أوْهَامُ الرَّائدِ
في جَمْعِ الصَّحِيْحَيْنِ والزَّوَائِدِ
(وَقَفَاتٌ مَعَ كُتُبِ ودَوْرَاتِ الشَّيْخِ يَحْيَى اليَحْيَى)
تَألِيْفُ
ذِيَاب بن سَعد آل حمدَان الغَامديّ
الطَّبْعَةُ الأوْلى
(1430)
جميع الحقوق محفوظة
إلَّا لمَنْ أرَادَ طَبْعَهُ وتَوْزِيْعَهُ مَجَّانًا
بَعْدَ أخْذِ الأذْنِ مِنَ المُؤلِّفِ
بِسمِ الله الرَحمن الرَّحِيم
الحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيْهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ خَاتَمِ الأنْبِيَاءِ والمُرْسَلِيْنَ، وعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِيْنَ، وعلى مَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّيْنِ .
أمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ رِسَالَةٌ تَصْحِيْحِيَّةٌ ومُذَاكَرَةٌ أخَوِيَّةٌ؛ أرْسَلْتُهَا بقَلَمِ النَّصِيْحَةِ، وقَيَّدْتُهَا بالأقْوَالِ الصَّرِيْحَةِ لرُوَّامِ الحَدِيْثِ، وحُفَّاظِهِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، ولاسِيَّما هَذِهِ الأيَّامَ الَّتِي أشْرَقَتْ بَعْدَ ظُلْمَةٍ، وتَبَصَّرَتْ بَعْدَ غَفْلَةٍ.
نَعَم؛ فَإنَّ إقْبَالَ النَّاشِئَةِ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ هَذِهِ الأيَّامَ إلى حِفْظِ الحَدِيْثِ ومُذَاكَرَتِهِ، وإلى فَهْمِهِ ومُدَارَسَتِهِ ... مِمَّا يُبَشِّرُ بخَيْرَي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، كَما يُبَشِّرُ بعَوْدَةِ الأمَّةِ إلى بَصَائِر طَرِيْقِهَا، وتَصْحِيْحِ مَنْهَجِهَا الأثَرِيِّ السَّلَفِيِّ .
فحَيْهَلا؛ بطُلَّابِ السُّنَّةِ أهْلِ الوُجُوْهِ النَّظِرَةِ، أهْلِ القُلُوْبِ النَّيِّرَةِ يَوْمَ نَرَاهُم لا يَلْوُنَ على أحَدٍ غَيْرَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ حِفْظًا وفَهْمًا .(1/1)
وأيْمُ الله! إنَّني أكْتُبُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ وكُلِّي فَرَحٌ وسُرُوْرٌ بهَذِهِ الجُمُوْعِ المُشْرِقَةِ، وهَذِهِ الدَّوْرَاتِ المُوَفَّقَةِ الَّتِي أخَذَتْ على نَفْسِهَا إحْيَاءَ السُّنَّةِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ (بَعْدَ طُوْلِ قَطِيْعَةٍ!)، وذَلِكَ بحَمْلِ أبْنَائِنَا على حِفْظِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ : ابْتِدَاءً بالصَّحِيْحَيْنَ، ومُرُوْرًا بالسُّنَنِ الأرْبَعِ، وانْتِهَاءً بالمَسَانِيْدِ في غَيْرِهَا مِنْ أمَّاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ، فَلَهُمْ مِنَّا الدُّعَاءُ المَوْفُوْرُ، والشَّكْرُ المَوْصُوْلُ، والله مِنْ وَرَائِهِم حَافِظًا ومُؤيِّدًا، ومِنْ بَيْنِ أيْديْهم نَاصِرًا ومُسَدِّدًا!
* * *(1/2)
ثُمَّ اعْلَمْ يَا رَعاكَ الله؛ بأنَّ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لَيْسَتْ جَارِيَةً في ذِكْرِ السُّنَّةِ وفَضْلِهَا، ولا في بَيَانِ أهَمِّيَّةِ فَهْمِهَا وحِفْظِهَا ... بَلْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ جَاءَتْ تَصْحِيْحًا لطَرِيْقَةِ حِفْظِ السُّنَّةِ، واسْتِدْرَاكًا لتَقْوِيْمِ بَعْضِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما تَصْحِيْحُ بَعْضِ الأخْطَاءِ الحَاصِلَةِ في طَرَائِقِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ، كَما هُوَ جَارٍ عِنْدَهُم في تَنْهِيْجِ حِفْظِ السُّنَّةِ مِنْ خِلالِ كُتُبِ : «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ثُمَّ الرُّجُوْعُ على حِفْظِ «أفْرَادِ» كُلٍّ مِنْهُمَا على الآخَرِ، ثُمَّ التَّعْرِيْجُ على حِفْظِ «زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ» بَعْضِهَا على بَعْضٍ، وهَكَذَا في تَرَاتِيْبَ مَطْرُوْحَةٍ، مِنْ خِلالِ دَوْرَاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وجُهُوْدٍ فَرْدِيَّةٍ ... الأمْرُ الَّذِي يَحْمِلُنَا جَمِيْعًا أنْ نَقِفَ مَعَ هَذِهِ الطَّلائِعِ السَّلَفِيَّةِ، والبَشَائِرِ الأثَرِيَّةِ المُقْبِلَةِ على حِفْظِ السُّنَّةِ بشَيءٍ مِنَ النَّصِيْحَةِ الأخَوِيَّةِ، والاسْتِدْرَاكَاتِ العِلْمِيَّة وغَيْرَهُ ممَّا اسْتَوْجَبَتْهُ الأُخُوَّةُ الإيْمانِيَّةُ بَيْنَنَا، و فَرَضَتْهُ الطَّرِيْقَةُ الأثَرِيَّةُ عَلَيْنَا، والله مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ.
* * *(1/3)
ومِنْ هُنَا؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أيْضًا أنَّني مَا أرَدْتُ بِرِسَالَتِي هَذِهِ إلَّا تَسْدِيْدًا لهَذِهِ الدَّوْرَاتِ في مَسِيْرَتِهَا، وتَأيِيْدًا لهَا في إحْيَاءِ حِفْظِ السُّنَّةِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ المُبْتَدِئِيْنَ، الَّذِيْنَ أقْبَلُوا وكُلُّهُم عَزِيْمَةٌ وهِمَّةٌ لحِفْظِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، الَّذِيْنَ أقْبَلُوا في جُمُوْعِهِم وقَدْ رَفْرَفُوا بأعْلامِ السُّنَّةِ والأثَرِ فَوْقَ رُؤوْسِهِم ضَارِبِيْنَ وَرَاءَهُم مُخَلَّفَاتِ التَّعَصُّبِ المَذْهَبِيِّ، والآرَاءَ الفَاسِدَةَ، وتَقْلِيْدَ الرِّجَالِ، الَّذِيْنَ أعْرَضُوا صَفْحًا عَنْ مُخَلَّفَاتِ الدَّوْرَاتِ الفِكْرِيَّةِ والإدَارِيَّةِ الوَافِدَةِ مِنْ بِلادِ الإفْرَنْجِ مُؤخَّرًا، والله خَيْرٌ حَافِظًا!
* * *
( وهَذِهِ ثَانِيَةً؛ فَقَدْ حَمَلَنِي أيْضًا على تَثْقِيْفِ النَّصِيْحَةِ في هَذِهِ الرِّسَالَةِ أمْرَانِ :
الأوَّلُ : الإقْبَالُ الكَبِيرُ الَّذِي نَرَاهُ عِنْدَ طُلَّابِ العِلْمِ هَذِهِ الأيَّامَ نَحْوَ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ الَّتِي يُقِيْمُهَا مَشَايِخُ أفَاضِلُ مِمَّنْ لهُم عِنَايَةٌ بالسُّنَّةِ والأثَرِ، وعلى رَأسِهِم أخُوْنَا الشَّيْخُ الحَافِظُ يَحْيَى بنُ عَبْدُ العَزِيْزِ اليَّحْيَى حَفِظَهُ الله تَعَالى، وهَذَا ممَّا يَدُلُّ على أنَّ هَؤلاءِ الطُلَّابَ المُقْبِلِيْنَ على هَذِهِ الدَّوْرَاتِ لحِفْظِ السُّنَّةِ : أنَّهُم قَدْ رُزِقُوا هِمَّةً عَالِيَةً، وعَزِيْمَةً قَوِيَّةً، وإرَادَةً صَالحَةً ... الأمْرُ الَّذِي يَجْعَلُنَا نَنْظُرَ إلى هَذِهِ النُفُوْسِ المُقْبِلَةِ في هِمَمِهَا العَالِيَةِ بِشَيءٍ مِنَ النَّصِيْحَةِ والتَّصْحِيْحِ .(1/4)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا؛ أنَّ كُتُبَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، لم تُؤلَّفْ ولم تُصَنَّفْ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ إلَّا لتَقْرِيْبِ أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْنِ» لمَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ، وقَصُرَتْ هِمَّتُهُ، وضَعُفَتْ عَزِيْمَتُهُ عَنْ حِفْظِ ودِرَاسَةِ أحَادِيْثِهِمَا مَتْنًا وسَنَدًا، وهَذَا السَّبَبُ وغَيْرُهُ لا نَجِدُهُ (ولله الحَمْدُ!) عِنْدَ هَؤلاءِ الطَّلَبَةِ المُقْبِلِيْنَ بكُلِّ هِمَّةٍ وعَزِيْمَةٍ على حَفْظِ السُّنَّةِ، وسَيَأتي إنْ شَاءَ الله ذِكْرُ بَعْضِ مَقَاصِدِ تَألِيْفِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«الزَّوَائِدِ» عِنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ مِنْ أئِمَّةِ السَّلَفِ .
الثَّاني : انْتِشَارُ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العلْمِيَّةِ، واتِّسَاعُ حَلَقَاتِها هُنَا وهُنَاكَ؛ ممَّا يَجْعَلُنَا نَنْظُرَ إلَيْهَا أيْضًا بشَيءٍ مِنَ النَّصِيْحَةِ والتَّصْحِيْحِ .
ولاسِيَّما؛ وأنَّهَا قَدْ أخَذَتْ، بَلِ قَدِ اخْتَطَّتْ لنَفْسِهَا بَعْضَ التَّراتِيْبِ الاجْتِهَادِيَّةِ في طَرِيْقَةِ حِفْظِ السُّنَّةِ لَدَى النَّاشِئَةِ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ؛ حَيْثُ قَدْ شَابَها مَيْلٌ عَنِ الجَادَّةِ في حِفْظِهِم للسُّنَّةِ، الأمْرُ الَّذِي يَدْفَعُنَا ضَرُوْرَةً إلى الوُقُوْفِ مَعَ هَذِهِ التَّراتِيْبِ بشَيءٍ مِنَ النَّقْدِ والاسْتِدْرَاكِ، والله وَليُّ الصَّالِحِيْنَ.
* * *(1/5)
( ولعَمْرُ الله! لَوْ أنَّ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العلْمِيَّةَ كَانَتْ قَاصِرَةً على نَفْسِهَا، أو أنَّها خَاصَّةٌ ببَعْضِ طُلَّابِهَا، وذَلِكَ في حُدُوْدٍ مُعْتَبرَةٍ لمَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ في بَيْضَاءَ، ولمَا رَضِيْتَ بسَحْبِ القَلْمِ في بِسَاطِ الأوْرَاقِ، ولمَا أشْغَلْتُ أيْضًا نَفْسِي ووَقْتِي بشَيءٍ مِمَّا هُنَا؛ لكِنَّ وَاقِعَ الحَالِ ودَلِيْلَ الشَّاهِدِ يَقْطَعُ بأنَّ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العلْمِيَّةَ قَدْ أخَذَتِ انْتِشَارًا وَاسِعًا، بَلْ لم تَزَلْ في تَوَسُّعٍ في دَوْرَاتِهَا وحَلَقَاتِهَا هُنَا وهُنَاكَ، ولاسِيَّما في بِلادِ الحَرَمَيْنِ عِنْدَنَا، فمِنْ هُنَا كَانَ العُذْرُ مَوْصُوْلًا بَيْنَنَا، والنَّصِيْحَةُ وَاجِبَةً عَلَيْنَا، والله المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
- وعَلى هَذَا؛ فَقَدْ رَسَمْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ المُخْتَصَرَةَ تَحْتَ عُنْوَانِ «أوْهَامِ الرَّائدِ في جَمْعِ الصَّحِيْحَيْنِ والزَّوَائِدِ»، وقَدْ قَصَدْتُ بِهَا مَنِ اسْتَعَاضَ عَنِ الصَّحِيْحَيْنِ بحِفْظِ كُتُبِ الجَمْعِ والزَّوَائِدِ ممَّنْ عَلَتْ هِمَّتُهُم، وقَوِيَتْ حَافِظَتُهُم .
كَمَا أنَّني أمْلَيْتُ مَوَاضِيْعَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وقَرَنَتُ مَضَامِيْنَهَا مِنْ خِلالِ ثَلاثَةِ أبْوَابٍ، كَما يَلي :
( البَابُ الأوَّلُ : النَّقْدُ والاسْتِدْرَاكَاتُ لكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، وفِيْهِ اثْنَا عَشَرَ اسْتِدْرَاكًا .
( البَابُ الثَّاني : النَّقْدُ والاسْتِدْرَاكَاتُ لكِتَابِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ» للشَّيْخِ اليَحْيَى، وفِيْهِ ثَلاثَةَ عَشَرَ اسْتِدْرَاكًا .
( البَابُ الثَّالِثُ : حِفْظُ «السُّنَّةِ» عِنْدَ حُفَّاظِ السُّنَّةِ .(1/6)
فإلى هَذِهِ الاسْتِدْرَاكَاتِ والتَّصْحِيْحَاتِ على وَجْهِ الاخْتِصَارِ .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
وَكَتَبهُ
ذِيَاب بن سَعد آل حمدَان الغَامديّ
لَيْلَةَ الأحَدِ مِنَ اليَوْمِ الأوَّلِ مِنْ شَهْرِ جُمَادَى الأوَّلِ
لعَامِ ألفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وثَلاثِيْنَ
(1/5/1430)
الطَّائِفُ المأنُوْسُ
البَابُ الأوَّلُ
النَّقْدُ والاسْتِدْرَاكَاتُ
لكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»
لَقَدْ شَاءَ الله تَعَالى أنْ أقِفَ على بَعْضِ الكُتُبِ الَّتِي صُنِّفَتْ وألِّفَتْ في فَنِّ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» ممَّا كَتَبَهَا أهْلُ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا، ابْتِدَاءً بكِتَابِ الجَوْزَقيِّ (388)، والحُمَيْدِيِّ (488)، وعَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيليِّ (582) وغَيْرَهُم، وانْتِهَاءً بكِتَابِ ابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ (852)، وعَبْدِ الحَقِّ الهَاشِميِّ (1394)، ومُحَمَّد فُؤَاد عَبْدَ البَاقي (1388)، ومُحَمَّد لُقْمَانَ السَّلَفِيِّ، وصَالِحٍ الشَّاميِّ، ويَحْيَى اليَحْيَى وغَيْرَهُم، وسَيَأتي ذِكْرُهُم على التَّفْصِيْلِ إنْ شَاءَ الله .
عِلمًا أنَّنِي هُنَا لم أقْصِدْ (عِيَاذًا بالله!) : الاسْتِدْرَاكَ على طَرِيْقَةِ ومَنْهَجِ أصْحَابِ هَذِهِ الكُتُبِ آنِفَةِ الذِّكْرِ، لأنَّ التَّصْنِيْفَ في كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» هِيَ جَادَّةٌ مَطْرُوْقَةٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مُنْذُ القَرْنِ الرَّابِعِ الهِجْرِيِّ إلى وَقْتِنَا هَذَا، كَمَا أنَّني لا أعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ أنْكَرَهَا أو حَذَّرَ مِنْهَا، إلَّا مَا كَانَ مِنْ بَعْضِهِم في نَقْدِ طَرِيْقَةِ بَعْضِ المُؤلِّفِيْنَ في كُتُبِهِم الجَامِعَةِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ، ممَّا هُوَ جَارٍ في دَائِرَةِ الاجْتِهَادِ والتَّصْحِيْحِ .(1/7)
وعَلى هَذَا؛ فَإنَّ اسْتِدْرَاكِي ومَلْحُوْظَاتي هُنَا هِيَ قَائِمَةٌ وجَارِيَةٌ حَوْلَ كُلِّ مَنِ اسْتَعَاضَ بحِفْظِ هَذِهِ الكُتُبِ عَنْ أصْلِ كُتُبِ السُّنَّةِ، ولاسِيَّما الصَّحِيْحَانِ ... كَمَا أنَّني مَا أرَدْتُ برِسَالَتِي هَذِهِ ابْتِدَاءً إلَّا الوُقُوْفَ والاسْتِدْرَاكَ على هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ السَّائِرَةِ في حِفْظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لأخِيْنَا الشَّيْخِ المُحَدِّثِ يَحْيَى اليَحْيَى حَفِظَهُ الله، و«الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ»!
* * *
فَعَوْدًا على بَدْءٍ؛ فإنَّني مِنْ خِلالِ مُطَالَعَاتي وقِرَاءَاتي قَدِيْمًا وحَدِيْثًا لكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» في الجُمْلَةِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ لي أنَّ لكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم مَنْهَجَهُ وطريقَتَهُ في التَّألِيْفِ والتَّصْنِيْفِ، الأمْرُ الَّذِي يَدُلُّ ضَرُوْرَةً بِأنَّ هَذِهِ الكُتُبَ الجَامِعَةَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ قَدْ غَدَتْ مُؤلَّفَاتٍ ومُصَنَّفَاتٍ مُسْتَقِلَّةً مُنْفَرِدَةً عَنْ أصْلِهِمَا (البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ)، كَمَا أنَّ غَالِبَ هَذِهِ الكُتُبِ لَيْسَ بَيْنَهَا وبَيْنَ أصُوْلهَا صِلَةٌ سَوَاءٌ أكَانَتْ في التَّرْتِيْبِ أو التَّبْوِيْبِ ... اللَّهُمَّ مَا كَانَ مِنِ انْتِقَاءٍ للأحَادِيْثِ، ثُمَّ صِيَاغَتُهَا بَعْدِ تَرْتِيْبٍ جَدِيْدٍ، فافْهَمْ هَذَا هُدِيْتَ إلى الحَقِّ والصَّوَابِ!(1/8)
فَكَانَ هَذَا وغَيْرُهُ أحَدَ الأسْبَابِ الَّتِي دَفَعَتْنِي إلى تَرْسِيْمِ هَذِهِ الاسْتِدْرَاكَاتِ النَّاصِحَةِ نَحْوَ مَا تَقُوْمُ بِهِ هَذِهِ الدَّوْرَاتُ العلْمِيَّةُ مِنْ تَقْنِيْنٍ وتَرْتِيْبٍ لحِفْظِ السُّنَّةِ لدَى طُلَّابِ العِلْمِ المُقْبِلِيْنَ إلَيْهَا، الأمْرُ الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةَ تَقَعُ في بَعْضِ الأخْطَاءِ الَّتِي مِنْ شَأنِهَا أنْ تَدْفَعَ أصْحَابَهَا إلى اطِّرَاحِ طَرِيْقَةِ حِفْظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» كَمَا هُوَ مَاثِلٌ مِنْ خِلالِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ، والاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بحِفْظِ أصْلِ البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ، كُمَا هُوَ الشَّأنُ عِنْدَ أئِمَّتِنَا سَلَفًا وخَلَفًا .
* * *
- لِذَا كَانَ مِنْ بَيَانِ الحَقِّ، وبَذْلِ النَّصِيْحَةِ أنْ نَقُوْلَ : إنَّ طَرِيْقَةَ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ السَّائِرَةِ في حِفْظِ السُّنَّةِ لطُلَّابِ العِلْمِ عَنْ طَرِيْقِ حِفْظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لهِي طَرِيْقَةٌ غَيْرُ صَحِيْحَةٍ في الجُمْلَةِ، يُوَضِّحُهُ مَا يَلي باخْتِصَارٍ :
الاسْتِدْرَاكُ الأوَّلُ : أنَّ كُتُبَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«الزَّوَائِدِ»، لم تُؤلَّفْ ولم تُصَنَّفْ سَلَفًا وخَلَفًا عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ إلَّا لأرْبَعَةِ أمُوْرٍ في الأعَمِّ الغَالِبِ :
الأوَّلُ : أنَّها لم تُؤلَّفْ عِنْدَ غَالِبِ أصْحَابِهَا إلَّا بقَصْدِ التَّقْرِيْبِ لأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ، بحُجَّةِ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِم قَدْ ضَاقَتْ أوْقَاتُهُم، وقَصُرَتْ هِمَمُهُم، وضَعُفَتْ عَزَائِمُهُم عَنْ حِفْظِ ودِرَاسَةِ الأحَادِيْثِ مَتْنًا وسَنَدًا، ولاسِيَّما أحَادِيْثُ الصَّحِيْحَيْنِ .(1/9)
وهَذَا السَّبَبُ لا نَجِدُهُ (ولله الحَمْدُ!) عِنْدَ هَؤلاءِ الطَّلَبَةِ المُقْبِلِيْنَ بِكُلِّ هِمَّةٍ وعَزِيْمَةٍ على حِفْظِ السُّنَّةِ، فَكَانَ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ نَدْفَعَهُم إلى حِفْظِ الأصُوْلِ ابْتِدَاءً بالصَّحِيْحَيْنِ والسُّنَنِ، وانْتِهَاءً بالمَسَانِيْدِ والمَعَاجِمِ وغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، ولَيْسَ هَذَا على الله بعَزِيْزٍ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ مُسْلِمٍ أنَّهُ قَالَ : «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمَّتِي ظَاهِرِيْنَ على الحَقِّ، لا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُم؛ حَتَّى يَأتي أمْرُ الله، وهُمْ كَذَلِكَ»، وقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ أهْلِ العِلْمِ على أنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ : هُمْ أهْلُ الحَدِيْثِ في الجُمْلَةِ .
وقَدْ صَحَّ أيْضًا عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ : «مَثَلُ أمَّتِي مَثَلُ المَطَرِ لا يُدْرَى أوَّلُهُ خَيْرٌ أمْ آخِرُهُ» أخْرَجَهُ أحْمَدُ وغَيْرُهُ، بإسْنَادٍ حَسَنٍ .
وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : «نَضَّرَ الله امْرأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ» أخْرَجَهُ التَّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ . وغَيْرَهُ مِنَ الأحَادِيْثِ الدَّالَّةِ على بقَاءِ الطَّائِفَةِ المَنْصُوْرَةِ الحَافِظَة للسُّنَّةِ والأثَرِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، ومَجيءِ أمْرِ الله تَعَالى!
* * *
وعَلى هَذَا؛ فَقَدِ انْصَرَفَتْ وُجُوْهُ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ عَنِ الاشْتِغَالِ بكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، سَوَاءٌ في حِفْظِهَا أو مُدَارَسَتِهَا أو شَرْحِهَا، فَضْلًا أنْ يَتَّخِذُوْهَا مَنْهَجًا للحِفْظِ، وطَرِيْقَةً للتَّلْقِيْنِ : إلى دِرَاسَةِ وحِفْظِ وشَرْحِ أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»!(1/10)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ عَامَّةَ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْنَ (سَلَفًا وخَلَفًا) لم يَكُوْنُوا عِنْدَ تَحْدِيْثِهِم أو شَرْحِهِم : يَعْزُوْنَ الأحَادِيْثَ النَّبَوِيَّةَ إلى كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» إلَّا عِنْدَ اعْتِبَارَاتٍ خَاصَّةٍ هِيَ مِنْ شَأنِ المُشْتَغِلِيْنَ بالحَدِيْثِ، ولاسِيَّما عِنْدَ ذِكْرِ بَعْضِ زِيَادَاتِ الحُمَيْدِيِّ في كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَاداتُ في السَّنَدِ أو المَتْنِ، أو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِبَارَاتِ العَارِضَةِ التي يَطُوْلُ ذِكْرُهَا، ومَعَ هَذَا أيْضًا لم يَكُنْ دَيْدَنُهُم هُوَ النَّقْلُ أو التَّحْدِيْثُ أو العَزْوُ إلى كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»!
وأدَلُّ شَيءٍ عَلى هَذَا أيْضًا : هُوَ مَا كَتَبَهُ وحَرَّرَهُ أهْلُ العِلْمِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا في كُتُبِهِم ورَسَائِلِهِم ومَقَالاتِهِم وإمْلاءَاتِهِم ... الشَّيءُ الَّذِي يَدُلُّنَا صَرَاحَةً إلى أنَّ تَصَرُّفَاتِ أهْلِ العِلْمِ وعَزْوَهَم وإحَالاتِهِم عِنْدَ التَّحْدِيْثِ والتَّألِيْفِ والعَزْوِ : هُوَ مَا كَانَ مِنْهُم إلى أصُوْلِ كُتُبِ السُّنَّةِ ابْتِدَاءً بالصَّحِيْحَيْنِ، وانْتِهَاءً بالسُّنَنِ الأرْبَعِ، وغَيْرَهَا مِنْ كُتُبِ الأصُوْلِ .
فَدُوْنَكَ مَثَلًا : مَا كَتَبَهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ (463)، والخَطِيْبُ البَغْدَادِيُّ (463)، والنَّووِيُّ (676)، وابنُ قُدَامَةَ (620) ، وابنُ تَيْمِيَّةَ (728)، وابنُ القَيِّمِ (751)، وابنُ كَثِيرٍ (774)، والذَّهِبيُّ (748)، وابنُ حَجَرٍ (852)، والشَّاطِبيُّ (790)، وابنُ عَبْدِ الوَهَّابِ (1206)، والشَّوكَانيُّ (1250)، ومُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيْمَ (1389)، والسعدي (1376)، وابنُ بَازٍ (1420)، وهَكَذا في سِلْسِلَةٍ سَلَفِيَّةٍ مِنْ أئِمَّةِ السُّنَّة والأثَرِ!(1/11)
ومِنْ هُنَا؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أنَّ طَرَائِقَ أئِمَّتِنَا مِنْ أهْلِ العِلْمِ والإيْمانِ في التَّحْدِيْثِ والعَزْوِ : هُوَ مَا كَانَ إلى أصْلِ الصَّحِيْحَيْنِ (البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ)، وكُتُبِ السُّنَنِ الأرْبَعِ، والمَسَانِيْدِ، وهَكَذَا في غَيْرِهَا مِنَ الأصُوْلِ الحَدِيْثِيَّةِ، وهَذَا ممَّا لا يُخَالِفُ فِيْهِ أحَدٌ ممَّنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِسِيَرِ القَوْمِ عِنْدِ التَّحْدِيْثِ والتَّألِيْفِ والله المُوَفِّقُ .
الثَّاني : أنَّهَا أيْضًا لم تُؤلَّفْ غَالِبًا إلَّا تَذْكِيرًا للحُفَّاظِ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ والأثَرِ ممَّنْ لهُم سَابِقَةُ حِفْظٍ وعِنَايَةٍ ومُطَالَعَةٍ ودِرَاسَةٍ للسُّنَّةِ .
بمَعْنَى أنَّهُم أرَادُوا بكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» و«الزَّوَائِدِ» : التَّقْرِيْبَ والتَّذْكِيْرَ لمَنْ كَانَ حَافِظًا مُحَدِّثًا ممَّنْ لَهُ كَبِيْرُ عِنَايَةٍ واهْتِمامٍ بالسُّنَّةِ، وهَذِهِ الجَادَّةُ مَعْلُوْمَةٌ مَشْهُوْرَةٌ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ ممَّنْ بَلَغُوا شَأوًا كَبِيرًا في العِلْمِ والحِفْظِ، كَمَا لهُم أيْضًا في هَذَا عِبَارَاتٌ قَدْ ضَمَّنُوْهَا تَصْدِيْرَ مُقَدِّمَاتِ كُتُبِهِم، مِثْلُ قَوْلهِم عِنْدَ الاخْتِصَارِ أو الجَمْعِ : ليَكُوْنَ تَذْكِرَةً للمُنْتَهِي، وتَبْصِرَةً للمُبْتَدِئ!
وهُنَاكَ طَائِفَةٌ لَيْسَتْ بالقَلِيْلَةِ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي صُنِّفَتْ وألِّفَتْ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، بغَرَضِ التَّقْرِيْبِ والتَّذْكِيْرِ، وحَسْبُكَ مِنْهَا مَثَلًا : «تُحْفَةَ الأشْرَافِ» للمِزِّي رَحِمَهُ الله وغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِ أهْلِ السُّنَّةِ والأثَرِ، ولَيْسَ هَذَا مَحَلَّ ذِكْرِهَا .(1/12)
الثَّالِثُ : أنَّ كُتُبَ «الزَّوَائِدِ» خَاصَّةً (1) لم تُؤلَّفْ ولم تُصَنَّفْ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ إلَّا لتَقْرِيْبِ القَاصِي والبَعِيْدِ، وتَسْهِيْلِ العَسِيْرِ والشَّرِيْدِ، وهَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ العُمُرَ قَصِيْرٌ والزَّمَنَ يَسِيرُ، لأجَلِ هَذَا لمَّا عَلِمَ أهْلُ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ أنَّ الإحَاطَةَ بجَمِيْعِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ : أصْبَحَ صَعْبًا وعَسِيرًا، بَلْ أمْسَى مَطْلَباً عَزِيْزًا؛ قَامُوا والحَالَةُ هَذِهِ إلى كِتَابَةِ «الزَّوَائِدِ» لعِلْمِهِمُ السَّابِقِ أنَّ إدْرَاكَ جَمِيْعِ الأحَادِيْثِ لم يَنَلْهُ إلَّا أفْذَاذٌ مِنَ جَهَابِذَةِ الحِفْظِ والتَّحْدِيْثِ ممَّنْ مَضَتْ أجْيَالهُم، وانْقَضَتْ عَجَائِبُهُم مِنْ أئَمَّةِ الحَدِيْثِ والأثَرِ، ولاسِيَّما شُعَبَةُ، وابنُ مَعِينٍ، وأحمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وأبو زُرْعَةَ، والبُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وأصْحَابُ السُّنَنِ، والدَّارَقُطْنيُّ في غَيْرِهِم مِنْ شُيُوْخِ الإسْلامِ، وبُدُوْرِ المِلَّةِ، وأسَاطِيْنِ الدِّيْنِ، ومَحَاسِنِ الزَّمَانِ، وأعْلامِ الحِفْظِ .
__________
(1) ويَدْخُلُ في مَعْنَاهَا كُتُبُ الأفْرَادِ!(1/13)
فانْظُرْهُم في كِتَابِ «تَذْكِرَةِ الحُفَّاظِ» للذَّهَبيِّ، أو في كُتُبِ التَّراجِمِ والطِّبَاقِ لتَعْلَمَ أنَّ القَوْمَ قَدْ تَرَبَّعُوا على أسِرَّةِ العِلْمِ والفِقْهِ، وتَوَسَّدُوا مَوَاطِنَ الفَهْمِ والحِفْظِ؛ حَيْثُ سَارَتْ بأخْبَارِهِم وكُتُبِهِم الرُّكْبَانُ في مَشَارِق الأرْضِ ومَغَارِبِهَا، وضَرَبَتْ إلَيْهِم أعْطَانُ الإبْلِ بأكْبَادِهَا؛ ومِنْ هُنَا ارْتَفَعَ شَأوُهُم، وعَلا كَعْبُهُم، وظَهَرُ حِفْظُهُم، وبَانَ فَضْلُهُم، فَعِنْدَهَا عَجِزَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُم أنْ يَأتي بمِثْلِهِم، وضَعُفَ مَنْ مَشَى خَلْفَهُم أنْ يَقْوَى سَعْيَهُم، والله يُؤتي فَضْلَهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ المُؤمِنِيْنَ!
والحَالَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ؛ فَقَدِ اقْتَصَرَ أكْثَرُ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ على حِفْظِ أصُوْلِ الكُتُبِ السِّتَّةِ أو التِّسْعَةِ، ومَا زَادَ عَلَيْهَا اسْتَدْرَكُوْهُ مِنْ خِلالِ صِنَاعَةِ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»، و«الأفْرَادِ» الَّتِي قَرَّبَتْ إلَيْهِمُ البَعِيْدَ، وسَهَّلَتْ عَلَيْهِمُ العَصِيْبَ .
وهَذَا مَا قَرَّرَهُ شَيْخُ الصِّنَاعَةِ ورَئِيْسُ البِضَاعَةِ ممَّن مَهَرَ واشْتَهَرَ في فَنِّ «الزَّوَائِدِ» الحَافِظُ نُوْرُ الدِيْنِ عليُّ بنُ أبي بَكْرٍ الهَيْثَمِيُّ رَحِمَهُ الله (807) كَمَا جَاءَ في مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ «كَشْفِ الأسْتَارِ عَنْ زَوَائِدِ البَزَّارِ» (1/5) : «فَقَدْ رَأيْتُ مُسْنَدَ أبي بَكْرٍ البَزَّارِ المُسَمَّى : بـ«البَحْرِ الزَّخَّارِ» قَدْ حَوَى جُمْلَةً مِنَ الفَوَائِدِ الغِزَارِ يَصْعُبُ التَوَصُّلُ إلَيْهَا على مَلْتَمِسِهَا، ويَطُوْل ذَلِكَ عَلَيْهِ قَبْلَ أنْ يُخَرِّجَهَا، فأرَدْتُ أنْ أتَتَبَّعَ مَا زَادَ فِيْهِ على الكُتُبِ السِّتَّةِ!» .(1/14)
وبنَحْوِهِ قَالَ تَلْمِيْذُهُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ رَحِمَهُ الله (852) في «المَطَالِبِ العَالِيَةِ» (1/3) : «قَدْ جَمَعَ أئِمَّتُنَا مِنَ الحدِيْثِ الشَّتَاتِ، على المَسَانِيْدِ والأبْوَابِ المُرَتَّبَاتِ، فَرَأيْتُ جَمْعَ جَمِيْعِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ في كِتَابٍ وَاحِدٍ، ليَسْهُلَ الكَشْفُ فِيْهِ على أُوْلي الرَّغَبَّاتِ!» .
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكَرنَاهُ هُنَا؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أنَّ كُتُبَ «الجَوَامِعِ»، و«الزَّوَائِدِ»، و«الأفْرَادِ» لم تُؤلَّفْ في غالَبِ وحَقِيْقَةِ الأمْرِ إلَّا لتَقْرِيْبِ البَعِيْدِ وتَهْذِيْبِ الشَّرِيْدِ مِنَ الأحَادِيْثِ الَّتِي غَدَتْ بَعِيْدَةَ المَنَالِ، عَزِيْزَةَ النَّوَالِ، بَلْ أضْحَتْ عَسِيْرَةَ الحِفْظِ على رَاغِبِهَا، عَصِيْبَةِ العَدِّ على طَالِبِهَا ... فَكَانَ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ جُمِعَتْ ودُوِّنَتْ وصُنِّفَتْ كُتُبُ «الزَّوَائِدِ» وغَيْرِهَا لهَذَا الغَرَضِ النَّبِيْلِ، وهَذَا الشَّرَفِ الجَلِيْلِ ... لا أنْ تَبْقَى مُزَاحِمَةً لأصُوْلِ كُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ، فَافْهَمْ هُدِيْتَ إلى الحَقِّ والتَّوْفِيْقِ، آمِيْنَ!(1/15)
الرَّابِعُ : أنَّ كُتُبَ «الزَّوَائِدِ» لم تُؤَلَّفْ أيْضًا إلَّا للحِفَاظِ على كُتُبِ السُّنَّةِ الَّتِي يُخْشَى انْدِثَارُهَا ونِسْيَانُهَا لخُمُوْلِ ذِكْرِهَا، وقِلَّةِ العِنَايَةِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي صُنِّفَتْ قَبْلَ الصَّحِيْحَيْنِ أو بَعْدَهُمَا، وهَذَا مَا ذَكَرَهُ الفَقِيْهُ الدِّهْلَويُّ رَحِمَهُ الله في كِتَابِهِ «حُجَّةِ الله البَالِغَةِ» (1/134) : «والطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ : مُسَانِيْدُ وجَوَامِعُ ومُصَنَّفَاتٌ، صُنِّفَتْ قَبْلَ البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ، وفي زَمَانِهِمَا وبَعْدِهِمَا، جَمَعَتْ بَيْنَ الصَّحِيْحِ والحَسَنِ والضَّعِيْفِ، والمَعْرُوْفِ والغَرِيْبِ، والشَّاذِّ والمُنْكَرِ، والخَطَأ والصَّوَابِ، والثَّابِتِ والمَقْلُوْبِ، ولم تُشْتَهَرْ في العُلَمَاءِ ذَلِكَ الاشْتِهَارَ، وإنْ زَالَتْ عَنْهَا النَّكَارَةُ المُطْلَقَةُ ... فَهِيَ بَاقِيَةٌ على اسْتِتَارِهَا واخْتِفَائِهَا وخُمُوْلِهَا، كـ «مُسْنَدِ أبي يَعْلى»، و«مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ»، و«مُصْنَفِ أبي بَكْرٍ بنِ أبي شَيْبَةَ»، و«مُسْنَدِ عَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ» و«الطَّيَالِسِي»، وكُتُبِ البَيْهَقِيِّ، والطَّحَاوِيِّ، والطَّبَرانيِّ .
وكَانَ قَصْدُهُم جَمْعَ مَا وُجَدُوْهُ، لا تَلْخِيْصَهُ وتَهْذِيْبَهُ مِنَ العَمَلِ» (1) انْتَهَى.
__________
(1) قُلْتُ : إنَّ مَا ذَكَرَهُ الدِّهْلِويُّ عَنْ خُمُوْلِ ذِكْرِ بَعْضِ الكُتُبِ؛ مُسْتَدْرَكٌ ومُنْتَقَدٌ، بَلْ لا يُسَلَّمُ لَهُ فِيْمَا ذَكَرَهُ وقَالَهُ، ولاسِيَّما عَنْ مُسْنَدِ أبي يَعْلى، وكُتُبِ البَيْهَقِي وغَيْرِهِمَا!(1/16)
ومَهْمَا يَكُنْ؛ فَإنَّ كُتُبَ «الزَّوَائِدِ» لا تَخْلُو مِنْ فَوَائِدَ كَثِيْرَةٍ قَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهَا بَعْضُ المُشْتَغِلِيْنَ بعِلْمِ «الزَّوَائِدِ» مِنْ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، ولاسِيَّمَا بَعْضُ الفَوَائِدِ المُتَعَلِّقَةِ بتَرْتِيْبِ الأحَادِيْثِ على المَسَانِيْدِ أو الأطْرَافِ، أو الأبْوَابِ الفَقْهِيَّةِ، وأيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ اتِّصَالًا وانْقِطَاعًا، وسَمَاعًا وإرْسَالًا، وشَاهِدًا ومُتَابِعًا، وكَذَا في مَعْرِفَةِ عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ، أو شُذُوْذٍ مُخِلٍّ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الفَوَائِدِ الَّتِي لا تَسَعُهَا هَذِهِ الرِّسَالَةُ المُخْتَصَرَةُ، والله أعْلَمُ .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّاني : ومِنَ الاسْتِدْرَاكَاتِ أيْضًا، أنَّ كُلَّ مَنْ ألَّفَ أو صَنَّفَ في «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لَهُ مَنْهَجٌ خَاصٌّ، وطَرَيْقَةٌ مَعْلُوْمَةٌ في جَمْعِهِ لأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ؛ سَوَاءٌ كَانَ في طَرِيْقَةِ التَّبْوِيْبِ والتَّرْتِيْبِ، أو في الزِّيَادَاتِ والاخْتِصَارَاتِ، أو في التَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ، أو في الاتِّفَاقَاتِ والإفْرَادَاتِ، أو في مَخْرَجِ الحَدِيْثِ وذِكْرِ الرَّاوِي، أو في السَّمَاعَاتِ والتَّحْدِيْثَاتِ، أو في المَوْقُوْفَاتِ والمَقْطُوْعَاتِ، أو في المُعَلَّقَاتِ والبَلاغَاتِ ... أو غَيْرَ ذَلِكَ ممَّا هُوَ مَعْلُوْمٌ عِنْدَ أهْلِ الشَّأنِ مِنْ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ .(1/17)
ومِنْ خِلالِ هَذِهِ المَنَاهِجِ والطَّرَائِقِ الخَاصَّةِ الَّتِي الْتَزَمَ بِهَا أصْحَابُهَا في تَألِيْفِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، نَكُوْنُ عِنْدَهَا على يَقِيْنٍ بِأنَّهَا قَدْ أصْبَحَتْ كُتُبًا ذَاتَ مَنْهَجٍ وطَرِيْقَةٍ لا تَتَّفِقُ والصَّحِيْحَيْنِ في شَيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، الأمْرُ الَّذِي يَجْعَلُهَا كُتُبًا جَدِيْدَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ أصْلِهَا : تَرْتِيْبًا وتَبْوِيْبًا ومَنْهَجًا وتَخْرِيْجًا ... ولا يُخَالِفُ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ بأبْجَدِيَّاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ، ومَنَاهِجِ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ .
* * *
ومَنْ أرَادَ مَعْرِفَةَ حَقِيْقَةِ الاخْتِلافِ بَيْنَ طَرِيْقَةِ أصْحَابِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، وبَيْنَ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، فلْيَنْظُرْ إلى طَرِيْقَةِ ومَنْهَجِ عَامَّةِ أصْحَابِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، كَي يَعْلَمَ حِيْنَهَا بَأنَّ القَوْمَ لم يَدَعُوا مَجَالًا لمُتَعَقِّبٍ، ولم يَتْرُكُوا شَكًّا لمُتَحَقِّقٍ في مَعْرِفَةِ مَنَاهِجِهِم في التَّألِيْفِ، وذَلِكَ حِيْنَما يَعْلَمُ الجَمِيْعُ بأنَّهُم قَدِ الْتَزَمُوا في تَألِيْفِ كُتُبِهِم طَرَائِقَ شَتَّى ومَنَاهِجَ مُخْتَلِفَةً تَدُلُّ بمَجْمُوْعِهَا على أنَّ عَامَّةَ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» قَدِ ارْتَسَمَتْ مَنْهَجًا فَرِيْدًا، واتَّخَذَتْ طَرِيْقًا مُغَايِرًا عَنْ حَقِيْقَةِ أُصُوْلِهَا!(1/18)
وتَحْقِيْقًا لمَطْلُوْبِ أهْلِ التَّحْقِيْقِ، ونُزُوْلًا عِنْدَ مَرْغُوْبِ أهْلِ التَّدْقِيْقِ ممَّنْ تَاقَتْ نُفُوْسُهُم، وشَاقَتْ قُلُوْبُهُم إلى مَعْرِفَةِ الاخْتِلافِ المَنْهَجِي بَيْنَ تَألِيْفِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، وبَيْنَ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» : فَقَدْ سُقْنَا لهُم طَرَفًا مِنْ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، وذَكَرْنَا لهُم بَعْضَ أسْمَائِهَا على وَجْهِ التَّرْتِيْبِ والتَّهْذِيْبِ بحَسَبِ تَألِيْفِ أصْحَابِهَا ووَفَيَاتِهِم، فَكَانَ مِنَ ذَلِكَ:
كِتَابُ «المُسْتَخْرَجِ على الاتِّفَاقِ»، ويُقَالُ : «المُتَّفَقُ الكَبِيْرُ»، ويُقَالُ : «الجَمْعُ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنَ» للحَافِظِ أبي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله الشَّيْبَانيِّ الجَوْزَقِيِّ رَحِمَهُ الله (388) .
ثُمَّ كِتَابُ الحَافِظِ ابنِ عُبَيْدٍ الدِّمِشْقِيِّ رَحِمَهُ الله (401)، ثُمَّ كِتَابُ الحَافِظِ الفَقِيْهِ أبي مُحَمَّدٍ إسْمَاعِيْلَ بنِ أحْمَدَ المَعْرُوْفِ بابنِ الفُرَاتِ السَّرْخَسِيِّ (414)، ثُمَّ كِتَابُ الحَافِظِ الفَقِيْهِ أبي مُحَمَّدٍ إسْمَاعِيْلَ بنِ إبْرَاهِيْمَ السَّرْخَسِيِّ ثُمَّ الهَرَوِيِّ القَّرَابِ رَحِمَهُ الله (414)، ويُسَمَّى كِتَابُهُ : «الجَمْعُ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ثُمَّ كِتَابُ الحَافِظِ أبي بَكْرٍ أحمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ البَرْقَانيِّ (425) .(1/19)
ثُمَّ كِتَابُ الحَافِظِ الفَقِيْهِ أبي عَبْدِ الله مُحَمَّدِ بنِ أبي نَصْرٍ فُتُوْح بنِ حُمَيْدٍ الحُمَيْدِيِّ (488)، وسَمَّى كِتَابَهُ : «الجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، وقَدْ رَتَّبَهُ على مَسَانِيْدِ الصَّحَابَةِ، كَمَا أنَّهُ بَيَّنَ فِيْهِ الأحَادِيْثَ الأفْرَادَ الَّتِي وَقَعَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ولم تَقَعَ للآخَرِ، كَمَا أضَافَ إلى أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْنِ» بَعْضَ الزِّيَادَاتِ الَّتِي أخَذَهَا مِنَ «المُسْتَخْرَجَاتِ»، ومَيَّزَهَا غَالِبًا، وهِيَ مُفِيْدَةٌ للطَّالِبِ في مَعْرِفَةِ مَعَاني الحَدِيْثِ وألْفَاظِهِ .
ثُمَّ كِتَابُ «الجَامِعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للحَافِظِ أبي مُحَمَّدٍ حُسَيْنٍ الفَرَّاءِ البَغَوِيِّ (516)، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للحَافِظِ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيليِّ (582)، وهُوَ مِنْ أوْسَعِ الكُتُبِ جَمْعًا وأتْقَنَهَا نَظْمًا فَقَدْ تَفَرَّدَ بمَنْهَجٍ سَدِيْدٍ في جَمْعِ أحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ لم يُسْبَقْ إلَيْهِ، وأتَى بنَوَادِرِ الكِتَابَيْنِ مِنَ النَّاحِيَةِ الحَدِيْثِيَّةِ والفِقْهِيَّةِ؛ حَيْثُ حَافَظَ على أبْوَابِ البُخَارِيِّ، وألْحَقَ مُعَلَّقَاتِهِ في آخِرِ كِتَابِهِ، ثُمَّ رَتَّبَ كِتَابَهُ على صَحِيْحِ مُسْلِمٍ؛ حَيْثُ اتَّخَذَهُ أصْلًا ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ أحَادِيْثَ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ، كَمَا بَيَّنَ الإفْرَادَاتِ بَينَهُما بطَرِيْقَةٍ مَنهَجِيَّةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ في مَتْنِ الأحَادِيْثِ أو في أسَانِيْدِهَا، ومِنْ أرَادَ جِلْيَةَ الأمْرِ فليَنْظُرْ إلى مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وطَرِيْقَةِ تَرْتِيْبِهِ للأحَادِيْثِ .(1/20)
ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لأبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ بَدْرٍ المَوْصِليِّ (622)، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للعَلَّامَةِ الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّاغَانيِّ (650)، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للمُنْذِريِّ (656)، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ (852)، ثُمَّ تَكَاثَرَتْ كُتُبُ «الجَمْعُ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، فَكَانَ مِنْهَا :
كِتَابُ «مُسْنَدِ الصَّحِيْحَيْنِ» للحَافِظِ عَبْدِ الحَقِّ الهَاشِميِّ (1394)، ثُمَّ كِتَابُ «اللُّؤْلُؤ والمَرْجَانِ فِيْمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ» للشَّيْخِ مُحَمَّد فُؤاد (1388)، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للشَّيْخِ صَالِحِ بنِ أحْمَدَ الشَّاميِّ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ أيْضًا في كِتابٍ، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للشَّيْخِ لُقْمانَ السَّلَفِيِّ، ثُمَّ كِتَابُ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للشَّيْخِ يَحْيَى اليَحْيَى، وغَيْرَهَا كَثِيْرٌ، ومَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا قَلِيْلٌ مِنْ كَثِيْرٍ لا تَسَعُهَا هَذِهِ الرّسَالَةُ المُوْجَزَةُ .
وأخِيْرًا؛ فَإنَّ كَلَّ مَنْ نَظَرَ إلى هَذِهِ الكُتُبِ بعَامَّةٍ، لاسِيَّما المَطْبُوْعُ مِنْهَا سَيَجِدُ أنَّ لكُلٍّ مِنْهَا مَنْهَجًا وطَرِيْقَةً خَاصَّةً بِهَا، ممَّا يَقْطَعُ بانْفِرَادِهَا عَنْ أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ» في الجُمْلَةِ إلَّا مِنْ بَعْضِ الرَّوَابِطِ والإشَارَاتِ الدَّالَّةِ على بِنَاءِ الفَرْعِ بالأصْلِ، واتِّصَالِ نِسْبَةِ الابْنِ بالأبِ، والله أعْلَمُ .
* * *(1/21)
الاسْتِدْرَاكُ الثَّالِثُ : ومِنَ الاسْتِدْرَاكَاتِ أيْضًا أنَّ التَوَسُّعَ في حِفْظِ ونَشْرِ ودِرَاسَةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» بَيْنَ طُلَّابِ العِلْمِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وسَائِرٌ هَذِهِ الأيَّامَ مِنْ خِلالِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ : يُعْتَبرُ في حَقِيقَتِهِ دَعْوَةً صَرِيحَةً إلى مُزَاحمَةِ أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ورُبَّما أدَّى ذَلِكَ إلى هَجْرِ «الصَّحِيْحَيْنِ» ولَو في الأمَدِ البَعِيْدِ، عَلِمْنَا هَذَا أم جَهِلْنَاهُ!
يُوَضِّحُهُ أنَّ طَائِفَةً مِنْ كُتُبِ المُخْتَصَرَاتِ (الحَدِيْثِيَّةِ والفِقْهِيَّةِ واللُّغَوِيَّةِ والتَّارِيْخِيَّةِ وغَيْرَهَا) قَدْ أخَذَتْ شُهْرَةً أكْبَرَ مِنْ أُصُوْلهَا، بَلْ إنَّ بَعْضَهَا قَدْ غَلَبَ وغَالَبَ الأُصُوْلَ؛ بسَبَبِ أنَّها نَالَتْ خِدْمَةً واهْتِمامًا مِنْ قِبَلِ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ الأمْرُ الَّذِي جَعَلَهَا تَفُوْقُ أُصُوْلهَا شُهْرَةً وانْتِشَارًا، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ للجَمِيْعِ .
وعلى هَذَا؛ فَإنَّهُ يُخْشَى مِنْ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العلْمِيَّةِ أنْ تَكُوْنَ سَبَبًا في نَشْرِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» بَيْنَ طُلَّابِهَا مَا بَيْنَ دَوْرَةٍ وحِفْظٍ وفَهْمٍ ومُرَاجَعَةٍ، ورُبَّما تَدْفَعُهُم إلى شَرْحِهَا (كَمَا سَيَأتي ذِكْرُهُ!)، الشَّيءَ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ في الأمَدِ القَرِيْبِ أنْ تَكُوْنَ صَارِفَةً عَنْ أُصُوْلِ كُتُبِ السُّنَّةِ الَّتِي عَرَفَهَا المُسْلِمُوْنَ أكْثَرَ مِنْ ألْفِ سَنَةٍ أو يَزِيْدُ .(1/22)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ طَائِفَةً مِنْ هَؤلاءِ الشَّبَابِ الَّذِيْنَ أقْبَلُوا على حِفْظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» قَدِ اشْتَغَلُوا بِهَا حِفْظًا وفَهْمًا ومُرَاجَعَةً عَنْ أُصُوْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، بَلْ إنَّ بَعْضَهُم لَيسَ لَهُ هِمَّةٌ في قرَاءَةِ أُصُوْلِ الصَّحِيْحَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا أصَحَّا كِتَابٍ بَعْدَ كِتَابِ الله تَعَالى، كَمَا أنَّهُما أصْلُ كُتُبِ السُّنَّةِ بعَامَّةٍ، ومِنْ هُنَا سَيَكُوْنُ الخَلَلُ كَامِنًا في صَرْفِ الطَّالِبِ عَنْ حِفْظِ أصْلِ الصَّحِيْحَيْنَ، وعَلَيْهِ سَوْفَ يُحْرَمُ الطَّالِبُ كَثِيْرًا مِنَ الفَوَائِدِ والعَوَائِدِ العِلْمِيَّةِ والحَدِيْثِيَّةِ، كَمَا سَيَأتي .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الرَّابِعُ : ومِنْهَا أنَّ كُتُبَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لم تَتَقيَّدْ بتَبْويْبَاتِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله في صَحِيْحِهِ، لا في تَرْتِيْبِ الأحَادِيْثِ، ولا في تَرْتِيْبِ سَرْدِهَا تَحْتَ تَرَاجِمِ أبْوابِهَا، ممَّا كَانَ سَبَبًا لصَرْفِ فَهْمِ وعِلْمِ أكْثَرِ الطُّلَّابِ عَنْ مَنْهَجِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله في تَبْوِيْبِهِ للأحَادِيْثِ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ للبُخَارِيِّ في تَبْوِيْبَاتِهِ في الصَّحِيْحِ مَنْهَجًا فَرِيْدًا لَهُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ والفِقْهِ، وحَسْبُكَ أنَّ طَائِفَةً كَبِيْرةً مِنْ أهْلِ العِلْمِ لم يَغْفِلُوا هَذِهِ الأبْوَابَ، بَلْ قَدِ اشْتَغَلُوا بِدِرَاسَتِهَا وشَرْحِهَا ممَّا يَدُلُّ على أهَمِّيَّتِهَا ونَفَاسَتِهَا لكَوْنِهَا جَمَعَتْ مِنْ فِقْهِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله مَا يَصْلُحُ أنْ يَكُوْنَ كِتَابًا جَامِعًا لأكْثَرِ فِقْهِ البُخَارِيِّ، وقَدْ حَصَلَ!(1/23)
ولهَذَا قَدِ اشْتُهِرَ في قَوْلِ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ : «أنَّ فِقْهَ البُخَارِيِّ في تَرَاجِمَهِ»، وبالجُمْلَةِ فَتَراجِمُ البُخَارِيِّ قَدْ حَيَّرَتِ الأفْكَارَ وأدْهَشَتِ العُقُوْلَ والأبْصَارَ!
ومِنْ هُنَا؛ فَإنَّ تَبْوِيْبَاتِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله في صَحِيْحِهِ لهَا شَأنٌ وتَقْدِيْرٌ واهْتِمامٌ كَبِيْرٌ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا، وحَسْبُكَ مِنْهَا كِتَابَ «المُتَوَارِي على تَرَاجِمِ أبْوَابِ البُخَارِيِّ» لنَاصِرِ الدِّيْنِ أحمَدَ ابنِ المُنَيِّرِ رَحِمَهُ الله (683)، وغَيْرَهُ ممَّنْ شَرَحَ صَحِيْحِ البُخَارِيّ، ولاسِيَّما ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ رَحِمَهُ الله في «فَتْحِ البَارِي» وغَيْرَهُ مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أهَمِّيَّةِ تَبْوِيْبَاتِ البُخَارِيِّ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ والفِقْهِ؛ فَإنَّ الَّذِي نَخْشَاهُ على طُلَّابِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ وغَيْرِهَا ممَّنْ اقْتَصَرُوا على كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»؛ أنَّهم سَوْفَ يُحْرَمُونَ هَذِهِ الفَوَائِدَ الحَدِيْثِيَّةَ، وهَذِهِ الفَرَائِدَ الفِقْهِيَّةَ عِنْدَ اقْتِصَارِهِم على حِفْظِ ومُدَارَسَةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» .(1/24)
وأمَّا تَبْوِيْبَاتِ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ فَهِي مِنْ صَنِيْعِ النَّوَوِيِّ رَحِمَهُ الله على المَشْهُوْرِ (1) ، وأيًّا كانَ الأمْرُ فَهِي تَبْوِيْبَاتٌ مُعْتَبرَةٌ مَنْهَجِيَّةٌ فَرِيْدَةٌ في صِيَاغَتِهَا واسْتِدْلالهَا، وقَدْ سَارَ عَلَيْهَا أكْثَرُ الشُّرَاحِ، لِذَا كَانَ الأخْذُ بهَا أوْلى وأسْلَمُ مِنْ إهْمَالهَا، ولاسِيَّما إذَا قَارَنَّاهَا بغَيْرِهَا ممَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ ممَّنْ هُوَ دُوْنَهُ عِلْمًا وحِفْظًا ومَكَانةً! وهَلْ الاتِّبَاعُ إلَّا مِنْ هَذَا الطِّرَازِ؟!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الخَامِسُ : ومِنْهَا أيْضًا أنَّ البُخَارِيَّ ومُسْلِمًا رَحِمَهُمَا الله قَدِ الْتَزَمَا في تَرْتِيْبِ وسَرْدِ الأحَادِيْثِ في صَحِيْحَيْهِما مَنْهَجًا فَرِيْدًا خَاصًّا بِهِمَا، وهَذَا ممَّا لا تَجِدُهُ عِنْدَ غَالِبِ مَنْ ألَّفَ وصَنَّفَ في «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، وهَذَا المَنْهَجُ مَاثِلٌ في طَرِيْقَةِ وتَرْتِيْبِ الأحَادِيْثِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ والشَّوَاهِدِ والمُتَابَعَاتِ، والإجْمَالِ والتَّفْصِيْلِ، والنَّسْخِ والمَنْسُوْخِ ... فَهَذَا مُسْلِمٌ رَحِمَهُ الله قَدِ الْتَزَمَ في سَرْدِ الأحَادِيْثِ في صَحِيْحِهِ على النَّحْوِ التَّالي :
__________
(1) لاشَكَّ أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله لم يَكْتُبْ في صَحِيْحِهِ إلَّا أسْماءَ الكُتُبِ فَقَطُ، أمَّا أسْماءُ الأبْوَابِ فَلَمْ يُبَوِّبْهَا، بَلْ سَاقَ أحَادِيْثَ الكِتَابِ على التَّرتِيْبِ الفِقْهِيِّ، لِذَا فَإنَّ هَذِهِ التَّبْوِيْبَاتِ المَوْجُوْدَةَ في كِتَابِهِ هِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ والمُخَرِّجِيْنَ والمُخْتَصِرِيْنَ لكِتَابِهِ، ومِنْ هَؤلاءِ محي الدِّيْنِ النَّووِيُّ رَحِمَهُ الله، وإنْ كَانَ تَبْوِيْبُ أبي العَبَّاسِ القُرْطُبيِّ قَبْلَهُ أجْوَدَ مِنْهُ صِنَاعَةً، والله أعْلَمُ!(1/25)
أنَّه يَبْدَأ في وَضْعِ الأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ الَّتِي تُعْتَبرُ عِنْدَهُ مِنَ الأصُوْلِ، ثُمَّ يَعْقُبُهَا بالشَّوَاهِدِ والمُتَابَعَاتِ، فلِمُسْلِمٍ ثَلاثُ درَجَاتِ في اخْتِيَارِ الأحَادِيْثِ وسَرْدِهَا مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ والشَّوَاهِدِ والمُتَابَعَاتِ .
يَقُوْلُ النَّوَويُّ رَحِمَهُ الله في كِتَابِهِ «المِنْهَاجِ» (26) : «الثَّاني : أنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ وَاقِعًا في المُتَابِعَاتِ والشَّوَاهِدِ، لا في الأُصُوْلِ، وذَلِكَ بأنْ يَذْكُرَ الحَدِيْثَ أوَّلًا بإسْنَادٍ نَظِيْفٍ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، ويَجْعَلُهُ أصْلًا، ثُمَّ يَتْبَعُهُ بإسْنَادٍ آخَرَ، أو أسَانِيْدَ فِيْهَا بَعْضُ الضُّعَفَاءِ، على وَجْهِ التَّأكِيْدِ بالمُتَابَعَةِ، أو لزِيَادَةٍ فِيْهِ تَنْبِيْهٌ على فَائِدَةٍ فِيْما قَدَّمَهُ» انْتَهَى .
وقَالَ ظَفَر أحمَدُ العُثْمانيُّ التَّهَانَوِيُّ رَحِمَهُ الله (1394) في «قَوَاعِدِهِ» (467) : «أمَّا إخْرَاجُ مُسْلِمٍ والبُخَارِيِّ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ، فَلا يَقْدَحُ في صِحَّةِ كِتَابِهِمَا، فَإنَّ مَدَارَهَا على صِحَّةِ الأحَادِيْثِ المُخَرَّجَةِ فِيْهِمَا، لا على كَوْنِ الرُّوَاةِ كُلِّهَا رُوَاةَ الصَّحِيْحِ، فإنَّهُمَا لا يُخَرِّجَانِ للضُّعَفَاءِ إلَّا مَا تُوبِعُوا عَلَيْهِ، دُوْنَ مَا تَفَرَّدُوا بِهِ، على أنَّ الضَّعْفَ والثِّقَةَ مَرْجِعُهُما الاجْتِهَادُ والظَّنُّ» انْتَهَى.
* * *(1/26)
الاسْتِدْرَاكُ السَّادِسُ : ومِنْهَا أنَّ الحَافِظَ لكُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» سَوْفَ يَنْصَرِفُ عَنِ الكُتُبِ الشَّارِحَةِ للصَّحِيْحَيْنِ بمُفْرَدَاتِهَا، بمَعْنَى أنَّه سَوْفَ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ محَالِّ ومَظَانِّ شَرْحِ الحَدِيْثِ المَوْجُوْدِ في كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، أيْ أنَّه إذَا أرَادَ أنْ يَقِفَ على شَرْحِ حَدِيْثٍ مَّا ممَّا هُوَ في كُتُبِ «الجَمْعِ»، فَإنَّهُ والحَالَةُ هَذِهِ سَوْفَ يَصْعُبُ عَلَيْهِ غَالِبًا أنْ يَقِفَ على شَرْحِ هَذَا الحَدِيث في مَظَانِّهِ مِنْ كُتُبِ شُرَّاحِ الصَّحِيْحَيْنِ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ لكُلِّ كِتَابٍ مِنَ «الصَّحِيْحَيْنِ» أكْثَرَ مِنْ عِشْرِيْنَ شَرْحًا!
- فَخُذْ مَثلًا شُرُوْحَ البُخَارِيِّ على اخْتِصَارٍ :(1/27)
«أعْلامُ السُّنَنِ» لحَمْدٍ الخَطَّابيِّ (386)، و«شَرْحُ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لابنِ بَطَّالٍ القُرْطُبيِّ المَالكِيِّ (449)، و«شَرْحُ مُشْكِلِ البُخَارِيِّ» لمُحَمَّدٍ الدَّبِيْثيِّ الوَاسِطيِّ (637)، و«شَرْحُ البُخَارِيِّ» للحَافِظِ أبي زَكَرِيَّا مُحي الدِّيْنِ يَحْيَى بنِ شَرَفِ النَّوَوِيِّ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله (676)، و«البَدْرُ المُنِيرُ السَّارِي في الكَلامِ على البُخَارِيِّ» لعَبْدِ الكَرِيْمِ بنِ مُنِير الحَلَبيِّ (735)، و«شَوَاهِدُ التَّوْضِيْحِ والتَّصْحِيْحِ لمُشْكِلاتِ الجَامِعِ الصَّحِيْحِ» لمُحَمَّدِ بنِ مَالِكٍ (672)، و«التَّنْقِيْحُ لألْفَاظِ الجَامِعِ الصَّحِيْحِ» للزِّرْكَشِي (794)، و«الرَّامُوْزُ على صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لعَليِّ بنِ مُحمَّدٍ اليُونِيْنِيِّ (701)، و«التَّوْضِيْحُ شَرْحُ الجَامِعِ الصَّحِيْحِ» لابنِ المُلَقِّن (805)، و«فَتْحُ البَارِي بشَرْحِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لابنِ رَجَبٍ الحَنْبليِّ (795)، «فَتْحُ البَارِي بشَرْحِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لابنِ حَجَرٍ العُسْقَلانيِّ (852)، و«عُمْدَةُ القَارِئ» للعَيْنِيِّ (855)، و«إرْشَادُ السَّارِي إلى شَرْحِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» للقَسْطَلانيِّ المِصْرِيِّ (923)، و«التَّوْشِيْحُ شَرْحُ الجَامِعِ الصَّحِيْحِ» للسِّيُوطِيِّ (911)، و«مِنْحَةُ (تُحْفَةُ) البَارِي بشَرْحِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لزَكَرِيَّا الأنْصَارِيِّ المِصْرِيِّ (926)، وغَيْرَهَا كَثِيْرٌ جِدًّا .
- أمَّا شُرُوْحُ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ فَكَثِيْرَةٌ جِدًّا، فَمِنْهَا على وَجْهِ الاخْتِصَارِ:(1/28)
«المُعْلِمُ بفَوَائِدِ كِتَابِ مُسْلِمٍ» للحَافِظِ أبي عَبْدِ الله مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ المَازَرِيِّ رَحِمَهُ الله (536)، ثُمَّ أكْمَلَهُ القَاضِي عِيَاضُ بنُ مُوْسَى اليَحْصُبيُّ المَالِكِيُّ رَحِمَهُ الله (544)، تَحْتَ عُنْوَانِ : «إكْمالِ المُعْلِمِ في شَرْحِ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»، ثُمَّ كِتَابُ «المُفْهِمِ لمَا أُشْكِلَ مِنْ تَلْخِيْصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ» لأبي العَبَّاسِ أحمَدَ بنِ عُمَرَ القُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ الله (656)، وهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ شَرْحٍ على مُخْتَصَرِ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ .
ومِنْهَا كِتَابُ : «المِنْهَاجِ في شَرْحِ صُحِيْحِ مُسْلِمِ بنِ الحَجَّاجِ» للحَافِظِ مُحِي الدِّيْنِ النَّوَوِيِّ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله (676)، و«إكْمَالِ إكْمَالِ المُعْلِمِ» لأبي عَبْدِ الله بنِ خَلِيْفَةَ الوَشْتَانيِّ الأبِّي المَالِكِي رَحِمَهُ الله (827)، وكِتَابُ : «الدِّيْبَاجِ على صَحِيْحِ مُسْلِمِ بن الحَجَّاجِ» للحَافِظِ جَلالِ الدِّيْنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ السِّيُوطِيِّ رَحِمَهُ الله (911) .
وهُنَاكَ شُرُوْحٌ لبَعْضِ مَشَايخِي المُعَاصِرِيْنَ، مِثْلُ كِتَابِ : «البَحْرِ المُحِيْطِ الثَّجَّاجِ» للشَّيْخِ المُحَدِّثِ الأُصُوليِّ مُحَمَّدِ بنِ الشَّيْخِ عَليِّ بنِ آدَمَ الأتْيُوبيِّ الوَلَّوِيِّ، وغَيْرُهُ آخَرُوْنَ .(1/29)
فَهَذِهِ الشُّرُوْحُ في غَيْرِهَا مِنَ الكُتُبِ الَّتِي اعْتَنَتْ بكِتَابِ الصَّحِيْحَيْنِ (البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ) قَدْ غَدَتْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ حُفَّاظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» نَسْيًا بَعْدَ غَفْلَةٍ، أو جَهْلًا قَبْلَ هَمْلَةٍ، والشَّيءُ بالشَّيءِ يُذْكَرُ، فمِنْ أرَادَ جِلْيَةَ الأمْرِ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَسْألَ بَعْضَ طُلَّابِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ عن حَقِيْقَةِ مَعْرِفَتِهِم بهَذِهِ الشُّرُوْحِ، وعَنْ دِرَايَتِهِم بِهَا وبِمُطَالَعَتِهَا، كَيْ يُدْرِكَ مَغَبَّةَ وخُطُوْرَةَ هَذَا الاتِّجَاهِ السَّائِرِ في نَشْرِ وبَعْثِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» على حِسَابِ أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»؟! والله خَيْرٌ حَافِظًا .
ومِنْ أسَفٍ أنَّني سَمِعْتُ مُؤخَّرًا أنَّ الشَّيْخَ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله قَدْ شَرَعَ في شَرْحِ بَعْضِ كُتُبِهِ، ولاسِيَّما كِتَابُهُ : «الجَمْعُ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» الأمْرُ الَّذِي يُنْذِرُ بخَطَرٍ دَاهِمٍ على «الصَّحِيْحَيْنِ»، وعَلى شُرُوْحِهِمَا الَّتِي صَنَّفَهَا أهْلُ العِلْمِ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا، كَمَا مَرَّ مَعَنَا بَعْضُ أسْمائِهَا آنِفًا، وهَذَا دَلِيْلٌ ظَاهِرٌ إلى مُزَاحَمَةِ «الصَّحِيْحَيْنِ» سَوَاءٌ في حِفْظِهِما أو في شُرُوْحِهِما، فَهِذِهِ السَّبِيْلُ هِيَ الَّتِي كُنَّا نَخْشَاهَا ونُحَذِّرُ مِنْهَا، والله المُسْتَعَانُ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ السَّابِعُ : ومِنْهَا أنَّ الطَّالِبَ سَوْفَ يَشْتَغِلُ بحِفْظِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» عَنْ أصَلْهِمَا (البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ)، وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ ممَّا سَيَصْرِفُهُ عَنْ مُهِمَّاتِ الفَوَائِدِ الحَدِيْثِيَّةِ، والنَّوَادِرِ العِلْمِيَّةِ المَوْجُوْدَةِ في أصْلِ الصَّحِيْحَيْنِ، فمِنْ ذَلِكَ.(1/30)
أنَّ الحَافِظَ «للجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» سَوْفَ يُحْرَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ وحِفْظِ المُعَلَّقَاتِ المَوْجُوْدَةِ في أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما الَّتِي في صَحِيْحِ البُخَارِيِّ، وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ ممَّا سَيَحْرِمُ الطَّالِبَ غَالِبًا مِنَ الوُقُوْفِ على كِتَابِ «تَغْلِيْقِ التَّعْلِيْقِ» لابنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله وغَيْرِهِ، وهَكَذَا في سِلْسِلَةٍ مِنَ الجَهَالاتِ الَّتِي سَوْفَ يَكْسِبُهَا الطَّالِبُ عَلِمَ أم جَهِلَ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّامِنُ : ومِنْهَا أنَّ الحَافِظَ «للجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» سَوْفَ يُحْرَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ وحِفْظِ الآثَارِ السَّلَفِيَّةِ المَوْجُوْدَةِ في أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما الَّتِي في صَحِيْحِ البُخَارِيِّ، وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ سَوْفَ يُحْرِمُهُ غَالِبًا مِنَ الوُقُوْفِ على مَعْرِفَتِهَا وشَرْحِهَا ومُدَارَسَتِهَا، وهَكَذَا في سِلْسِلَةٍ مِنَ الأخْطَاءِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَدْفَعُ بالطَّالِبِ إلى الانْصِرَافِ عَنْ كُنُوْزٍ عِلْمِيَّةٍ، ودُرَرٍ حَدِيْثِيَّةٍ ممَّا يَحْتَاجُهَا الطَّالِبُ، عَلِمْنَا أم جَهِلْنَا!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ التَّاسِعُ : ومِنْهَا أنَّ الحَافِظَ «للجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» سَوْفَ يُحْرَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ مُقَدِّمَةِ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ، فَهِي مِنَ الكُنُوْزِ الَّتِي أوْدَعَهَا مُسْلِمٌ رَحِمَهُ الله في مُقَدِّمَةِ صَحِيْحِهِ، ممَّا يَحْتَاجُهَا كُلُّ مُحْدِّثٍ وفَقِيْهٍ، فَضْلًا عَنْ طُلَّابِ السُّنَّةِ وحُفَاظِهَا، لأنَّهَا قَدْ حَوَتْ مِنَ الفَوَائِدِ والعِلَلِ والضَّوَابِطِ مَا لا يَجِدُهُ الطَّالِبُ في غَيْرِهَا!
* * *(1/31)
الاسْتِدْرَاكُ العَاشِرُ : ومِنْهَا أنَّ دَعْوَى تَقْرِيْبِ أحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْنِ» تَحْتَ مُسَمَّى كُتُبِ : «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لَيْسَتْ صَحِيْحَةً، بَلْ هَذِهِ دَعْوَى عَرِيْضَةٌ لا حَقِيْقَةَ لهَا عِنْدَ التَّحْقِيْقِ والتَّحْرِيْرِ، ولاسِيَّما إذَا أرَدْنَا أنْ نُخَاطِبَ بِهَا طُلَّابَ العِلْمِ المُقْبِلِيْنَ على حِفْظِ السُّنَّةِ والأثَرِ، مِنْ أهْلِ الهِمَّةِ العَالِيَةِ والعَزِيْمَةِ القَوِيَّةِ، يُبَيِّنُهُ مَا يَلي باخْتِصَارٍ :
أنَّ حِفْظَ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» هِيَ في الحَقِيقَةِ أصْعَبُ حَالًا، وأثْقَلُ حِفْظًا مِنَ حِفْظِ الأُصُوْلِ، وذَلك إذَا عَلِمْنَا أنَّ كُلَّ مَنْ ألَّفَ وصَنَّفَ في «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» قَدِ الْتَزَمَ مَنْهَجًا وطَرِيقَةً هِيَ إلى الصُّعُوْبَةِ أقْرَبُ مِنْهَا إلى التَّسْهِيْلِ والتَّيْسِيرِ، ولاسِيَّما إذَا كَانَ الجَامِعُ ممَّنْ قَدِ الْتَزَمَ بإيْدَاعِ كُلِّ مَا في الصَّحِيْحَيْنِ مِنَ الأحَادِيْثِ في الجُمْلَةِ .(1/32)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ المُصَنِّفَ عِنْدَ ذِكْرِهِ للحَدِيْثِ الوَاحِدِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ سَوْفَ يَذْكُرُ غَالِبًا بَعْدَهُ زِيَادَاتِ كُلٍّ مِنَ الصَّحِيْحَيْنِ على الآخَرِ سَوَاءٌ في المَتْنِ، أو التَّخْرِيْجِ (الرَّاوِي)، أيْ : سَيَذْكُرُ زِيَادَةَ كَلِمَةٍ في المَتْنِ عِنْدَ أحَدِهِمَا، أو ذِكْرِ رَاوٍ للحَدِيْثِ لَيْس عِنْدَ أحْدِهِمَا، أو غَيْرَ ذَلِكَ ممَّا هُوَ مِنْ مَنَاهِجِ الجَامِعِيْنَ لأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ، وهُنَاكَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ ممَّا هُوَ ظَاهِرُ الصُّعُوْبَةِ بطَرِيْقٍ أو آخَرَ، عِلمًا أنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ قَدْ لا يَجِدُهَا الطَّالِبُ عنْدَ حِفْظِهِ للأصُوْلِ على انْفِرَادِهَا، ودَلِيْلُ الحَالِ وشَاهِدُ التَّجْرُبَةِ يَدُلَّانِ ضَرُوْرَةً على هَذَا .
وحَسْبُنَا صُعُوْبَةً الطَّرِيْقَةُ الَّتِي ارْتَسَمَهَا غَالِبُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ في بَيَانِ مَنْهَجِ طَرِيْقَتِهِم في الجَمْعِ، لِذَا كَانَ مِنَ البَيَانِ والتَّوْضِيْحِ أنْ نَقِفَ مَعَ مَنْهَجِ أمْثَلِهِم طَرِيْقَةً : وهُوَ أبو مُحمَّدٍ عَبْدُ الحقِّ الإشْبِيليُّ رَحِمَهُ الله؛ حَيْثُ إنَّهُ رَسَمَ لَنَا مَنْهَجَهُ في كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» مِنْ خِلالِ سِتِّ صَفَحَاتٍ تَقْرِيْبًا كَمَا جَاءَتْ في مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وهَذَا ممَّا يَزِيْدُنَا يَقِيْنًا أنَّ الصُّعُوْبَةَ قَدْ اسْتَوْطَنَتْ كِتَابَهُ، ولاسِيَّما عِنْدَ مَنْ أرادَ حِفْظَهُ مِنَ النَّاشِئَةِ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ .
ولا أرِيْدُ ذِكْرَ أمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ هَذَا لأنَّه ممَّا سَيَطُوْلُ ذِكْرُهُ، بَلْ يَكْفِيْنَا أنْ نَقِفَ مَعَ حَدِيْثٍ أو حَدِيْثَيْنِ ممَّا ذَكَرَهَا أصْحَابُهَا في كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» .(1/33)
ومِنْ هُنَا سَوْفَ نَقِفُ باخْتِصَارٍ مَعَ حَدِيْثٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للحَافِظِ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيْليِّ رَحِمَهُ الله لتَسْتَبِيْنَ لَنَا حَقِيْقَةُ الصُّعُوْبَةِ على مَنْ رَامَ حِفْظَهُ مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ .
قَالَ الإشْبِيليُّ رَحِمَهُ الله عِنْدَ الحَدِيْثِ الثَّاني مِنْ كِتَابِ الإيْمانِ مَا نَصُّهُ : «مُسْلِمٌ : عَنْ أبي هُرِيْرَةَ قَالَ : أَنَّ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، فَأتَاهُ رَجَلٌ فَقَالَ : يَا رَسُوْلَ الله! : مَا الإيمَانُ؟ قَالَ : «أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وكِتَابِهِ ولِقَائِهِ ورُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ الآخَرِ»، قَالَ يَا رَسُوْلَ الله! : مَا الإسْلَامُ؟ قَالَ : «الإسْلَامُ أنْ تَعْبُدَ الله وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ»، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ»، قَالَ يَا رَسُوْلَ الله! : مَا الإحْسَانُ؟ قَالَ : «أنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ فَإنَّكَ إنْ لا تَرَاهُ، فَإنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ : يَا رَسُوْلَ الله! : مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ : «مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ سَأحَدِّثُكَ عَنْ أشْرَاطِهَا : إذَا رَأيْتَ المَرْأةَ تَلِدُ رَبَّها فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا، وَإذَا رَأيْتَ الحُفَاةَ العُرَاةَ الصُّمَّ البُكْمَ مُلُوْكَ الأرْضِ، فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا، وإذَا رَأيْتَ رِعَاءَ البَهْمِ يَتَطاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ من الغيب لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا الله» ثُمَّ قرأ: «إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا في الأرْحَامِ ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوْتُ إنَّ الله(1/34)
عَلَيْمٌ خَبِيرٌ»، ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله : «رُدُّوهُ عليَّ» فالْتُمْسَ فَلَمْ يَجِدُوْهُ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله : «هَذَا جِبْرِيلُ أرَادَ أنْ تَعَلَّمُوا إذْ لم تَسْألُوا».
خَرَّجَ البُخَارِيُّ هَذَا الحَدِيْثَ في كِتَابِ الإيْمانِ، وفي تَفْسِيْرِ سُوْرَةِ لُقْمَانَ .
وفي كِلا المَوْضِعَيْنِ لم يَقُلْ : «وكِتَابِهِ»، ولا «وكُتُبِهِ»، ولا «المَكْتُوْبَةَ»، ولا ذَكَرَ الإيْمانَ بالقَدَرِ، ولا قَالَ : «سَلُونِي»، فَهَابُوهُ أنْ يَسْألُوهُ، ولا قَالَ : «هَذَا جِبْرِيلُ أرَادَ أنْ تَعَلَّمُوا إذْ لم تَسْألُوا»، ولا قَالَ : «أنْ تَخْشَى الله»، قَالَ : «أنْ تَعْبُدَ الله»، ولا قَالَ : «الصُّمَّ البُكْمَ مُلُوْكَ الأرْضِ»، ولا قَالَ هَذا اللَّفْظَ : «بَعْلَهَا» يَعْنِي السَّرارِي، وقَالَ في التَّفْسِيرِ : إنَّ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إذْ أتَاهُ رَجَلٌ يَمْشِي»، وقَالَ : «وإذَا كَانَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رُؤوْسَ النَّاسِ فَذَلِكَ مِنْ أشْرَاطِهَا».
وقَالَ في كِتَابِ الإيْمانِ : «وإذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الإبِلِ البُهْمِ في البُنْيَانِ» انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ الله!(1/35)
ومِنْ خِلالِ هَذِهِ التَّفْرِيْعَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الإشْبِيليُّ رَحِمَهُ الله حَوْلَ هَذَا الحَدِيْثِ، ومَا زَادَهُ مِنْ رِوَايَاتٍ ومَا أخْرَجَ مِنْهَا، ومَا بَيَّنَ فِيْهِ مِنْ تَقْدِيْمٍ وتَأخِيْرٍ، ومَا أوْضَحَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَوَاضِعِ الحَدِيْثِ في صَحِيْحِ البُخَارِيِّ وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الإشْكَالاتِ : نَسْتَطِيْعُ أنْ نُدْرِكَ أنَّ كِتَابَ الإشْبِيليِّ وغَيْرِهِ مِنْ عَامَّةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» ممَّا الْتَزَمَ أصْحَابُهَا فِيْهَا إيْدَاعَ جَمِيْعَ أحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ : أنَّها على جَلالَتِهَا وأهَمِّيَتِهَا لا تَخْلُو غَالِبًا مِنْ وُجُوْدِ صُعُوْبَةٍ ومُضَايَقَةٍ لمَنْ يُرِيْدُ حِفْظَهَا اسْتِعَاضَةً بِهَا عَنْ أصْلِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، الأمْرُ الَّذِي لا نَجِدُهُ في «الصَّحِيْحَيْنِ»، والله المُوَفِّقُ.
ولَنَا أيْضًا وَقْفَةٌ مَعَ أوَّلِ حَدِيْثَيْنِ مِنْ كِتَابِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للشَّيْخِ اليَحْيَى؛ كَي نَلْمَسَ حَقِيْقَةَ الصُّعُوْبَةِ والعُسْرِ الَّذِي يَجِدُهُ الطَّالِبُ عِنْدَ حِفْظِهِ للكِتَابِ، كَمَا سَيَأتي ذِكْرُهُ في البَابِ الثَّاني إنْ شَاءَ الله .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الحَادِي عَشَرَ : أنَّ الكَّافَةَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ والحَدِيْثِ قَدْ أقَرُّوا وقَطَعُوا ضَرُوْرَةً بسُهُوْلَةِ حِفْظِ «الصَّحِيْحَيْنِ» على انْفِرَادِهِمَا، وأنَّ في حِفْظِهِمَا مِنَ الفَوَائِدِ والفَرَائِدِ مَا لا يُوْجَدُ في غَيْرِهَا، ولاسِيَّما في كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، فَمِنْ ذَلِكَ باخْتِصَارٍ :(1/36)
بَرَكَةُ قِرَاءَةِ الأصُوْلِ، وهَذِهِ البَرَكَةُ لَوْ لم يَكُنْ فِيْهَا إلَّا اتِّبَاعُ السَّلَفِ في طَرِيْقَةِ حِفْظِهِم للسَّنَّةِ، وأيْضًا سُهُوْلَةُ الحِفْظِ، وزِيَادَةُ الفَهْمِ، ومَعْرفَةُ مَوَاضِعِ الاتِّفَاقَاتِ والانْفِرَادَاتِ والزِّيَادَاتِ .
يُبَيِّنُهُ أنَّ الطَّالِبَ إذَا حِفْظَ «الصَّحِيْحَيْنِ»؛ فَلَهُ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَمُرَّ على حِفْظِ مَا فِيْهِمَا مِنْ مُعَلَّقَاتٍ وآثَارٍ وغَيْرِهَا مِنَ الفَوَائِدِ الحَدِيْثِيَّةِ والفِقْهِيَّةِ ممَّا لا يَجِدُهُ في غَالِبِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» .
وأنَّهُ أيْضًا عِنْدَ حِفْظِهِ للصَّحِيْحَيْنِ سَوْفَ يَمُرُّ بفَوَائِدَ كَثِيْرَةٍ جِدًّا مِنْهَا : إمَّا أنْ يَكُوْنَ الحَدِيْثُ الَّذِي حَفِظَهُ ممَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وإمَّا أنْ يَكُوْنَ مِنْ مُفْرَدَاتِ البُخَارِيِّ، أو مِنْ مُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ، فَهَذِهِ الفَوَائِدُ سَوْفَ يَقْتَنِصُهَا الطَّالِبُ مِنْ طَرِيْقَةِ حِفْظِهِ للصَّحِيْحَيْنِ، وهَذَهِ الطَرِيْقَةُ هِيَ مِنْ مَسَالِكَ المُحَدِّثِيْنَ قَدِيْمًا وحَدِيْثًا لمَعْرِفَةِ مَوَاضِعِ الاتِّفَاقَاتِ والإفْرَادَاتِ والزَّوَائِدِ .
وأنَهُ أيْضًا سَوْفَ يَقِفُ على تَبْوِيْبَاتِ وتَرْتِيْبَاتِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما صَحِيْحُ البُخَارِيِّ، وهَذِهِ فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا لا يَعْقِلُهَا إلَّا الحُفَّاظُ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ!
وكَذَا مِنْ فَوَائِدِ حِفْظِ الصَّحِيْحَيْنِ : مَعْرِفَةُ الكُتُبِ الشَّارِحَةِ «للصَّحِيْحَيْنِ»، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ كُتُبِ الشَّرْحِ أو الاسْتِدْرَاكِ أو التَّخْرِيْجِ أو الإلْزَامِ أو الاخْتِصَارِ .(1/37)
ومِنْهَا أيْضًا : مَعْرِفَةُ رِجَالِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ومَعْرِفَةِ الكُتُبِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ رِجَالَ «الصَّحِيْحَيْنِ» في غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ العِلَلِ والتّعْلِيْقَاتِ والغَرِيْبِ .
ومِنْهَا : مَعْرِفَةُ وتَمْييِزُ الأحَادِيْثِ الأصُوْلِ في «الصَّحِيْحَيْنِ» مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أحَادِيْثِ المُتَابَعَاتِ والشَّوَاهِدِ ممَّا هِي في الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ في الصِّحَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ عِنْدَ أهْلِ المَعْرِفَةِ بالحَدِيْثِ والرِّجَالِ، وغَيْرَهُ كَثِيرٌ جِدًّا لا يَسْتَطِيْعُ الإحَاطَةَ بِهَا إلَّا مَنْ مَارَسَ حِفْظَ «الصَّحِيْحَيْنِ»، أو دَاوَمَ مُطَالَعَتَهُمَا، أو أنْعَمَ النَّظَرَ في مَجْمُوْعِ شُرُوْحِهِمَا، والله أعْلَمُ .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّاني عَشَرَ : ومِنْهَا أنَّ الحَافِظَ للجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنَ قَدْ يَغْرُبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ ضَبْطِ اسْمِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الوُقُوْفَ على اسْمَيْهِمَا لهُمَا مِنَ الفَوَائِدِ والعَوَائِدِ الحَدِيْثِيَّةِ الشَّيءُ الكَثِيْرُ .
ولَوْ لم يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أنَّ الطَّالِبَ يَعْلَمُ : أنَّ البُخَاريَّ ومُسْلمًا لم يَقْصِدَا بكِتَابَيْهِمَا الإحَاطَةَ بجَمِيْعِ الأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ، وأنَّهمَا أيْضًا لم يَقْصِدَا جَمْعَ وذِكْرَ الآثَارَ والمَوْقُوْفَاتِ والمَقْطُوْعَاتِ والبَلاغَاتِ وغَيْرَهَا ممَّا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ عِنْوَانِ اسْمِ كِتَابَيْهِمَا (1) .
__________
(1) لاشَكَّ أنَّ المَوْقُوْفَاتِ والآثَارَ وغَيْرَهَا المَوْجُوْدَةَ في «الصَّحِيْحَيْنِ» لم تَكُنْ مَقْصُوْدَةً بالتَّألِيْفِ؛ بَلْ تَأتي عِنْدَهُمَا تِبَاعًا؛ خِلافًا لذِكْرِ الأحادِيْثِ المَرْفُوْعَةِ، والله أعْلَمُ!(1/38)
- يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ اسْمَيْ كِتَابَيْهِمَا يَدُلَّانِ على مَنَاهِجَ حَدِيْثِيَّةٍ، ومَعَانٍ عِلْمِيَّةٍ، كَمَا هُوَ مَأخُوْذٌ ومُتَلَقَّى مِنَ الاسْمِ والعِنْوَانِ، كَما يَلي :
فَأمَّا اسْمُ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ : فَهُوَ : «الجَامِعُ المُسْنَدُ الصَّحِيْحُ المُخْتَصَرُ مِنْ أمُوْرِ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسُنَنِهِ وأيَّامِهِ»، كَمَا وَضَعَهُ الإمَامُ الحَافِظُ الحُجَّةُ أبو عَبْدِ الله محَمَّدُ بنُ أسْماعِيْلَ البُخَارِيُّ الجُعْفِيُّ رَحِمَهُ الله (256)، وأمَّا اسْمُ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ : فَهُوَ «المُسْنَدُ الصَّحِيْحُ المُخْتَصَرُ مِنَ السُّنَنِ بنَقْلِ العَدْلِ عَنِ العَدْلِ عَنْ رَسُوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم - »، كَمَا وَضَعَهُ الإمَامُ الحَافِظُ الحُجَّةُ أبو الحُسَيْنِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ القُشيْريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ الله (261)، وحَسْبُكَ أنَّ في هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ مِنَ الفَوَائِدِ الحَدِيْثِيَّةِ، والدُّرَرِ العِلْمِيَّةِ، والنُّكَاتِ البَدِيْعَةِ الشَّيءَ الكَثِيرَ الكَثِيْرَ ممَّا يَعْرِفُهُ أهْلُ الصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، والمُشْتَغِلِيْنَ بمُطَالَعَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ، ولَيْسَ هَذَا مَحلَّ بَسْطِهَا، والله المُوَفِّقُ .
وهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الاسْتِدْرَاكَاتِ والتَّعَقُّبَاتِ على مَنِ اسْتَعَاضَ بحِفْظِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنَ» عَنِ حِفْظِ «الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما ممَّنْ أعْطَاهُ الله هِمَّةً عَالِيَةً، وأعْطَاهُ عَزِيْمَةً قَوِيَّةً، وآتَاهُ ذَاكِرَةً صَافِيَةً، ورَزَقَهُ صَبْرًا وجَلَدًا في حِفْظِ ودِارَسَةِ كُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ، فَهَذِهِ الاسْتِدْرَاكَاتُ وغَيْرُهَا قَدْ تَجَاوَزْنَا ذِكْرَهَا خَشْيَةَ الإطَالَةِ والمِلالِ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
البَابُ الثَّاني(1/39)
النَّقْدُ والاسْتِدْرَاكَاتُ لكِتَابِ
«الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ»
للشَّيْخِ يَحْيَى اليَحْيَى
لاشَكَّ أنَّ الشَّيْخَ يَحْيَى اليَحْيَى حَفِظَهُ الله لَهُ آثَارُ حَسَنَةٌ، وجُهُوْدٌ مَشْكُوْرَةٌ في إحْيَاءِ السُّنَّةِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ سَوَاءٌ في بِلادِ الحَرَمَيْنِ أو في غَيْرِهَا مِنَ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ؛ حَيْثُ أجْرَى الله على يَدَيْهِ قِيَامَ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ في ضَبْطِ السُّنَّةِ، ودَفْعِ الطُّلَّابِ إلى حِفْظِهَا، في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الجُهُوْدِ الحَدِيْثِيَّةِ الَّتِي تَنْتَظِمُ في عِقْدِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، ولا نُزَكِّيْهِ على الله تَعَالى!
كَمَا أنَّني أذَكِّرُ نَفْسِي والشَّيْخَ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله بحَدِيْثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أجْرُهَا وأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أجُوْرِهِم شَيءٌ ...»، وقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» أخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ .
* * *(1/40)
ونَحْنُ مِنْ خِلالِ ثَنَائِنَا على هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ، وعلى جُهُوْدِ القَائِمِيْنَ عَلَيْهَا لا نَقْطَعُ بسَلامَتِهَا مِنَ الخَطَأ والاسْتِدْرَاكِ، لأنَّهُ قَدْ بَاتَ لَدَى عُقَلاءِ بَنِي آدَمَ : أنَّ كُلَّ عَمَلٍ أو كِتَابٍ يَقُوْمُ بِهِ البَشَرُ؛ فَهُوَ عُرْضَةٌ للنَّقْدِ والنَّقْصِ؛ لأنَّ الله تَعَالى لم يَكْتُبِ الحِفْظَ والكَمَالَ إلَّا لكِتَابِهِ العَزِيْزِ، لأجْلِ هَذَا فَقَدْ وَقَعَ نَظَرِي على بَعْضِ الاسْتِدْرَاكَاتِ المَوْجُوْدَةِ في كِتَابِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنَ»، و«زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ» للشَّيْخِ اليَحْيَى، فَكَانَ ذِكْرُنَا لهَذِهِ الاسْتِدْرَاكَاتِ مِنْ وَاجِبِ النَّصِيْحَةِ، ومِنْ إبْرَاءِ الذِّمَّةِ في حَقِّ السُّنَّةِ وأهْلِهَا، ولاسِيَّما في حَقِّ «الصَّحِيْحَيْنِ» عَلَيْنَا وعلى الأمَّةِ أجْمَعَ!
ومِنْ قَبْلُ؛ فَإنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ في البَابِ الأوَّلِ مِنْ مُلاحَظَاتٍ واسْتِدْراكَاتٍ على عَامَّةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» وغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»؛ فَإنَّها جَارِيَةٌ والحَالَةُ هَذِهِ على كُتُبِ الشَّيْخِ اليَحْيَى، بطَرِيْقِ الأوْلى أو اللُّزُوْمِ .
عِلمًا أنَّني هُنَا لم أتَتَبَّعْ جَمِيْعَ مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله في كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ»، بَلْ إنَّني وَقَفْتُ مَعَ المُقَدِّمَةِ الَّتِي خَطَّهَا الشَّيْخُ كمَنْهَجٍ للتَّألِيْفِ فَقَطُ، كَمَا وَقَفْتُ أيْضًا مَعَ أوَّلِ حَدِيْثَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّيْخُ في أوَّلِ كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لقَصْدِ التَّمْثِيْلِ والاعْتِبَارِ، لَيْسَ إلَّا .(1/41)
لِذَا فَإنَّني لم أقِفْ أو أتَتَبَّعْ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى في كُتُبِهِ، عِلْمًا أنَّ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ تَعْقِيْبٍ أو اسْتِدْرَاكٍ على مُقَدِّمَتِهِ وعلى أوَّلِ حَدِيْثَيْنِ عِنْدَهُ لهُوَ كَافٍ في الحُكْمِ عَلَى كُتُبِهِ : وذَلِكَ بلُزُوْمِ الاسْتِعَاضَةِ عَنْهَا بحِفْظِ «الصَّحِيْحَيْنِ» وغَيْرِهِمَا مِنْ أُصُوْلِ السُّنَّةِ، وعلى هَذَا اقْتَضَى التَّنْبِيْهُ، والله مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ .
* * *
ثُمَّ أمَّا بَعْدُ؛ فَهَذِهِ بَعْضُ الاسْتِدْرَاكَاتِ العِلْمِيَّةِ، والتَّعَقُّبَاتِ الحَدِيْثِيَّةِ على كِتَابِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، و«زِيَادَاتِ الكُتُبِ العَشَرَةِ» على وَجْهِ الاخْتِصَارِ، وطَرَفِ الاعْتِبَارِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ :
الاسْتِدْرَاكُ الأوَّلُ : أنَّ الشَّيْخَ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله قَدِ ارْتَسَمَ مَنْهَجًا في تَألِيْفِ كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» مِنْ خِلالِ طَرِيْقَةٍ مُبْتَكَرَةٍ عِنْدَ كُلِّ مَنْ جَمعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ، كمَا هُوَ ظاهِرُ خِطَّةِ مُقَدِّمَتِهِ؛ إذْ قَالَ :
المُتَّفَقُ عَلَيْهِ ومُلْحَقَاتُهُ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَتْنٍ وحَاشِيَةٍ، فَمَا ألْحِقَ بِهِ ممَّا هُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ البُخَارِيِّ وَضَعْنَاهُ في المَتْنِ بَيْنَ قَوْسَيْنِ، ومَا هُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ وَضَعْنَاهُ في الحَاشِيَةِ، ومَا قُلْنا عَنْهُ في الحَاشِيَةِ : و«لمُسْلِمٍ» بِدُوْنِ رِوَايَةٍ، فَهُو رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لحَدِيْثِ المَتْنِ نَفْسِهِ، ومَا قِيْلَ : و«لمُسْلِمٍ في رِوَايَةٍ»، فَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لمُسْلِمٍ غَيْرِ رِوَايَةٍ المَتْنِ .
ثُمَّ قَالَ : وكُلُّ أبْوَابِ الكِتَابِ هِيَ أبْوَابُ البُخَارِيِّ في صَحِيْحِهِ إلَّا مَا أشَرْتُ إلَيْهِ بنَجْمَةٍ، هَكَذَا : * .(1/42)
وقَالَ : أسْمَاءُ الكُتُبِ مُرَتَّبَةٌ حَسبَ كُتُبِ الفِقْهِ .
وقَالَ : ثُمَّ إنَّ الشَّوَاهِدَ والمُتَابَعَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيْهَا أحْكَامٌ جَدِيْدَةٌ لم أُثْبِتْهَا هُنَا إلَّا يَسِيْرًا، ولَكِنْ أُثْبِتُهَا كُلَّهَا في كِتَابِ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ للبَاحِثِيْنَ ... انْتَهَى باخْتِصَارٍ .
قُلْتُ : لَنَا فِيْما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله بَعْضُ المَلْحُوْظَاتِ والاسْتِدْرَاكَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ :
أنَّه حَفِظَهُ الله قَسَّمَ الكِتَابَ إلى قِسْمَيْنِ : مَتْنٍ وحَاشِيَةٍ، وفي هَذَا خَطَأٌ مَنْهَجِيٌّ في التَّألِيْفِ والتَّصْنِيْفِ، لأمُوْرٍ :
1ـ أنَّ الأصْلَ في تَألِيْفِ الكِتَابِ أنْ يَكُوْنَ مُنْفَرِدًا وخُلْوًا عَنْ كُلِّ مَا يُزَاحِمُهُ، لِذَا فَإنَّ الحَاشِيَةَ عِنْدَ عَامَّةِ المُتَقَدِّمِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ هِيَ في حَقِيْقَتِهَا تُعْتَبرُ كِتَابًا جَدِيْدًا؛ خِلافًا للمُتَأخِّرِيْنَ الَّذِيْنَ عِنْدَهُم وَلَعٌ وشَغَفٌ بذِكْرِ الحَوَاشِي، وقَدْ بَيَّنْتُ مِثْلَ هَذَا الخَطَأ في كِتَابي «صِيَانَةِ الكِتابِ» أسْألُ الله تَيْسِيْرَهُ آمِيْنَ!
وأيًّا كَانَ الأمْرُ؛ فَإنَّ ذِكْرَ كِتَابَيْنِ (مَتْنٍ وحَاشِيَةٍ) في كِتَابٍ وَاحِدٍ سَوْفَ يَكُوْنُ سَبَبًا للتَّشْوِيْشِ والخَلْطِ على حِفْظِ الطَّالِبِ، وهَذَا الصَّنِيْعُ ممَّا لا يَجِدُهُ الطَّالِبُ في حِفْظِ «الصَّحِيْحَيْنِ» على انْفِرَادِهِمَا .(1/43)
2ـ أنَّ وُجُوْدَ كِتَابَيْنِ (مَتْنٍ وحَاشِيَةٍ) في كِتَابٍ وَاحِدٍ بحُجَّةِ حِفْظِهِمَا، لَيْسَ صَوَابًا، بَلْ فِيْهِ مِنَ المُضَايَقَةِ والمَشَقَّةِ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ بَصِيْرٍ؛ ولَو لم يَكُنْ فِيْهِ مِنَ التَّعْسِيْرِ إلَّا أنَّه يَدْفَعُ الطَّالِبَ عِنْدَ حِفْظِهِ لكُلِّ حَدِيْثٍ إلى اسْتِحْضَارِ مَا يَلي : أنْ يَسْتَحْضِرَ حِفْظَ مَا في المَتْنِ : وهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ مَا انْفَرَدَ بِهِ البُخَاريُّ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرَ حِفْظَ مَا في الحَاشِيَةِ : وهُوَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ لنَفْسِ رِوَايَةِ الحَدِيْثِ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ أفْرَادِ مُسْلِمٍ لغَيْرِ رِوَايَةٍ الحَدِيْثِ! وهَذَا وغَيْرَهُ ممَّا يَقْطَعُ بصُعُوْبَةِ ومَشَقَّةِ طَرِيْقَةِ اليَحْيَى في مَنْهَجِ كِتَابِهِ الَّذِي ألَّفَهُ بحُجَّةِ التَّيْسِيْرِ والتَّسْهِيْلِ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّاني : أنَّ تَضْمِيْنَاتِ مُفْرَدَاتِ البُخَارِيِّ في المَتْنِ بَيْنَ قَوْسَيْنِ، فِيْهِ مُغَالَطَةٌ مَنْهَجِيَّةٌ؛ يَدُلُّ على ذَلِكَ أنَّ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله قَدِ الْتَزَمَ بتَصْنِيْفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍ يَتَضَمَّنُ مُفْردَاتِ البُخَارِيِّ!
ومَهْمَا يَكُنْ؛ مِنِ اعْتِذَارٍ في مَنْهَجِ اليَحْيَى في مَعْرِفَةِ وضَبْطِ «الزَّوَائِدِ» فَهُوَ غَيْرُ سَدِيْدٍ؛ لأنَّ التَّوَسُّعَ في جَمْعِ وضَبْطِ «الزَّوَائِدِ» فِيْهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ لمَنْهَجِ المُحَدِّثِيْنَ؛ لأنَّ أهْلَ العِلْمِ قَدِ اصْطَلَحُوا على مَنْهَجٍ فَرِيْدٍ دَقِيْقٍ في عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، لا يَجُوْزُ والحَالَةُ هَذِهِ خَرْقُهُ بحُجَّةِ التَّوَسُّعِ في مَعْنَى «الزَّوَائِدِ»، أو بحُجَّةِ لا مُشَاحَّةَ في الاصْطِلاحِ!
* * *(1/44)
الاسْتِدْرَاكُ الثَّالِثُ : وكَذَا وُجُوْدُ هَذِهِ المُغَالَطَةِ أيْضًا في تَضْمِيْنِهِ لمُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ التَّي وَضَعَهَا في الحَاشِيَةِ، وذَلِكَ على حَدِّ قَوْلِهِ : «ولمُسْلِمٍ»، أو «ولمُسْلِمٍ في رِوَايَةٍ!»، عِلمًا أنَّهُ صَنَّفَ أيْضًا كِتَابًا مُسْتَقِلًّا يتَضَمَّنُ مُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الرَّابِعُ : وفي قَوْلِهِ : «ولمُسْلِمٍ بدُوْنِ رِوَايَةٍ، فَهُوَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لحَدِيْثِ المَتْنِ نَفْسِهِ، ومَا قِيْلَ : ولمُسْلِمٍ في رِوَايَةٍ، فَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لمُسْلِمٍ غَيْرَ رِوَايَةِ المَتْنِ»!
قُلْتُ : إنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ في اعْتِبَارِ اخْتِلافِ المَخْرَجِ للحَدِيْثِ، سَوَاءٌ في زِيَادَةِ المَتْنِ أو اخْتِلافِ الرَّاوِي؛ لهُوَ أحَدُ طُرُقِ مَعْرِفَةِ إفْرَادَاتِ الأحَادِيْثِ عِنْدَ أئِمَّةِ الشَّأنِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ، فَهَذَا ممَّا يَزِيْدُنَا يَقِيْنًا أنَّ اليَحْيَى كَانَ وَاسِعَ الخَطْوِ في تَحْقِيْقِ مَعْرِفَةِ «الإفْرَادَاتِ»، و«الزِّيَادَاتِ»، والله أعْلَمُ .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الخَامِسُ : وأمَّا قَوْلُهُ : «وكُلُّ أبْوَابِ الكِتَابِ : هِيَ أبْوَابُ البُخَارِيِّ في صَحِيْحِهِ، إلَّا مَا أشَرْتُ إلَيْهِ بنَجْمَةٍ، هَكَذَا : * » .
قُلْتُ : هَذِهِ دَعْوَى عَرِيْضَةٌ، يُبَيِّنُهُ أنَّني لمَّا أحْصَيْتُ فَقَطُ عَدَدَ الأبْوَابِ المَوْجُوْدَةِ في أوَّلِ كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، والَّتِي هِيَ تَحْتَ عُنْوَانِ كِتَابِ الإيْمانِ، فَوَجَدْتُ أنَّ عَدَدَ الأبْوَابِ اثْنَيْنِ وسِتِّيْنَ بَابًا .(1/45)
مِنْهَا وَاحِدٌ وعِشْرُوْنَ بَابًا (أيْ : بمُعَدَّلِ ثُلْثِ الأبْوَابِ!) : هِيَ لَيْسَتْ مِنْ أبْوَابِ البُخَارِيِّ، بَلْ لم يَنُصْ عَلَيْهَا البُخَارِيُّ رَحِمَه الله، بَلْ كَانَتْ مِنْ وَضْعِ الشَّيْخِ اليَحْيَى؛ حَيْثُ نَجِدَهُ قَدْ وَضَعَ بجَانِبِهَا عَلامَةَ النَّجْمَةِ الدَّالَةِ على ذَلِكَ، قُلْتُ هَذَا الَّذِي وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ خِلالِ أبْوَابِ الكتَابِ الأوَّلِ مِنْ كِتَابِهِ، ومَا خَفِيَ كَانَ أعْظَمَ، والله أعْلَمُ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ السَّادِسُ : ومَعَ هَذَا فَلَمْ تَسْلَمْ هَذِهِ التَّبْوِيْبَاتُ الَّتِي وَضَعَهَا اليَحْيَى مِنْ مَلْحُوْظَاتٍ؛ حَيْثُ قَالَ في أوَّلِ تَبْوِيْبٍ في كِتَابِ الإيْمانِ : «بَابٌ : مَا هُوَ الإيْمانُ؟
قُلْتُ : إنَّ قَوْلَهُ : «مَا هُوَ الإيْمانُ؟» فِيْهِ حَشْوٌ ظَاهِرٌ؛ حَيْثُ أدْخَلَ ضَمِيْرَ الفَصْلِ في غَيْرِ مَحلِّهِ؛ ممَّا أفْسَدَ بِهِ المَعْنَى لُغَةً واصْطِلاحًا؛ لِذَا كَانَ الصَّوَابُ أنْ يُقَالَ : مَا الإيْمانُ؟(1/46)
ثُمَّ نَجِدُهُ حَفِظَهُ الله قَدْ أدْخَلَ حَدِيْثَ ابنِ عَبَّاسٍ الأوَّلِ تَحْتَ تَعْرِيْفِ الإيْمَانِ، وهَذَا أيْضًا لَيْسَ بصَوَابٍ؛ لأنَّهُ أطْلَقَ بِهِ تَعْرِيْفَ الإيْمَانِ؛ لِذَا كَانَ الأوْلى أنْ يُقَيِّدَهُ، لأنَّ الحَدِيْثَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهَ مُبَاشَرَةً فِيْهِ اخْتِلافٌ في تَعْرِيْفِ الإيْمانِ، لِذَا كَانَ الأوْلى أنْ يُدْرِجَ الحَدِيْثَيْنِ ويُضَمِّنْهُمَا تَحْتَ عُنْوَانٍ وَاحِدٍ عَامٍّ، كَقَوْلِكَ : بَابُ الإسْلامِ والإيْمانِ والإحْسَانِ، أو بَابُ سُؤالِ جِبْرِيْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمانِ، كَما هُوَ تَصَرُّفُ البُخَارِيِّ في صَحِيْحِهِ؛ لأنَّ البُخَارِيَّ رَحِمَه الله تَرْجَمَ لحَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسِ الأوَّلِ بَقَوْلِهِ : «وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ»، ثُمَّ نَرَاهُ أيْضًا قَدْ تَرْجَمَ لحَدِيْثِ أبي هُرَيْرَةَ الثَّاني، بقَوْلِهِ : «بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمانِ والإسْلامِ والإحْسَانِ، وعِلْمِ السَّاعَةِ، وبَيَانِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ» .
ومِنْ خِلالِ وُقُوْفِنَا على تَرَاجِمِ أبْوَابِ البُخَارِيِّ الّتِي وَضَعَهَا في صَحِيْحِهِ، وبَيْنَ مَا صَنَعَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى يَتَّضِحُ لكُلِّ ذِي عَيْنٍ : البَوْنَ الشَّاسِعَ بَيْنَهُما، والخَطَأ الوَاضِحُ عِنْدَ اليَحْيَى، والله المُوَفِّقُ .(1/47)
كَمَا أنَّ الشَّيْخَ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله لم يَلْتَزِمْ بتَبْوِيْبِ البُخَارِيِّ؛ حَيْثُ تَرْجَمَ لحَدِيْثِ أبي هُرِيْرَةَ الثَّاني، بقَوْلِهِ : «بَابُ سُؤَالِ جَبْرِيْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمانِ»، عِلمًا أنَّ البُخَارِيَّ رَحِمَهُ الله لم يَقْتَصِرْ في التَّرْجَمَةِ على الإيْمانِ، بَلْ قَالَ : «بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمانِ والإسْلامِ والإحْسَانِ، وعِلْمِ السَّاعَةِ»، فأيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟، كَمَا أنَّنَا مَهْمَا اعْتَذَرْنَا لليَحْيَى في تَصَرُّفِهِ في اخْتِصَارِ التَّرْجَمَةِ، إلَّا أنَّنا أيْضًا لا نَعْذُرُهُ فِيْما يَأتي .
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّ التَّرْجَمَةَ الَّتِي اقْتَصَرَ عَلَيْهَا اليَحْيَى مُوْهِمَةٌ ومُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ الطَّالِبَ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا قَدْ يَفْهَمُ مِنْهَا أنَّ تَعْرِيْفَ الإيْمانِ : مَا ذُكِرَ في حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ قَطُّ، وأنَّ سُؤالَ جَبْرِيْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَنِ الإيْمانِ قَطُّ!
عِلمًا أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ تَعْرِيْفِ الإيْمانِ والإسْلامِ؛ حَيْثُ أنَّهُم جَعَلُوا لكُلٍّ مِنْهُما تَعْرِيْفًا عِنْدَ الاقْتِرَانِ، وتَعْرِيفًا آخَرَ عِنْدَ الافْتِرَاقِ، فَالإيْمانُ إذَا أُطْلِقَ دَلَّ مَعْنَاهُ على مَعْنَى الإسْلامِ، والعَكْسُ صَحِيْحٌ، كَمَا هُوَ ظَاِهِرُ حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ الأوَّلِ، وإذَا اقْتَرَنَا دَلَّ مَعْنَى الإيْمانُ على الأعْمَالِ القَلْبِيَّةِ، ودَلَّ مَعْنَى الإسْلامِ على الأعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيْثُ أبي هُرَيْرَةَ الثَّاني، والله أعْلَمُ .
* * *(1/48)
الاسْتِدْرَاكُ السَّابِعُ : أنَّ دَعْوَى اليحْيَى بِأنّهُ قَدِ الْتَزَمَ بتَضْمِيْنِ كُلِّ أبْوَابِ البُخَارِيِّ في كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»؛ فَهِيَ دَعْوَى غَيْرُ سَدِيْدَةٍ ولا مَقْبُوْلَةٍ مِنَ النَّاحِيَةِ الحَدِيْثِيَّةِ والفَقْهِيَّةِ!
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله لم يَلْتَزِمْ بَوَضْعِ الأحَادِيْثِ الَّتِي ارْتَضَاهَا واخْتَارَهَا البُخَارِيُّ رَحِمَهُ الله تَحْتَ كُلِّ تَرْجَمَةٍ وَضَعَهَا في صَحِيْحِهِ، بَلْ قْدْ أجْرَى اليَحْيَى عَلْيَهَا قَلَمَ النَّحْتِ والانْتِقَاءِ والاخْتِصَارِ، إلَّا مَا نَدَرَ وقَلَّ!
وهَذَا في حَدِّ ذَاتِهِ ممَّا يَدُلُّ على وُجُوْدِ خَلَلٍ في تَرَاجِمِ أبْوَابِ اليَحْيَى سَوَاءٌ مِنَ النَّاحِيَةِ الحَدِيْثِيَّةِ أو الفَقْهِيَّةِ، ولا يُدْرِكُ هَذَا الخَلَلَ إلَّا مَنْ أدْمَنَ النَّظَرَ في صَحِيْحِ البُخَارِيِّ، وعَلِمَ أيْضًا فِقْهَ البُخَارِيِّ في اخْتِيَارَاتِهِ وتَصَرُّفَاتِهِ في الأبْوَابِ، والله أعْلَمُ .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّامِنُ : أنَّ الطَّرِيْقَةَ الَّتِي اتَّخَذَهَا اليَحْيَى حَفِظَهُ الله في كِتَابِهِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» فِيْهَا تَكَلُّفٌ وَاضِحٌ، ومُزَاحَمَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ حَيْثُ نَرَاهُ قَدْ وَقَعَ في بَعْضِ الأخْطَاءِ المَنْهَجِيَّةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ لأوَّلِ حَدِيْثَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، فَضْلًا عَنِ الأحَادِيْثِ البَاقِيَةِ مِنْهَا .(1/49)
فَأمَّا الحَدِيْثُ الأوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيْقِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُما، فَقَدْ أوْرَدَه هَكذَا كَمَا جَاءَ في الطَّبْعَةِ الأوْلى لعَامِ (1426) (1) :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ : لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «مَرْحَبًا بِالوَفْدِ الَّذِينَ جَاءُوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى فَقَالُوا يَا رَسُولَ الله إنَّا حَيٌّ مِنْ رَبِيعَةَ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مُضَرُ وَإنَّا لَا نَصِلُ إلَيْكَ إلَّا فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ فَمُرْنَا بِأمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا فَقَالَ أرْبَعٌ وَأرْبَعٌ أقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ وَأعْطُوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَلَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالمُزَفَّتِ»، وَرُبَّمَا قَالَ : «المُقَيَّرِ، قَالَ : احْفَظُوهُنَّ وَأبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ» (ثُمَّ ذَكَرَ هُنَا : حَاشِيَتَيْنِ!) .
(وفي حَدِيْثِ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : «نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الظُّرُوفِ» فَقَالَتْ الأنْصَارُ : إنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا قَالَ فَلَا إذًا) انْتَهَى كَلامُهُ .
ثُمَّ نَرَاهُ أيْضًا قَدْ ذَكَرَ في حَاشِيَةِ هَذَا الحَدِيْثِ ثَلاثَ حَوَاشٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، هَكَذَا :
__________
(1) مَلْحُوْظَةٌ : إنَّنا نَجِدُ كِتَابَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» للشَّيْخِ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله بَيْنَ طَبْعَةٍ وأخْرَى لا يخْلُو مِنِ اسْتِدْرَاكَاتٍ مَا بَيْنَ زِيَادَاتٍ ومَحْذُوْفَاتٍ سَوَاءٌ في المَتْنِ أو الحَاشِيَةِ، وهَذَا ممَّا يَدُلُّ على أنَّ الكِتَابَ هُوَ محَلٌّ للنَّقْدِ والإشْكَالِ، والله أعْلَمُ!(1/50)
الحَاشِيَةُ الأوْلى، قَالَ : ولمُسْلِمٍ : وَقَالَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - لأشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ : «إنَّ فِيكَ لخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله : الحِلْمُ وَالأنَاةُ» .
وفي الحَاشِيَةِ الأخْرَى، قَالَ : ولمُسْلِمٍ : مِنْ حَدِيْثِ أبي سَعِيْدٍ : قَالُوا : يا نَبِيَّ الله! ما عِلْمُكَ بالنَّقِيْرِ؟ قَالَ : «بَلى، جِذْعٌ تَنْقِرُوْنَهُ فتَقْذِفُوْنَ فِيْهِ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ تَصُبُّوْنَ فِيْهِ مِنَ المَاءِ، حَتَّى إذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوْهُ، حَتَّى إنَّ أحَدَكُم ليَضْربُ ابنَ عَمِّهِ بالسَّيْفِ، قَالَ : وفي القَوْمِ رَجُلٌ أصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ، قَالَ في أسْقِيَةِ الأدَمِ الَّتِي تُلاثُ على أفْوَاهِهَا .
قَالُوا : يَا رَسُوْلَ الله! إنَّ أرْضَنَا كَثِيْرَةُ الجِرْذَانِ، ولا تَبْقَي بِهَا أسْقِيَةَ الأدَمِ، فَقَالَ نَبِيُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «وإنْ أكَلَتْهَا الجِرْذَانُ، وإنْ أكَلَتْهَا الجِرْذَانُ، وإنْ أكَلَتْهَا الجِرْذَانُ» .
وفي الحَاشِيَةِ الثَّالِثَةِ، قَالَ : ولمُسْلِمٍ : مِنْ حَدِيْثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ : نَهَيْتُكُم عَنِ النَّبِيْذِ إلَّا في سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا في الأسْقِيَّةِ كُلِّهَا، ولا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا . وفي رِوَايَةٍ : إنَّ الظُّرُوْفَ لا تُحِلُّ شَيْئًا ولا تُحرِّمُهُ .
- قُلْتُ : إنَّ الطَّالِبَ إذَا نَظَرَ إلى هَذَا الحَدِيْث سَوْفَ تَسْتَوْقِفُهُ بَعْضُ الإشْكَالاتِ، مِنْهَا :
أنَّ اليَحْيَى قَدْ ذَكَرَ في المَتْنِ حدِيْثًا وَاحِدًا مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، ثُمَّ ضَمَّنَهُ رِوَايَتَيْنِ في المَتْنِ، ثُمَّ أعْقَبَهُ بِرِوَايَةٍ مُفْرَدَةٍ للبُخَارِيِّ، كَمَا أنَّهُ ألْحَقَ الحَدِيْثَ بثَلاثِ حَوَاشٍ، هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أرْبَعِ رِوَايَاتٍ مِنْ إفْرادَاتِ مُسْلِمٍ عَلى البُخَارِيِّ .(1/51)
ومِنْ هُنَا كَانَ الإشْكَالُ قَائِمًا؛ حَيْثُ نَجِدُ في الحَدِيْثِ الوَاحِد سَبْعَةَ إشْكَالاتٍ : فمَرَّةً يَأتي بالحَدِيْثِ مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، وثَانِيَةً يَأتي برِوَايَتَيْنِ للحَدِيْثِ ضِمْنًا، وثَالِثَةً مَعَ أفْرَادِ البُخَارِيِّ، ورَابِعَةً وخَامِسَةً وسَادِسَةً وسَابِعَةً مَعَ إفْرَادَاتٍ مُسْلِمٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ المَتْنِ مَعَ إلْحَاقَاتِ الحَاشِيَةِ ... فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ
والمُضَايَقَاتِ على حِفْظِ الطَّالِبِ بطَرِيْقٍ أو آخَرَ، في حِيْنَ أنَّنا لا نَجِدُ شَيْئًا مِنْ هَذِه الإشْكَالاتِ عِنْدَ حِفْظِ أصْلِ الصَّحِيْحَيْنِ!
- أمَّا الحَدِيْثُ الثَّاني، فَقَدْ أوْرَدَهُ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله، هَكَذَا :(1/52)
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ(هُنَا حَاشِيَةٌ!)، إذْ أتَاهُ رَجَلٌ يَمْشِي (هُنَا حَاشِيَةٌ!)، فَقَالَ : يَا رَسُوْلَ الله : مَا الإيمَانُ؟ قَالَ : «الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ورُسُلِهِ ولِقَائِهِ وَتُؤْمِنَ بِالبَعْثِ الآخَرِ» (هُنَا حَاشِيَةٌ!)، قَالَ يَا رَسُوْلَ الله : مَا الإسْلَامُ؟ قَالَ : «الإسْلَامُ أنْ تَعْبُدَ الله وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ» (هُنَا حَاشِيَةٌ!)، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ (هُنَا حَاشِيَةٌ!)، قَالَ يَا رَسُوْلَ الله : مَا الإحْسَانُ؟ قَالَ : «أنْ تَعْبُدَ الله كَأنَّكَ تَرَاهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ»، قَالَ : يَا رَسُوْلَ الله : مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ : «مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ سَأحَدِّثُكَ عَنْ أشْرَاطِهَا : إذَا وَلَدَتْ الأمَةُ ربَّتَها ـ وفي رِوَايَةٍ : رَبَّهَا ـ فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا، وَإذَا كَانَ الحُفَاةُ العُرَاةُ رُؤوْسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا ـ وفي رِوَايَةٍ (مُعَلَّقَةٍ) : إذَا تَطَاوَلَ رُعَاءُ الإبِلِ البَهْمِ فِي البُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أشْرَاطِهَا، وفي رِوَايَةٍ أخْرَى : تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإبِلِ البُهْمِ فِي البُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا الله : «إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ويُنَزِّلُ الغَيْثَ ويَعْلَمُ مَا في الأرْحَامِ»، ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ : «رُدُّوا عليَّ» فأخَذُوا ليَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ : «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ ليُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ (هُنَا حَاشِيَةٌ!) .(1/53)
( وفي حَدِيْثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما : قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «مَفَاتِيْحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، ثُمَّ قَرَأ : «إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» ) .
ثُمَّ نَرَاهُ أيْضًا قَدْ ذَكَرَ في حَاشِيَةِ هَذَا الحَدِيْثِ سِتَّ رِوَايَاتٍ، هِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِ مُسْلِمٍ على البُخَارِيِّ، هَكَذَا :
الحَاشِيَةُ الأوْلى : ولمُسْلِمٍ في رِوَايَةٍ : قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : «سَلُونِي»، فَهَابُوهُ أنْ يَسْألُوهُ .
الحَاشِيَةُ الثَّانِيَةُ : ولمُسْلِمٍ مِن حَدِيْثِ عُمَرَ : «إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ» .
الحَاشِيَةُ الثَّالِثَةُ : ولمُسْلِمٍ في رِوَايَةٍ : «وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ»، قَالَ : صَدَقْتَ، وفي حَدِيْثِ عُمَرَ : «وتُؤْمِنُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» .
الحَاشِيَةُ الرَّابِعَةُ : ولمُسْلِمٍ : «المَكْتُوْبَة» .
الحَاشِيَةُ الخَامِسَةُ : ولمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيْثِ عُمَرَ : «وَتَحُجَّ البَيْتَ إنْ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا»، قَالَ : صَدَقْتَ، قَالَ : فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْألُهُ وَيُصَدِّقُهُ .(1/54)
الحَاشِيَةُ السًّادِسَةُ : ولمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيْثِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : كَانَ أوَّلَ مَنْ قَالَ فِي القَدَرِ بِالبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أحَدًا مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَألنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي القَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ دَاخِلًا المَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أنَا وَصَاحِبِي أحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الكَلَامَ إلَيَّ فَقُلْتُ : أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! إنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ العِلْمَ وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أنْ لَا قَدَرَ وَأنَّ الأمْرَ أنُفٌ قَالَ فَإذَا لَقِيتَ أولَئِكَ فَأخْبِرْهُمْ أنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ لَوْ أنَّ لِأحَدِهِمْ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا فَأنْفَقَهُ مَا قَبِلَ الله مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي أبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ...» .
- قُلْتُ : إنَّ إشْكَالاتِ هَذَا الحَدِيْثِ لَيْسَتِ عَنْ سَابِقِهِ ببَعِيْدٍ، بَلْ زَادَتْ عَلَيْهِ مِنَ الإشْكَالاتِ والتَّعْقِيْدَاتِ مَا يَسْتَشْكِلُ على الطَّالِبِ، ويَغْلِقُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ :(1/55)
أنَّ اليَحْيَى قَدْ ذَكَرَ في المَتْنِ حَدِيْثًا وَاحِدًا مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، ثُمَّ ضَمَّنَهُ بَأرْبَعِ رِوَايَاتٍ أْخَرَى، إحْدَاهَا مُعْلَّقَةٌ، وأخْرَى مِنْ إفْرَادَاتِ البُخَارِيِّ، ثُمَّ أعْقَبَهُ في الحَاشِيَةِ بسِتِّ رِوَايَاتٍ، هِيَ مِنْ إفْرادَاتِ مُسْلِمٍ عَلى البُخَارِيِّ .
ومِنْ هُنَا كَانَ الإشْكَالُ قَائِمًا؛ حَيْثُ نَجِدُ في الحَدِيْثِ الوَاحِدِ عَشْرَةَ إشْكَالاتٍ : فمَرَّةً يَأتي بالحَدِيْثِ مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، وثَانِيَةً مَعَ تَضْمِيْنِ رِوَايَتَيْنِ، وثَالِثَةً مَعَ تَضْمِيْنِ رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ، ورَابِعَةً مَعَ تَضْمِيْنِ رِوَايَةٍ مِنْ أفْرَادِ البُخَارِيِّ، وخَامِسَةً وسَادِسَةً وسَابِعَةً وثَامِنَةً وتَاسِعَةً وعَاشِرَةً مَعَ إفْرَادَاتِ مُسْلِمٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ في رِوَايَةِ المَتْنِ مَعَ إلْحَاقَاتِ الحَاشِيَةِ ... فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الإشْكَالاتِ والمُضَايَقَاتِ على حِفْظِ الطَّالِبِ بطَرِيْقٍ أو آخَرَ، في حِيْنَ أنَّنا لا نَجِدُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ التَّعْقِيْدَاتِ والإشْكَالاتِ عِنْدِ حِفْظِ أصْلِ الصَّحِيْحَيْنِ، كَما سَيَأتي بَيَانُهُ، إنْ شَاءَ الله تَعَالى!
* * *
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا؛ لا تَذْهَبَنَّ بِنَا الظُّنُوْنُ؛ بأنَّ كَثِيْرًا مِنْ طُلَّابِ العِلْمِ ممَّنْ حَفِظُوا كِتَابَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» لليَحْيَى لم يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الإشْكَالاتِ!(1/56)
قُلْتُ : إنَّ هَذَا الظَّنَّ لا يَشْفَعُ لَنَا أنْ نَسْتَمِرَّ في تَسْوِيْقِ هَذِهِ الإشْكَالاتِ بحُجَّةِ أنَّ بَعْضَ الطُّلَّابِ قَدْ حَفِظُوْهَا دُوْنَ إشْكَالٍ ... لأنَّنَا وإيَّاكُم نَعْلَمُ جَمِيْعًا : أنَّ هَؤلاءِ الطُّلَّابَ قَدْ أجْمَعُوا أمْرَهُم على حِفْظِ السُّنَّةِ، ولاسِيَّما الصَّحِيْحَيْنِ، كَمَا أنَّهُم قَدْ وَطَّنُوا أنْفُسَهُم على تَحَمُّلِ ورُكُوْبِ الصِّعَابِ في سَبِيْلِ حِفْظِ الصَّحِيْحَيْنِ خَاصَّةً، وكُتُبِ السُّنَّةِ بعَامَّةٍ، لِذَا فَقَدْ اسْتَقَرَّ الأمْرُ عِنْدَهُم على الحِفْظِ على أيِّ وَجْهٍ كَانَ، وأيِّ إشْكَالٍ بَانَ، فَهَذَا وغَيْرَهُ ممَّا يَدْفَعُنَا ضَرُوْرَةً إلى دَفْعِهِم إلى حِفْظِ الأصُوْلِ الحَدِيْثِيَّةِ أوَّلًا بأوَّلٍ، وإلَّا كُنَّا عَيَاذًا بالله ممَّنْ يُغَالِطُ بِهَذِهِ الهِمَمِ العَالِيَةِ، والفُهُوْمِ الوَقَّادَةِ، والجُهُوْدِ الكَبِيْرَةِ في غَيْرِ طَرِيْقِهَا الصَّحِيْحِ، والله أعْلَمُ .
* * *
الاسْتِدْرَاكُ التَّاسِعُ : أنَّ الشَّيْخَ اليَحْيَى قَدْ جَنَحَ إلى تَصْنِيْفِ كِتَابٍ فَرِيْدٍ في بَابِهِ لم يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المُتَقَدِّمِيْنَ، وهُوَ كِتَابُ : «أفْرَادِ البُخَارِيِّ على مُسْلِمٍ»، وهَذَا مِنْهُ يَدُلُّنَا أنَّ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله وَاسِعُ الخَطْوِ في ضَبْطِ عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، وأيًّا كَانَ الأمْرُ؛ فَإنَّ المَسْألَةَ أيْضًا قَابِلَةٌ للاجْتِهَادِ، والله أعْلَمُ .
* * *(1/57)
- وأمَّا الكِتَابُ الآخَرُ الَّذِي ألَّفَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله، فَهُوَ بعِنْوَانِ : «زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ على الصَّحِيْحَيْنِ»، أيْ : زِيَادَاتِ سُنَنِ أبي دَاوُدَ، وسُنَنِ التِّرمِذِيِّ، وسُنَنِ النِّسَائِيِّ، وسُنَنِ ابنِ مَاجَه، ومُوَطَّأ مَالِكٍ، وسُنَنِ الدَّارِميِّ، ومُسْنَدِ أحمَدَ، وصَحِيْحِ ابنِ خُزَيْمَةَ، وصَحِيْحِ ابنِ حِبَّانَ، ومُسْنَدِ البَزَّارِ .
ولَهُ في هَذِهِ الزِّيَادَاتِ طَرِيْقَةٌ مَبْتَكَرَةٌ لم يَسْبِقْهُ إلَيْهَا أحَدٌ إلَّا مَا كَانَ مِنَ الحَافِظِ ابنِ المُلَقِّنِ رَحِمَهُ الله (804)، كَمَا سَيَأتي الحَدِيْثُ عَنْهُ .
أمَّا مَنْهَجُ الشَّيْخِ اليَحْيَى في مُقَدِّمَةِ كِتابِهِ «جَمْعِ الزَّوَائِدِ»، فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ في مَطْلَعِ مقَدِّمَاتِ الكُتُبِ العَشَرَةِ المَذْكُوْرَةِ آنِفًا، كَمَا يَلي :
1ـ زِيَادَاتُ أبي دَاوُدَ على الصَّحِيْحَيْنِ .
2ـ زِيَادَاتُ التِّرْمِذِيِّ على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ .
3ـ زِيَادَاتُ النَّسَائيِّ على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ .
4ـ زِيَادَاتُ ابنُ مَاجَه على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ .
5ـ زِيَادَاتُ مَالِكٍ على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ وابنِ مَاجَه .
6ـ زِيَادَاتُ الدَّارِمِيِّ على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ وابنِ مَاجَه ومَالِكٍ .
7ـ زِيَادَاتُ مُسْنَدِ أحمَدَ على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ وابنِ مَاجَه ومَالِكٍ والدَّارِمِيِّ، وهَكَذَا إلى آخِرِ الكُتُبِ العَشَرَةِ المَذْكُوْرَةِ آنِفًا .(1/58)
قُلْتُ : لَنَا مَعَ طَرِيْقَةِ الشَّيْخِ اليَحْيَى في زِيَادَاتِهِ مِنْ خِلالِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ بَعْضُ المَلْحُوْظَاتِ والاسْتِدْرَاكَاتِ اليَسِيْرَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ :
الاسْتِدْرَاكُ الأوَّلُ : أنَّهُ حَفِظَهُ الله جَاءَ بطَرِيْقَةٍ في تَصْنِيْفِ «الزَّوَائِدِ» لَيْسَ لهَا سَابِقَةٌ عِنْدَ أئِمَّةِ الشَّأنِ مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ المُتَقَدِّمِيْنَ، إلَّا مَا كَانَ في مَطْلَعِ القَرْنِ التَّاسِعِ، وذَلِكَ فِيْمَا ألَّفَهُ الحَافِظُ ابنُ المُلَقِّنِ المِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله (804)؛ حَيْثُ صَنَّفَ : «زَوَائِدَ مُسْلِمٍ على البُخَارِيِّ»، و«زَوَائِدَ أبي دَاوُدَ على الصَّحِيْحَيْنِ»، و«زَوَائِدَ التِّرْمِذِيِّ على الثَّلاثَةِ» يَعْنِي : الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ، و«زَوَائِدَ النِّسَائِي على الأرْبَعَةِ»، يَعْنِي : الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ، و«زَوَائِدَ ابنِ مَاجَه على الخَمْسَةِ» يَعْنِي : الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ، كَمَا أنَّه رَحِمَهُ الله قَدْ شَرَحَهَا كَامِلَةً إلَّا «زَوَائِدَ أبي دَاوُدَ» فَإنَّهُ لم يُكْمِلْ شَرْحَهُ، وهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ ابنُ حَجرِ رَحِمَهُ الله : أنَّه رَآهَا بخَطِّ ابنِ المُلَقِّنِ، ولكِنَّهَا أُحْرِقَتْ للأسَفِ بَعْدَ وَفَاةِ ابنِ المُلَقِّنِ والله أعْلَمُ .
وقَدْ خَرَجَ مُؤخَّرًا كِتَابٌ بعِنْوَانِ «زَوَائِدِ أبي دَاوُدَ على الصَّحِيْحَيْنِ» لأخِيْنَا الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ الطِّرِيفيِّ حَفِظَهُ الله .(1/59)
ومَعَ هَذَا؛ فَإنَّنا أيْضًا لا نُسَلِّمُ للحَافِظِ ابنِ المُلَقِّنِ رَحِمَهُ الله فِيْما ذَهَبَ إلَيْهِ في «زَوَائِدِهِ»؛ حَيْثُ أنَّهَا لم تَخْلُ مِنِ اسْتِدْرَاكَاتٍ وإشْكَالاتٍ، سَيَأتي ذِكْرُهَا عِنْدَ كَلامِنَا على كِتَابِ «زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ» للشَّيْخِ اليَحْيَى، لِذَا فَإنَّ هَذِهِ الطَّرِيْقَةَ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا الحَافِظُ ابنُ المُلَقِّنِ وغَيْرُهُ لَيْسَتْ مِنْ طَرَائِقِ الضَّبْطِ في عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، عِنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ المُتَقَدِّمِيْنَ!
وأيًّا كَانَ الأمْرُ؛ فَإنَّ الحَافِظَ ابنَ المُلَقِّنِ في صَنيْعِهِ هَذَا لم يَخْرُجْ بِزِيَادَاتِهِ هَذِهِ عَنِ «الكُتُبِ السِّتَّةِ» الَّتِي إلَيْهَا تَرْجِعُ كُتُبُ «الزَّوَائِدِ» وِرْدًا وصُدُوْرًا، خِلافًا لليَحْيَى الَّذِي خَرَجَ بزَوَائِدِهِ عَنْهَا!
وكَمْ تَمنَّيْنَا لَوْ أنَّنا وَقَفْنَا على شَيءٍ مِنْ كُتُبِ ابنِ المُلَقِّنِ كَيْ نَتَبَيَّنَ حَقِيْقَةَ مَنْهَجِهِ وطَرِيْقَةَ زَوَائِدِهِ في تَألِيْفِهِ لهَذِهِ الكُتُبِ، ولكِنْ بحَسْبِنَا أنْ نُضَمِّنَ نَقْدَهَا والاسْتِدْرَاكَ عَلَيْهَا تَحْتَ اسِتْدَرَاكَاتِنَا على كِتَابِ اليَحْيَى في زَوَائِدِهِ لمَا بَيْنَهَا مِنَ التَّقَارُبِ في الاسْمِ، وفي مَضْمُوْنِ المُسَمَّى، وهُوَ كَذَلِكَ .
ومِنْ هُنَا؛ فَإنَّ هَذِهِ الطَّرِيْقَةَ الَّتِي جَنَحَ إلَيْهَا اليَحْيَى لهِيَ طَرِيْقَةٌ مُشْكِلَةٌ وعَسِيْرَةٌ لا تَسْتَقِيْمُ وطَرِيْقَةَ أهْلِ الزَّوَائِدِ بعَامَّةِ؛ حَيْثَ أنَّهُ ذَكَرَ زَوَائِدَ الكُتُبِ العَشَرَةِ بَعْضِهَا على بَعْضٍ بطَرِيْقَةٍ فِيْهَا شَيءٌ مِنَ الخَلَلِ والاضْطِرَابِ، ممَّا قَدْ تُشْكِلُ على الطَّالِبِ ضَبْطَهَا، وتُغْلِقُ عَلَيْهِ حِفْظَهَا .(1/60)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّنا لَوْ أرَدْنَا أنْ نَقِفَ مَعَ أحَدِ زَوَائِدِ هَذِهِ الكُتُبِ العَشَرَةِ؛ لعَلِمْنَا يَقِيْنًا أنَّ الصُّعُوْبَةَ والإشْكَالَ حَالٌّ ومُرْتَحِلٌ في مَجْمُوْعِ هَذِهِ الزَّوَائِدِ العَشَرَةِ الَّتِي اخْتَطَّهَا اليَحْيَى في كِتَابِهِ .
فَمَثَلًا؛ لَوْ أخَذْنَا زَوَائِدَ الكِتَابِ السَّابِعِ : وهُوَ «زِيَادَاتِ مُسْنَدِ أحمَدَ» على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ وابنِ مَاجَه ومَالِكٍ والدَّارِمِيِّ .
فَعِنْدَ أوَّلِ وَقْفَةٍ سَوْفَ نَجِدُ في كِتَابِ «زَوَائِدِ المُسْنَدِ» إشْكَالاتٍ كَثِيْرَةً، مِنْهَا :
أنَّ «زَوَائِدَ المُسْنَدِ» هُنَا، لَيْسَتْ وُجُوْدِيَّةً فَقَطُ، بَلْ هِيَ أيْضًا عَدَمِيَّةٌ، لِذَا كَانَ وَاجِبًا على الطَّالِبِ أنْ يُدْرِكَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ مِنْ حَيْثُ الوُجُوْدِ والعَدَمِ، وإلَّا وَقَعَ في وَادِي تُضِلِّلَ .
بمَعْنَى؛ أنَّ «زَوَائِدَ المُسْنَدِ» قَاصِرَةٌ على الكُتُبِ الثَّمانِيَةِ السَّابِقَةِ فَقَطُ، أيْ : على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ وابنِ مَاجَه ومَالِكٍ والدَّارِمِيِّ، وأنَّها أيْضًا غَيْرُ زَائِدَةٍ على الكُتُبِ الثَّلاثَةِ البَاقِيَةِ : أيْ على صَحِيْحِ ابنِ خُزَيْمَةَ، وصَحِيْحِ ابنِ حِبَّانَ، ومُسْنَدِ البَزَّارِ .(1/61)
وعَلى هَذَا؛ كَانَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا على الطَّالِبِ الَّذِي يُريْدُ حِفْظَ «زَوَائِدِ المُسْنَدِ» : أن يَسْتَحْضِرَ تَرْتِيْبَ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ الاثْنَيْ عَشَرَ على وَجْهِ التَّرْتِيْبِ، لكَي يُمَيِّزَ زِيَادَاتِ المُسْنَدِ على غَيْرِهِ مِنَ الكُتُبِ، كَمَا عَلَيْهِ أيْضًا أنْ يَسْتَحْضِرَ تَرْتِيْبَ مَوْضِعِ «مُسْنَدِ أحمَدَ» مِنْ بَيْنِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ الاثْنَيْ عَشَرَ مِنْ حَيْثُ تَرْتِيْبِ السَّابِقِ واللَّاحِقِ، وهَكَذَا في جَمِيْعِ هَذِهِ الكُتُبِ العَشَرَةِ .
فَمَثَلًا؛ إذَا أرَادَ الطَّالِبُ أنْ يَعْزُوَ حَدِيْثًا إلى «سُنَنِ ابنِ مَاجَه»، فَعَلَيْهِ أنْ يَسْتَحْضِرَ تَرْتِيْبَ الكُتُبِ الاثْنَي عَشَر وَاحِدًا بَعْدَ الآخَرِ دُوْنَ تَقْدِيْمٍ أو تَأخِيْرِ، وإلَّا وَقَعَ في حَيْصَ بَيْصَ، وهِيَ كَمَا يَلي على التَّرتِيْبِ : كُتُبُ الصَّحِيْحَيْنِ وسُنَنِ أبي دَاوُدَ، وسُنَنِ التِّرمِذِيِّ، وسُنَنِ النِّسَائِيِّ، وسُنَنِ ابنِ مَاجَه، ومُوَطَّأ مَالِكٍ، وسُنَنِ الدَّارِميِّ، ومُسْنَدِ أحمَدَ، وصَحِيْحِ ابنِ خُزَيْمَةَ، وصَحِيْحِ ابنِ حِبَّانَ، ومُسْنَدِ البَزَّارِ .
كَمَا عَلَيْهِ ثَانِيًا أنْ يَسْتَحْضِرَ تَرْتِيْبَ مَوْضِعِ «سُنَنِ ابنِ مَاجَه» مِنْ بَيْنِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ الاثْنَيْ عَشَرَ على التَّرتِيْبِ!
وهَكَذَا في مُضَايَقَاتٍ للعُقُوْلِ، وإشْكَالاتٍ عِنْدَ الحِفْظِ، وإغْلاقَاتٍ في المُذَاكَرَةِ والله أعْلَمُ .
* * *(1/62)
الاسْتِدْرَاكُ الثَّاني : أنَّ تَرْتِيْبَ اليَحْيَى في الكُتُبِ العَشَرَةِ، لَيْسَ سَدِيْدًا؛ حَيْثُ نَرَاهُ قَدْ قَدَّمَ مَا حَقَّهُ التَّأخِيْرُ، وأخَّرَ مَا حَقَّهُ التَّقْدِيْمُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَأخِيْرِهِ لمُسْنَدِ أحْمَدَ عَنْ مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ، في حِيْنَ أنَّنِي لا أعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ الحَدِيْثِ المُعْتَبرِيْنَ أنَّهُ قَدَّمَ مُسْنَدَ الدَّارِمِيِّ على مُسْنَدِ أحْمَدَ فِيْمَا أعْلَمُ .
ورُبَّما كَانَ الخَطَأ أيْضًا في تَقْدِيْمِ مُوَطَّأ مَالِكٍ على مُسْنَدِ أحْمَدَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَنْ يُقَدِّمُ مُسْنَدَ أحْمَدَ على المُوَطَّأ باعْتِبَارِ الشُّمُولِيَّةِ والسِّعَةِ، لا باعْتِبَارِ الصِّحَّةِ في غَيْرِهَا مِنَ الاعْتِبَارَاتِ!
* * *
الاسْتِدْرَاكُ الثَّالِثُ : أنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ الَّتِي طَرَقَهَا الشَّيْخُ اليَحْيَى لَيْسَتْ مَنْهَجِيَّةً ولا عِلْمِيَّةً، بَلْ فِيْهَا مِنَ المُغَالَطَاتِ والتَّكَلُّفَاتِ الشَّيءُ الَّذِي لا يُقِرُّهُ أهْلُ العِلْمِ مِنْ جَهَابِذَةِ الحَدِيْثِ وحُفَّاظِهِ، وذَلِكَ لمَا يَلي :
أنَّهُ قَدِ الْتَزَمَ طَرِيْقَةً خَاطِئَةً سَوَاءٌ في تَرْتِيْبِ هَذِهِ الكُتُبِ العَشَرَةِ، أو في التَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ .(1/63)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّنا لَو وَقَفْنَا مَعَ كِتَابِ «زَوَائِدِ التِّرمِذِيِّ» مَثَلًا، فإنَّنَا نَقْطَعُ أنَّه لَيْسَ بالضَّرُوْرَةِ أنْ تَكُوْنَ أحَادِيْثُ التِّرْمِذِيِّ هُنَا زَائِدَةً على الصَّحِيْحَيْنِ وأبي دَاوُدَ فَقَطُ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَرْتِيْبِهِ الوَضْعِيِّ بَيْنَ الكُتُبِ العَشَرَةِ، بَلْ رُبَّما كَانَتْ أحَادِيْثُهُ زَائِدَةً أيْضًا على أحَادِيْثِ النَّسَائيِّ أو ابنِ مَاجَه أو المُوَطَّأ وهَكَذَا إلى آخِرِ الكُتُبِ العَشَرَةِ، أو رُبَّمَا كَانَتْ أحَادِيْثُهُ زَائِدَةً على بَعضِهَا دُوْنَ بَعْضٍ، وعلى هَذَا يَجْرِي القِيَاسُ على جَمِيْعِ زَوَائِدِ الكُتُبِ العَشَرَةِ المَذْكُوْرَةِ، وهَذا في حَدِّ ذَاتِهِ فِيْهِ إشْكَالِيَّةٌ مَنْهَجِيَّةٌ بَعِيْدَةٌ عَنْ مَدَارِكِ مَعْرِفَةِ عِلْمِ «الزَّوَائِدِ» .
* * *(1/64)
الاسْتِدْرَاكُ الرَّابِعُ : وهُوَ مِنَ الاسْتِدْرَاكَاتِ العَامَّةِ الَّتِي يَمْتَدُّ بِسَاطُهَا على طَرَائِقِ الشَّيْخِ اليَحْيَى في تَقْيِيْدِ دَوْرَاتِهِ العِلْمِيَّةِ وتَحْدِيْدِهَا مِنْ خِلالِ مُوَاضَعَةٍ عِنْدَهُ في اخْتِيَارِ وَقْتٍ ضَيِّقٍ لَدَى الطُّلَّابِ عِنْدَ حِفْظِهِم، ممَّا سَيَكُوْنُ عِبْئًا يَوْمًا مِنَ الأيَّامِ على حِفْظِ الطُّلَّابِ؛ وذَلِكَ إذَا عَلِمْنَا أنَّ الوَقْتَ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّيْخُ للطُّلَّابِ في حِفْظِ بَعْضِ مَرَاحِلِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ مَا يَكُوْنُ غَالِبًا في غُضُوْنِ شَهْرَيْنِ أو قَرِيْبًا مِنْهُما، الأمْرُ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ تَفَلُّتُ الحِفْظِ عِنْدَ أكْثَرِ الطَّلَبَةِ المُقْبِلِينَ على حِفْظِ السُّنَّةِ، لِذَا كَانَ مِنْ مَبَاغِي الطَّلَبِ في تَرْسِيْخِ الحِفْظِ وضَبْطِهِ، هُوَ مَا اتَّسَعَ لَهُ الوَقْتُ اتِّسَاعًا صَالحًا للمُذَاكَرَةِ بَعْدَ المُرَاجَعَةِ، ولَنَا في حِفْظِ السَّلَفِ للأحَادِيْثِ وضَبْطِهَا عِلْمًا وعَمَلًا سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، ولَيْسَ هَذَا محَلَّ ذِكْرِهَا!(1/65)
وعَلَيْهِ؛ فَلَيْسَ لَنَا أنْ نَقِفَ فَرْحًا بحِفْظِ هَؤلاءِ الطُّلَّابِ للسُّنَّةِ في أشْهُرٍ مَعْدُوْدَةٍ دُوْنَ اعْتِبَارٍ للقَرَائِنِ العِلْمِيَّةِ الأهْلِيَّةِ الَّتِي تَقْطَعُ بَأنَّ عَامَّةَ الطُّلَّابِ إذَا أجْمَعَ الوَاحِدُ مِنْهُم أمْرَهُ على حِفْظِ السُّنَّةِ، واعْتَكَفَ على مُرَاجَعَتِهَا دُوْنَ صَارِفٍ أو شَاغِلٍ، بَلْ كَانَ حِفْظُهُ دِيْمَةً، ووَقْتُهُ عَزِيْمَةً إلَّا مَا لابُدَّ مِنْهُ ... كَانَ والحَالَةُ هَذِهِ حَافِظًا لمَرْوِيَّاتِهِ، ضَابِطًا لمَحْفُوْظَاتِهِ؛ إلَّا أنَّهُ بقَدْرِ سُرْعَةِ حِفْظِهِ، وقُوَّةِ ضَبْطِهِ سَيَنْسَى كَثِيرًا، ويَذْهَلَ مِرَارًا، لأنَّ مَا أُخِذَ سُرْعَةً ذَهَبَ سُرْعَةً، وقَدْ قِيْلَ : حِفْظُ حَرْفَيْنِ خَيْرٌ مِنْ سَماعِ وِقْرَيْنِ، وفَهْمُ حَرْفَيْنِ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِ وِقْرَيْنِ! وقِيْلَ أيْضًا : ازْدِحَامُ العُلُوْمِ مَضَلَّةُ الفُهُوْمِ!
وعَنْ يُوْنُسَ بنِ يَزِيْدَ قَالَ : قَالَ لي ابنُ شِهَابٍ : «يَا يُوْنُسَ! لا تُكَابِرَ العِلْمَ، فَإنَّما هُوَ أوْدِيَةٌ، فَأيَّها أخَذْتَ فِيْهِ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَهُ قُطِعَ بِكَ، ولكِنْ خُذْهُ مَعَ اللَّيَالي والأيَّامِ»، وقَدْ بَسَطْتُ الكَلامَ عَنْ مِثْلِ هَذَا في كِتَابي : «المَنْهَجِ العِلْمِيِّ» ففِيْهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ .
وهُنَاكَ بَعْضُ الاسْتِدْرَاكَاتِ الَّتِي لم يَسْلَمْ مِنْهَا كِتَابُ «زِيَادَاتِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ العَشَرَةِ» للشَّيْخِ اليَحْيى حَفِظَهُ الله قَدْ تَجَاوَزْنَا عَنْ ذِكْرِهَا .
* * *(1/66)
- وأخِيْرًا؛ فَإنَّني مِنْ خِلالِ مَا مَضَى أحْبَبْتُ أنْ أذْكُرَ طَرِيْقَةَ أهْلِ الحَدِيْثِ والأثَرِ في تَألِيْفِ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَتُهُم في الجُمْلَةِ، وأشَارَتْ إلَيْهِ تَصَرُّفَاتُهُم في الغَالِبِ، وهِيَ باخْتِصَارٍ لا تَخْرُجُ عَنْ طَرِيْقَتَيْنِ :
الطَّرِيْقَةُ الأوْلى : تَألِيْفُ «الزَّوَائِدِ» حَوْلَ الصَّحِيْحَيْنِ (البُخَارِيِّ ومُسْلِمٍ)، سَوَاءٌ كَانَتْ زَوَائِدَ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ على البُخَارِيِّ، أو زَوَائِدَ كُتُبِ السُّنَنِ الأُخْرَى عَلَيْهِما (عَدَا السُّنَنِ الأرْبَعِ)؛ لِذَا كَانَتْ غَالِبُ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ» عِنْدَهُم مَا كَانَتْ دائِرَةً حَوْلَ «الصَّحِيْحَيْنِ» .
الطَّرِيْقَةُ الثَّانِيَةُ : التَّألِيْفُ في الزَّوَائِدِ على الكُتُبِ السِّتَّةِ (الصَّحِيْحَيْنِ والسُّنَنِ الأرْبَعِ)، أيْ : زَوَائِدُ المَسَانِيْدِ، أو المَعَاجِمِ، أو غَيْرَهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ على الكُتُبِ السِّتَّةِ .
ومَنْ تَتَبَّعَ كُتُبَ «الزَّوَائِدِ» عَلِمَ يَقِيْنًا أنَّهَا كَانَتْ حَوْلَ الأُصُوْلِ السِّتَّةِ، لِذَا فَإنَّني لم أقِفْ على أحَدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ ممَّنْ ألَّفَ كِتَابًا في الزَّوَائِدِ على غَيْرِ الكُتُبِ السِّتَّةِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ ابنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله (852)، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ كِتَابِهِ : «المَطَالِبِ العَالِيَةِ بزَوَائِدِ المَسَانِيْدِ الثَّمانِيَةِ»»؛ حَيْثُ زَادَ على الكُتُبِ السِّتَّةِ مُسْنَدَ الإمَامِ أحْمَدَ، غَيْرَ أنَّ ابنَ حَجَرٍ قَدْ اعْتَذَرَ عَنْ ضَمِّهِ للمُسْنَدِ؛ حَيْثُ قَالَ في مُقَدِّمَةِ كِتابِهِ «زَوَائِدِ مُسْنَدِ البَزَّارِ» : «لأنَّ الحَدِيْثَ إذَا كَانَ في المُسْنَدِ الأحْمَدِي، لم يَحْتَجْ إلى عَزْوِهِ إلى مُصَنَّفٍ غَيْرِهِ لجَلالَتِهِ» انْتَهَى .(1/67)
وثَمَّةَ فَائِدَةٌ عَزِيْزَةٌ، وهِيَ أنَّ غَالِبَ مَنْ صَنَّفَ في «الزَّوَائِدِ» اقْتَصَر تَألِيْفُهُ على إفْرَادَاتِ تِلْكَ الكُتُبِ السِّتَّةِ مُجْتَمِعَةً لا مُتَفَرِّقَةً؛ لأنَّهَا أُصُوْلُ كُتُبِ السُّنَّةِ؛ فَكَانَ إبقْاؤهَا والمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا صُدُوْرًا ووِرْدَاً مِنْ مَقَاصِدِ عِلْمِ الزَّوَائِدِ؛ إلَّا مَا كَانَ مِنِ اقْتِصَارِ بَعْضِهِم على الزِّيادَاتِ على «الصَّحِيْحَيْنِ»، مِثْلُ كِتَابِ : «مَوَارِدِ الظَّمْآنِ إلى زَوَائِدِ ابنِ حِبَّانَ» للحَافِظِ أبي الحَسَنِ الهَيْثَمِيِّ رَحِمَهُ الله (807)، ومَا كَانَ أيْضًا مِن كِتَابِ : «مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ في زَوَائِدِ ابنِ مَاجَه» للحَافِظِ البُوْصِيْرِيِّ رَحِمَهُ الله (840)، وهُوَ عِبارَةٌ عَنْ زِيَادَاتِ سُنَنِ ابنِ مَاجَه على الكُتُبِ الخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ أُصُوْلُ الكُتُبِ السِّتّةِ (الصَّحِيْحَيْنِ، وأبي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ والنَّسَائِيِّ) وغَيْر ذَلِكَ، ممَّا يُفْهَمُ مِنْهُ أنَّ الغَالِبَ الأعَمَّ في كُتُبِ «الزَّوَائِدِ» مَا كَانَتْ دَائِرَةً حَوْلَ الأُصُوْلِ السِّتَّةِ، والله أعْلَمُ .(1/68)
وعَلَيْهِ؛ فَإنَّ الخَطَأ الذي وَاقَعَهُ الشَّيْخُ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله هُوَ تَوَسُّعُهُ في إدْرَاجِ طَرِيْقَةِ الزَّوَائِدِ على غَيْرِ الكُتُبِ السِّتَّةِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ زِيَادَاتِهِ على بَعْضِ الكُتُبِ غَيْرِ المَقْصُوْدَةِ في عِلْمِ «الزَّوَائِدِ» : مِثْلُ زِيَادَاتِ سُنَنِ الدَّارِمِيِّ؛ حَيْثَ أصْبَحَ مِنَ الزِّيَادَاتِ على مُوَطَّأ مَالِكٍ، وكَذَا زِيَادَاتُ مُسْنَدِ أحْمَدَ على المُوَطَّأ والدَّارِمِيِّ، وكَذَا زِيَادَاتُ صَحِيْحِ ابنِ خُزَيْمَةَ على الثَّلاثَةِ، وكَذَا زِيَادَاتُ صَحِيْحِ ابنِ حِبَّانِ على الأرْبَعَةِ، وزِيادَاتُ مُسْنَدِ البَزَّارِ على الخَمْسَةِ، وأخَيْرًا زِيَادَاتُ الجَمِيْعِ على الكُتُبِ السِّتَّةِ!
ثُمَّ اعْلَمْ؛ أنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنْ مَنَاهِجِ أهْلِ العِلْمِ في تَألِيْفِ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»، هُوَ في الأعَمِّ الأغْلَبِ، أمَّا أنْ يَقُوْمَ أحَدٌ مِنَّا بكِتَابَةِ زَوَائِدِ أحَدِ كُتُبِ السُّنَّةِ على الآخَرِ، ثُمَّ يُعَرِّجُ إلى كِتَابَةِ زِيَادَةِ كِتَابِ ثَالِثٍ عَلَيْهِما، ثُمَّ زَوَائِدِ الرَّابِعِ عَلَيْهِم، وهَكَذَا في سِلْسِلَةٍ مِنْ زِيَادَاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ على بَعْضِهَا حَتَّى يَخْرُجَ بِهَا عَنِ الكُتُبِ السِّتَّةِ ... فَهَذَا غَيْرُ مَقْبُوْلٍ ولا مَرْضِيٍّ في الجُمْلَةِ، ولاسِيَّما إذا عَلِمْنَا أنَّها طَرِيْقَةٌ غَيْرُ مُجْدِيَةٍ لمَنْ رَامَ حِفْظَ السُّنَّةِ، والله أعْلَمُ .
* * *(1/69)
وأخِيْرًا؛ فلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنَ الأوْهَامِ والأخْطَاءِ حَوْلَ كُتُبِ الشَّيْخِ اليَحْيَى حَفِظَهُ الله، لم تَكُنْ قاصِرَةً بمُفْرَدِهَا ولا قَائِمَةً بآحَادِهَا حَوْلَ مَا كَتَبَهُ اليَحْيَى فَقَطُ، بَلْ جَاءَتْ مُتَضَامِنَةً ومُتَلازِمَةً أيْضًا مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الاسْتِدْرَاكَاتِ الأُخْرَى الَّتِي جَاءَ ذِكْرُهَا حَوْلَ عَامَّةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» كَمَا مَرَّ مَعَنَا في البَابِ الأوَّلِ .
فَعِنْدَئِذٍ؛ فَقَدِ انْتَظَمَ مَجْمُوْعُ هَذِهِ الاسْتِدْرَاكَاتِ في عِقْدٍ وَاحِدٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ خَمْسَةٍ وعِشْرِيْنَ وَهْمًا مَا بَيْنَ اسْتِدْرَاكٍ وخَطأ وتَعَقُّبٍ ممَّا هِيَ دَائِرَةٌ في فَلَكِ عامَّةِ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ» القَدِيْمِ مِنْهَا والحَدِيْثِ، والله المُوَفِّقُ .
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالمِيْنَ
البَابُ الثَّالِثُ
حِفْظُ السُّنَّةِ عِنْدَ حُفَّاظِ السُّنَّةِ
هَذِهِ بَعْضُ التَّوْصِيَاتِ نَسُوْقُهَا إلى إخْوَانِنَا وأبْنَائِنَا حُفَّاظِ السُّنَّةِ؛ تَصْحِيْحًا لطَرِيْقَةِ حِفْظِ السُّنَّةِ بعَامَّةٍ، ولاسِيَّما حِفْظُ «الصَّحِيْحَيْنِ»، و«السُّنَنِ الأرْبَعِ»، كَمَا أنَّ فِيْهَا أيْضًا تَأيِيْدًا وتَعْزِيْزًا لهَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ القَائِمَةِ هُنَا وهُنَاكَ، غَيْرَ أنَّ غَالِبَهَا مَرْقُوْمٌ مِنْ بَابَةِ النُّصْحِ والتَّصْحِيْحِ، ومِنْهَا مَسْطُوْرٌ مِنْ بَابَاتِ الاجْتِهَادِ الدَّائِرِ بَيْنَ القَبُوْلِ والرَّدِّ، والله المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .(1/70)
أقُوْلُ : لا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أنَّ «الصَّحِيْحَيْنِ» هُمَا مِنْ أصَحِّ الكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ الله تَعَالى! كَمَا أنَّ الأمَّةَ قَدْ أجْمَعَتْ على صِحَّةِ مَا فِيْهِما إلَّا أحْرُفَ يَسِيْرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْطِنَ بَحْثِهَا، كَمَا أنَّهمَا قَدْ نَالا اهْتِمَامًا وعِنَايَةً وخِدْمَةً كَبِيْرَةً مِنْ قِبَلِ أهْلِ العِلْمِ على مَرِّ العُصُوْرِ وطُوْلِ الدُّهُوْرِ مَا بَيْنَ : مُخَرِّجٍ ومُسْتَدْرِكٍ ومُتَتَبِّعٍ ولازِمٍ وشَارِحٍ وكَاشِفٍ ومُعَلِّقٍ ومُغَلِّقٍ ومُخْتَصِرٍ وجَامِعٍ بَيْنَهُما ... إلَخْ .
وهَكَذَا؛ فَقَدْ أخَذَ «الصَّحِيْحَانِ» عِنَايَةً وَاسِعَةً، ومُتَابَعَةً فَائِقَةً عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ مِنْ أئِمَّةِ الإسْلامِ، والحَالَةُ هَذِهِ لمَّا يَنْتَهِ أهْلُ العِلْمِ بَعْدُ مِنْ خِدْمَتِهِمَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ!
* * *
- وأخِيرًا؛ فَهَاكَ يَا طَالِبَ السُّنَّةِ والأثَرِ طَرِيْقَةَ حِفْظِ السُّنَّةِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا عَرَفْنَاهَا عَنْهُم، وعَلِمْنَاهَا مِنْهُم، كَمَا تَلَقَّاهَا الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، واقْتَفَاهَا الأصَاغِرُ عَنِ الأكَابِرِ في مَعْلَمَةٍ حَدِيْثِيَّةٍ، ومَنْهَجِيَّةٍ سَلَفِيَّةٍ، ومَا السُّنَّةُ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيْثِ إلَّا بالاتِّبَاعِ؟!(1/71)
ثُمَّ اعْلَمْ يَا رَعَاكَ الله؛ أنَّ هَذِهِ الطَّرِيْقَةَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا بَيْنَ يَدَيْكَ : هِيَ مِنْ خَاصَّةِ رُوَّامِ الحَدِيْثِ، وحُفَّاظِ السُّنَّةِ ... فَإنْ كُنْتَ مِنْهُم فلْيَهْنَئَكَ العِلْمُ حِيْنَئِذٍ، وأحْسِبُكَ مِنْهُم إنْ شَاءَ الله، وهَذَا مَا نَظُنُّهُ ونَلْمَسُهُ اليَوْمَ عِنْدَ طَلائِعِ هَؤلاءِ الطُّلَّابِ الَّذِيْنَ أقْبَلُوا على هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ لحِفْظِ السُّنَّةِ والأثَرِ، ممَّنْ تَدَثَّرُوا بثَوْبِ الصِّدْقِ والهِمَّةِ، وتَزَمَّلُوا بجِلْبَابِ الرَّغْبَةِ والعَزِيْمَةِ، فَمَنْ هَذِهِ حَالهُمُ فَهُم أجْدَرُ لضَبْط هَذِهِ الطَّرِيْقَةِ، وأوْلى مَنْ يَتَسَنَّمُ نَهْجَهَا، ويَعْلُو ذُرَاهَا، فلَهُم في حِفْظِ السَّلَفِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، ولهُم في الخَلَفِ طَرِيْقَةٌ بَاقِيَةٌ!
وإنْ كُنْتَ يَا طَالِبَ العِلْمِ دُوْنَ ذَلِكَ هِمَّةً وعَزِيْمَةً، فدُوْني ودُوْنَكَ تَرْسِيْمَ الطَّرِيْقَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَتَأتي، وإنْ كُنْتَ دُوْنَ هِمَمِ وعَزَائِمِ أهْلِ المَرْحَلَتَيْنِ فدُوْنَكَ تَرْسِيْمَ الطَّرِيْقَةِ الثَّالِثَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهَا لَكَ قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله .
* * *
- فأمَّا الطَّرِيْقَةُ الأوْلى الَّتِي هِيَ مِنْ شَأنِ حُفَّاظِ السُّنَّةِ، فَتَأتي على ثَلاثِ مَرَاحِلَ، كَمَا يَلي باخْتِصَارٍ :(1/72)
المَرْحَلَةُ الأوْلى : أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ «الصَّحِيْحَيْنِ» ابْتِدَاءً بحِفْظِ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ»، ثُمَّ يُعَرِّجُ على حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» (1) ، وهَذِه طَرِيْقَةُ جَمَاهِيْرِ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا .
ومِنْهُم مَنْ يُقَدِّمُ «مُسْلِمًا» على «البُخَارِيِّ»، كَمَا هِيَ طَرِيْقَةُ المَغَارِبَةِ، وهَذِهِ الطَّرِيْقَةُ عِنْدَ التَّحْقِيْقِ هِيَ أجْوَدُ حِفْظًا وأتْقَنُ ضَبْطًا، وذَلِكَ لمَنْ رَامَ حِفْظَ « الصَّحِيْحَيْنِ» مَعًا .
وقَدْ قَالَ الحَافِظُ عَبْدُ الرَّحمَنِ الدَّيْبَعُ رَحِمَهُ الله (944) :
تَنَازَعَ قَوْمٌ في البُخَارِي ومُسْلِم لَدَيَّ وقَالُوا : أيُّ ذَيْنِ يُقَدَّمُ؟
فَقُلْتُ : لَقَدْ فَاقَ البُخَارِي صِحَّةً كَمَا فَاقَ في حُسْنِ الصِّنَاعَةِ مُسْلِمُ
__________
(1) إنَّ أفْضَلَ طَبَعَاتِ صَحِيْحِ البُخَارِيِّ : هِيَ الَّتِي حَقَّقَتْهَا مُؤسَّسَةُ الرِّسَالَةِ نَاشِرُوْنَ، ودَعْ مَا سِوَاهَا! وكَذَا فَإنَّ أفْضَلَ طَبَعَاتِ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ : هِيَ الَّتِي حَقَّقَهَا أخُوْنَا الشَّيْخُ أبو قُتَيْبَةَ نَظْرُ الفِرْيَابيُّ، الصَّادِرَةُ مِنْ دَارِ قُرْطُبَةَ، ودَعْ مَا سِوَاهَا! لأنِّي بسَوِاهَا لخَبِيْرٌ، والله أعْلَمُ!(1/73)
ومِنْ هُنَا؛ فَإنَّ حَقِيْقَةَ الخِلافِ الجَارِي بَيْنَ جَمَاهِيْرِ أهْلِ العِلْمِ وأهْلِ المَغْرِبِ في تَقْدِيْم أحَدِ « الصَّحِيْحَيْنِ » على الآخَرِ : هُوَ جَارٍ بَيْنَهُم باعْتِبَارِ الأصَحِّيَّةِ والأفْضَلِيَّةِ في الصِنَّاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ، في حِيْنَ أنَّ بَعْضَهُم قَدِ اعْتَرَضَ على مَنْ أجْرَى خِلافًا باعْتِبَارِ الأصَحِّيَّةِ، لأنَّ صَحِيْحَ البُخَارِيِّ قَدْ حَازَ سَبْقَ الصِّحَّةِ، وفَاقَ في الأصَحِّيَّةِ، لضِيْقِ شَرْطِهِ ومَخْرَجِهِ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الاعْتِبَارَاتِ ممَّا لا يُنَازِعُهُ فِيْهَا أحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وهُوَ كَذَلِكَ!
أمَّا مَسْألَةُ التَّقْدِيْمِ بَيْنَهُمَا باعْتِبَارِ أفْضَلِيَّةِ التَّرتِيْبِ والتَّنْسِيْقِ والسُّهُوْلَةِ في الحِفْظِ والضَّبْطِ، سَوَاءٌ في سَرْدِ الأحَادِيْثِ بلفْظِهَا أو في جَمْعِ أطْرَافِهَا، أو في عَدَمِ تَقْطِيْعِهَا ونَحْوِهِ، فَهَذِهِ الأفْضَلِيَّةُ لا أرَى أنْ نُجْرِيَ فِيْهَا خِلافًا!
بَلِ الصَّوَابُ فِيْهَا باعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا : هُوَ تَقْدِيْمُ حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، كَمَا دَلَّ على ذَلِكَ مَسَالِكُ التَّحْقِيْقِ، وشَوَاهِدُ الحَالِ، فَإنْ سَلَّمْتَ بِهَذَا يَا طَالِبَ العِلْمِ وإلَّا فَالأمْرُ في سَعَةٍ!
* * *
لأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا بَعْضَ الاعْتِبَارَاتِ والتَّرْجِيْحَاتِ الَّتِي مِنْ أجْلِهَا قَدَّمَ فِيْهَا أهْلُ العِلْمِ مِنَ المَغَارِبَةِ وغَيْرِهِم «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» باعْتِبَارِ الأفْضَلِيَّةِ لأمُوْرٍ خَارِجَةٍ عَنِ الأصَحِّيَّةِ! فَمِنْ ذَلِكَ على وَجْهِ الاخْتِصَارِ :(1/74)
أوَّلًا : أنَّ صَحِيْحَ مُسْلِمٍ أسْهَلُ تَنَاوُلًا، وأقْرَبُ مَنَالًا؛ لأنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله جَعَلَ لكُلِّ حَدِيْثٍ مَوْضِعًا وَاحِدًا يَلِيْقُ بِهِ؛ بحَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ طُرَقَهُ الَّتِي ارْتَضَاهَا، واخْتَارَ ذِكْرَهَا، وأوْرَدَ فِيْهِ أسَانِيْدَهُ المُتَعَدِّدَةَ وألْفَاظَهُ المُخْتَلِفَةَ، فَيَسْهُلُ على الطَّالِبِ النَّظَرُ في وُجُوْهِهِ واسْتِثْمارِهَا، ويَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بجَمِيْعِ مَا أوْرَدَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقِهِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله؛ فَإنَّهُ يَذْكُرُ تِلْكَ الوُجُوْهَ المُخْتَلِفَةَ في أبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وكَثِيْرٌ مِنْهَا يَذْكُرُهَا في غَيْرِ بَابِهِ، الَّذِي يَسْبِقُ إلى الفَهْمِ أنَّهُ أوْلى بِهِ، وذَلِكَ لدَقِيْقَةٍ يَفْهَمُهَا البُخَارِيُّ مِنْهُ، فيَصْعُبُ على الطَّالِبِ جَمْعُ طُرُقِهِ، وحُصُوْلُ الثِّقَةِ بجَمِيْعِ مَا ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مِنْ طُرُقِ هَذَا الحَدِيْثِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
ثَانِيًا : أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله يَسُوْقُ الحَدِيْثَ بكَامِلِهِ في البَابِ الوَاحِدِ، ولَوْ كَانَ الحَدِيْثُ طَوِيْلًا، ولا يُكَرِّرُ ذَلِكَ في أبْوَابٍ أو كُتُبٍ مُخْتَلِفَةٍ، إلَّا نَادِرًا بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله .
ثَالِثًا : أنَّ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» لَيْسَ فِيْهِ بَعْدَ المُقَدِّمَةِ إلَّا الحَدِيْثُ السَّرْدُ، ولم يُمازِجْهُ غَيْرُ الصَّحِيْحِ .(1/75)
رَابِعًا : أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله صَنَّفَ كِتَابَهُ في بَلَدِهِ، بحُضُوْرِ أصُوْلِهِ، في حَيَاةِ كَثِيْرٍ مِنْ مَشَايخِهِ، فَكَانَ يَتَحَرَّزُ في الألْفَاظِ، ويتَحَرَّى في السِّيَاقِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ رَحِمَهُ الله، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ : رُبَّ حَدِيْثٍ سَمعْتُهُ بالبَصْرَةِ كَتَبْتُهُ بالشَّامِ، ورُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بالشَّامِ كَتَبْتُهُ بمِصْرَ، ولهَذَا رُبَّما يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ، وهَذَا مَا قِيْلَ عَنْ بَعْضِهِم، وإلَّا البُخَارِيُّ عِنْدَنَا هُوَ أحْفَظُ وأثْبَتُ في حَدِيْثِ مَشَايخِهِ مِنْ مُسْلِمٍ دُوْنَ شَكٍّ!
خَامِسًا : أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله لم يُكْثِرْ مِنَ المُعَلَّقَاتِ في كِتَابِهِ، وإنَّما هِيَ اثْنَا عَشَرَ حَدِيْثًا فَقَطُ، بخِلافِ مَا هُوَ مَوْجُوْدٌ في «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»؛ حَيْثُ هِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .
سَادِسًا : أنَّ مُسْلمًا رَحِمَهُ الله قَدِ اعْتَنَى كَثِيرًا بالفَرْقِ بَيْنَ حَدَّثَنَا وأخْبَرَنَا، وتَقْيِيْدِهِ ذَلِكَ على مَشَايخِهِ، وفي رِوَايَتِهِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأصْحَابِهِ وأكْثَرِ أهْلِ الحَدِيْثِ، وجَمْهُوْرِ أهْلِ العِلْمِ بالمَشْرِقِ، بخِلافِ البُخَارِيِّ .
سَابِعًا : اعْتِنَاءُ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ الله في تَلْخِيْصِ الطُّرُقِ، وتَحْوِيْلِ الأسَانِيْدِ مَعَ إيْجَازِ العِبَارَةِ، وكَمَالِ حُسْنِهَا .
ثَامِنًا : اعْتِنَاؤه أيْضًا بحُسْنِ تَرْتِيْبِ أحَادِيْثِ كِتَابِهِ وتَرْصِيْفِهَا على نَسَقٍ يَقْتَضِيْهِ تَحْقِيْقُهُ، وكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ بمَوَاقِعِ الخِطَابِ، ودَقَائِقِ العِلْمِ، وأصُوْلِ القَوَاعِدِ، وخَفِيَّاتِ عِلْمِ الأسَانِيْدِ، ومَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ .(1/76)
تَاسِعًا : اعْتِنَاؤهُ واحْتِيَاطُهُ رَحِمَهُ الله بضَبْطِ اخْتِلافِ لَفْظِ الرُّوَاةِ في التَّحْدِيْثِ، وهُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ ممَّا امْتَازَ بِهِ «صَحِيْحُ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» تَجَاوَزْنَا ذِكْرَهَا .
وقَدْ قَالَ ابنُ الدَّيْبَعِ رَحِمَهُ الله :
إنَّ صَحِيْحَ مُسْلِمٍ يا قَارِي لبَحْرُ عِلْمٍ مَا لَهُ مُجَارِي
سِلْسَالُ مَا سُلْسِلَ مِنْ حَدِيْثِهِ ألَذُّ مِنْ مُكَرَّرِ البُخَارِي
* * *
ومَهْمَا قِيْلَ مِنْ ذِكْرٍ لبَعْضِ الاعْتِبَارَاتِ والمُرَجِّحَاتِ عِنْدَ مَنْ يُقَدِّمُ «صَحِيْحَ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، إلَّا أنَّنَا هُنَا لَسْنَا في مُقَامِ الاعْتِرَاضِ والتَّعْقِيْبِ عَلَيْهَا، لأنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ لهَا بَسْطُهَا وتَرْجِيْحُهَا لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، غَيْرَ أنَّني ولله الحَمْدُ قَدْ بَسَطْتُ الكَلامَ عَلَيْهَا وعلى غَيْرِهَا في كِتَابي الكَبِيْرِ : «مَسَالِكِ التَّحْدِيْثِ في شَرْحِ اخْتِصَارِ عُلُوْمِ الحَدِيْثِ» .
في حِيْنَ أنَّهُ قَدْ بَاتَ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ والفُقَهَاءِ والأصُولِيَّيِنْ وغَيْرِهِم : بأنَّ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ» أصَحُّ مِنْ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»، لاعْتِبَارَاتٍ ومُرَجِّحَاتٍ لا تَسَعُهَا هَذِهِ الرِّسَالَةُ المُخْتَصِرَةُ .
ومَا ذِكْرُنَا لهَذِهِ المُرَجِّحَاتِ وغَيْرِهَا إلَّا زِيَادَةَ يَقِيْنٍ لَنَا على القَوْلِ : بأفْضَلِيَّةِ تَقْدِيْمِ حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ»، وذَلِكَ باعْتِبَارِ التَّنْسِيْقِ والتَّرتِيْبِ ممَّا هُوَ مِنْ مَقَاصِدِ تَقْرِيْبِ الحَدِيْثِ، وتَسْهِيْلِ الحِفْظِ عِنْدَ طُلَّابِ الحَدِيْثِ وحُفَّاظِهِ، والله المُوَفِّقُ .(1/77)
- المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثُمَّ يَحْفَظُ الطَّالِبُ كُتَبَ «السُّنَنِ الأرْبَعِ»، ابْتِدَاءً بسُنَنِ أبي دَاوُدَ (275)، ثُمَّ التِّرمِذِيِّ (279)، ثُمَّ النِّسَائيِّ(303)، ثُمَّ ابنِ مَاجَه (273)، وهَذَا التَّرْتِيْبُ لَهُ اعْتِبَارٌ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْ أئِمَّةِ الشَّأنِ، وإلَّا فَالمَسْألَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لا غَيْرَ، لِذَا فَإنَّ الطَّالِبَ لَهُ حَقُّ التَّقْدِيْمِ والتَّأخِيْرِ، ولاسِيَّما مَا كَانَ لَهُ أرْفَقُ، ولحِفْظِهِ أتْقَنُ، كَمَا عَلَيْهِ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَسْتَنْصِحَ أهْلَ العِلْمِ المُشْتَغِلِيْنَ بكُتُبِ السُّنَّةِ والأثَرِ .
وقَدْ درَج عَامَّةُ أصْحَابِ الحَدِيْثِ (عَدَا ابنِ الأثِيرِ وغَيْرِهِ) على تَسْمِيَتِهِم للصَّحِيْحَيِنْ والسُّنَنِ الأرْبَعِ : بـ «الكُتُبِ السِّتَّةِ»!
- المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثُمَّ يَحْفَظُ الطَّالِبُ مَا زَادَ على «الكُتُبِ السِّتَّةِ» مِنَ كُتُبِ السُّنَّةِ ابْتِدَاءً بـ «مُوَطَّأ» الإمَامِ مَالِكٍ، و«المُسْنَدِ» للإمَامِ أحمَدَ، ثُمَّ يُعَرِّجُ إلى حِفْظِ غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ : «المَسَانِيْدِ»، و«المَعَاجِمِ»، و«المُصَنَّفَاتِ»، و«الأجْزَاءِ» وغَيْرِهَا ممَّا هُوَ مِنْ شَأنِ أئِمَّةِ الحَدِيْثِ، وحُفَّاظِ السُّنَّةِ .
ومَنْ نَظَرَ إلى عَامَّةِ حِفْظِ أهْلِ السُّنَّةِ لكُتُبِ السُّنَّةِ يَجِدُ أنَّ الحِفْظَ عِنْدَهُم لا يَنْضَبِطُ في تَحْدِيْدِ كِتَابٍ دُوْنَ آخَرَ، بَلْ كَانَ لهُم هِمَمٌ عَالِيَةٌ وحَافِظَةٌ جَامِعَةٌ ممَّا جَعَلَ بَعْضَهُم يَحْفَظُ ألْفَ ألْفَ حَدِيْثٍ أو يَزِيْدُ! سَوَاءٌ كَانَتْ بأعْدَادِ أحَادِيْثِهَا أو باخْتِلافِ أسَانِيْدِهَا!(1/78)
وأيًّا كَانَ الأمْرُ؛ فَإنَّ للقَوْمِ أخْبَارًا وكَوَائِنَ في سُرْعَةِ الحِفْظِ وكَثْرَتِ الجَمْعِ مَا تَحَارُ عِنْدَهُ العُقُوْلُ، وتَعْجَزُ عِندَهُ النُفُوْسُ، لِذَا كَانَ مِنَ الصَّعْبِ أنْ نَضْبِطَ مَحْفُوْظَاتِهِم إلَّا مِنْ خِلالِ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لتَقْرِيْبِ مَا عِنْدَهُم، والله هُوَ الحَافِظُ وهُوَ المُعِيْنَ .
غَيْرَ أنَّ غَالِبَ حِفْظِ أهْلِ السُّنَّةِ لكُتُبِ السُّنَّةِ مَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ حِفْظِ «الكُتُبِ السِّتَّةِ»، وبَيْنَ مَا زَادَ عَلَيْهَا مِنْ أحَادِيْثِ أمَّاتِ كُتُبِ السُّنَّةِ، وفي ذَلِكَ فلْيَتَنَافِسِ المُتَنَافِسُوْنَ، لِذَا لا يَصِحُّ بل لا يَسْتَقِيْمُ لأحَدٍ مِنْ أبْنَاءِ عَصْرِنَا ممَّنْ اشْتَغَلَ بدِرَاسَةِ الأحَادِيْثِ أنْ يَتَشَرَّفَ باسْمِ المُحَدِّثِ إلَّا إذَا كَانَ في أقَلِّ أحْوَالِهِ حَافِظًا للكُتُبِ السِّتَّةِ مَتْنًا وسَنَدًا، رِوَايَةً ودِرَايَةً، والله أعْلَمُ .
وأخِيْرًا؛ فَإنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنْ مَحْفُوْظَاتِ أهْلِ الطَّرِيْقَةِ الأوْلى هِيَ المَقْصُوْدَةُ بتَرْجَمَةِ هَذَا البَابِ : حِفْظُ السُّنَّةِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ! ومَا يَأتي بَعْدَهَا فَهِي أغْلَبِيَّةٌ يَسَعُهَا بَابُ الاجْتِهَادِ، والله أعْلَمُ .
* * *
- وأمَّا الطَّرِيْقَةُ الثَّانِيَةُ : وهِيَ لمَنْ قَلَّ عَزْمُهُ، وكَلَّ حِفْظُهُ، ممَّنْ هُم دُوْنَ أصْحَابِ الطَّرِيْقَةِ الأوْلى، وهَذِهِ الطَّرِيْقَةُ تَأتي على ثَلاثِ مَرَاحِلَ، كَمَا يَلي :(1/79)
المَرْحَلَةُ الأوْلى : أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ كُتُبَ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما كِتَابُ الحَافِظِ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيْليِّ رحمه الله (582)، الَّذِي اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ مِنَ المُحَدِّثِيْنَ على اسْتِحْسَانِ مَنْهَجِهِ، وعلى إتْقَانِ ضَبْطِهِ، وعلى جَوْدَةِ طَرِيْقَتِهِ في جَمْعِهِ بَيْنَ أحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
قَالَ ابنُ نَاصِرِ الدِّيْنِ : «إنَّ عَبْدَ الحَقِّ أحْسَنَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، وقَالَ الذَّهِبيُّ في «السِّيَرِ» (21/199) : «عَمِلَ (أيْ عَبْدَ الحَقِّ الإشْبِيْلي) الجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ بِلا إسْنَادٍ على تَرْتِيْبِ مُسْلِمٍ، وأتْقَنَهُ وجَوَّدَهُ» .
وبَعْدَ هَذَا؛ فَإنَّ طَالِبَ العِلْمِ أيْضًا لَهُ حَقُّ الخِيَارِ في حِفْظِ مَا يَشَاءُ مِنْ كُتُبِ «الجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ»، ولاسِيَّما الكِتَابُ الَّذِي يَعْرِضُهُ أهْلُ العِلْمِ على الطَّالِبِ، سَوَاءُ كَانَ كِتَابَ الشَّيْخِ يَحْيَى اليَحْيَى أو غَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ الجَامِعَةِ بَيْنَ أحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ، فالمسْألَةُ هُنَا وَاسِعَةٌ، غَيْرَ أنَّنا قَدَّمْنَا كِتَابَ الحَافِظِ عَبْدِ الحَقِّ الإشْبِيْليِّ لأنَّ طَرِيْقَتَهُ عِنْدَنَا مَرْضِيَّةٌ ومُجَوَّدَةٌ، ولأنَّ عَامَّةَ أهْلِ العِلْمِ اسْتَحْسَنُوا طَرِيْقَتَهُ وأثْنَوْا عَلَيْهَا، كَمَا مَرَّ مَعَنَا .
* * *(1/80)
- ومِنْ هُنَا؛ فَإنِ اسْتَحْسَنَ طَالِبُ العِلْمِ هَذِهِ المَرْحَلَةَ، وإلَّا فَلَهُ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ «صَحِيْحَ البُخَارِيِّ» أوَّلًا، ثُمَّ يَحْفَظَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ على البُخَارِيِّ، وهَذِهِ الطَّرِيْقَةُ قَدْ مَشَى عَلَيْهَا عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ، وهُنَاكَ أيْضًا كُتُبٌ قَدْ صُنِّفَتْ في هَذَا البَابِ مِنْهَا : «زَوَائِدُ مُسْلِمٍ على البُخَارِيِّ» وشَرْحِهِ للحَافِظِ ابنِ المُلَقِّنِ رَحِمَهُ الله (804)، إلَّا أنَّهُ غَيْرُ مَوْجُوْدٍ؛ لأنَّهُ احْتَرَقَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ ««الزَّوَائِدِ»» الَّتِي صَنَّفَهَا ابنُ المُلَقِّنِ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَمَا مَرَّ مَعَنَا ذِكْرُهَا .
وهُنَاكَ كِتَابٌ بعِنْوَانِ : «إرْشَادِ السَّارِي إلى أفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنِ البُخَارِيِّ» لأحَدِ المُعَاصِرِيْنَ، وهُوَ الأخُ الشَّيْخُ عُبْدُ الله بنُ صَالحٍ العُبِيْلانُ، وهُوَ جَيِّدٌ في بَابِهِ، قَدْ حَرَّرَهُ صَاحِبُهُ، وأحْسَنَ اخْتِيَارَهُ .
وكَذَا مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ يَحْيَى اليَحْيَى تَحْتَ عِنْوَانِ : «أفْرَادِ مُسْلِمٍ على البُخَارِيِّ»، غَيْرَ أنَّني لم أتَحَقَّقْ مِنَ النَّظَرِ في طَرِيْقَتِهِ، ولم أتَبَيَّنْ صِنَاعَةَ تَرْتِيْبِهِ، إلَّا أنَّهُ يُعْتَبرُ وَاحِدًا مِنْ كُتُبِ ««الزَّوَائِدِ»، والله أعْلَمُ .
* * *(1/81)
المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ : أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ بَعْدَ إحْدَى المَرْحَلَتَيْنِ زِيَادَاتِ كُتُبِ «السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ»، غَيْرَ إنِّي لا أعْلَمُ كِتَابًا صُنِّفَ في هَذَا عِنْدَ الأئِمَّةِ المُتَقَدِّمِيْنَ، ومَا ذَاكَ إلَّا لكَوْنِ الكُتُبِ السِّتَّةِ هِيَ الأُصُوْلُ الَّتِي يَدُوْرُ حَوْلهَا فَلَكُ عِلْمِ الزَّوَائِدِ كَمَا مَرَّ مَعَنَا آنِفًا؛ إلَّا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الحيِّ الكِتَّانيُّ رَحِمَهُ الله في كِتَابِهِ «فِهْرِسِ الفَهَارِسِ والأثْبَاتِ» (1/336) عِنْدَ ذِكْرِهِ لكُتُبِ الحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله الَّتِي شَرَعَ في تَألِيْفِهَا وكَتَبَ مِنْهَا الشَّيءَ اليَسِيْرَ ولم يُتِمَّهَا؛ حَيْثُ ذَكَرَ أنَّ لَهُ كِتَابَ : «زَوَائِدِ الكُتُبِ الأرْبَعَةِ ممَّا هُوَ صَحِيْحٌ»، غَيْرَ أنَّهُ لم يُبَيِّنْ لَنَا مَنْهَجَ ابنِ حَجَرٍ في زَوَائِدِ هَذَا الكِتَابِ، ولم يُفْصِحْ لَنَا أيْضًا عَنْ طَرِيْقَتِهِ ومَوْضُوْعِهِ، الأمْرُ الَّذِي يَجْعَلُنَا في شَكٍّ مِنْ حَقِيْقَةِ اسْمِ ومَضْمُوْنِ هَذَا الكِتَابِ، ولاسِيَّما أنَّ عِنْوَانَهُ يُوْحِي إلى مَعْنًى بَعِيْدٍ جِدًّا عَمَّا يَتَبَادَرُ إلى الفَهْمِ مِنْ كَوْنِ كِتَابِهِ يَتَكَلَّمُ عَنْ «زَوَائِدِ الكُتُبِ الأرْبَعَةِ» على الصَّحِيْحَيْنِ؛ حَيْثُ ضَمَّنَهُ بقَوْلِهِ : «ممَّا هُوَ صَحِيْحٌ»، وهَذَا يُشْعِرُنَا بِأنَّهُ أرَادَ بكِتَابِهِ هَذَا : أنْ يَذْكُرَ الأحَادِيْثَ الصَّحِيْحَةَ الَّتِي انْفَرَدَتْ بِهَا الكُتُبُ الأرْبَعَةُ عَنِ الصَّحِيْحَيْنِ، كُلَّ هَذَا لتُصْبِحَ عِنْدَهُ مُكَمِّلَةً لأحَادِيْثِ الصَّحِيْحَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةِ والقَبُوْلِ، واطِّرَاحِ مَا سِوَاهَا ممَّا لم يَصِحْ عِنْدَهُ، ومِنْ هَذَا أيْضًا نَسْتَشِفُّ أنَّ هَذَا الكِتَابَ هُوَ إلى التَّخْرِيْجِ(1/82)
والتَّصْحِيْحِ (بالمَعْنَى الأخِيْرِ) أقْرَبُ مِنْهُ إلى عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، والله أعْلَمُ .
وأخِيْرًا؛ فَقَدْ قَامَ أحَدُ المُعَاصِرِيْنَ : وهُوَ الشَّيْخُ صَالِحٌ الشَّامِيُّ وصَنَّفَ كِتَابًا بعِنَوَانِ : «زَوَائِدِ السُّنَنِ على الصَّحِيْحَيْنِ»، أيْ زِيَادَاتِ السُّنَنِ الأرْبَعِ والدَّارمِيِّ على الصَّحِيْحَيْنِ، إلَّا أنَّني لم أنْظُرْ إلى طَرِيْقَتِه في تَحْقِيْقِ الصِّنَاعَةِ والتَّرتِيْبِ، إلَّا أنَّهُ يُعْتَبرُ وَاحِدًا مِنْ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»، ومَعَ هَذَا فَإنَّني أرْجُو مِنَ الأخِ الشَّامِيِّ حَفِظَهُ الله أنْ يُعِيْدَ النَّظَرَ في كِتَابِهِ هَذَا كَيْ يَتَحَقَّقَ مِنْ تَحْرِيْرِهِ وتَجْوِيْدِهِ على ضَوْءِ بَصَائِرِ أهْلِ الصِّنَاعَةِ الحَدِيْثِيَّةِ في ضَبْطِ عِلْمِ «الزَّوَائِدِ» .
وكَذَا مَا كَتَبَهُ أخِيْرًا الأخُ الشَّيْخُ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الله المُقْبِلُ تَحْتَ عِنْوَانِ : «زَوَائِدِ السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ» في أحَادِيْثِ الصِّيَامِ، وهُوَ كِتَابٌ جَيِّدٌ مُحرَّرٌ، غَيْرَ أنَّ صَاحِبَهُ قَدِ اقْتَصَرَ على الزَّوَائِدِ المُتَعَلِّقَةِ بكِتَابِ الصِّيَامِ، فَلَيْتَهُ يَشْرَعُ في تَكْمِيْلِ الكِتَابِ ليُصْبِحَ كِتَابًا كَامِلًا فَرِيْدًا في «زَوَائِدِ السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ»، والله المُوَفِّقُ .
وهُنَاكَ كِتَابٌ آخَرُ على مِنْوَالِ كِتَابِ المُقْبِلِ؛ غَيْرَ أنَّهُ في «زَوَائِدِ السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ» في أحَادِيْثِ الجُمْعَةِ والعِيْدَيْنِ، ولم يُطْبَعْ بَعْدُ .(1/83)
وأيًّا كَانَ الأمْرُ، فمَوْضُوْعُ «زَوَائِدِ السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ» لهُوَ مِنَ الأهِمِّيَّةِ بمَكَانَ؛ لِذَا كَانَ التَّألِيْفُ فِيْهِ مِنْ جَادَّةِ مَقَاصِدِ عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، بَلْ فِيْهِ مِنَ الفَوَائِدِ والفَرَائِدِ الحَدِيْثِيَّةِ، والتَّقْرِيْبِ للأحَادِيْثِ، والتَّسْهِيْلِ للحُفَّاظِ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ مُشْتَغِلٍ بعِلْمِ الحَدِيْثِ!
ومِنْ بَقَايَا العَجَبِ، أنَّنَا وَجَدْنَا انْصِرَافًا مِنَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَنِيْنَ بعِلْمِ ««الزَّوَائِدِ»» عَنْ طَرْقِ وبَحْثِ مَوْضُوْعِ «زَوَائِدِ السُّنَنِ الأرْبَعِ على الصَّحِيْحَيْنِ»، فَذَلِكَ فَضْلُ الله سَيُؤتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ!
المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثُمَّ إذَا أخَذَ الطَّالِبُ في حِفْظِ المَرْحَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، عَادَ بَعْدَهَا إلى حِفْظِ زَوَائِدِ المَسَانِيْدِ والمَعَاجِمِ وغَيْرِهَا على «الكُتُبِ السِّتَّةِ»، أيْ : على الصَّحِيْحَيْنِ، والسُّنَنِ الأرْبَعِ .(1/84)
ومِنْ نَافِلَةِ العِلْمِ؛ فَإنَّ خَيْرَ كِتَابٍ ألِّفَ، بَلْ أفْضَلَ جَامِعٍ صُنِّفَ في «الزَّوَائِدِ على الكُتُبِ السِّتَّةِ»، هُوَ كِتَابُ : «مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ ومَنْبَعِ الفَوَائِدِ» للحَافِظِ أبي الحَسَنِ الهَيْثَمِيِّ رَحِمَهُ الله (807)، فَهُوَ شَيْخُ الصِّنْعَةِ في عِلْمِ «الزَّوَائِدِ»، وكُلُّ مَنْ ألَّفَ بَعْدَهُ فَهُم عِيَالٌ عَلَيْهِ، وحَسْبُكَ أنَّ كِتَابَهُ «مَجْمَعَ الزَّوَائِدِ» يُعْتَبرُ مِنْ أجْمَعِ الكُتُبِ وأنْفَعِهَا، وأطْنَبِهَا وأوْعَبِهَا؛ حَيْثُ بَذَلَ الهَيْثَمِيُّ فِيْهِ غَايَةَ جُهْدِهِ، وبَالِغَ وُسْعِهِ، ومُعْظَمَ وَقْتِهِ، فَهُوَ بحَقٍّ كِتَابٌ جَامِعٌ نَافِعٌ يُعْتَبَرُ مِنْ نَوَادِرِ الكُتُبِ الحَدِيْثِيَّةِ، ومِنْ مَحَاسِنِ كُتُبِ «الزَّوَائِدِ»؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ : زِيَادَاتِ مُسْنَدِ أحمَدَ، ومُسْنَدِ البَزَّارِ، ومُسْنَدِ أبي يَعْلى، وزَيَادَاتِ مَعَاجِمِ الطَّبرانيِّ الثَّلاثَةِ، على الكُتُبِ السِّتَّةِ، وحَكَمَ عَلَيْهَا صِحَّةً وضَعْفًا، وجَرْحًا وتَعْدِيْلًا!
وبِهَذَا نَقُوْلُ : إنَّ مَنْ حَصَّلَ كِتَابَ : «الصَّحِيْحَيْنِ»، و«السُّنَنِ الأرْبَعِ»، و«مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ ومَنْبَعِ الفَوَائِدِ» فَقَدْ حَصَلَ على عَظِيْمٍ، ولم يَفُتْهُ مِنَ الأحَادِيْثِ إلَّا النَّزْرُ اليَسِيْرُ، والله أعْلَمُ.
وعلى هَذَا يَكُوْنُ كِتَابُ الهَيْثَمِيِّ رَحِمَهُ الله «مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ» : ثَالِثَ الأثَافي دُوْنَ مُنَازِعٍ، وخَاتِمَةَ الكُتُبِ السِّتَّةِ دُوْنَ مُدَافِعٍ، والله المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
* * *
- وأمَّا الطَّرِيْقَةُ الثَّالِثَةُ : وهِيَ للَّذِيْنَ هُم دُوْنَ أصْحَابِ الطَّرِيْقَةِ الأوْلى والثَّانِيَةِ، ممَّن قَلَّ عَزْمُهُم، وكَلَّ حِفْظُهُم، وهَذِهِ الطَّرِيْقَةُ تَأتي على مَرْحَلَتَيْنِ، كَمَا يَلي :(1/85)
المَرْحَلَةُ الأوْلى : أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ مُختَصَرَ «الصَّحِيْحَيْنِ»، وعَلى رَأسِهِمَا كِتَابُ : «التَّجْرِيْدِ لأحَادِيْثِ الجَامِعِ الصَّحِيْحِ» للحَافِظِ زَيْنِ الدِّيْنِ أحمَدَ الزَّبِيْدِيِّ رَحِمَهُ الله (893) .
ثُمَّ يَحْفَظُ كِتَابَ «مُخْتَصَرَ صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» للحَافِظِ عَبْدِ العَظِيْمِ المُنْذِرِيِّ رَحِمَهُ الله (656)، ويَأتي حِفْظُهُما هُنَا على التَّرتِيْبِ؛ لأنَّ الاعْتِبَارَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ في تَقْدِيْمِ حِفْظِ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» على «صَحِيْحِ البُخَارِيِّ» لَيْسَتْ جَارِيَةً هُنَا في «المُخْتَصَرَيْنِ»، والله أعْلَمُ .
ثُمَّ يَحْفَظُ بَعْدَهُمَا مُخْتَصَرَاتِ «السُّنَنِ الأرْبَعِ» ابْتِدَاءً باخْتِصَارِ الحَافِظِ المُنْذِرِيِّ رَحِمَهُ الله «لسُنَنِ أبي دَاوُدَ»، أو غَيْرَهُ مِنَ المُخْتَصَرَاتِ الَّتِي ألَّفَهَا بَعْضُ المُعَاصِرِيْنَ .
ولاسِيَّما مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ مُصْطَفى دِيْبُ البُغَا حَفِظَهُ الله في اخْتِصَارَاتِهِ لسُنَنِ أبي دَاوُدَ والتِّرمِذِيِّ والنَّسَائيِّ وابنِ مَاجَه، وذَلِكَ بَعْدَ التَّحَقُّقِ مِنْ طَرِيْقَتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا في مُقَدِّمَاتِ هَذِهِ الكُتُبِ!
المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ : أنْ يَحْفَظَ الطَّالِبُ كِتَابَ : «رِيَاضِ الصَّالحِيْنَ مِنْ حَدِيْثِ سَيِّدِ المُرْسَلِيْنَ» للحَافِظِ مُحي الدِّيْنِ النَّووِيِّ رَحِمَهُ الله (676) .
ثُمَّ يَحْفَظُ كِتَابَ : «عُمْدَةِ الأحْكَامِ مِنْ كَلامِ خَيْرِ الأنَامِ» للحَافِظِ عَبْدِ الغَنِيِّ المَقْدِسيِّ رَحِمَهُ الله (600) .
ثُمَّ يَحْفَظُ كِتَابَ : «بُلُوْغِ المَرَامِ مْنَ أدِلَّةِ الأحْكَامِ» للحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ العَسْقَلانيِّ رَحِمَهُ الله (852)، ثُمَّ يَحْفَظُ الطَّالِبُ مَا شَاءَ مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، والله أعْلَمُ .(1/86)
ثُمَّ اعْلَمْ يَا رَعَاكَ الله أنَّ هَذَا البَابَ جَاءَ لضَبْطِ طَرِيْقَةِ حِفْظِ السُّنَّةِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، ولاسِيَّما عِنْدَ أهْلِ الطَّرِيْقَةِ الأوْلى، ممَّنْ هُم غَالِبًا مِنْ هَؤلاءِ الطُّلَّابِ الَّذِيْنَ أقْبَلُوا على حِفْظِ السُّنَّةِ مِنْ خِلالِ هَذِهِ الدَّوْرَاتِ العِلْمِيَّةِ، ومَا سِوَى الطَّرِيْقَةِ الأوْلى فَهِي أغْلَبِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ؛ إلَّا أنَّها أضْبَطُ جَمعًا وأحْسَنُ وَضْعًا لكُتُبِ السُّنَّةِ، والله خَيْرٌ شَاهِدًا .
* * *
وأخِيْرًا؛ فَهَذِا جُهْدِي الكَلِيْلُ، وفِكْرِي العَلِيْلُ، وبِضَاعَتِي المُزْجَاةُ، ورِسَالَتِي المُنْتَقَاةُ وَضَعْتُهَا بَيْنَ طُلَّابِ السُّنَّةِ والأثَرِ ليَنْظُرُوا إلَيْهَا بعَيْنِ النَّصِيْحَةِ والتَّصْحِيْحِ، وليَقِفُوا عِنْدَهَا بعَيْنِ التَّأمُّلِ والتَّوْضِيْحِ، لا أنْ يَضْرِبُوا بَعْضَهَا ببَعْضٍ، والله هُوَ المَسْئُولُ، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ .
وَكَتَبهُ
حَامِدًا لله رَبِّ العَالمِيْنَ، ومُصَلِّيًّا ومُسَلِّمًا على عَبْدِهِ ورَسُوْلِهِ الأمِيْنِ
ذِيَاب بن سَعد آل حمدَان الغَامديّ(1/87)