أهمية الوقت
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد:
فإن مما تشهد له الآيات والأحاديث أن الوقت هو الحياة، وقد نبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده المؤمنين إلى ذلك بتنبيهات عظيمة، لا ينبغي لمسلم أن تفوته، بل يجب على كل مؤمن أن يتذكرها ليعرف قيمة العمر، وقيمة الوقت والحياة، ومن تلك التنبيهات العملية التي يعيشها المسلم كل يوم: هذه الصلوات الخمس التي شرعها الله تبارك وتعالى، وجعلها على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
وأكثر إنسانٍ في هذه الدنيا يعرف قيمة الوقت هو المؤمن، لأنه أول ما يستيقظ يعلم أن الوقت وقت صلاة الفجر، فإذا صلى الفجر يعلم أنه بعد ساعات سيأتي وقت صلاة الظهر، فإذا جاء الظهر، يَعدُّ ذلك فاصلاً بين وقتٍ ووقتٍ آخر، ثم يصلي العصر ويعد ذلك استقبالاً لوقت آخر غير الوقت الذي مضى، فإذا غربت الشمس وصلى المغرب علم أنه قد استقبل ليلة جديدة، ثم إذا صلى العشاء علم أن وقتاً قد انتهى، وأنه من الآن فصاعداً علي واجبات وأعمال أقضيها في الوقت الباقي.
وهكذا بهذه الصورة المبسطة التي لا تخفى على أي عاقل، فالمسلم مهما كان عمله فإنه يرى أن وقته ما هو إلا هذه الأيام، وهو مجزأ بهذه الطريقة، وكذلك -أيضاً- العمر كله والسنة كلها، كيف يجدها الإنسان؟(1/1)
تبدأ السنة -مثلاً- في محرم والإنسان يعمل بما شرعه الله -سبحانه- في هذا الشهر، ويبدأ يُعد لعام جديد، ثم يستقبل أيامه ويعلم أن هذه الشهور هي اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، ثم يأتي أعظم الشهور وهو رمضان ويعقب رمضان شوال، ثم الحج، فينتهي العام بانتهاء الموسم، ويجد المؤمن أنه ما بين رمضان ورمضان كأنه ما بين لحظة ولحظة، وما بين الحج والحج كأنه ما بين لحظة ولحظة، ولكن بدورة هذه المواسم، وبدورة هذه الصلوات في اليوم، يشعر المسلم بقيمة الحياة وبقيمة الوقت، وأما الأمم التي لا تعرف هذه المواسم والعبادات فتوقيتها هو توقيت بأعياد مجونها وفسقها وخلاعتها، كعيد رأس السنة مثلاً.
بل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية : ''الأمم الوثنية الهمجية في الهند والصين ، وبعض أطراف البلاد التي ليس لها دين ولا كتاب كانت لا تعرف الأسابيع '' فلا تعرف الأسبوع ولا تعرف الأيام كما نعرفها نحن، فعندنا الوقت مجزأ، فيوجد يوم في الأسبوع هو يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ولنا فيه واجبات تختلف، وعبادات تختلف عن الأيام الأخرى، فنشعر أن اليوم قد مضى، لأن الظهر صليناه والعصر صليناه، إذًا فقد أتى المغرب، إذاً فاليوم انتهى فنشعر بذلك، ونشعر بأن الأسبوع قد انقضى لأننا صلينا الجمعة، ونشعر بأن السنة تمر لأننا صمنا رمضان، وجاء الحج، والعبادات: وهي أركان الإسلام الثلاثة الصيام والحج والزكاة، مبنية على الحول أيضاً وهي التي تحسب الحول، كلها مما يذكر بأهمية الوقت وبأهمية العمر، فما الذي يصرف الإنسان وقته فيه.(1/2)
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقسم بالعصر فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] قال بعض العلماء: في إقسامه -سبحانه- بالعصر تنبيه لعباده المؤمنين إلى المحافظة على الوقت، وأن نصيبك من هذه الحياة هو هذا الوقت وهذا الزمن فتشغله بهذه الأربع، وإلا كنت من الخاسرين، عافاني الله وإياكم وأعاذنا من الخسارة، فنشغل أوقاتنا بهذه الأربع التي من لم يكن كذلك فهو خاسر إما كلية أو جزئية وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله.
قادة الناس في الوقت
إن قادة من عرفوا الوقت وقدروا قيمته هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ولهذا نجد أن الأنبياء هم قادة الناس في هذه الأربع، في الإيمان والعلم، وفي العمل الصالح، والدعوة إلى الله، وفي الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، فهؤلاء هم الفائزون المفلحون الرابحون الربح الأكبر في الدنيا والآخرة، وأما غيرهم فبمقدار ما يضيع من طلب العلم ومعرفته -لأن الإيمان لا يكون إلا به- وبمقدار ما يضيع من العمل الصالح ويفرط في طاعة الله، وبمقدار ما يفرط في الدعوة إلى الله أو في الصبر عليها، يكون خسرانه ونقص عمله.
ولو تدبر الإنسان لوجد أن العمر محدود جداً، وأعمار هذه الأمة كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجوز ذلك } وستون سنة -في الحقيقة- لا تكاد تعد شيئاً مذكوراً لو تأمل العبد وتفطن، وإن كان الشباب يَغُر، وإن كان الشيطان يغر، وإن كانت زهرة الحياة الدنيا تخدع، لأن هذه الستين تمر منها ثلثها وهي عشرون سنة والإنسان في طفولة، ثم في شبه طفولة، وكل أب ابنه دون العشرين لا يزال يعتبره بحاجة إلى الرعاية والعناية والاهتمام!(1/3)
ثم الثلثان لمن مد الله -تعالى- في عمره، وهي أربعون سنة، كم يذهب منها للنوم؟
حسب بعض العلماء وبعض الحكماء ذلك فقالوا: وجدنا أن الإنسان العادي ينام ثلث عمره، إذاً فسوف ينام ثلث هذه الأربعين، ثم كم لطعامه، وكم لشرابه، ثم كم يأخذ الناس من وقته في الأمور المباحة، فإن بعض الناس يسلم عليك فيريد من وقتك نصف ساعة، وهذا شيء نشاهده نحن، طفل يمسك بك ويضيع عليك ساعة، وكثير من الناس لا يشعر بقيمة هذا الزمن ولا بأهميته وكأن أمراً ما كان! ولو دقق وحسب لوجد أن العمر ضيق وقصير بشكل يدعو إلى الغرابة.
مثال من علماء الأمة
لولا أن الله -تبارك وتعالى- يبارك في أعمار المؤمنين لما استطاع دعاة الهدى وأئمة التقى وعلماء الصلاح والإصلاح أن يفعلوا شيئاً، ماذا نفعل لو أردت أنا وإياكم أن ننسخ كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية باليد؟ قد تنتهي الأربعين سنة ولم نكتبها أو شبه ذلك -سبحان الله- فكيف يكون الحال إذا كان هو يفكر ويجمع العلم، ثم متى يكتب، ومتى يفتي؟!
وأين عبادته وقد كان من أعبد الناس؟!
ولنمثل بالعلماء المتأخرين حتى لا يقال إن الأنبياء والصحابة شيء آخر، ولا شك أنهم كذلك، لكن نقول: القدوة موجودة حتى في المتأخرين، في عصور الظلمات وفي عصور الانحراف فلابد أن يوجد من يحافظ على العمر ويعرف أهميته، كالنووي رحمه الله وابن الجوزي ، كيف كتبوا هذه الكتب، شيء عجيب! أحصى بعض ما كتبه بعضهم في اليوم فوجد أنه كراسة، والكراسة عشرون ورقة، كراسة في يوم! فأين النوم، وأين الأكل، وأين حقوق الأهل، وأين العبادة، وأين، وأين..؟!
كل هذا بالبركة، لأنهم عرفوا قيمة هذه الحياة، فسخر الله -تبارك وتعالى- طاقاتهم وهممهم فتوجهوا إلى أمر واحد.(1/4)
والآن نجد كل من يُسمَّوُن بعلماء النفس والاجتماع، وكل المجربين حتى الآباء والأمهات، يقولون: إذا أردت أن تنجز أعمالك فحدد هدفاً واحداً واجتهد فيه، واعزم -بإذن الله- على أن تنجزه، لكن إذا حددت هدفين أو ثلاثة فقد تضيع الثلاثة ولا تحصل على شيء، وأما أولئك فقد جعلوا الهم هماً واحداً، كان أحدهم يصبح وهمه رضا الله والفوز بطاعته وجنته والدار الآخرة، وحدوا لذلك الهم، فإن عَبد فهو يرجو ما عند الله، وإن كَتب فهو يرجو ما عند الله , وإن خَطب فهو يرجو ما عند الله، وإن تزوج فهو يرجو ما عند الله، وإن جمع المال فهو يرجو ما عند الله، فالهم واحد ولكن الأعمال تختلف، ولهذا نجد أنهم كانوا جيلاً عظيمًا، وجيلاً واسعاً، ومع ذلك يقول تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] كيف جمع الله وقال: (سبلنا) مع أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فهنا الصراط واحد، والسبل هي طرق الضلال والغواية التي على كل طريق منها داعٍ من دعاة جهنم -عياذاً بالله- لكن وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالسبل هنا هي طرق الخير الداخلة في الصراط وهو صراط واحد، وطرق الخير فيه مختلفة، ومن هنا كان تفاوت الناس الصالحين في عمارة الأوقات، لأن إنساناً آتاه الله تبارك وتعالى العلم فوقته في العلم، وآخر آتاه الله القوة فوقته في الجهاد، وآخر آتاه الله تعالى القدرة على العبادة، فوقته في عبادة وذكر.. وهكذا، مع وجود الواجبات المشتركة العامة، لكن من فضل الله -سبحانه- وتيسيره أنه جعل لكل إنسان ما يعمر به وقته من الخير، ومع ذلك فإن هناك كنوزاً ثمينة وغنائم باردة لكل مسلم، ولكل متقٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الفلاحة(1/5)
لو أخذنا مثالاً على ذلك، مهنة الفلاحة، ومعلوم أن الفلاحة هي أشق مهنة، وأكثر الناس في العالم قديماً وحديثاً مهنتهم الفلاحة، حتى الدول الصناعية الكبرى في العالم تجد أن الفلاحة وتربية الحيوان أكثر موارد الثروة عندهم، وأكثر قطاع من الناس يشتغل بها تقريباً، فكيف يحافظ على وقته وهو فلاح يعمل في الأرض، ولو حفظ وقته فيها لرأيت العجب العجاب، وذلك بأمور:
أولاً: أن يعلم أنه يزرع للآخرة، فهو في حياته الدنيا يزرع، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام } وكل إنسان هو حارث في الحقيقة، فأنا حارث باعتباري إنساناً، وأيضا عملي الخاص في الدنيا هو الفلاحة، فإذاً ماذا أفعل؟
انظر إلى هذه الشجرة التي أبذرها وكيف أرعاها، وكيف أنميها من جهة الدنيا، فأنا أنمي وأسقي وأريد أن تثمر وأن تكبر لأكسب بعد ذلك -بإذن الله- وأعف نفسي عن الناس، وهذا حق ومباح والله بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل الأرض بهذه المثابة من فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أتفكر كيف أن الفلاَّح تحصل له هذه الكنوز العظيمة التي يحصل عليها العلماء ويحصل عليها طلبة العلم من أين أجني مثلها؟(1/6)
فأنا عندي كنوز وأستطيع أن أزرع، في الجنة وأنا في الدنيا، لأن الجنة قيعان وغراسها ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأنت تزرع الأرض إذا قلت سبحان الله والحمد لله، فهذه التسبيحة نخلة، والتحميدة نخلة، والتهليلة نخلة، ومن هنا نقول للفلاح: قارن بين الفلاحتين -الله أكبر!- كيف نقارن بين نخلة أزرعها في الدنيا تمضي عليها السنوات الطوال حتى أجني ثمرتها، ومع ذلك فلو أن شخصاً قال لك: هذا النوع ممتاز (سكري) وهو ممتاز جداً، وبعد خمس سنوات ستأكل -إن شاء الله- منها، وتجني منها عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنك ستقول: أنا أشتريها منك بثلاثة أو بأربعة آلاف، وأزرع فيها وأنا مطمئن لأني بعد خمس سنوات سآكل من هذا التمر الشهي، ولا يوجد من يقول لك: إنك خسران في هذه البضاعة!
وهذا الوقت الذي أمضيه في سقيها والاعتناء بها، وهذه ثمرتها وهذه في الدنيا، فأين الجنة، وأين غراس الجنة؟!
الجنة تَغرس فيها بمجرد الذكر، ولا تسقي ولا تتعب، وأين الجنة من هذا التراب؟!
من الذي يقارن بين هذه الدار وتلك الدار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -سبحان الله!- أين أنهارها من أنهارها؟!
وأين ظِلالها من ظِلالها؟!
وأين زوجاتها من زوجاتها؟!
وأين ولدانها من ولدانها؟!
وأين وأين..، من المقارنات التي لا تنتهي! ليس هناك نسبة للمقارنة أبداً!
ومع ذلك فأنا أستطيع أن أعمل هذه الأعمال في هذه الدنيا، ولا أخسر الآخرة، بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
التجارة
وكذلك التاجر، الذي يريد أن يربح، كيف تربح لو أنك تشتري وتتصدق؟!
هذا لا شك من الخير العظيم، لكن نفرض أنك تاجر، وهذه التجارة على قدر ما يقيم حياتك وما تنفق به على عيالك، فنقول: هناك التجارة العظمى، التي تنجي من عذاب عظيم، التجارة مع رب العالمين في الطاعات.
تقول: كيف؟(1/7)
نقول لك: أُعمر وقتك بالتجارة حتى وأنت في دكانك وفي محلك وفي أي مكان تكون فيه، وتاجر مع الله بهذه الغنيمة الباردة، هذه الكنوز التي يغفل عنها أكثر الناس إلا من رحم ربي، إذا قلت: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعد صلاة الفجر في الصباح، كنت كمن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل وهي أغلى أنواع الرقاب، فلو أن صاحب مال قال: أنا من إيماني ومن إخلاصي لله تعالى سأشتري أغلى الرقاب التي هي العرب من ذرية إسماعيل، وأعتقها لوجه الله -سبحانه- فيعتق الله كل عضو مني بعضو منها من النار لكان تاجراً عظيماً، لكن هذا الإنسان التاجر الذي لا يجد هذه التجارة عنده وعند أي تاجر يكفيه أن يقول هذا الذكر، فانظروا كيف أننا نغفل عن التجارة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يمر على أحدنا اليوم والشهر -والله المستعان- وما قال هذا الذكر العظيم وكم يمر على بعض الناس ولا يذكر هذا الذكر ولا يقوله.
ولو تأملنا كيف اغتنم السلف الصالح أوقاتهم؟
لرأينا عجباً عجاباً وبحراً عباباً، لا نستطيع أن نفيه حقه.
كان أبو سليمان الداراني يقول: '' أحب ما عندي في الدنيا الليل، ولولا الليل لما أسفت على شيء من الدنيا, وإن أهل الدنيا لم ينالوا شيئاً من لذة أهل الجنة، إلا ما يجده أهل العبادة في الليل '' وهذه هي التي عبر عنها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما قال: ''إني لأكون في حالٍ أقول فيه لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير'' ليس كمن قال:
ما قيمة الليل لولا العود والوتر
لا بل:
ما قيمة الليل لا تتلى به السور(1/8)
كان عبد الله بن قيس رضي الله عنه الذي كان يقال له: راهب هذه الأمة يقول عندما جاءه الموت: ''والله لا أبكي على ذهاب الدنيا -كما يبكي الناس عند الموت على الأموال وعلى الأهل- ولكني أبكي على ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليلة الباردة في الشتاء'' فهو يبكي على هذا الوقت، لأنهم كانوا يصومون في شدة الحر، ويقومون الليلة الباردة في الشتاء.
ما أبعد حالنا عن حالهم! كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئاً من وقته أبداً، كان إما طاعة وإما عبادة، وكله عبادات وطاعات أو صلاة أو صيام أو فكر أو تذكر، فلا يخلو المؤمن من الفكر أو الشكر أو الذكر.
والفكر: شيء عظيم يغفل عنه كثير من الناس، ألا ترون أننا في هذه الأيام فيما يسمى بالعطلة، والتي نعطل فيها كل شيء، حتى إن البعض قد يعطل الجمعة والجماعة وكل شيء، لأنها عطلة! كلا، بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى بلد آخر، فأمامه فرصة عظيمة لاغتنام الوقت في التفكر في آيات الله، وفي مخلوقات الله، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا البحر أليس فيه ما يثير العجب العجاب عند المؤمن؟!
وهذه الكواكب والنجوم، لو تفكر الإنسان التفكر الصحيح لكان فيه من صفات المتقين، بل لكان في الذروة وهم أولو الألباب كما قال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191] سبحان الله! كيف هذه النجوم وهذه السماء وهذا الليل والنهار؟!(1/9)
فأنت تنظر وتقف مع الناس وكلهم ينظر إلى البحر وأنت تنظر معهم، ولكن شتان بين ناظر وناظر! ترى الحيوانات والمخلوقات، ولكن شتان بين ناظر وناظر، هذا ينظر في السمكة أنها سمينة تصلح للأكل، أما الآخر فينظر فيجد عجائب خلق الله، فيقول: سبحان الذي جعلها تعيش في الماء، وأنا أعيش في الهواء سبحان الله العظيم! ويعلم أنها تسبح الله، حتى الصغار التي لا نكاد نراها تسبح الله، والبر والبحر كله مليء بمن يسبح الله، وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] ونحن غافلون لاهون لاعبون عابثون نضيع الأعمار والأوقات.
ونقول: نتمتع ثم بعد ذلك نطيع الله ونتقيه، وهذا هو طول الأمل وهو أكثر ما خافه السلف الصالح، ولهذا كان يقول أحدهم: والله إني لأصلي الفريضة فلا أنتظر ما بعدها وإلا فلماذا خشعوا في صلاتهم؟!
لأن الواحد منهم كان يصلي صلاة مودع، لا ينتظر ما يصلي بعدها، فهذه هي الأخيرة فيخشع، والثانية الأخيرة فيخشع، فكان العمر كله خشوعٌ وعبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس هناك طول أمل.
وطول الأمل عجيب عند بعض الناس، وقد أخبرني أحدهم فقال: تعاقد أحد التجار مع شركة -وهي شركة كافرة- على بناء مصنع من المصانع، فقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع إذا أخذناه على أصل الأنواع والآلات؟
قالوا: يمكن أن يعمل مائتي سنة، ونضمن لك أن المصنع ما يزال يعمل هذه المدة، قال وبعد هذا أقفله! فكم عمرك ستين أو ثمانين، وكم بقي لك من عمرك؛ ولكن قد أودع الله في الإنسان طبيعة حب التراث حباً جماً ولا شك كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].(1/10)
لكن يا ابن آدم! ماذا يشبعك في هذه الحياة الدنيا، ما الذي يمتعك في هذه الدنيا، وما الذي يكفيك منها، ولهذا قال بعض السلف : إن نصف الورع ونصف العلم، في حديثين، قال: أما نصف العلم فهو في {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه }، وأما نصف الورع فهو في: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأنا -حقيقة- عندما قرأت هذه العبارة تعجبت كيف أتى بها هنا! ولا شك أنهم أفقه منا وأسبق منا إلى كل خير لكن ماذا يريد بقوله: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } وكيف يكون نصف العلم؟
لو قال: المحافظة على الوقت لكان هذا ممكنًا، لكنه يتحدث عن الوقت وجاء بها في باب نصف العلم، فرجعت إلى نفسي فقلت: نعم، لا شك ولابد أن لهم حكمة، لأنك لو شغلت وقتك في العلم -وأفضل ما يُعمر به الوقت هو طلب العلم، فالوقت كله لو حصرته في العلم فهذا أفضل، وأعني العلم الذي يورث الخشية والعمل والتقوى، فيكون الإنسان عالماً بالله وبأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سفيان - لو فرغت وقتك وعمرك كله للعلم وحده فكم ستحصل من العلم؟
ليس ما تريد، بل أقل منه، فخذ هذه القاعدة معك {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه }، فإنك لو طبقتها فكم ستوفر من الأوقات! فكأن أكثر الناس في الحقيقة نصف عمره هو فيما لا يعنيه، وكل واحد منا ينظر في نفسه، فلو علمت هذا وطبقته وتمثلته في نفسك لكنت فعلاً حائزاً على نصف العلم والنصف الآخر لديك، لأن العلم له فضول، حتى بعض المسائل من واقعنا لها فضول.(1/11)
وأضرب لك مثالاً من واقعنا: عندما يأتينا العالم من العلماء الذين وقتهم ثمين جداً -لأنه لو لم يأتنا في هذا اليوم لنفع الله به في بلد آخر، ولأفتى فتوى تقيم الإسلام في بلد، كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لما أفتى في التتار هبوا للجهاد من أطراف الدنيا- فهل جاءونا نحن لكي نضيع عليهم أوقاتهم فيما لا يعنيهم، فالأسئلة التي نسأله مكررة ومعروف رأيه فيها من قبل أن يولد، وليس فيها جديد، وكلامه ليس فيه جديد، ونترك قضايا مهمة جداً فلا نعرضها عليه، فأضعنا أوقاتنا وأوقات العلماء، فلو كنا نعرف نصف العلم ونطلبه لكان الحال غير الحال، إذًا فنترك ما لا يعنينا.
وأسئلة أكثر الناس، وحتى بعض طلبة العلم من باب الفضول، وفضول العلم وفضول المسائل يأتي من قبل الشيطان، ولهذا كان السلف الصالح لا يتكلمون إلا فيما وقع، ولما قيل لابن عمر رضي الله عنه: أرأيت لو أن رجلاً فعل كذا، قال: [[دع أرأيت في اليمن ]] فلا يوجد عندنا أرأيت فإذا وقع فاسأل، ولا تقل أرأيت لو كان كذا كيف أفعل، وإذا وقع كذا ماذا يكون، ولكن اشغل وقتك الثمين وهذا العقل والذهن وهذه الطاقة التي أعطاك الله إياها وهذا العمر الثمين فيما يعنيك، فإن الواجبات محدودة.
وأحب أن أنتقل إلى قضية مهمة جداً نغفل عنها كأمة في مجموعنا، وهي مسألة أننا لو حافظنا على أوقاتنا لكنا نقود العالم كله، وهنا سِّر عظيم لا يدركه إلا المؤمن، كيف ذلك؟
لنفرض أن عشرة ملايين من المسلمين استقاموا على الحق، فإن هؤلاء العشرة ملايين يستطيعون أن يقودوا العالم، بل بأقل من هؤلاء.(1/12)
ففي عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان العدد أقل، وسادوا العالم، وملكوا الدنيا، ونشروا الخير في شرق الدنيا وغربها، بهذا السبب لما عرفوا حق الوقت، فعبدوا الله بما يناسب هذا الوقت، فأعطوا كل وقت حقه، أعطوا الصلاة حقها وأعطوا الأهل حقهم، وأعطوا الجهاد حقه، وأعطوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقه، ففي هذا العمر المحدود فتحوها.
نابليون دنش بيلير قال ''هؤلاء فتحوا نصف العالم في نصف قرن'' كيف هذا؟!
في أقل من خمسين سنة! والحقيقة أن القضية ترجع إلى سر رباني!
سر رباني
يمكن أن نستدل على هذا السر الرباني بالأدلة الواقعية من كلام الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولكن يؤمنون بالعمل وبالجد والاجتهاد وضرورة حفظ الوقت، وهذا فقط للمعرفة والمقارنة لا غير.
أُجريت تحاليل -وهذه من الأشياء التي نستفيد منها جميعاً- في موضوع الطاقة الإنسانية، ما مقدار هذه الطاقة البشرية وما قوتها، وكل من يبحث في الإنسان وطاقاته المخزونة يقولون: شيء عجيب جداً! فإن الإنسان -أيَّ إنسان- يختزن من الطاقات ما لا يكاد يصدق! فلو أتينا إلى الإنسان العادي جداً، ومستواه من الذكاء عادي (متوسط)، فيمكن لهذا الإنسان لو فجر الطاقات التي فيه، أن يكون من أعظم العباقرة، وأكبر مما نتصور، ويمكن أن يكون من أعظم القادة في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المؤلفين في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المكتشفين في العالم، كيف؟
فيقولون إن الطاقة مختزنة وموجودة، لكنها تحتاج إلى ما يثيرها وإلى شيء يفجرها.(1/13)
فمثلاً: المتسابقون في الماراثون "السباق الطويل" وهو من عادات وبدع الجاهلية اليونانية ومن أديانهم، جعلوه شعيرة دينية يتسابقون عند جبال الألب جبال الآلهة ويقولون: هذه الجبال تسكنها الآلهة، وهذه عقائد دينية باطلة وانتشرت في العالم فيما بعد، فالمتسابق بعد عشرة أو عشرين كيلو إذا سقط وانتهى ولم تعد له قدرة على شيء يقول الأطباء عندما يفحصونه: ما زال هناك طاقة مخزونة حتى الآن، وهي طاقة عضوية لم تنتهي، وهذا شيء عجيب.
فما الدليل على ذلك؟
قالوا: إذا سقط المتسابق وهو يكاد يغمى عليه، وإذا بأسد فاغر فاه يريد أن يأكله فإنه سوف يقفز ويجري -فسبحان الله- من أين جاءت هذه الطاقة؟
هل نزلت عليه من السماء، قالوا: هذا دليل على أن الطاقة مخزونة موجودة، وكان بإمكانه أن يستغلها في الوقت الباقي وقد يكسب السباق، إلا أن المثير للطاقة والمفجر للطاقة كان ضعيفًا ولو كان موجودًا فيمكن أن يصبح بشكل أكبر.
لكن إذا ما أتينا لكي نطبق هذه القاعدة على واقع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، ماذا كانوا؟
كانوا أعراباً من الناس، وكل العرب كانوا كذلك، فكان منهم قريش وهم أهل فضل كذلك بنو تميم واليمن كغيرهم من الناس، لكن لما آمنوا وأسلموا كيف تفجرت هذه الطاقات، وكيف تولدت هذه المواهب؟
خذوا مثالاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان يرعى الغنم في نواحي مكة ، والرعاة في التاريخ آلاف بل ملايين، لكن إذا أسلم وآمن هذا الراعي -وغيره من الصحابة كذلك- فإنه يتحول إلى شيء عجيب.
مدينة الكوفة في الدولة الإسلامية التي تبلغ شهرتها شرق الدنيا وغربها، كان من أبرز الأئمة الأعلام فيها والذي تضرب إليه أكباد الإبل عبد الله بن مسعود ذاك الراعي! فكيف تفجرت وكيف أثيرت فيه الطاقات؟
فالقضية هي الإثارة، فتأتي الإثارة عند الصحابة رضي الله عنهم -وأسأل الله أن تأتينا في قلوبنا- فلم يروا كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.(1/14)
قال بعض السلف : إني أريد أن أنام فأتذكر الجنة أو النار فأهب كالمجنون، فلا يأتي نوم بعد ذلك فيقرأ القرآن ويصلي، سبحان الله يريد أن يجلس، فيتذكر أن واجباً عليه في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تريد أن تجعل هذا الوقت وقت راحة، ويأتيه فيه مثير قوي؟!
والحمد لله أن خلق المؤمن كذلك، فقد يأتيه الأمر من أمور إخوانه وربما كان على فراش النوم فيستيقظ وينشط لذلك العمل، وكأنه لم يرد أن ينام بل كأنه كان يبحث عن العمل، ولربما عمل بعمل أخيه الساعات الطوال، ومن هنا نعرف سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم لأن طاقاتهم كلها فجرت، هنالك الجنة وأنت تريد أن تنام فتتذكر الجنة، وما فيها من الحور والولدان، كما قال ذلكم الصحابي: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل، فرمى التمرات واقتحم ساحة المعركة، لأن هذه جنة فهذا هو المثير الأقوى، أنك تذكر الجنة فتتقدم، أو تخاف من النار فتتأخر، ولذلك تمكن المؤمن من ترك أشد الشهوات عنفواناً وضغطاً وقوةً كما حصل ليوسف عليه السلام، بل كما جاء عن الرجل الذي كان في الغار، لما أتت ابنة عمه وجلس منها كما يجلس الرجل من أهله فقالت: {اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه } فجاءته تقوى الله وكل تلك الشهوة تتفجر فقام وتركها لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه يأتي ما هو أقوى من كل شهوة وأقوى من كل غريزة وأقوى من كل مثير، فينسى الإنسان كل شيء ويعود قوياً مستقيماً ويفجر هذه الطاقة وهذه الحواس في الخير، يقول أحد السلف رحمه الله وهو وقد وثب على كبر سنة وثبة عظيمة -أي قفز- فلما رآها بعض الناس تعجبوا وقالوا: رجل كبير ويقفز هذه القفزة الهائلة، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر مما حرم الله، فحفظها الله لنا في الكبر فسبحان الله! لا تتبدد الطاقة فهي موجودة، فالنظر طاقة جعله الله -سبحانه- لنا، وركز نظرك وفكرك تجد العجب العجاب، ولكن هذه الطاقة هذه كالبترول لوأراقه صاحبه على الأرض فلن(1/15)
يستفيد منه أحد لكن لو وضعه في السيارة وشغلها لمشت السيارة بإذن الله.
بين المحافظة والضياع
هنا فرق بيننا وبين الكافرين، ولهذا نحن نغلب الكفار بأقل عدد وأقل عدة، إذا كنا مؤمنين بالله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] والكفار كما يقال الآن يخدعوننا بهذا القول، يقولون: إن الكفار عندهم جد وعمل ونشاط وكذا وكذا، وهذا صحيح، ولا شك أنهم يعملون لكن هم يعملون ثمان ساعات ويجتهدون لدنيا هم، ولا شك أن تفوقهم في الدنيا مبني على سنة ربانية، لكن هذا الكافر كم يضيع من الطاقة التي وضعها الله تعالى فيه أو المواهب، فكم تأخذ الخمرة إذا سكر؟
وكم يأخذ الحشيش إذا كان من المعربدين المحششين؟
وإذا كان من المدخنين فكم يأخذ الدخان من طاقته الجسدية، وأيضاً من قواه العقلية؟!
والزنا وما أدراك ما الزنا -نعوذ بالله- ماذا يفعل الزنا بالطاقة العقلية والقلبية -نسأل الله العفو والعافية- إذًا فهذا مبدد الطاقة.(1/16)
وفي إحدى الإحصائيات التي تتحدث عن هذه المسألة تقول: إن الفرد عندهم يعمل بربع طاقته فقط، وربما تكون اليابان أكثر عملاً من أمريكا ، أي أن الفرد الواحد يعمل بربع طاقته، فالأمة تعمل بربع طاقتها، ولهذا تفوقوا وعملوا ونحن المسلمين لا تبدد الطاقة عندنا في زنا ولا خمر ولا حشيش ولا لهو ولا لعب ولا تدخين..، فيكون الذهن أصفى وأنقى وأقوى، فلو أتينا باثنين أحدهما مسلم والآخر كافر ودرسناهم الإثنين في الفيزياء النووية أو في علم الفلك، ونفس المستوى والمعدل الذهني واحد، إلا أن هذا المسلم استيعاب محفوظه -بإذن الله سبحانه وتعالى- أقوى ومن المستحيل أن يتفوق هذا الكافر عليه، ولذلك تجد من الأمثلة المشاهدة الحية الآن الكثير، فتجد -والحمد لله- شباباً يذهب من بلاد العالم الإسلامي يدرس في أمريكا ويدرس في مجالات دقيقة جداً لا يدخلها إلا العباقرة الأفذاذ من أمريكا ، وهذا الشاب يشغل وقته في عبادة الله -وهذا مفروغ منه- فلابد أن يصلي ويصوم ويعبد الله، ويقوم بحق زوجته فليس كأولئك، -وأيضاً- ضيافة وزيارة إخوانه في الله، وتراه يقوم بالدعوة إلى الله، ومرتبط بمركز إسلامي في دعوة ويترجم ويتكلم ويدعو، وفي آخر السنة يتفوق على الأمريكي في الدراسة، مع أنا لا نقول: تفوق على السكير العربيد، بل يتفوق على الأمريكي الذي وقته كله مجتهد في العلم لكن أصل الطاقة مبدد، مهما حاول أن يجمعها شتت الله شمله وفرق همه، لأنه لا يرجو الله ولا يرجو الدار الآخرة، وإنما يجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشمل ويجمع الهم لمن أصبح وهمه الآخرة كهؤلاء الشباب والحمد لله.(1/17)
ولذلك فإن أعدى عدو لهذه الأمة أو من يخدم أعداءها، وهو يشعر أو لا يشعر هو الذي يريد أن تبدد طاقات هذه الأمة، وأن يبدد أغلى ثروة عندها وهي أوقات الشباب تذهب وتضيع في الفراغ، وفراغ عجيب أدركه أولئك الكفار، فقد ذكرت البرازيل أنه يجب أن يوضع حد لموضوع كرة القدم، ونشر هذا في الجرائد الرياضية وغيرها، قالت البرازيل : إن ملايين العمال يتأثر عملهم بسبب المباريات، فيصيب المصنع أو المعمل شلل كلي، أو شلل جزئي فتشغل الأمة بأوقات المباريات، والكرة تتجدد، فما بين الحين إلى الآخر دورة وراء دورة؛ لكي لا يستقر العقل من كثرة ما يدور، فأمة عقلها في ليله ونهاره يجري ويلهث لابد من حل له، بل وجدوا أن ساعات العمل تضيع، وطاقات الأمة تضيع، وهم كفار لا يؤمنون بالآخرة، ويهمهم أن يقضي العامل وقته في إجازة وفي فراغ ولا يكون مجرمًا.
وأكبر هدف الآن في الولايات المتحدة الأمريكية يتحقق في أن أوقات الفراغ لا تكثِّر الجرائم، هذا هدف عظيم أما أن يفعل الناس ما شاءوا فليفعلوا، ولهذا أصبحوا يبنون مجمعات كبيرة جداً للمنتزهات ومجمعات كبيرة فيها جميع أنواع الألاعيب والأهازيل، وأرانا بعض الإخوان إياه قال: هذه من أجل الأطفال في العطلة أو في المساء في غير وقت الدراسة، وفي جميع أوقات الفراغ حتى لا يتعاطى المخدرات، ومع ذلك يدخل الشاب يلعب ثم يعود مخدراً فلا فائدة؛ لأن الإيمان لا يوجد.
فأصبح الوقت طاقة، فأكبر ما يسعون إليه أن لا تأتي بشيء عكسي، أما المؤمن فيعرف قيمة العمر وقيمة الحياة يروى أن بعض السلف الصالح مر بقوم وهم في ملهى أو في مقهى جالسون، فأخذ يتألم! فقيل له: مالك؟(1/18)
قال: والله آسف، وأتمنى لو أن الأوقات تشترى كما تشترى البضاعة لاشترينا من هؤلاء أوقاتهم، تجده البعض يعود من العمل ثم يذهب يسهر في قهوة إلى قريب الفجر كل يوم، فيضيع عشر ساعات أو ثمان أو خمس كل يوم! أو يسهر على أنواع من اللعب إما لعباً فردياً أو لعباً جماعياً، فيا ليت الأوقات تشترى. إن من الناس من يبحث عن دقيقة أو ساعة أو يوم لكنها لا تباع! وليس بمقدوره أن يشتري! ومن الناس من يبحث عن قتل الوقت!
نحن الأمة التي جعلها الله تعالى أمة حية بهذا القرآن: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] ويجب أن نحيي الأمم بهذا القرآن، إلا أننا أصبحنا نتكلم عن قتل الوقت، كيف نقتله والعياذ بالله، كأنه نوع من المضادة اللفظية -على الأقل- ولما أمر الله أن تحيا القلوب والأوقات، أصبحوا يسمون ما يلهى به أو يقتل من العمر إحياءً لليلة فيقولون: حفلة أو زواج في هذه الليلة يحييها المطرب الفلاني أعوذ بالله! ووالله إنه ليميتها ويبددها ويشلها ويعطلها، لكن هكذا مفهومنا للحياة، مفهومنا للعمر أصبح يتمشى مع المفاهيم الغربية، فهي ترجمات حرفية للكلمات الغربية، نسأل الله العفو والعافية، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما نسمع وبما نقول.
معارضة أوقات العمل لأوقات العبادة
السؤال: لماذا لم يستغل الدارسون الواضعون لأنظمة العمال توقيت العبادات في توقيت أوقات العمل، -فمثلاً- لماذا لا تكون أوقات العمل والدراسة بين الفجر والظهر؟
الجواب: هذا هو المفروض، وأذكر عندما كنا في الجامعة الإسلامية وكان الشيخ ابن باز رحمه الله رئيساً للجامعة في رمضان قالوا: هل يعقل أن تكون مثل الدوائر الأخرى، نداوم من الساعة العاشرة إلى الثالثة؟!
فقالوا: نبدأ الدوام بعد الفجر بنصف ساعة وما يأتي الظهر إلا وقد انتهى الدوام، وسبحان الله شيء عجيب من الهدوء! ومحافظة على الوقت.(1/19)
إن المشهود والمعروف في الدواوين الإسلامية والعمال المسلمين والقضاة والولاة قديماً كانت أعمالهم تبدأ من بعد صلاة الفجر فيبدءون الحياة إلى صلاة الظهر، وهو وقت طويل ومبارك، ويكفي لإنجاز معظم الأمور، لكن هذه الأيام وفي أثناء العمل تذهب ساعة بحجة الصلاة، والله أعلم من يصلي ومن لا يصلي، والمهم هو ضياع الوقت،
أما الصلاة فهي حياة، وبعد هذا نرجع قريب العصر وخاصة في الأوقات التي يقصر فيها النهار، فيضطر كثير من الناس أن يتغدى وقت صلاة العصر ولا يصلي جماعة، وهذا أمر مشهود كما تلاحظون في نقصان الناس في صلاة العصر وكثرتهم في صلاة المغرب، ثم ينام إلى المغرب وربما لا يصلي المغرب، وإذا سألته؟
قال: الدوام! فهل أنت خلقت للعبادة أم للدوام؟!
فمن المفروض أن يكون الدوام في أوقات مناسبة، لكن نحن يجب أن نعرف حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وطاعة الله ومراعاة الوقت في هذا، و-عموماً- أنظمة العمل والعمال في الوطن الإسلامي مشتقة أو منقولة من النظام الذي وضعه مكتب العمل الدولي في جنيف التابع للأمم المتحدة، والذين وضعوه كفار لا يعرفون الآخرة ولا يعرفون صلاة ولا شيئاً، فلذلك نجد أن من وفقه الله -كما في بعض الدول وبعض الإدارات- يضع وقتاً للصلاة من عنده هو، وإلا فالنظام العالمي ليس فيه وقت صلاة، وإنما وقت يسمونه وقت غداء، لهذا في بعض الشركات -سبحان الله!- لا تستطيع أن تصلي إلا في وقت الغداء، فالصلاة ليست محسوبة نسأل الله العافية.
فهذا جزء من التفكير العلماني: أناس يخططون ولا يضعون في حسابهم الآخرة أو الإسلام، وإن كانوا غربيين فهل نتبعهم ونقلدهم ونقتبس منهم بغير وعي؟!
ضبط الأوقات نابع من صدق القلب
السؤال: نرى الغرب الكافر يحرص على وقته ولا يفرط فيه، ونحن المسلمين نضيع أوقاتنا سدى، هل لليهود دور في ذلك؟(1/20)
الجواب: الدور للقلوب الضعيفة، واليهود ما غصبونا ولا ضيعوا أوقاتنا، لكن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، لأن اليهود وجدوا أمة لاهية تحب اللهو، أما لو كانت أمة لا تقبل اللهو فكيف يلهيها اليهود؟!
ولنفرض أنهم عملوا أفلامًا ومجلات ولم يشتريها أحد، وأحياناً يوزعونها مجاناً -وهذا يحصل- لكن لم يهتم بها أحد فإنها تموت، لكن لما كانت الأمة تحب اللهو واللعب والمباريات حدث كل هذا، ولهذا كتبوا في البروتوكولات؛ أنه لابد من تشجيع المباريات والفنون إلى آخره لأنها تلهي الأميين وتشغلهم، ويخطط اليهود في غفلة هؤلاء الأميين عما يراد بهم، فالمشكلة أننا نحن نضيع أوقاتنا والغرب الكافر لا يضبط أوقاته، وبعض الناس يظن أن الإنسان الغربي يضبط وقته ليؤدي العمل، وهو يضبط وقته ليذهب إلى الملهى أو المرقص أو الخمارة، فلابد من أوقات معينة يعربد فيها وأوقات أخرى لكي ينام، فالعبرة ليست بضبط الوقت، ولكن ما الدافع وراء ضبط الوقت.
ولهذا هم استفادوا من هذا الجانب في دنياهم لأن المحافظة على الوقت تفيد في الدنيا ولا ريب، وخسروا أوقاتهم وخسروا آخرتهم بلا ريب، لكن في الدنيا خسروا الأمن والراحة والطمأنينة لأن هذا الضبط لغير الله ولغير الخير، أما نحن المسلمين فنضيع الأوقات ولا نضبطها، لكن مهما كان فالمسلم -وعلى الأقل المصلي- هو أضبط من الغربيين إن شاء الله، وأحرص منهم على الوقت.(1/21)
وأذكر مرة أنه زارنا ضيف في الجامعة الإسلامية -لكن أنسى اسمه الآن- وهو شاعر أمريكي من شعراء الهيبيز فجاء وأسلم وقابلناه في الجامعة الإسلامية فقلنا له: ما هو سبب إسلامك؟ فقال: ذهبت مع شركة إلى اليمن ، واخترت اليمن لما بلغني أنه ليس فيها أي أثر للحضارة الغربية خاصة ذاك اليوم، في أوائل (1390 أو 1392هـ) الله أعلم، فقلت أعيش بعيدًا عن الحضارة، لأنهم يكرهون الحضارة، قال: ذهبت إلى هناك وتعبت مع العمال، وجربت معهم كل وسيلة من صياح وشجار ولكن لا فائدة فهم فوضويون في كل شيء، في أكلهم وشربهم ونومهم، وفي إحدى المرات كنت أراقبهم فإذا أذن المؤذن قام واحد منهم وتقدم للصلاة وهم يصفون خلفه، فإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقلت للمترجم: قل لهم أنتم أمة غريبة جدًا! عملكم فوضى إلا هذه الحالة فما هو السر في هذا؟
فقال: إنها الصلاة وهذا هو دين الإسلام، فقلت: إن كان الإسلام يضبطكم وأنتم همج بهذا الشكل فأنا مسلم.
فنحن أمة همج لم يضبطنا إلا الإسلام، حتى المعربدين منا تجده يعربد بهمجية مما يجعله محل انتقاد من المعربدين الآخرين، لأننا -فعلاً- قوم لم نتأدب إلا بالإسلام ولا ننضبط ولا نستقيم إلا به، ولا ننتصر إلا به، وما زلت أذكر أننا لو أقمنا الصلاة لحاربنا بها المخدرات وضياع الأوقات، ومن فضل الله علينا أننا كلنا متفقون عليها ولا يشك فيها أحد، فوالله لو أقمناها حق الإقامة لما احتجنا إلى ما نحارب به هذه الأمم ولما خسرنا هذه الخسارة، فلو أقمناها لضبطت أوقاتنا وأعمالنا وأعمارنا، فكل شيء يضبط بإذن الله لو أقمنا الصلاة حق الإقامة، لكن الله المستعان!
محافظة الطالب لوقته
السؤال: كيف يستطيع طالب المدرسة المحافظة على وقته، وأنت تعلم ما يتخلل الفترة الدراسية من الوقت الذي قد يقول قائل: لا أستطيع أن أستفيد من وقتي لأعمال الآخرة؟(1/22)
الجواب: على كل حال هناك أمور نحن لا نريدها، لكن إذا فرضت علينا مثل النظام المطور، ونحن في الجامعة نشتكي ونصيح ومع ذلك يدرس، وإذا به يعمم على الثانويات، وقالوا: إنه من الممكن أن يطبق في ثانويات البنات، الشاهد فرضاً أنه وقع، كما في الثانويات المطورة، فالمؤمن يحاول أن يكون مرناً مع أي حادث، ومع أي ظرف فيوظفه ويسخره لما ينفعه، فخذ كتابك معك، أو خذ أي شيء من وسائل الفائدة معك، واجلس أنت وزملاءك في ساعات الفراغ هذه إن كانت موجودة لتستفيد من الوقت، وحاول أن تكيف واقعك لتستفيد من الوقت بقدر ما تستطيع، ما دام أنه أمر واقع لا مفر منه. لو استطعنا أن نغير وأن نقضي على هذا بأن تتبنى المدرسة شيئاً مفيداً كأن يكون هناك حلقات تحفيظ قرآن أو نشاط في الدعوة الإسلامية لكان هذا شيئاً جيداً، وهذا الواجب وهذا هو المفروض، لكن إذا لم يوجد أي شيء فلا تعذر بل لا بد أن تجتهد، فتسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتذكره وحدك، وتقرأ القرآن وحدك، أو تخاطب أحد الطلاب وتدعوه إلى الخير في هذا الوقت فهذا أيضاً فرصة، حتى لو أن الإنسان ينشط جسمه ويمرنه بأي شكل ويستفيد من وقته، هذا أيضاً شيء مفيد، والمهم أن لا تضيِّع هذا الوقت في خسارة.
تذكر الموت باعث للنشاط
السؤال: أنا شاب هداني الله بعد الضلال وأعاني من مشكلة وهي أنني أذكر الموت كثيراً، وعند ذكري له فإني أبقى في الفراش وأشعر بتكاسل وخوف شديد، ولا أستطيع عمل أي شيء وأخاف الانتكاس؟
الجواب: هذا عكس المفروض، فإن المفروض أن يعطيك ذلك قوة في الإثارة والطاقة، وهذا عجيب -يا أخي- هداني الله وإياك، هل من يذكر الموت يتكاسل؟!
قد يكون الأخ عنده ظرف آخر، لكن أقول: الصحابة لما كانوا يتذكرون الموت كانوا يهبون ويعملون ويجتهدون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/23)
إذا تذكرت الموت، فتذكر أن الله سيسألك عن الصلاة فقم إليها ولا تتكاسل عنها، وتذكر أنه يجب قبل أن يدركني الموت أن أستفيد من هذا الوقت في طاعة الله، فاجتهد في طاعة الله وفي طلب علم أو دعوة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
إن تذكر الموت قوة إيجابية للمؤمن وهو كما أشرنا من أعظم ما يثير همة المؤمن ويجعل طاقته تزداد يوماً بعد يوم، فيتذكر أنه سيموت فيجتهد أن يلقى الله سبحانه بأوفر وأوفى نصيب من العمل الصالح.
ضياع الأوقات
السؤال: تواجهنا صعوبات في استغلال وقتنا عند الاجتماع بالأهل والإخوان وفي الحفلات والعزائم، ويكثر في ذلك الكلام غير المفيد فما هو الحل؟
الجواب: أولاً: لا أرى الحل في أن الإنسان دائمًا يأخذ معه كتاباً، ويقول ما دمنا نذهب إلى الوليمة وعند الأهل والأقارب فنأخذ معنا كتاباً! وهذا واقع فإننا نرى بعض الإخوان يسلم على أمه وأبيه، ثم تذهب أمه لتأتي بالشاي وهو يفتح الكتاب ويبدأ يكتب ويحلل، يا ولدي لماذا هذا؟
يقول: لكي أحافظ على وقتي!(1/24)
نقول: نعم أن الإنسان لا يضيع وقته لكن ليس من إضاعة الوقت أن تجلس مع أمك أو أبيك وتؤنسهما في الحديث، وتشرح لهما بعض الأمور حتى لو كلموك، وأنت قد ترى أنه كلام عادي لكن لابد أن تطيل النفس معهم وكذلك الأهل والأبناء وكذلك الجيران، بل احتسب أنت هذا الوقت وحاول أن توظف هذا الكلام ولو كان عادياً جداً لتأليفهم على الخير ولتحبيبه إليهم ولإفادتهم ولتستفيد أنت -أيضاً- فهذا مكسب لك وأجر إن شاء الله، ولا يجوز أن نفهم أن الجد في طلب العلم وفي الدعوة والعبادة معناه أن كل الوقت خشوع وقراءة وبكاء، بل نكون كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قام بأعظم فأعظم الواجبات وهو واجب الدعوة والنذارة للعالمين، ومع ذلك كيف كانت حياته وعشرته ومباسطته لأهله ولضيفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللوفود كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنموذجاً فريد جداً والحمد لله الذي حفظ لنا سيرته، وإلا كنا نتخبط ونجتهد، قد نقول: إنه ما كان ينام أو ما أشبه ذلك فلا داعي لهذه الافتراضات، فالسيرة الصحيحة موجودة نقرؤها ونعمل كما عمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك في حفلات الزواج أنا لا أرى أنه كلما تجمع الناس تكلمت مدة طويلة ثلاث ساعات حتى يأتي العشاء! هذا غير صحيح، لكن لا بأس بأن يتكلم شخص كلمة خفيفة وذاك يأتي بشيء آخر وهكذا حتى تكون الجلسة متنوعة، فلا نجعلها على شكل واحد معين فنتْعب ونتعِب، ونمَل ونُمِل.
علاج النسيان وتفاوت القدرات
السؤال: أنا طالب في أحد المدارس الشرعية أشتكي من النسيان، فقد نسيت دروس الترم الأول مع بعض الأجزاء من القرآن، حيث إن ما أحفظه بالأمس أنساه اليوم، وجاءت الإجازة وعلي ست مواد شرعية أريد مراجعتها ولكني أؤجل إلى غد حتى هذا اليوم، وأنا لم أنته من كتاب، فما سبب النسيان للمواد الشرعية والقرآن، وبماذا تنصحني في استغلال وقتي؟(1/25)
الجواب: إما أن يكون النسيان هذا لأسباب تتعلق بتفريط من الأخ، أو أنه من الله عز وجل وكل شيء من الله.
لكن هناك سبب مباشر منه، وهو أن بعض الناس لا يذاكر ولا يهتم ولا يقرأ ويضيع وقته ويلعب، وإذا حفظ السورة من القرآن فلا يراجعها، ثم يقول نسيت! حتى لو درست وفهمت، فكل شيء له طريقته، وفرق بين الحافظة وبين الذاكرة، فأنت قد تحفظ الدرس أول ما يشرحه المدرس، لكن إذا لم تراجعه فلا تذكره، فأناس عندهم حافظة وليس عندهم ذاكرة، وأناس عندهم ذاكرة وما عندهم حافظة، يعني يحفظ ببطء شديد لكنه إذا حفظ رسخ الحفظ، لأن الذاكرة قوية، وهناك من لديه ذاكرة وحافظة، وأناس لا يوجد عنده شيء، لكن نقول: إن الله سبحانه جعل الناس مواهب، فإن كان لديك موهبة لكنك لا تذاكر ثم تقول: أنا فهمته لكن نسيته، فمرِّن الذاكرة بدوام الاستذكار، وحياة العلم مراجعته ومذاكرته، أما من يقول: أنا أقرأ وأراجع ولكن إذا ذهبت إلى البيت لا أفهم شيئاً، فنقول لك كما قال الأصمعي : ''أتى رجل إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وقال: أريد أن أتعلم العروض، فلم يفهمه، ومر عليه أول يوم وثاني يوم ثم قال له الخليل: قطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
''
فقطع الدرس ولم يعد، وعلم أنه لا يمكن أن يتعلم هذا العلم، فإذا لم يوفق الله العبد على طلب العلم فلا يتعب نفسه فيه ويذهب ليتعلم شيئاً آخر، فقد يكون عاملاً نشيطاً أو مهندساً أو ميكانيكياً أو أي شيء آخر من الأشياء التي لا يراد لها جهد وكدٌّ كبير، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما إرغام النفس على ما تأباه فهذا لا يكون ومما لا يؤدي إلى نتيجة.
حكم تارك الصلاة
السؤال: عندي أختان متزوجتان برجلين لا يصليان، وأكثر أقاربي لا يصلون، فكيف يكون موقفي؟
مع العلم بأني نصحت أزواج أخواتي، وجزاكم الله خيراً؟(1/26)
الجواب: لم يذكر الأخ هل نصح الأختين أم لا، وهل تصليان أم لا، لأنه إن كانت الزوجة لا تصلي والزوج كذلك لا يصلي فالله المستعان!
لكن إذا كان الزوج يصلي والزوجة لا تصلي أو العكس فهنا تكون المشكلة، إذ كيف تبقى مسلمة في عصمة كافر، أو كيف يرضى مسلم ببقاء عصمة كافره، فهنا الخلل، ولذلك نقول: على أية حال لابد من بذل النصح والاجتهاد معهم في الدعوة إلى الله، وإلى إقامة الصلاة ولا تقطعهما، واجتهد في النصيحة.
وهذا معلوم فإن كثير من الخلق يرفض الدعوة وقليل منهم من يقبل، وإن قبل أحد فلنفسه، وإن لم يقبل أحد فما خسرنا شيئاً والحمد لله، وهذا عملنا فلا نيأس ولا نقنط ولا نتخلى عن هذا الواجب، ولا نهجر الناس لمجرد أنا لا نستطيع أن ندعوهم إلى الله إلا بعد أن نرى أننا استنفذنا كل ما نستطيع، والله سبحانه يتولى أمرنا وأمرهم، وكثير من الناس قد لا يسمعك الآن لكن قد يهديه الله بعد أيام أو بعد سنين، ولو على كبر فلا تحتقر أن تلقي إليه الخير الآن لعله يتذكره يوماً ما، ولو قبل الموت يتذكر ويتوب ويشهد أن لا إله إلا الله، ويتمنى لو عوفيت لعبدت الله ولصليت، فقد يموت على خير مما لو مات وهو مستحل لترك الصلاة مثلاً، نسأل الله العفو والعافية.
استغلال الوقت في الأمور المباحة
السؤال:هل تكون الألعاب المباحة مضيعة للوقت؟(1/27)
الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: { كل لهو يلهو به المرء باطل إلا ثلاث ملاعبة الرجل أهله وفرسه وسلاحه فإنهن من الحق } هذه من الحق وما عداها فباطل، والباطل قد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً لما يشتمل عليه من عدم التفرغ إلى الحق، والمهم أنه ليس في ميزان المكسب، بل في ميزان الخسارة، فإن لم يكن هو خسارة وتجارة خاسرة في ذاتها، فأقل ما فيه أنه أضاع الوقت عن المتاجرة الرابحة، ومن هنا وتطبيقاً لذلك وإيماناً بأهمية الوقت والحياة كانت حياة السلف الصالح النموذج الواضح في المحافظة على الوقت من اللهو واللعب، ولكن كيف كانوا يفعلون كانوا كما قال معاذ لأبي موسى كما في الصحيح {أما أنا فأنام وأقوم فأصلي، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي }، يعني أن المؤمن لا يضيع أي شيء من وقته، لكن ما كان من وقتك ليس في صميم الجد فهو للترويح عن النفس ولتقوى على هذا الجهد، ولهذا قال بعض السلف في مثل هذا الموضع: إن النفس كالدابة، فإن أجهدت الدابة فسرت بها ثلاثة أيام ولم تطعمها ولم ترحها، هلكت وماتت ولم توصلك إلى المراد، وإن رفقت بها وخففت وأطعمتها وصلت بإذن الله، فلابد من شيء مما يستجم به المؤمن ويستعين به على الطاعة، لكن لا يكون في حرام ولا في لهو أو لعب، بل بعض من وفقه الله للخير، وفي سير السلف الصالح نماذج لذلك يقول: إذا أظلمت علي الأمور وكثرت علي الهموم أذهب إلى المقابر، وكان يحدثني شخص قبل أيام فقال: إذا كثرت علي الهموم جداً والمشاكل أذهب إلى المقابر، وأرى أحوالهم وأعتبر بها فيذهب الهم كله، سبحان الله! هذا موفق للخير، وآخر يتفكر في المخلوقات فينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتعجب، في الليل والنهار التي جعلها الله تعالى خلفة كيف تسير؟!
وكيف تسير هذه الكواكب؟!(1/28)
ويتفكر في الأحياء والأموات والطيور والأعشاب وكل شيء يفكر فيه، فيكون ارتاح من عمله من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم: أنه ذكر الله وعبده وقضى وقته بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا المؤمن بإمكانه أن لا يخسر أي شيء من وقته.
ضياع الوقت أشد من الموت
السؤال: ما معنى قول ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد : '' ضياع الوقت أشد من الموت ''
الجواب: لأن ضياع الوقت يقطع عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، وإذا مات الإنسان وهو متقٍ مؤمن فإنه ينقطع عن الدنيا وأهلها، ويجاور الملأ الأعلى ويترك هذا الملأ، وهذا ليس بخسران بل هو فوز رابح، وكل الناس هالك وراحل، ولكنه هو رحل من هذا الملأ إلى الملأ الأعلى، ومن هذه الدار إلى دار القرار والنعيم والحمد لله، لكن المشكلة ضياع الوقت في غير طاعة، لأنه يقطعك عن الله وعن الدار الآخرة، ولهذا تجد الذين يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب ويضيعون الطاعات، تجد قلوبهم قاسية مختوم مطبوع عليها، وتجد أحدهم حماراً في النهار جيفة بالليل، ولربما أصبحت العكس الآن فهو حمار بالليل لأنه أكثر إقامته، فهو حمار في وقت إقامته، وجيفه في وقت نومه -والعياذ بالله- لأنه مقطوع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن ذكرته بالله، قلت له: اتق الله أو أي شيء مما يقربه من الله، لكنه مقطوع الصلة بينه وبين الله، ولهذا فهو ميت:
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء
وميت الأحياء: حي بالشعور والإحساس ولكنه ميت القلب والإيمان نسأل الله العفو والعافية.
الانشغال بحل مشاكل الناس(1/29)
السؤال: أنا أحد الشباب الذين لهم دور في نشاط الحي والحمد لله، ولكن هذا يأخذ علي أغلب وقتي في حل المشاكل والاجتماعات وفي أشياء أخرى، علماً بأن هذه المشاكل قديمة جداً وقد ضيعت أوقات الشباب الذين سبقوني في الحي وأنا لا أرى أي تقدم في هذه المشاكل، فهي تختفي فترة ثم تعود، فأنا في حيرة من أمري، هل أبقى على هذه الحال علماً بأني لو بقيت لكنت شبه الشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، وقد أستطيع أحياناً أن لا أحترق لكن يذهب علي وقت قد استغله لنفسي مثل الرحلات والخرجات والجلسات، وقد فكرت في الانقطاع الكلي والاستفادة من وقتي لنفسي، لكن أنكر علي الكثير من الإخوان بحجة كتمان العلم وعدم خدمة الغير، وأنا في حيرة من أمري ولا يمكن أن أكون وسطاً فهذه بالنسبة لي لا أستطيع لظروف هذه المشاكل علماً أنها مكررة، وحلها شبه مستحيل؟
الجواب: هذا من قدر الله الذي ابتلانا به، ولابد أن نصبر، وأن نوفق ونسدد ونقارب فهذه مشكلتنا كلنا، فأحياناً نقول: نسحب التلفون حتى لا يدخل أحد علينا، فتأتيك أشياء أخر، فهذه مشكلة، وخاصة كما تفضل الأخ، فقد يكون في الحي إمام مسجد أو داعية، فماذا يفعل؟!
هذا يريد أن يتوب، وهذا يريد أن يهتدي، وهذا عنده مشكلة يريد أن يحلها، فلابد أن نجتهد، فهذا الزمان تقارب الناس فيه، وتقاربت وسائل الاتصال فيه، وأصبح يمكن للشخص أن يشغلك من أمريكا وأنا بعض الليالي تأتني مكالمة حوالي نصف ساعة من أمريكا ، فإن أغلقت الباب أتاك من يدق عليك من جهة أخرى، كان الناس يرحلون في السابق على الإبل وأما الآن فالتلفون قد قرّب الأماكن، وهذه ضرورة فماذا تفعل؟(1/30)
والوسطية شيء جميل وليست بمستحيلة وهذا شيء لابد منه، وهذا قدرنا وهكذا أراد الله، فلابد أن نجتهد في ذلك، فلو أقفلنا الأبواب والوسائل جميعاً وبقينا على أنفسنا فقط، فإن ذلك لا ينفع ولا يليق بنا ولا ينبغي لنا، ولو فتحنا الباب على مصراعيه، فلن نستفيد أبداً، والناس كل منهم يأتيك ويظن أنه الوحيد، ويقول لك: عشر دقائق، وما علم أن هذه الكلمة يقولها كل أحد قبله، وأن الأعشار ضيعت الأعمال، فلابد من التوفيق ولهذا نقول للإخوة: يجب أن نتقِ الله في أوقات بعضنا، ونحفظ أوقات إخواننا، والشباب لابد لهم من مربين ولابد لهم من موجهين وهذا لا شك فيه، وهذه ضرورة لابد منها.
لكن أن الأخ كما قال: يربي ويربي ويحل مشكلة ثم تعود فهذا خلل فينا نحن، فالذي يربينا ربانا واجتهد وتعب، ثم ننتكس ونعود وكأنه لم يفعل شيئاً، فلابد أن يكون التعاون منا ومنه، ولا بد أن يصبر الأخ هذا على ما يلاقي من إخوانه وعلى الإخوان أن يتوجهوا، وأن يحافظوا على وقت أخيهم أو موجههم مثلاً.
وأيضاً ما يتعلق بالعامة، وإن كنا أحياناً نتعب معهم ونضيع الوقت معهم، بكلمة كيف الحال، وكيف الأخبار، وكيف الأمطار، وكيف الدراسة؟!
لكن ينبغي أن لا نجرح شعورهم، فلابد أن نصبر لأنه هكذا أراد الله، ولعل دعوة مثل هؤلاء الناس هي التي تبارك لك في ربع ساعة تقرأ فيها، ولعل بركة هذا العلم والدعوة هي في مثل دعاء هؤلاء الناس، أو في الإحسان إليهم أو شيء من هذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أعظم الناس عبادة ودعوة ومحافظة على الوقت، استوقفته عجوز ووقف معها حتى قضى حاجتها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلابد أن نصبر، ومع ذلك ينبغي من الناس الإلحاف.
ولما سأل رجلٌ رجلاً آخر وطلبه ولم يعطه قال: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟!(1/31)
قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً، فلابد من الطرفين، ولابد أن تؤثر ولو كان بك تعب أو ظروف ونسأل الله أن يعيننا على هذه الأعذار.
تأسيس قاعدة الدعوة إلى الله
سؤال: أنا أتجول أحياناً فأجد كثيراً من الشباب على معصية الله -والعياذ بالله- فأفكر وأهم أن أذهب إليهم وأدعوهم، ثم أفكر وأقول لو فتح الله على قلوبهم واهتدوا كيف أتابعهم فيما بعد وأنا مشغول جداً فأخاف أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكأننا ننفخ في رماد إلا أن يكون هذا شبيهاً ببعض رجال الدعوة الذين يذهبون إلى الخارج فيسلم بعض الكفار على أيديهم ثم يتركونهم ويرجعون إلى بلادهم؟
الجواب: قضية كيف نحافظ على طاقة الأمة، لا شك أن هذه الأمور مما يجب أن ننبه إليها، ونرجو أن يستوعبها الإخوة وخاصة هذا الجمع فكلنا طلاب علم، فأقول: يجب علينا أن ندرك أن المجاهدين والعاملين في الأمة قليل وأن أثمن الأوقات هي أوقاتهم، ومن هنا فعلينا أن لا نبدد هذه الطاقة فهو حرام، وإن كان أحدهم يقول: أنا لم أبذل شيئاً، فأقول لك: لا يا أخي بدلاً من الذهاب إلى تجمعات الشباب هؤلاء في الكورنيش لتنصحهم، أو في البر لتتكلم معهم، فهذا في الحقيقة ليس عملك الدائم في حياتك، بل اجتهد وركز على مسجدك وعلى الشباب الذين يدرسون معك، ومع من حولك، فأنا أرى أن يركز أحدنا ولو على مدى معين، فلا تنتظر أن يأتيك المشايخ، ولو أنك كل أسبوع تدعو إلى الله في بلد فإنك لا تؤدي شيئاً، أنا أعترف بهذا ولا نغالط أنفسنا، نعم إنه قد يوجد الخير، لكن لا توجد ثمرة أكيدة، مثل أن تتابع بذرة معينة.(1/32)
فالتركيز لابد منه، ولكن أيضاً إن ذهبت إلى المكان النائي على الشاطئ، ولقيت أناساً على الطريق في وقت الصلاة فكلمهم وأنصحهم أما أن تقول: أذهب إلى السوق وأنهى عن المنكر فإنك تضيع عمرك كله، فالسوق كله منكرات، ولن تستفيد منه علماً ولا أي شيء آخر، لكن إذا ذهبت إلى السوق ثم رأيت المنكر فأنكره، ففرق بين الصورتين لكن نحن كدعاة لابد أن يكون للسوق مكان، وللشاطئ مكان في حساب الدعاة ككل، لكن فردياً لا، ولهذا نقول: إن الأمة في حاجة إلى تجميع الجهود، واستخلاصها بأفضل أسلوب، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينمي الطاقات ويربيها، ويضع هذا للقضاء، وهذا للعلم، وهذا للجهاد، أهَّلَهم فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا بهذا أقضى الناس، وهذا أعلم الناس، وهذا أشجع الناس، لما رُبيت الطاقات ورُكزت في أهداف محددة.
بعض الإخوة ذهبوا إلى كوريا ، ودخل عدد من الكوريين في الإسلام ولكن لم يتابعهم أحد، قالوا: المفروض أن نتابعهم، وجاءوا إلى هيئة الإغاثة وجاءوا إلى الرابطة وقالوا: تابعوهم، قالوا: نحن ضيعنا دولاً مسلمة، فكيف نتابع عشرين شخصاً أصلهم في كوريا فيجب أن نكون واقعيين وندرس الأمر بفعل الثمرة الحقيقية.
إن البلد أو الأمة الإسلامية لابد لها من قاعدة تتأسس وتكون منطلقاً، ومن هنا كان حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة، ومن هنا كان الذين آمنوا ولم يهاجروا ليس على المسلمين من ولايتهم من شيء، لأنهم لم يهاجروا إلى بلد الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع على الهجرة حتى فتحت مكة حتى تكون قاعدة للإسلام وحتى تكون مرتكزًا للإسلام وهذا المرتكز يمد العالم، لكن إذا كان بلا قاعدة وبلا مرتكز فلا فائدة، وعندما نقول: بلدنا هذا، فهل يمكن أن يكون هناك مرتكزاً للإسلام بديلاً عنه، لا يوجد لسببين:(1/33)
أولاً: السبب التاريخي الموروث وهو: وجود الحرمين فيه وهو منبع الهداية والحمد لله.
ثانياً: أنه الآن أكثر المجتمعات الإسلامية قرباً من المنبع وأكثرها محافظة، إذًا فهذا نجعله قاعدة، ولهذا أرى أن تركز أهم الجهود هنا ولا نترك الخارج، فإذا كنت مبتعثاً في مكان ما فلا يمنع أن أركز عليه، وهذا لا ينافي أن يكون اهتمامي الكلي منصب على القاعدة.
وكما ترون الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلبيني -مثلاً- هذه البلاد هي مصدر العلم والتصور الصحيح للجهاد عندهم، ولذلك فهم يأتون إلى هذه البلاد وكذلك هي مصدر المال.
فلو أن هنا قاعدة مؤسسة تأسيساً كاملاً بحيث أن كل تجارنا يتبرعون، وكل شبابنا دعاة ومخلصون ومضحون، فكيف ستكون الأمة؟!
كنا سنمدهم بأقوى المدد وينتصرون أعظم انتصار، والآن المضحون قليل، ومع ذلك فعلنا الأعاجيب ونفع الله بهم -والحمد لله- منفعة كبيرة، وهم قليل، ولو كان ما يصرف على اللهو واللعب يصرف على صميم الدعوة، وحفظ كتاب الله، وعلى حفظ أوقات الشباب، فكيف يكون الشباب؟!
ونحن الآن على قلة الشباب فعلوا الأعاجيب، كما قلت لكم في أمريكا وغيرها، لو كان كل الشباب على مستوى هؤلاء الشباب لفتحنا العالم مرة ثانية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا غرابة في ذلك أبداً، ولحققنا ما يسمى معجزات وهذا في وضع الضعف، فكيف لو كنا في حالة القوة وكانت الأمة كلها قاعدة للدعوة إلى الله.(1/34)
شباب في أمريكا يدفعون من راتبهم وهم يدرسون، من أجل أن يستأجروا قناة في التلفزيون يدعون إلى الله سبحانه، والأمة في مجموعها تستطيع أن تشتري في أمريكا خمسين قناة أو أكثر، لأن الأمة عندما تدفع فليست كفرد، فأنا الآن -مثلاً- لي قدرة أن أدفع عشرة ريال، لكن البلد يستطيع أن يدفع عشرة ملايين، فقد يهتدي العالم كله -بإذن الله- ولا يبقى إلا من حقت عليه الضلالة، ومن هنا كانت ضرورة التركيز وأن نهتم بهذا البلد أن لا تفتك به المخدرات والأفلام، ولا تفتك به المغريات والملهيات، ونؤسس قاعدة الإسلام الكبرى -إن شاء الله- ومنطلقه العظيم هذا البلد، وهذه قد بشر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معتصم المسلمين في آخر الزمان يكون في بلاد الشام -إن شاء الله- وقلعة الإسلام ستكون هناك لكن هذا دليل على أن جزيرة العرب مضمونة، عندما نكون في بلاد الشام ونحارب الروم وغيرهم في بلاد الشام ويكون فسطاط المسلمين كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغوطة من دمشق ، وهو مخيم القيادة، ومعنى ذلك أن الجزيرة العربية مضمونة.
ومن هنا حتى لا تبدد الطاقات أرى أنه لو ركزت الدعوة في شبابنا وفي مدارسنا وفي حاراتنا فبهذا نكسب الأمرين معاً، نكسب الدعوة هنا في القاعدة، ونكسب الخارج لأن هذا المرتكز هو الفئة التي هي فئة كل مؤمن كما قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مؤمن. كان المسلمون إذا وجدوا أن أعداءهم أكثر من ضعفيهم وما يستطيعون القتال يفروا ولا يقولون: قد فررنا؛ لأن الله قد قال: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة [الأنفال:16] فهم يعتزون بهذه القاعدة، وبفضل الله أن هذه البلاد عجيبة، فقد أودع الله فيها من الطاقات العقلية والطاقات المادية ما لم يودعه في غيرها، وتتهافت وتسعى إليها قلوب ألف مليون مسلم، وفي بعض البلاد إذا مشيت وأنت بالغترة يكادون أن يقطعونها ويقبلونها والحمد لله.(1/35)
الأمر الآخر: هذه الصحراء كانت سياجاً لنا في الماضي، فالروم والفرس لم تكن لهم قدرة على دخولها، حتى الإنجليز قالوا: لن ندخل هذه البلاد خمسون ألف جندي تذوب رءوسهم من شدة الشمس، في الصحراء ومن يستطيع أن يقاتل في الصحراء! ولنغض الطرف عن جزيرة العرب ، فالآن جاءت التكنولوجيا المتطورة ولم تصبح مشكلة -أيضًا- فقد أعطانا الله في جوف هذه الصحراء قوة ما كنا نحلم بها، وهي قوة البترول والذهب والكنوز والطاقة الشمسية التي يقول العلماء عنها: إن كان البديل عن البترول فهو الطاقة الشمسية، ووجدوا أن أمريكا وأوروبا يغطيها السحاب طوال العام، وأكثر مخزون للطاقة الشمسية في الربع الخالي، فلا مشكلة لدينا لأن الأمر في أيدينا وستظل هي التي -بإذن الله- يمكن أن تكون قاعدة لفتح الدنيا كلها، فلهذا يجب تركيز الجهود، ولهذا نحن نتألم عندما نرى كثيراً من الإخوان يتكلم عن مشكلة الاختلاط ويتضاعف عندنا الألم إذا علمنا أنه يجب علينا بذل عمل أكثر، وهؤلاء هم شباب الأمة الذين يجب أن يكونوا مرتكزاً وقاعدة للدعوة إلى الله، فالشيوعية تأتي من كل جهة، والعلمانية ، الإباحية، والرافضة ، والقاديانية ، كل منهم يطمع فينا، وتداعوا علينا كما تداعى الأكلة على قصعتها، ونحن الذين يجب أن نفتح الدنيا بالإيمان، وأنتم ترون الآن كيف تضيع الأوقات وكيف تبدد الطاقات؟!
والله المستعان! ولهذا أقول: كل إنسان منا لابد أن يستشعر واجبه، ويضحي في سبيل هذا الواجب، ويستعين بالله على ذلك ونحاول أن نركز الجهود.
والحمد لله رب العالمين.(1/36)
قيمة العمر
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الحمد لله الذي هدانا للإيمان، أما بعد:
فإن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه موضوع عظيم -وإن كان ليس جديداً- ولكن يجب أن نذكره، ألا نغفل نغفل عنه، فإن الله تبارك وتعالى خلقنا في هذه الحياة الدنيا لحكمة عظيمة وغاية جليلة، وجعل الليل والنهار وهذه الأعمار مطايا وأوعية لهذه الغاية وتلك هي الحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، وإنما جعل لنا هذا الدين، وبعث إلينا هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل إلينا الكتاب، وعمَّرنا ما يتذكر فيه من تذكر، ولهذا يقول تبارك وتعالى لأهل النار: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] فقد عمر الله تعالى هؤلاء القوم ما يتذكر فيه من تذكر وأعطاهم من العمر مهلة وفسحة تكفي بأن يعتبر من يعتبر، وأن يتفكر من يتفكر، وأن يتذكر من يتذكر، وأن يتأمل كل أحد، لماذا جئت؟ ومتى سأرحل؟ وبأي وجه ألاقي الله تبارك وتعالى؟(2/1)
فمن آياته عز وجل أنه َهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] فجعل الليل والنهار خلفة أي متواليين يخلف أحدهما الآخر لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً اً [الفرقان:62] فمن أراد أن يتذكر أو يعتبر فلينظر إلى هاتين الآيتين العجيبتين الليل والنهار، فلو أن الله تبارك وتعالى جعل النهار علينا سرمداً إلى يوم القيامة، أو جعل الليل كذلك وكانت الحياة لا تتغير ولا تتبدل لغفلة كثير من الخلق عما يعد لهم، وكان ذلك أدعى أن ينسوا الموت ولا يتفكروا في النهاية والعاقبة، فيظلون يعملون ويكدحون حتى يأتيهم الأجل، لكن من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل هذين يتداولان ويخلف أحدهما الآخر.
فأنت في نهار يعقبه ليل، وفي ليل يعقبه نهار، فتعلم أن انقضاء النهار ومجيء الليل هو انقضاء لعمرك وانقضاء لجزء منك، كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[إنما أنت هذه الأيام فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك ]] وذلك إلى أين؟ إلى الدار الآخرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن لكلٍ منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا ومن أبناء الدنيا ]] فكل يوم يقربك ويدنيك من القبر ومن الآخرة، ويبعدك عن الدنيا ومتاعها وعن لحظة الميلاد، والعمر إنما هو بين الميلاد إلى الوفاة.
ولو تأمل العاقل وفكر لوجد عجباً مما يغري الناس ويلهيهم ويطول أملهم، يجد أن ما مضى من العمر أحلام، وما بقي منه أمانٍ كما قال بعض السلف : ما مضى أحلام، كالنائم إذا نام ورأى في المنام ما يعذبه ويؤذيه، ثم أفاق وقد ذهب ذلك الألم، أو رأى في نومه ما يسره ويفرحه ويبهجه، ثم أفاق وقد ذهبت تلك البهجة وتلك الفرحة.(2/2)
فانظروا بارك الله فيكم فيما مضى من أعماركم أهو حلم قد انتهى؟ ما كان فيه من راحة أو متعة أو فرحة أو لذة أو بهجة -فالعمر هو كما ما ترى في المنام- وما كان غير ذلك وخاصة إذا كان من معصية الله تبارك وتعالى فقد وقع، كما قال أحد التائبين رضي الله تعالى عنهم قال: {{ذهبت اللذات وبقيت التبعات }} وأما ما بقي من عمرك فهو آمال، ولا تدري هل تتحقق أم لا تتحقق، فلهذا يقول الله تعالى في حق الكفار: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، وكما في الآيات العظيمة أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2].
هذا المستقبل آمال قد تموت الليلة أو غداً أو بعد غد، وقد لا تدرك مما تؤمل شيئاً، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل } وهذا حال المؤمن، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه لما روى الحديث قال: {إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء } وهو يفسر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناه، هذه حقيقة المؤمن أنه في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل الذي لا ينوي الاستقرار، وإنما يتأهب ويتهيأ ويستعد للرحيل، فما لديه من ساعات أو أيام في سفره فهي استعداد وتهيئة لكي يصل المقر الذي يكون فيه.(2/3)
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {مالي وللدنيا! ما أنا فيها إلا كراكب قال تحت شجرة ثم قام وتركها } أي: أنه ارتاح وقت القيلولة تحت شجرة ثم قام وتركها، هذا هو حال الدنيا، والعمر هو فترة القيلولة هذه، تبقى ثم ترتحل وتترك هذه الشجرة، فما حال الذي يعلم أنه إنما يعيش مثل هذه القيلولة؟ هل رأيتم مسافراً ذهب إلى صحراء في وسط الطريق بين البلد الذي خرج منه، والبلد الذي يريد الوصول إليه فأقام هناك، ووسع الفراش ووطَّأه، وأتى بكل أدوات الاستقرار، وأقام هناك وقال: هذا مكاني؟! لا يفعل ذلك عاقل أبداً، لأنك راحل، وليست هذه دار مقام.
ولهذا ذكَّر الله تبارك تعالى، وذكَّر الرسل الكرام، وذكَّر عباد الله الصالحون بهذه الحقيقة قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، قليل: زينة وتفاخر وتكاثر، ولكن تذهب كما يمضي الليل أو كما يمضي النهار، ويقول بعض السلف في هذا: [ عجبت لمن كان يومه يأكل شهره، وشهره يأكل سنته، وسنته تأكل عمره وهو في غفلة] اليوم الذي يمر ينقص من الشهر يوماً، والشهر الذي يمر ينقص من السنة شهراً، وكلما مرت عليك سنة فقد قلَّ من عمرك.
فقال العلماء في قول الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] بعضهم قال: إنه أربعون سنة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15] فالأربعين كافية بأن يتذكر الإنسان، وقال بعضهم: لا. بل نستند إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة } فبعدها يتوقع الموت أو القبر.(2/4)
لو فرض أن عاقلاً يريد أن يسافر إلى مكان أو أنه مشى في طريق طوله ستون ميلاً، فوصل إلى لوحة مكتوب عليها الباقي ثلاثون ميلاً فإنه سيقول في نفسه: لقد اقتربت لأنني الآن في النصف، وكل شيء مضى منه نصفه فهو قريب الانتهاء، وإذا كنت مسافراً إلى المدينة -مثلاً- والمسافة هي حوالي 400كم من مكة أو جدة فوجدت لوحة أمامك 200 كم تقول : الحمد لله، اقتربنا من المدينة وهكذا حياتنا.
وهكذا في كل شيء من حياتنا إلا في الموت والعمر، لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ]] الموت هو الشيء الوحيد الذي نخل فيه بهذه القاعدة -قاعدة رياضية بسيطة سهلة نستخدمها في حياتنا كلها- إلا في العمر والموت، فلا تجد ابن الثلاثين منا يقول: أنا عمري ثلاثين إذن أنا اقتربت من الموت، وكل من رآه قال: تبارك الله! ما زلت في عز الشباب وبدايته، مع أن كثيراً من الناس لا يبلغون الستين، ولهذا قال بعض الحكماء: '' أكثر الناس يموتون وهم شباب'' وإذا أردت أن تتأمل ذلك فلاحظ أن أكثر الناس يموتون وهم شباب أي لا يبلغون إلى الستين، بل يموتون بعد الأربعين أو ما حولها، وانظر إلى قلة الشيوخ في القرية أو في الحي، وهذا دليل على أن أكثرهم ماتوا وهم شباب.
الإنسان بين الغبن والنذير(2/5)
فإذا كان هذا الحال فتأمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ } ولهذا قال بعض السلف (إن المغبون من غبن الليل والنهار) ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرجعة قال تعالى عنهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
فيقول: كلا. فقد عَمَّرك الله ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءك النذير، والأولى بتفسير الآية أن أي وقت أمكن لأحد فيه أن يلقى الله ويتذكر الآخرة فقد عمَّره الله، وأبلغه الله ما يتذكر فيه من تذكر.
أما النذير فقد قال بعض العلماء: (النذير هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولا شك أنه نذير وبشير ومنذر كما جاء في الذكر الحكيم، لكن بالنسبة لكل واحد منا فقد جاءه نذير أكثر من ذلك، النذير: اسم لكل ما ينذرك بدنو أجلك وقرب ارتحالك، فالنذير هو القرآن وهذا حق، والنذير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاءنا وعلمنا وهذا حق، والنذير هو: الشيب كما فسر ذلك أيضاً بعض السلف ، فالشيب إذا ظهر فهو نذير، وإن لم تره فيك ورأيته في غيرك فاعلم أن غيرك أيضاً سيرحل، والنذير أيضاً: الموت، إذا رأيت الموت قد حل بمن تعرف، فاعلم أنه إن أخطأك اليوم وتعداك إلى غيرك فإنه نازل وواقع بك غداً، إذاً جاءك النذير مما تراه في مخلوقات الله تعالى.(2/6)
جاءك النذير من أحوال الغابرين من أهل الحضارات القديمة، أين الذين أخبر الله تعالى عنهم ممن بنوا وشادوا، أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من كان قبلهم وقال الله تبارك وتعالى عنهم: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أين هم؟ أين الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130] أين عاد؟ أين ثمود؟ أين قوم نوح؟ أين فرعون ذو الأوتاد؟ أين وأين.. كل هؤلاء قد ذهبوا، إذاً جاءكم النذير. مَن مِنا يستطيع أن يقول: ما جاءني نذير، أو ما علمت وأتاني الموت فجأة، أو أتاني أمر الله غفلة، لا أحد له عذر.
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا أحد أحب إليه العذر من الله } ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق فلله الحجة البالغة على الخلق جميعاً، وإنما هي الغفلة.. وإنما هي الغباوة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله تبارك وتعالى } فالسماوات والأرض والجبال والطير والأنهار، وكل ما في الوجود يذكر الله وأعظمهم ذكراً الملائكة، وما استثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا طائفتين لا تذكران الله تبارك وتعالى قال: {إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم } فالمردة هم شياطين الجن، وهم شر محض لا إيمان ولا خير فيهم، وهؤلاء لا يذكرون الله تبارك وتعالى.(2/7)
وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل يوم محسوب عليك، وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد، إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة، وإذا بالعمر فجأة ينتهي، فهذا فيه عبرة لمن اعتبر.
ومن العجب أن بني آدم أحرص شيء على هذه الدنيا، ولو تفكر ابن آدم لوجد أنه من أقل مخلوقات الله عمراً، سبحان الله! فبعض الطيور يعيش 300 سنة أو 400 سنة، والأشجار تجد الشجرة عند البيت من عهد جدك ومن قبله ولا تزال موجودة، ويموت الابن وابن الابن والشجرة موجودة، أما الجبال والبحار فهي أكثر بكثير، ولكن الإنسان يظن أنه الوحيد المخلد الذي يمتلك هذه الدنيا، ولذلك لو تأمل العقلاء ما اختلفوا وما اقتتلوا، وما بغى بعضهم على بعض من أجل قطعة أرض، أو من أجل بئر، هذه الدنيا طوت قبلنا أمماً عظيمة وقروناً طويلة، وسوف نطوينا بعد كذلك.
الغفلة عن الآخرة
إن كل ما نرى في هذه الحياة الدنيا مما يتقاتل عليه الناس، ويبغي بعضهم على بعض بسببه، وما يشغلهم عن ذكر الله من أراضٍ أو دور أو عقار ما هو إلا عارية عندهم ينتقل من بعضهم إلى بعض، وكلما انتقل إلى شخص قال: هذا بيتي.. هذه أرضي.. هذا ملكي، ولو تأمل في حاله فسيرى أنه ما وجد إلا أياماً قليلة بالنسبة لعمر هذه القصور التي كانت قبل ثلاثين أو أربعين سنة تعد أفخم وأعظم وأفخر القصور، والتي لو تهدى إلى بعض الناس اليوم هدية والله ما يقبلها، وإنما يقال: انتبه لا تذهب إليه هذا خرابة، وفيه جن -مثلاً- أو كذا -سبحان الله!- أليس هذا من الدلائل الواضحات؛ على أن هذه الدنيا لا تستحق أن نتنافس من أجلها، ولا أن نتدابر أو نتقاطع أو نتهاجر ونتحاسد من أجلها.(2/8)
وإنما الواجب أن نعمر أوقاتنا ونستغل حياتنا في ذكر الله، وفي عبادته، وفي طاعته، وفي العمل بما يرضيه، ولا يعني ذلك أن نتركها، وألا نقتني البيت الحسن، أو المرأة الصالحة، أو المركب المهيأ، ما قال أحد بذلك لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن المشكلة هي الغفلة عن الآخرة بالكلية وأن نتعلق بهذه الدنيا، ورحم الله من قال:
والله لو كانت الدنيا بأجمعها تُبقي علينا ويأتي رزقها رغدا
ما كان من حق حرٍ أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا
يقول: لو كانت الدنيا هذه باقية، وأننا مخلدون فيها ومتاعها يأتينا رغداً، ونحن إن شئنا بقينا فيها، وإن شئنا قلنا يا رب نعمل صالحاً وتنقلنا إلى الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفكروا في هذه المعادلة لو قيل لك كذلك: أنت مخير بين هذه الدنيا فتدوم دواماً أبدياً لا نهاية له ولا موت فيه، ونعيمها دائم وهو نعيم دنيوي، أو أن تعمل فيها وتجتهد لطاعة الله وتقول: يا رب انقلني إلى الجنة التي فيها هذا النعيم الذي ليس في الدنيا منه إلا الأسماء، ماذا يختار العاقل؟ العاقل يقول: لا أختار الدنيا على الآخرة، فهو متاع قليل زهيد لا يساوي شيئاً، بل أختار أن أجتهد، وأن أعبد الله وأقول: يا رب اجعلني من أهل الآخرة، وانقلني إليها حتى أنال هذا النعيم، فهذا لو كانت الدنيا دائمة، ونعيمها يأتي رغداً، فكيف وهي مضمحلة زائلة، وتخرج منها مضطراً من غير خيار؟!(2/9)
قال بعض السلف عندما زاره أخٌ له في الله فرأى بيته، ورثة حاله، وقلة متاعه، فقال له: إن هذا حال من يتهيأ للرحيل، قال: أهو ارتحال؟! إنما أطرد طرداً، أي ما هو بارتحال على هوانا، بل نُخرج وننُتزع ونُطرد من هذه الدنيا، إذاً هل يختار العاقل متاعاً قليلاً وضئيلاً ونكداً ومنغصاً لا تدوم نعمته ولا لذته ويطرد منه وينزع منه بلا مقدمات فجأة؟ كما قال الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17] لا يفعل عاقل ذلك أبداً؛ لكن هذا حالنا قال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27].
والواجب على المؤمنين المتذكرين المعتبرين الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول والألباب ألا يكونوا كذلك، بل لابد أن يعلموا أن أعظم نعمة أعطوها في هذه الحياة الدنيا أن يعطى من العمر ومن الصحة والفراغ ما يعبد الله تبارك وتعالى فيه ويتقرب إليه، ولا يخسر من وقته شيئاً ولا كلمة مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
بعض السلف جاءته ابنة له وهو بين إخوانه في الله قالت: يا أبت أريد أن ألعب فأعرض عنها، فقأل الآخر: قل لها تلعب، قال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً، وهذا جائز وليس فيه شيء أن يقال ذلك؛ لكن من شدة تحريهم -رضي الله تعالى عنهم- يعلمون أن كل كلمة وكل دقيقة محسوبة عليهم، وكل لحظة في الحياة يجب أن تستثمر في طاعة الله عز وجل.(2/10)
ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أصحابه من بعده والسلف الصالح كانت حياتهم كلها ما بين جهاد وعبادة، ما بين قراءة قرآن وأداء حقوق للعباد، فأعطوا كل ذي حق حقه، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى حصل لهم قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] هذا من باب الصدقة، وهذا من باب الجهاد، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من باب الصيام، وهكذا كل منهم اجتهد في طريق أو أكثر من طرق الخير، فهو يذكر الله ويجاهد في سبيل الله.
وكان بعض السلف في المعركة يجاهد ويقرأ القرآن أو يذكر الله حتى لا يضيع الوقت، فله أجر الجهاد وله أجر الذكر، أناس عرفوا قيمة العمر، وعرفوا قيمة الحياة، وعرفوا أن الجنة سلعة الله، وعلموا أن سلعة الله غالية.
مر بعضهم بأناس في مقهى -وما أكثر من في المقاهي أو في الملاهي أو ما يسمونها: شاليهات أو منتزهات- وهم جالسون يضيعون الأوقات في الحديث واللعب واللهو، فتندم وتحسر، قالوا: مالك؟ قال: تمنيت والله أن الأوقات تشترى! فقد تحسر أن لو كانت الأوقات تشترى لاشترى من هذا يوماً، ومن هذا يومين، ومن هذا ساعة، ومن هذا شهراً، ويعمل فيها ويجتهد فيها لطاعة الله، لكن الأوقات لا تشترى.(2/11)
فمن لديه غفلة فإن أوقاته ضائعة، وتراه يقول: احترت اليوم ولم أدر أين أذهب، أي: لا يدري كيف يضيع الوقت، والمؤمنون الذاكرون لا يستطيع الواحد منهم أن يفي بالواجبات الملقاة عليه، ويتمنى أن يزيد اليوم ساعة أو نصف ساعة أو دقائق ليغنمها في أداء واجب، أو في عمل طاعة تقربه من الله تبارك وتعالى؛ أو في علم يستفيده ويعمله فيكون من ورثة الأنبياء، أو في ذكر لله أن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أو في آية يتلوها من كتاب الله وهو يعلم أن الحرف الواحد بعشر حسنات {لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف } فهل يضيع هذا ممن يعرف قيمة ذلك؟.
وبعض الناس يضيعون أوقاتهم في متابعة المسلسلات التلفزيونية، أو قراءة مجلات لا فائدة من قراءتها وكم من كتاب لا خير فيه فإما مجون، وإما عبث، وإما عقائد باطلة أو فلسفات يظل الإنسان يقرأ فيه ويحقق ويلخص بل يحصل شهادة الدكتوراه، أو الماجستير قد يُمضي فيها الإنسان سنوات طويلة حتى يتخرج وينال الشهادة فيها وهي كلام تافه لا قيمة له ولا منفعة منها، فهذا أفنى زهرة عمره وريعان شبابه فيما لا خير فيه، والبعض يعشق فتاة فيظل يلاحقها، وينتظر تخرجها، وبعد التخرج يتهيأ لزواجها ويبذل ما يبذل، فأضاع العمر كله من أجلها، ولسنا نقول لأحد: لا تأخذ الشهادة، أو لا تتزوج، ولكن أن يضيع العمر في هذا، فهذا لا يليق بالمؤمن.(2/12)
أما إن أضاع وقته في الحرام فهو عليه عقاب، وهو عليه حساب وحسرته مضاعفة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة } أي: حسرة وندامة ونقصاًُ هذا إذا كان مباحاً، لكن لو كان مجلس غيبة أو لهو فهذا لا شك أنه إثم وندم، فكيف إذا لم يكن الندم على مجلس واحد بل على عمر، وعلى الشباب الذي يقضيه كثير من الناس، هذا في تشجيع الكرة، وهذا في اللهو واللعب والفنون الشعبية، وهذا في متابعة الأفلام والسهرات، وهذا في ضياع الأوقات في التمشيات، وهذا في كذا من العلاقات.
فتضيع الأعمار ويذهب الشباب ولا حصيلة من ذلك إلا الخسارة والإثم الذي يلاقي به الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ثم يستحي أن يعرض عليه هذه الأعمال وهو قد عملها، إن كل عاقل في هذه الدنيا ليستحي أن يراه بعض الخلق على ما لا يرضيه، فكيف بالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى وفي ذنوب مجتمعة، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ورحم الله من قال:
هبه تجاوز لي عما أسأت به واحسرتى من حياء يوم ألقاه
فالعاقل هو من يأخذ من دنياه لآخرته، من يأخذ من صحته لمرضه، من يأخذ من فراغه لشغله، من يأخذ من غناه لفقره، وقد أرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا، وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فهذا العمر أمانة، وهو نصيبك من الدنيا الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] نعم لا تنس رزقك الذي كتب الله تعالى لك أن تأخذ منها في الحل، وأن تنفق في حقه، وأيضاً لا تنس نصيبك من الدنيا ومن هذه الأيام، فلا تضيعها فيما لا خير فيه.(2/13)
فالواجب علينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعظ أنفسنا، ونعظ إخواننا هؤلاء -وما أكثرهم!- يأتون ويقولون: هذه عطلة وهذه إجازة، وكأنها عطلة من كل واجب أوجبه الله تعالى، وكأنها إجازة من كل ما افترضه الله تعالى، وكأنه يباح فيها ما كان حراماً قبلها.
وهذه العطل لو كنا أمة فاتحة، لو كانت جيوشنا قد عادت بعد أن فتحت روما وقهرت أوروبا وحررت الهند ، والصين وفتحت العالم لما كان هذا العبث لائقاً بنا، فكيف ونحن بهذه الحالة من المآسي والفجائع والنكبات في كل بلد من بلاد المسلمين؟!
كيف ونحن في هذه المهانة والضعف والذلة من بين العالم؟! كيف ونحن مسئولون بين يدي الله تبارك وتعالى؟! العاقل منا والعالم سيقف بين يدي الله ويسأله عن الغافلين، كيف يليق بنا أن نلهو ونعبث، وأن نظن أن هذه العطل أو الإجازات أو أي لحظة من هذا العمر أننا فيها أحرار نمضيها كيفما نشاء، نترك الجمعة والجماعات، ونتخلف عن أوامر وواجبات كثيرة، وننظر إلى ما حرم الله تعالى؟!
فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعمل بوصية الله التي أوصانا بها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ونعلم أن كل آت قريب، وأن أجل الله تبارك وتعالى آت، وأننا موقوفون بين يديه، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنجعل عمرنا وأوقاتنا هذه ساعات: ساعة كما جاء في بعض الآثار [[ساعة تناجي فيها ربك، وساعة تحاسب فيها نفسك، وساعة تتفكر فيها بخلق الله، وساعة تعمل فيها لمعيشتك ]] نجعل أوقاتنا هكذا، ولا تعارض بين هذا أبداً ولله الحمد.
فلنحفظ الله تبارك وتعالى في أوقاتنا، ولنحفظه في جوارحنا، ولنحفظ في أعمارنا، ولنتق الله حيثما كنا كما أوصى أيضاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن }.(2/14)
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يَمنَّ علينا بتقواه وطاعته ورضاه، وأن يرزقنا البصيرة والتذكر، وأن يجنبنا الغفلة والسهو واللهو عما افترضه تبارك وتعالى علينا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يتقبل منا طاعتنا، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، إنه سميع مجيب.
شهوة الشباب وكيفية ترشيدها
السؤال: أنا شاب صغير في المرحلة المتوسطة أحضر حلقات العلماء، وأحفظ القرآن، ولكن يدور في ذهني أفكار وصور كنت شاهدتها قبل هدايتي، والآن لا أستطيع الصبر عن هذه الشهوة التي ما تكاد تذهب عني، فاضطر إلى فعل العادة السرية، وأنا حائر في أمري لا أجد حلاً طبياً لهذه العادة، فما هو السبب القاطع لهذا الحرام؟
الجواب: الكلام في هذه القضية يطول، لأنه لا يتعلق بهذا الأخ وحده، ولا يتعلق أيضاً بالشباب وحدهم، ولا بالآباء وحدهم، هذه القضية قضية المجتمع كله، قضية الأمة التي تدفع بالشهوات، وسائل إعلام تدفع بالشهوات وتبهرجها وتزينها في الإعلانات، وفي المسلسلات، وفي الأحاديث، وفي اللقاءات، وفي الكتب، والأحاديث بين الناس، والهواتف والمعاكسات، والأسواق وما فيها من مثيرات، كذلك التبرج وغيره كل هذه دواعي شهوة تجتذب الشباب.
والشاب حائر إما أن يقع فيها فيضل ويتوه، أو أن يريد أن يعف نفسه فلا يستطيع، حتى مثل هذا الأخ في المتوسطة لا يمكن أن يتزوج لأننا قد اختلقنا أوضاعاً غير عادية، فأصبح المتمسك المهتدي يعيش حالة غير عادية فيضطر أن يقع في الحرام -والعياذ بالله- أو أن يفعل هذه الفعلة وهي من الحرام؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7] فأي شيء وراء ذلك فإنه تعدٍ لحدود الله تبارك وتعالى.(2/15)
فأوصي هذا الأخ بتقوى الله، وأوصي إخواني جميعاً بغض النظر وترك هذه الشهوات، والمغريات، والمثيرات، وأن نتعاون جميعاً على تقوى الله تبارك وتعالى وإعفاف وإحصان الشباب ذكوراً وإناثاً.
وبهذه المناسبة أمامنا دعوة للمشروع الخيري للزواج، وهو مشروع عظيم النفع -نسأل الله تعالى أن يثيب المحتسبين القائمين عليه بخير الثواب- وهم يدعونكم إلى التبرع وإلى دفع ما تجود به أنفسكم، ونبشركم -والحمد لله- أنه قد استفاد منه حتى الآن 3700 شاب وشابة، وصرف لهم مبلغ (24.000.000) ريال، وبلغ عدد المواليد الأوائل لهؤلاء الشباب حتى الآن 531 مولوداً ولله الحمد، هذه نعمة فكيف لو كان في كل حي وفي كل قرية وفي كل قبيلة مثل هذا التعاون على الخير، ومع ذلك فإن هذا لا يغني عن وجوب الدعوة إلى ترك المثيرات فإنه واجب على الجميع على مثل هذه الحالة التي يعاني منها هذا الأخ.
إيثار الدنيا على الآخرة
السؤال: ما حكم من يتخذ الأسباب ليستيقظ للعمل ولا يتخذها لصلاة الفجر، نرجو التنبيه على ذلك؟
الجواب: هذا هو الذي ينطبق عليه القول المأثور: دينار أحب إلى أحدهم من صلاته -والعياذ بالله- دنياه أحب إليه من صلاته، وظيفته أو عمله أحب إليه من دينه، إذاً هذا دنياه مؤثرة على آخرته، فهذا هو الخاسر الذي باع العظيم الباقي الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بالحقير التافه الزائل الذي كله نكد وآلام، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوقظ قلوبنا جميعاً لذكره وتقواه، ويجعلنا ممن يؤثر الآخرة على الدنيا.
وساوس الشيطان
السؤال: إنه يعتلي قلبي خواطر وأفكار - لا يريد ذكرها- وبعد ذلك يقول: وأشعر بضيق في قلبي، وألم وحرقة، فما هو الحل والعلاج؟(2/16)
الجواب: دائماً يأتي مثل هذا السؤال ويتكرر، وهذا دليل على الهداية -والحمد لله- لأنه عندما تكثر مثل هذه الأسئلة فإنه دليل على أن المهتدين كثير، وأبشركم أن هذا دليل خير، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر أصحابه بذلك، بل قال: {أو قد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان } النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: {أو قد وجدتموه } كأنه شيء ينتظره، وكأنه لا بد منه، وهذا شيءٍ ملاحظ أن كل من يتوب ويهتدي لا بد أن يجد هذا، فبعد فترة من هدايته يجد شكوكاً وخطراتٍ ووساوس وأموراً غريبة، ويتألم ويكون كما قال الصحابة: {إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به } لا يريد أن يقوله لأحد، لأنها لم تكن تأتيه في حال الغفلة، واللهو واللعب، والآن بعد الهداية والالتزام والتمسك تأتيه فيتعجب من هذا، ولكن أبشروا فإن هذا محض الإيمان ولهذا قال في رواية أخرى: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة } أي أنه ما بقي للشيطان في قلبك إلا هذه الوساوس، فاصبر عليها، وهي تذهب من البعض بعد شهر أو شهرين أو أقل أو أكثر، فنرجو لك يا أخي الشفاء، ونسأل الله أن يشفي قلوبنا جميعاًُ إنه سميعٌ مجيب.
نصيب الإنسان من دنياه
السؤال: كيف تأخذ نصيبك من هذه الدنيا، وهل هناك مقدار معين؟(2/17)
الجواب: نصيبك من الدنيا هو هذا العمر، فقد أوصى الله تبارك وتعالى في قوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أوصى بها الأغنياء جميعاً، وإن كانت تتحدث عن قارون أي: خذ بحظك الذي كتب الله لك في هذه الدنيا ولا تضيعها قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] هي للمؤمنين في الدنيا استحقاقاً، أما غيرهم فلا يستحق منها شيئاً إلا لتفاهتها وحقارتها {ولو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء } لكنه لتفاهتها وحقارتها جعلهم شركاء فيها، فنصيبك من الدنيا -أي من الحياة- وهو العمر، هو هذه الأيام، فعليك أن تتقي الله ولا تضيعها.
حكم العمل مع من يتهاون في الطاعة
السؤال: إني شابٌ ملتزم -والحمد لله- ولكني أعمل مع أناس لا يصلون ويتهاونون في طاعة الله، فأرشدني ماذا أفعل، فهل يجب علي ترك العمل؟(2/18)
الجواب: أما من كان يعمل وهو في إمكانه أن يدير العمل، أو كان رئيساً ولو لمجموعة قليلة كمدير مدرسة -مثلاً- أو رئيس قسم أو إدارة، فالواجب عليه أن يأمر من تحت يده بطاعة الله وتقواه، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده } والتغيير باليد في حق كل ذي ولاية: في بيتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في إدارتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في الإمارة إن كنت أميراً، أو في الوزارة إن كنت وزيراًُ، في الدولة إن كنت حاكماً، وهكذا يجب التغيير باليد ولا يجوز أن تنزل عنه إلى اللسان، وأما إذا كان مأموراً مرءوساً أو كلهم زملاء له فالواجب عليه النصيحة، والإنكار باللسان والموعظة، فإن نجح في ذلك فالحمد لله، أما إن غُلب وأصبح يخشى أنه يترك طاعة الله ويتهاون فيها، أي خشي على نفسه من ذلك فليترك هذا العمل، وينتقل إلى بيئة صالحة طيبة.
الكتب التي تهدى إلى النصارى لدعوتهم إلى الدين
السؤال: في حيّنا نصارى كثيرون، وأريد أن أدعوهم إلى الدين، فما هي الكتب التي تنصحني أن أهديها لهم؟ مع العلم أنهم يفهمون العربية؟
الجواب: النصارى هؤلاء أول ما ينبغي أن تخاطبهم وتكلمهم وتحدثهم وترى عمق ما عندهم من دين، أكثر هؤلاء القوم وهذه الملة -بالذات- أكثرهم لا يعرفون من دينهم شيئاً، ودينهم دين متناقض، وأكثرهم ينتسب إليه انتساباً فقط، فإذا جلست إليه وخاطبته فاسأله عن التثليث، كيف يكون الواحد ثلاثة، كيف يكون الله تبارك وتعالى ثلاثة؟ تعالى الله عما يشركون، كيف يكون لله ولد وصاحبه، فإذا شككته في هذه العقيدة الباطلة الفاسدة وتهيأ للتوحيد، فعلمه إياه بأي كتاب تراه مفيداً من كتب التوحيد، وفي إمكانك أن تشرح له ذلك، ومن أسهل ما يمكن في الدنيا أنك تدعو النصراني للإسلام، فيمكن لأي أخ أن يتحدث مع أي نصراني -ولو كان من أكبر القساوسة-(2/19)
وحين ذهب بعض الإخوان إلى ألبانيا وسجلوا بعض المشاهد، من جملتها أن طفلاً صغيراً يبلغ عمره 11 أو 12 سنة جاءه أحد كبار رجال الدين من روما إيطاليا هذا الطفل ناظر ذلك الكافر النصراني مناظرة عجيبة جداً وهو طفل صغير يقول له: كيف يكون الواحد ثلاثة؟! كيف تجعلون لله ولداً؟! كيف أدخل أنا ديناً متناقضاً، أو بعضه يناقض بعضاً وبعضه يكذب بعضاً؟ فهو دين وواضح البطلان، واضح البهتان، فلا إشكال في دعوتهم، إنما المشكلة أننا ننظر إليهم ونعظمهم ونقدرهم، فالمشكلة فينا نحن وليست في دينهم.
مجاهدة النفس
السؤال: عندما أذهب إلى المحاضرة أتوب إلى الله، وعندما أذهب إلى البيت يتغير قلبي وتمسكي، فكيف أعمل؟
الجواب: هذه الحالة بالضبط وبالذات شكاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، { شكاها حنظلة ومر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال له: مر بأبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا أبا بكر ! نكون ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة وساعة }.(2/20)
فالواجب علينا أن نحاول أن نستزيد من إطاله فترة هذا الإيمان، ومن إطاله فترة الرقي أو السمو الإيماني، واللذة الإيمانية التي نشعر بها، نحاول أن نطولها فلعل الملائكة تصافحنا في الطرقات، لكن لو ضعف ذلك فهذا طبيعي، فإن الله تعالى خلقنا بشراً وركب فينا الغفلة والشهوة والتعب والملل والسآمة، هكذا خلقنا الله، فعليك إن جاءتك هذه النفس في رغبة وشوق وطاعة فاجتهد فيها أن تبلغها أكبر مرحلة، وإن وجد منها غير ذلك فعليك أن تجاهدها، ولهذا شبه بعض السلف نفس الإنسان بالدابة، فهي أحياناً تذهب وتنطلق، فإذا كنت مسافراً أو تريد أن تذهب إلى مكان -وأنت على هذه الدابة- فوجدتها منطلقة فحثها أكثر حتى إذا تلكأت تكون قد قطعت أكبر شوط، فهكذا جعل الله تبارك وتعالى طبيعة هذه النفس.
كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا
السؤال: كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا؟
الجواب: سأل بعض الخلفاء بعض علماء التابعين سؤالاً مثل هذا أو قريباً منه: لماذا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ قيل إن السائل هو سليمان بن عبد الملك سأل أبا حازم ، فقال: [[لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب ]] هكذا حال الإنسان.(2/21)
علنيا أن نخرج حب الدنيا ونحن إذا علمنا أن الدنيا فانية، وأنها زائلة، ومتاعها قليل، وأنها كما ضرب الله تبارك وتعالى فيها المثل، مثل النبات يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً حتى ينتهى، وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، خير وأبقى، وفيها ذلك النعيم، وذلك الجحيم لمن خالف -والعياذ بالله- فتخرج بذلك حب الدنيا من قلبك، وتستعد للآخرة دون أن يعني ذلك -كما أشرنا- أن يترك الإنسان حق الله وما أوجب عليه في الدنيا من إعفاف لنفسه، ومن إطعام لأهله، والإنفاق عليهم، ومن خير يفتحه الله له في هذه الدنيا فيجتهد فيه كما قال النبي: {لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار } هذا من رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا لا يدخل في حب الدنيا، إنما حبها: إيثارها.
محق البركة في الأعمار
السؤال: ما سبب محق البركة في الأعمار والأزمان، حيث إنه يمر بي الزمن الطويل ولا أجد أني قد عملت ما أحسب أني أدخره لليوم الآخر؟
الجواب: حتى الصلوات باتت إلى العادات أقرب منها للعبادات، وما قاله الأخ الكريم حق، كل منا يشعر به ويتعجب -فعلاً- لماذا محقت بركة الأعمار، والأوقات، والأموال -والعياذ بالله!-
والإجابة على هذا تطول جداً، لكن نشير إليها إشارة ولبعض أسبابها:
فمن ذلك أنه اختلط أكلنا الحلال بالحرام، فالربا والمال الحرام دخل حياتنا -والعياذ بالله- فمن لم يأكله صريحاً ناله غباره، كأننا مستنقع للربا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له } لا يوجد بركة في عبادتنا، لأن هذه الأجساد دخلها الحرام -إلا ما رحم الله- هذه بعض الأسباب.(2/22)
ومنها أن ذكرنا لله تعالى قليل، وذكر الله هو الذي يعمر الحياة ويجعلها طويلة، كما قال بعض الحكماء وذكر الله معناه أعظم وأوسع من مجرد أن تقرأ آيات أو تسبح، فأنت تذكر الله تبارك وتعالى في كل عمل، من أعمالك، فالجهاد ذكر، والصلاة ذكر، وكل عمل في الدنيا فيه إعلاء لكلمة الله هو من الذكر، ولإعلاء كلمة الله، فإذا ذكرنا الله واهتممنا بالدار الآخرة، نجد أن هذه الحياة يكون لها بركة.
حكم الطعن في العلماء وغيرهم
السؤال: أليس من الاستشعار بقيمة العمر عدم قضائه بالجرح والقدح في العلماء وطلبة العلم، وأن يراعى في ذلك قيمته، وعدم استغلالها في تشويه ما لا ينبغي تشويهه، وأن يصرف ذلك الوقت إلى ما يفيد المرء في الدنيا والآخرة، وأن يتذكر حال الأمة وما صارت إليه؟
الجواب: هذا ليس فقط من استشعار قيمة العمر، بل هو واجب من الواجبات: ترك الغيبة، وترك سوء الظن، وترك القدح أو الطعن في أهل الخير واجب، وإذا كان الإنسان مقيماً عليه فهو مقيمٌ على كبيرة من الكبائر -والعياذ بالله- مهما ظن أنه على خير أو على طاعة أو على هدى؛ فهو مرتكب لكبيرة عظيمة، وحسبه أن يأتي يوم القيامة وخصومه بين يدي الله كل هؤلاء من العلماء أو الأخيار أو الأفاضل، والعاقل لا يضيع وقته فيما لا خير فيه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } لأن ما لا يعنيك يشغلك عما يعنيك، فكيف إذا كان فيما هو أشد من ذلك، وهو أن يضيعه فيما يضره، بل ربما فيما يكون سبباً في أن يطبع على قلبه، والعياذ بالله.(2/23)
ولاحظوا أن من عير أحداً بذنب واتهمه به فربما -كما جاء في بعض الأحاديث ولبعضها ما يصححه- قال: {لم يمت حتى يفعله } حتى يقع فيه إن كان بدعة، وإن كان ضلالاً، وإن كان حباً للدنيا، فعلى العاقل أن يعف نفسه، وأن يعلم أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم } هذا اللسان هو الذي أورد أكثر الخلق المهالك نعوذ بالله!
السكن مع من يتعامل مع الجن
السؤال: أنا ساكن مع أهلي في البيت، وأهلي يعملون أعمال شيطانية -والعياذ بالله- أي يستخدمون الجن، وأنا وبعض الإخوة الطيبين حاولنا معهم بكل طريق، لكن بدون جدوى، وهم مع ذلك لا يصلون، هل أجلس معهم؟
الجواب: الذين يستعينون بالجن ويدعونهم، والذين لا يصلون هؤلاء ليسوا مسلمين، أنا الآن لا أتكلم عن واحد معين، أقول عموماً: من كان يدعو الجن، ويستغيث بهم، ويستعين بهم ويخدمهم ويخدمونه، وهو أيضاً لا يصلي، تارك للصلاة تركاً كلياً فهذا ليس بمسلم -والعياذ بالله-، والواجب على الإنسان إن كان ابناً أن يجاهدهما كما قال الله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] لا تطعهما بل قابل مجاهدتهما لك على الكفر بأن تجاهدهما وتعظهما وتذكرهما بالإيمان، وصاحبهما في الدنيا معروفاً: وبالذات الوالدان فإن لهما المصاحبة بالمعروف، أما غيرهما من بقية الأهل فالفراق خير، وحتى الوالدان إذا كانا يعملان مثل هذا العمل فله أن يقوم ببعض البر ويفارق الجلوس والبقاء معهما حتى لا يقع في مثل هذه البلايا إذا كان هذا يحل مشكلته.
اليقين
السؤال: هل يمكن الانتقال من الشك إلى اليقين، وكيف يمكن الحصول على اليقين التام؟(2/24)
الجواب: نعم يمكن ذلك، واليقين لا بد منه للإيمان، واليقين لا بد منه للدعاة إلى الله ولطلبة العلم قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] هذا الأول وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] وهذا الشرط الثاني، فاليقين لابد منه، والانتقال إلى اليقين يكون بذكر الله، وبالتفكر في ملكوت الله، وبقراءة القرآن، وبالاعتبار بأحوال الأمم الماضية، وبكل ما هو من مقويات الإيمان.
الخوف من عدم قبول الطاعات
السؤال: أنا رجلٌ إذا صليت كنت من الذين يبكون في الصلاة ويخشعون -والحمد لله- ولا أزكي نفسي على الله لكن بعد الصلاة أحس بأني قصرت فيها وأحياناً أحس أنها غير مقبولة فلماذا؟
الجواب: الحمد لله! ما دمت ممن يخشع فيها ويبكي فيها فلا يأتيك الشيطان ويقول: غير مقبولة إنما نحن جميعاً بين الخوف والرجاء، نخاف أن لا يتقبل منا؛ لكن لا يغلب الخوف على الرجاء، والله تبارك وتعالى عندما قال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] وهذه فيمن يصلون ويزكون ويعملون الطاعات ولكن يخشون ألا تقبل منهم، فهم يرجون القبول ويخافون من الرد، وذلك أحرى أن يستمروا في الطاعة وألا يأخذهم الغرور بها.
أما إذا غلب على العبد جانب الخوف فربما ترك الطاعة -والعياذ بالله- أو إذا غلب عليه جانب الرجاء فربما ركن إلى عمله فيكون هالكاً -والعياذ بالله- فلا بد أن يتوازن عنده الخوف والرجاء معاً، ولا يخرجنك الشيطان عن هذا الخط القويم إلى أحد مجالي الانحراف، إما ذات اليمين، وإما ذات الشمال.
حكم العمل تحت رؤساء كفار
السؤال: أريد أن اعمل في شركة لكن المسئولين فيها أمريكان، ويجب عليَّ أن أداهنهم وأن أسكت عن بعض المنكرات، وأن أرد التحية عليهم وأبادلهم إياها... إلى آخره، هل علي في ذلك حرج؟(2/25)
الجواب: أولاً: لا يجوز أن يكون لهؤلاء الكفار مكان في هذه البلاد الطاهرة كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } فلا يجوز أن يكونوا فيها.
وإن جاءوا لضرورة فلا يجوز أن يكونوا هم المدراء أو المسئولين، بل يجب أن يكونوا تحت المؤمنين حتى ولو كانوا أعلى في الشهادة أو الدرجة أو في أي شيء، يجب أن يكونوا مرءوسين مأمورين، ويكون المتأمر والرئيس مسلماً مؤمناًً حنيفاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا وقع غير ذلك، وأمرنا إلى الله، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وهذا من عقوبات الله لنا -والعياذ بالله- ومن تهاوننا في طاعة الله، وتركنا لما فرض الله، أصبح الكفار يترأسون على المسلمين في بلاد الإسلام.
فالواجب على الإنسان أن يتقي الله وألا يري الكفار أي شيء يشعرهم بالولاء أو المودة أو المحبة، وإنما يقوم بالعمل الآلي أداء عادياً، لا يبدؤهم هو بالسلام، وإذا كان ولا بد ويضطر إلى ذلك فليقل أي كلمة عامة، ولا يقل السلام الذي يعهده المسلمون فيما بينهم، ويبغضهم بقلبه وإن لم يستطع أن ينكر عليهم بلسانه أو بيده فليدعو الله تبارك وتعالى أن يذهب عنا شرهم ومكرهم، وليجتهد أن يحل محلهم هو أو إخوانه المؤمنين الذين يمكن أن يحلوا محلهم إذا اجتهدوا في إتقان هذا المجال، المهم أن يعلم أن هذه حالة طارئة عارضة، وأنه لا يجوز له أن يواد هؤلاء الذين هم أعداء الله تبارك وتعالى.
معنى قول الله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ....)
السؤال: ما معنى قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]؟(2/26)
الجواب: أي أن الله تبارك وتعالى محيط علمه، وهو مطلع ورقيب على كل شيء حتى في الأمور الدقيقة، فكثير من الناس لو أنك جالس معهم وخالفت عينك ونظرت تتوقع أنهم ما علموا ذلك، فهي أقل ما يمكن من الحركات العملية الظاهرة، ومعنى قوله (وما تخفي الصدور) أي: تخفي الصدور هو الأسرار الباطنة، فالله تبارك وتعالى يعلم أدق الأمور الظاهرة، وأدق الأمور الباطنة، فهو يعلمها تبارك وتعالى، ولا يخفى عليه شيء.
المخرج من أزمة المسلمين
السؤال: ما المخرج من أزمة المسلمين؟
الجواب: المسلمون يمرون بأزمات شديدة في شتى أنحاء العالم فهم يقتلون ويشردون ويضطهدون، وكل هذه الفتن يجب أن نتوب إلى الله ونقنت ونضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يرفع عنا هذا العذاب فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43] نتضرع إلى الله ونمد لهم يد العون والمساعدة، ونحيي قضاياهم في إعلامنا ومجالسنا وأينما كنا، نذكر بقضايا هؤلاء المسلمين، ونعلم أن خير ما نقدمه لهم هو دعوتهم إلى الله والعلم الشرعي الذي هو التوحيد والسنة، فإنهم إذا تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الدين رفع الله عنهم هذا البلاء.
الانشغال عن الآخرة بالدنيا
السؤال: لي أب أخذته الدنيا عن الآخرة، فهو يجري وراء لقمة العيش ويغفل عن الآخرة، وكلما ذكرته بالآخرة يقول: من أين آتي لكم بلقمة العيش؟(2/27)
الجواب: نعم، كثير من الناس يظن أنه هو الذي يرزق نفسه أو يرزق أبناءه، ولو أنه ابتغى الرزق من الله وعلم أن الله تبارك وتعالى قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، لو علم ذلك واتقى الله وقام بما افترضه الله تعالى عليه، ولم يشغله شيء عن عبادة أو طاعة أوجبها الله، لو علم ذلك لما كان كذلك، فذكره -يا أخي- بالله، وذكره بطاعة الله، وذكروه أنت وإخوانك بأننا لا نريد منك أن تنفق علينا إلا من حلال، ولا نريد أن يشغلك أي شاغل أو مانع من أجلنا عن تقوى الله وعن الواجبات التي افترضها الله تبارك وتعالى علينا وعليك.
النساء وضياع الأوقات
السؤال: ما هي نصيحتكم للنساء اللاتي يضيعن أوقاتهن في غير فائدة، وإذا قيل لإحداهن إقرئي القرآن أو اجتهدي في تحفيظ ابنتك القرآن، قالت:كله قرآن قرآن، علماًَ بأن معظم الوقت يذهب سدى؟
الجواب: يا ليتنا نعطي كتاب الله ولو ساعة واحدة من اليوم فهي قليلة، ولكن ذلك خير كثير، أوصي أخواتي وإخواني وكل أحد منا أن نتقي الله في أوقاتنا، وألا نضيعها، ونعلم قيمة هذا العمر وقيمة هذه الحياة، فنعمرها بخير ما تعمر به وهو الإقبال على كتاب الله، وأن نتلوه حق تلاوته قراءة وحفظاً، وأيضاً عملاً واتباعاً فلا يغني شيء من ذلك عن شيء.
دراسة العلوم غير المفيدة
السؤال: ما رأيكم فيمن أفنى عمره في الدراسة الأدبية مثل الاجتماع وعلم النفس؟(2/28)
الجواب: عموماً من أفنى عمره في دراسة العلوم التي تشغل عن طاعة الله أو التي لا تنفع فعليه أن يتقي الله ويحفظ ما بقي من عمره من هذه العلوم، وأن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، فمن تقوى الله ومن التوبة أن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، وأن يبين ما فيها من ضلال وباطل، ويبين ما يمكن فيها من خير إن كان فيها شيء من الخير، ويبينه للناس من خلال إرشاده لهم أن ما جاء في القرآن، والسنة هو أفضل منه وأعظم، فإذا سخرت هذه العلوم جميعاً لخدمة هذا الدين فيكون ذلك العمر ما ضاع بل يكون فيه خير، -إن شاء الله-.
ولذلك كثير من الإخوان ممن هداه الله لا يندم على أنه أمضى فترة من عمره في هذا، لأنه بعد أن عرف الله واتقاه استطاع من خلال تلك العلوم أن يدعو إلى الله، وأن يكون تركه لها ودعوته إلى تركها عن بصيرة وعن اقتناع، ولا يمكن لأحد أن يتهمه أنه مجرد متطرف أو متعصب أو يكره هذه العلوم لأنها علوم جديدة وحديثة.
الاستفادة من الوقت
السؤال: ما هي الحلول العملية للاستفادة من الوقت بالنسبة للنساء والرجال والصبية؟
الجواب: كل واحد يضع له جدولاً معيناً وبرنامجاً: أنني أكمل في هذا الشهر -مثلاً- شيئاً من القرآن، وشيئاً من العلم وكذا وكذا، أقوم بهذا الواجب، فيضع له برامج محددة من خلال إمكانيته ومواهبه وموقعه في الحياة.
البديل المناسب للعب الأطفال
السؤال: وما هي الوسائل التربوية الصحيحة في نزع المنكرات المتأصلة في الأطفال مثل مشاهدة أفلام الكرتون وحب كرة القدم؟(2/29)
الجواب: هو أن تجعل له بديلاً يشغل وقته باللهو المباح، لا بد من لعب للأطفال ولا نستغرب من هذا فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ويأتي الحسن والحسين ويتسلقان ويركبان على ظهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأطفال هكذا، فلابد أن أوجد لهم البديل من لهو مباح،فيمكن مثلاً أن يلعبوا الكرة؛ لكن في أوقات محددة، فلابد أن أوجد لهم مجالاً لذلك، وأعطهم ما مما يرون أن فيه متعة لهم أو راحة أو فسحة، واصبر عليهم فما من أب إلا وهو تعب في تربية أبنائه.
حديث (ساعة وساعة)
السؤال: ما هو الحديث الذي ذكره الأخ الذي لبس عليهم الشيطان { ساعة وساعة } فهل معناه أن ساعة في المعصية هي أمر طبيعي؟
الجواب: ليس المقصود ساعة فيما يغضب الله ويقرب من النار، وساعة فيما يرضي الله ويقرب من الجنة، محال هذا! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقصد ذلك، بل إن المقصود هو ساعة جد وعمل وساعة راحة، كما في حديث حنظلة ، فنذكر الله ساعة في مجلس ساعة ما بين المغرب والعشاء، مثلاً ثم نأكل ونشرب ونتحدث حديثاً طيباً في ساعة تالية، فحياة المؤمن دائرة بين الطاعة وبين المباح، أما أن يكون البديل عن الطاعة هو المعصية والذنوب والإجرام فهذا هو المفهوم غير صحيح.
دخول المسجد للحائض
السؤال: أن هناك فتوى للشيخ ابن باز بأن أي مصلى للنساء يجوز للمرأة الحائض دخوله لأنه لا يعتبر من المسجد، رغم أنه قد يكون داخل المسجد، هل هذا صحيح؟(2/30)
الجواب: لا أعلم من سماحة الشيخ فتوى في هذا، وإنما مصلى النساء هو من جملة المسجد، هذا الذي أعرفه، وعلى الأخت أن تطلب من التي قالت لها ذلك أن تأتيها بفتوى، فربما يكون فهمه خطأ أو شيء من هذا، والمعلوم أن المسجد كله مسجد ما كان منه للرجال وما كان منه للنساء، أما في صلاة العيد فقد كن يخرجن الحيض، ولكن كن يعتزلن الصلاة ويقفن خلف الناس، ولكن هذا في صلاة العيد التي تكون خارج البلد لأن السنة فيها أن تكون في فضاء خارج العمران، فربما اشتبه الأمر على الأخت، والله أعلم.
الإشادة بالكفار
السؤال: هل يجوز أن أقول: إن الغرب عندهم عدالة واحترام لحقوق الإنسان، وهل ينبغي للمسلم أن يشيد بهم، مع العلم أني سمعت من بعض الخطباء يشيدون بهذا؟
الجواب: الإشادة بالكفار والثناء عليهم ومدحهم لا يجوز بأي حال من الأحوال، فهؤلاء أعداء الله وكيف تمدحهم؟! وكيف تثني عليهم؟! وكيف تمجدهم وقد ذمهم الله وعابهم ولعنهم وغضب عليهم؟! لا يمكن هذا ولا يصح ولا يجوز، لكن لا يعني كفرهم أن يغمطوا ويبخسوا كل فضيلة عندهم، فهناك فرق بين هذا وهذا، فنحن لا نمدحهم ولا نشيد بهم أبداً، لكن إن كان فيهم شيء من العدل أو الخير نذكره من باب العدل، والله تبارك وتعالى أمرنا بالعدل مع كل أحد سواء مع المؤمنين أو مع الكافرين، في حياتنا أو في أنفسنا، أينما كنا نحن مأمورون بالعدل وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:7-9] وأي شيء توزنه أعمال أمم أو أفراد أو هيئات لا بد أن يكون الوزن بالقسط والحق والعدل.(2/31)
ولا شك أن في بعض أهل الكتاب وفي بعض دول الكفار شيء من ذلك، فعندهم شيء من العدل واحترام حقوق الإنسان بالنسبة لبعض البلاد الإسلامية، لكن لا يقال إن ذلك خير من حكم الله أو عدله لا يمكن ذلك، لكن فعلاً عندهم بعض العدل، كما شهد لهم بذلك عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في الحديث في صحيح مسلم قال: {وأنهم أمنعهم -أمنع الأمم- من ظلم الملوك } فالروم وهم الغرب الآن هم أمنع الأمم، والحكومات هناك إلى الآن أمنع وأبعد الحكومات أن تظلم الشعوب والأفراد.
هذه فضيلة فيهم تذكر لهم مع كفرهم ومع أنهم أعداء الله ومع بغضنا لهم أشد البغض، لكن لا نظلمهم بأن نقول: كلهم كذابون، وخونة، وليس فيهم عدل ولا خير وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران:75] الله تعالى ذكر هذا وذكر أيضاً بالمقابل وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً [آل عمران:75] هكذا لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] فليسوا سواء فيهم وفيهم؛ ولهم بعض المزايا كالبشر.
فالله تعالى خلق الشياطين شراً محضاً، أما غيرهم من الخلق ففيهم شيء من الخير ومن الشر، والعرب في الجاهلية كان لهم شيء من المزايا أيضاً: من الكرم والإيثار وحماية الجار، وقد أفاد منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفادت منها الدعوة إلى الله، فمن باب العدل لابد أن تذكر، لكن لا يعني من باب الثناء عليهم مطلقاً أو تمجيدهم أو تحبيبهم إلى نفوس المستمعين -والعياذ بالله!-
المسلمون في الهند
السؤال: يريد كلمة عن إخواننا الهنود وما يعانونه الآن من الحكومة الهندية، وهؤلاء الكفرة الملحدين الهندوس، لأنني أشعر بالتكتم العام لجميع الوسائل حتى الوسائل الهندية؛ وفي الكلام عن تشريدهم ومعاناتهم؟(2/32)
الجواب: الكفار عموماً ومنهم أعداؤنا عباد الأبقار في الهند أعداؤنا، ولا غرابة في أن يعاملونا بما عاملونا به، ويجب أن نكون منصفين، أنا أقول: إن اللوم الأكبر فيما يجري في الهند يقع على المسلمين، لأننا نحن المسلمين حكمنا الهند ثمانية قرون، وفي النهاية لما جاء الإنجليز أخذوا هذا الحكم، وإذا بعباد الأبقار أضعاف أضعاف المسلمين؟ لأننا كنا مشغولين ببناء تاج محل، ونصنع الأعواد الموسيقية، ونؤلف الكتب في اللهو والأدب والمجون، شغلنا عن هؤلاء، فلو دعوناهم إلى الله -وقد كنا نحكمهم- كما فعل الصحابة الذين لما دخلوا بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها جعلوها كلها إسلامية -إلا ما قل- لتغير الحال، فنحن الآن ندفع ضريبة تفريطنا، وندفع ثمن اشتغالنا بالدنيا والزخارف والأضرحة والقصور والمتاع الفاني وتركنا للدعوة، هذا أول شيء.
الشيء الثاني: وقع ما وقع لأنه لا تعاطف ولا تراحم ولا تناصح بيننا.
فمن منا بمجرد ما سمع هذا الخبر تأمل في عماله فقال كل عامل عندي هندوسي فليرحل فوراً، وأرجو أن يقع مثل هذا -إن شاء الله- لكن ما بلغني شيء من هذا، بل نحن نأتي بهؤلاء الكفرة إلى بلادنا ويستفيدون الخبرة والمال ويستعينون بهذا على تقتيل إخواننا هناك، ويبعثون التبرعات بل هي ضرائب يدفعونها شهرياً من رواتبهم لجمعية هندوسية هناك، ونحن في غفلة ونقول العلاقات الأخوية.(2/33)
وقاتل الله القومية العربية لأنها أتت لنا بمصائب كثيرة هذه منها، فمنذ كان جمال عبد الناصر الهالك زعيم الأمة العربية وكانت القومية العربية؛ في أوجها، من كان أصدقاء جمال عبد الناصر الذين أحبهم الشباب العربي: نهرو في الهند هذا حبيب الأمة العربية، وكان تيتو في يوغسلافيا وكان لومومبا وكان نكروما فنشأت الأمة ونشأ الشباب على أن هؤلاء لهم حقوق كأنهم إخوة، فقالوا: مؤتمر عدم الانحياز، وعقدوا أول مؤتمر لدول عدم الانحياز، وإذا بالهند يطلق عليها زعيمة دول عدم الانحياز، عباد الأبقار لما رأوا العالم إما شرق شيوعي وإما غرب رأسمالي، قالوا: أين البقرة، أين مكان البقرة؟ فيعنون البقرة الثالثة، فجاء المسلمون وصاروا أتباعاً لعباد البقر!!
لأننا نحن يجب أن نكون قادة العالم وسادة الدنيا، ويجب أن ننير هذا العالم المظلم بتقوى الله، فالقومية العربية جعلتنا نمضي إلى الهند فإذا بها زعيمة دول عدم الانحياز، فنسينا إخواننا المسلمين في الهند وفي كل مكان، وتغاضينا النظر عن كل ما يصابون به.
والآن ومع الصحوة والإفاقة -والحمد لله- وانهيار القومية العربية لا ردها الله، وبقي من آثارها شيء، ولكن نرجو أن تنهار إلى الأبد، يجب علينا أن نراجع أمورنا، ونجعل ولاءنا وبراءنا بحسب العقيدة، وبمقتضى العقيدة ولا بمقتضى الانحياز وعدم الانحياز، لا بمقتضى المجاملات الدولية، والمداهنات السياسية، ولا بمقتضى أي علاقات مادية، وإنما لله وفي سبيل الله.(2/34)
وإذا كنا كذلك فو الله سيغنينا الله من فضله، فالأمة الإسلامية فيها من الخيرات ومن الثروات ومن الطاقات البشرية ما لا يوجد في أي أمة من الأمم، فأين الذين يدعونها وأن تكون أمة ربانية حقاً، وأن تكون أمة مؤمنة حقاً؟! أن تقود العالم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] أين الذين يجمعون طاقاتها كما يجمع هؤلاء طاقاتهم؟ ويجمعون أموالهم لإبادة الإسلام، نجمع طاقاتها لتحارب أعداء الله، من يقف في وجهنا بالله عليكم؟! من يقف في وجه هذه الأمة إذا هي أفاقت واستيقظت؟!
نحن رأينا في هذا الحرب الأخيرة، أن كل الدول تجمعت على العراق ولو كانت بريطانيا وحدها لن تنهزم العراق وهم بعثيون وروافض، وفيهم من ترك الدين، وما فيهم إلا من رحم الله، فبالله كيف إذا عدنا كلنا -كل الأقطار التي فيها المسلمون هم الأكثرية أو شبه الأكثرية- لو عدنا جميعاً إلى الإسلام وجمعنا قوتنا وكنا قوة واحدة، هل تغلبنا أي دولة من الدول أو أي تجمع عالمي؟! والله لا يغلبنا، أما ونحن في حالة المهانة والذل فيغلبنا عباد الأبقار، وأصبحت الهند الآن تطالب أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن، وهذا يجعلنا -والعياذ بالله- نخضع لها أكثر، ونتوسل إليها إذا كان لدينا قضية أن تصوت معنا، وإذا استخدمت حق (الفيتو) انتهى العمل كله من أوله إلى آخره.(2/35)
لماذا؟! لماذا نرضى لأنفسنا بهذه المهانة؟! لا حل لنا من هذه المشكلة أو غيرها إلا أن نرجع إلى الله، وأن نحيي الجهاد في الأمة كما بدأ في كشمير وإن شاء الله يبدأ في مناطق أخرى بالهند يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم } هذا هو الحل، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرجعنا إلى ديننا، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه سميع مجيب.(2/36)