أولويات العمل الإسلامي
في الغرب
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، ونذيراً وبشيراً للناس أجمعين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد،،،،
فهذا بحث متواضع كتبته على عجلة من أمري، حول أولويات العمل الإسلامي في الغرب، وقد ضمنته القضايا الأساسية التي يجب أن تولى العناية، ويبذل لها الاهتمام من الأقليات الإسلامية التي تعيش في بلاد الغرب خاصة، وفي بلدان العالم عامة، وكذلك الواجب على المسلمين في كل مكان الذين يعيشون أكثرية عددية في أقطارهم نحو إخوانهم الذين ابتلوا بحياة الاستضعاف ويتعرضون إلى الفتنة في الدين، وخطر التذويب والانسلاخ من الإسلام، أو أخطار الإبادة والطرد والتشريد..
والله أسأل أن يجعل هذا خالصاً لوجهه وأن يوفقنا جميعاً إلى مرضاته، وأن يرد إلى أمة الإسلام عزها ومكانتها في الأرض كلها لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى إنه هو العزيز الحكيم.
وكتبه
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت في 29من محرم الحرام 1414هـ
الموافق 18من يونيو 1993م
* تعريف وتحديد:
المقصود بالغرب في هذه الدراسة هو: أوروبا، وأمريكا، ويمتد هذا المفهوم كذلك للمستعمرات التي تقع في الشرق، ونزح الأوروبيون إليها وجعلوها وطناً لهم، وأصبحوا الأغلبية السكانية فيها كأستراليا.
والمقصود بالأولويات في هذه الدراسة هو: بيان القضايا الأساسية التي يجب أن يتوجه إليها اهتمام الجاليات الإسلامية التي تعيش في هذه البلاد.
وكذلك الواجبات الملقاة على المسلمين في بلاد الإسلام نحو إخوانهم الذين يعيشون في بلاد الغرب.(1/1)
وهذه الأعداد الكبيرة من أبناء الإسلام التي تعيش في الغرب تتعرض بحكم حياتها في بلاد الكفار، وفي ظل القوانين اللادينية، والمجتمعات البعيدة عن الإسلام إلى خطر التذويب والمحو والانسلاخ عن الدين الإسلامي عقيدة وشريعة، ولما كان الواجب على أهل الإسلام جميعاً أن يتنادوا لنصرة الإسلام في كل مكان، ويعملوا لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها، وأن يتواصوا بالحق، والصبر بعد الإيمان والعمل الصالح، فإن هذه الدراسة هي من هذا الباب، نصرة لقطاع كبير من الأمة الإسلامية يعيش حياة الاستضعاف.
الباب الأول: مقدمات
1- أهداف الرسالة الإسلامية الخالدة الخاتمة:
أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، من أجل أهداف، وغايات عظيمة، ونستطيع أن نجمل هذه الأهداف، والغايات فيما يلي:
أ- دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته:
وهذا هو الهدف والغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، من ملائكة، وجن، وإنس، وسماوات، وأرض، وما بث فيهما من دابة، فلم يخلق الله شيئاً إلا ليعبده ويوحده جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}، وقال سبحانه وتعالى أيضاً عن الملائكة: {والذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}، وقال سبحانه: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً..
ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتاب كما قال سبحانه وتعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل الذي أرسل الله سبحانه وتعالى لتحقيق هذه الغاية، وهي دعوة الناس جميعاً للدخول فيما خلقهم الله من أجله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له.(1/2)
ب- إقامة الحجة لله على عباده بالبلاغ المبين:
ولما كان من سنة الله في عباده ألا يهتدي كل البشر، بل بعض منهم فقط، بل قليل.. فإن مهمة الرسول الأولى هي البلاغ فقط للكافرين، والمعاندين، كما قال سبحانه وتعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً..}.
فقوله سبحانه وتعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، أي لئلا يحتجوا يوم القيامة لبقائهم على الكفر أنهم لم يأتهم نذير.. فإرسال الرسل قطع العذر، والحجة التي يمكن أن يحتج بها الكافر والمعاند يوم القيامة.
وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إن عليك إلا البلاغ}، وقال: {ما على الرسول إلا البلاغ}، وهذا في شأنه مع الكفار فليس عليه إلا أن يبلغهم فقط، ويخبرهم بالذي أرسله الله به، وماذا يجب عليهم نحو الله سبحانه وتعالى، وماذا ينتظرهم إن هم أصروا على الكفر والعناد؟؟؟.
{قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}، فهذه الآية جمعت غاية الرسالة، وموضوعها، وما يترتب على طرفيها الرسول، والمرسل إليه،.. ومهمة الداعي هي البلاغ المبين، ومهمة المدعو هي المسارعة إلى طاعة الله، وطاعة رسوله، فإن تولوا عن ذلك فقد ثبت في حقهم ما رتبه الله على المعاندين، وهو قوله: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً}، -أي العذاب- فالعذاب لازم لكل من بلغته دعوة الرسول، ثم كذب بها.
ج- إخراج وتربية أمة مسلمة قائمة بأمر الله:(1/3)
الهدف الثالث الذي من أجله أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم هو إخراج، وتربية أمة مسلمة قائمة بأمر الله تعالى، مقيمة لحدوده، كما قال سبحانه وتعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وقد كان هذا تحقيقاً لدعوة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام، حيث قالا وهما يرفعان أركان البيت في مكة: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.
وقد استجاب الله دعاءهم ببعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخرج على يده خير أمة أخرجت للناس، كما شهد الله لهم بذلك، حيث يقول: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، ومدحهم في آيات كثيرة من القرآن، كقوله تعالي: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منه مغفرة وأجراً عظيماً}.
د- جعل دين الإسلام فوق كل الأديان:
والهدف الرابع الذي أرسل الله من أجله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هو جعل دين الإسلام الذي بعث به فوق كل دين إلى يوم القيامة، كما قال سبحانه وتعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً}، وقال أيضاً: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}، ومعنى يظهره: أي يجعله ظاهراً على كل الأديان، أي: غالباً.(1/4)
وقد حقق الله سبحانه وتعالى ذلك على أتم الوجوه يوم كان المسلمون آخذين بأسباب النصر، والتمكين، فسقطت كل العروش، وتهاوت كل الديانات الباطلة، وعلا الإسلام فوقها جميعاً علواً بالحجة، والبيان أولاً، ثم بالسيف، والسنان ثانياً.
هذه باختصار هي الأهداف التي من أجلها أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
2- وجوب تميز الأمة الإسلامية عن أمم الكفر:
وقد أوجب الله على أمة الإسلام أن يتميزوا بعقيدتهم، وصراطهم المستقيم عن أمم الكفر جميعاً كما علمنا الله سبحانه وتعالى أن نقول في كل ركعة من ركعات الصلاة: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون] ولما كانت عقيدة الإسلام التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم هي العقيدة الحقة، وهي ذات العقيدة التي بعث بها جميع الرسل والأنبياء، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وترك كل ما يبعد عن دين الله.. وكان اليهود والنصارى قد غيروا وبدلوا الدين الذي بعث به موسى وعيسى عليهما السلام، فإن الله أوجب على أهل الإسلام ألا يتبعوا إلا ما جاءهم عن الله سبحانه وتعالى، وأمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب للدخول في الدين الحق، دين الإسلام، كما قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}، وقال تعالى أيضاً: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق}، وقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لأهل الإسلام أتباع محمد صلى الله عليه وسلم شريعة خاصة بهم في كل شأن من الشؤون، عبادة أو معاملة أو حداً.(1/5)
ونهى الله سبحانه وتعالى أمة الإسلام أن يأخذوا دينهم إلا مما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}.
وعلى هذا فلا يجوز لأهل الإسلام أن يأخذوا دينهم إلا مما أوحاه الله على رسوله وعبده محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو الحق الذي لم تشبه شائبة ولم يتعرض لتحريف، أو تغيير، أو تبديل، كما قال صلى الله عليه وسلم: [لقد جئتكم بها بيضاء نقية].
وقد حفظ الله سبحانه وتعالى هذا الدين القويم من أن تناله يد التحريف والتبديل، فالقرآن الكريم محفوظ بحفظ الله إلى اليوم كيوم نزل، والسنة النبوية المطهرة محفوظة كذلك بحفظ الله الذي هيأ لها الحفظة الأمناء الذين نقلوها كما رأوها، وسمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة أنه لا يجوز للمسلمين طلب الهداية مما بأيدي اليهود والنصارى ولو نسبوه إلى كتبهم المنزلة لأنه لا يؤمن تحريفهم وكذبهم على الله، ومن أجل ذلك نهى رسول الله عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- عن القراءة من التوراة لما رآه يقرأ منها شيئاً أعجبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أبهذا وأنا بين أظهركم لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو أن موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني].(1/6)
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء بالدين الكامل الذي لم تدركه شائبة من تزيد أو تنقص، والذي نسخ الله به شرائع الأنبياء السابقين عليه، ولو أن رسولاً منهم وجد بحضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإن الواجب عليه حينئذ أن يتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بالشريعة التي أنزلت عليه، ومن أجل ذلك فإن عيسى عليه السلام متى نزل من السماء حكم بشريعة القرآن، ولم يحكم بشريعة التوراة، والإنجيل، وهذا في مجال الهداية بالأديان السابقة المنزلة من الله سبحانه وتعالى.
وأما في مجال الاهتداء، أو التأسي، أو التعليم، أو المشاركة، للمشركين، والكفار في شيء من دينهم الباطل، أو عقائدهم الضالة التي جاء الإسلام بإبطالها فإن هذا كفر يخرج من الدين، فمن عظم ديناً غير دين الإسلام فقد كفر، ومن عبد غير الله فقد كفر، ومن اعتقد عقيدة تخالف عقائد الإسلام فقد كفر، وهذا لأن الحق لا يتعدد..
فتعظيم الصليب كفر، وتعظيم شعائر الكفر، كفر، أياً ما كانت هذه الشعائر أعياداً، أو مظاهر، أو طقوساً، أو احتفالات.
وقد أمرت هذه الأمة أن تتميز عن أمم الكفر في كل مناهجها وشرائعها، ومظاهرها وعاداتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: [بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، ومن تشبه بقوم فهو منهم]. ولا شك في أن هذا التمايز والتغاير بين أمة الإسلام وأمم الكفر، سيمكنها من أن تحافظ على دينها، وعقيدتها ولا تذوب في الكفار، ويدخل إلى دينها وتشريعها ما ليس منه.
3- أسباب وجود الجاليات الإسلامية في الغرب:(1/7)
لقد كانت هناك أسباب كثيرة لنشأة الجاليات الإسلامية في الغرب: (أوروبا، وأمريكا)، فالفتح الإسلامي في عهد الأمويين للأندلس كان أول انتقال للإسلام إلى أوروبا من جنوبها الغربي، وقد وصل المسلمون آنذاك إلى جنوب فرنسا ثم كان الفتح العثماني لشرق أوروبا حيث وصل العثمانيون إلى مدينة فينا عاصمة النمسا، وكان هذا هو الدخول العزيز للإسلام هناك، وقد أدى دخول العثمانيين إلى شرق أوروبا إلى انضمام عدد كبير من أهل دول البلقان (شرق أوروبا) إلى الإسلام بعدما فتح الأتراك العثمانيون هذه البلاد ومكثوا فيها زمناً طويلاً، ثم أجبروا أن يخلوا عنها بعد الحرب العالمية الأولى، ومأساة شعب البوسنة والهرسك التي نعيشها اليوم هي نتيجة لانحسار المد الإسلامي عن هذه الرقعة من أرض أوروبا، وبقاء تلك الأقليات الإسلامية في هذا المحيط الأوروبي الصليبي المعارض للإسلام.(1/8)
ثم قد كان المسلمون هم أول من اكتشف أمريكا قبل أن يكتشفها كولمبس (بكل فخر واعتزاز، يذكر المسلمون أن أجدادهم الأوائل كانوا قد اكتشفوا أمريكا قبل أن يكتشفها كولمبس Columbus بفترة طويلة، وذلك عندما قطعوا المحيط الأطلسي من الأندلس سنة 1150م، ووصلوا إلى ما يعرف حالياً بالبرازيل، بل إن المؤرخ المسلم الشريف الإدريسي يذكر أن اكتشاف المسلمين لهذه القارة كان قد تم قبل هذا التاريخ، وذلك عندما أبحر ثمانية من المسلمين من لشبونة في القرن العاشر الميلادي، محاولين اكتشاف ما وراء بحر الظلمات، وهو الإسم الذي كان يطلقه المسلمون على المحيط الأطلسي، إلى أن نزلوا في أمريكا الجنوبية، ويؤكد هذا الواقع مستشرقون كبار، وفي كتابه (العرب في أمريكا) The Arabs In America يذكر مهدي Mehdi أنه سنة 1539م اكتشف فراماركوس دي نايز Fra Marcos Nize المناطق المعروفة اليوم باسم نيو مكسيكو New Mexico وأريزونا Arizona، وكان مرشده في ذلك مسلم مغربي اسمه أسطفان، ولقد راح أسطفان ضحية سهم من أحد الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، الذين لم يكونوا قد رأوا الرجل الأبيض بعد. د.كمال نمر/أصول التربية الإسلامية في أمريكا مجلة البحوث الإسلامية - صفحة243) ولكن الأوروبيون هم الذين سبقوهم بالهجرة إليها، وإقامة مستوطناتهم فيها، والمسلمون الذين هاجروا إلى أوروبا وأمريكا، كانوا في عامتهم مهاجرون من أجل الدنيا، أو فراراً بالدين، فالهجرة من بلاد الإسلام إلى أوروبا وأمريكا منذ مطلع القرن العشرين، كانت أهدافها دنيوية، وقليل منها كان بسبب الاضطهاد من الحكومات الثورية والأحكام الاستبدادية.(1/9)
وعلى كل حال، فالهجرة إما أن تكون واجبة كالفرار بالدين من البلد الذي يضطهد فيه المسلم، فيفر إلى بلد آخر يأمن فيه على نفسه، ودينه، وإما أن تكون مستحبة كالهجرة لطلب العلم الشرعي، ونصرة الدين، وإما أن تكون مباحة وهي الهجرة لطلب الدنيا، والسفر من أجل الرزق، وإما أن تكون حراماً إذا كانت إلى بلد لا يستطيع فيها المسلم أن يقيم شرع الله، وإما أن تكون ردة وكفراً إذا التحق المسلم بالكفار وترك دينه وعقيدته، وباع دينه بالدنيا. ولا شك أنه يوجد من المسلمين في بلاد الغرب من هجرته واجبة، ومن هجرته مباحة، ومن هجرته إثم وحرام، ومن هجرته ردة وكفر.
وعن جواز الهجرة إلى بلاد الغرب يقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز:
"ومتى عجز المسلم عن إظهار دينه في بلد إقامته، بحيث لا يأمن على دينه وعرضه وماله، فإنه يجب عليه الهجرة إلى بلاد آمنة يستطيع أن يؤدي شعائر دينه بأمن وراحة بال عملاً بالآيات، والأحاديث الواردة في ذلك" (في كلمة بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي السادس للندوة العالمية للشباب الإسلامي، مجلة البحوث الإسلامية –العدد السادس - صفحة346).
4- مستقبل الإسلام في الغرب:
يتناقض موقف الباحثين والدعاة الإسلاميين، حول مستقبل الإسلام في الغرب، فبينما يرى جمهور منهم أن الإسلام سيشرق على العالم كله من جديد، من أوروبا وأن الغرب سيعود إلى الدين الإسلامي حتماً، وسيمكنه رقيه المادي، والحضاري من نشر رسالة الإسلام في العالم، وإخضاعه تحت سلطان الإسلام.. فبينما يرى بعض الدعاة والباحثين المسلمين ذلك، يرى آخرون أن الغرب عاش وثنياً صليبياً، وأنه سيظل كذلك، وأن رسالة الإسلام لا يمكن أن تنطلق من هذا المستنقع الآسن.(1/10)
فهذا -مثلاً- الأستاذ/ إسماعيل راجي الفاروقي - أستاذ الإسلاميات، وتاريخ الأديان- بجامعة ثمبل فيلادلفيا -في الولايات المتحدة- يرى أن أمريكا ستتحول يوماً إلى الإسلام حيث يقول: "حقاً إن أعظم فتح في التاريخ لهو الفتح الذي يدخل أمريكا في الإسلام، ولكن هل فتح هذا ممكن؟ هل يجوز لنا أن نأمل أن أمريكا، بكل ما لها من سلطة وديناميكية، بكل ما فيها من خيرات كانت بالفعل أم بالقوة، ستدخل يوماً ما في الإسلام، وتصبح ركناً من أركان دار الإسلام؟ هل يجوز لنا أن نتطلع إلى اليوم الذي يدخل فيه الشعب الأمريكي بمئات ملايينه في الإسلام فتصبح أمريكا دولة إسلامية وأرضاً تعلو فيها كلمة الله وشعباً يجاهد في سبيل الله، ويسير في خطى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟ نعم، بالتأكيد هذه الرؤيا ليست فقط مرغوبة بل هي ممكنة بل ضرورية" (مجلة البحوث الإسلامية -العدد الثاني- صفحة591).
ولكن رجلاً آخر من العاملين في الحقل الإسلامي في أمريكا، والذي نال شهادة الدكتوراه في التربية من جامعاتها لعام 1983م، ويعمل في الأكاديمية السعودية في واشنطن وهو د.كمال كامل عبدالحميد نمر يقول: "أما أولئك الذين يطمحون أن تقام دولة الخلافة الإسلامية في أمريكا، وأن تنطلق راية الجهاد من هناك، فقد ضلوا الطريق، ذلك أن بالرغم من الحرية التي يعتقد المسلمون أنهم يتمتعون بها في أمريكا، لأنهم حرموا منها في كافة ديار الإسلام، فإن انطلاق دولة الإسلام من ذلك المستنقع لا يعدو أن يكون مجرد حلم لذيذ" (مجلة البحوث الإسلامية -عدد22- صفحة250).(1/11)
وبينما يعتمد الأستاذ الفاروقي في رؤياه أن أمريكا ستكون بالضرورة بلداً إسلامياً على إفلاس المسيحية، ثم إفلاس المادية أن تقدم للأمريكي تفسيراً صحيحاً للحياة منهجاً نظيفاً على الأرض، وبالتالي فإنه لا بد أن يحل الإسلام، فإن الدكتور كمال نمر يعتمد في رؤياه إلى استحالة قيام حكم، ونظام إسلامي في أمريكا لأن هذا المستنقع الآسن وهذه الشعوب الغارقة في الإثم، والفاحشة، والمادية من العسير أن تعرف طريقها إلى السماء.
ويقول د.كمال عبدالحميد نمر الحاصل على الدكتوراه في التربية من الولايات المتحدة: "إن انطلاق دولة الإسلام من ذلك المستنقع لا يعدو أن يكون مجرد حلم لذيذ" (أصول التربية الإسلامية في أمريكا - د.كمال عبدالحميد).
ويقول الداعية محمد وجدي الخالد، رئيس مركز الأنصار في ألمانيا: "إنطلاق الإسلام من الغرب هو مجرد سراب أو حلم يحلم به بعض الدعاة الذين ليس لديهم معرفة واسعة بالغرب، حيث يرددون باستمرار عبارة كنت أسمعها في ألمانيا، ثم أصبحت أسمعها في الدول العربية، وهي قولهم بأن الإسلام سينطلق من الغرب.. ومن جهتي أقول إن الغرب كان معقلاً للنصرانية، وعاد كذلك.. وعقلاؤهم يؤيدون مبدأ التعايش السلمي مع الأديان الأخرى" (من تقرير عن وضع المسلمين في أوروبا، مرفوع إلى جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت).(1/12)
إن الأمور التي تحدو بكثير من الدعاة الإسلاميين أن يعتقدوا أن الغرب قد أصبح قريباً جداً من الإسلام، هي رؤيتهم أن الغرب قد أصبح على شفا الكارثة الأخلاقية والاجتماعية، وأنه قد وصل القاع، ولا بد أن يبحث عن مخرج ولا مخرج له إلا بالإسلام، وكذلك رؤيتهم تحول كثير من مفكري الغرب إلى الإسلام، ومحاولاتهم تقديم الإسلام ليكون بديلاً لنظام الحياة السائد في الغرب، ومن هؤلاء المفكرين العظام الذين قاموا بتقديم الإسلام للغرب، د.مراد هوفمان –سفير ألمانيا في الرباط- والذي كتب كتابه الفذ (الإسلام هو الحل البديل)، وقد أثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة في ألمانيا والغرب، ويقول د.مراد: "إنني أعتقد أن حركة تجديد الإسلام ستأتي في القرن الحادي والعشرين من أوروبا" (د.مراد هوفمان -الإسلام هو الحل البديل- صفحة247)، ومن قبله كان إسلام روجيه جارودي حدثاً عالمياً هز أوروبا إذ رأوا تحول علم كبير من أعلام الماركسية والعلم المادي إلى الإسلام إنقلاباً هائلاً..
وأما الذين يرون أن الغرب سيبقى على كفره وعناده وحربه للإسلام وصليبيته، فهو رؤيتهم للواقع السحيق، والإباحية، والكفر، والعناد الذي يعيش فيه الغرب، وأن نداءهم للإسلام إنما هو نداء من مكان بعيد: {أولئك ينادون من مكان بعيد}.
وأن صيحة الإسلام مهما علت فإن آذان الغرب صماء عن سماعها، وأن التراكمات الهائلة في فكر الغربي، والشبهات الكثيرة التي تملأ ذهنه عن الإسلام تجعله بعيداً كل البعد عن أن يسمع لنداء الحق.(1/13)
وأقول أياً كان الأمر، فإن المسلمين مأمورون بحمل الدعوة إلى كل مكان، ودعوة الناس جميعاً إلى الدخول في الدين الحق والرسالة الخاتمة إلى أهل الأرض، ونصر الله للإسلام لا يعرف من أين يأتي؟ وقد أنزل الله رسالة على العرب وهم أهل أمة لم يكن أحد يأبه بوجودها أو فقدها، ثم كان من شأنهم أن جعلهم الله سادة الدنيا وحديث العالم، ولما تخلوا عنها يوماً فإن عبيدهم ومماليكهم قاموا يوماً بنصر الإسلام، ثم قام الأتراك، وكانوا مجموعة من القبائل الرحل الذي لم يكن لهم شأن ولا ذكر، ثم أصبحوا سادة الدنيا بالإسلام قروناً متطاولة والله سبحانه وتعالى أعلم حيث يجعل رسالته، قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}، وهو القائل سبحانه وتعالى للعرب: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.
وعلى كل حال، فإن في الغرب اليوم ملايين المسلمين الذين وجدوا فيه لما أسلفنا من ظروف وأحوال وأسباب وواجب الأمة الإسلامية، نحوهم كبير، وواجبهم نحو أنفسهم كذلك عظيم، كيف يحافظون على دينهم وعقيدتهم وأمنهم وإسلامهم، بل كيف ينطلقون دعاة بهذا الدين..
وهذا هو الذي يجب أن توجه له الهموم، ونترك النتائج بعد ذلك لله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الباب الثاني: الأولويات
1. الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته وحده لا شريك له:(1/14)
أولى الأولويات التي يجب على المسلمين بالغرب -بل في كل مكان- التمسك بها هو الإيمان بالله وتوحيده، وذلك أن الإيمان بالله، وعبادته وحده لا شريك له هو الذي من أجله خلقنا الله سبحانه وتعالى، وهو ما يميز المؤمن عن الكافر وما كان هؤلاء المغتربون مسلمين إلا بإيمانهم وتميزهم عن الأمم الكافرة والمشركة التي يعيشون فيها، والإيمان هو طريق الفلاح، وصراط الله المستقيم، وهو اختيار الله اصطفاه لمن أنعم عليهم من البشر،.. ولذلك فإن من فرط في دينه من أجل دنياه، فإنه يكون قد فرط في حياته الحقيقية، وخسر الدنيا والآخرة.
إن قضية الإيمان بالله، يجب أن تكون الشغل الشاغل لكل مسلم، وأن يجعلها هي مدار حياته، وثمرة جهاده، ومنتهى أمله، وكل تطلعه، وهذا يعني أن يبيع كل شيء من أجلها، وأن يضحي بكل عزيز لينالها، ويحافظ عليها، وأن يترك كل شيء يتعارض معها ولو كان الأهل، والوطن، والمال، وكل عزيز.
ويكون الحفاظ على الإيمان بالله وتوحيده بما يأتي:
أ- بتعلمه:
الإيمان بالله علم وتصديق وعمل بمقتضى هذا العلم.. وأركان الإيمان ست هي: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى)، وكليات هذا العلم، يجب على كل أحد تعلمها، والتفقه فيها وتعليمها ناشئة المسلمين ذكوراً وإناثاً.
ويجب أن يكون ذلك كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وكما كان اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم، لأنهم المشهود لهم بالخير، والذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وأعز بجهادهم الإسلام.
وهذه أهم القضايا الأساسية لمسائل الإيمان:
وجود الله تعالى:
أن نؤمن أن الله هو الإله الحق الذي شهد بوجوده وربوبيته ووحدانية كل موجود.
توحيد الذات:
ونؤمن أنه سبحانه وتعالى بذاته فوق عرشه مستو على النحو الذي يليق بجلاله، كما مدح بذلك نفسه في سبع آيات من كتابه، وأن عرشه فوق سبع سماواته.(1/15)
وأنه سبحانه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وأن صفاته كلها -كما هي أبدية- فهي كذلك أزلية ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء.
وأن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه شيئاً من مخلوقاته، قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}، وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وأنه سبحانه وتعالى لا يحل في شيء من مخلوقاته، ولا يحل فيه شيء من مخلوقاته، وأن كل ما سواه فمخلوق بأمره خاضع لمشيئته.
توحيد الصفات:
وأنه سبحانه الحي القيوم بذاته، المقيم لكل ما سواه، فالعرش والكرسي والسماوات والأرض، وكل ما فيها لا قيام لشيء من ذلك إلا به، ولا بقاء لعرش ولا كرسي ولا سماء ولا أرض ولا ملائكة ولا جن ولا إنس إلا بإقامة الله لهم ورعايته وحفظه،.. فكل شيء مفتقر إليه..
وأنه سبحانه وتعالى العليم الخبير، الذي يحيط علمه بالأولين والآخرين، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه ما من حركة ولا سكون، إلا وقد علمه قبل وقوعه ويعلمه حال وقوعه، وأنه سبحانه لا يضل ولا ينسى.
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء ومليكه والمتصرف فيه، وأنه لا شريك له في ملكه، ولا ظهير له ولا معين له من خلقه.
وأنه سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء وتنزه عن الظلم والجور.
وأنه سبحانه وتعالى العليم الحكيم، الذي يضع كل أمر في نصابه والذي لا يفعل شيئاً سدى وعبثاً.
ونؤمن أن ربنا سبحانه وتعالى يحب ويرضى، ويفرح ويضحك، وكذلك يسخط ويمقت ويكره ويغضب وفي كل ذلك لا يشبه شيئاً من خلقه.
وأنه سبحانه وتعالى يلطف ويرحم، وينجي عباده المؤمنين، كما أنه يخذل ويعذب وينتقم ويستدرج، ويمكر بعبيده الظالمين.(1/16)
ونؤمن أنه سبحانه وتعالى يتكلم كما يشاء، كما قال: {وكلم موسى تكليماً}، وينزل ويقترب من عباده كما يشاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا عند ثلث الليل الآخر]، وأنه له وجهاً قال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، ويداً: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} وقدماً، قال صلى الله عليه وسلم: [فيضع رب العزة قدمه فيها]، وساقاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يكشف ربنا عن ساقه]، وأن صفاته سبحانه وتعالى لا تشبه صفات المخلوقين.
ونؤمن أنه سبحانه وتعالى القوي العزيز وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، ولا يؤوده حفظ السموات والأرض، ولا حول ولا قوة لأحد ولا لشيء إلا به سبحانه، وأنه الفعال لما يريد.
ونؤمن أن الله سبحانه وتعالى هو البر الكريم ذو الفضل والإحسان، الذي ما نعمة إلا هي منه، وما من عطاء إلا وهو من عنده، وأنه لا راد لإحسانه ولا ممسك لفضله.
ونؤمن أن الله سبحانه أعظم وأجل من أن يحيط أحد من خلقه علماً به قال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} وأنه ليس بعد سلطانه سلطان، ولا بعد ملكه ملك، وأنه لا يستطيع أحد أن يثني عليه كما أثنى هو على نفسه، ونؤمن أنه لا يعلم الله على حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى.
حكمة الخلق:
ونؤمن ونشهد أن الله سبحانه وتعالى ما خلق من ملائكة وجن وإنس وسماوات وأرض، إلا ليعبدوه ويسبحوه، وأنه ما من شيء إلا وهو يسبح بحمده ويقدس له بلسان مقاله أو بلسان حاله.
ونشهد أن كل من تأبى عن تقديس الله وعبادته من ملائكة أو جن أو إنس يطرده الله ويلعنه كائناً من كان، وأن من نازع الله في ألوهيته ودعا إلى عبادة نفسه أو عبادة غير الله يلعنه ويعذبه قال تعالى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.(1/17)
ونؤمن أن العبادة التي لا يقبل الله من أحد غيرها هي الطاعة المطلقة لله سبحانه فيما عقل معناه، وما لم يعقل معناه، مع كمال الذل والخضوع والحب لله سبحانه.
ونؤمن أن الدين الذي لا يقبل الله سواه من ملك أو جن أو إنس هو الإسلام قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، والإسلام هو الاستسلام لله بالطاعة والخضوع.
ونشهد أنه سبحانه لما خلق الخلق جعل لكل شيء قدراً ومقداراً ومنزلة، فللملائكة أقدارهم ومنازلهم، وللجن كذلك وللإنس كذلك، وأوجب على كل أحد أن يلزم قدره ومقداره ومنزلته.
ونشهد أنه سبحانه وتعالى أمر الجن والإنس بعبادته، ولم يخلقهم إلا من أجل هذه العبادة، وأنه ابتلاهم بالخير والشر، واختبر طاعتهم، وأن الجن والإنس كذلك، وأوجب على كل أحد أن يلزم قدره ومقداره ومنزلته.
ونشهد أنه سبحانه وتعالى أمر الجن والإنس بعبادته، ولم يخلقهم إلا من أجل هذه العبادة، وأنه ابتلاهم بالخير والشر، واختبر طاعتهم، وأن الجن والإنس كل منهم يكسب الخير والشر باختيار نفسه ولكن أحداً منهم لا يوقع الخير إلا بتوفيق من الله وإعانة، ولا يوقع الشر جبراً على الله ولكن في إطار إذنه ومشيئته.
ونشهد أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من طين هذه الأرض بيديه سبحانه، خلقاً مستقلاً، وأمر هذه جبريل الذي هو روح الله أن ينفخ فيه فصار بشراً بنفخة جبريل، وأن ذلك كان في السماء، وأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس الذي أبى استكباراً وكفراً وعناداً لذلك طرده الله من رحمته، وحذر آدم منه.
ونشهد أن الله خلق حواء من ضلع آدم، وجعلها زوجة له، واختبرهما الله بأن يأكلا من كل ثمار الجنة إلا شجرة واحدة، فأكلا منها فأهبطهما إلى الأرض ليعمراها بنسلهما جيلاً بعد جيل وليختبرهم فيها بالطاعة والإنابة والإسلام له، فمن أطاع أرجعه إلى الجنة ومن عصى فمصيره إلى النار.
توحيد الألوهية "القصد والطلب":(1/18)
ونشهد أنه لا يبلغ عبد التوحيد الخالص إلا إذا كانت محبته ورغبته وخوفه وخشيته وتعظيمه لله عز وجل أعظم من كل مخلوق، وإلا إذا كان توكله على الله وحده، وحسبه لله وحده (الحسب: الكفاية، وحسبي الله ونعم الوكيل، بمعنى الله يكفيني كل ما أهمني).
ونشهد أن الركوع والسجود والذبح والصوم والنذر والحلف كل ذلك لا يجوز إلا لله ومن صرف شيئاً من ذلك لغيره فقد أشرك.
ونشهد أنه لا طواف إلا ببيت الله، وتقبيل -عبادة- إلا للحجر الأسود، ولا شد رحال -عبادة- إلا للمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
ونشهد أنه من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى اطلاعاً على الغيب أو اللوح المحفوظ فهو كافر مشرك.
ونشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد، وسد كل الذرائع الموصلة إلى الشرك، فحرم بناء المساجد على القبور، ونهانا أن نطريه كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم ونهى عن الصور والتماثيل.
ونشهد أن الكرامة حق لعبد صالح مؤمن، وأن خرق العادة قد يكون للفسقة والمجرمين، كما هو للدجالين والكذابين، ومن علم حقيقة الدين استطاع أن يفرق (بين أولياء الله وأولياء الشياطين).
ونؤمن أن لله سبحانه وتعالى الكبرياء العظمة والمجد، وأن سبحانه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يتألى عليه، ولا يتنازع في كبريائه وعظمته ولا يعقب على أمره وحكمه.
توحيد الحكم والملك:
ونؤمن أن أخبار الله كلها صدق، وأحكامه كلها عدل قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}.
ونشهد ونؤمن أن لله الخلق والأمر، وأن الحكم له وحده، وأنه هو الذي يشرع لعبادته ويأمر وينهى، أن من نازع الله في شيء من ذلك فقد أشرك.
ونشهد أن كل من أطاع سيداً أو أميراً أو حاكماً في غير طاعة الله، مريداً لذلك راغباً عن طاعة الله، فهو كافر مشرك، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الإيمان بالملائكة:(1/19)
ويشهد أهل السنة والجماعة، ونشهد معهم ونؤمن بحول الله وقوته:
أن الملائكة خلقهم الله من نور وأقامهم في طاعته وعبادته قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}.
وأن الله سبحانه وتعالى يبعثهم ويقيمهم في أعمال كثيرة عدا التسبيح والتحميد له، كإرسال رسالاته إلى رسله من البشر، وتثبيت المؤمنين في القتال وإحصاء أعمال الناس خيرها وشرها، وحفظ البشر من الحوادث التي لم يرد الله أن يصابوا بها، وقبض الأرواح وسوق السحاب ونفخ الروح، وغير ذلك مما بينه الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحب الملائكة ونؤمن بهم لمحبتهم للمؤمنين ودعائهم لهم، ولإشراكنا معهم في الإيمان بالله وتعظيمه وتقديسه، ولا نفرق بين ملك وملك كما فعلت اليهود بل نحبهم لطاعتهم لربهم وسيرهم في مرضاته.
الإيمان بكتب الله:
ونشهد ونؤمن أن الله سبحانه أنزل كتباً وصحفاً على رسله، وأنها جميعاً عند تنزيلها منزهة من العيب والنقص والغلط لأنها كلام الله، ونشهد أن كل الكتب السابقة على القرآن حرفها أهلها وغيروها، عدا القرآن الذي حفظه الله من التغيير والتبديل وسيبقى كذلك إلى قرب قيام الساعة فضلاً من الله ورحمة حيث يرفعه الله من الأرض.
ونشهد أن القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله حقاً وصدقاً ليس بمخلوق، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه معجزة حية باقية تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة مثله بياناً وبلاغة ومعنى وأحكاماً وأن أحداً مهما أوتي من العلم والفصاحة والبيان لا يأتي بذلك..
ونشهد أن الله قد أنزل القرآن تبياناً لكل شيء مما يصلح الناس في دنياهم وأخراهم، وأنه لا خلاف بين آياته، أن الله تعبدنا بتلاوته وتدبره، وجعل خيرنا من تعلمه وعلمه.
الإيمان برسل الله:(1/20)
ونشهد أن الله سبحانه وتعالى اختار من البشر أنبياء ورسلاً لهداية الناس ودعوتهم إلى طريق الله، وأن أولهم آدم وآخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم جميعاً إخوانه في الدين، دعاة إلى رب العالمين، وإن اختلفت شرائعهم فعقيدتهم واحدة.
ونشهد أن جميع الرسل معصومون عن الكذب على الله أو الحكم بالهوى، أو الوقوع في الفواحش أو الزيادة والنقص في الدين وأنهم مسددون دائماً من الله في اجتهادهم وأن الله لا يقرهم على خطأ أخطأوه باجتهادهم.
ونشهد أن هؤلاء الرسل بشر مثلنا، خلقوا من طين الأرض وليس منهم من خلق من نور الله أو نور عرشه، كما يقول كفار المسلمين في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو من كلمة الله كما يقول كفار النصارى في شأن عيسى، وأنهم يموتون كما يموت البشر، وينسون ويمرضون ويتألمون ويكابدون كما يكابد البشر.
ونؤمن أن الرسل ما شرفه الله إلا لتحقيقهم العبودية لله في أنفسهم فهم أكمل المؤمنين إيماناً وأعظمهم لله خشية، وأعلمهم به وأنه ليس منم من أحد دعا الناس إلى تعظيمه وعبادته، بل دعوا جميعاً إلى عبادة الله وحده.
ونشهد أن الرسل لا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه ونشروه في الناس وأنهم لم يكتموا شيئاً مما أوحاه الله إليهم.
ونشهد ونؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وسيدهم وأفضلهم عند الله، وأعلاهم منزلة بلغ البلاغ المبين، ولم يكتم شيئاً مما أوحاه إليه رب العالمين.
ونشهد ونؤمن أن أحداً من الناس لا يؤمن إيماناً كاملاً إلا إذا أحب رسول الله أكثر من حبه لأبويه وأولاده ونفسه التي بين جنبيه، وعزر (تعزير الرسول نصره، والجهاد معه والدفاع عن حوزة الدين الذي جاء به) الرسول ووقره واتبع ما جاء به وقدم طاعته على طاعة كل مخلوق.
ونؤمن بشفاعة الرسول العظمى يوم القيامة، حيث يشفع للناس في فصل القضاء، وخروج الناس من المحشر، وحيث يأذن الله له فيمن يشفع فيهم من المؤمنين فيدخلون الجنة.(1/21)
ونشهد أن شفاعة الرسول حق لعصاة المؤمنين، ونقر ونشهد أن الرسول لا يشفع إلا لمن أذن الله له.
ونؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله إلى الناس كافة عربهم وعجمهم منذ بعثته وإلى قيام الساعة، وأنه رسول الله إلى الإنس والجن جميعاً.
ونؤمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبتت له المعجزات الباهرة والبراهين الناصعة على صدقه وأمانته، فقد أنزل عليه القرآن المعجز، وأسرى به إلى القدس من مكة في ليلة واحدة، ويشهد المؤمنون أنه عرج به إلى السماء في ليلة الإسراء، وشاهد الملائكة والمرسلين وكلمهم وكلمه الله سبحانه وتعالى وأكرمه وفرض عليه وعلى أمته خمس صلوات في اليوم والليلة.
ونشهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نبع الماء من بين أصابعه وأطعم المئات من الناس بطعام لا يكفي العشرات، وحن الجذع إليه، وسبح الحصى والطعام في يديه، واشتكى إليه البعير.
ونؤمن بما فضل به محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء، وما خصه به من النصر بالرعب، وإحلال الغنائم وجوامع الكلم (أي أن الكلام اختصر له اختصاراً فيستطيع أن يعبر عن المعاني الكبيرة بجمل قصيرة)، وجعل الأرض مسجداً وطهوراً، وبعثه إلى الناس كافة، وختم النبيين به، ونشهد أن حوض الرسول حق، ونسأل الله أن يسقينا منه.
الإيمان باليوم الآخر:
ونؤمن أن الله قد جعل لكل نفس أجلاً وللحياة على الأرض أجلاً تنتهي فيه بالنفخة الأولى في الصور، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى فيقوم الناس لرب العباد لفصل القضاء بينهم.
ونشهد أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وباقيتان أبداً وسرمداً، وأن أهل الجنة داخلوها ولا شك يوم القيامة وأهل النار مواقعوها ولن يجدوا عنها مصرفاً.
ونشهد أن الله يخرج عصاة المؤمنين من النار الذي يدخلونها بسبب معاصيهم التي لم يغفرها الله لهم، ولم يكفرها عملهم الصالح.(1/22)
ونؤمن بأن نعيم الجنة حق فإنه نعيم حسي ومعنوي، وأنهما كما وصف الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونشهد أن أهل الجنة واجدون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ونسأل الله أن يجعلنا منهم، وأهل النار واجدون فيها من العذاب والآلام ما لم يخطر ببالهم، وأكبر مما توهمه عقولهم قال تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}، ونسأل الله ألا يجعلنا معهم.
ونؤمن بأن من مات من أهل الجنة فإنه ينعم في قبره، ومن مات من أهل النار فإنه يعذب فيه فنعيم القبر وعذابه حق، وسؤال الملكين في القبر بعد الدفن حق.
ونؤمن ونشهد أن بيننا وبين الساعة علامات كبرى وصغرى، ذكر الله بعضها في كتابه وفصلها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطابه، وأن من العلامات الكبرى الدابة، والدجال، ويأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى أرض المحشر، ونزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء في دمشق حيث يحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية.
ومن العلامات الصغرى: تقارب الزمان، وظهور الفتن والقتل، وكثرة النساء وقلة الرجال، وقتال المسلمين لليهود حتى يقول الحجر والشجر، كما ورد في الحديث: [يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله]، واتفاق المسلمين والنصارى على قتال قوم كفار من دونهم، ثم قتال المسلمين للنصارى وانتصار المسلمين عليهم.
ونؤمن أنه لن تقوم الساعة حتى تفتح روما كما فتحت القسطنطينية، وحتى يخرج المهدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان يواطئ اسمه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه عبدالله، وأنه ليس المهدي الذي زعمته الشيعة في محمد بن الحسن العسكري.(1/23)
ونؤمن بأن يوم القيامة طوله كخمسين ألف سنة من سني الأرض، وأن الناس يقومون فيه لربهم لفصل القضاء بينهم، وأنهم يتفاوتون في المحشر حسب إيمانهم ودرجاتهم وأن الميزان حق والصراط حق والحوض حق، وشفاعة سيد المرسلين حق، وشفاعة الشافعين حق.
الإيمان بالقضاء والقدر:
ونؤمن ونشهد أن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء بقدر وأنه كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه ما من شيء يقع في السموات والأرض إلا وعلمه الله وقدره قبل أن يقع ولا يعزب عن علم الله شيء.
ونشهد أن أهل السعادة قد سجلت لهم السعادة وأهل الشقاوة قد سجلت لهم الشقاوة وأن كل ذلك لا يتغير ولا يتبدل وأنه قد جفت الأقلام وطويت الصحف ولا تبديل لكلمات الله.
ونشهد أن الخير والشر بتقدير الله ومشيئته، وأن كل إنسان يكسب الخير والشر باختياره، ومشيئته، ولكن لا يوقع الخير إلا بتوفيق من الله وإعانة، ولا يوقع الشر جبراً على الله ولكنه في إطار إذن الله ومشيئته.
ولا نقول كما قالت الجبرية ليس للإنسان فعل وإن الإنسان مجبور على عمله ولا خيار له، ولا نقول كما قالت القدرية أن كل إنسان يخلق فعله يختار عمله وأن اختيار الله له تابع لاختيار الإنسان.
ب- معرفة الفروق بين عقيدة التوحيد، وما يضادها من عقائد الشرك والوثنية والإلحاد:
ومما يقوي عقيدة التوحيد والإيمان بالله، معرفة الفروق بينهما وبين عقائد الشرك والوثنية والإلحاد، وخاصة العقائد المعاصرة منها، والتي يقوم أربابها بترويجها ونشرها وحرب الإسلام بها.(1/24)
فلا بد للمسلم وخاصة من يعيش بين ظهراني الكفار أن يعرف عقائدهم، ليعرف الفرق بين عقيدة التوحيد التي يؤمن بها، وما عليه هؤلاء المشركون والملحدون وذلك وقاية له أن يقع في ضلالهم، ودفعاً لشبهاتهم ورداً لباطلهم لأنه لا بد وأن يتعرض لمن يدعو منهم إلى أديانهم الباطلة (ومن أجل ذلك ألحقت هذه المذكرة بمذكرة أخرى توضح العقيدة النصرانية توضيحاً كاملاً، وتقيم الدليل الذي لا يمكن دفعه أنه عيسى عليه السلام لم يكن إلا رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، كما جاء في القرآن، وكما هو موجود في الأناجيل الذي يعتمدها النصارى اليوم، وأرجو ألا يقرأ هذه المذكرة مسيحي يريد الحق إلا واهتدى إلى الإسلام).
وقد يفتن بما هم عليه من مناهج وطرائق في الحياة، فيستحسن ما عندهم، وقد يظن أن نجاحهم في الدنيا دليل على صحة معتقدهم، وسلامة أديانهم، ومن أجل ذلك وجب معرفة الشر لتوقيه، بل الكفر بالطاغوت مطلوب لذاته، ثم لما يميز به الحق كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.
لذلك وجب على كل مسلم يعيش مع الكفار أن يتعلم بحسب طاقته، كيف يرد على باطلهم، وكيف يتقي شر عقائدهم الباطلة، ودينهم المخالف لدين الإسلام.
ج- إحياء الإيمان في القلب بالعمل الصالح:
والإيمان يقوى بتضافر الأدلة، وزيادة العلم، ويحيا بالعمل الصالح، فمثل الإيمان في القلب كالنبتة يسقيها العمل الصالح وينميها، فإذا لم تجد عملاً ذبلت وماتت، فالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبر، والصلة، والتزام آداب الإسلام وأخلاقه وشرائعه، هي ترجمة الإيمان الموجود في القلب إلى أعمال الجوارح ويزداد الإيمان في القلب بازديادها، ويقل نوره ويذهب بذهابه، ولذلك فلا بد لكل مسلم أن يحيي إيمانه بالعمل الصالح، وإلا ذهب إيمانه ومحيي من القلب.(1/25)
ومعلوم أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح، والعمل لا شك من مسمى الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان].
2- تعزيز الانتماء والموالاة لأمة الإسلام، والبغض والمعاداة لأمم الكفر:
من لوازم الإيمان بالله سبحانه وتعالى، موالاة كل مؤمن، ومعاداة كل كافر فأمة الإيمان أمة واحدة منذ آدم -عليه السلام- وإلى آخر مؤمن على الأرض، فالرسل جميعاً جاءوا بدين واحد من الله يدعون الناس إلى عبادة ربهم وحده لا شريك له، وكل من آمن بهم فقد دخل في هذه الأمة الواحدة كما قال سبحانه وتعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، وكل كافر بالله مشرك به، فهو عدو لله لأنه أطاع أعداءه إبليس وجنوده، وكل من أطاع عدو الله فهو عدو لله، كما قال سبحانه وتعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً}، فكل من اتخذ الشيطان ولياً فقد جعله الله عدواً، وكل من دخل في عداوة الله فلا يجوز لمؤمن موالاته ولا محبته، كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، وقال أيضاً: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم..}.(1/26)
وقد جعل الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء نموذجاً ومثلاً لكل مؤمن بعده، وذلك في تبرئه من قومه وأهله الكفار، واعتصامه بولاية المؤمنين معه فقط، علماً أنه لم يكن معه مؤمن غير زوجته وابن أخيه، كما قال سبحانه وتعالى: {قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إننا برؤاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده..}، فلا يجوز لمؤمن أن يوالي، ويحب وينصر إلا إخوانه المؤمنين، ولا يجوز له موالاة أعداء الله من الكافرين والمنافقين، بل من اتخذ أعداء الله أولياء له فقد خرج من الإسلام كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين}، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
3- وجوب اتباع شرائع الإسلام:
من الأولويات التي يجب أن توجه الأنظار إليها وأن يكون الإهتمام بالغاً بها هو استقلال المسلمين بشريعتهم التي أكرمهم الله بها عن اتباع شرائع الشيطان التي شرعها لأوليائه، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده:
أ- إقامة الصلاة:(1/27)
وأولى الأولويات في اتباع ما أنزله الله لأهل الإسلام، هو الصلاة التي يجب أن يحرص عليها كل الحرص، لأنها هي الفارق بين المسلم والكافر، كما قال صلى الله عليه وسلم: [بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة]، ولما كانت الصلاة تجب لها الجماعة، وجب الحرص على بناء المساجد، وإظهار شعائر الإسلام بالأذان، وحضور الجماعات، كما قال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}، فيجب على المسلمين في الغرب المسارعة إلى بناء المساجد في كل مكان يتواجد فيه المسلمون، وإعلاء الأذان ما أمكن ذلك، وحضور الجمع والجماعات، وجعل هذه المساجد هي المنتديات والمدارس وأماكن التعارف، ونشأة الروابط والمحبة بين أهل الإسلام، وعلى المسلمين في العالم أجمع، مساعدة إخوانهم المسلمين في الغرب بزرع المساجد في كل مكان، وإحيائها بالأئمة الصالحين، والدعاة المتفرغين، والمعلمين العاملين وإضافة الملاحق والمرافق المساعدة لذلك بالمسجد كالمكتبة، وبيت الضيافة الذي يقابل الصفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورياض الأطفال، والفصول الدراسية، وبعض الخدمات الأخرى التي يحتاجها أهل الإسلام في هذه الديار.
ب- اللباس الشرعي للرجال والنساء:
ومن الشرائع الهامة التي يجب أن يلتزم بها المسلمون بالغرب اللباس الشرعي للرجال والنساء، لأن المظهر دليل المخبر، ولأن التمايز بين أمة الإسلام وأمم الكفر واجب ولازم، فقد نهينا أن نتشبه بالكفار في دينهم وعاداتهم وتقاليدهم التي تخالف دين الإسلام، فيجب أن يكون للرجال المسلمين ما يميزهم عن الكفار ولا يجعلهم مثلهم في مظهرهم.(1/28)
وأما النساء، فإن الحجاب الشرعي لازم في حقهن، لأنه دليل العفة والطهارة وشعار الدين كما قال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً}، ولقوله سبحانه وتعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن..} الآية.
والمواصفات التي يجب أن يكون عليها لباس المرأة المسلمة كما يأتي:
- أن يكون ساتراً لجميع البدن ما عدا الوجه والكفين، فإنه يجوز للمرأة كشفهما، وإن سترتهما فهو أولى وأفضل.
- أن يغطي خمار المرأة على رأسها جميع شعرها وعنقها ولا يظهر إلا صفحة الوجه فقط، لقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، والخمار هو غطاء الرأس والجيب شق الثوب الذي يدخل منه الرأس، والمعنى أن تلف المرأة الخمار على الرأس والعنق حتى يغطي فتحة الصدر والعنق.
- لا يجوز أن يكون ثوب المرأة وخمارها زينة في نفسه، كأن يكون ملوناً بألوان تجذب النظر أو موشى برسوم أو نقوش أو غير ذلك مما هو زينة.
- لا يجوز أن يكون لباس المرأة المسلمة مشابهاً للباس الكافرات، نحو لباس الراهبات مثلاً بل يجب أن تمتاز المرأة المسلمة بلباسها عن لباس الكافرات.
- لا يجوز أن يكون اللباس كذلك مطيباً مبخراً، لأن إظهار الزينة الخفية محرم، كما نهيت المرأة أن تظهر صوت الحلي، كما قال تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}.
ج- لا زواج من الكتابيات إلا وفق الشريعة الإسلامية:(1/29)
وقد أباح الله سبحانه وتعالى الزواج من الكتابية "اليهودية، والنصرانية"، كما قال جل وعلا: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله..}.
وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}، فالكتابية في العموم مشركة لقول اليهود عزير ابن الله، ولقول النصارى المسيح ابن الله،.. وعلى هذا مضى إجماع الأمة،.. ولكن الزواج من كتابية قد شرط الله له شرط الإحصان، وهو العفاف.. فالكتابية غير العفيفة، والتي ترضى على نفسها الزنا، ولا ترى به بأساً، فلا يجوز الزواج بها.. والظاهر أن من رضيت بزنا دون زنا الفجر، كحل المراقصة، والخلوة، ونحو ذلك من الأجنبي، فهي غير عفيفة، ولا يجوز الاقتران بها.
وكذلك يجب أن ينظر كذلك إلى المصالح والمفاسد الشرعية، فإن المباح إذا غلبت مفسدته لظرف من الظروف، قد يتحول إلى الحرام، ومن أجل ذلك منع عمر بن الخطاب من الزواج باليهوديات، كما هي رواية حذيفة بن اليمان في ذلك، خشية أن تترك المسلمات، وخشية أن يقع المسلمون في زواج المومسات منهن (المحلى11 صفحة12)، وهذا الذي خشيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه هو أشد في زماننا، فإنه في وقت عمر رضي الله عنه، كان بالمسلمين عزة وهم الفاتحون، والمسلمون معتزون بدينهم، والنصارى واليهود أذلة صاغرون مهزومون أو دافعون للجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك فيهم عفاف كثير، أما اليوم فالمسلمون أذلة مغلوبون والنصارى واليهود أعزة غالبون، والعفيفات من أهل الكتاب اليوم قليلات، ثم إن كثيراً ممن يسمون بأهل الكتاب اليوم لا دينيون لا يؤمنون بتوراة ولا بإنجيل ولا ببعث بعد الموت، ومثل هذه يحرم قطعاً الارتباط والزواج بها.(1/30)
وللأسباب السابقة فإننا نوصي كل مسلم في الغرب، ألا يقدم على الزواج من كتابية إلا بالشروط الشرعية في ذلك، وهذه الشروط هي:
1- أن تكون كتابية بالفعل، أي مؤمنة بكتاب ديانتها: التوراة والإنجيل، متمسكة بما تأمر به الشريعة التي تؤمن بها.
2- أن تكون عفيفة تحرم الزنا على نفسها، ولا تراه مشروعاً لغيرها، لأن تحريم الزنا قد جاء في كل شرائع الأنبياء، وهو من المعلوم في كل دين بالضرورة، فإن كانت لا ترى بأساً فهي فاسقة غير محصنة لا يجوز الاقتران بها ولو كانت كتابية بل لو كانت مسلمة ولا ترى بالزنا بأساً فلا يجوز الزواج بها لقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك..}.
3- أن تكون ممن تريد الزواج لأهدافه في العفة والاستمتاع، والإحصان.. والأولاد، وليست من اللاتي يردن الزواج مخاللة وصحبة فقط كما قال تعالى: {محصنين غير مسافحين}.
فلا يجوز الزواج من كتابية إلا بنية الإحصان، وهو حفظ الفرج بالزواج، وليس لمجرد المخاللة والاستمتاع الذي هو بمعنى السفاح (السفاح: الزنا).
4. جعل اللغة العربية هي اللغة الأولى:
من الأولويات لكل مسلم في الأرض، وللأقليات المسلمة التي تعيش في الغرب، أن تكون اللغة العربية هي لغتهم الأولى، مهما كانت اللغة التي نشئوا عليها، وذلك أن اللسان العربي يرتبط بالإسلام ارتباطاً عضويا، ولا ينفك عنه، فلا فهم حقيقياً للإسلام إلا بفهم وتعلم اللغة العربية، إذ هي لغة القرآن والسنة، ولغة أمهات الكتب في الدين الإسلامي، ومهما حاولنا ترجمة معاني القرآن، ومعاني السنة إلى لغة أخرى، فإنها لا يمكن أن تقوم مقام العربية في معرفة إعجاز القرآن الكريم، ومرامي وفحوى الحديث النبوي، وحقائق العلوم الإسلامية، ثم إن تعلم اللغة العربية قد أصبح يعني الانتماء إلى أمة الإسلام بعد أن أصبحت العربية شعار الإسلام، ولغة القرآن.(1/31)
وتعليم ناشئة الإسلام اللغة العربية ستعطيهم المفاتيح لفهم القرآن والسنة، وأحكام الشريعة الإسلامية، وسيجعلهم بالضرورة أعضاء وأجزاء من الجسم الإسلامي، والجهل بهذه اللغة سيجعل دائماً بين جاهلها والدين الإسلامي حاجزاً وحجاباً، ثم إن الناشئة الذي سيكتفون بلغة غير لغة القرآن ستكون قراءتهم وثقافتهم واطلاعهم في إطار هذه اللغة فقط، وبذلك سينشئون على الثقافة والآداب التي تسود فيها.. ومعلوم أن الثقافات والآداب لجميع اللغات الأخرى ثقافات وآداب غير إسلامية، مما يجعل الفرد يشرب بالضرورة النموذج الآخر، فمن لا يعرف إلا الإنجليزية مثلاً وتصبح هي لغة حديثة، ولغة تعليمية ولغة ثقافته وإطلاعه، فإنه لو كان مسلماً وملتزماً فإن جانباً عظيماً من حياته سيشكله ما يقرأه من هذه اللغة التي كتب آدابها، ومراجعها أناس على غير الإسلام.
والخلاصة أن اللغة العربية هي الخطوة الأولى الأساسية نحو الإسلام فهماً وعملاً، وهي ركن أساسي في الولاء للدين، والانتماء إلى أمة الإسلام، وهي عند من يقدرها جانب كبير من الاعتزاز بالإسلام وصدق الانتماء إليه.
ولذلك يجب على الأقليات الإسلامية من أي جنس ولغة أن يتحولوا إلى اللغة العربية لتكون لغتهم الأولى قبل لغتهم القومية وقبل لغة القطر والبلد الذي هاجروا إليه أو وجدوا فيه لسبب أو لآخر.
هذا فيمن نشئوا وترعرعوا من جنس غير عربي، أما العرب المسلمون، الذين هاجروا إلى الغرب، فهجروا لغتهم العربية وقطعوا صلتهم بها فإنني أرى أن هذا يكافئ الردة ويماثلها.. فمن تركها ازدراء لها، وإعجاباً بغيرها، فقد يكون مثل هذا ردة وكفر، ومن تركها لتركه للإسلام، فهو كافر، وللأسف إن كثيراً من أبناء العرب المسلمين الذين هاجروا إلى الغرب تركوا لغتهم ازدراءً واحتقاراً لها.(1/32)
يقول صاحب (الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية): "نتيجة احتكاك أبناء المغتربين المسلمين بأبناء البلاد التي نزلوا إليها، وانتسابهم لمدارسهم، سادت البرتغالية والأسبانية البيت العربي، وغدا الأبناء يجهلون لغة السلالة التي انحدروا منها، وتاريخ الأمة التي ينتمي إليها آباؤهم، وفي هذه الحالة نجد فارقاً شاسعاً بين المهاجر العربي، وغيره من المهاجرين الذين يفرضون على أبنائهم في سن معينة تكلم لغة السلالة التي ينتمون إليها، وبعد أن يلموا بلغتهم كتابة وقراءة وتكلماً، في مدارس خاصة بتلك الجاليات، يأذن الآباء للأبناء بأن يتعلموا لغة البلاد التي نزلوها، على عكس حالة الطفل العربي الذي لا يفقه من لغة والديه سوى بضع كلمات عربية مشوبة برطانة أعجمية" أ.هـ.
ويورد البدوي الملثم حادثة تدل على تمسك أخس شعوب الأرض بلغتهم وتخلينا عن لغتنا بما فيها من جمال وروعة، فيقول: "روى لي مغترب أنه عاش مع أسرة يهودية، وذات يوم عاد إلى المنزل ليجد رب البيت ينهال بالضرب على ابنه ويفرض عليه الوقوف في زاوية البيت رافع اليدين منتصباً على ساق واحد.
فسأله: ما باله يبكي؟
فأجاب اليهودي: كلب يستحق القصاص، إنه ولد عنيد متمرد، فكم نصحته ألا يكلم إخوانه إلا بالعبرية، ولكنه يحدثهم بالبرتغالية، وخشية أن تفقد العبرية مكانتها الأولى في البيت، نال هذا الجزاء" (مجلة البحوث الإسلامية 22/257 نقلاً عن كتاب الناطقون بالضاد في أمريكا الجنوبية صفحة246).
5- وجوب إنشاء تعليم خاص للناشئة إلى سن البلوغ:
ومن أولى الأولويات للأقليات الإسلامية في الغرب، أن يكون لأبناء المسلمين ذكوراً وإناثاً تعليمهم الخاص إلى ما بعد البلوغ.(1/33)
فهذه السن منذ الولادة إلى البلوغ هي السنوات الأساسية من العمر التي تغرس فيها الأخلاق، والمبادئ والعقائد، والتي تتشكل فيها نفس الإنسان وروحه ويوضع الإنسان فيها على بداية درب الحياة، فإما إلى الكفر وإما إلى الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه].
ولا شك أن كل المحاولات للإصلاح والتغيير والتبديل التي يحاولها المربون بعد هذه السنين، يذهب كثير منها أدراج الرياح كما يقولون، ويستعصي كثير منها على العلاج.
إنسان المدرسة الغربية:
والمدرسة الغربية اليوم لا تنشيء إلا إنساناً مادياً نفعياً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يؤمن إلا بالحياة الدنيا فقط، ويتعلم كيف يستمتع بحياته إلى النهاية، وكيف يشرب كأسه إلى الثمالة، وكيف يكسب ما يقدر عليه باذلاً غاية الجهد والكدح، وينفق ما كسبه في هذه الحياة استمتاعاً ورفاهية ورضاً بالحياة الدنيا، هذا إلى استباحته كل حرام يستبيحه المجتمع، ويتعارف عليه الناس، واستعظامه أن تتدخل شريعة الله في شئونه الخاصة، أو يكون للرسل والمعلمين والمربين توجيههم العلوي، ورسالتهم التربوية..، فالفلسفة المادية الغربية اليوم تقوم على أن الإنسان سيد نفسه، ومصدر قراره، ومنبع أخلاقه، والحكم على تصرفاته، وما ارتضاه الناس فهو الشرعة وما رفضه الأغلبية فممنوع، ولا حد للتشريع ينتهي إليه، ولا غاية يقف عندها، وليس هناك ثوابت في الأخلاق والقيم، إنما الثابت الوحيد هو الحياة، والمتعة والنفع.
وهذه الفلسفة الغربية المادية هي التي على أساسها ينشأ الجيل، ويربي المربون، وتوضع المناهج لإخراج جيل يعرف الحياة، ويقهر الطبيعة -حسب تعبيرهم- ويستمتع بوجوده، ويعتقد ما يشاء، ويخضع لرأي الأغلبية فقط.. وهذا الإنسان الوجودي المادي تصنع بدايته في رياض الأطفال، وفي محضن الأسرة، ثم في جميع محاضن التربية بعد ذلك.(1/34)
ولا شك أن إلقاء أبناء المسلمين في هذه المدارس والمعاهد والرياض التي تشكل عقولهم الأولى، وموازينهم، وأخلاقهم، بل وعقائدهم..، كمن يسلم قطعة من الطين إلى صانع يصنع منها تمثال خنزير أو حمار، ثم يلقيه في النار فيتحول إلى حجر صلب، ثم يأخذه بعد ذلك فإذا اكتشف الأب أن ابنه الذي كان خامة غضة طرية كقطعة الطين اللين تتشكل كما يشاء، قد أصبح حجراً صلباً على الصورة التي لا يريدها ولا يشتهيها، حاول بعد ذلك تغييرها وتبديلها إلى صورة أخرى، وهيهات، فإما أن تتحطم في يديه، وإما أن يغير فيها بعض الرتوش والألوان، والمظاهر الخارجية ويبقى التمثال هو التمثال!!!
إن هذا مثال يقرب إلى الذهن ما يفعله أولياء الأمور عندما يسلمون أبناءهم إلى مدراس الغرب الملحد المادي، ثم بعد استعادة هؤلاء الأولاد بعد البلوغ، يطلع منهم على نموذج آخر تماماً غير الذي تمناه وأراده من ابنه أو ابنته..
وكثير من المعلمين والمربين الذين مارسوا التربية والتعليم في بلاد الغرب، قد أدركوا خطورة تعليم أبناء المسلمين في هذه المدارس، وكتبوا المطولات عن هذه المخاطر، وناشدوا المسلمين أن يقوموا بإنشاء المدارس الخاصة لأولادهم، وخاصة في مراحل التعليم الأولى.(1/35)
يقول أحد القائمين على التعليم والدعوة في ألمانيا: "إن التعليم إلزامي هنا حتى سن السادسة عشر، وهو كذلك مختلط، وكذلك دروس الرياضة والسباحة مختلطة، وتكون بملابس ساترة للفرج والثديين فقط، والطامة عند تدريس مادة (البيولوجي) التي يتم تدريسها من بداية الصف الرابع ابتدائي.. حيث يعرض المدرسون فلم فيديو لرجل يجامع امرأة بشكل مثير جداً ويتم تصوير الرجل والمرأة من بداية تعريفهما على بعضهما حتى تحمل وتلد..، وأن مثل هذه الأمور تقلق أهالي الأولاد وتجعلهم يفكرون في إقامة المدارس الأهلية الخاصة، ولكن سرعان ما تزول هذه الفكرة عندما يعرفون ما يترتب عليها من نفقات مادية - والله المستعان" (من تقرير عن أحوال الجاليات الإسلامية في ألمانيا، مرسل إلى جمعية إحياء التراث الإسلامي)، ولا شك أن كثيراً من المسلمين غير مدركين للمخاطر العظيمة من إلحاق أولادهم بمدارس الغرب.
ويقول صاحب كتاب السوريون في أمريكا: "أما المسلمون الذي هاجروا إلى أمريكا فتجدهم أقل إدراكاً لخطورة المدارس الأمريكية، هناك عدد قليل من الأطفال السوريون يؤمون المدارس الخاصة، وغالبيتهم تفضل المدارس العامة، وقد صرح أحد أولياء أمور الطالبات أنه يريد إرسال ابنته إلى المدارس الخاصة لأن المدارس العامة تدرس الرقص".(1/36)
ولا يستويان، لا يستوي من يريد أن يرسل ابنته إلى المدرسة الخاصة تهرباً من حصة الرقص، بمن يريد أن يفر إلى المدرسة الإسلامية لأنه خبر ما في المدرسة الأمريكية من فسق وفجور، ومن زنا، ولواط، ومن شرط للخمور وتدخين للحشيش والماريجوانا بين الطلاب أنفسهم من جهة، وبين الطلاب ومعلميهم من جهة أخرى، ولعل من لا يعرف المدرسة الأمريكية، وهي صورة صادقة لذلك المجتمع، بحاجة إلى أن يعلم بعضاً من الآفات الخطيرة التي تفوح رائحتها من المدرسة الأمريكية، فعلى سبيل المثال، حوكم معلم في ديترويت لأنه وجد يلوط بأحد الطلاب في مكتبه في المدرسة، ولدى استجوابه اعترف بأنه الطالب رقم (36) الذي يفعل معه فعلته النكراء تلك في ذلك العام، واكتفى مدير المدرسة في (آن آربر) بتنبيه مجموعة من الطلاب تتعاطى الحشيش في مكان غير مسموح به في المدرسة، وطلب إليهم عدم تكرار ذلك، واغتصب مجموعة من الطلاب معلمتهم داخل حجرة الصف وعلى مرأى من سائر الطلاب والطالبات، فما كان من تلك المعلمة إلا أن رفعت قضية تطالب فيها الحكومة بمليون دولار (مجلة البحوث الإسلامية -عدد22 -صفحة265).
6- حماية الأقليات الإسلامية:(1/37)
الأقليات الإسلامية في الغرب كانت على الدوام معرضة لأحد الخطرين: التذويب أو الإبادة، أم التذويب فهي عملية سلخ من الدين والمعتقد والانتماء للأمة الإسلامية وفي ظل العقيدة الشيوعية مثلاً، كان المسلمون يجبرون على ترك دينهم، ولغتهم، وأسمائهم الإسلامية، بل ويمنعون من نصب شاهد على قبورهم يشير إلى أن هذا قبر مسلم.. وقد كان تداول المصحف، والكتاب الإسلامي عملاً يجرمه القانون بالقتل أحياناً.. وفي ظل الديمقراطية الغربية، كان ضغط المجتمع ومحاصرة الفساد للأسرة المسلمة عوامل ضاغطة من أجل تذويب الأقليات المسلمة في المجتمع الغربي، وأحياناً كان القانون كذلك يقف أمام استعلاء وظهور أي تميز إسلامي عن المجتمع الكافر كما حصل في فرنسا في قضية حجاب الطالبتين المسلمتين، وموقف إدارة المدرسة، ووزارة التربية من هذه القضية.
وبعد سقوط الشيوعية، وتفكك الدولة الشيوعية، وخروج دول المنظومة الإشتراكية، ورؤية العالم الغربي أن من أهم أسباب هذا السقوط المزري للعقيدة الشيوعية والدولة السوفيتية هو الإسلام، بدأ العالم الغربي يتحفز خوفاً من هذا الدين الذي يملك هذه القدرة السحرية على إزالة الدول الظالمة، وهدم العقائد الزائفة وظن أن الدور الآتي عليه، وأن الإسلام قادم من الشرق، يدمر الديمقراطية الغربية كما دمر العقيدة الشيوعية، وأن خيل الإسلام أضحت على الأبواب.
من أجل ذلك تعالت الصيحات في مكان أن هبوا لأن خيل الإسلام أسرجت، وهذا الدين الزاحف سيعاود الزحف من جديد إلى الغرب.(1/38)
كانت الأقليات الإسلامية في الغرب هي التي عليها أن تستقبل الصدمة الأولى، وأن يكون تفريغ الخوف والحقد الصليبي الدفين فيها أولاً قبل غيرها، فالتهديد بالإبادة والإخراج كما حدث للأتراك وغيرهم في ألمانيا، وتعقيد سبل الحياة والإقامة والجنسية والهجرة كما حدث للجاليات الإسلامية في فرنسا، وبداية المضايقات والتهديد بالفشل كما يحدث الآن للمغتربين والأقليات الإسلامية في أمريكا، وحرب الإبادة كما هو قائم الآن في البوسنة والهرسك، ومحاولة امتداد ما يسمونه بالتطهير العرقي ليشمل جميع دول البلقان، كل هذا وغيره بدايات فقط للصيحة التي أطلقها اليهود ورددها العالم أجمع بعد سقوط الشيوعية أن الإسلام هو الخطر القادم، وأنه بعد سقوط الشيوعية لا عدو للبشرية إلا الإسلام.(1/39)
لقد كان هذا التطور الجديد بداية جديدة لآلام طويلة وليل طويل ينتظر الأقليات الإسلامية في الغرب، وهذا يفرض على من يملكون الرؤية أن ينظروا بنظر صائب في كيفية حماية وجود الأقليات الإسلامية في الغرب، ومن أجل ذلك قلنا هذا في هذا البحث المتواضع، إن حماية الأقليات الإسلامية أصبحت أولوية من الأولويات، فمن المقترحات التي تطرح الآن تمكين الأقليات الإسلامية من حمل جنسية البلد التي هاجروا إليه ليكون لهم بذلك الوضع القانوني الكامل والحماية الكافية من الحكومات ضد الفئات العنصرية، والصليبية التي تطالب بطردهم، وتسعى في قتلهم وتشريدهم، وقد طالب عدد من المسئولين في دول الغرب بهذا الحل (ترجمة لمقال في كريستين ساينس مونيتور - جريدة الوطن الكويتية الصادرة في 24محرم1414هـ الموافق 14يوليو1993م)، وبالرغم من أن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة من الأحزاب العنصرية في أوروبا، فهو كذلك يصطدم بفتاوي تشدد النكير على الهجرة إلى بلاد الغرب وحمل جنسية بلد يدين بغير الإسلام، فقد أجابت اللجنة الدائمة للفتوى برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز على سؤال يقول: "ما حكم الإسلام في إمام للمسلمين في مسجد فرنسا يريد أن يبدل الجنسية من جزائرية إلى فرنسية؟".
فأجابته اللجنة قائلة: "لا يجوز أن يتجنس باختياره بجنسية دولة كافرة لما في ذلك من التزامه بنظمهم والتحاكم إلى قوانينهم، وتبعيته لهم، وموالاته إياهم، ومن المعلوم أن فرنسا دولة كافرة حكومة وشعباً، وأنت مسلم، فلا يجوز لك التجنس واصبر واحتسب والله المستعان" (فتوى رقم 4801، وتاريخها 13/8/1402هـ صادرة عن اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة العربية السعودية، برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز).
وقد صدرت فتوى أخرى من اللجنة أيضاً تؤيد هذه الفتوى.(1/40)
وقد اشتط بعض علماء المسلمين في هذا الأمر فقد أفتى رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر الشيخ حماني بأن من تجنس بجنسية دولة كافرة، فقد ارتد، ويحرم تزويجه بالمرأة المسلمة، وتجري عليه أحكام الردة كاملة من حرمانه من الإرث وعدم غسله ودفنه في مقابر المسلمين (نقلاً عن إعلام الأنام حكم الهجرة في الإسلام للشيخ أبي بكر جابر الجزائري).
وقد رد فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري حفظه الله على تلك الفتوى برد طويل، لم يكتف فيه بإثبات وجهة نظره في حكم حمل الجنسية دولة من دول الغرب، بل تطرق كذلك إلى علاج مشكلة الأقليات الإسلامية في دول الغرب من وجوه كثيرة، ولأن جواب الشيخ ومقترحاته عملية ومفيدة، وهو رجل خبير بأكبر جالية -ربما- تعيش في بلاد الغرب، وهي الجالية المغربية في فرنسا، وكان دائم التردد عليهم.
وقد خبر مشكلاتهم، فإنني أحببت أن أثبت هنا كامل رده على هذه الفتوى والحلول التي يراها لوضع المسلمين في بلاد الغرب.
"السؤال: ما هو التجنس؟
الجواب: التجنس أن يطلب المرء تبعية دولة من الدول المعاصرة، فيعطاها فيصبح تابعاً لتلك الدولة، يجري عليه ما يجري على أفرادها من أحكام وقوانين سياسية ومالية واجتماعية في الجملة ودون تفصيل، وبما أن العلمانية سادت أكثر دول العالم، فإن التدين أصبح حراً، فللمواطن بالأصالة أو التبعية أن يتدين بما شاء، فالمسلم إذا حصل على جنسية بريطانية لا يصبح نصرانياً، والبريطاني إذا حصل على جنسية باكستانية لا يصبح مسلماً، وكذا الفرنسي إذا حصل على جنسية مغربية أو جزائرية أو تونسية، لا يصبح مسلماً بل يبقى على دينه الذي اعتنقه أو ورثه عن آبائه وأجداده.(1/41)
وإذا عرف هذا فهل يصح أن يحكم على المسلم إذا أخذ جنسية دولة كافرة كأمريكا أو بلجيكا أو فرنسا أو بريطانيا، وبقي على دينه الإسلامي عقيدة وعبادة، يحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، هل يصح أن يحكم عليه بالكفر والردة كما حكم الشيخ حماني مفتي الديار الجزائرية؟
والجواب متروك لأهل العلم والنظر، أما أنا شخصياً فلا أقول بكفره، ولا بردته وأبرأ إلى الله تعالى من أن أكفر مسلماً وأحكم عليه بالردة كما أبرأ إلى الله تعالى ممن يكفر مسلماً أو يحكم بردته لمجرد أنه تابع لدولة كافرة قانونياً، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، ويحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله من المطاعم والمشارب والمناكح وغيرها.
وإن كان مفتي الديار الجزائرية يرى أن علاج مشكلة ملايين المسلمين يعيشون في ديار الكفر هي الحكم بالردة على من تجنس منهم بجنسية دولة كافرة، فأنا لا أرى هذا علاجاً أبداً، بل أراه زيادة في تعقيد المشكلة واستعصاء حلها إن أريد لها ذلك.
إن حل هذه المشكلة يكون باتخاذ ما يلي وهو:
إرجاع كل مسلم في بلاد الكفر إلى بلاده الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وهنا يطرح هذا السؤال: هل في الإمكان إرجاع المهاجرين وتهجير من أسلم من الكافرين إلى بلاد المسلمين؟.
وإذا كان الجواب: إن هذا من غير الممكن اليوم وغير متأت أبداً، فما هو الحل إذاً يا ترى؟(1/42)
الجواب: إن الحل لهذا المشكل العويص ليس في الحكم بردة المتجنس كما يرى مفتي الجزائر الشيخ الحماني، وإنما هو اتباع ما يلي: وهو تكوين لجنة عليا يتكون أعضاؤها من كافة البلاد الإسلامية تحت عنوان اللجنة العليا لرعاية المهاجرين، وتكون لها ميزانية يسهم فيها كل بلد إسلامي بقدر معين من المال بحسب حال البلد قوة وضعفاً، وتتلخص مهام تلك اللجنة فيما يلي:
1- بناء مساجد لهم يصلون فيها ويتعلمون الضروري من دينهم الإسلامي.
2- تعمير تلك المساجد بالأئمة الأكفاء القادرين على تربية إخوانهم روحياً وسلوكياً وتزويدهم بالكتاب الصالح النافع الذي يجمع ولا يفرق ويهدي ولا يضل كمنهاج المسلم للجزائري.
3- العمل على توحيد المهاجرين في البلد الذي هم فيه بحيث تنعدم الفوارق بينهم ويصبحون جماعة واحدة ليس لها انتماء إلا إلى اللجنة العليا لرعاية المهاجرين.
4- إيجاد تعليم لأبناء المهاجرين يتناسب مع ما لديهم من وقت يتعلمون فيه ما لا بد منه من العقيدة والعبادة والخلق والأدب، مع اللغة العربية لغة الكتاب والسنة.
5- العمل على إيجاد تعاون بينهم يثمر ما يلي:
أ) وجود مجزرة ومقبرة ليأكلوا الحلال من اللحوم، وليقبروا موتاهم في مقابر خاصة بهم.
ب) تكوين لجنة من ثلاثة علماء في كل بلد فيه مهاجرين مهمتها:
- إصلاح ذات البين بين أفراد المهاجرين المسلمين، ليتحاشوا التحاكم إلى محاكم غير إسلامية.
- عقد النكاح بين الزوجين وتقرير فرقة الطلاق بينهما إذا خيف الضرر عليهما أو على أحدهما، وتعذر الإصلاح برفع الضرر.
- قسمة كل مسلم تركته وهو حي على ورثته وكتابة صك بذلك حتى إذا مات نفذ ما في الصك كأنه وصية وحتى لا تتدخل السلطة الحاكمة في تقسيم التركة حسب قوانينها.
- إيجاد قانون مالي بينهم وذلك بإنشاء مصرف للإيداع والإنماء وفق الشريعة الإسلامية التي تحرم الربا وتبيح الربح بالتعاون المشروع.(1/43)
هذا هو الطريق لحل مشكلة المهاجرين في بلاد الكافرين، فهل في الإمكان سلوكه إنقاذاً لملايين المسلمين من الذوبان في مجتمعات الكفر والإلحاد وأداء لواجب الدعوة إلى الإسلام وفي وقت الدعوة فيه لا تكلف عرقاً ولا دماً إذ لم تزد على الدينار والصدق في جمعه وصرفه لا غير.
فهل الشيخ حماني مفتي الديار الجزائرية عفا الله عني وعنه، أن ينهض بهذا الواجب، ويطوف بالبلاد الإسلامية مطالباً بتكوين هذه اللجنة العليا لرعاية المهاجرين لإنقاذ المسلمين المهاجرين من الذوبان في ديار الكفر، لأداء واجب الدعوة إلى الإسلام التي تخلى عنها المسلمون متناسين قول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}، فهل اتباعه صلى الله عليه وسلم غير أفراد أمته؟ آه ثم آه وإن كان التأوه غير نافع يا عباد الله!!.
وقبل أن ينهض المسلمون بهذا الواجب، وهو حل مشكلة ملايين المهاجرين في ديار الكفر أقدم فتواي التي أراها حلاً جزئياً للمشكلة وهي أن على المسلمين المهاجرين العودة إلى بلادهم فوراً إذ هجرتهم ما كانت فراراً بدينهم، ولا كانت إلى دار إسلام، بل كانت إلى دار كفر، وقد تسببت هجرتهم في ضياع دينهم أيضاً فلا يسعهم البقاء على هذه الحال إلا بالإلتزام بما يلي:
1- أن ينووا الرباط في سبيل الله، وذلك بتكثير سواد المسلمين في ديار الكافرين.
2- أن يقوموا بالدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.(1/44)
3- أن يصححوا عقائدهم، ويعبدوا ربهم بما شرع لهم، ويهذبوا أخلاقهم ويكملوا في آدابهم لتكون دعوتهم بالحال، وهي أنفع من دعوة القال باللسان وليعلموا أن هذا لا يتم إلا بوجود علماء صالحين يربونهم عقائد وعبادات وأخلاقاً وآداباً فليطلبوا هؤلاء العلماء وليطيعوهم طاعة كاملة ما أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا هذا وتحقق لهم فهم مرابطون في سبيل الله ولهم أن يأخذوا جنسية الدولة التي هم فيها، سواء كانوا مهاجرين أو مواطنين على شرط أن يكون التجنس -وهي غير التدين قطعياً- مساعداً لهم على دعوة الإسلام التي هم مرابطون من أجلها.
هذه فتواي والله أسأل أن تكون مرضية له عز وجل، نافعة لعباده المؤمنين، وأن لا يحرمني أجر اجتهادي فيها آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين" (إعلام الأناة بحكم الهجرة في الإسلام للشيخ أبو بكر الجزائري صفحة 40-47).
ولا شك أن ما ذهب إليه فضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله، حق في أن هذه المعضلة ليست معضلة فرد واحد أو مجموعة من الأفراد يفتي لهم، وإنما هي معضلة لا تعالج مطلقاً مشكلة هؤلاء الملايين الذين ارتحلوا إلى الغرب بنوايا مختلفة، وأصبح لهم واقع غاشم، وكثير منهم مسلمون ملتزمون بالإسلام عقيدة وشريعة حسب استطاعتهم، ثم إن هناك أيضاً الأقليات الإسلامية من أهل البلاد الأوروبية والأمريكية الذين تحولوا إلى الإسلام كالشعوب الإسلامية في أرض البلقان والمسلمين السود في أمريكا، وعشرات الألوف بل مئات الألوف من الأوروبيين والأمريكيين أصلاً الذين دخلوا في الإسلام.. وهؤلاء جميعاً إطلاق القول فيهم بأن التجنس بجنسية دولة كافرة حرام أو ردة وكفر.. فيه تعميم خاطئ، وهو حكم لا شك يخالف الحق..(1/45)
ومن أجل ذلك يجب النظر بعمق ودراسة كل شريحة من شرائح المسلمين الذين يعيشون في الغرب، والنظر في أوضاعهم وفق الموازين الشرعية من أعمال النصوص، وتطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، ويحسن في هذا الصدد إيراد فتوى الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- في وجوب سعي المسلمين الذين يعيشون في كنف الدول الكافرة إلى روابط يستطيعون بها إقامة شرائع دينهم، حيث يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} الآية.
قال رحمه الله في الفوائد المتحصلة من هذه الآية:
"ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، وقد يعلمون بعضها، وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب، رجم قومه، بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب، حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا، لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا علي جعل الولاية جمهورية، يتمكن فيها الأفراد والشعوب، من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عملة وخدماً لهم.
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم" (تفسير عبدالرحمن ناصر السعدي (2/289)).(1/46)
قلت: "وأنت ترى هنا أن مدار هذه الفتوى وهذا الاستنباط من الآية الكريمة على القاعدة الفقهية (ارتكاب أخف الضررين)، فلأن يسعى المسلمون ليكون لهم شركة في الحكم مع الكفار يصونون بذلك أعراضهم وأموالهم ويحمون دينهم، خيراً ولا شك مما أن يعيشوا تحت وطأة الكفار بلا حقوق تصون شيئاً من دينهم وأموالهم" (مشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية، وقبول الولايات العامة في ظل الأنظمة المعاصرة لعبدالرحمن عبدالخالق (صفحة64-65)).
خلاصة البحث
يتلخص لدينا مما قدمناه في هذا البحث النقاط الآتية:
أولاً: مقدمات ومعلومات عامة:
1- يعيش المسلمون في العالم اليوم إما أغلبية عددية مع أقليات غير إسلامية، وإما أقلية عددية في دول غير إسلامية، وهؤلاء عدة مئات من الملايين.
ويعيش في الغرب وحده أوروبا وأمريكا أكثر من عشرين مليوناً من المسلمين على أقل التقديرات.
2- أسباب وجود الأقليات الإسلامية في الغرب كثيرة، منها: دخول من دخل الإسلام حال قوة المسلمين الأولى، كما هو واقع أرض البلقان (البوسنة والهرسك - المجر - بلغاريا) والهجرة إلى الدول المستعمرة من المستعمرات، كهجرة الجزائريين والمغاربة إلى فرنسا، والهنود والباكستانيين إلى بريطانيا، واستعانة ألمانيا بالأتراك بعد الحرب العالمية الثانية من أجل الإعمار.. وكذلك دخول بعض الأوربيين إلى الإسلام، وهجرة بعض المسلمين من أجل الدنيا، والإعجاب بحياة الغرب والهجرة فراراً بالدين، والتماس الأمن..
3- تتعرض الأقليات الإسلامية في الغرب، إلى خطرين أساسيين وهما التغريب والتذويب، وكذلك الإبادة والطرد والتشريد، والخطر الثاني هو الخطر المرشح للمرحلة القادمة.
4- هناك أسباب كثيرة أدت إلى تدهور أحوال الأقليات الإسلامية في الغرب، أهمها:
أ) عدم وجود خلافة إسلامية تحمي المسلمين وتدافع عنهم، وتطالب بحقوقهم، وتستعد للنفير للدفاع عنهم إذا تعرضوا للاضطهاد أو الإبادة أو الإذلال.(1/47)
ب) شعور المسلمين بالدونية والصغار أمام قوة الغرب وجبروته وتقدمه.
ج) اعتزاز الغرب بصليبيته وقومياته، وتخوفه الدائم من الإسلام، وتوجسه من وجود الإسلام على أرض أوروبا.
5) أعداد المسلمين في الغرب في نمو مطرد، وذلك بفعل الهجرة المستمرة والزيادة في عدد المواليد، واستمرار دخول أعداد كثيرة من الشعوب الغربية إلى الإسلام، وتنامي الصحوة الإسلامية في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأوائل القرن الخامس عشر، وكل هذه الأمور زادت من مخاوف الغرب نحو الإسلام.
6- تنامي الصحوة الإسلامية في مكان، وبروز الإسلام كقوة عالمية، وإطلاقه الرصاصة الأولى التي كان من آثارها إزالة الدولة والعقيدة الشيوعية، كل ذلك جعل الغرب يخشى عودة الروح الإسلامية، وبداية انطلاق الإسلام من جديد لفتح أوروبا، ومن أجل ذلك بدأت صيحة الغرب نحو الإسلام، وبعثه للروح الصليبية، والمبادئ العنصرية والقومية، وبدأت تبعاً لذلك المواجهة مع الأقليات الإسلامية.
ثانياً: أولويات العمل الإسلامي في الغرب:
الأقليات الإسلامية في الغرب تحتاج إلى عمل وإنقاذ سريع من أجل الحفاظ على بقائها، ودينها وعقيدتها، ومن ذلك:
1- بعث روح الأمة الواحدة، والجسد الواحد في جميع المسلمين على ظهر الأرض، وتثبيت عقيدة الولاء لكل مسلم في موقع، والبراء من كل كافر في أي موقع، والعمل لتكون هذه العقيدة عاملة فعالة، وليست مجرد صيحة قوالة.(1/48)
2- تعزيز الانتماء إلى الأمة الإسلامية العظيمة خير أمة أخرجت للناس، وتثبيت المعتقد الإسلامي الذي يشعر المؤمن بعزة الإسلام، وشرف الانتماء وحلاوة الإيمان، ولا يكون ذلك إلا بتعلم العقيدة الصحيحة، ومعرفة ما يضادها من العقائد الباطلة، وتقدير نعمة الهداية، وأخذ الدين عن عقيدة وبرهان واقتناع، وإيمان، وفرض دراسة العقيدة النصرانية على وجه الخصوص، إذ هي العقيدة التي سيثمر الصراع بينها وبين الإسلام إلى آخر الدنيا، والتمسك بشرائع الإسلامية جميعها وخاصة الصلاة واللباس الشرعي، واللحم المذكى، وقصر الزواج من المسلمات أو الكتابيات على العفيفات المحصنات.
3- جعل اللغة العربية هي اللغة الأساسية لكل مسلم مهما كانت جنسيته ومنشؤه، والحرص على تعلمها منذ الصغر، وإعطاء هذه اللغة منزلتها الحقيقية من الدين، وكونها من ضروريات الإسلام، وما لا يتم الواجب الديني إلا به..
4- تثبيت عقيدة أن كل مسلم يجب أن يكون داعية إلى الله في أي موقع فيه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، وجعل الدين هو غاية الحياة والوجود: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
5- ربط الدعوة إلى الإسلام بمنهج أهل السنة والجماعة، وعمل الصحابة وفقههم، والتحذير من كل انحراف عن منهج الطائفة الناجية، وهذا يعني حرب الفرق والطوائف الضالة التي هي من فرق الزنادقة والمنافقين وكذلك محاربة البدع العقائدية الخمس المعروفة، وهي: الخروج، والرفض، التجهم، القدر، والإرجاء.
6- محاولة دمج الأقليات الإسلامية في كل بلد غربي في نسيج واحد عن طريق ما أسلفناه من الدعوة إلى الأمة الواحدة، وعقيدة الولاء والبراء والحرص على أن تكون اللغة العربية هي لغة الخطاب الأولى، ثم عن طريق التعارف والزواج والمساجد الجامعة، والندوات والمحاضرات، والرحلات وكسر طوق العزلة، والانطواء التي تمارسه بعض الجاليات والأقليات الإسلامية.(1/49)
7- الاهتمام بالتعليم الإسلامي منذ رياض الأطفال وحتى البلوغ، والحرص أن يكون للمسلمين مدارسهم الخاصة في هذه السن الحرجة التي نغرس فيها المبادئ والقيم والعقائد التي تشكل بعد حياة الإنسان.
8- السعي للحفاظ على الوجود الإسلامي في أوروبا، وتثبيت هذا الوجود، وامداده بكل مقومات الصمود والبقاء والدفاع عن المسلمين هناك بكل قوة، فدول الأغلبية العددية كألبانيا، والبوسنة والهرسك يجب تقويتها وتسليحها للدفاع عن نفسها، ويجب أن يهب المسلمون في كل مكان للدفاع عنهم..
وأما الدول التي فيها أقليات إسلامية، فيجب أن ينظر ليكون للمسلمين حقوقهم السياسية وحياتهم الدينية والتعليمية والاجتماعية الخاصة، ويتمكنوا من إظهار دينهم، واتباع شريعتهم بل والدعوة إلى معتقدهم الحق.
9- إيجاد هيئة عليا تعني بشئون المسلمين في الغرب، ويكون من أهدافها:
التنسيق بين عمل اللجان الخيرية والدعوية العاملة في مجال الإغاثة والدعوة، ليكون عملها مثمراً موجهاً، وتزويدها بأوضاع الجاليات الإسلامية ومشكلاتها أولاً بأول.
10- إيجاد هيئات علمية شرعية متخصصة تعني بفقه الجاليات، وحل المشكلات التي يواجهونها على ضوء الكتاب والسنة، ومعرفة الواقع القائم الآن، ورسم السياسات الشرعية التي يكون بها الحفاظ على إسلام هذه الجاليات، وحمايتها من الردة والذوبان، أو الهلاك والإبادة.
11- السعي ليكون للجاليات والأقليات الإسلامية في الغرب اقتصادها الإسلامي الذي يكفل لها الحياة الشرعية الكريمة، والاستقلال المادي بدلاً من أن يعيش كثير من المسلمين على إعانة الدول الكافرة، أو ممارسة الربا والبغاء والمقامرة أو الأعمال الحقيرة.(1/50)