أنساق النفضات
الاستاذ-محمداحمد الراشد
كأنها رميةٌ من غير رام: مقالة التابعي أبي رؤية العجاج في رجزه حين قال يروي:
"وكانتِ الحياةُ حين حَيّت"(1) (2)
ولسنا بحاجة إلى خبر يتصل بملاحظته، ولكن معنى ذلك: أن للحياة بداية، قبلها ما كانت حياة، بل هي حياة قديمة لنبات وحيوان لا يعقل، فلما انتشر البشر ونشأت العلاقات والأفكار: شَرَعت الحياةُ تنبض وتتحرك، فالحياة هي الحياة الإنسانية عنده.
ولربما لم يفطن "العجاج" لمعانينا وآفاق التحريك ورصد قوانين التأثير، لكنه جزماً: قد قارب وحام حول معنى نجده كاملاً، وكأنه تصور بعضه وأدركه ناقصاً، وعرف عنوانه ولم يعرف فصوله، لكنه أفادنا بهذا العنوان الابتدائي جداً، وفتح لنا الباب، وهكذا هي قابلية الفكر في النماء، يومض ومضة خافتة، يظنها الغافل أنها قد تلاشت، لكنها بعد ألف وأربعمائة سنة تتصل بمثيلتها، فيكون تجديد، وإذا بالومضة تتحول إلى منهجية واسعة لفهم هزات أوتار أقواس الحياة التي ترمي بسهام الحوادث، فيُعقر غزالٌ هو رمز أمة تأخذ تشحط بدمها، أو تكون خطأة، فيصعت من فلت ويملأ الأرض آثارا، وما بين أحوال المالين تكمن قصة "حركة الحياة": بين ضحية أذعنت لحكم السهم النافذ، وواعية راغت يمينا، فتعداها النصل، فاستوفت حياتها مسيطرة.
ففي "سهام" ومؤثرات ترمي بها "الحياة" أهلها وروادها ومن في ساحتها، فتصرع البعض، لكنها تسقط قرب البعض الآخر، فينتزعها فيعيد رميها على أناس آخرين في عرصة التنافس، فلربما أصاب وسجل تفوقاً له حلالاً يعترف به قانون "القوة"، فيغريه الأمر أن يمهر في اتقاء سهام الحياة، فيجمعها بعدما تخطؤه، ويجمع أخرى يرميه بها منافسوه، فيعيد استعمالها، وكانت المعركة اليومية هذه في البداية صغيرة محدودة، لقلة الناس، ولاعتزال الناس لها في البيوت والشعاب والبراري، وهي اليوم كبيرة وضخمة، لكثرة الناس، واختلاطهم وسرعة تنقلهم.
حياة تتهادى... على رسلها(1/1)
ومن تعابير المؤمنين الدالة على استيعابهم أن للحياة حركة: قولهم:
(وأمور الله جاريةٌ على أذلالها)
أي مجاريها وطرقها ومسالكها كما قال اللغويون، وهو مأخوذ من الطريق المذلل، أي الممهد.
ومعنى ذلك أنهم يدركون أن الحياة تحركها سنن تتكرر، وصيغ واقعية عديدة جعلتها دائبة سلسلة لا تنقطع، وتؤلفها تراكمات تجانست فأصبحت مثل العادة والعرف المألوف الجاري على رسله، وهذا التصور هو أحد التصورات الكلية لحركة الحياة التي نحرص على كشفها وتشخيصها، فإذا ميزناها وعرفناها صارت لنا عوناً على فهم واقعنا ومنهج تفرس في مستقبلنا، فنستعد ونخطط وفق هذه المعرفة ولا نرتجل، وتلك هي ثمرة وعينا لحركة الحياة.
هذه التراكمات والأعراف بعضها فيه بيان صنعة التنافس والحرب، وبعضها يبين التعاون والإنصات إلى نداء الفطرة وتحصيل المصالح، مما تقوم عليه يوميات الزواج وتكوين الأسر وفتح الأسواق وتسهيل التبادل، وما بين هذين الطرفين مئات الأنواع من التعامل والعلاقات والسياسات. وهذا تبسيط، لكنه ضروري لإدارك أصل وجوه الحياة.
واستطرد الأمر، حتى أن من وجوه ذلك: تأثير التوقيت الكوني الفلكي في نظام الحياة، فالحركة الكونية صارت دلالة على توقيت، منها ما هو ظاهر يفهمه لا الإنسان فقط، مثل مواقيت الصلاة عند الغروب والزوال، وإنما حتى الحيوان يفهمه، ويرتبط به يومه وسعيه، وهجرة الطير، ولكنه منه خفي يحتاج شيئاً من الذكاء والتفكير ليكون قرينة على معنى معين، مثل فهم وقت صلاة العصر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها والشمس ما تزال في قعر حجرة عائشة، أي عندما يكون ظل الشيء مثله، وذلك معنى يرتبط بشكلها الهندسي، إذ كان ارتفاع جدار الحجرة أقل قليلاً من عرض أرضها، كما شرح ابن حجر(3)، فهذا الفهم مرتبط بجزء من حركة الحياة، وقريب منه توقيت صلاة العشاء بغياب القمر في ليلته الثالثة(4).(1/2)
ولا يتبين الأثر من تقرير هذه الحالة فقط، وإنما من فرضها وصيرورتها دنيا وعقيدة، فقام نظام حياة المسلمين كله عليها، ورسخ لا كعرف فقط، ولا كفقه وقانون فقط، بل كعمل عبادي حتمي لا يستأخر ولا يستقدم، بمعنى أن حركة الحياة في جزء منها ضبطت به.
بل ومن طرائف التوقيت الشرعي: التنبيه لبعض العبادة بصياح الديك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للتهجد إذا سمع الصارخ، وهو الديك الذي يصيح نصف الليل(5)، وليس الذي عند الفجر، فهذا الصوت الحيواني جزء من حركة الحياة وفوائدها الاسترسالية الفطرية، بل هو الجزء الذي يمنع قدر السوء أن يجثم، أو يخفف منه، على قاعدة: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم ترتع لأنزل الله عذابه.
وتسمى هذه الصيحة في العراق في جيل آبائنا: "ديك الزعلانة" وهي التي تغضب على زوجها فتعرض عنه: يسمح لها بذلك حتى هذه الصيحة عند نصف الليل، وبعدها يجب أن تتصالح، فعلى ذلك: كل دلائل هذه الصيحة خيرية. /
مدلولات الخط الناتج من نقطة تتحرك هي توأم تمدد الكون
هذه النبضات التي تمنح الحياة صفة التحرك وعدم السكون: هي على نوعين: خفي ومرئي.
أما الخفي: فهو استمرار الخلق الجديد، يخلق الله ما يشاء، ويتمدد الكون، وقدرته تعالى غير محدودة، وقد عرف علماء البشر ذلك الآن، وأيقنوا به، ومن أشهرهم: جيمس جينز Jeans 1877-1946، وهو (فيزيائي وعالم رياضيات وفلكي بريطاني. كان أول من قال بأن المادة تخلق في الكون على نحو موصول، وقد عرفت نظريته هذه بنظرية "الخلق المتواصل".)(6).
وتأكدت هذه النظرية من بعده وصارت حقيقة، وأن الكون يتمدد، والخق مستمر.
ومن أشكال ذلك أيضاً: توسع علم الإنسان بما حوله، وبأحوال الكون، وفي 25/1/2006 تناولت مواقع الإذاعة البريطانية على الإنترنت أن علماء بريطانيا اكتشوا نجماً خارج المجموعة الشمسية يشبه الأرض في ظروفه ومناخه، وهم يرجون أن تكون فيه حياة مثيلة أخرى.(1/3)
وأما المرئي: فهي قابلية في نبضات ومكونات حركتنا الإنسانية التي يوجهها عقلنا لأن تنمو وتتكاثر وتتعدد أشكالها وتتضاعف أحجامها التأثيرية ومدلولاتها، فيكون زخمها أشد، ووطأتها أقل، وبصمتها أوضح، وكلما أنتج عقلنا طرائق أكثر مهارة في هذه التنمية وآفاق الاستعمال: كلما استجابت الحركة الصغيرة والنبضة الضامرة، وسايرت وأطاعت ولانت، وهذه الظاهرة فرع من نمو المخلوقات من بذرة وبيضة و"جينات" وفسائل، ولتفهيم هذه الظاهرة نستعير من معلمي الفن التشكيلي ملاحظتهم في "الثروة المعنوية" التي تشكلها نقطة تتحرك في الفراغ فتشكل خطاً، وننصت إلى أستاذي في الفن: الفنان العراقي فرج عبو وهو يشرح لنا كيف أن (مبحث الخط وعلاقاته ووظيفته الأساسية في عالم التشكيل قد سجل رسالة أساسية) (ولذا يعول عليه مبدئياً في كل عمل مهما كان نوعه، وإن عملية التخطيط الفكري والفلسفي والذهني والتشكيلي تسمى باسمه، وكذلك كير من ظواهر الطبيعة الإنسانية إن كانت في الطب أو الفيزياء أو العلوم العامة أو الأدب: تنسب إلى الخط ومشتقات كلماته للدلالة على الثبات والتسجيل والرؤية الموضحة.
ولما كان الخط له مدلول الفصل بين سطح وسطح، وجسم وجسم: جعل تحريكه يمل ويترجم أفكار ورؤى الإنسان أينما كان ومهما كان لونه وجنسه ولغته، فهو العامل الحضاري الرئيس الذي يتحرك يومياً بين أيدي ملايين الناس ليسجل المظاهر والدوافع والغرائز والأفكار التي يفرضها العقل البشري لمختلف الحضارات والنزعات العملية والأدبية والفلسفية).(1/4)
وفي الفن بخاصة: (الخط هو المؤشر الواضح للرأي عند الفنان، ويسجل كيراً من عناصر الفن، كالمساحة والحجم والفراغ والمسافات والسطوح الملونة والإيقاعات الخطية واللونية، وحركة الأجسام ونسبها، والعمارات والبنايات والمجسمات والشوارع والحدائق والأشجار والحيوانات والطيور، وينظمها ويرسل فيها روحاً واضحة تعلمنا المقصود من وجود هذا الخلق الإنشائي في تكوينها، والخط ذو مدلول واسع جداً لا يحصى أمره، ولكن علائمه الأكاديمية التشكيلية واضحة).
و(حينما ندرس الشكل: نعرف الهندسة وسطوحها). (وحينما ندرس البناء التشكيلي: نعرف كيفية التكوين العملي) (وحينما ندرس الحركة: نعرف كيف تتحرك الحياة) (وحينما نجمع عناصر الفن: عند ذلك تتكون لدينا الهيئة). (ولولا الخط وأنواعه وأطواله ومساحاته وارتفاعاته وحركاته لما تكونت لدينا عناصر الفن التي تتوحد بالهيئة، ولا يمكنها أن تتوحد ما لم يكن لها قدر كبير من الموازنة، والموازنة الخطية).(7)
فحركة النقطة وإنتاجها الهائلة هذه هي مثال لبعد استراتيجي في الحركة الحيوية، نمارسه أو نأتلف معه، دون أن نشعر بقيمة ما نعمله، لضعف الحاسة التحليلية عندنا، لكننا بمل هذا الفهم الجديد ومُكنة التحليل يؤذن لنا أن ننفتح على كثير من المحركات الحيوية، فنتتبع آثارها وضرباته في تحريك الواقع الجامد وإمداده بشكل من أشكال النبضات.
لذلك لاحظ موسى عجمي في كتابه الموجز عن حركة الحياة ضرورة اعتبار "العمل" كجزء ثابت من الحركة، وأنها (حركة تبدأ مع العاطفة والشعور، لتنطلق في رحاب العقل والفكر، ومن ثم نحو العمل والإنجاز الفعلي، لتمر في ثوابتها الثلاثة: عاطفة، عقل، عمل.
وهي حركة فردية عاملة، لا يكتمل فعلها، ولا يعظم، إلا حين تصب وتدب في بوتقة المجتمع المحيط، حيث ينتقل الفعل إلى مجتمع آخر ليعم بعدها مجتمع الإنسانية بأسره.(1/5)
وبهذه الحركة الإنسانية المتواصلة، والمتواترة تباعاً: يستقر الكون ويرتقى العالم)(8). وهذه ملاحظة صحيحة، ويشرحها قول ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان: فمنهما***أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح(9)
فجعل العمر كله كدحاً من أجل العيش، ثم إذا تعب وعجز انتظر الموت، فإذا ألغينا مرحلة الموت السلبية لم تبق إلا حياة واحدة هي حياة الكد والكدح والتعب والعمل.
السيطرة على الحياة: فرع السيطرة على النفس
ونحن المسلمون أهل إيمان نخالف به الملحد والفيلسون والمادي، ونفهم أن "بداية" كل مرحلة في الحياة تفترق إلى نوعين: رحمانية، وشيطانية، وتكون هذه البداية حاضرة ومسيطرة على الفعل حتى نهايته، إلا أن يتوب وتتبدل نية المفسد، وكل حديث الإيمان يفيد هذا المعنى، ولكن تقعيده جاء على لسان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: (لابن آدم لمتان: لمة من الملك، ولمة من الشيطان. وأما لمة الملك: فاتعاد بالبشر، وتكذيب بالحق، وتخبي بالنفس).(10)
قال شمر: (اللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب).
فهي مع أول خطرة حين تكون أوائل النية يكون الافتراق، فتكون بركة من الله تتجلى في طيب النفس عبر تصديق حق الشرع وحلاله وحرامه، مع تخطيط يعد بخير وينفع، أو العكس.
وهناك في منزلة ما قبل النوايا من الخطرات وحديث النفس ونبضات القلب تكون ولادة حركات الحياة، ويكون الامتياز وتحصل المفاصلة في أول صورها ثم تتأكد بالفعل والتنفيذ والإصرار، ومن هنا فإن السيطرة الحيوية تبدأ بسيطرة على "النفس" و"القلب"، وهي الصنعة الإيمانية المحضة.(1/6)
وهذه الحقيقة هي التي تؤهل الدعوة الإسلامية للفوز في سباق السيطرة، لأنها الأمهر من بين فرقاء الساحة في "التربية"، وإصلاح النفوس والتحدث إلى القلوب، مع فكر واسع يسند ذلك، والآخرون يحومون حول استعمال القوة، ويخططون لمراوغات وخداع، وذلك ينفع وقتياً ولا يدوم، ولكن التعامل مع "النفوس" هو المرشح للدوام، وانظر آخر تجربة في ذلك على المدى الاستراتيجي: غزو أمريكا للعراق: هو أعتى استعراض للقوة وأبرع مراوغة سياسية، ولكن التربية النفسية الجهادية التي بذلها العمل الدعوى الإسلامي العالمي قبل وأثناء ذلك جعل أرواح المؤمنين تحلق عالياً مع مستويات العزة، فنهض المعتدى عليهم إلى جهاد، وناصرتهم جموع المسلمين، فارتبك الصف الأمريكي واختلف وأنكر على قيادته وضغط عليها يطلب الانسحاب، وكانت "القلوب الجهادية" هي التي حسمت القضية، ومعنى ذلك أن الصف الأمريكي امتلك القوة لكن نقصته التربية لجنوده ولم يستطع إقناعهم أنهم على حق ليصبروا ويصابروا، ومن هذه النقطة كان خطأ تقدير بعض المسلمين أن أمريكا دولة لا تقهر وأنها بقوتها ستستحق أي جهاد، فمالوا إلى ضرورة الاستسلام للأمر الواقع، وأن الجهاد خاسر، وبذلك كان مقياسهم مادياً فقط، ولم ينظروا إلى أحوال القلوب والنفوس.
وما كان تكلم عنه ابن مسعود هو حال الشخص الواحد الذي يتردد بين لمتين، لمة شيطانية ولمة ملائكية، ومعنى ذلك احتمال غلبة إحدى الحالتين بشكل دائم من خلال عوامل تأثيرية أخرى، فينقسم المجتمع إلى صنفين: من أعانتهم الملائكة بغرس هداية الله في قلوبهم، ومن صرعهم الشيطان فانحرفت قلوبهم، وهذا هو حال مجتمعات البشر، جيلاً بعد جيل، ومن خلال التنافر والتناقض بين الصنفين تكون تحديات بعضهم لبعض، فتتحرك الحياة.(1/7)
إن "التناقض" بين المؤمن والفاسق حتمي، وهو تابع للعرق الدسّاس المستقر في الأعماق والذي يأمر بمعروف أو يغري بارتكاب منكر، فالظاهر صورة للباطن، وكيفما تكون النوايا تكون الأعمال، وهي القسمة الطبيعية التي لا يُتاح غيرها حين تختلف الموازين والغايات والمقاصد، مما أشار إليها الشاعر المؤمن واصفاً نتيجة حواره مع الفاسق فقال:
إنا اقتسمنا خطتينا بيننا *** فحملت برة واحتملت فجاراً
فلكل وجهة هو موليها وخطة يعمد إليها، فأما المؤمن فيميل إلى فعلةٍ َبّرة، وخُطةٍ برة، ذات بِرٍ متنوع يصل إلى ثلاث وسبعين من نوايا المعروف، وأما الفاسق فيوزع اهتمامه نحو أنواع الفجور، وهذا الارتباط بين المقدمات والنتائج هو الذي قسم المجتمعات القديمة والمعاصرة والأجيال المتتابعة إلى معسكرين: صالح وطالح: ونبتة السوء لا تمر غير طعم مر، والبلد الطيب يزكو نباته بإذن ربه.(1/8)
وإلى مثل هذا المعنى ينصرف قوله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}، قيل: (معناه: ضروباً وأحوالاً مختلفة) و(أراد: اختلاف المناظر والأخلاق) و(الحالات المختلفة) (مرة ملك، ومرة هلك، ومرة بؤس، ومرة نعم)(11). وهذا يكون في الشخص الواحد، تتقلب به الحياة، ولكن المعنى يصدق على اختلاف أطوار الناس، وتنوع أخلاقهم وصفاتهم وقابلياتهم، ومن خلال تعاكس أحوالهم يجنحون إلى تنافسات وعدوان، وتلك حركة حيوية، أو يلجأ كل صاحب نزعة إلى مثيله يعينه ويحالفه، وهذا نوع آخر من الحركة، ولأنهم درجات في القوة والثراء فإن عملية الاستقطاب تظهر، وبها تنحاز مجموعات العدوان الصغيرة إلى ناظم لها أكبر، أو مجموعات الدفاع والحلفاء تفتش عن ركن شديد تأوي إليه، وتكون ترجمة ذلك حصول معركة سياسية أو تنافسات مالية، وإزاحات اجتماعية، وتلك هي حقيقة حالة الغليان التي لم تترك قطراً أو مجتمعاً يهدأ، والذكي الذي يكتشف هذه الاستقطابات وإمكانية حدوثها: يلجأ إلى تنظيمها ما استطاع، وإغراء الصغار بالإذعان للكبار، والضعفاء للأقوى، فتكون سيطرة أحد التوجهات أتم وأنفذ، فتكون الغلبة، وتبدأ عمليات محاولة تفكيك هذه السيطرة بعمل مماثل مقابل، وتصبح الأيام سجالاً حتى تستقر الأمور لتوجه آخر بعد حين قصير أو طويل، وتتكرر القصص، وتنشأ أجيال أخرى، وخلال ذلك تتدخل ألوف العوامل في هذه الترجيحات وعمليات الصعود والهبوط.
التفاوت... يأذن ببدء حركة حيوية
وثمة نوع آخر من تحريك الحياة لا يكون فيها العداء هو عامل التحريك، وإنما السباق الخيري نحو الأفضل والأكمل، وذلك يكون عند ارتفاع الهمم واتضاح معاني الخير ودرجاتها وتصاعدها وأنواعها، فيشرع أهل الخير في الازدياد منه، فيكون منهم سابق ومقارب بطيء، لكنهم جميعاً في وجهة واحدة، فإذا اضمحلت الهمم اقتنعوا بواقعهم ومالوا إلى السلبية وعدم التطور.(1/9)
وهذه ملاحظة ليست حديثة، بل لاحظها الفقهاء من قبل، وذكروا (أن الخير: في النادر من الناس، فإذا استوى الناس في الشر ولم يكن فيهم ذو خير: كانوا من الهلكى) وذلك عند ابن الأثير: (أنهم إنما يتساوون إذا رضوا بالنقص وتركوا التنافس في طلب الفضائل ودرك المعالي. قال: وقد يكون ذلك خاصاً في الجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون في العلم، وإنما يتساوون إذا كانوا جهالاً)(12).
فعدم التطور: هلاك، وذلك هو منطق الفقه، وتلك إشارة إلى معادلة إيمانية، وذلك هو الذي يفسر العمران الحضاري الإسلامي بالأفكار والعلوم والآداب حينما يكون الأمن والاستقرار، كما في حقب رواها التاريخ، مما كان في بغداد، وفي الأجنحة: خراسان شرقاً، وشمال أفريقيا والأندلس غرباً، وما بين ذلك، فإن المنافسة الإسلامية الخيرية داخل مجتمع المؤمنين أنتجت ثقافة واسعة، ومعارف، وطباً، وعمارة، وأوقافاً، وتحركت الحياة في الوجهة الإنتاجية التصاعدية.
ولكن هذه الحصيلة الخيرية لم تمنع قيام تناقضات بجانبها، أصلها ابتداع، أو صراع على السلطة، فكان العمل الإصلاحي الاستدراكي المتنوع لجيل بعد جيل من الساسة والفقهاء، ولم يمنع محاولات الغزو الخارجي، بسبب وجود التناقض بين البشر، فكان الجهاد، وكل ذلك أنتج كماً هائلاً من تحريك الحياة في كل الاتجاهات، وما تزال الظاهرة مستمرة.
وعلم "المنطق" يشير إلى "التناقض" الذي هو إشارة إلى سبب تحريك حيوي. (وهو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي صدق أحديهما، وكذب الأخرى لذاته، ولا بد فيهما مطلقاً من وحدة الموضوع، والمحمول، والزمان، والمكان، والجزء، والكل، والقوة، والفعل)(13).(1/10)
وليس هذا محل شرح هذا التعريف الغامض على بعض، لأنه يكفينا منه فهمنا المجمل له، من وجود اختلاف في إثبات صفة للأول ونفيها عن الثاني، وهو ما يعنيه السلب والإيجاب، يوحي بتدافع، ومحاولة إزاحة، وتحزب البعض لأحد النقيضين مع تحزب غيرهم للنقيض الآخر، ومعنى ذلك حصول حركة حيوية أساسها رغبة الانتصار لرأي، وتديما اختلافات العقول وجنوح بعضها لجهة وأخرى لنقيضها، فتتولد الحركات، وتلك هي ظاهرة الانقسام في المجتمع البشري، والمناحرة والخصام.
إن الأمور إنما تتميز إذا وضحت أضدادها، ومحاسن المعروف وإنما تستبين لو انكشف الخمار عن وجه المنكر وظهر قبحه، لأن من تنتكس فطرته أولاً: يلزم الإصرار ثانياً، والشاعر ينتبه إلى هذا الديدن فيقول:
إذا نهي السفيه: جرى إليه*** وخالف، والسفيه إلى خلاف
أي: جرى إلى الأمر الدون الذي نهوه عنه، وحرص على المخالفة.
قال أبو الفتح بن جني: (فاستنبط من السفيه معنى السفه)(14)، بمعنى أنه راقب أفعال السفهاء، وأحوالهم، وقلة حيائهم، فعرف أوصاف السفاهة كسلوك ومنظومة ترديات تحكم أرهاطاً من البشر، وكانت معرفته من خلال متابعة سير السفهاء.
والإيمان كذلك، ثلاثة أرباعه فطرة وانسياب معها، وسير المؤمنين أوفى في التعبير عنه من نصوص مجردة، ولذلك كانت القصص والتراجم وتواريخ المصلحين، ولمثل هذا المعنى أشار جواب الذي سألوه عن وصف المروءة فقال: تؤخذ معاملة ولا تؤخذ نطقاً، ومجموعة الدعاة مكلفة أن ترسم بأعمالها صورة الإيمان، في كل جيل.(1/11)
لكن أشكال تحريك الحياة بالمنافسة تستطرد حتى يكون من أشكالها ما هو خارج تنافسات الخير أو صدامات العداوات، مما هو داخل في سعي الناس اليومي لكسب أنصبتهم من مقادير الرزق، فهم يختلفون في درجات إتقان المهن، وفي الصحة والعافية والأحوال النفسية، وفي حيازة المال التأسيسي الذي يكون رأس المال، وفي الفرص المتاحة، وطبيعة المكان الجغرافي الذي يعيشون فيه، والزمان، ومواتاة الأقدار الربانية أو عدمها.
وينبي عن جزء من طبيعة هذه المعركة اليومية: قول الفقير المعدم، لابس الأثواب المستهلكة:
لقد غدوت خلق الأثواب***أحمل عدلين من التراب
لعوزم، وصبية سغاب***فآكل، ولا حس، وآبي(15)
والعوزم: العجوز، والسغاب: الجياع. فكأنه يعني بالتراب: بقية طحين مخلوط بتراب، أي يجمعه مما يتناثر في المطاحن، ولذلك يأباه بعض صبيانه، ويقبله البعض.
وبمقابله: لابس الأثواب الفضفاضة الذي يقول:
أجر من خز العراق الذائل***فضفاضة تضفو على الأنامل
فهو لترفيه يجعل أردانها طويلة حتى تغطي أنامله، ولا ريب أن لبس الحرير على هذه الشاكلة يكون معه أكل الأطايب.(1/12)
وتردد الفرق بين الحالين: سبب لتحريك الحياة، إما بعزم السغاب ودأبهم الحلال في تحسين أحوالهم، وإما بحسد يعتريهم يدعوهم إلى عدوان، أو سرقة وسلوك إجرامي، وأكر ما يكون الأمر أن يكون ذاك "الآبي" الرافض من هؤلاء الأولاد هو الذي يغامر بعدوان، إذ هناك في لحظات إبائه وجوعه تنشأ بذرة التحريك السيء وتتسلط عليه وتحدوه نحو إشباع رغباته عبر طريق غير سوي، ومن أقرب هذه الطرق إليه: أن يلحق نفسه بقوي غني من أهل "الخز الذائل"، من متنفذ وسلطان، فيستعمله في تمرير ظلمه، وتزداد الآثار السيئة لهذه الاحتمالات إذا تعلم هذا الفتى أطرافاً من علم الشرع، إذ يصبح من علماء السلطان، أو إذا أتيح له سفر ودراسة في بلاد الغرب: يلحق نفسه بدول الاستعمار فيغدو خائناً، فإذا تمكن من الحصول على عضوية جماعة إسلامية فلربما حرف سياستها وأهل الإخلاص لا يدرون ما هنالك، ولذلك رفض الإمام الشوكاني في كتابه "أدب الطلب" بذل علم الشرع لأبناء أصحاب المهن، وقصره على أبناء الإشراف، فلم يلتفت محقق كتابه إلى المغزى الصحيح وأنكر عليه، إذ هو لا يريد التكبر، بل النقاء.
ومعنى ذلك: أن هذا النوع الثالث من التنافس في الرزق قد ينتهي إلى سلوك عدواني أيضاً.
ولأن القصص المروية في ذلك، مما يعرفها أهل كل جيل ومدينة: وافرة متداولة: أصبحت "التوترات" سائدة بين الناس، والرد بالمثل، وعدم التسامح، والتهديد، وضمرت إملاءات الأخلاق. فإعابة الناس مثلاً، وتجريحهم، وذكر مثالبهم: تجلب بالمقابل تجريحاً، والتقاذف سجال، وهو ما هدد به الشاعر وحذر فقال(16):
لا تمضحن عرضي، فإني ماضح
عرضك، إن شاتمتني، وقادح
في ساق من شاتمني، وجارح
وهذه ظاهرة من ظواهر الحياة ينبغي أن يستوعبها من يخطط لمهاجاة وهجوم: أنه يخاطر ويهيج ساكناً.(1/13)
وهذه تحليلات في معرفة "جذور السوء ومساربه" هي بسيطة ساذجة، لكنها مهمة في توعية من يواجه زخم ازدحام المحركات الحيوية، وفيها احتياط ودعوة لسلوك تخطيطي يوصي بالحذر، وبمثلها نفهم قول معاوية رضي الله عنه (من أبطره الغنى: أذلّه الفقر، وهما ضدان مخادعان للمرء من عقله، وأولى الناس بمعرفة الدواء من يبين له الداء)(17).
وهذا رصد صحيح لظواهر الحياة، فما ذهل غنيّ عن الشكر فأسرف على نفسه ومنع الحق إلا ولطمه الفقر لطمات متتابعات يتركنه مترنحاً، ثم يشتق سياق الكلام قاعدة تربوية ثمينة: أن الذي يحلل ويعرف جذور السوء ومساربه التي نفذ منها وحل في وسط دار الخيريين هو بالطب والعلاج أعرف، وبالمداواة أليق.
إن الضدية بين الغنى والفقر في قول معاوية تتناسق مع مبحثنا، فإنها ليست دلالة وصفية منه، لأن كل أحد يعلم ذلك، ولكنها ملاحظة تحليلية يريد منها ما نريد من رؤية تأدية هذه الضدية إلى التحريك التنافسي، وأن المال والغنى أداة في صراع الحياة ينبغي استخدامها على نحو إيجابي للبناء والإنتاج والتمدن، فمن انحراف بهما إلى بطر سلبي: نوفس بضراوة حتى يصير فقيراً وذليلاً من بعد عز، وهذا كلام أشبه بالموعظة المجازية، لكنه مفاد واقعي تشهد له قصص كثيرة، ويرجع إلى الإيمان آخراً، لأن فحواه تتضمن دلالة على نموذج من صور "جريان القدر الرباني" في تحريك الحياة، وأن الخفض والرفع للفرد من الناس هو إرادة ربانية تقترن برقابة الله للحياة، وإذا صدق ذلك على أفراد: صدق على مجموعات وربما شعوب تتبطر وتتجه بالمال وجهة فوضوية أو هدمية أو لهوية وتمنع نصرة المستضعفين به، مثلاً.
البناء المدني... صنعة إيمانية
فالحياة قائمة، وهي مخلوقة متاحة لأبرار وفجار، وإذا اقتناها فاسد أفسدها، وإذا حازها مؤمن أصلحها.
ومن هنا وجب على المسلم أن يقاربها ويطلبها: أموالها، وسلطتها، وعلومها.(1/14)
وسأل عطاء الحسن البصري: (أكان الأنبياء يشرحون إلى الدنيا مع علمهم بربهم؟) أي هل شرح الله صدورهم لقبول الدنيا كما شرح صدورهم لقبول الدين؟.
فقال الحسن: (نعم، إن لله شرائك في خلقه!).
(أراد: كانوا ينبسطون إليها ويشرحون صدورهم ويرغبون في اقتنائها رغبة واسعة)(18).
وهذا التقرير يسقط معنى الزهد ويرجع عليه كما يسقط معنى هجر السياسة، ويعني أن من تقوى المؤمن أن لا يدع الدنيا لفاجر، بل حوزها بدله ليصوغ حركتها صياغة سياسية وتعاملية وحقوقية وفق الشرع وحكم الحلال بعد إذ خلقها الله وبراها وعرضها لتتم الحكمة التي وراء خلقها من خلال أسلمتها، بدل أن يتلقاها الكافر أو الجاحد أو البخيل فيعطل انتفاع المؤمنين منها ويحكرها لخدمة الفساد، وعلى هذا التمييز، أو على هذا الرجاء في أن يسبق المسلم إلى التسلط ليدير الحياة في مجال الإيمان: تقوم نظرية السيطرة الإسلامية على حركة الحياة، وتبطل نظرية التصوف في تعطيل منح الخلق التي رصدها الله لوعاة يستعملونها، كما يبطل وهم من يظن صواب انعزال المسلم عن عالم السياسة تعففاً وترفعاً.
وشرح آخر لقول الحسن: (إن شرائك في خلقه): أنه (أراد أموراً أبقاها في العباد، من الأمل والغفلة: حتى ينبسطوا بها إلى الدنيا)(19).
وهذا الجواب يكشف عن ملحظ آخر في طلب الدنيا، عامل التحريك فيه ليس هو طلب التمدن والعمران فقط، بل مداراة القلوب والنفوس والرفق بها، فإن وتيرة الجد إذا كثفت في حياة المؤمنين فإنها تؤدي إلى الإيجاب وإلى أداء إنتاجي جيد، ولكن لأمد قصير يكون بعده التوقف أو الانحدار وهبوط المستوى، لما في ثنايا حالة الجد من التكلف والمغالبة وافتعال الاستنفار الطويل واليقظة، فتميل الأرواح إلى طلب الراحة، فيكون إبطاء في حركة الحياة بعد إذ نوينا بالجد تسريعها.(1/15)
وشرح ذلك أن الله تعالى حين خلق الإنسان: أودع في فطرته النزعتين، وألهم نفسه الفجور والتقوى، فإذا أراد لزوم العلى على طول المدى إذا اهتدى: عانى، فمل، فغفل، فيعود إلى مداراة طعمه ولذائذه، فينافس ويعارك، فتتحرك الحياة، وذلك قانون فطري ميل لقانون القدر في إنزال آدم إلى الأرض لتكون في أرهاط ذريته أحوال متعاكسة تدفعهم إلى أن يكون بعضهم لبعض عدواً لتتحرك الحياة، مما هو نص آية سورة البقرة، وموطن الاقتباس الدعوى من هذه الظاهرة الحيوية في الأمل والغفلة: أن خطة التربية الدعوية مكلفة أن تكون واعية، فتراعي الغرائز الإنسانية، وتدفع الدعاة إلى زوج، وتجارة، وبناء بيوت، وأكل أطايب، وحسن هندام، وجماليات، وكماليات، وتمنع استبداد العزائم والفقر وطرائق التقشف الدائم، بل هي وسطية دين الإحسان من دون رهبانية، وإنما هي أيام شدة تليق لها العزائم وسياسة الاستنفار م أيام رخاء يؤذن فيها بالاسترخاء.
وهذا جزء من "إحياء فقه الدعوة" بعدٌ استراتيجي في التخطيط الإسلامي لا تسوغ الغفلة عنه، فإن النفس المعتدلة المتوازنة هي مظنة تحقيق التفوق في المنافسة الحيوية.
نضوج ظروف التحول الحضاري الإسلامي الجديد
وجميع حديث التضاد هذا، والتناقض، والتعاون، والعداوات المحركة يجعلنا في الآخر نقف وجهاً لوجه مع نظرية ولادة الحضارات عبر "أعمال القيادة المبدعة التي تتحدى البيئة" وهي نظرية كبير فلاسفة التاريخ "توينبي Toynbee" 1889-1975.
وهو (مؤرخ وفيلسوف بريطاني، وضع نظرية "التحدي والاستجابة" Challenge-Response في كتابه "دراسة للتاريخ" الذي يقع في اثني عشر مجلداً 1934-1961.
وخلاصتها أن الحضارة لا تنشأ إلا حيث تكون البيئة صالحة لتحدي شعب ما، وإلا عندما يكون هذا الشعب على أتم الاستعداد للاستجابة لذلك التحدي، وأن الحضارات تنهار عندما تتلاشى عبقرية "الأقلية المبدعة"(20).(1/16)
وهذا كلام صحيح في غاية الصواب، مع أنه يمكن أن يستدرك عليه بمكملات ذات تأثيرات عديدة في هذه المعادلة المشروطة:
تحديات بيئة + شعب مستعد بقيادة مبدعين = حضارة
ففي وصف البيئة مكملات كثيرة تعبر عنها الصور الجزئية، والاستعداد فنون وعلوم، وللقيادة الإبداعية أوصافها، مع ملاحظة القدر الرباني، والتراكم التاريخي، وأنساق الإخراج الكثيرة العدد.
والمهم في هذه المعادلة أنها ممكنة التطبيق في حالة الأمة الإسلامية اليوم، فإن البيئة جيدة، ووتيرة التحدي عالية، وهذا التحدي ناتج من طرائق العولمة والاستئثار الأمريكي وعدوان اليهود، والاستجابة موجودة، على لهو واسع وتخدير، ولكن عنصر الأمل يكمن في "القلة المبدعة" المستوفية للأوصاف والمتمثلة في كيانات الدعوة الإسلامية العالمية، والتي دخلت الآن في مرحلة التطور وإتقان التخطيط واستيعاب المستلزمات الحضارية، وكأن أمريكا يائسة اليوم بعدما جربت استعمار العراق وأفغانستان وأوغلت في معاداة العالم الإسلامي فوجدت مقاومة وصدوداً، فإذا زهدت في منطقتنا الإسلامية المركزية فإن القلة الدعوية المبدعة ستصول صولتها بإذن الله.
وهذا الطموح غير مفتعل أبداً، لأن نضوج الأمر الدعوي جاء من خلال مسيرة هادئة طويلة متدرجة، وعصم الله الدعوة من التهورات والقفزات المهلكة من خلال ما وهبها من فكرٍ واعٍ شمولي منذ بداية انطلاقتها، وقد تراكم التجريب، وأنضجت المحن الدعاة، وتوسع العدد، واستوى الفكر، واكتملت التخصصات، ورسخ العمل المؤسسي، وشاع التدريب الإبداعي والإداري، وتألقت المشاعر الجهادية، وانتشرت شبكة العلاقات العامة، وفصح الإعلام، وحصل تفوق المعادن الدعوية في الجوانب النفسية والصحية والثقافية، وإنما هو مال قليل فقط تحتاجه التجمعات الدعوية في أرجاء العالم لتكتمل لها عوامل السيطرة الذاتية الطبيعية السليمة، فإن الجموع تملأ الآفاق، وتنتظر "الحرية" التي تعليها.(1/17)
وهذه "الحرية" آتية لا محالة بإذن الله، وهي نتاج ظرف "التحدي للبيئة"، مما أشار إليه توينبي.
وكأن هذا التحدي تصنعه "العولمة" وخطة اليمين المحافظة المتمثل بالرئيس بوش ومن يساعده، وهي مجموعة عقائد ظنية استبدت بمشاعر هذه العصبة، واختلطت بأهواء يهودية ومزاعم توراتية، فارتكبوا الخطأ الكبير في غزو العراق من غير دراية بظروفه، وتورطوا بحل الجيش العراقي دون حسان للآثار السلبية التي ستنعكس عليهم، فكان "الجهد العراقي" هو "التحدي" وهو المدرج لجولة جديدة من الحضارة الإسلامية، وكان زخم الصعود السريع لوتيرة الجهاد الفلسطيني الحماسوي هو المدرج الثاني، ولا يكون ذلك بأشخاص المجاهدين في هذين القطرين فقط، بل قد يكون أثرهم هو الأقل، ولكن يكون بالروح الهادية التي سرت في جميع الأمة الإسلامية تفاعلاً مع القضيتين، ومع قضية الأفغان قبل أن تتعكر بالخلاف.
و"الكتلة الدعوية الإسلامية العالمية" هي المرشحة للاستفادة من هذه التحديات والتقدم على هذه المدارج، لأنها هي الأوسع عدداً، والأضبط تنظيماً، والأعمق تربية، ولها منظومات قيادية وإدارية وتخصصية ومؤسسية متكاملة، وقد قامت العناصر الجهادية الميدانية بمهمات قدرية في الإثخان بالعدو وتكذيب رؤاه الدينية والسياسية، والتقت في ذلك مع البذل الجهادي الدعوي، ولكن لا يمكنها أن تكون هي المستمرة للنتائج، لقصور كتلتها كماً ونوعاً عن الكتلة الدعوية، ولكنها يمكن أن تكون الحليف، والعضيد، إذا حصل نقاء القلوب وصفاء النوايا وإنكار الذات والإقرار بحقائق الواقع، والمكنة القيادية أساسها مراس طويل ومعاناة متكررة أكثر مما هي نتاج جولة ميدانية واحدة، والانتشار العالمي يرجحها، والرصيد العلمي يمنحها أنواعاً من التكميل والتحسين.(1/18)
وليس هذا التقويم المتفائل لإنجازات الجهاد العراقي هو زعمنا فقط، أو هي تقديرات مجانية من عندياتنا، وإنما ذلك هو تقدير د.هاس الذي كان معاوناً لوزير الحرب الأمريكي كيتس الذي خلف رامسفيلد بعد هزيمة الجمهوريين الانتخابية في 11/2006، ففي مقال كتبه في مجلة الشؤون الخارجية وعرض برنامج "من واشنطن" في قناة الجزيرة خلاصته: ذكر أن أمريكا أخطأت بغزو العراق، وأن هذا الخطأ سيؤدي إلى انتهاء نفوذها في الشرق الأوسط، أو يؤول إلى ضعف وأن الحركات الإسلامية هي المستفيد الأكبر من هذا الضعف، بل تقرير بيكر-هاملتون المقدم لبوش .تقترب فحواه من هذا الرأي
مقتل الدول العظمى: أن نفوسها صغيرة تتأثر وتيأس
ومن يزعم سهولة الوصول إلى حل يرضينا فهو واهم، وإنها لجولة صعبة من الضغوط والمفاوضات، ولكن للمسلم أن يعتقد أن أمريكا وإن كانت دولة عظمى إلا أن جيشها يتعب كما يتعب كل البشر، فيميل إلى طلب الصلح وتغيير السياسة والتفاهم، وتسري على قادته وجنوده الظواهر الحيوية ودقائق قوانين حركة الحياة، ومنها السأم والضجر والاستنكاف، وقد تكون الأجهزة الأمريكية مرشحة لحدوث مثل ذلك فيها بعد اكتشاف صعوبات الاحتفاظ بالعراق، فمن الملاحظات النفسية التي تفيد رجال السياسة والدعوة أن "النفس" تتوغل في تنفيذ ما تريد، لكنها حين تبلغ أقصى الأداء: يكون "الامتلاء" بما رغبت وأرادت فتفتر وتميل إلى الضد المعاكس.
وقد شوهد في يوميات الحياة: "أن الإنسان إذا تناهى في الضحك: بكى، وإذا تناهى في الغم: ضحك، وإذا تناهى في العظمة: أهمل، وإذا تناهت العداوة استحالت مودة)(21).
وفي مقصورة ابن دريد:
*وكل شيء بلغ الحد انتهى*
وفي شعر المتنبي:
*ومن السرور بكاء*
ويكون هذا الانقلاب: من محركات الحياة، إذ يتجدد موقف، وتظهر علاقة، وتهتز عواطف، ويأمل يائس، ويكون فعلٌ طارئ أول يأت بثان ثم ثالث، ثم تكون منظومة تصرفات ومواقف فيها تبديل للموقف الحيوي.(1/19)
وكأن لهذه الملاحظة النفسية ارتباط بالملاحظة الأخرى التي تقول:
*اشتدي أزمة تنفرجي*
فقائلها ينتظر أن يكون إفراغ كل ما في نفس السلبي الحانق الصانع للأزمة، ويريد منه أن يبلغ النهاية، ليرتد إلى عقل وارتياح، ويكون إشباعٌ، فيحصل انفراج.
وأمريكا لها نفسٌ جماعية كالنفس الفردية، وهي مرشحة الآن لملل وتغيير الوجهة والانكفاء، وعلى الأقل في تعاملها مع قضايانات الإسلامية.
ولربما تحصل في علاقتنا معها حالة "توازن القوى" بالرغم من ضعفنا وإننا حركة وتيار شعبي ومجرد منظمات، ولسنا دولة يمكن لوجودها أن يكافئ وجود الدولة الأمريكية العظمى، لأن أثر الإثخان حاصل، وهي معركة نفوس لا معركة أنظمة وأسلحة، وصبرنا أطول.
فمن قوانين حركة الحياة: "توازن القوى"، وهو تكافؤ في القوى بين دول متنافسة أو مجموعتين أو أكثر من الدولة المتنافسة، يحافظ عليه من طريق الأحلاف العسكرية أو الاقتصادية أو كليهما.
راج هذا المصطلح ما بعد نابليون إلى الحرب العالمية الأولى وكانت بريطانيا تمثل عنصر التوازن في أوروبا بمرونة سياستها بحيث تلقي بثقلها مرة مع دولة وثانية مع أخرى، فيحصل استقرار.(22)، ومنه حصل اشتقاق قانون "توازن الرعب" وهو تكافؤ القوة العسكرية بين دولتين متنافستين يجعل كلاً منهما تتهيب شن الحرب على الأخرى خوفاً من العواقب، وهو في امتلاك القنابل النووية أظهر(23) فهي ترعبنا بأساطيلها وصواريخها وأموالها، لكن الجهاد يرعبها أيضاً ويوجعها، ويجبرها على أن تفتش عن "توازن" وهدوء، وجنديها مهزوم نفسياً إذ المجاهد شامخ.
التفاوض والدبلوماسية سلوكان يستمران الحرب
وإذا كان الأمر كذلك، تبعاً لحقائق علم حركة الحياة ومعادلاته: فإن المجاهد مدعو لتجريب صنوف التأثير والأخذ بكل أنواع التعامل، وقد يليق بعد تحقيق الإنهاك للعدو: الدخول في مفاوضات معه وفي حديث دبلوماسي يقصر به الطريق وتتوفر متاعب وتحقن دماء.(1/20)
ونظرية حركة الحياة تعترف بهذا المسلك، وتراه بعداً استراتيجياً في محاولة السيطرة، وهو يقوم على أصل "الحلم" الأخلاقي، فالأخلاق والعقل يكون بهما ضبط لفوضى الحركات.
فليس مدح الحركات يعني صلاحها، بل شطرها سوء وفوضى، فيلزم تنظيمها وكبح جماحها أن تطيش أكثر، بحركة الحلم السلبية المنتجة، وهي في التحليل وعند الفحص حركة تتجه في كل الاتجاهات، لتعقل العاصفة بعقال، على النمط الذي يرويه منصور الكريزي(24):
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب***وإن كثرت منه إلي الجرائم
فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة:***شريف، ومشروف، ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي: فأعرف فضله***وأتبع فيه الحق، والحق لازم
وأما الذي دوني: فإن قال صنعت عن*** إجابته عرضي، وإن لام لائم
وأما الذي مثلي: فإن زل أو هفا***تفضلت، إن الحلم للفضل حاكم
فهنا نجد الحلم يتوزع بحكم الضرورة لمقابلة الجبهات المتعددة التي يغزو منها العدوان، بمعنى أنه انتشار نسبي مقابل انتشار، ومستويات مقابل مستويات، ويضيف ذلك لنا صفة في معرفة الحركة: أنها قد تتوزع في أكثر من وجهة ومستوى، فيرد عليها بتوزيع مثيل، وليست هي دائماً تتركز في اتجاه واحد.
وهكذا تختلط الدبلوماسية في المحيط الإسلامي بأخلاق الحلم، ويعبر الشاعر عن ذلك بقوله:
ولربما ابتسم الوقور من الأذى***وضميره من حره يتأوه
ولربما خزن الحليم لسانه***حذر الجواب وإنه لمفوه
وأنشد المبرد:
قد عشت في الناس أطواراً على خلق*** شتى وقاسيت فيه اللين والفظعا
والفظع: الأمر الشديد المهول الذي لا يطاق.
إتقان البناء الداخلي وتفويض رجال الاستعلاء يكون قبل الاقتحام(1/21)
وتكاد أحاديث السياسة وخطط التناوب بين القتال والدبلوماسية وأخلاق الحلم تدخل "رائد التمكين" في شبه متاهة، لكثرة وجوه الاختلاف في فهم السياسة، واعتمادها على تخمين وفراسات وأذواق، وهذه حالة سلبية تكون معالجتها من خلال منهجيتنا الأساسية في استحضار القوانين الجزئية لحركة الحياة، ومعادلاتها، وظواهرها، وعندئذ يكون فقه الدعوة هو عامل الترجيح، وما في كل قاعدة من منطق.
فمن الظواهر الحيوية التي يمكن استحضارها في هذا المجال أنه:
ليس كل الدهر يوماً واحداً*** ربما انحط الفتى، ثم ارتفع(27)
فهذا الارتفاع أو عكسه الانحطاط: حركتان من حركات الحياة المتزاحمة.
وقيل في نفس المعنى:
والناس في هذه الدنيا على رتب***هذا يحط، وذا يعلو فيرتفع(28)
وكما هو الحال في الأفراد: يكون في التجمعات والأحزاب والدول.
وهذه الظاهرة تبطل زعم من يقول أن فلاناً جاء ليبقى إلى الأبد.
أو أن الدولة الفلانية لا تقهر، ويبني خطته وفق هذا المفاد.
بل كل شيء متوقع.
ولأن مدار ذلك: النفوس، وهي قابلة للتأثر.
ومن قوانين الحياة: أن اليسر بعد العسر لا يكون فقط في صورة منافع شاخصة، بل مجرد إشغال المهموم الحزين هو حل ورحمة ربانية لئلا يستهلك نفسه.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:
(لا يأتي على الناس زمان يضجون منه إلا أردفهم الله أمراً يشغلهم عنه)(29).
فهذا من الأقدار الربانية التي تحرك الحياة بعد وقوفها، والانشغال بالأمر الطارئ يذهب بتراكمات الآلام، ويكون علاجاً نفسياً.
فالوطأة على الفلسطيني أصبحت ثقيلة، فجاء فوزه وإقحامه في الحكم إيناساً، لينشغل بالحيثيات اليومية الكثيفة، وبقلنا وقالوا، وأرادوا، عن الأثقال.
وكذلك العراقي: محنته شديدة، فأتت اختلافات الدول العالمية والإقليمية في تقدير الحلول للقضية العراقية وكأنها ملهاة تسلية عن صرامة الواقع.(1/22)
ومن الظواهر: ظاهرة الانحدار في الأخلاق والصفات، وتغير الزمان إلى ما هو أسوأ، وهي ظاهرة ملازمة للحياة الحديثة، ويشهد شاهد بعد آخر من المتأسفين، ليس في أمصار الحضارة فقط، حيث التوسع المدني يجلب معه ظاهرة الانحدار، بل حتى في المجتمع البدوي، كمثل مجتمع شنقيط وعموم موريتانيا، حيث لمس أمحمد بن المطلب قبل أكثر من قرن هذه الأسواء فقال يصف فقدان الثقات ويقول في أصحابه:
كرام صفت أخلاقهم وتمحضت***وليس الصريح المحض مثل الممزج
أولئك أخداني فأصبحت بعدهم***أساير خلفاً نهجهم غير منهج
يرون جميلاً ما أتوا من قبيحهم***فيا للإله للسفاه المروج(30)
ومن جيد ما قاله شاعر شنقيط عبد الله بن محمد العلوي في وصف اعوجاج الناس:
زمان توانى في المصالح أهله***وكلهم نحو المفاسد راكض
ولم يبق إلا مغمض متباصر***يخاف أذاه مبصر متغامض(31)
فنحن نجاهد في أرض ملغومة بغريب الطباع والأخلاق والمناورات والتطلعات الشخصية والطموحات الذاتية، قبل أن تكون ملغومة بالديناميت، ولذلك يلزم مجموعة المجاهدين فقه تويق، وتحليلات لنفوس المتصدين، وتصدير أصحاب الموازين الشرعية والترتيبات الإيمانية والأخلاصية، وتجاوز صرعى التعصبات الفئوية والجهوية والقبلية، ورواد الشللية وأتباع الزعماء الذين يوافقون على الخطأ الواضح ولا يقولون لزعيم: أخطأت، ونحن بحاجة إلى تقديم من يحافظ على الثوابت، والخطط الأولى، وأهداف التأسيس، ولا يلين إذا طالت المعركة ويتملص من التزامات البيعة، وباطل زعم كل ميداني يحتكر الفضل لنفسه لأنه في الخندق والمواجهة، ويحرم الذين في الخطوط الخلفية والخارجية من الفضل وحقوق المشاركة في صنع القرار، كمثل باطل رجال السياسة والمفاوضين الذين يبرمون الأمور دون تشاور مع مقاتل ورجل ميدان، والإقرار بتكامل الفئتين أصل في فهم حركة الحياة.(1/23)
والقيادي عندنا هو داعية له ولع أن يقايس أمره ويقارن نفسه بالآخرين، ويقتفي أثر السلف حين كان يقول أحدهم لصاحبه:
"هلم: أقاصك"
(يعني: أينا أبعد عن الشر؟)(32)
فذلك هو الفخر، والبعد عن الشر ونوايا السوء هو أرفع التحديات ودلالات البطولة، وهذه المسافة البعيدة هي دلالة خيرية مؤكدة وعلامة إيمانية حميدة، والحرام بين، والشبهة تدركها القلوب اليقظة مهما غطتها تفلسفات، وأوضح براهين كشفها: أن يلجأ المجاهدون إلى القول العتيق الأول القديم، والعرف الراسخ، وسيرة جيل التأسيس ورهط الرواد.
فإذا بقيت بقية لوثة: فإن من قوانين تحريك الحياة وعاداتها: أن بعض الظواهر السلبية السيئة التي يصعب تغييرها: يغيرها الله بالتقادم ومرور الزمن وانتظار بلوغها أقصى زخمها ثم ميلها إلى الفتور.
ومن ذلك ظاهرة الأنفة الجاهلية التي يسميها أهل اللغة "النعرة" بضم النون وليس فتحها كما هو شائع، وبفتح العين لا تسكينها.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه (إذا رأيت نعرة الناس ولا تستطيع أن تغيرها فدعها، حتى يكون الله يغيرها أي: كبرهم وجهلهم)(33).
فعبارة "الله يغيرها" حكاية لحركة حيوية غير مرئية، تترك أثرها، وتلك جزئية من قوانين القدر في الحركة اليومية، وقد تتخذ النعرة المعاصرة في الجماعات شكل رأي خططي محسوم لا مجال لتعديله والحوار فيه، ولم تحسمه شورى ولا فتوى العدول ولا مناظرات الفقهاء ولا تأملات المجربين، ولكن حسمته عند صاحبه اختيارات أهل بلدته أوجهته أو قوميته أو صنفه، وعلى الصواب أن يتكيف حسب مرامه، وليس عليه أن يتكيف مع الصواب.(1/24)
فباستحضار مثل هذه الظواهر والعوامل في حركة الحياة يستطيع المسلم العصري إدراك المقدار الوسطي الصحيح من التعامل السياسي وعلاقته بالممارسة الجهادية، ثم إدراك ما يلزم الممارسة الجهادية من عمل تنظيمي رديف، وأداء تخصصي، وتخطيط لاستثمار معطيات الحياة كلها بشمول وتكامل، بل وما يلزم من تنقيح للعقيدة، والبراءة من الخوارجية وعقائد التكفير والتخوين وقلة التقوى في شأن الدماء، وإن شطراً من الممارسات الجهادية المعاصرة قد حرفتها مثل هذه الأخطاء في التأصيل، فزادت الأمر سلباً زيادة على سلبيات غموض الأهداف والوسائل والآليات وجنوحها إلى مهاجمة المدنيين والقطاعات المدنية ومرافق الخدمات، مما ضرب مثالاً مشوهاً لمعنى الجهاد تنكره قواعد وقوانين الحركة الحيوية.
المعادلات الحيوية هي نظام ضابط صارم
ومعنى ذلك كله: أن التداول المنهجي لأعمالنا وأشكال أنشطتنا هو الذي يعصمنا من المغامرة والتهور والأساليب الخاطئة، وذلك يلزمنا بمزيد توغل في المحاكمات المنطقية والطرق العقلانية وتحكيم القواعد المنهجية وأصول التخطيط، لمنع المتاهة وتبديد الطاقة والحيلولة دون حصول نتائج عكسية جراء الارتجال والنظر السطحي.(1/25)
وأتم ذلك وأحسنه وأقربه إلى الإتقان: أن تصطفي مجموعات الريادة القيادية لأنفسها نظاماً من المعادلات والأنساق المستخرجة من كتلة الظواهر الحيوية وجزئيات محركات الحياة، فتحاول الالتزام بها والرجوع إليها كلما عصفت عاصفة وتراكمت ضغوط وحصلت أحوال حرجة، فتكون هذه المعادلات والنسقات ذات الدلالة التخطيطية هي المشيرة إلى التصرف الصحيح، ويكون إليها الاحتكام عند اختلاف التقدير، وخير مقاييس الاحتكام ما كان سابقاً على وقت الأزمة وموجوداً ومتفقاً عليه في أيام وفرة الحوار الفكري والتأمل النظري، ولا يعني ذلك أن لا يكون فكرنا عملياً ونمنعه من مجاراة المصالح الطارئة والضرورات والعوامل المستجدة، ولكن أن نميز الثابت والمتغير، ونصون الثوابت عن آثار الانهيارات النفسية التي تعرض نفسها في صورة ضرورة ضاغطة، وعن الاستعجال، ونفاذ الصبر، وعن هواتف الشيطان حين يدعو إلى تقاسمات وقناعة بنصف وثلث وربع، وإلى استطابة حفنة حمص نخرج بها من المولد هي خير من حرمان.
والنسق، أو المعادلة، أو القانون الحيوي: هو ترتيب منطقي وتجريبي لمفردات من الحركة الحيوية. فهناك حركات، وهناك ترتيب للحركات، وقيمة هذا الترتيب ليست أقل من قيمة الحركة نفسها.
من ذلك قول ابن المبارك في الترتيب التنازلي لأحسن ما يؤتى المرء، أنه: غريزة عقل، فأدب حسن، فأخ صالح يستشيره، فصمت، وإلا فالموت أفضل(34).(1/26)
وهذه نصيحة من إمام كبير، فلو فرضنا أن ألفاً من الناس في كل جيل يأخذون بنصيحته، فإنهم سيتأدبون إن لم يجدوا الذكاء الذي يشاركون به في إنشاء حركة من حركات الحياة، فهنا تكون قد ضمنت ألف موقف وسطي يمنع إنشاء شيء سلبي، فإن لم يكونوا كذلك: فالرضا بأن يكونوا تبعاً لعقلاء، وهذا بقاء في دائرة الإيجاب أيضاً، فإن لم يجدوه أو صعب عليهم الولاء: وقفوا على الحياد بالصمت، وهذا منع من السوء، فإن لم يستطع هذا الرهط الصمت فمعنى ذلك بداية هدم وفساد وفتنة، والموت خير من ذلك في ميزان العقل.
فهذا النمط من الترتيب يضمن بعض التأثير بالتأدب والتشاور والحياد، إذا كانت النفوس سوية، وهي مواقف تساهم في تشكيل الحركة الحيوية العامة في وقت ما، ومرد ذلك تأسيس عنصر "الشعور بالمسؤولية" في نفس قليل الذكاء، وذلك عمل تربوي مبني على ظاهرة نفسية، والذي أتاح ذلك هو إدلاء بمنطق يقنع المقابل بجدوى الترتيب التنازلي للحركات، وحمد الإنصاف، وشكر البراءة من العيب، وعلى ذلك فإن بعض فن السيطرة على الحركة الحيوية يتحكم به مجرد ترتيب الأولويات وبيان درجات أهمية الأفعال والمواقف وردود الفعل، فينشأ من ذلك تكثير الخير وتقليل السوء، وذلك يعني أن العاقل بعقله ومشاركته في وصف الواقع والواجب والعلاج: يستطيع أن يحمل الآخرين على تصرف نافع يتيح السيطرة، وذلك مثال لجدوى تحليل مثل هذه الوصايا وبيان جذورها النفسية والتربوية ومن الأمثلة الواضحة لمثل هذه الممارسات: مواقف الناس في اعتزال لتأييد جهاد إذا لم يستطع القتال بنفسه، خوفاً أو لسبب آخر.
ومثال آخر لمعادلة حيوية أنشأها الشاعر عبدة بن الطبيب، فأيد صوابها عمر الفاروق رضي الله عنه ويمثلها قول عبدة:
*والعيش: شح، وإشفاق، وتأميل*
فقال عمر: (على هذا بنيت الدنيا)(35).
وهو تفسير عمري لبعض مظاهر حركة الحياة، فإن تعبير العيش هنا يرادفها، والشاعر يتكلم عما يراه يحرك الحياة وأنها ثلاثة محركات.(1/27)
فالشح: كناية مختصرة عن ظاهرة إشباع الحاجة التي أسرف بعض الفلاسفة فجعلها أصل التصرف الإنساني، وهي أحد أصوله دون شك، والعمل الاقتصادي كله يتركز في اصطلاح الشح هذا.
والإشفاق: تردد بين الأخلاق النبيلة الواعظة لمسرف، فتجعله يبطئ، والجبن الذي يعتري المتردد، فيتراجع أو ينهض، والحساب الذي يستولي على حائر، فيتقن التقدير، ويخطط ويلتزم التأني والتقدم المدروس.
وأما التأميل: فهو فتح أبواب الأمل، لتؤدي إلى كل الإيجابيات النفسية، فيتقد الطموح والتحدي، ويكون امتلاء الروح بالعزة والإصرار، وتتعمق الثقة بالنفس، لتطل من نوافذ التفاؤل، ويكون طلب الاستدراك، وتحصل نهضة بعد كل عثرة، ويتجمع وعي بعد الكبوة، فيكون تخطيط وتستولي منهجية.
قال عمر: على هذا بنيت الدنيا. ويقول علم الحياة: وعلى هذا بنيت حركة الحياة.
تحالف الومضة العقلية والأنغام القلبية في الحكمة الجديدة
فتأهب للدخول أيها المؤمن الإبداعي، فإني قد دققت لك الأبواب...
وكنت أثناء التوغل في اكتشاف حركة الحياة مل المحب الولهان الذي يصف حبيبته.
فحقيقتي: أني:
قلب يمل على لسان ناطق*** ويد تخط رسالة من عاشق
مزج المداد بعبرة شهدت له***من كل جارحة بحب صادق(36)(1/28)
فهذه رسائل عاشق لمعنى اسمه "فقه الدعوة" يحييه، ولفن طارفٍ لقبه "فلسفة التخطيط" فيذيعه، وقد أفنيت أكر من نصف قرن من الزمان ولهاناً أطيل التفكير في صفات هذا المحبوب قبل أن أنطق بوصفه، فقلبي هو الذي يتكلم ها هنا، وأشواقي وعواطفي هي التي تباشر الإملاء على لساني وقلمي، وقد كانت السراء تستدعي المعنى السهل المنفتح الذي يمتلئ بالبشائر التي تعد دعاة الإسلام بخير وتمكين، فإذا استرجعت خبر المضايق فلربما نزلت دمعة تختلط بالحبر الذي يترجم خواطري، فمن م امتزجت نبضة الصدق بومضة العقل، فاتحدتا، فكانت نفضة الانطلاق لفكرٍ جديد في عرصات الدعوة الإسلامية يكون الإيماء إلى براهينه وشواهده وخواطره وافتراضاته وتحليلاته تحت عنوان "علم استراتيجيات الحركة الحيوية" فمن اقترب منه وجد فوق الهمس: حباً واضطراما، وحرقة وهياماً، وثورة وغراماً.
30/5/2008(1/29)