم من أهله يرتضيه. يجتمعان في هدوء. بعيدين عن الانفعالات النفسية، والرواسب الشعورية، والملابسات المعيشية، التي كدرت صفو العلاقات بين الزوجين. طليقين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، وتبدو - لقربها من نفسي الزوجين - كبيرة تغطي على كل العوامل الطيبة الأخرى في حياتهما. حريصين على سمعة الأسرتين الأصليتين. مشفقين على الأطفال الصغار. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر - كما قد يكون الحال مع الزوجين في هذه الظروف - راغبين في خير الزوجين وأطفالهما ومؤسستهما المهددة بالدمار ... وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين، لأنهما من أهلهما: لا خوف من تشهيرهما بهذه الأسرار. إذ لا مصلحة لهما في التشهير بها، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها! يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح. فإن كان في نفسي الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر اللّه الصلاح بينهما والتوفيق: «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» .. فهما يريدان الإصلاح، واللّه يستتجيب لهما ويوفق .. وهذه هي الصلة بين قلوب الناس وسعيهم، ومشيئة اللّه وقدره .. إن قدر اللّه هو الذي يحقق ما يقع في حياة الناس. ولكن الناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا وبقدر(1/246)
اللّه - بعد ذلك - يكون ما يكون. ويكون عن علم بالسرائر وعن خبرة بالصوالح: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً».
وهكذا نرى - في هذا الدرس - مدى الجدية والخطورة في نظرة الإسلام إلى المرأة وعلاقات الجنسين ومؤسسة الأسرة، وما يتصل بها من الروابط الاجتماعية .. ونرى مدى اهتمام المنهج الإسلامي بتنظيم هذا الجانب الخطير من الحياة الإنسانية. ونطلع على نماذج من الجهد الذي بذله هذا المنهج العظيم، وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - في المرتقى الصاعد إلى القمة السامقة على هدى اللّه. الذي لا هدى سواه (1) ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 656](1/247)
نجاح الإسلام في تحريم الخمر وفشل غيره
قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى - حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ - وَلا جُنُباً - إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ - حَتَّى تَغْتَسِلُوا. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» ..
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة - التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية - وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصيلة الشاملة وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا .. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته وللمجتمع الفارسي أيضا. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى! في السويد - وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة - كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لترا. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة .. ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب «النبيذ والبيرة» فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف .. !
أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون «الجفاف»! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع «الري» بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933.وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية(1/248)
ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة.
وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه. وقد أعدم فيها 300 نفس وسجن كذلك 335،532 نفسا. وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه. وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه .. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون (1).
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي .. ببضع آيات من القرآن.
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية، وفي علاج المجتمع الإنساني .. بين منهج اللّه، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء! ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي حيث نجد «الخمر» عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها.
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر، أن أصبحت كلمة التجارة، مرادفة لبيع الخمر .. يقول لبيد:
قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها
ويقول عمرو بن قميئة:
إذ أسحب الريط والمروط إلى أدني تجاري وأنفض اللمما
ووصف مجالس الشراب، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي، وتطبعه طابعا ظاهرا.
يقول امرؤ القيس:
وأصبحت ودعت الصبا غير أنني أراقب خلّات من العيش أربعا
فمنهن قولي للندامى: ترفقوا يداجون نشاجا من الخمر مترعا
ومنهن ركض الخيل ترجم بالقنا يبادرن سربا آمنا أن يفزّعا
... إلخ ويقول طرفة بن العبد:
__________
(1) - عن كتاب تنقيحات للسيد أبي الأعلى المودودي. نقلا عن كتاب: «ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للسيد الندوي.(1/249)
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبد
ويقول الأعشى:
فقد أشرب الراح قد تعلمين يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقال قد طال بالريف ما قد دجن
ويقول المنخل اليشكري:
ولقد شربت من المدا مة بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير (1)
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ...
ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث .. وفيهم عمر، وعلي، وحمزة، وعبد الرحمن بن عوف .. وأمثال هذا الطراز من الرجال ..
تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية. وتكفي عن الوصف المطول المفصل:
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}،قَالَ: فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ نَادَى: أَنْ لاَ يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ
__________
(1) - قصران للنعمان بن المنذر كانت تتحدث بهما العرب في الجاهلية.(1/250)
عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شِفَاءً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا" (1) ..
وفي سبب نزول هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى» ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين. وسعد بن معاذ من الأنصار.
روى ابن أبي حاتم عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: "نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا حَتَّى سَكَرْنَا، ثُمَّ افْتَخَرْنَا فَرَفَعَ رَجُلٌ فِي لِحَى بَعِيرٍ فَغَرَزَ بِهِ أَنْفَ سَعْدٍ، فَكَانَ سَعْدٌ مَغْرُوزُ الأَنْفِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّمَ الْخَمْرَ، فَنَزَلَتْ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى " ". (2).
وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: "صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَاماً فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتِ الْخَمْرِ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَقَدَّمُوا فُلاناً، قَالَ: فَقَرَأَ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينُ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ " ". (3)
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع ..
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصيلة قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة.
دون حرب. ودون تضحيات. ودون إراقة دماء .. والذي أريق فقط هودنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين - حين سمعوا آية التحريم - فمجوها من
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1/ 189) (378) صحيح
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (4/ 171) (5392) صحيح
(3) - تفسير ابن أبي حاتم - (4/ 170) (5391) صحيح(1/251)
أفواههم. ولم يبلعوها. كما سيجي ء! في مكة - حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان .. إلا سلطان القرآن - وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة:
جاء في سورة النحل: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» .. فوضع «السكر» وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، في مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق «الحسن» شيء آخر .. وكانت مجرد لمسة من بعيد للضمير المسلم الوليد!
ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب - بمعنى أدق - فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليدا اجتماعيا، له جذور اقتصادية .. كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة ..
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان .. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولا سلطان القرآن ..
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية ..
بدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية ..
بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ .. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما .. »
وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع .. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي. وفي المنطق الفقهي الإسلامي .. فمدار الحل والحرمة .. أو الكراهية .. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور .. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما .. فهذا مفرق الطريق .. ولكن الأمر كان أعمق من هذا .. وقال عمر - رضي اللّه عنه -: «اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر» ..(1/252)
عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي! ثم حدثت أحداث - كالتي رويناها - ونزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» ..
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل ..
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي «قطع عادة الشراب» أو «كسر الإدمان» .. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار.
وبينها فترات لا تكفي للشراب - الذي يرضي المدمنين - ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعلموا ما يقولون! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق .. صباحا ومساء .. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة .. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب .. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة .. ومع ذلك .. فقد قال عمر رضي اللّه عنه - وهو عمر!!! - «اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر» ..
ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب - وفق ترتيب المنهج - للضربة الحاسمة. فنزلت الآيتان في المائدة: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟»
وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان .. بمجرد سماع الأمر .. ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم - حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم. وهم شاربون ..
لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه - دون أن يستخدم السلطان!!! ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟(1/253)
لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة .. أخذها بسلطان اللّه وخشيته ومراقبته، وبحضور اللّه - سبحانه - فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان .. أخذها جملة لا تفاريق .. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة ..
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء .. في الهواء ..
ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظى، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضي ء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة! وملأ فراغها - وهذا هو الأهم - بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء ..
وتعيش بقرب اللّه ونوره وجلاله .. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها وترفض خمارها وصداعها وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية! إنه استنقذ الفطرة من ركام الجاهلية وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره وتمشى في حناياها وأوصالها وفي مسالكها ودروبها .. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد اللّه وشرطه، وعلى هدى ونور ..
إن الخمر - كالميسر. كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه «الألعاب الرياضية» والإسراف في الاهتمام بمشاهدها .. كالجنون بالسرعة .. كالجنون بالسينما .. كالجنون «بالمودات» «والتقاليع» .. كالجنون بمصارعة الثيران .. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية! إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي .. من الإيمان أولا .. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا .. وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية .. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء(1/254)
الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا .. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى «الجنون» المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي .. وإلى الشذوذ ..
إنها لم تكن كلمات .. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة .. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير! إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء.
أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا، أو مذهبا، أو فلسفة .. إلخ .. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ»! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان .. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور! فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟
وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟
متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟ (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [2/ 663](1/255)
سورة الحجر وتغيير أفكار الجاهلية
هذه السورة مكية بجملتها، نزلت بعد سورة يوسف، في الفترة الحرجة، ما بين «عام الحزن» وعام الهجرة .. تلك الفترة التي تحدثنا عن طبيعتها وملابساتها ومعالمها من قبل في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود وفي تقديم سورة يوسف بما فيه الكفاية ..
وهذه السورة عليها طابع هذه الفترة، وحاجاتها ومقتضياتها الحركية .. إنها تواجه واقع تلك الفترة مواجهة حركية وتوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه، توجيها واقعيا مباشرا وتجاهد المكذبين جهادا كبيرا. كما هي طبيعة هذا القرآن ووظيفته.
ولما كانت حركة الدعوة في تلك الفترة تكاد تكون قد تجمدت، بسبب موقف قريش العنيد منها ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المؤمنة معه حيث اجترأت قريش على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بما لم تكن تجترئ عليه في حياة أبي طالب. واشتد استهزاؤها بدعوته كما اشتد إيذاؤها لصحابته .. فقد جاء القرآن الكريم في هذه الفترة يهدد المشركين المكذبين ويتوعدهم ويعرض عليهم مصارع المكذبين الغابرين ومصائرهم ويكشف للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علة تكذيبهم وعنادهم وهي لا تتعلق به ولا بالحق الذي معه، لكنها ترجع إلى العناد الذي لا تجدي معه الآيات البينات. ومن ثم يسلي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويواسيه ويوجهه إلى الإصرار على الحق الذي معه والصدع به بقوة في مواجهة الشرك وأهله والصبر بعد ذلك على بطء الاستجابة ووحشة العزلة، وطول الطريق!
ومن هنا تلتقي هذه السورة في وجهتها وفي موضوعها وفي ملامحها مع بقية السور التي نزلت في تلك الفترة وتواجه مثلها مقتضيات تلك الفترة وحاجاتها الحركية. أي الحاجات والمقتضيات الناشئة من حركة الجماعة المسلمة بعقيدتها الإسلامية في مواجهة الجاهلية العربية في تلك الفترة من الزمان بكل ملابساتها الواقعية.
ومن ثم تواجه حاجات الحركة الإسلامية ومقتضياتها كلما تكررت هذه الفترة، وذلك كالذي تواجهه الحركة الإسلامية الآن في هذا الزمان.(1/257)
ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن .. سمة الواقعية الحركية .. لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه ..
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني .. لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي ويواجه حالة واقعة كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده. وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى - صلوات اللّه وسلامه عليه - والعصبة المسلمة معه .. من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة للّه وحده في كل شأن من شؤون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تبتلى - في سبيل اللّه - به ..
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به ما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى .. هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية .. وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه. على النحو الذي أسلفنا .. وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق، في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة! وبمناسبة هذه الإشارة إلى فقه الحركة نحب أن نقرر أن الفقه المطلوب استنباطه في هذه الفترة الحاضرة هو الفقه اللازم لحركة ناشئة في مواجهة الجاهلية الشاملة. حركة تهدف إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى الإسلام ومن الدينونة للعباد إلى الدينونة لرب العباد كما كانت(1/258)
الحركة الأولى - على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - تواجه جاهلية العرب بمثل هذه المحاولة قبل أن تقوم الدولة في المدينة وقبل أن يكون للإسلام سلطان على أرض وعلى أمة من الناس.
نحن اليوم في شبه هذا الموقف لا في مثله، وذلك لاختلاف بعض الظروف والملابسات الخارجية ..
نحن نستهدف دعوة إلى الإسلام ناشئة في مواجهة جاهلية شاملة .. ولكن مع اختلاف في الملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية للحركة .. وهذا الاختلاف هو الذي يقتضي «اجتهادا» جديدا في «فقه الحركة» يوائم بين السوابق التاريخية للحركة الإسلامية الأولى وبين طبيعة الفترة الحاضرة ومقتضياتها المتغيرة قليلا أو كثيرا ..
هذا النوع من الفقه هو الذي تحتاج إليه الحركة الإسلامية الوليدة .. أما الفقه الخاص بأنظمة الدولة، وشرائع المجتمع المنظم المستقر، فهذا ليس أوانه ... إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هي شريعة اللّه والفقه الإسلامي! .. هذا النوع من الفقه يأتي في حينه وتفصل أحكامه على قد المجتمع المسلم حين يوجد ويواجه الظروف الواقعية التي تكون محيطة بذلك المجتمع يومذاك!
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ ولا تستنبت بذوره في الهواء! (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع [4/ 2121](1/259)