أمريكا المستبدة
الولايات المتحدة
وسياسة السيطرة على العالم «العولمة»
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
((
Michel Bugnon-Mordant
ترجمة: الدكتور حامد فرزات
أمريكا المستبدة
الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة»
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
L’AMERIQUE TOTALITAIRE
Les Etats-Unis et la maîtrise du monde
أمريكا الشمولية
الولايات المتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العولمة»
بطاقة شكر
إلى كل من ساهم بالتشجيع وبإعداد وبتصحيح وبطباعة هذا الكتاب وخاصة اللواء موسى الزعبي والأستاذ رضوان تللو والدكتور يوسف الحاج أحمد والآنسة ريدة القنواتي وابنتي شذا.
((
مقدمة
قد يستغرب البعض، وخاصة المسحورين بالنظام الأمريكي، عنوان هذا الكتاب ويقولون إن مثل هذه الصفة تطلق عادة على الأنظمة الديكتاتورية. وأمريكا لم تعرف نظاماً ديكتاتورياً بل ربما كانت دائماً مثالاً لظاهرة ما يعرف بتداور السلطة. لكن سرعان ما يزول هذا الاستغراب عندما نعلم أن من يطلق هذا العنوان هو غربي النزعة والانتماء، ونكتشف كيف أن هذا الكتاب يعرض وقائع تاريخية طالت حريات وحقوق الشعوب لا يقدم على ممارستها إلا الدول المتمرسة بالاستبداد.
لقد عملت الولايات المتحدة منذ تأسيسها كما يعرض الكاتب على فرض سيطرتها وإرادتها على دول العالم في كل المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسة والدبلوماسية والثقافية والفنية غير أبهة بالآخرين وبالصديق قبل العدو.(1/1)
علينا ألا ننسى أيضاً أن الولايات المتحدة كانت الوريث الشرعي للدول الاستعمارية التي عرفها العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل إنكلترا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وهولندا، وما كادت الأمم الأوروبية تنجز انتحارها في حربين عالميتين أدتا إلى تمزيقها وإنهاكها حتى فرضت أمريكا سيطرتها العسكرية عبر جيوشها والسيطرة الاقتصادية السياسية عبر ولاء الحكومات المنهكة والمهزومة، ثم بالطبع سيطرتها الاقتصادية عبر مؤسسات دولية تحتل فيها الموقع الأساسي وشركات متعددة الجنسيات وهي ما «تفضله» على الاحتلال العسكري حيث كانت دائماً تظهر أنها لا تلجأ لأي عمل عسكري إلا تحت شعار «إقامة الديمقراطية وحماية المواطنين وحماية المصالح الأمريكية». ولا ترسل أمريكا جيوشها إلا بعد أن يصبح المتقاتلون في الرمق الأخير، كما حدث في الحربين العالميتين حيث كانت بالبدء تحتل مقاعد المتفرجين بل المستفيدين من جني المنافع فكان الأمريكيون يرسلون للمقاتلين مقابل الدفع نقداً المؤن والأسلحة، وكما فعلت بالسابق في أمريكا اللاتينية تدخلت الولايات المتحدة باللحظات الأخيرة للحفاظ على النظام العالمي وعلى التوازن الكوني وأنجزت هذه السيطرة العسكرية والاقتصادية في الفصل الأخير من الانتحار عندما سقط جدار برلين بعد سنوات من التيه والتخبط وعدم الوضوح في الرؤية، وهكذا ما كان حلماً أصبح حقيقة.
لقد بدأ الصراع بسبب الشطط والغطرسة لدى الأمم الاستعمارية التي رفعت شعار فرق تسد وانتهت بترتيب العالم على الطريقة الأمريكية التي أضافت لفنون السيطرة فنّاً آخر أعطي في بدايته اسم بّراق وجذاب فهو ما كان يعرف بالعولمة تارة أو بالمثاقفة تارة أخرى.(1/2)
لقد فهمت الإدارات المتعاقبة على السلطة في الولايات المتحدة بأن التحكم بالعالم لا يكفيه فقط امتلاك القوة العسكرية الضاربة والهيمنة على أسواقه وحكامه بل هو بحاجة لوسائل أخرى تصل إلى إخضاع جميع أفراده حتى تنتهي عملية الاستلاب على وجهها الأكمل فلم تكتف بإخضاع النفوس بل أرادت إخضاع الرؤوس أيضاً، وذلك عن طريق محو وإبادة ذاكرة الشعوب، فطالت هيمنتها عالم الاتصالات والسينما والتلفاز واللباس والجنس والطعام والشراب واللغة ... ... ، وقد قام الكاتب بعرض هذا الجانب بأسلوب شيق.
إن تبني الليبرالية المتطرفة كعقيدة تجارية واقتصادية هو الذي فرض هذه السياسات التي تهدف إلى محو ذاكرة الشعوب. كلنا نعلم أن الغاية الأولى والوحيدة لهذه الليبرالية هو انفتاح الأسواق أمام البضائع الأمريكة دون أية حواجز دفاعية لحماية المواطنين المحليين، ونعلم أيضاً أن أصحاب هذه العقيدة يملكون هدفاً واحداً فقط ألا وهو جني المنافع والأرباح والمال، وكل الوسائل يُسمح باستخدامها لتحقيق هذا الهدف دون أي رادع. وخلال صعود الليبرالية الجنوني أدركت الولايات المتحدة أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي في العادات والتقاليد والمعتقدات والقوانين والثقافات يشكل حواجز وروادع إنسانية وأخلاقية أمام انتشارها فكان لابد من وضع خطط تفرض الرأي الواحد وتمحو هوية الآخرين.(1/3)
لقد تحاشينا الكلام عن ممارسات الإدارات الأمريكية في الوطن العربي لأن تناول هذا الموضوع يتطلب كتاباً آخر ونكتفي برأي الكاتب المحايد في هذا المجال. ويكفي فقط أن نشير كيف أن الولايات المتحدة لم تتردد بتقديم كل أنواع الدعم العسكري واللوجستي والسياسي والمعنوي والبشري والمادي لكيان غرس في خاصرة الوطن العربي، غير أبهة بأدنى مفهوم لحقوق الشعوب، ضاربة عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية التي تدعي بأنها المدافع عنها. وهي تمارس علانيةً سياسة الكيل بمكيالين للدفاع عن الغطرسة الإسرائيلية واحتلال أراضي الآخرين بالقوة.
بقي أن نقول أننا لم نر في هذا الكتاب إعلان للحرب على الأمريكيين وقد يكون المؤلف على حق حين يؤكد بأنه صرخة إنذار تدعو الشعوب إلى الصحوة لما يجري حولها وإلى الوعي وإلى التمسك بحرياتها وجذورها وأصولها لأنها مهددة بالاندثار لو أنها انقطعت عن عمقها وعاشت عصر السطحية. ولكنه قبل كل شيء دعوة للأمريكيين لمراجعة الذات واحترام الآخرين من خلال احترام حرية الشعوب الأخرى وحقوقها واستقلالها التي يصعب التغلب عليها وهو دعوة «لمثاقفة» و«لعولمة» حقيقية، أي بمعنى بناء الجسور بين الثقافات عن طريق عملية التبادل والاستفادة التي كانت دائماً هي أداة الشعوب لإغناء التجربة الإنسانية بدءاً من حضارة أوغاريت وبلاد ما بين النهرين والفراعنة واليونان والعرب وإنتهاءً بعصر التنوير الأوروبي، وليس بمعنى هدم الجسور بين الثقافات وإبدالها بمفهوم أحادي للعالم مصيره بالطبع الاندثار لأن أي لقاح ثقافي لا يتم إلا بالوجود الفكري المتنوع.
يجب أن يُقرأ هذا الكتاب بجميع فصوله فهو يقدم العرض التاريخي الممتع والتحليل العلمي لظاهرة تشغل العالم أجمع اليوم.
بيير سلنجر
Pierre Salinger
((
تمهيد(1/4)
يبدو موقف الولايات المتحدة غير مفهوم لدى كل من ليس له معرفة بشؤون العالم وحتى لدى المراقب الفطن الذي لم يدخل في متاهات التاريخ الأمريكي. هو غير مفهوم أيضاً لدى بعض الرجال السياسيين المجربين الذين لم يتوصلوا بعد كباقي أغلب المواطنين للشك بأن ديمقراطية ما وراء الأطلسي أصيبت بهوس استبدادي حاد. فهي تتبجح وتحمل بيدها القوانين والأنظمة التي صنعتها مدعية أنه يمكن تطبيقها على العالم أجمع. إن واشنطن تفرض وتأمر وتقرر وتستولي على الدول أو على الشخصيات الاعتبارية مهددة هذه الدولة بالعقوبات والأخرى بالخنق بواسطة الحظر وغيرها بالحرب الاقتصادية المدمرة دون اعتبار لأي كان، فهل لنا إذن أن نفهم بمرارة كيف لهذه الأمة الصديقة رمز الحرية والحليف الوفي في ساعات الضيق قد وصلت إلى هنا؟!!.(1/5)
الجواب مدون في المسار الأيديولوجي لشعب أمريكا، ولم يتبدل قيد أنملة منذ عام 1607 يوم تأسيس مستعمرة فرجينيا، وهكذا نبتت البذرة الأولى لمقومات المغالاة الأمريكية الحالية التي هي ضروب من الصلف للبعض وغير محتملة لدى الكثيرين، وبشكل عام مثيرة لسخط عدد كبير من الناس. لقد نبتت إذن في المبدأ الأساسي للطلائع الآتية من إنكلترا واسكتلندا في السنوات العشر الأولى من القرن السابع عشر. إنه مبدأ كلفاني(1) يقول إنه إن سمح الله أن يجتمع في الأرض الأمريكية شعب من رجال ونساء اختيروا من قبل الله، ذلك لأنه مناط به (أي بهذا الشعب) مهمة حكم العالم ذات يوم. وهكذا نفهم الخطاب الموحد لأمة قامت عام 1776، وهو أن أمريكا هي النموذج الديمقراطي المختار من العناية السماوية، وهي لا تستطيع إلا أن تكون تلك الأمة التي تدل على الطريق الذي يجب السير عليه. وعليها أن تسير هي في مقدمة ركب أمم الأرض كافة، ولم يرَ أبداً الآباء المؤسسون والنخب السياسية والباعة ورجالات العلم والثقافة غير هذه الحقيقة خلال كل العصور.
يجهد كتابنا هذا أن يسير خطوة خطوة وأن يعرض باختصار الطريق الذي مشى عليه الحجاج الآباء حتى القادة الحاليين، الذي أوصل إلى ما يعرف بأمريكا التي غالباً ما اختفت تحت القناع، وسيترك الكتاب على جنبات الطريق كثيراً من الأمور لأن العرض الشامل في هذا المجال يتطلب أن نؤلف كتاباً تتجاوز صفحاته الألفين. وإذاطُلي القناع في مرات عديدة بألوان الرفق والرحمة والتضامن – بحسابات دقيقة - فاليوم سقط القناع بعد زوال أي معارضة جدّية وكشف عن وجهٍ بملامحه الحقيقية المكونة من القسوة والصلافة والتعجرف والأنانية وهي بارزة بشكل كبير بدون شك ومبالغ فيها لدرجة أن الشعوب الأقل تمرداً ستنتهي يوماً إلى رؤيتها بوضوح.
__________
(1) نسبة إلى «Galvin » المصلح الفرنسي المعروف.(1/6)
لقد آن الأوان لأن تنقشع الغشاوة عن الأعين لكي ننظر إلى أمريكا نظرة أقل مجاملة. لن يستطيع هذا الكتاب بالطبع وهو ليس أكثر من محاولة لطرح بعض القضايا وخاصة الاقتصادية، أن يكون سوى صورة مؤقتة وليس دائمة بسبب التطور المتسارع للأحداث، إلا أنه يهدف قبل كل شيء إلى تبيان الطريق الذي مشت عليه الولايات المتحدة للهيمنة بدون شفقة على العالم. نعم إنه بارقة أمل خجولة ولكننا نأمل أن تكون كافية كي تدلنا على المراحل وتثير فينا بداية المقاومة.
((
الفصل الأول :
نحو قيام الأمة المشمولة بالعناية الآلهية
من أين أتت أمريكا؟(1/7)
شعر الإنكليز بدورهم بالحاجة إلى اجتياز المحيط بعد أن مضى حوالي قرن كان خلاله الأسبانيون والبرتغاليون ينهبون القارة الأمريكية. ولم تكن الشؤون الحياتية بعيدة عن هذه الحاجة التي وَلَّدت لدى الكثيرين الرغبة بالهروب إلى الملجأ المثالي. وصف توماس مور، مستثار الملك هنري الثامن في كتاب «الوهم Utopia»، كتائب النبلاء بالذباب الذي يقتات على جهد الآخرين. وكان الأشراف العاطلون عن العمل وغير السعداء مصدر إزعاج لأنهم لا يخدمون المجتمع بشيء عندما يُسَيِّجون الحقول ليجعلوا منها مراعي لقطعانهم الخاصة بهم حارمين بذلك الفلاحين أصحاب الدخل الضعيف من الزراعة التي كانت تمارس بكل حرية في السابق، وكان الأغنياء وهم الأقلية المحتكرة يديرون الحقول لخدمة مصالح المستولين عليها دافعين بذلك الناس الفقراء نحو الجوع والعوز. فكيف لنا إذن أن نستغرب لجوء هؤلاء الناس للسرقة من أجل العيش ؟! تذرّع ريتشارد هكلوت، في كتابه «الإبحار الأساسي، رحلات واكتشافات الأمة الإنكليزية » في نهاية القرن السادس عشر، بالوضع الصعب للاقتصاد الإنكليزي آنذاك ليشجع بقوة مواطنيه لاستغلال الأسواق الجديدة في ما وراء البحار من أجل إنتاج النسيج والاستفادة من مصادر المواد الأولية، مما يسمح بالاستغناء عن المواد الأولية التي تبيعها أسبانيا بأسعار عالية، وتمكين إنكلترا من الانتقام من منافسيها بتطبيق الحصار عليها وإغلاق المنافذ مما قد يدفعها إلى الدمار ويحطم قوتها. من جهة أخرى سيقدم إنشاء المستعمرات الجديدة حلولاً للمشاكل الاجتماعية وسيسمح بإرسال المشاغبين لاستصلاح الأراضي المستولى عليها حديثاً وبأرخص التكاليف والتخلص منهم، وفي الوقت نفسه تطوير تجارة مزدهرة بين أمريكا وإنكلترا.(1/8)
وعندما تنشر في هذه الأماكن غير المتحضرة الكلام الطيب وتدعو إلى الديانة الحقة والوحيدة المتوحشين الذين يعيشون فيها تكون قد أضافت للعملية الكمية المطلوبة من النفحة الإيمانية.
قام إذن استعمار أمريكا منذ البداية في إطار أيديولوجي ثنائي الهدف. كان البحث عن الثروة هو بالطبع الهدف الأساسي ، ولكن أيضاً كان هناك الهدف الآخر وهو العمل على تمجيد خلق الله. أضاف إذن المستوطنون إرادة روحانية لشعب يدعي بأنه شعب مختار، لإقامة مجتمع جديد مميز قادر على إعطاء الدروس لباقي العالم وجاءت هذه الإرادة لتضاف إلى «جوعهم للأراضي» وإلى هشاشة أوضاعهم. يقول المؤرخ الأمريكي دانيال بورستين حول هذا الموضوع في كتابه الموسوعي(1):«لم يكن هناك شعب في التاريخ واثق من أنه على الصراط المستقيم مثل الشعب الأمريكي».
كان وراء اندفاع الحملة الكبرى جمعية أبرشية سكروبي Scrooby وأتباعها هم أنصار نظرية متزمتة صارمة وقاسية. ذهب أعضاؤها في عامي 1608و1609 إلى هولندا للبحث عن ملجأ. وحملوا معهم في حقائبهم أفكاراً متعصبة ورؤية متشائمة قائمة على القناعة بأن الخطيئة موجودة في كل زمان ومكان، ولكن كان لديهم في نفس الوقت القناعة بأن لا أحد جدير أن يلتحق بطائفتهم بحق إن لم يكن مكتوباً له ذلك باعتبارهم اتباع الداعية «كالفان Calvin». ولم يكن يسمح لأحد بالانتساب لهم على كل حال قبل أن يقدم البرهان على استقامته في عقيدته الدينية، كما لم يكن هناك مكان للمعترضين أو المتشككين أو لأصحاب الرأي الحر.
__________
(1) ذكرت أسماء الكتب والمؤلفين في نهاية الكتاب انظر المراجع.(1/9)
استقلوا في 16 أيلول المركب ميفلوار Mayflower ووصلوا في 11 تشرين الثاني إلى (كاب كود). وفي 21 منه كتبوا ميثاق العهد ميفلوار وتركوا المركب على اليابسة في 11 كانون الأول. فاكتسبت الهجرة إلى أمريكا بالنسبة لهم المعنى الذي عرفته لدى المسلمين، أي كانت رحيلاً موحى به من الله من أجل بناء «صهيون» جديدة فوق أراضي بعيدة.
لقد كانوا مأخوذين بقناعة ألا وهي أنهم يجسدون قدراً سماوياً ولم يكن أحد في كل مدن إنكلترا الجديدة يشك بأنه عامل إلهي. أما مرجعهم المطلق فكان التوراة ومنه كانوا يستمدون رؤية الواقع بشكل مشوه. فكان كل عضو منهم يرى بأن الشعب الجديد هو شعب الله، وكل خصم (كائن من كان) يختلف معهم حول هذا النموذج اعتبر عدواً لله، وتتم معاملته على هذا الأساس. وكل ما يحدث كان سببه الله أو الشيطان، وراح الكتاب ورجال الكنيسة والمثقفون والأساقفة وعلماء الأخلاق يتنافسون بالمديح.
على سبيل المثال كان وليم ستوغتون (1631-1701) وهو مواطن من ولاية ماساشوست، يرى أن أمريكا هي أمة اختير مواطنوها بعناية فائقة. فقد عمد الله في اختياره كما يعمل الذين ينخبون الحبوب بالغربال ويفصلون الحب الجيد عن الزوان، وهكذا باستطاعة الحب الجيد أن ينمو في وسط الصحراء.
أما بالنسبة لصاموئيل سوال (1652-1730) وهو رئيس المحكمة التي حاكمت ساحرات سالم، فقد رأى أن إنكلترا الجديدة هي المكان الذي ستشاد فيه القدس الجديدة.
وآخر هو مايكل ويفلسورث (1631-1705) كان واحداً من أولئك الذين أدلوا بدلائهم كشاهدين على بدايات المستعمرة الأمريكية تاركين العنان لأنفسهم لهذيان قومي وروحاني.
ووصف وليم بيرد (1674-1744) في مذكراته التي كتبها بين عام 1709 و1712 مستوطنته حيث كان يعيش فيها حياة بطريرك يسهر على قطيعه من المؤمنين، بأنها كبلاد كنعان حيث يعيش كل من فيها بسعادة.(1/10)
وليس هناك حقاً ما يعادل من حيث النوعية والجانب الحماسي، التمجيد الذي أطلقه كوتون ماتر (1639-1723) الذي كان من عائلة مثقفة وكان كأبيه لامعاً وموهوباً وعاملاً مثابراً وقد دَرَّس في هارفرد ثم ترأسها بعد عدة سنوات، بعد ذلك عمل كراعٍ للكنيسة الثانية في بوسطون حتى وفاته. أطلق العنان لنفسه في الكتاب الذي تركه لكي يصف خارجاً عن المألوف القدر المراد لأمريكا فكان كتاباً واسعاً ومذهلاً.
وفي تركيزه على حياة جون وينتروب حاكم مستوطنة ماساشوست من عام 1629 حتى وفاته عام 1649 شبّهه بالنبي موسى الذي قاد شعبه المختار إلى الأرض الموعودة. ولم ينس وينتروب نفسه رغم أنه بشكل عام كان أقل مبالغة من «ماتر» أن يؤكد في مذكراته بأنه وأصحابه في خدمة المسيح وأنهم يرتبطون معه بعهد وأنه حَمَّلهم فريضة خلق طائفة على الأرض الأمريكية تكون في مأمن من مغريات هذا العالم خاصة بهم، فهم جميعاً أعضاء لجسم واحد متحد وهم شعب الله. لقد كتب يقول: «سنرى بأن إله إسرائيل سيكون بيننا، وسنقيم مدينة مشادة على رابية، وكل العيون ستتجه نحونا».
عظم «ماتر Mather» مهمة شعب إنكلترا الجديدة في كتابه
((1/11)
The wonders of the invisible world) الذي نشره عام 1693. وتقوم هذه المهمة على نشر ملك الله حتى تخوم كامل الكرة الأرضية. حيث كتب يقول إنه قبل مجيء الحجاج الأوائل كانت أمريكا أرضاً للشيطان الذي استخدم كل قوته وكل حيله ليمنع استيطان المستعمرين، فإذا فشل سيعمل جاهداً على زعزعة استقرارهم وقلعهم من جذورهم. وسيضطهد شعب الله كما فعل ذلك سابقاً في الجهة الثانية من المحيط وبعون جماعته الذين يساعدونه. وسيثير ضدهم مؤامرة قوامها من السحرة الذين تجمعوا في جيش من الملائكة الأشرار، وقد سبق لهؤلاء الملائكة أن عاثوا فساداً في مستوطنات مجاورة وقع أهلها معاهدة مع الشيطان، اقسموا فيها أن يساعدوه في مخططه الجهنمي وهو أن يسحر البلاد لكي يحسن تدميرها. وقد اعترف بعض السحرة بجريمتهم فأقروا أن الشيطان أقام مجموعة من اتباعه ثم التحق آخرون بهم وكان هدفهم دائماً هو إبادة الديانة المسيحية من إنكلترا الجديدة واستبدالها بالديانة الشيطانية التي لم يسبق للعالم أن عرف أسوأ منها.
ومن بين الدفعة الأولى للمستوطنين سوف تنبثق السمّات المؤسسة للأيديولوجية الأمريكية، هذه الدفعة من الاتقياء في إنكلترا الجديدة التي سوف تخلد من خلال تعاقبها. وهكذا تأتي القناعة الجديدة بالإضافة إلى الاعتقاد بأن كل عيون الأمم ستتجه بنظرها إلى المستوطنات، وهذه القناعة هي أن الأمة الأمريكية تمتلك مصيراً مميزاً وبأنها قد اختيرت لتعليم العالم شيئاًً ما. وتحت تأثير مذهب كالفان لم تكن هذه الصفوة تشك بأنها من عرق ذي رسالة سماوية.حول ذلك كتب جان بيرنيجه يقول بأنه «جاء زمن الكبرياء بعد سنوات كان الأساس فيها العمل على البقاء، لقد تبين للأمريكيين تكاثرهم ونموهم وازدهارهم وتوصلوا عن طيب خاطر إلى القناعة بأن ذلك هو الدليل على حماية الله لهم لأنه كان راضياً عن فضيلتهم».(1/12)
لا شيء يمكن له أن يعادل الشهادة على أنه كان للأمريكيين الأوائل القناعة بامتلاك الحقيقة الوحيدة كالتأكيد التالي لفرنسيس هيكنسون في كتابه
(New England’s Plantation) حيث يقول:«راحتنا الكبرى وحمايتنا العظمى هو أن نُعلّم هنا وفي وسطنا الديانة الحقة والوصايا المقدسة لله القدير» وأضاف يقول:«وهكذا فنحن لا نشك بأن الله معنا، فمن القادر إذن أن يقف ضدنا إذا كان الله معنا ؟»
شعب الله:
لقد فرض هذا الشعور نفسه بأن الأمة الأمريكية تجسد حقيقة سياسية واجتماعية في كل مكان، وظلّ ذلك ظاهراً في تصرفاتها حتى يومنا هذا. وكانت الأمة لا تعتقد بأنها يمكن أن تكون على خطأ لأن الله يؤيدها. ولذلك كان كل موقف معادٍ لها تعتبره غير مفهوم ويوصف باللاشرعية. وكان الحكم على كل من لا يظهر استقامة ارثوذكسيه في عقيدته الدينية هو طرد المذنب من المجموعة في الأزمان الأولى للتأسيس، ووجب على كل من لا يريد بناء صهيون جديدة الرحيل، ولم يكن يسمح إذن لأية معارضة.
من هنا تأتي النظرة الأخلاقية لكل المسائل ولما كانت الموعظة في القرن السابع عشر التي لها خاصية تميز الكلام عن الكتابة علامة التعبير الصارم وجب إذن عند إعطاء أي موقف رسمي العمل على إصداره بشكل خطابي علني ومنشور وخاصة إن تعلق بقيم معروفة ومشتركة بدهياً بين الخطيب وجمهوره. واتفق معظم المؤرخين الأمريكيين من خلال أسلوب الحياة في إنكلترا الجديدة (عادات خشنة، بساطة في اللغة تتجه نحو الفعل، أسس فكرية) على اعتباره تجسيداً للطريقة الأمريكية في العيش أثناء القرون السابقة. أما المضمون لم يلتفت إليه أحد بكل بساطة، وهكذا خلقت تلك الفكرة من الجمعية الرهبانية بأن الرابط الذي يجمع بين البشر المشتركين بعدد من المعتقدات ينشيء مفهوماً ديناميكياً للعلاقات الاجتماعية يمييز بين الذين يتقاسمون نفس المعتقدات عن أولئك الذين لا يتقاسمونها.(1/13)
ومن هنا قام مفهوم «النادي» الذي نراه اليوم في منظمات حديثة مثل الحلف الأطلسي ومجموعة الدول السبع ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وأوجدت الشرعية الموجهة ميزة أخرى لمفهوم التزمت استخرجت من المعتقدات المشتركة من أسلوب الحياة قوانين يمكن تطبيقها فيما بعد على الواقع المعاشي، ولم يكن أمام المتزمتين في إنكلترا الجديدة أي صعوبة بإيجاد نسباً مريحة ذات نية مبيته من خلال التعاليم التوراتية التي كانت تحكم تصرفاتهم ومن خلال التشريع الإنكليزي الذي كان يؤلف الشكل التوافقي لحياتهم. وكان المفهوم الذي يطبق النص القانوني على وقائع عملية هو من الطبيعة نفسها للمفهوم الذي يسمح لقانون الولايات المتحدة وخاصةً منذ المذهب الفقهي لمونرو عام 1823 أن تفسر الوقائع الدولية على ضوء مصلحتها فقط. وظهرت عدة تأثيرات تركت جميعها بصمتها في عقلية البلد مع امتلاء الأراضي بالناس.
تدين حديث العهد ، وتعنت فكري:
كان نشوء جماعة أصدقاء المجتمع (الأخوة البروتستانت) واعداً بسبب روح التسامح في معتقدهم وقد ساعد الميثاق الذي منح عام 1681 لوليم بن على نشوئهم فجاؤوا إلى بنسلفانيا، ولكنهم لم يلبثوا أن أضافوا للإيديولوجية الأمريكية بعض العناصر الأقل تقديراً. فإذا كانت نظرة المساواة المبالغ فيها والظاهرة في بساطة لباسهم وفي طريقة كلامهم قادرة على جذب تعاطف الآخرين، إضافة إلى تعاطفهم مع الهنود فإنها كانت تتعارض مع الطريقة الوحشية التي يتعامل بها معهم المتزمتون. وإذا كان لابد لحيويتهم التي أثبتوها من أن تشد الإعجاب وخاصة إذا ترافقت مع شجاعتهم ومثابرتهم إلا أن دعوتهم للشهادة وصلابة فكرهم كانت على عكس ذلك. فنزوعهم لترك الأماكن حيث يمارسون فيها كهنوتيّتهم بسلام من أجل أن يذهبوا إلى أماكن أخرى كان تعنتهم لا يسبب لهم إلا الرفض والإذلال. وهو ظاهر في أيامنا هذه وبشكل خاص في السياسة الدولية الأمريكية تحت شكل معارضة لكل حل وسط.(1/14)
وتعمد الحكومات الأمريكية على تمرير وجهة نظرها دون تنازل، وبكل تعنت ومن دون أي تأثر بوجهات نظر حلفائها مع تمسكها بسلوك يبدو لها أنه الوحيد القادر على إيصالها للهدف غير آبهة بالمعارضة وبالانتقادات الأكثر شرعية. وقد ساهمت القناعة المشتركة التي كانت موجودة لدى المتزمتين في إنكلترا الجديدة ولدى الأخوة البروتستانت في بنسلفانيا بأنهم يشكلون شعباً مميزاً، بدعم شعور الشعب الأمريكي المستقبلي بأنه شعب مختار من قبل الإرادة السماوية، ومن هنا شعر أنه مُخَوَّلٌ بأن يفرض وجهة نظره على العالم أجمع. فمن «شرطة الإنجيل» إلى الأخوة البروتستانت تدرجت بعد ذلك الولايات المتحدة بشكل طبيعي حتى وصلت إلى لعب دور «شرطة الكوكب».
غموض نفسي وغياب لكل اعتبار:
إذا كان مشروع تأسيس مستوطنة جورجيا عام 1730 قد اعتمد على رجال كان لديهم التصميم على رفض فساد وأنانية العالم القديم، فإنه لم يتوان أبداً هو أيضاً عن إبراز سلبية الروح الأمريكية. فالرغبة بالعمل الصالح التي تبناها رجال ذوو مشروع غامض ومبهم وجامد في آنٍ واحد قد انتهى إلى الوصول إلى لا واقعية غامضة وساهم بتعزيز الأيديولوجية الأمريكية بوجهها الأكثر عناداً وغير المتسامح والذي لا يحترم كل من لا يتعايش معه. وإذا انتهت مستوطنة جورجيا بالغرق ضحية نظرية الوصاية وعدم استعدادها لكنها لم تتأخر أن تطبع أمة المستقبل بطابع نفسي مبهم ورغبة جامحة بفضل التبرعات والمساعدات البرلمانية باتباع الصرامة عند وضع بعض المبادئ التي تخلت عنها عند مواجهة الواقع بعد أن كلفت الكثير وأدت إلى الخيبة.
حكم الأقلية و«الذرائعية»:
المستوطنة الأخيرة التي ساهمت بشكل معبر بتكوين العقلية الأمريكية هي مستوطنة فرجينيا.(1/15)
رغم أنها كانت قائمة منذ بداية القرن السابع عشر إلا أنها رسخت قواعد تميزها في أواسط القرن الثامن عشر، كانت فرجينيا مستوطنة أرستقراطية والأرض المفضلة للإنكليز الميسورين الذين كانوا يبحثون عن مكان ليتابعوا حياة النبلاء ملاك الأراضي، الذين تضرروا بتطور المجتمع الإنكليزي الذي جعل مستقبلهم غير واضح. وكانت فرجينيا قد أصبحت ملكاً لحوالي مئة عائلة تقاسمت الأرض والثروات وكانت هذه العائلات تتناقل الثروة عن طريق الزواج فيما بينها ضمن طبقة اجتماعية مغلقة. وبما أن أرستقراطية فرجينيا قائمة على المال أكثر من قيامها على التكاثر البشري فقد جسدت عناصر النفسية الأمريكية وشكلت الواقعية والتشبث بالعمل الشاق والنزعة لإقامة المشاريع والميل للدراسة ذات السّمة البراغماتية وروح المسؤولية وجوهها الإيجابية. إلا أنه تم تعديلها عن طريق التمثيل الرأسمالي والنزعة التجارية وما يحملانه من إفساد دنيء.
وأضحت الواقعية مضاربة والنزعة لإقامة المشاريع اتجهت كلياً نحو البحث الجامح عن الأرباح أينما وجدت ومهما كانت نتائجها ووضعت الدراسة والثقافة نفسها ضمن منظور التطبيق الصرف من أجل زيادة المداخيل والأرباح. فزالت بشكل خاص الحدود بين السياسة والاقتصاد، وأصبح المزارع رجل سياسة ولم تعد تُحكم الجماعة بغية تحقيق النفع العام. ولكن أصبحت تدار كما تدار المزارع مع التركيز على نفع المحكومين الذين هم في وقت واحد المقررون والمستفيدون من الإجراءات المتخذة لأن بأيديهم السلطة والأرض والمال.(1/16)
انشغلت طبقة العائلات الحاكمة بشكل كلي بالنضال ضد المنافسة الدولية وبامتلاك الأراضي ذات الأبعاد غير المحدودة، كما أنها اعتادت على التصرف بالأموال العامة حسب مصلحتها المباشرة كما رأينا ذلك في حالة جون روبنسون رئيس الديوان وأمين الخزينة في فرجينيا الذي أقرض عند وفاته عام 1776 أكثر من 100 ألف جنيه من المال العام إلى أصدقائه. لهذا لم تفكر طبقة العائلات الحاكمة بتغيير أو زعزعة البنية الاجتماعية القائمة التي لم يصبها أي تعديل جدي بين 1680-1750. وإذا كان كبار أهالي ولاية فرجينيا أمثال (واشنطن وجفرسون وماديسون ومنرو) قد ساهموا بنجاح هذه الأمة بفضل صفاتهم الجدية وحكمتهم وحذرهم وفصاحتهم ونبلهم، إلا أنه بقي الفعل محصوراً بتأمين نجاح الثورة في الهدف الأساسي من أجل الحفاظ على نمط من الحياة ألا وهو نمط الصفوة الفرجينيية فأعطوا البلد نموذجاً اجتماعياً سياسياً كان لابد من المحافظة عليه.
إذا كان واشنطن من بين الآخرين قد انكب على العمل لتوسيع أملاكه الشخصية وهو الذي وصفه دوغلس فريمين بـ «صياد الأراضي»، حذّر في هذه الأثناء جفرسون مواطنيه ممن أسماهم بـ«الأرستقراطيين المشوهين». فهو يقول بأنه يوجد نوعان من أشكال الأرستقراطية، ينبع الأول من سمو طبيعي ويضم أفراداً أصحاب أخلاق ومواهب الذين هم الثروة الأكثر أهمية التي يمكن أن تهبها الطبيعة للناس. والنوع الآخر هو مصطنع يقوم على الثروة وعلى الولادة دون أن يعزز بأية فضيلة وموهبة لذلك هذا النوع يجسد على عكس الأول خطأً خطيراً. ولقد ضاعت الأمة بسبب تدخلهم في الحكم. و يجب أن يحمي الشعب نفسه من هؤلاء «الأرستقراطيين المشوهين» كما يسميهم جفرسون من أجل ذلك يكفي أن نتركه ينتخب الحكام بحرية فإذا كان الشعب حراَ يعرف كيف يختار بروية.
هذا الغموض بل هذه الازدواجية بين الخطاب الأخلاقي وبين أفعال الطبقة الحاكمة المغلقة استمر طيلة التاريخ الأمريكي.
الأمة الأمريكية:(1/17)
كرست الثورة التي أدت إلى إعلان الاستقلال عام 1776 وإقامة السلام مع إنكلترا (1782-1783) قيام أمة متماسكة بشكل كاف حيث نستطيع أن نؤكد أن شعبها قد كون كياناً متماسكاً ليس هذا فقط ولكنها كرست أيضاً عقلية مؤلفة من شبكة عناصر أيديولوجية لم تتبدل جوهرياً. وعلى رأس هذه العناصر القناعة المترسخة أكثر من أي وقت بأن الدولة الجديدة قد اختارتها الإرادة السماوية ومن هذا الخيار نتج فيما بعد الشعور بواجب القيام بهذه المهمة الكونية بجدارة.
الصفح التاريخي:
بعد أن اتخذ الأمريكيون بعدهم الشخصي عن الوطن الأم السابق إنكلترا، لم تتأخر الفكرة التي وضعها الأمريكيون لمتابعة المسيرة من أن تتخذ طريقاً لها. هذا التباعد لم يكن فقط سياسياً بل أصبح أيضاً ثقافياً، فمنذ عام 1770 حيث تمت القطيعة على الصعيد الفكري كان واضحاً للجميع بأن الهجرة إلى قارة شمال أمريكا ستؤدي لقطيعة نهائية تماماً كما حدث بالسابق مع الأنكلوسكسونين الذين تركوا شواطئ البلطيق واتجهوا إلى الشواطئ الإنكليزية، أو كما حدث مع العبرانيين الذين وصلوا إلى الأرض الموعودة. وبسرعة فائقة كانت القطيعة الزمانية والمكانية واقعةً. واعتبر الأطلسي هذا الحيز المكاني الشاسع الذي لا يعود لأحد كحدود طبيعية على الصعيد النفسي وكذلك شجع العزلة المكانية. أما بالنسبة للزمان فيندرج رحيل الطلائع الأولى للمهاجرين من أوروبا في الإطار المنطقي لتاريخ سماوي، تاريخ ميلاد أمة جعلها الله أمته من أجل أن تكون أداةً لإرادته.(1/18)
من هنا برز غموض أساسي بل ازدواجية في المفهوم الذي جعلته الولايات المتحدة لقدرها. غموض وصف بدقة من قبل اليز مريانسترس Elise Marienstras. فقد أرادت لنفسها أن تكون خارج الزمن وخارج التاريخ ولكنها في الوقت نفسه أرادت أن تكون وريثة الحضارة الأوروبية التي حملت منها المشعل. لذا كرست الأمة الأمريكية نفسها لهذه الثنائية في خطابها وفي الصورة التي أعطتها عن ذاتها. إذ لم تنتج الثنائية عن مفهوم ثقافي ولا عن مفهوم تاريخي ولا عن مفهوم دولة الأمة حسب رؤية هيجل ولا عن مفهوم جان جاك روسو لها، فهي شيء من كل هذا، فكلها مفاهيم تضافرت للتواجد فيها.
بلا إنها روسويه طبقاً لمنشئها التعاقدي حيث أنه يفرض استمرار وجودها طالما لا تنفصم العلاقة القائمة بين المواطنين. بالطبع هي مصطنعة قامت من إرادة الأفراد الذين شكلوها لذا تندرج ضمن إطار كيان جديد قام على أرضية وضعت جانباً كل موروث فكري (الصفح) ولكن وبعيداً عن هذا التوافق المفترض يضاف إلى هذه الثنائية في المفهوم مفهوم آخر له طبيعة تاريخية وعرقية في الوقت ذاته.(1/19)
وبالرغم من إعلان مؤسسي الولايات المتحدة قطيعتهم مع إنكلترا وأوروبا وبأنهم أنقياء من أي خلفية تاريخية أو أي استمرارية زمنية إلا أنهم اعتبروا أنفسهم استمراراً للغة ولثقافة ولتقاليد قاموا باعتمادها وأرادوا عن طريقها أن ينصبوا أنفسهم مرجعاً مطلقاً لباقي العالم. وبما أنها ذات هوية عضوية مختلطة الأجناس لذلك كانت الأمة الأمريكية ملاذاً مفتوحاً للجميع، وقامت في الوقت ذاته باستبعاد كل من لا ينتمي إلى تعريف اثني ضمني: إنها الأمة البيضاء الأنكلوسكسونية البروتستانتية التي شكلت «عرقا»ً مميزاً، وينبغي أن ينصهر في قالبه كل راغب للانتساب للأمة حتى يصبح المنتسب جزءً منها. ومهما فعل السود والهنود فهم إذن بطبيعة الحال مستبعدون من الأمة، إلا إذا تخلوا عن هنديتهم وعن زنجيتهم. وفي نهاية المطاف وعلى كل المستويات فإن الأمة الأمريكية تقوم على الاستبعاد والعنصرية، رغم أنها تنفي ذلك بقوة. الاستبعاد أولاً هو اقتصادي لأن السلطة الحقيقية مصادرة من قبل طبقة المالكين رغم وجود نوع من الحركية الاجتماعية بسبب تعظيم فكرة تشجيع إقامة المشروع التي ظهرت بشكل كبير أثناء الانقضاض على حقول تبر الذهب وعلى أراضي الغرب. ولكن الاستبعاد ليس فقط اقتصادياً، فقد استقرت في العقول رؤية للواقع ثنائية القطب حيث نميز من جهة الجانب الحضاري (المسيحية والأوروبية الغربية) ومن جهة ثانية الهمجية (الهنود ثم السود). أمام الضرورة التي كان عليهم إثباتها من أجل تبرير قيام الأمة بحث الأمريكيون عن طريقة يتمكنون فيها أن يتميزوا عن الشعوب التي تعيش معهم على الأرض نفسها، ولكنهم يختلفون عن الصورة التي أعطاها الأمريكيون لأنفسهم كأوروبين ، فهم حسب ما كانوا يصرحون به على درجة أعلى منهم ومكلفون بمهمة مقدسة.(1/20)
تتجسد هذه الثنائية القطب في صورة معقدة تتألف من وجه إيجابي ظاهر للعيان وآخر مظلم مخبأ ولكنه مع ذلك محسوس. وإضافة لكونها أمة تعاقدية فهي أيضاً عضوية لأنها متوارثة من هنا جاء تقديس المؤسسات واللغة الأم وتعظيم مكانة الأبطال المؤسسين. إنها الأرض التي طلبت الحرية والتسامح ولكنها أيضاً أرض الاستعباد الاقتصادي والاتني، ورغم كونها خارج التاريخ والزمن إلا أنها لم تكن أقل ارتباطاً بالتاريخ عن طريق أصل شعبها وعن طريق الرسالة التي كان هذا الشعب يعتقد أنه مكلف بها. ورغم أنها شيدت على قيم أممية إلا أنها انفردت بعدد لا يحصى من القيم المصطنعة، أما ادعاؤها بأنها تشكل مزيجاً متجانساً فقد قام على حساب قسم من الشعب نحي جانباً لأنه مختلف.يكفي الموقف من الهنود وحده لإظهار وجهها غير المتسامح والعنصري والمستبد. أصبحت الحادثة الأولى أسطورة تتكلم عن العلاقات ما بين الهنود والمستوطنين، إنها حادثة جون سميث الذي نزل في فرجينيا عام 1606 وأسره الهنود ثم أنقذته الأميرة بوكاهانتس. كتب سميث يقول:«إن الله القدير قد دب الرحمة في قلوب هؤلاء البرابرة القساة وجعل قلوبهم ترق». ووصفت ماري رولندسون التي وقعت أسيرة أيضاً بأيدي الهنود بين 10 شباط و 2 أيار 1676 اللحظات التي قضتها معهم ولاحظت منذ الليلة الأولى زئير وأناشيد ورقصات وصراخ هذه المخلوقات السوداء في الليل التي جعلت من المكان أشبه بجهنم، ولم تكن ترى فيهم إلا وثنيين قد رأى الله الرحيم أنه من المفيد الاحتفاظ بهم فكانوا تحت سيطرة الشيطان حتى أثناء تدخينهم التبغ الذي كان خدعة يستعملها إبليس لكي يذهب بعقولهم. وقد ذهب «كوتان ماسر» إلى أبعد من ذلك فقال:«إن الشيطان قد درب الهنود واتى بهم إلى هنا ليمنعوا أصحاب الإنجيل من تهديم سلطته المطلقة عليهم».(1/21)
لقد كان الموقف من الهنود على درجة من العدائية فيما عدا الأخوة البروتستانت (الكوارتز) ورجل ذو فكر متنور وهو روجيه وليامز الذي فر إلى رود إيزلند ليهرب من ملاحقة المتعصبين، مما أدى إلى وجود هوة واسعة بينهم وبين البيض. فإذا كان الهنود يشكلون حضارة تمتلك ثقافات متنوعة وتعرف الطب ولديها رؤية حقيقية سياسية ورؤية كونية وديانة وأدب شفهي يحتوي على أساطير وكان هذا غريباً بشكل كامل عن رجال تمسكوا بالوحدانية التي استقوها من الديانة التوحيدية غير المتسامحة وكانوا لا يرون أي تنظيم بشري غير تنظيمهم ولم يكن الأسبانيون والبرتغاليون أكثر انفتاحاً على شعوب أمريكا الموجودة قبل عصر كولومبس.
ورأى الأمريكيون أيضاً في الهنود قبل كل شيء فوضى عالم واقع تحت سيطرة الشيطان والتقوا بسبب طبيعتهم الفاسدة مع كل الوثنيين وكل الشعوب غير المسيحية، وضربوا عرض الحائط بالإرادة الإلهية وعاشوا حسب قانون الطبيعة لينشروا الفساد. إنهم إذن قناصون أي متمردون على الحضارة لأن الرجل المتحضر هو الذي يفلح الأرض ويستثمرها ولا يكتفي فقط بالجلوس فوقها.
ولخصت أليز مريانسترس في كتابها الأكثر شهرة حول الأساطير المؤسسة لأمريكا المواقف الأربعة الرئيسية للبيض تجاه الهنود. أولاً الفكرة القائلة بأن الهنود هم سيئون بطبيعتهم لأنهم أتباع الشيطان ويجب بكل بساطة القضاء عليهم. وكان هذا موقف المتعصبين وموقف رجل اسمه هنري بركنريدج (1748-1816) وهو إسكتلندي هاجر إلى أمريكا عام 1753 وشارك بتأليف قصيدة المدح The rising glory of America (بعث النهضة الأمريكية).
الموقف الثاني هو أكثر اجتماعيةً وقد نتج من مفهوم مختلف بين الطائفتين لأمور اقتصادية. فبالنسبة للبيض هناك أفضلية إجبارية للفلاحين على الصيادين.(1/22)
الموقف الثالث يندرج ضمن إطار الرؤية الزمنية. فحسب المفهوم المسيحي للتاريخ يبدو هذا الأخير ذو اتجاه مستقيم ويفرض نمواً ثابتاً باتجاه الحضارة. والهنود موجودون كما يبدو في مرحلة لا تزال بدائية إذن متخلفة عن هذا النمو.
الموقف الرابع هو أكثر ذرائعية: فالهنود يعيشون على أرض يحتاجها البيض ولا يمكن تصور الملكية المشتركة، إذن أمام الهنود خياران هما الهجرة أو الزوال.
سيأتي زمن يتمتع فيه الهندي بصورة إيجابية، وذلك فقط عندما تصبح صورته أداة جذابة بالنسبة لأوروبا، وستبصر النور حينها أسطورة «الهمجي الطيب» البريء الذي يعيش حياة مسالمة يحسد على مصيره أكثر من الفلاح الأوروبي. ولكنه يبقى جاهلاً وبدائياً تعيساً وبربرياً بالنسبة للمواطن الأمريكي. وهكذا أصبح الهندي حكيماً وشجاعاً ومحباً للحرية ونموذجاً لكل الفضائل البدائية بالنسبة للأوروبي المسحوق، وباختصار وكما ذكرت مريانسترس «لقد استخدم الهندي في الكتب إلا أنه رفض في الواقع».(1/23)
ومع مرور السنين وازدياد الحاجة الماسة للأراضي أخذت العدوانية نحو الهنود تتبدل إلى كراهية. إن المستوطنين الذين لم يُتَحْ لهم بالغالب البدء بمتابعة الحياة لولا مساعدة الهنود كانوا يفكرون بأنهم ليسوا مدينين نحوهم، وليس عليهم أي واجب تجاههم، ولم يعاملوهم على صعيد المعتقد إلا بالاحتقار، وعلى صعيد التصرفات كانوا يعاملونهم بعدم الاحترام بعيداً عن التسامح. وقد حكم عليهم بأنهم على نقيض هذا الزمن وليس لديهم أي تنظيم سياسي أو اجتماعي. أما المسيحية التي رفضها الهنود لأنها غريبة عنهم فقد برّرت المذابح والخيانات والجحود والسلب. لقد كان المستوطنون يعتقدون أن الله يحميهم بإبادة الهنود بكل أنواع الأمراض الوافدة من أوروبا، فالشعب المختار يفتخر بالقيام بالحرب ضدهم التي انتهت بإبادة البيكو وشَكَرَ المستوطنون الله الذي ساندهم بشكل رائع بعد حملة 1637. وقد وَقَّعوا مع الهمجيين بعض الاتفاقات ولكن تعطشهم للأراضي كان قوياً، لذلك كانوا يتخلون عن التزامهم.(1/24)
كان المصير الذي وصلوا إليه أخيراً معبراً. لقد كتب أيف هنري نويلهات يقول:« أما بالنسبة للهنود وبعد أن أخذت منهم أراضيهم أخذ شعبهم يتناقص. لقد انتهت الحروب الهندية مع بداية القرن العشرين، وفي عام 1910 كان عدد الهنود لا يزيد عن 220 ألف وقد كانوا 600 ألف نسمة عام 1776 معظمهم كان يعيش في مقاطعات على أراضي فقيرة جداً لجذب الوافدين الجدد البيض. لقد جُردوا تقريباً من كل شيء» وبقي لهم 90 مليون أكر (الأكر يساوي 4آلاف متر) من أصل 137 مليون أكر كانت لهم عام 1887وحصلوا في عام 1924 على المواطنية الأمريكية إلا أنه كان عليهم التخلي عن كل ما يمت بصلة إلى (هنديتهم). واليوم لا يحسدون على وضعهم فثلثهم يعيش تحت عتبة الفقر وحذرهم من البيض بقي على حاله. يؤكد رافن سلفا وهو معد أحد البرامج الإذاعية للكلام عن شعبه واسمه « دائرة الأمم الحمراء« بأن الأمريكيين لم يحاسبوا ضمائرهم ولن يفعلوا هذا أبداً. لقد قال: «أمريكا هي آخر مكان في العالم يعترف بأخطائه. هذا البلد مصاب بفقدان ذاكرة جغرافية وتاريخية، فأمريكا تخترع تاريخاً لها خلال حقبٍ منتظمة وهوليود تستخدم كسحر نفسي أمريكي ودولي». لقد منح الكونغرس الأمريكي الهنود حرية ممارسة معتقدهم الديني عام 1976 وهم الآن عام 1997 لديهم شكوك حقيقية حول إمكانية متابعة العيش.(1/25)
لم يكن السود أوفر حظاً من الهنود إذ إنهم لم يتمكنوا من أن يصبحوا جزءاً من الأمة الأمريكية. ورغم أنه كان هناك في كل زمان رجال يرثون لحال السود العبودية إلا أنه لم يحدث الاعتراض على هذه العبودية بشكل جدي إلا مع منتصف القرن التاسع عشر. قبل ذلك حسب ما كتبت مريانسترس كان الأسود يعتبر«كأحد عناصر الاقتصاد الغربي بمجمله». إنه وسيلة وآلة لم يفكر أحد بشكل جدي بالتخلي عنه. « السود هم كتلة غامضة وبضاعة وقطعة أثاث جيدة»، وأخيراً طرحت فكرة اعتاق العبيد نتيجة التمازج بين التيار الإنساني المسيحي والأيديولوجية التحررية وأدت في النهاية إلى منع أمة تشملها العناية الآلهية ألا وهي أمريكا من قبول قيام مؤسسة موجودة على أراضيها بحرمان بعض بني البشر من حريّتهم. ولكن كل هذا لم يصل إلى إدخال السود كأحرار إلى مجموعة المواطنين. كان البديل إعادة السود إلى أفريقيا أي من حيث أتوا أو إعطاءَهم أرضاً في الغرب الأمريكي الذي لا يزال غير مأهول. المهم الأبعاد النهائي لفكرة الاندماج الحقيقي. فالأسود وهو بطبيعته كائن أدنى من الأبيض وسيبقى دائماً كذلك. ذكرت مريانسترس كاتب أمريكي مثل سان جون توكر الذي تَقبّل فكرة عتق العبيد أي إلغاء الرقّ كونها ضرورة ولكنه عارض كل فكرة تدعو إلى مساهمة السود في الحياة السياسية للبلاد. «وكذلك لم يؤمن جفرسون أنه من الممكن إدماج كائنات إنسانية لم تتلق شيئاً من الإرث الأنكلوسكسوني في الديمقراطية الأمريكية. وكان جون توكر مقتنعاً بأن متعة الحرية كما هي موجودة في الولايات المتحدة لا يمكن أن يستوعبها السود المحررون». والواقع الفعلي الذي أتى بعد ذلك مع التحرر سنة (1863) يتكلم عن نفسه. ففي كل ولايات الجنوب أعطي السود بشكل عام سنة واحدة لترك أراضي الولايات الجنوبية، ولكن بما أن الولايات المجاورة أقفلت حدودها بوجه السود انتهى الأمر بهم أن يعودوا إلى وضعهم السابق كعبيد.(1/26)
لذا وضمن هذا الواقع كان التمييز العنصري هو النتيجة المنطقية منذ سنة (1883).
استحالة دمجهم في الأمة تجد منبعها في الأيديولوجية التي كانت العامل الرئيسي في تأسيس الأمة. تُوَضِّحُ مريانسترس وتقول: « أن تفتح الباب للسود وقبلهم الهنود بالدخول إلى المواطنية هذا يعني إدخال مفهوم التعددية إلى حد قد يبدل بشكل عميق صلب النظام» ويكون ذلك غريباً بشكل كامل عن المفهوم الذي لدى الأمريكيين عن طبيعتهم كشعب مختار لديه رسالة. «كذلك لم يكن المستوطنون يستطيعون قبول المجتمع المتعدد الأعراق حيث يمكن للخلاسيين أخذ مكان وسيط كما أن مواطني الجمهورية الجديدة لا يستطيعون قبول وجود عناصر مختلفة في المجتمع المدني.
يجب على الأمة الأمريكية أن تكون موحدة العرق. «تُعرف الأمة بانتمائها للعرق الأبيض وبلحمتها حول المصلحة المشتركة ويجب تحاشي التسلسل والثنائية أيضاً لأنه علينا الاحتفاظ بالسود خارج المجموعة عن طريق العبودية وتركهم في الوقت ذاته ليلعبوا دورهم كأدوات اقتصادية فمن الجانب النظري لم يحصل الأسود الأمريكي الذي تم الاعتراف به ككائن بشري على أيٍّ من الامتيازات التي اعترفت بها الأيديولوجية السارية المفعول كحق للبشرية في كل مكان من هذا الكون».(1/27)
علينا أن ننظر إلى هذا الموقف على ضوء واقعتين تاريخيتين على الأقل. أولاً يجب الاعتراف أن طرد شعب بواسطة شعب آخر يملك الأكثرية في بلد ما لم يكن حينها شيئاً جديداً ولا الظاهرة الأكثر تطرفاً للواقع القائم. وثانياً علينا الإشارة هنا إلى درجة كراهية استعباد السود لدى قسم من الشعب الأمريكي وهذا الأمر لا ريب فيه. وما كان دانيال بورستين قد اسماه «بالجزيرة» أي الجنوب العبودي أخذ مع مرور السنوات يلاقي عدم تفهم من قبل عدد متزايد من المجموعات البشرية في الاتحاد غالباً خارج الجنوب ولكن أيضاً في داخله كما أن دور الوسيط اللندني المزارع قد اضمحل أمام دور الوسيط الفرجيني الذي أخذ على عاتقه كل الهموم الإدارية، وهكذا تلاشى التطور الذي كان يميز الملاكين في الجنوب مما أدى إلى أفول في الرأسمالية الجنوبية التي كانت قد حجرته.وأمام الهوة الإجتماعية المنحدرة من أصل قديم التي كانت تفصل العائلات عن مئات الألوف من المهاجرين السود الذين أتوا من أفريقيا دون إرادتهم وقف الرجل النبيل غير مبال مستسلماً لسبات مريح. ولم يأخذ بعين الاعتبار السود حتى كمهاجرين لأنه حكم عليهم بأنهم غير قابلين للاندماج فمن كتاب بنجامين لندي Genius of universal Emancipator الذي نشره عام 1821 إلى إبراهام لنكولن مروراً بالحركة الأمريكية ضد العبودية (1833) والمقالات الحماسية لليبرالي وليم لويد غارسون عام 1831 لم تتوقف الموجة المعادية للعبودية عن التضخم والازدياد.
الأمة الثنائية الوجه:(1/28)
أمريكا اليوم هي أقرب ما تكون لأمريكا الأمس، أي أنها ذات وجهين، فمن جهة هناك الوجه الذي تحاول أمريكا بكل قواها إبرازه للعالم. وبما أنها أرادت لنفسها أن تكون ابتكاراً شاملاً وتجديداً كاملاً وإعادة بناء انطلاقاً من خطة إلهية لذلك وجدت في نفسها مكان اللقاء مع الفردوس حيث بدء التكوين، الفردوس الضائع الذي طالما تكلم عنه الأدب الأوروبي. هو المكان الذي يمارس الناس فيه نقاوتهم حيث يعيدون أمجاد العصر الذهبي، أما الناس الذين سيقيمون فيه سوف يجدون البراءة الأولى محاطين بهالة من السلام والوئام الملازم للطبيعة المعطاء قبل العقد الاجتماعي. أمريكا هذه هي إذن القدس الجديدة، الكون الموجود خارج التاريخ نتيجة تضافر إرادتين: الإرادة السماوية وإرادة الشعب الذي اختارته السماء لتنفيذ هذه الإرادة. وسوف يوضح جورج واشنطن هذه الفكرة عن التدخل الإلهي بواسطة تصور مشهور استعاره بدون شك من آدم سميث فقد قال في مقالته Inaugural Adverse « لا يوجد شعب في العالم أكثر من شعب الولايات المتحدة مطالب أن يشكر الله ويعبد اليد الخفية التي سيرت قضايا الناس. فكل خطوة سمحت له بالسير على طريق الاستقلال القومي كانت تحمل علامة التدخل السماوي». أما بالنسبة للرئيس جون أدمز
(1735-1826) فإن الولايات المتحدة هي المكان الذي قدر له أن يكون الحيز الذي سوف تتحقق فيه سعادة العرق البشري. أما بالنسبة لكل الأمريكيين كانت أمريكا المكان المخصص مسبقاً والملجأ الذي تنتقل إليه الحضارة من مرحلة انتقال نحو الأممية وتحرر الكرة الأرضية بمجملها. هنا سوف تتحقق حقوق الإنسان وهذا الإنجاز سيؤدي لولادة مجموعة دولية يقودها الشعب الوحيد الذي يستحق هذا الشرف. أمريكا هي الرحلة المثلى لتحقيق مبدأ الأمة الذي سيتوطد بواسطة نصوص مقدسة (إعلان الاستقلال و الدستور) وبواسطة المشاعر الوطنية في كل مكان. وحكومته هي الوحيدة التي لم يسبق لله أن أيد مثلها.(1/29)
ومن جهة أخرى هناك الوجه المستتر لأمريكا الذي حاولت إخفاءه وإنكاره، الذي يقابل بالرفض في كل مراحل تاريخها. إنها أمريكا الاستبعاد، أمريكا العنصرية التي تحلم بعالمية في المستقبل معنوية وغير مجسّدة عنها وهي قانونية صرفة. إنها تلك التي تريد أن تزوّد العالم بمؤسسات ذات وجه واحد قادرة في كل مكان على فرض حضارة قائمة على نموذج واحد ترى أنه النموذج الشرعي، وهذا النموذج هو نموذجها. فهو شرعي لأنه أعلى من كل النماذج الأخرى، فأمريكا هي أمة مصطنعة وقياسية وعقلية إذن هي الأمة المثلى. قادتها مثل جوزيه ومثل النبي موسى هم وسطاء بين المواطنين والإرادة الإلهية. ومن هنا قام مفهوم اعتبار الأبطال المؤسسين كأولياء. فواشنطن وجفرسون وفرانكلين والآخرين اعتبروا أفراداً فوق البشر وغير قابلين للفناء. وقد تغذت هذه الفكرة الأساس من التوراة ومن معتقدات المتشددين وربما أيضاً من الفلاسفة لأن الأيديولوجية لها أيضاً وجهان مثل قطعة النقود المعدنية (وجه وخلف).(1/30)
الوجه هو التصوف والتدين والتعلق الهذياني بفكرة الأمور السماوية والعالم الآخر. والخلف هو الليبرالية الاقتصادية وقاعدتها الفلسفية. ونحن نذكر أن مختلف المستوطنات كان لها أيضاً مؤسسون وقد برر هؤلاء استيلاءهم على الأراضي بالميثاق الذي كانوا قد حصلوا عليه من الملك كميثاق شركة إنكلترا الجديدة أو ميثاق شركة فرجينيا. آخرون كانوا «لوردات» ملاك أراضي من الطبقة الارستقراطية في ميرلاند وفي نيويورك وبنسلفانيا بعد نكسة شركة الهند الغربية الهولندية ونيوجرسي والكرولينتين وجورجيا. هؤلاء الناس لم ينسوا بالطبع أنهم جاءوا لإقامة مملكة الرب ولكنهم لم ينسوا أبداً بأن عليهم أن يقيموا مشاريع ويكسبوا الأموال. وفي عالم الأعمال لا يصعب علينا المزاوجة بين الواجب الإلهي وكسب الثروات المادية. هذا التزاوج كان من طبيعة الأشياء. فكل متمسك بالدين يعلم باعتباره كان قد قرأ ما كتبه «دانيال دفوه» أنّ من يقيم منشأة منتجة تدر له الأموال، وبالتالي فإن النجاح المالي هو دليل على أن الله يوافق على ذلك، وأن نعمته هذه هي مكافأة على الجهود وقد أنعم بها على من جنى الأموال. في رواية روبنسون كروزوه يبرهن دفوه بأنه لا توجد علاقة سعيدة بين الناس إلا إذا تعاملوا كشركاء جيدين... الله نفسه قدم كشريك لكل عمل تجاري. كل الأباء المؤسسين من فرانكلين إلى جفرسون إلى واشنطن كانوا قد قرؤوا دفوه ولكنهم قرؤوا أيضاً آدم سميث وديفيد هوم وأرموند بورك وجون لوك ومرجعهم التاريخي كان الثورة الإنكليزية عام 1688. وكان دفوه قد أدعى قيام عصر جديد عصر التجارة والحس السليم. وكان على نخبة هذا العصر ممن كانوا يعرفون بالعباقرة والموجهين من قبل العناية الإلهية لإقامة عالم منظم ومريح.
المهمة الكونية:(1/31)
كانت أمريكا بالطبع أمة الانفصال ولكنها كانت أيضاً أمة الإعادة والتجديد. إن الأمة الأمريكية التي كانت مشعل البشرية والتي وضعها الله على الأرض من أجل إقامة الجمهورية الوحيدة المشمولة بالعناية الآلهية والتي أعلنت استقلالها عام 1776 مدعومة بأيديولوجية لا تتزعزع، هذه الأمة كانت مستعدة لتنظر إلى أبعد من أفقها المباشر. بنجامين فرانكلين رأى أن الولايات المتحدة سوف تلد مجتمعاً شاملاً يعمّ الكون. فالمؤسسات والعادات والمبادئ الأمريكية مكرسة لكي يتم تطبيقها في كل مكان. ولكي تلغي كل خلاف مهما كان نوعه بين الناس، وباعتباره بلداً نموذجياً كانت أمريكا بالنسبة لمواطنيها تسمو على كل الأمم الأخرى، ومن أجل ذلك كانت مدعوة لكي تحل في نهاية الأمر محلّ تلك الأمم بشكل نهائي.(1/32)
إضافة لهذه المهمة المثلى المطموسة الأثر كان هناك ضرورة التوسع بالأراضي. ولكي نفهم جدياً تصرف الولايات المتحدة حتى في أيامنا هذه علينا أن نعرف مفهومها للأرض وللحدود. هذا المفهوم ليس نفس مفهوم القانون الدولي. بالنسبة إليهم الحدود القومية هي مبهمة متحركة ودائمة القابلية للامتداد. فالكرة الأرضية المقسمة إلى دوائر متحدة المركز انطلاقاً من الأرض الأمريكية متسعة نحو الخارج كانت موضع رهان كبير على رقعة شطرنج. ورغم أنها ليست عسكرية فهذه القابلية للامتداد قد تمت بطريقة مرتبطة بالثنائية الأيديولوجية فهي المثال لكيفية الفتح الإلهي من جهة ومحو كل بنية سياسية واجتماعية لكل كيان غير أمريكي بواسطة جعل الوسائل التجارية ليبرالية من جهة أخرى. في خطبة الوداع عام 1796 كان جورج واشنطن واضحاً إزاء ذلك وفي الوقت نفسه كان مؤسساً فقد أكد «بأن قاعدة سلوكنا الكبرى تجاه الأمم الأجنبية يجب أن تعتمد على بسط وتوسيع علاقاتنا التجارية، ولكن يجب أن يكون لدينا علاقة سياسية أقل ما يمكن معها { ..... }ويجب ألا تعتمد سياستنا الحقيقية على علاقات دائمة مع أي جهة في العالم». فما كان أعتبر بشكل خاطئ رغبة في الحياد ما هو عملياً إلا تعبير لإرادتين. الأولى هي الحفاظ على الانعزالية التي تسمح لليد أن تبقى طليقة وتحافظ على تأثيرات خارجية بطبيعتها غير المرغوب فيها لأنها تساهم بعملية «الأمركة» السماوية ثم الحفاظ على انفتاح في كل الاتجاهات وعلى السريان في عروق الكرة الأرضية الشيء الذي سيسمح للولايات المتحدة من التوسع بمصالحها الاقتصادية.
من التوسع الجغرافي إلى السيطرة الاقتصادية:
ما بين الثورة الأمريكية وحرب الانفصال كان على الولايات المتحدة أن تعمل لإنشاء وتثبيت أقليم أرضها القومية.
السيطرة على الدائرة الأولى:(1/33)
تميز بعض التواريخ مراحل هذه السيطرة. في عام 1785 أعطى صك بيع أراضي الغرب البداية الرسمية لتملك الأرض حتى المحيط الهادي مما جعل جاك بورتس يقول:«إن التوسع الأمريكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر كان قبل كل شيء شكلاً من أشكال الاستعمار». في عام 1803 امتدت الأمة إلى لويزيانا التي تم شراؤها من نابليون، وتوطدت عام 1810 آليات الموقف المستقبلي الإمبريالي عندما أصبحت فلوريدا الغربية «ملكية» أي ملكاً أمريكياًً «عن طريق الاستيطان والثورة المفتعلة» حسب رأي جان برنجه وفي عام 1819 بواسطة «التدخل والضغط في منطقة فلوريدا».
في عام 1823 حدد الرئيس مونرو من جانب واحد كما سنرى النظرية التي ستحمل من ذلك الحين فصاعداً اسمه، كتب جان بيرنجيه يقول بأن رسالته إلى الكونجرس «حددت القارة الجديدة كأرض ذات وحدة متكاملة والولايات المتحدة هي الحامي المميز لها». ومع مرور الزمن أصبحت نظريته هي عصب الدبلوماسية الأمريكية ومن حينها لم يعد مستغرباً أن ترى رجال الأعمال الأمريكيين أول من اهتم بهذه النظرية لمونرو، فالتجارة مع أمريكا اللاتينية نشيطة وبدأت رؤوس الأموال استثماراتها فيها. لقد كانت الرغبة في توسيع الأرض والنفوذ في وقت واحد باتجاه الجنوب جامحة مما يفسر كيف أن الأمريكيين لم يقاوموا هذا الانجذاب الذي مارسته المكسيك.
المكسيك المغتصب:(1/34)
المراحل المختلفة للنضال من أجل استقلال المكسيك وهي بلاد على صلة مباشرة مع الولايات المتحدة معروفة بشكل كافٍ. فعندما وصلت المفاوضات بين أوتربيد زعيم الخلاسيين والفيريرو زعيم الثوار إلى إعلان الجمهورية في عام 1823 تصارعت فصيلتان على البلد: المعتدلون أو المودرادوس (وسط) الذين استهواهم النظام الجمهوري على الطريقة الفرنسية ضد البيروس (الفيدراليون) الذين تطلعوا باتجاه الولايات المتحدة. دام الصراع حوالي ثلاثين عاماً ونتج عنه بروز قادة عسكريين طامحين وأبرزهم سانتا أنا عام 1833 الذي أصبح ديكتاتور المكسيك وجابه استفزازات الأمريكيين باحتلاله قلعة ألامو Alamo عام 1836.
سوف تشكل تكساس الأداة الرئيسية في الاستراتيجية الأمريكية تجاه المكسيك وبما أنها كانت ضمن الأراضي المكسيكية بعد أن حصل المكسيك على استقلاله فقد تم الاعتراف بها كجزء لا يتجزأ من هذا البلد في معاهدة أدامس-أونس عام 1819 ولكن منذ عام 1821 جاء مستعمرون أمريكيون بقيادة ستيفن أوستين وأقاموا في تكساس وبشكل سريع أصبحوا يشكلون الأغلبية وأقاموا دولة تستخدم الرق وأساليب العبودية وتعتمد على زراعة القطن. وفرضوا شكلاً من الحكم الذاتي على الحكومة المكسيكية، ورفضوا الانصياع للحكومة عندما رفضت أن تعطيهم ذلك وأدت ثورتهم إلى مذبحة آذار عام 1836 وولدت رغم ذلك وفي الثاني من آذار من السنة نفسها جمهورية تكساس فسارع مباشرة الرئيس جاكسون للاعتراف بها. وبعد تسع سنوات من الاستقلال الفعلي ورغبة من الرئيس تيلر بدعم مطالب الجنوبيين الذين كانوا يرون في تجارة القطن بين تكساس والدول الأوروبية (خاصة فرنسا وإنكلترا) عقبة لتوسعهم قام تيلر وبكل بساطة بضم تكساس نزولاً عند رغبة الأغلبية التكساسية التي قدمت من الولايات المتحدة وأصبح ذلك أمراً واقعاً تحت الولاية الرئاسية لجيمس بولك في الأول من آذار 1845.(1/35)
في ذلك الحين كان الديمقراطيون لا يزالون واقعين تحت تأثير مقال الصحفي جون أوسليفان الذي نقل إلى قرائه في صحيفة يوناتيد ستيت ومجلة الديمقراطيين ما كان جون هافر يسميه «إمبرياليته العدوانية». لقد طالب فيما اشتهر بعد ذلك بمبدأ «المصير الجلي» مبرراً بواسطته المطامع التوسعية لجزء كبير من الرأي العام الأمريكي.
ولم تقف حكومة المكسيك مكتوفة الأيدي أمام ضم تكساس مما دفع بأوسليفان أن يرى في ذلك فرصة متابعة «توسع الولايات المتحدة حتى المحيط الهادي» هذه الإرادة قامت ليس على «الحاجة للأراضي بل على فكرة الاستعلاء الثقافي للأنكلوسكسونين وعلى احتقار واضح للحضارات الأخرى». ضمن هذه المقولة زحف الجنرال زكاري تايلور (1784-1850) على ريو الكبرى على رأس أربعة آلاف متطوع وأشاد قلعة برون مقابل مدينة متاموروس عام 1846. ثم استولى على المدينة بعد أن هزم الجيوش المكسيكية في معارك بالوالتو ورساكابلما في 8 و 9 أيار. في أيلول قام بأسر مونتري ومن ثم احتل فكتوريا رغم العقبات التي وضعها في طريقه الرئيس بولك الذي كان يتحرز من هذا المنافس القوي. وانتهت الحرب عام 1848 بالاستيلاء على مكسيكو. فأجبرت المكسيك على التخلي عن كاليفورنيا ونيو مكسيكو والأريزونا ونيفادا والوتا، أي ما يوازي نصف أراضيها. ارتفعت في الولايات المتحدة الأصوات ضد «حرب الغزو» هذه حتى أن بعض الكتاب المشهورين والوطنيين، مثل أرفنغ وملفيل وتورو، أدانوها كما هاجموا مذابح الهنود واستمرار العبودية. كتب تورو يقول:«يجب على الشعب الأمريكي أن يتوقف عن امتلاك العبيد وعن الحرب ضد المكسيك» وقد دعمه في ذلك أحد الأنصار المتحمسين لإلغاء العبودية وهو ج.ر.لويل أما ملفيل فقد رأى في «أمريكا الحرة» بلداً «عنيداً دون مبادئ وسفيهاً ولصاً ذا مطامع غير محدودة لها وجه حضاري في الظاهر ولكنها متوحشة في أعماق قلبها».(1/36)
في هذه الأثناء كان الاستيطان الأمريكي في المكسيك يسير على خير ما يرام. كان في البداية اقتصادياًً بشكل أساسي بفضل الليبراليين الذين طردوا عام 1855 سانتا أنا وقضوا على المودرادوس. في عام 1856 أحدث قانون ليردو نظام السوق فضاقت المسافة بشكل ملحوظ لقدرة الدولة على إمكانية التدخل في المجال السياسي مما سمح لرؤوس الأموال الأمريكية أن تغرق البلد. وهكذا لم تبق فرضيات نظريات مونرو حبراً على الورق فاندلعت الحرب الأهلية ودخل بنيتوخواريس بدعم من الليبراليين إلى مكسيكو عام 1961 وخلال بضع سنوات جابه الحملة الفرنسية بقيادة مكسميليان الذي أصبح عام 1863 ملكاً ولكنه تلقى إنذاراً بعد ثلاث سنوات من حكومة الولايات المتحدة التي دعته إلى ترك عرشه والى سحب قواته. في عام 1867 أعدم مكسميليان رمياً بالرصاص بتحريض من واشنطن، فدخلت السيطرة الأمريكية في المكسيك بعداً آخر.(1/37)
في نهاية القرن التاسع عشر كانت النتيجة معبرة كثيراً. تقدمت الصناعة في البلاد تقدماً كبيراً، ولكن بأي ثمن ! فأكثر من 65% من رؤوس الأموال كانت من أمريكا الشمالية والجزء الأكبر من المبادلات التجارية المكسيكية كانت مع الولايات المتحدة. أما القطاع الزراعي الذي خنقه الرأسماليون الساحليون بذكاء عن طريق ترك مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية دون أن تستثمر لم يعد يكفي لتغطية حاجات السكان. لذا بدا من الضروري استيراد القمح: قمح الجار الذي عمل بكل جهده لإنتاجه. من جهة أخرى قامت مجتمعات مالية كان عليها الزحف على الأراضي العامة حسب طريقة النسيج التي وفرت في إنكلترا بالسابق الثروة لكبار الملاك الأراضي معجلين بذلك قدوم البؤس إلى طبقات الشعب. بالمقابل حصلت هذه المجتمعات التي كان معظمها من أمريكا الشمالية على ثلث المساحات وسيطر المضاربون على ما تبقى. ولم يعد بإمكاننا إلا أن نستشهد هنا بما قاله بورفيرو دياز رئيس المكسيك من عام (1876-1880) ثم من عام (1884-1911) فقد قال:«مسكينة أيتها المكسيك فأنت بعيدة عن الرب وقريبة جداً من الولايات المتحدة».
مرحلة خارجية عارضة:
بعد أن خاطرت الإمبريالية الأمريكية بنفسها وذلك بالتدخل للمرة الأولى خارج منطقة نفوذها الثانية أقحمت نفسها بالسير وراء الإنكليز عندما فتح هؤلاء الباب أمامها بإجبارهم الصينيين على توقيع معاهدة نانكين في 29 آب 1842. فقد شاركت الولايات المتحدة عام 1844 في إخضاع الإمبراطورية الوسطى واستفادت مادياً من أرباح تجارة الأفيون.(1/38)
في عام 1854 وصلوا إلى اليابان وتحت تهديد المدافع أجبر الكومندان ماتو غالبوث بري - (1794-1858)الذي اشترك في الحرب ضد المكسيك- اليابانيين على ترك أسطوله أن يحط مرساته أمام مدينة أدو، خيار أدو لم يكن وليد صدفة. بالنسبة للباكوفو وهي حكومة ومؤسسة إدارية واسعة مؤلفة من وزراء من الصف الأول والثاني ومن المفوضين، كانت أدو مركزاً حيوياً اقترح الأمريكيون قصفه أو إغلاقه بالحصار. وبما أنهم أجبروا على الإذعان فقد تنازل اليابانيون ووقعوا الاتفاقيات التجارية الأولى مع الولايات المتحدة، ولم يسبق لليابان أن قدمت مثل هذه التنازلات إلى أجنبي. أما الولايات المتحدة التي تشجعت بسبب الانتصار الإنكليزي والفرنسي سنة 1858 فقد عمدت إلى السير قدماً فيما حصلت عليه، فمعاهدات التبادل التي تم التفاوض عليها بالابتزاز والتهديد بالحرب من قبل القنصل توسن هاريس بدت أنها مجحفة بحق اليابان. وفي عام 1864 خفضت رسوم الجمارك إلى 5% من القيمة مما أدى إلى سلب سيادتها، أما الغربيون الذين لحقوا بالأمريكيين المستفيدين الرئيسيين بذلك فقد حققوا أرباحاً كثيرة عن طريق المضاربات في التعامل بمبدأ الذهب والفضة الذي لم يكن ذاته في اليابان. واستفاد بشكل أساسي من ذلك الولايات المتحدة فأصبحت المورد للأسلحة وللسفن التي كانت تغذي الصراعات الداخلية. وساهمت زيادة الأسعار الناتجة عن استبدال النسيج المحلي بالنسيج الأجنبي والمحاصيل المخيبة للآمال نتيجة التكاليف الباهظة بارتفاع البطالة وبالضياع الاجتماعي في أرخبيل اليابان. وأمام هذا الغبن لن يتأخر اليابانيون بالتعبير عن ردة فعلهم.
الغرب يتمم الإنسان الأمريكي:(1/39)
لم يجلب الزحف نحو الغرب أكثر من بضعة كيلومترات مربعة إضافية للأمة الأمريكية، ولكنها عمّقت ودعمت التيار الأيديولوجي الذي كان يميز العقلية القومية والذي وصفه بعض المؤلفين بالإنسان الأمريكي الذي أخذ شكله النهائي خلال أحداث القرن التاسع عشر. وأكثر من أي وقت مضى كان هذا الإنسان يمتاز بالحركة. لقد ترك المهاجر الطليعي بمفرده أو ضمن المجموعة عند رحيله الماضي خلفه واستعد لمواجهة المغامرة ومهما تكن صفته كمحدد للموقع أو كطليعي، أوكواعظ أو كتاجر، أو كباحث عن الذهب أو كمستصلح للأراضي، فهو يخضع قبل كل شيء للقانون الضمني لأول مستوطن ويكون مستعداً ليقتل من أجل الحفاظ على ما يملك أو من أجل الاستيلاء على ما يملك غيره.
وباعتباره عَجول بأحكامه وشرس في عملية الكسب ومنظم واستغلالي كان المهاجر الأمريكي يستغل الفرص ويبني المدن ويستثمر أي وسيلة نجاح أو أي أرض ثم يذهب ولا يعود ثانية، ويعاود الكرة في مكان آخر، وكانت العربات والقوارب والقطارات وسائل هذا النشاط وكانوا هم أنفسهم موضع صراع مستميت من أجل التفوق المادي، والسلطة التي يتيحها ذلك الصراع.
هذا الرجل العجول دون أي ارتباطات والمعتدل بتردده كان يتحول بالغالب بدوره إلى رجل أعمال ومضارب مالي ولسارق اختراعات ولحديث النعمة ولمناور. مفهوم رجل الأعمال نفسه قد انحط، فرجل الأعمال الإنكليزي الذي يكرس نفسه للأمور العامة يتبدّل ويصبح مخترع أعمال، حيث يتحول كل شيء إلى منفعة نقدية. إن ذلك هو تأكيد دون أي مواربة لمفهوم «التسويق» فكل شيء يشرى ويباع وهو هدف للمضاربة. إنه التأكيد الصارخ للمبادئ الموروثة عن الليبرالية الاقتصادية التي نشأت بواكيرها في أوروبا وظهرت بقوة في نفس الوقت في الجزر البريطانية.
الضمانة الليبرالية:(1/40)
كان لوك بخاصة المحرض الأكبر على هذا الموقف الليبرالي. الخطوط العريضة لفلسفته كانت معروفة وهذا تلخيص موجز لها: قبل نشوء المجتمع وجدت مرحلة الطبيعة التي كان يعيش الإنسان فيها بسعادة انسجاماً مع قوانين الطبيعة. جاءت بعد ذلك فكرة تكوين بنية اجتماعية ليس لأنها بدت ضرورية ولكن لأن الإنسان رأى فيها ضماناً إضافياً لحماية وجوده وللحفاظ على الملكية الخاصة. وولد المجتمع عن طريق عقد بين الأفراد وبين أولئك الذين يحكمونهم، ولم يقم الحكام إلا بتقديم الخدمة العامة ثم بعرض ما يفعلونه بشكل إجمالي على المتعاقدين معهم. فإذا فشل الحكام في مهمتهم كان للمجتمع الحق بإقالتهم. يشير جورج بوردو بأن الناس في المجتمع المدني «لا يتنازلون عن حقوقهم لصالح السلطة إلا بجزء من استقلالهم الأساسي غير المنسجم مع وجود النظام الاجتماعي أما ما يحتفظون به من حريتهم الطبيعية يشكل ما يسمى بالحقوق الفردية. هذه الحقوق الناتجة عن الحرية التي تولد مع الإنسان لا تدين بشيء إلى الدولة لا في منشئها ولا في ثباتها، وباعتبار أن هذه الحقوق وجدت قبل الدولة فهي تتعارض معها.في البدء كان دور الدولة احترام هذه الحقوق ومن ثم عليها أن تضمنها». إنطلاقاً من هذا المفهوم نشأت بنية عقلية لوّنت فيما بعد الولايات المتحدة.
لقد اختلط الازدهار الاجتماعي (العام) بالازدهار الفردي (الخاص)، فالمدن ووسائل النقل والأراضي ووسائل الإعلام والكتب والنتاج الفني وأماكن السكن والمؤسسات التعليمية والديانة أصبحت كلها بضائع تطرح في سوق واسع. وأسست معظم الجامعات من قبل الطوائف حيث تتم ممارسة التسامح ليس بدافع المرونة الأيديولوجية ولكن بهدف جذب الطلاب أي (الزبائن) ونظراً لهذه الضرورة لم يكن للحجج الأيديولوجية إلا ثقل بسيط.(1/41)
أصبحت القارة بأكملها أشخاصاً وحيوانات وأرضاً وأفكاراً دون تمييز عبارة عن سلعٍ تعرض للبيع بالمفرق. فَقُطِّعَتْ أراضي الغرب بقرارات تصدر عن العاصمة وقُسِّمَتْ حسب مخطط عام تقسمه خطوط مستوية. هذه التقنية لم تكلف المنتفعين غالياً ولكنها درت عليهم أرباحاً طائلة. واستفاد إنشاء السكك الحديدية وكل مشروع رأسمالي مهيأ أن يدر الربح الكثير على صاحبه من مساعدة المال العام الفيدرالي أو المحلي لأنه وحسب القاعدة الليبرالية ما يمكن أن يعود بالفائدة على ثروة الفرد يمكنه أن يدر بالفائدة للجميع. هذا الارتباط التبعي بمساعدات المال العام لم يمنع تطور نوع من روح المنافسة الذي هو الأداة الرئيسية للأيديولوجية الليبرالية، أي نوع من الداروانية الاجتماعية الاقتصادية قبل اكتمال تطورها.
نحن نعرف عن كبار مفكرّي الجمهورية الأمريكية أنّ لديهم مرجعيات تاريخية وأيديولوجية محددة. فلم يكن واشنطن أو فرانكلين أو جفرسون وكثيرون غيرهم يجهلون في أي نسق زمني يسيرون. وأمام الخيار بين نظام اقتصادي منفتح أو منفلش وبين نظام أكثر مركزية همه النفع العام فقد اختاروا ومنذ البداية الخيار الأول. هذا التعارض ليس إذن بجديد بل هو يعود إلى عصر اليونان القديم.
أمام التبادل الحر وحرية الاقتصاد الذي نادى بها السفسطائيون كما يقول جان بونكر وهنري تومان حذر أفلاطون من ذلك في جمهوريته وقوانينه ودعم بالمقابل النظام الذي يقوم على خلود النفس. «يجب على الحياة على هذه الأرض أن تنتظم بشكل أكثر عدالة من أجل تأمين خلاص النفوس. فعمل الفيلسوف يعتمد إذن على البحث عن القوانين التي تضمن سيادة العدالة في المدينة». بالنسبة للسفسطائيين تتوافق العدالة مع قانون الأقوى. ففي مجتمع المنافسة الأفضل هم الذين ينتصرون. وفي وجه هذه العقلية دافع أفلاطون(1/42)
عن مفهوم العدالة الذي يقوم على«إعطاء المهمة الاجتماعية لكل فرد يستحقها حسب مواصفاته الأخلاقية أو الذهنية أو الجسمية» فهو يقترح إذن رفضاً لمنطق المساومة ويؤيد المنطق الاجتماعي والعودة إلى اقتصاد الطبيعة».
اقترح أرسطو رؤية أخرى توفيقية إلى حد ما معترفاً بأنه يجب أن تنشأ في المدينة ثروات وأعطاها دوراً حاسماً في تحسين الحياة الاجتماعية. إذن كان مع اقتصاد السوق بالطبع ولكن على هذا الاقتصاد أن يراقب وإن يكون غير قادر على الضرر. وإن كان قد دافع عن مثل هذا النظام لأن الملكية الخاصة والتبادل السلعي عن طريق النقود بدا له أنهما ذوي فعالية مهمة من أجل الإثراء الجماعي، وإن كان قد اعترف بأن اكتساب الأملاك بهدف الاستهلاك المنزلي هو قضية شرعية إلا أنه أدان كل اكتساب لا يهدف إلا إلى تكديس الأموال غير المحدود.(1/43)
استمر التعارض بين وجهتي النظر المتعلقتين من جهة بالاقتصاد المفتوح وغير المقيد بالقواعد ومن جهة ثانية بالاقتصاد المراقب والمحدود في حرية التبادل، وقد استمر ذلك حتى مطلع القرن التاسع عشر مع بعض الإبهام المحسوس بشكل أو بآخر. وإذا كانت المدرسة المركنتيلية (1550-1850) المعروفة بالروح التجارية الجشعة قد كرست الأسبقية للمفهوم المنفتح فإنه كان يجب انتظار مطلع القرن الثامن عشر حتى يتخذ هذا المفهوم الاتجاه الطليق بشكل صريح. عظم أنطوان مونتكرستيان عام 1619 دور التاجر في كتابه حول الاقتصاد السياسي موضحاً أنه يوجد بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية التقاء مصالح، وأن تحقيق مصالح السوق لابد من أن تعود بالخير على الدولة. وقد أكد بأن القدرة السياسية ترتكز على خزينة مهمة من الذهب والفضة. ثم جاء جون لوك ليؤكد في الإطار نفسه في كتابه «وجهات نظر حول نتائج انخفاض الفائدة وارتفاع قيمة العملة» (1691) بأن هذه الخزينة لا يمكن تغذيتها إلا بالتداول النقدي الواسع، أي أن فائض الدخل في تدفق المعادن الثمينة يتجاوز فائض الصرف، لذا فإن الاحتياط النقدي المتداول على الصعيد القومي يتجمع ويتزايد هذا الشيء يكون لمصلحة نشاط السوق.(1/44)
ودافع جون لوك، ولكن كذلك من سبقه، أمثال بواسغبير (1646-1714) و«كنيتّون» (1680-1734) و«كيسني» (1649-1794)، عن فكرتهم مفضلين على الروح التجرية (المركنتيلية) التي كانت بنظرهم كثيرة التدخل إنشاء نظام طبيعي أو ليبرالي «لأن الاقتصاد يدار بواسطة آليات طبيعية وبسبب ذلك يجب أَلا يكون هناك عوائق أمام هذه الآليات». وقد نصب جون لوك نفسه في إنكلترا كمدافع عن هذه النظرية الجديدة وكان همه أن يجد الناس في كل مرة (إن كان هذا ممكناً) الموقع الذي كانوا يتمتعون به أثناء «مرحلة الطبيعة (1)» وإلى جانب الحرية الدينية فقط طالب بحق الملكية وبالتبادل الحر.
__________
(1) هذا المفهوم أقرب للأسطورة، لأن مرحلة الطبيعة هي شريعة الغاب.(1/45)
فيما بعد شكلت طروحات لوك نقطة ارتكاز لقيام النظام الليبرالي الكلاسيكي. وقد وضع له آدم سميث (1723-1790) حجر الأساس. في عام 1776 نشر كتاب الأبحاث حول طبيعة ثروة الأمم وأسبابها حيث وضع المبدأ الأول لنظرية التبادل الدولي. المبدأ بسيط وهو «من العبث أن نصنع في بلدنا ما يمكن أن نحصل عليه بسعر أرخص من بلد آخر فمن الأفضل إذن أن نشتري بسعر أرخص البضاعة من الخارج وندفع ثمنها، حتى تستطيع صناعتنا إنتاجه بسعر أقل وأفضل». نستطيع أن نستنتج منطقياً بأن بلداً يصنع مجموعة من المنتجات ذات نوعية جيدة وأرخص من الخارج ليس له إلا مصلحة ضئيلة بالتبادل الدولي وهذا ما صلحه ديفيد ريكاردو (1772-1823) في كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة (1817). فإن كان آدم سميث قد اعتمد في نظريته على التكاليف المطلقة، فإن ريكاردو اعتمد على نظرية التكاليف النسبية. فقانونه للمنافع المقارنة يقول:أنه حتى لو كان البلد قادراً على إنتاج عدد كبير من السلع بسعر أفضل وبنوعية متفوقة فمن مصلحته أن يلجأ للتبادل، وإنجاز ذلك من مصلحة البلد ، فذلك يساعد البلد على أن يختص بنوع معين من المنتجات يقوم بتصديرها ويستورد المنتجات الأخرى إن أراد حتى لو كان ينتجها بنفسه.(1/46)
لقد حملت هذه المبادئ نقاط ضعف سواء التي دافع عنها سميث أو تلك التي قدمها ريكاردو، ومنذ إعلانها أشير لهذه النقاط بالبنان. وكان الحال كذلك لمبدأ لوك الذي سبق أن أشير إليه، والذي يقول بأن الاقتصاد يتطور بشكل طبيعي حسب عدد من خطوط القوة ويكفي أن ندع هذا التطور يتابع مساره لكي يكون كل شيء على ما يرام. فلتتم إذن لعبة التنافس في السوق وبذلك يتحقق الازدهار العام. وحتى لو كان كل فرد لا يهتم إلا بمصلحته فاليد «غير المنظورة» للسوق تدعم آلية التصويب والتي يستفيد منها الجميع. هذا المفهوم اللاعقلاني المأخوذ من التوراة والذي يقول بأن اليد غير المنظورة للقدرة الإلهية التي تدير الشؤون البشرية كان يكفي لتبرير الخضوع الكلي للقوانين المغلوطة للسوق. أما بالنسبة لقانون المنافع المقارنة عند ريكاردو فإن حدوده قد وضعت تحت الضوء بواسطة جون ستار ميل (1806-1873). فقد أكد هذا الأخير بأن الدول لا تحصل كلها على المنفعة نفسها بالتبادل الدولي. فمن يصدر أكثر ويستورد أقل يربح أكثر بكثير من الآخرين حتماً.
السيطرة على قارة أمريكا الشمالية:(1/47)
منذ البداية عرفت الولايات المتحدة كيف تستغل نقاط القوة ونقاط الضعف للنظام الاقتصادي الليبرالي وخاصةً أنها لم تكن بعد تتصور تنظيماً سياسياً آخر غير تنظيمها القائم على رؤية مسيحية للعالم تحت هيمنة العرق الأنكلوسكسوني الأبيض يستبعد منه بالطبع السود والهنود. فهل تستطيع الولايات المتحدة إذن تصور نظام اقتصادي مختلف، نظام يقوم على فكرة الانفتاح الكلي للأسواق حيث من يستطيع تشكيل القوة التصديرية الأكبر يكون الأقدر على كسب الغلبة؟! هذا النظام لا يستطيع إلا أن يخدم الأهداف الكونية للولايات المتحدة ضامنة حسب هذا المنظور امتلاك الدائرة الأولى المؤلفة من القارة الأمريكية من الشمال إلى الجنوب. وبما أن الحدود الشمالية قد حددت (فالخارطة التي أعدها جفرسون أملاً أن تنجح حرب 1812 لضم كندا لم تتحقق) فقد بقيت عملية التوسع عن طريق الابتلاع المباشر أو غير المباشر لأكبر جزء ممكن للقسم الجنوبي. وقد أعلن جفرسون أيضاً عام 1809 بأن على كوبا أن تنضم للاتحاد. وفي عام 1819 صرح جون كوينسي أدمز – الذي كان في حينها وزير خارجية مونرو وعلى أغلب الظن كان الملهم لنظريته – بأنه مقتنع بأن الأراضي الواقعة تحت السيطرة البريطانية في الشمال وكذلك الأراضي التي بيد الإسبان في الجنوب سوف تكون يوماً جزءاً من الولايات المتحدة الأمريكية. والحق يقال أنّ قليلاً من الأمريكيين من كان يشك بأن أمريكا الشمالية والولايات المتحدة ستشكلان قريباً كياناً واحداً.(1/48)
طبقاً لهذا المسار للرؤية السياسية فإنه من السهل إدراك أحداث القرن التاسع عشر، لقد شكلت رسالة الرئيس مونرو إلى الكونغرس في 2 كانون الأول 1823 نقطة تاريخية رئيسية. في البداية كانت ذات طابع دفاعي موجهة ضد كل تدخل لقوة أجنبية في شؤون القارة الأمريكية وبعد عام 1850 سمحت هذه النظرية لتفسير جديد بَدَّل قليلاً من روحها. وحول هذا الموضوع كتب أيف هنري نويهات يقول«ادعت الولايات المتحدة مهمة الدفاع عن القارة ضد تدخلات القوى الأوروبية، إنكلترا وفرنسا في أمريكا الوسطى والمكسيك والكاريبي، وفي الوقت ذاته استخدمت هذه النظرية كعامل للتوسع الجغرافي». بعد ذلك وخاصة تحت تأثير البروز الإمبريالي للمنظرين العسكريين مثل «ماهان» (الذي كان يشيد بتفوق العرق الأبيض وبخاصة الأنكلو-سكسون) أو للسياسيين أمثال تيودور روزفلت فقد فرضت النظرية بأنه وبدءاً من هذا اليوم الولايات المتحدة وحدها لها حق النظر في شؤون الأمريكيين، وحق النظر في أمريكا اللاتينية تعني بعبارات واضحة خضوع أمريكا اللاتينية لمصالح ولقرارات الولايات المتحدة، وهذا يجسد التوسع خارج المركز وقد أشرنا إليه سابقاً. والإبعاد عن طريق الإبادة الخالصة أو عن طريق الاستبعاد السياسي والاجتماعي للعناصر غير المناسبة (الهنود والسود) الذين يشكلون عائقاً للسيطرة الشاملة على أكبر قسم ممكن من أراضي أمريكا الشمالية أي حتى حدود كندا والمكسيك هذا الإبعاد ضمن الدائرة الأولى إذن والتي أمكن الانطلاق منها لغزو أكبر قسم ممكن. أما الدائرة الثانية أي أمريكا اللاتينية فقد خضعت عبر مراحل. وقد شكلت التأكيدات المستمرة لنظرية مونرو المرحلة الأولى.(1/49)
فقد تم عن طريق المزج الذكي للدعاية ذات الدلالة الإنسانية وللتصريحات حول النوايا الحسنة وللضغوط من كل الأنواع وللاستخدام الحاذق للدولار تحويل الحيز المكاني الواقع بين الأراضي القومية الفعلية والأطراف الجنوبية للقارة شيئاً فشيئاً إلى كيان المحمية.
الاستيلاء على الدائرة الثانية:
بدأ «غزو» الولايات المتحدة لأمريكا اللاتينية عند منعطف القرن الثامن عشر. وقد كان لاستقلال المستعمرات الأمريكية صداه بين نخبة المهجنين ودفعهم للصحوة، وشكل هذا عاملاً فعالاً نظراً لأنه ساعد على عودة الوعي في الإمبراطورية الإسبانية. وقد اتخذ ميرندا صانع أول محاولة للثورة في فنزويلا عام 1806 القرار في مشروعه لتحرير أمريكا اللاتينية خلال إقامته في الولايات المتحدة عام 1783. ومنذ ذلك الوقت وبفضل المبادلات التجارية بين المرافئ الأمريكية ومدن أمريكا الجنوبية حدث تأثير ثقافي واضح وأصبح فيما بعد أقوى بواسطة انتشار النموذج المستوحى من الثورة الفرنسية.
في عام 1795 اضطرت إسبانيا للتوقيع على معاهدة بال بعد هزيمتها أمام فرنسا التي أعلنت عليها الحرب عام 1793. واتجهت نحو إنكلترا فقطعت على عدوها الجديد طريق مستعمراتها في ما وراء الأطلسي. في 18 تشرين الثاني 1798 أجبرت على فتح مرافئ أمريكا الجنوبية أمام سفن الدول المحايدة ومنها الولايات المتحدة. وخلال بضع سنوات شهدت العلاقات الاقتصادية كالعلاقات الثقافية بين البلدين تطوراً ملحوظاً. وأقامت الولايات المتحدة في كل مكان وكالات وقنصليات، وانتشرت معها نصوص انقلابية مثل (common sense الإحساس المشترك) لتوماس بن في حين كانت هناك محاولات لتقليد الدستور الذي كتبه جفرسون والذي سنجد أفكاره الرئيسية بعد بضع سنوات منتشرة في دساتير دول أمريكا الجنوبية.(1/50)
بين أعوام 1808 و1823 لم تعد الوحدة الوهمية لقارة أمريكا اللاتينية تستطيع مقاومة النمو العام للعقليات فكان هناك انتفاضات مسلحة أدت إلى انهيار الصرح الاستعماري الإسباني وفي كل مكان قامت المواجهة بين الجماعات المتنافسة والمؤسسة الاستعمارية(1) للفوز بالسلطة. أما المولدون الذين أبعدوا عن السلطة بواسطة الإدارة الإسبانية وكانوا يشكلون نخبة اقتصادية وسياسية فقد عانوا حينها من القيود التي فرضت عليهم. وفيما بعد وتحت تأثير الحافز الأمريكي والفرنسي بعد الانتفاضة الأخيرة ضد نابليون قاموا بالثورة. وفي الخامس من تموز 1811 أعلنت فنزويلا استقلالها وتبعها الإكوادور في كانون الأول من السنة نفسها، وكان ذلك بعد عام من رفض الأرجنتين القبول بنائب الملك الجديد. وفي عام 1811 أيضاً تحررت بدورها تشيلي بشكل مؤقت. وهكذا اتخذت الأفكار القادمة من الشمال طريقها في كل مكان. في عام 1823 عندما تم عملياً استقلال دول أمريكا اللاتينية قدمت الولايات المتحدة لهم دعماً غير مجرّد من القصد والغاية. فأرسلت لهم السلاح والوسائل المالية التي طلبها سيمون بوليفار وفي عام 1822 كان الرئيس مونرو قد اعترف بكولومبيا الكبرى وبالمكسيك.
__________
(1) تجاوزت الأحداث الهنود فكانوا غير فاعلين.(1/51)
ومهما تكن الدولة المعنية فطريقة وضعها تحت الوصاية كانت تقريباً متشابهة وكانت رؤوس الأموال الأمريكية تصب الزيت للدولاب الاقتصادي في البرازيل وفي تشيلي وفي كولومبيا وفي فنزويلا ولكافة الأمم الأخرى. فحاكت الثروات المعدنية وحقول البترول والممتلكات العقارية والمالية والاستثمارات بالدولار شبكة معقدة تربط الحكومات والمصالح الأمريكية وغالباً بموافقة الحكومات أو بموافقة الطبقة الطفيلية المالكة. ومع مرور السنوات استبعدت تدريجياً بريطانيا العظمى التي كانت تحتل في الجزء الأسفل للقارة موقعاً مصيرياً. ففقدت بشكل نهائي مكانها بعد حرب 1914-1918. ولم يعد السوق الداخلي الأمريكي قادراً على امتصاص الإنتاج الصناعي القومي فأصبح من الضروري إذن فتح أسواق أخرى، وعن طريق لعبة عقد المؤتمرات بين الدول الأمريكية تعاظمت هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة، السياسية وانطوت القارة كلها تحت سيطرتها وأصبحت ما لم يتوان أولئك الذين لا يملكون أي خجل من تسميتها علناً بدارهم الخلفية.
وليس هنالك شيء يوضح الطريقةالتي جرت بموجبها استعمار تلك الدار الخلفية أكثر من الحالة التي جرت في هاواي والكاريبي وأمريكا الوسطى.
احتلال هاواي:(1/52)
هذه الجزيرة تثير الشهية لأكثر من سبب كونها محطة عالمية في الطريق إلى الصين إضافة إلى أنها تتمتع بمياه غنية بالأسماك. وقد تعودت السفن الأمريكية أن ترسو في موانئها منذ عام 1820 وفي العام ذاته عين الرئيس مونرو ممثلاً دائماً لأمريكا في هونولولو. ولم تتأخر الإرساليات البروتستانتية بإقامة مراكز دعوة لها في كل مكان من الجزيرة، وعملت هذه الإرساليات بنشاط لدعوة السكان إلى الدين المسيحي مرفقة بحملة دعائية لصالح أمريكا على المدى الطويل. في الفترة ما بين 1820-1840 أكثر من 400 مركب صيد كانت تتردد سنوياً على مرافئ هاواي. وقامت تجارة ثلاثية الأطراف بين المرافئ الأمريكية على المحيط الهادي وهونولولو والصين وكان خشب الصندل لجزيرة هاواي مطلوب جداً، وكذلك منتجات الشرق الأقصى التي تصدرها الإمبراطورية الوسطى. ومنذ عدة سنوات كان المستوطنون الينكي قد اختاروا هذا الركن من العالم وسط الأمواج العالية حيث استولوا على مزارع قصب السكر وكان السوق الوحيد المفتوح أمامهم بالطبع هو سوق الوطن الأم. ومع مرور الزمن حيكت الأواصر الضرورية من أجل ضم الجزيرة مستقبلاً. فالإرساليات أبهرت العقول والمستوطنون أمنوا الإنتاج وتم توقيع معاهدة للتبادل التجاري بين الملك كالاكاوا والرئيس غرانت عام 1875. حسب نصوص هذه المعاهدة تسمح للمنتجات في هاواي أن تدخل بحرية إلى الولايات المتحدة كذلك تم تأمين استعمال مرفأ بيرل هاربر أمام سفن العم سام.(1/53)
مع بداية عام 1890 لم تعد أبداً تواجه رياح الإمبريالية أي نوع من الضوابط لدى الرأي العام الأمريكي، لذلك رأى المستوطنون في هاواي أن الوقت أصبح مناسباً لتحقيق الضم. في عام 1893 اصطنعوا ثورة وخلعوا الملكة ليليوكلاني وطالبوا بالارتباط بالولايات المتحدة. رفض الرئيس كلفلند Cleveland وهذا لم يمنع أبداً المستوطنين من إعلان جمهورية هاواي وتشكيل حكومة لها نالت فوراً اعتراف واشنطن. وفي 7 تموز 1898 وتحت تأثير موجة انتصارهم على إسبانيا قام الأمريكيون بموافقة الحكومة المحلية بإنجاز عملية الإلحاق التي كانت مخططة منذ زمن طويل.
كوبا الثمرة الناضجة:(1/54)
مع فجر حركة التحرر الشاملة للمستعمرات الإسبانية وُجدت في كوبا طبقتان: المزارعون الذين حققوا ثروات طائلة على حساب صغار الملاك، ثم طبقة البؤساء. ومع مطلع القرن التاسع عشر تضمنت طموحات الولايات المتحدة في القارة كوبا، وهذا ما أكده جفرسون. واتبع جون كوينسي أدمز الذي كان وزيراً للخارجية ثم أصبح رئيساً للولايات المتحدة سياسة ما أسماه استراتيجية «الانتظار الصابر». في عام 1823 قال:«توجد قوانين جاذبية في السياسة كقوانين الجاذبية في الطبيعة، فكما أن التفاحة التي انفصلت عن الشجرة تحت تأثير قوة الريح فهي لا تستطيع أن لا تقع على الأرض حتى لو أرادت ذلك وكوبا التي قطعت الصلة التي تربطها بإسبانيا عليها بالضرورة أن تنجذب نحو اتحاد أمريكا الشمالية». والمخطط الذي طبق غالباً كان بسيطاً فهو يبدأ بإثارة السخط الاجتماعي ثم الانتفاضة وتتبعها بعد ذلك الثورة، وعندما تقوم الثورة تأتي فرصة التدخل تحت حجة ما للاستيلاء على الجزيرة. ترافقت استراتيجية «الانتظار الصابر» خلال السنوات العشر التي سبقت الغزو حالة صامتة للهيمنة على الاقتصاد الكوبي، فقد كانت الاستثمارات الأمريكية في معامل السكر تهدف إلى الحصول المكثف على السكر غير المكرر. وعندما تم هذا كان يكفي أن تنتظر الولايات المتحدة نتائج سياسة فرض الرسوم الجمركية المرتفعة على المنتجات الكوبية مع تلازمها تأثيرات المنافسة الأوروبية المريعة، ولم تتأخر أسعار السكر الكوبي عن الانهيار وكان باستطاعة الشركات الأمريكية الحصول مقابل حفنة من الخبز على المزارع بشكل غير محدود واستطاعت أيضاً أن تحتكر الشبكة المنتجة. فيما بعد واجه السيجار ثم القهوة المصير ذاته مما أدى تحت تأثير الانتكاسات الاجتماعية إلى إثارة الأزمة المنتظرة.(1/55)
بعد انتفاضة أولى بين أعوام 1868 و 1878 انتقلت البلاد إلى حرب التحرر. ومن 24 شباط 1895 إلى شهر تشرين الأول 1898 أودت المعارك بين الثوار الكوبيين وبين الجيش الإسباني بحياة الآلاف. فرأت الولايات المتحدة بذلك الفرصة التي تنتظرها.
وعينت إسبانيا على رأس جيشها قائداً دون رحمة ولا رأفة وصعب المراس يدعى الجنرال وَيْلرِ Weler فقامت صحافة الولايات المتحدة بحملة ضده وراحت تدين وحشية أساليبه بعبارات حماسية. وبحجة واجبهم بحماية مصالح الصناعيين الأمريكيين والمستثمرين وكذلك حماية حياة مواطنيهم أرسل الأمريكيون في 25 كانون الثاني 1898 السفينة الحربية (مان Maine) إلى مرفأ هافانا. في 15 شباط انفجرت الباخرة فوجدت الحجة بل الذريعة للتدخل وتحت تأثير اللوبي الإمبريالي المتعاظم والذي كان من أعضائه الرئيس المقبل تيودور روزفلت والدعاية التي قامت بها الصحافة أرسل الرئيس مكنلي جيشاً «للتحرير» إلى الجزيرة، واستولى في طريقه على الفليبين(1) وبورتوريكو وجزيرة غوام. وحدثت سلسلة من ضربات القوة الأمريكية وأدت دون معارضة ذات قيمة من الأمم الأوروبية إلى توقيع معاهدة باريس عام 1898(2).
__________
(1) ذهب الرئيس مكنلي لتبرير ضم الفليبين إلى حد اختراع حجة الوحي الإلهي الذي خلال أحد صلواته شجعه على القيام بعمله.
(2) نذكر هنا مع ذلك بأن بعض الصحف ومنها ليلّوستراسيون L’Illustretion لم تخف انزعاجها أمام الموقف الانتصاري والصلف للولايات المتحدة وأدانت دون مواربة سياسة الأمر الواقع وقانون الأقوى، وكذلك تخاذل وغياب تضامن الأوروبيين فيما بينهم.(1/56)
ما كادت فرق الجيش الأمريكي أن تحط في الجزيرة من أجل «حماية المصالح الأمريكية» حتى تم مصادرة مكاسب الثورة الكوبية. في 20 نيسان 1898 صدر قرار أمريكي (فرمان) يقضي بأنه للكوبيين الحق بتقرير المصير، إلا أن الحكومة الأمريكية ستُبقي سيطرتها على الجزيرة طالما لم تنته بعد «عملية السلام(1)» في الجزيرة. أما مدة هذه العملية وطبيعتها فهما خاضعتان للتقدير التعسّفي لجيش الاحتلال، ولذا وضعت كوبا تحت قيادة الجنرال وود Wood كما انه لم يتم الاعتراف بالحكومة التي نتجت عن الثورة، وتم رفع العلم الذي يحمل النجوم على الساريات الرسمية. وعندما أعلنت أخيراً الجمهورية في عام 1901 كانت قد اتخذت جميع الاحتياطات، فقد تبنى الكونجرس في الثاني من آذار عام 1901 قراراً بتعديل أعده السيناتور هيتشكوك بلات يقضي بإعطاء حق التدخل للحكومة الأمريكية في أي وقت تتعرض فيه مصالح وحياة المواطنين الأمريكيين وكذلك استقلال كوبا للخطر.
عند دراسة طبيعة العلاقات التي فرضتها الولايات المتحدة على كوبا منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى قيام ثورة فيدل كاسترو نستطيع أن نفهم بشكل أفضل كيف سارت ديناميكية الهيمنة الأمريكية التي تقوم على دفع الحدود القومية المرنة بشكل دائم إلى الأمام بهدف التوسع. لقد كانت التدخلات العسكرية أحد الوسائل المستخدمة لهذا الغرض ولكن كان هناك وسائل أخرى ذات فعالية أيضاً وأقل ظهوراً.
الهيمنة على الاقتصاد هو المثال على ذلك:
__________
(1) التشابه بين اللغة الصماء الأمريكية مع اللغة ذاتها للاتحاد السوفيتي السابق هو كبير مما يتيح لنا أن ننسب هذا الاستخدام لنفس هذا المجال اللغوي الدلالي كوسائل متشابهة مثل «التطبيع» وسياسة «الوضع تحت الوصاية».(1/57)
استطاعت الولايات المتحدة بواسطة المجموعات الاقتصادية والمالية القوية وعن طريق المعاهدات التي أعطت الحصة الكبرى للرأس المال الأمريكي الشمالي الحصول على السيطرة الكاملة على الدائرة الاقتصادية القومية والإقليمية. في هذا الإطار يؤكد جان لامور بأن معاهدة التعامل بالمثل في 17 كانون الأول 1903 تنص على«أن عدداً من الأصناف الكوبية (المسجلة على قائمة خاصة) تستفيد من التخفيض عن السعر العادي بنسبة 20%، في حين تستطيع المنتجات الأمريكية (المسجلة على القائمة) أن تدخل كوبا بتعرفة مفضلة تقل بنسبة 25-40% من التعرفة العادية».
فأشادت الولايات المتحدة على هذه الأسس التي هي لصالحها نظاماً من السيطرة والاحتكار كان محركه نمو الاستثمارات التي انتشرت في كل القطاعات الاقتصادية الكوبية. فمنذ عام 1899 قامت شركة السكر الكوبية - الأمريكية التي أصبحت بعد أحد عشر عاماً شركة عظمى حقيقية وأصدرت اثني عشر مليون سهم وفي عام 1902. اشترت شركة التبغ الأمريكية عدة أصناف ومصانع للتبغ، أما في قطاع المناجم فقد اشترت شركة بيت لحم للأعمال في بنسلفانيا عدة مناجم عام 1889. وعملت الميزة التوسعية لزراعة قصب السكر على إقامة علاقة وطيدة بين استثمارات السكر المباشرة وتوظيف الأموال بهدف تطوير السكك الحديدية من أجل خدمة صناعة السكر. فتم تأسيس الشركة الكوبية المركزية للسكك الحديدية المحدودة عام 1899 والشركة الكوبية الشرقية للسكك الحديدية عام 1908. أما البنوك فقد حققت تدخلاً ومشاركة أكثر حذراً. لذا انتظرت المجموعة الأمريكية الشمالية حتى عام 1920 كي تنشط تحت اسم مصرف كوبا الوطني Banco national، أما مصرف الشركة الجديدة Nova Scotia فقد نشط في عام 1906 ولكن التوسع الحاسم لم يتم فعلاً قبل عام 1915 واستمر حتى سنوات الجمود الاقتصادي بين الأعوام 1920-1930.
استغلال ظاهرة مسبقة:(1/58)
في هذه السنة 1898 تمت السيطرة على كوبا عن طريق المجموعات الكبرى (الشركات الكبرى والتكتلات) أمام لامبالاة المجتمع الدولي وتبع ذلك ضم هاواي التي شكلت للأمريكيين نجاحاً أساسياً خارج دائرتهم الأولى وهذا ما شجع على المعاودة. ولم تتأخر الولايات المتحدة عن ذلك فدفعت بورتوريكو الثمن في نفس العام ثم الفليبين في عام 1899. وقد شهدت السنوات التالية اتساع الإمبراطورية الأمريكية بالقضم المنظم.
بورتوريكو:(1/59)
في غمرة السيطرة على كوبا التي فوجئت بها هذه الجزيرة الأخرى من جزر الكاريبي التي حصلت مؤخراً (1897) من إسبانيا على حق إنشاء مجلسين للشعب تحت إشراف حاكم عام فقامت الولايات المتحدة بغزوها. حصل هذا الغزو أيضاً بموافقة معاهدة باريس. نصبت الولايات المتحدة في الجزيرة حكومة عسكرية ثم عزلتها (مرسوم فوراكر) ووضعت مكانها في أيار 1900 حكومة مدنية تحت سيطرة الرئيس الأمريكي. في 15 تموز 1909 أوجد مرسوم (أولمستد) إدارة تنفيذية مكلفة بتسيير شؤون الجزيرة. بعد ثماني سنوات نص مرسوم (جونيس) على أن بورتوريكو هي من الآن فصاعداً أرض «منظمة وليست مضمومة»، إلا أن سكانها هم من مواطني الولايات المتحدة مرتبطون بالحاكم وبالسلطات التنفيذية التي كانت تحت تصرف الرئيس في البيت الأبيض. ورغم التنازلات الشكلية التي حصلت فيما بعد فقد عين هنري ترومان عام 1946 مواطناً من بورتوريكو حاكماً، وفي عام 1947 تم تعديل مرسوم (جونيس) من أجل السماح للشعب بانتخاب الحاكم، أما خضوع الجزيرة للولايات المتحدة وحتى بعد التصويت على الدستور (1952) كان أمراً لا يمكن الرجوع عنه. وكانت السيطرة وخاصة الاقتصادية أمراً جلياً للعيان. فقد استولت الشركات الأمريكية الكبرى على المرافق الاقتصادية الأساسية في الجزيرة. والتنوع الذي كان يميز بورتوريكو قبل بداية القرن وخاصة في الصناعة الغذائية المزدهرة تتخلى عن مكانها للقهوة وخاصة للسكر تحت تأثير الاستثمارات الكثيفة والسوق الأمريكية المفتوحة لهذه التجارة التي تعود بالأرباح العملاقة للشركات المتعددة الجنسية. بالمقابل وجد سكان الجزيرة أنفسهم مجبرين على استيراد الغذاء من الولايات المتحدة بنسبة 50% وكذلك استيراد عدد كبير من المنتجات المصنعة يدوياً وكان حكمهم الذاتي النسبي مرتبط بأسعار السكر التي كانت تصعد أو تهبط بقدر انصياعهم لقرارات واشنطن ولمزاجها.(1/60)
أما الميزان التجاري فكان يميل بشكل واضح لصالح الولايات المتحدة ونتج عن عدم التوازن هذا اضطرابات اجتماعية. وبدءاً من أعوام التسعينات نمت وتزايدت تجارة المخدرات وأعمال العنف والخطف بشكل لم يكن له أي مثيل في السابق.
الوعد المنقوض:
في سياق حركة الاستيلاء الناجمة عن الحرب الإسبانية – الأمريكية زحفت الولايات المتحدة حتى وصلت إلى تخوم بحر الصين. في الأول من أيار عام 1898 ترك الأميرال دواي هونغ كونغ واتجه إلى خليج مانيلا حيث دمر الأسطول الإسباني. وتعهد للثائر «اغينالدو» أن يساعده على استقلال الفليبين مقابل مساعدته ضد المستعمر الإسباني. وبهدف المكافأة منع الوفد الذي كان برئاسة اغينالدو من الاشتراك في مؤتمر باريس. ونتيجة ذلك كانت المفاجأة المزعجة للأمر الواقع: تخلت إسبانيا المهزومة عن الفليبين للولايات المتحدة وفي 10 كانون الأول ومقابل تعويض قدره 20 مليون دولار اعترفت إسبانيا بملكية المنتصر للأرخبيل. في كانون الثاني 1899 أعلن اغينالدو رغم ذلك استقلال بلاده كردة فعل مباشرة على ذلك وبعد حملة استمرت حوالي ثلاث سنوات كان عليه أن يستسلم ويخضع للعبودية.(1/61)
تميزت سنوات 1920-1930 بصعود النضال الوطني وبشكل موازي وبسبب الخوف من منافسة المنتجات الفليبينية وتدفق اليد العاملة المتطلبة قليلاً على صعيد الأجور وظروف العمل طالب الفلاحون والنقابات الأمريكية بالتخلي عن الأرخبيل. في عام 1934 منح الرئيس روزفلت مهلة عشر سنوات انتقالية قبل الاستقلال (قانون تيدنيكز- ماك دوفي) ونتيجة لذلك خضعت البضائع الفليبينية المستوردة إلى الولايات المتحدة للرسوم المعتادة، في غداة الحرب العالمية الثانية بعد الاستيلاء من جديد على الأرخبيل على حساب اليابانيين تحقق الاستقلال. إلا أن الطابع الأمريكي لم يكن بالإمكان إزالته، واختيار تاريخ الرابع من تموز كيوم لإعلان استقلال جمهورية الفيليبين في عام 1946 لم يكن وليد الصدفة. الدستور هو أيضاً يحمل بصمة المحتل القديم فالرئيس ينتخب لمدة أربعة سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة (حديثاً تم تعديل المدة إلى ست سنوات غير قابلة للتجديد) والكونجرس ثنائي التمثيل (مجلسان تشريعيان) إضافة إلى وجود المحكمة العليا. كما أن اللغة الإسبانية استبدلت باللغة الإنكليزية و النظام التعليمي نسخ عن النظام المعمول به في الولايات المتحدة مما دعم قيام جمهورية ذات طابع أمريكي عميق. كذلك الفشل الاجتماعي والسياسي كان فاضحاً. فلم تتصور الطبقة البرجوازية التي نشأت في القرن التاسع عشر والتي تمتلك الثروة الأساسية أي نوع من الإصلاح وظهرت أنها حليف مميز لواشنطن واستمرت بإدارة البلاد. وأول رئيس منتخب كان مرشح الولايات المتحدة التي استطاعت فيما بعد أيضاً تأمين انتخاب رئيس من المقربين المخلصين لها. وقد اعترف مرسوم (بيل ترد) بأن للمواطنين الأمريكيين في الأراضي الفليبينية نفس الحقوق التي يتمتع بها أبناء البلد. من جهة أخرى استقر العسكر الأمريكيون في ثلاث وعشرين قاعدة.(1/62)
وبقي ذلك سارياً حتى عام 1992 عندما تم إزالة أخر قاعدة عسكرية أمريكية تحت ضغوط الأوساط الوطنية والمظاهرات الشعبية المعادية.
إن الإرث الأمريكي لا يزال ظاهراً حتى يومنا هذا. فقد جعلت البرجوازية وخاصة العقارية التي اعتمدت الولايات المتحدة عليها (ترك ماركوس آثاراً عميقة) كل مشروع إصلاحي صعباً. والأرقام في هذا الصدد معبرة: 70% من الشعب يعيشون تحت عتبة الفقر في حين أن 15% من الملاك يتوزعون ملكية 65% من أفضل الأراضي. ولم تتقلص أبداً التبعية تجاه المحتل السابق رغم محاولات تخفيفها. فالشركات المتعددة الجنسية لها جذور متينة في ميدان الأراضي وتقف عائقاً أمام أي إصلاح زراعي. ويسيطر دل مونت ودول (عن طريق الشركة الفليبينية ستانفلكو) وبونتو برانتز على سوق الموز والأناناس وأسواق أخرى ويتصرفون على هواهم بالقوانين الأخيرة حول توزيع الأراضي عن طريق إبرام العقود مع أصحاب الملكية الخاصة. وقد أعطت الأفضلية في التصدير إلى المواد الغذائية بالاتفاق مع الفريق الليبرالي المتطرف مما يبقي السكان تحت رحمة تبدلات الأسعار الدولية. وتحول الأرخبيل الذي كان يحقق الاكتفاء الذاتي من مادة الرز، إلى بلدٍ يعاني اليوم من نقص حاد في هذه المادة، الشيء الذي يحمله على استيرادها من تايلندا. أما الدين فهو يعزز أكثر تبعية البلد لصندوق النقد الدولي وللبنك الدولي أي للولايات المتحدة.
شحذ الهمم للاستيلاء على أمريكا الوسطى:(1/63)
أتاحت حملة كوبا للأمريكيين إنجاز خطتهم التي استخدمت في باقي القارة الأمريكية اللاتينية، وخاصة كما قال آلان دستكسهي في أمريكا الوسطى فيما عدا كوستاريكا. ومنذ القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة موجودة في كل مكان وكانت تتدخل غالباً عن طريق الشركات المالية أو الصناعية مثل شركة الفواكه المتحدة United fruits co. (المعروفة حالياً بـ United Brands) التي وضعت تحت يدها قطاع الموز بكامله فشركات الموز وخاصة UF Co. (شركة الفواكه المتحدة) أصبحت «دولاً داخل الدولة» وأطراف فاعلة بشكل كامل في اللعبة السياسية عن طريق مساندتها للأحزاب التقليدية. ثم عن الدخول الكثيف لرؤوس الأموال مع وصول الأجانب الذين أشرفوا على جزء مهم من التجارة الخارجية ساهم كل ذلك باستمرار عملية تحديث البلاد مقابل الهيمنة الخارجية النامية.
الهندوراس:
إن حالة الهندوراس شكلت في هذا الصدد نموذجاً على ذلك. هندوراس التي حصلت على استقلالها منذ عام 1838 رأت أن هذا الاستقلال مهدد من قبل البريطانيين. في نهاية القرن التاسع عشر وتحت تأثير المنافسة بين طبقات الأقلية المحلية الحاكمة وقعت البلاد في قبضة الشركة المتحدة للفاكهة، التي استولت على مزارع الموز الكبيرة مما ساهم بوصول شخصية مخلصة للمصالح الأمريكية إلى السلطة هذا الرجل هو تبروسيوكاريس اندينو.(1/64)
كتب ديستكسهي يقول «لم تساهم سيطرة شركات الموز الكبرى فقط باختفاء المنتجين الوطنيين للموز ولكن الشركات الأمريكية أشرفت على كامل السكك الحديدية ومجمل الموانئ وعلى الأسطول التجاري وعلى أهم مصرف وعلى الهواتف وعلى الكهرباء» كان الخيار بشكل عام سهلاً فإما أن تنحاز الحكومة مع واشنطن مما يتيح لها الاستمرارية المريحة في الغالب أو أن تثور وتحاول جاهدة إصلاح الأخطاء الصارخة وتكون النتيجة هي حدوث انقلاب عليها بشكل أو بآخر. وينجم عن ذلك قيام حركة قمع الثوار مما يؤدي من جهة أخرى إلى نشوء الراديكالية. وتصبح الانتخابات عبارة عن سخرية مهمتها الوحيدة «إعطاء الوهم الديمقراطي وإضفاء الشرعية على الحكومة على المستوى الوطني والدولي وإتاحة الفرصة المثالية للاتصال بين السلطة والمحكومين الذين يصبح لديهم بهذا الشكل فرصة لتلبية مطالبهم ولكنها قبل كل شيء تؤمن مجال تنافسي محدود بين الجماعات التي تدور في فلك السلطة وتبعد الطبقات السياسية الخطيرة».
ومصلحة الولايات المتحدة هي أبعد من أن تكون لها اقتصادية فقط لأنها أيضاً استراتيجية. فكونها تستطيع أن تحكم دون شريك مجمل أمريكا الوسطى فإن ذلك بدا لها منذ البداية قضية حيوية لسببين: أولاً بسبب قناة بنما حيث يمر الجزء الأكبر من صادراتها إلى اليابان والبرازيل كذلك يعبر منها أسطول الحرب الأمريكي عندما ينتقل من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي وبالعكس. وثانياً بسبب منطقة الكاريبي – أمريكا الوسطى حيث يعبر منها 50% من الواردات البترولية و40% من التجارة الخارجية الأمريكية.وبالمقابل شكل هذا الشيء وضعاً كارثياًً لأمريكا الوسطى و«للبحر المتوسط الأمريكي» حول ذلك يعلق دستكسهي فيقول:«فقر وبؤس وتهميش اجتماعي وظلم وتبعية خارجية وقمع واستدانة ... وقائمة السوء التي يعاني منها المضيق تطول».
غواتيمالا:(1/65)
برزت أيضاً الهيمنة على أمريكا الوسطى بواسطة الشركات المتعددة الجنسيات في أغلب الدول الأخرى. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عام 1920 أخذت الشركة المتحدة للفاكهة UF Co. تحيك شباكها في غواتيمالا. ولكن كان علينا الانتظار حوالي نصف قرن لترى الولايات المتحدة مضطرة نفسها في هذا البلد حيث أن حكامه لم يفكروا بالإضرار بمصالحها. إلا أنه في عام 1951 وصل إلى السلطة العقيد أربنز Arbenz وهو من أصل سويسري فأطلق إصلاحاً زراعياً ضرورياً ولكنه أصاب مصالح المتحدة للفواكه ونزع منها أراضي بمساحة 160 ألف هكتار من أصل ممتلكاتها التي بلغت 220 ألف هكتار فقام في 17 حزيران 1954 انقلاب على أربنز بتدبير من الولايات المتحدة وغزت غواتيمالا فرقة عسكرية أتت من السلفادور بعد أن تسلحت وتدربت على أيدي السي.أي.آيه ووضعت حكومة على رأس البلاد فألغت هذه الحكومة كل فكرة للإصلاح وخضعت لرغبات واشنطن. وأمام الاستيلاء والبؤس اعتمدت سياسة القمع منذ عام 1979 ضد أحزاب الوسط واليسار وتعاظم القمع في عام 1982 ونتج عنه أكثر من 50 ألف ضحية. أما الإجراءات الخجولة والمتذبذبة للعدالة الاجتماعية التي اتخذها الرئيس فنيسو سرزو فقد أثارت كراهية منظمات أرباب العمل. فقامت عليه حركة انقلابية فاشلة عام 1988 بعد أن كادت أن تنجح. في الوقت الحالي دخلت غواتيمالا التي يرأسها الفارو أرزو Alvaro Arzu والذي انتخب عام 1996 في مرحلة من المفاوضات مع الثوار، مفاوضات أفشلتها التصرفات الرعناء الفالتة من القصاص لرجال الجيش، والشرطة المسؤولة وحدها عن ربع انتهاكات حقوق الإنسان في هذا البلد.
بنما:(1/66)
لا يمكن أن يوجد نموذج صارخ لإطلاق يد الولايات المتحدة في السيادة على أمم أمريكا الوسطى أكثر من سيطرتها على بنما في 18 تشرين الثاني 1821 حيث تم إعلان أرض قناة المستقبل أرضاً حرة مستقلة، ثم ألحقت عمداً بجمهورية كولومبيا. تلا ذلك اكتشاف الذهب في كاليفورنيا مما أعطى هذه الأرض موقعها كممر. ومع مرور السنوات وتنامي أنانية بوغاتا التي بات الآخرون يشعرون بها، أصبحت الوصاية الكولومبية أمراً غير محتمل. أما فكرة حفر قناة في هذا المكان فهي فكرة قديمة. بين أعوام 1868 و1876 أخذ الأمريكيون يفكرون جدياً بذلك، ولم يتردد الرئيس غرانت Grant وتحت اسم المصير الحتمي أن يؤكد بأن هذا الإنجاز المستقبلي يجب أن يكون أمريكياً. وأدت المحاولات الفاشلة الفرنسية بالحفر بين 1875 إلى 1901 إلى اتفاقية (هاي –بونسفوتHay - Pauncefote) التي أزالت الحظر الموجود في معاهدة (كليتون-بولورClayton-Bulwer) عام 1850 بامتلاك أي جزء كان من القناة. في 22 كانون الثاني 1903 وطبقاً لمعاهدة (هاي-هران Hay-Herran) حُملت كولومبيا على التخلّي عن كل الحقوق المتعلقة بالحفر إلى الأمريكيين لمدة مئة عام إلا أن الكونجرس الكولومبي رفض الموافقة على هذا الاتفاق. في 3 تشرين الثاني وفي لحظة وجود بارجات أمريكية في موانئ كولون وبنما طالبت طغمة عسكرية بالانفصال فحاولت السلطات الكولومبية إستعادة ملكيتها إلا أن الجيوش الأمريكية التي كانت على ما يظهر مستعدة لهذا الاحتمال طردت الخصم. وفي 6 تشرين الثاني اعترف البيت الأبيض بدولة بنما. في 18 من نفس الشهر جاءت معاهدة (هاي-بينو-فاريللا) لتعمق عبودية الدولة الجديدة حيال الولايات المتحدة.(1/67)
فقد صاغ الموفد البنمي بينو-فاريللا الاتفاق الذي أملاه عليه وزير الخارجية الأمريكي هاي هذه المعاهدة التي وصفتها بنما بحق بالـ«الخزي القضائي» أعطت لواشنطن تنازلاً مؤبداً عن المنطقة المجاورة للقناة تتراوح بين 10 كيلومترات إلى 10 أميال. فكان للأمريكيين الحق أن يمارسوا السلطة الصحية والسلطة البوليسية، يضاف إلى ذلك حق التدخل في أي وقت وقد سمي هذا الحق بحذر «بضمانة الاستقلال»، وتحت تأثير إجراءات التخويف الأمريكي صادقت بنما على نص المعاهدة.
استمرت أعمال الحفر من عام 1904 إلى عام 1914 في هذه الأثناء تمسك الأمريكيون بقوة بمنطقة مساحتها 1435 كم2 التي تقسم بحذق جمهورية بنما إلى قسمين، وأصبح حاكم منطقة القناة الذي يسميه البيت الأبيض رئيساً لشركة القناة التي ليس فيها إلا مساهم وحيد ألا وهو وزير الدفاع الأمريكي. في عام 1946 أنشأت الولايات المتحدة في بنما المدرسة الأمريكية المشؤومة ثم نقلت في عام 1984 إلى فورت بنينغ في جورجيا حيث كان يتم التدريب على الحرب وعلى العمليات البوليسية وقد تعلم فيها أكثر من 60 ألف عسكري وشرطي من أمريكا اللاتينية خلال سنوات عديدة فنون القهر والتعذيب والاغتيال وعمليات الكومندوس ومنهم كومندوس الموت ضد أطفال الشوارع.(1/68)
لم يتأخر البناميون في اكتشافهم أنً قسمة أرباح القناة غير العادلة في القناة، فإذا ربحت بنما سنوياً ما يقارب 2 مليون دولار بالمقابل أكثر من 55 مليون دولار تذهب إلى كيس النقود الأمريكي. الرأس المال المستثمر قد استرجع عدة مرات في الوقت الذي أصبحت فيه الأرض «فندقاً فخماً في محيط الفقر». في عام 1936 حمل الرئيس روزفلت على إعطاء أول تنازل بإجراء أول تعديل لمعاهدة التخلي. في عام 1955 أعطت معاهدة أيزنهاور-رمون تنازل آخر (اغتيل الأخير بشكل غامض بالكاد قبل بضعة أيام من المصادقة على المعاهدة) واستمرت الاضطرابات والاعتراضات وقطع العلاقات الدبلوماسية وإعادتها طالما غابت المراجعة الحقيقية للاتفاقيات. في عام 1946 وعدت الولايات المتحدة بدراسة الموضوع، ولكن بدلاً من أن تنجز الوعد فضلت أن تضع في السلطة رجلاً تابعاً لها ألا وهو نورييفا الذي عملت صلاته مع السي.أي.آيه التي كان يديرها جورج بوش – كما يشير إلى ذلك فريدريك كمب – إلى دفعه إلى راس الدولة البنمية. وباعتباره رجل دون رادع وقد جمع ثروته عن طريق تجارة المخدرات فقد رهن أنه مساعد ممتاز لواشنطن، ولكنه يوم أراد إبراز عدم الانصياع أصبح شخصاً مزعجاً لأنه يعلم أموراً كثيرة وأخذ يهدد بإفشائها، كان لابد من أن يكون هدفاً لهجوم منظم للزمرة الأمريكية عام 1989. وبحجة الدفاع عن «قضية عادلة» أرسل الرئيس بوش 25 ألف جندي مما أدى – بسبب أخطاء تكتيكية لرئيس أركانها – إلى موت 3 آلاف بنمي معظمهم من المدنيين. فقد تم قصف حيين الأكثر فقراً في العاصمة، فاشتعلت النيران وحفرت القبور الجماعية وارتكبت المخالفات (عشرات من المارينز قتلوا سهواً برصاص رفاقهم) ولم يتوقف كل ذلك إلا بوضع الرئيس إندارا Endara الذي عاد مع الجنود الأمريكيين على رأس بنما.(1/69)
في 31 كانون الأول 1999 وحسب بنود معاهدة كارتر – توريوس الموقعة في 7 أيلول 1977 والتي ألغت معاهدة 1903، سوف تعاد القناة إلى دولة بنما. وأمام ارتياحها لعودة هذه المنطقة إلى سيادتها بدأت بنما تشعر بهموم مادية، فرحيل العسكريين الأمريكيين سيفقدها حوالي 180 مليون دولار سنوياً، وبهدف تعويضهم أخذت الحكومة تبحث عن طريقة لجذب الاستثمارات الأجنبية وخاصة الآسيوية. وسبق لتايوان أن ردت إيجاباً على ذلك ومن المتوقع إقامة مجمعات صناعية تؤمن 7 آلاف فرصة عمل. وربما لم ينس الشعب الماضي القريب ويفضل الأمن المادي على الاستقلال، ألم يحصل في عام 1995 وخلال عملية الاستفتاء أن 70% من الشعب أعطى أصواته لصالح تمديد التواجد الأمريكي في البلاد ؟!!
الظهور الإمبريالي:
جاءت تلك الأحداث المعاصرة من غزو كوبا إلى بداية عمليات السيطرة على مجمل قارة أمريكا اللاتينية في خضم الظهور الإمبريالي. فبرزت أهداف الولايات المتحدة كضوء الشمس. في نهاية القرن التاسع عشر كان هناك وثيقتان ضمنتا للولايات المتحدة القاعدة الأيديولوجية والستراتيجية في نظرها تبرير توسعها الذي لم تعد تخفيه.(1/70)
وتذكرت الولايات المتحدة النقاط الأساسية لنظرية مونرو (1823) المتعلقة بحرية التجارة البحرية في الأطلسي وحرية الدخول إلى الأسواق الأوروبية لبضاعتهم وحرية التجارة والاستيلاء على كامل القارة الأمريكية، مما دفع المتحمسين للسيطرة الكونية الأمريكية إلى الدعوة لحملة صليبية شاملة. في هذه السنة لعام 1898 أكد السناتور البير ج. بفريدج بأن «على التجارة الدولية أن تكون وتصبح لنا وسيكون لنا ذلك. سوف نغطّي البحار بأسطولنا التجاري وسنبني أسطولاً يكون على مستوى عظمتنا، وستقوم مستعمرات كبيرة تابعة لنا وتحكم نفسها بنفسها وستجول سفنها التي سترفع علمنا والتي ستعمل لحسابنا كل طرقاتنا التجارية، وستسير مؤسساتنا خلف بيرقنا على خطى تجارتنا وسوف يصل الحق الأمريكي والنظام الأمريكي والحضارة الأمريكية والعلم الأمريكي إلى شواطئ لا تزال حتى الآن دامية ومؤسفة ولكنها ستصبح قريباً بعون الله مزدهرة». من جهة أخرى ضمنت معاهدة كليتون –بولفر (1850) لبريطانيا العظمى وللولايات المتحدة السيطرة على قناة المستقبل التي ستشق من جهة إلى أخرى برزخ أمريكا الوسطى. في السنوات العشر الأخيرة للقرن التاسع عشر كانت العقلية الإمبريالية وخاصة في الولايات المتحدة في أوجها، أشار بيار ميلزا لذلك فقال:« زالت الحدود وزال معها صمام الأمان الذي كانت تشكله الفضاءات الشاسعة الفارغة لوسط الأمم المتحدة وراحت تبحث الروح الطلائعية للشعب الأمريكي خارج حدود الدولة المتحدة عن أراضٍ أخرى للعمل، فبعد أن تم إعداد البلاد بشكل جيد بدأ رجال الأعمال التفكير بمسألة المنافذ الخارجية. لم يكن الأمر يتعلق بإلحاق الأراضي على الطريقة الأوروبية بل كان يهدف أكثر إلى البحث عن تأمين مناطق تحجز بواسطة دبلوماسية الدولار».(1/71)
وتوالت المواقف من حرب المكسيك إلى غزو هاواي وكوبا مروراً بالوصاية على كامل أمريكا اللاتينية فكانت برهاناً من أجل شرعية الإمبريالية الأمريكية. وجاء الصدى من المثقفين والشعراء والكتاب فطغى الشعور حتى عند الكتاب المعروفين بقلة حماسهم الكلامي بأن الولايات المتحدة هي الأفضل وتشكل المرجع الإجباري للجميع، فقد أقامت نظاماً مثالياً كما أكد ذلك توماس بيّن فقال:« إن في النصف الثاني للقرن الثامن عشر لم تشرق الشمس ناصعة على قضية ذات موقع سام كما كان الحال في الولايات المتحدة».
الشاعر أمرسون Emerson والذي كان غالباً ما ينتقد وطنه لم يتوان عن التصريح بأن الولايات المتحدة هي الأمل المعقول للبشرية التي لم تكن وفيةً لعهودها حتى الآن، وأن روح الشعب الأمريكي هي الأكثر حكمة في العالم كله. أما لونجفللو Longfellow فقد اعتبر أن الولايات المتحدة هي اتحاد قوي وكبير والبشرية مع كل مخاوفها وأمالها في السنوات القادمة باتت مرتبطة بانبهار بمصير الولايات المتحدة.(1/72)
أما الصوت الوجداني الهادر والحماسي لكوتون مَذر Cottom Mather جاء من خلال صوت ولت وايتمان Wolt Whitman في قصائده الطويلة. يتابع وايتمان ما بدأه مؤلف أمريكا المسيحية العظمى (Magnolia Christi Americana) لقد كتب يقول أن أمريكا «هي بالأساس أكبر القصائد وهي ليست فقط أمة بل إنها أمة الأمم» ، وعرقها هو «أعرق الأعراق»، «ومن بين كل الأمم تسير إلى الأمام وعروقها مليئة بعصارة الشعر، إنها بحاجة للشعراء ولكن من المؤكد أنه سيكون لديها يوماً ما أعظمهم وستعرف كيف تستخدمهم بعظمة»، وستعلم «للكون درس الوفاء الأمريكي»، وسيشرق نظام جديد قائم على رجال سيكونون أئمة البشرية وسيولدون في أمريكا وستستجيب الأرض قاطبة لهم. أما في اللغة الأمريكية فقد رأى وايتمان « لغة الحس السليم وستتكلمها أعراق فخورة وحزينة وستكون خطاب كل أولئك الذين يطمحون للحاق بهم ليعبّروا عما يصعب وصفه»، لأنه «ما من أحد يستطيع تحاشي الغريزة الغيورة والمحبة للأعراف الأمريكية»، وبسبب «أن طبيعة أمريكا هي قدر محتوم يسير إلى الأمام لا يقاوم ولا ينخرق في وسط التهديدات وصياحات المناوئين». وفي الشعر كما في غيره سيتجاوز الشباب الأمريكي منافسيهم، ثم يستنتج وايتمان فيقول أن الولايات المتحدة «هي بلد الأعمال الكبيرة» ميلفل نفسه رأى أنه جاء الوقت الذي سينافس الأمريكيون فيه شكسبير.(1/73)
في أواسط القرن التاسع عشر بلغ الشعور الوطني الأمريكي ذروته، كان الشعور العام كان التفاخر بأن يكون المرء من الولايات لا يوصف لأن البلد يشكل أمة مميزة، وأنّ المهمة التي رأى الله أنها جديرة بحملها جعلتها أمة فريدة في التاريخ. وفي وسط أسوأ الصعوبات الاجتماعية حدث الإجماع، فالنقابات وأرباب العمل أعلنوا موافقتهم على اعتبار الديمقراطية الأمريكية أنها هي الأفضل رغم الفساد الظاهر بين الأحزاب بسبب المال والمشاريع. وبما أنها الأفضل يجب إذاً تصديرها، وقد عبر عن هذه الفكرة جون أدمز الرئيس الأمريكي الذي خلف واشنطن فقال في 27 تشرين الثاني 1775 «إن بناء إمبراطورية كبيرة بات ممكناً حالياً، وحتى بالنسبة لغير المؤمنين» وفي الفيدراليست Federalist وفي نفس الفترة حلل الكسندر هملتون قدر الولايات المتحدة واعتبره «قدر إحدى الإمبراطوريات في العالم مع الفوارق الأكثر أهمية».
في عام 1848 خلال الحرب المكسيكية وفي الوقت الذي استنكر فيه معظم الكتاب العدوان الأمريكي تبنى وايتمان موقفاً واضح الأنانية ومبالغ بالوطنية. فمثل جميع أعضاء الحزب الديمقراطي برر الحرب وجعل من الرئيس زكاري تايلور بطلاً لأن مهمة الولايات المتحدة هي «أن تنشر في العالم الجديد شعباً من العرق النبيل(1)» خلال هذه السنوات العشر لم يتردد بعض المصلحين بتحديد الأهداف الكونية لبلدهم. والكلام الذي استخدموه أيقظ لدينا في نهاية القرن العشرين هذا صدى ليس غريباً. لقد قالوا أن « على الولايات المتحدة إقامة السلام في العالم» وسيتوصل إلى تحقيق ذلك بواسطة محكمة دولية تطبق «قانون دولي جديد» من أجل تحقيق المجتمع المثالي.
__________
(1) هل نفهم من ذلك أن شعوب دول أمريكا الأخرى في الشمال كما في الجنوب ليست من «العروق النبيلة»؟(1/74)
أصبحت الإمبريالية الأمريكية واعية لنفسها في وسط القرن التاسع عشر ولم تخبئ ذلك، فإن كانت تحمل في نفسها منذ البداية بذرة الاستبداد فإن هذا ليس فقط بسبب أنها بدافع دولي تدعي الهيمنة لأسباب دينية واقتصادية. إن مشروعها بالطبع هو قيادة مجموعة أمم الكرة الأرضية إلى مجتمع مثالي الذي أتخذ شكله طبقاً لمواصفات أمريكية وأخيراً عن الطريق المفضل ألا وهو التجارة.
لنذكر هنا بالمعنى الذي تتخذه كلمة حدود في قاموس الأيديولوجية الأمريكية، فالحدود هي خط متحرك بشكل دائم ويتغير دون توقف وهي رمز للتملك المتطور واللامحدود في آنٍ واحد. فالأرض الوطنية ليست أولاً جغرافية بل إنها قبل كل شيء ذهنية. الشيء الذي تبرزه دراسة موثقة معاصرة لغزو كوبا يبرر الضرورة للولايات المتحدة بامتداد سيطرتها.(1/75)
في كتاب يحمل عنوان «المصلحة الأمريكية في قوتها البحرية» يصف القبطان أ.ت.ماهان ما يجب أن تكون عليه البحرية الأمريكية وما هي مهمتها. إن طرح ماهان بسيط، في البداية يؤكد فكرة بفريدج ويطورها فيقول على الولايات المتحدة مد تأثيرها التجاري على كامل الكرة الأرضية لأن السوق الداخلية لم تعد تكفي، فالطاقة الواسعة للإنتاج للولايات المتحدة التي هي إحدى المكونات الثلاثة لكل توسع (مع وجود الأسواق ووسائل النقل الجديرة) هي بحاجة ماسة للمنافذ، ولكن للولايات المتحدة أيضاً مهمة من بين مهمات أخرى وهي أن تقطع الطريق على أهداف الإمبريالية الأوروبية. الدول المعنية بذلك هي جزر ساموا وهايتي وبرزخ أمريكا الوسطى وهاواي وجزر المحيط الهادي بشكل عام حيث أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتحمل أي تدخل، فبدون قوة بحرية بمستوى الرهانات لا تستطيع الولايات المتحدة الإشراف على الكاريبي وأمريكا الوسطى. من جهة أخرى لا يمكن للقناة المستقبلية التي ستصل المحيط الهادي والمحيط الأطلسي أن لا تكون تحت السيطرة الأمريكية لأي سبب من الأسباب. فنظرية مونرو ترى أن على الولايات المتحدة أن لا تقبل في هذه المنطقة في العالم أي نفوذ غير نفوذها. فهل بسبب تضيق الخناق كان عليها أن تتجه إلى الخارج مما تطلب ليس فقط تقوية سواحلها بل بناء بحرية حربية قوية لدعم الإدارة السياسية المعلنة ألا وهي عدم قبول أي تدخل خارجي بعيد 3 آلاف ميل من سان فرانسيسكو داخل حلقة تضم هاواي والكلاباغوس وساحل أمريكا الوسطى. تستطيع الولايات المتحدة أن تستلهم العبر من النموذج الذي أثبت جدارته ألا وهو النموذج البريطاني. في هذا الصدد يؤكد ماهان بكل جدية بأن الأمتين يحركهما الحس نفسه بالعدالة وبالحق.(1/76)
حلل ماهان نظرية مونرو موضحاً أن لها جذور سبقت حرب الاستقلال وتعود إلى زمن حاول فيه المستوطنون منع الفرنسيين من غزو كندا. وهكذا فرض الهدف نفسه استراتيجياً على مجمل السياسة الخارجية في أمريكا الوسطى وفي الكاريبي مدفوعاً بالمصلحة الوطنية وحدها، لذلك لم يكن يعرف أي حدود له. كان على الولايات المتحدة إذاً أن تدخل في مصاف الدول العظمى في منطقة الباسفيك بما في ذلك العمل على بناء قناة المستقبل. وتقوم المصلحة القومية المعلنة بجوهرها على ربط السيطرة الأمريكية بمناطق تمتد إلى ما وراء البحار. وقد رسم ماهان بمهارة هذه المصلحة القومية وإرادة الهيمنة التي أطغى عليها الصفة الأخلاقية. ثم يؤكد بأن على الولايات المتحدة أن تضمن لدول القارة الأمريكية وللدول الأخرى إذا اقتضى الأمر إمكانية التطور وتقرير مصيرها السياسي والاجتماعي خارج كل تدخل. ولكي تؤدي بشكل جيد مهمتها هذه على الولايات المتحدة أن تكون جاهزة للحرب التي رغم كونها عنيفة واستثنائية هي فعل سياسي كأي فعل آخر. وكون الولايات المتحدة «ممثلة للمسيح» و«مملكة الحق» فهي لا تستطيع استخدامها في كل مكان يتطلب تدخلها.(1/77)
النقطة الأولى التي شرحها بالتفصيل ماهان وهي السيطرة الاقتصادية عن طريق الهيمنة على التجارة الخارجية أوجدت ظاهرة عائلية. فالماضي قد برهن كيف أن الدخول للأسواق الخارجية قد كان في الغالب لصالح المصالح الأمريكية كون أن الحدود كانت تسمح بالتسرب للصادرات المنافسة. بين أعوام 1816-1828 أوجدت الإدارات المختلفة بتشجيع من أوساط رجال الأعمال نظام حماية فعال سمح لصناعة القطن والصوف أن تحقق أرباحاً مرموقة. ومع مرور السنوات أقامت الولايات المتحدة سوقاً مشتركة واسعة خاصة سمحت بدءاً من العام 1861 ليس فقط بتخفيف حدة المنافسة بل أيضاً أصبحت الولايات المتحدة الممول المفضل للعالم كله بالبضاعة وبالمنتجات. في القرن العشرين لم يتناقص هذا الاتجاه بل وبعيداً عن ذلك تم تدعيمه وأصبحت الحركة التجارية من الولايات المتحدة إلى أوروبا أكثر كثافة(1).
__________
(1) أعطى بول ييروش الحق لحجج المنظرين الحدثيين لليبرالية الجديدة موضحاً كم كانت الفترات العظمى للثراء وللنجاح الاقتصادي القومي مرتبطة بفترات أنظمة الحماية الاقتصادية.(1/78)
إلى جانب الإرادة بضمان السيادة الاقتصادية أضيف كالعادة البعد الأخلاقي والديني، فقد حان وقت التبشير ذو الطابع الانتقامي بالشكل الذي دافع عنه جوزيا سترونغ قائلاً أن: «الإيمان الديني الحي يستوجب مجتمعاً إمبريالياً وعدوانياً لأن الحياة بحد ذاتها بناء». وكصدى بدون شك لمطالب غوردن بنت Gordon Bennett كتب في عام 1845 يقول «إن طلائع الحضارة والمؤسسات الأنكلوسكسونية الحرة تطالب الآن بأرض بعيدة تمتد حتى شواطئ المحيط الهادي. وأنه من الواضح لكل إنسان يتمتع بحس سليم بأن على جيوشنا أن تستولي قريباً على نصف الحركة الأرضية من الأراضي الموحشة المتجمدة إلى المناطق الخصبة والسعيدة في الجنوب». وبعد الأزمة الدينية لأعوام 1840 جاءت الصحوة الثانية (التي كانت جواباً على الأولى التي كان محركها جورج وايت فيلد قبل قرن) وتوالت الحشود الجماهيرية في المخيمات في جميع أنحاء البلاد ووعدت الحركة نفسها أن تفعل كل شيء لاستعجال حكم الله، ليبدأ العصر الذهبي الذي يترك في الأنفس تأثيراً عميقاً. فتكاثرت الفرق الدينية التي كانت جميعاً تهيئ مجيء المسيح، مهمة أمريكا كانت إذاً أن تدل باقي العالم على طريق التوبة والطهارة الكبرى والإصلاح الاجتماعي والمعركة ضد الخطيئة. قبل ذلك في عام 1828 تم وصف أندريه جاكسون الذي أصبح رئيساً بأنه الأداة الجيدة للعناية الإلهية والمهمة الكونية للولايات المتحدة، وعندما اغتيل لنكولن عام 1865 بكت الولايات المتحدة فيه «المسيح الجديد» الذي ضحى من أجل بلاده وكان شهيد الشعب المختار.
توسع وإثراء وضمير صالح:(1/79)
اختلطت الديانة والاقتصاد والسياسة والأعمال العسكرية بشكل مبهم ومعقد بحيث لا يمكن الفصل بينها في أيديولوجية واحدة غير محددة الأطر، ولكن أهدافها كانت راسخة. إن مفهوم «القدر الظاهر» الذي يعلن حتمية التفوق الأنكلوسكسوني ويدعو الولايات المتحدة لحكم العالم سيطر بشكل أو بأخر على كل العقول. هذا المفهوم دمج في آنٍ واحد النوايا الحسنة والعقلية النفعية والتوسع الكوني، ولقد اختلط الاقتصاد والمسيحية في كيان واحد لائق لا يمكن انتقاده.
من بين العوامل الاجتماعية الثقافية التي ضمنت نجاح الثورة الصناعية الأمريكية تبرز ظاهرة لا يمكن الدفاع عنها من وجهة النظر الأخلاقية وهو عمل الأطفال. من أحد الأمثلة: قرية بوتكت Pawtucket (ثلاثة آلاف نسمة) الواقعة بين رود أيسلندا وماساشوست، هذه القرية كانت تؤمن ازدهارها من الحديد ثم من القطن. أندريه كسبي يؤكد بأن «اليد العاملة عام 1820 تشكلت في ثلثيها من الأطفال وكان بعضهم يستخدم في منازلهم» إلا أنه كنا نراعي بعكس إنكلترا وفرنسا نشر ذلك على الملأ عن طريق لجان التحقيق والتقارير المقلقة بدافع إنساني. ولكي يتم تحرير هذا الاستغلال بشكل غير مرئي قمنا باختراع وخاصة على الشاطئ الشرقي المفهوم المريح وهو «أخلاقية العمل» الذي يجمع ما بين مفهوم الحشمة حسب العقيدة الدينية والرغبة بتحسين العمل مع ضمانة النفع المادي.(1/80)
ففي شركة بوسطن للصناعات اليدوية قام مؤسسها عام 1813 فرنسيس كبوت لوفل بتشغيل فتيات من المنطقة التي أنشأت فيها المصانع. كانت الفتيات يعملن من الفجر حتى الغروب ويعشن وينمن في مراقد حيث يرتحن قليلاً وينتجن الكثير من المال ولكن دون أن يهملن أبداً الذهاب في الصف إلى المعبد يوم الأحد. وهكذا كانت الأخلاق والأرباح مؤمنة. على هذا النحو يستطيع النموذج الرأسمالي والصناعي الأمريكي أن يعطي للعالم صورة واضحة ونقية والذي استقبل من المالكين في القارات الأخرى برحابة صدر لأنه يخدم مصالحهم المتشابهة. وبما أنه بالنسبة للولايات المتحدة لا يمكن أن توجد حضارة خارج هذا النموذج المسيحي الغربي فقد عملت التجارة والضمير الحي معاً على تأمين استيلائها على العالم. لا يهم وجود هذا الفارق ما بين الخطاب الكلامي والواقع بين المثل لحق الأصول (الذي لم تتوقف المناداة به)وبين الواقع الاجتماعي الاقتصادي العملي القائم على الاستعباد وعلى مبدأ النفع فإن «أمة الينكي الكونية» تسير نحو بلوغ هدفها بشكل كامل. لن يستنكر أحد حتى في الولايات المتحدة نفسها المساوئ التي يتضمنها هذا الخليط السياسي – الاقتصادي – الديني دون تحاشي عثرات التناقضات.(1/81)
عالم الطبيعة والباحث التجريبي هنري ديفيد تورو (1817-1862) مثلاً بارك القدر الذي منذ انحطاط أوروبا التي سقطت عليها اللعنة وهب أمريكا الفكر القوي والرائع للكاتب الإسكتلندي تلندي توماس كارليل Carlyle احدى ظواهر الوعي الاجتماعي البريطاني عند منعطف القرن التاسع عشر الذي كان وبخ في كتاباته البرجوازية المالكة التي أسست طبقتها النبيلة ليس على الواجبات المفروضة عليها تجاه الشعب ولكن على الامتيازات التي حصلت عليها نتيجة الثروة. ورأي تورو أن فكر كارليل يجد العذر «لخطايا التجارة». بالفعل هناك خطيئة لأن «الغني يبيع نفسه على الدوام للمؤسسة التي جعلت منه غنياً، فكلما زاد المال تقل الفضيلة لأن المال يقف بين الإنسان وأهدافه يُسهِل له الحصول عليها». نفس تورو هذا الذي طالب بنظام حيث تكون أحسن حكومة هي تلك التي لا تحكم أبداً، لأن كل حكومة حسب قوله ليست أكثر من ذريعة تستعمل غالباً كأداة من قبل بعض الأفراد، وعلاوة على ذلك فهي تشكل في كثير من الأحيان عقبة لنشاط الشعب والتجارة والتبادلات.
يختفي التناقض عن طريق تأثير متبادل بين الدائرة الاقتصادية والدائرة السياسية ليتجسد بذلك كابوس أفلاطون القديم وهاجسه. ومنذ بداية القرن التاسع عشر أصبح من الصعب أكثر فأكثر التمييز بين الاثنين. وخضعت الحكومة الفيدرالية أكثر فأكثر لضغوط عالم الأعمال. فهكذا كانت الحال عند نهاية حرب الانفصال عندما انتهى فجأة عصر إعادة البناء حوالي نيسان 1877 وغادرت الجيوش الفيدرالية الجنوب تاركة مسألة اندماج السود دون حل دائم. وقد يكون حالة الشعب المنهك بعد عدة سنوات من الكفاح وراء ذلك ولكن كان لأوساط رجال الأعمال السبب الأول فيه.(1/82)
في مرحلة إعادة البناء كان المنتصر الأكبر بكل تأكيد هو الرأسمالية الصناعية. وهذا انتصار لقانون الغاب وقانون الأقوى. كان النموذج هو رجل الصناعة الذاتية وهو المقاول المغامر وبدون رادع الذي ظهرت صفاته النموذجية أولاً لدى مؤسس بناء الرأسمالية الإنكليزية. بالتأكيد لم يكن لدى نظيره الأمريكي في عدة مجالات ما يحسده عليه وإلا كما أشار دانيال بورستين بأن بعض الصفات تأكدت وعمقت بواسطة فظاظة الطقس والظروف والنضالات النموذجية الأمريكية. ويأتي جون د. روكفلر مثال على مدار الزمن للرأسمالية الأمريكية. إنه صائد للأعمال وليس لديه أي رادع فعرف كيف يقتنص بشكل رائع من كل فرصة سانحة في تجارة الحبوب وتجارة اللحوم وتجارة البترول. وجاءت الأزمة الاقتصادية التي تلت الحرب المدنية (1867-1868) ليستفيد بشكل رائع منها من كان له مثل مواهبه. فصعد المنافسة مع خصومه وحملهم على المجابهة بعضهم على بعض فركز واستغل ولم يتراجع لا أمام التهديدات ولا أمام القسوة ولا أمام التجسس ( اشتبه به البعض بأنه يلجأ إلى قتل أعداءه) والمثال على ذلك كان سيسل رودس ذو الميل الإنكليزي والذي استعمل الحماسة الدينية والشراسة في عالم الأعمال. وبشكل مبهم وفي الوقت الذي لم يوفر فيه أحد طرح نفسه كمدافع عن الفقراء وعند موته بنى هذا المتقشف الذي لا قلب له عن طريق الدمع والدم شركة الزيوت وبنى أيضاً معهد روكفلر للبحث الطبي (1901) ومؤسسة روكفلر (1913).
لم تكن مساهمة روكفلر ورفاقه قليلة في إيجاد البنية التي أصبحت تمثل التصرف الاقتصادي الأمريكي في القرن العشرين. ولأنه قوي ومتسلح بالإيمان الذي يدفعه إلى العمل، فقد خدم «الرأسمالي» الأمريكي قضيّتين: قضيته الخاصة في الإثراء والنمو العضوي الأقصى، ولكن أيضاً قضية بلاده التي كانت مهمتها الإلهية تقضي بنشر بنى الولايات المتحدة السياسية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية في كل أنحاء الكرة الأرضية.
(((1/83)
الفصل الثاني :
خضوع الدائرة الثالثة
وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع جيد من أجل الوصول إلى السيطرة على العالم عند مطلع القرن العشرين.
أول دائرتين أصبحتا تحت هيمنتها. حدود أراضيها الشرعية (الدائرة الأولى) لم تكن موضع نقاش، وسيطرتها على أمريكا اللاتينية (الدائرة الثانية) باتت أقوى من السابق، وفيما عدا الشريحة المعدمة من عامة الشعب لم يكن هناك أحد على المستوى الدولي يعترض على هذا الواقع اعتراضاً جدياً. فالاستغلال الوقح لهذا الجزء من العالم من قبل الإسبانيين والبرتغاليين والاحتقار الذي عومل فيه السكان الأوائل ولا مسؤولية الأرستقراطيين المحليين أثناء وبعد الثورات عند بداية القرن التاسع عشر ساهمت جميعها في تسليم القارة إلى جار الشمال. وقد عملت الفوضى الاقتصادية والسياسية والصراعات بين الأخوة إضافة للغفلة على جعل أمريكا اللاتينية التي تخلصت من مستعمريها القدامى، فريسة سهلة. أما نموذج جفرسون الذي طبع معظم الدساتير الوطنية وثنائية التمثيل في المجالس والسلطة التنفيذية القوية كل هذا المأخوذ حرفياً عن الولايات المتحدة سهل دخول اليانكي. وخاصة أن معظم البلدان حافظت على الأرستقراطية العقارية (ملاك الأراضي) التي لم تجد الولايات المتحدة صعوبة بإقناعها بأن مصالحها تلتقي بالضرورة مع المصالح المالية لأمريكا الشمالية. وهكذا تقاسمت الأنظمة التي تديرها الأقلية الحاكمة مع أقطاب الصناعة في أمريكا الشمالية السلطة والمنافع ولم يعد أمامهم عند فجر القرن العشرين سوى المحافظة على الأمور على ما هي عليه.(1/84)
تمت السيطرة على كوبا وبورتوريكو من قبل الولايات المتحدة، وبنما أوجدت هيكلية جعلت منها ملكاً لأمريكا وفي عام 1916 وقعت هاييتي في أحضان خزينة الولايات المتحدة التي استولت عليها فيما بعد عام 1934 عسكرياً ولم تتركها حتى عام 1957 بعد أن ضمنت ولاء الديكتاتور (دوفليه) الذي وضعته في السلطة. ثم جاء دور (سان دومينغ) عام 1924 حيث وضعت على رأس الدولة عام 1930 أحد أعتى طغاة المنطقة وهو (تروجيلو
Trujillo) الذي دام نظامه الديكتاتوري حتى عام 1961.
ثم عاد إلى البلاد في عام 1965 وكانت الولايات المتحدة تفرض سيطرتها في كل مكان حين ترى أن ذلك ضرورياً منتهكةً سيادة الدول وهذا ما حصل في الأرض البريطانية في جامايكا عام 1962 حيث كانت شركة الفاكهة متجذرة بالطبع، ثم في غرونادا عام 1983، وقد حدثت هذه التدخلات تحت شعار «إقامة الديمقراطية وحماية المواطنين وحماية المصالح الأمريكية».
في كوبا حدث التدخل الأول يوم أنجز التعديل الدستوري من جانب بلات Platt وبطلب من الرئيس توماس استرادا بالما (الذي انتخب في 20 أيار 1902 بدعم من الأمريكيين). في عام 1906 أعيد انتخابه في انتخابات مزورة مما أدى إلى قيام الانتفاضة. ثم تجدد التدخل العسكري الأجنبي في أيلول من العام نفسه، ودائماً تحت غطاء التعديل. وكأي محمية أمريكية حقيقية، حكم كوبا وليم هوارد تفت W.H.Taft الرئيس المقبل للولايات المتحدة والذي كان حينذاك وزيراً للدفاع فأعلن نفسه «حاكماً عاماً لجمهورية كوبا».(1/85)
بعد ذلك تم إحكام قدر الجزيرة، فتتالى الرؤساء الضعاف الذين كانوا يدعمون دائماً المؤسسات ورؤوس الأموال الأمريكية الشمالية، أما تدخلات واشنطن فلا تعد ولا تحصى، حتى جاء رامون غروسان مرتان R.G. Sam Martin إلى رئاسة الجمهورية عام 1933 فأتخذ بعض المبادرات لصالح كوبا ومنها إلغاء تعديل بلات، فدعمت الولايات المتحدة أحد العسكريين الكوبيين وهو فليفنسيو باتستا وأوصلته إلى السلطة في 10 آذار 1952. فأدى فساد النظام والفوارق الاجتماعية(1) وأساليب التعذيب التي تستخدمها أجهزة الأمن العسكري ومكتب قمع النشاط الشيوعي الذي أنشأ بتعليمات أمريكية كل ذلك أدى إلى انتفاضة 1959 ثم إلى الثورة.
بشكل عام تفضل الولايات المتحدة الهيمنة الاقتصادية على الاحتلال العسكري، وعلى سبيل المثال كانت سياسة مؤتمرات دول عموم أمريكا شكلاً من الأشكال الإمبريالية المقنعة وقد ضمنت بواسطتها ولاء الحكومات. إلا أن الاستعمار التجاري والمالي قد عمد بشكل أساسي على جعل أمريكا اللاتينية استمراراً لاقتصاد الولايات المتحدة، ومن حكامها اتباعاً طيعين لها. وعشية النزاع العالمي الأول وفي حين كانت المصالح الأوروبية لا تزال في وضع متماسك في أمريكا الجنوبية فتح الشطط السياسي للقارة القديمة الطريق أمام انهيارها وعبد الطريق أمام الولايات المتحدة لغزو العالم.
أوروبا التائهة:
في شهر آب عام 1914، أدت حالات التوتر التي بلغت أوجها إلى تمزيق الأمم الأوروبية التي انقضت على بعضها في جو من المغالاة والحقد والغيظ الجماعي. إن روح الانتقام وغرور وتعنت قادة أركان الجيوش المستعجلين للمجابهة وعدم الكفاءة المسؤولة لدى القادة السياسيين وجشع رجال صناعة الأسلحة أوصلوا هذه الأمم إلى الانتحار.
__________
(1) وجدت ثروات ضخمة بفضل البغاء والتجارة مع الولايات المتحدة، وبالمقابل كان هناك بؤس مخيف وخاصة بين صفوف الفلاحين.(1/86)
لم يغب عن بال الأمريكيين إيعاز جورج واشنطن لذا لم يتصوروا على الأقل في البداية أي تدخل في الصراع، وكشركاء عاديين لدول التفاهم بعد عام 1917 رغب الأمريكيون الاحتفاظ بحرية التصرف ورفضوا اعتبار أنفسهم كحلفاء وبالعكس فقد أرادوا استخدام وضعهم الحيادي (1914-1916) لجني المنافع ولم يتأخروا مقابل المال النقدي من إرسال الأطعمة والسلاح والسلع إلى المتحاربين وبين أعوام 1914 و1916 ارتفعت وبشكل ملحوظ نسبة التجارة مع إنكلترا وأيضاً مع الدول الإسكندنافيه وهولندا وإسبانيا وسويسرا.
إلا أنه وبسبب بعض حوادث الاستفزاز وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرة على المشاركة في الحرب، ومن أجل إقناع الشعب بالدخول في الصراع والذي ضاق ذرعاً من حرب الغواصات الألمانية التي كانت تضرب السفن الأمريكية ، استخدمت الطبقة الحاكمة الخطاب نفسه الذي استخدمته لعدة مرات في كل تدخلاتها السابقة في أمريكا اللاتينية ألا وهو حجة الحفاظ على التوازن الكوني والدفاع عن حرية التجارة وخاصة البحرية وحماية الديمقراطية.(1/87)
لقد أكد الكاتب أيف هنري نويلهات بأن هذا الوضع يسمح للرئيس ويلسون الذي استقبل هذه الفرصة بارتياح بأن يحقق ما أراده من خلال محاولاته الفاشلة للتوسط وهو المساهمة في إرساء العلاقات الدولية على قواعد جديدة، ففكرة أداء هذه المهمة لخصت عملياً كل سياسة وندرو ويلسون. علينا هنا أن نفهم ما لم يتم التصريح به فاهتمام الولايات المتحدة الأساسي لم يتغير ألا وهو بناء عالم الغد على الطريقة الأمريكية وتحريك مصالح رجال الأعمال الأمريكيين والاطمئنان إلى أن الهياكل الاقتصادية ستكون في كل مكان وبشكل أساسي في أوروبا حيث تكون الأولوية للولايات المتحدة. ومن أجل خنق المماطلات الأخيرة للرأي العام وللكونجرس مجدت إدارة ويلسون كالمعتاد روح الحرب الصليبية وعملت على تبسيط الأمور: فمن جهة هناك «الطيبون»خلف أمريكا ومن جهة أخرى هناك «البربر»، وبات الأمر واضحاً أكثر من أي وقت مضى بأن الرئيس الأمريكي مع هذه الظروف المواتية قد أصبح مصمماً على دعم الدمار الذاتي الانتحاري في أوروبا التي قضت على تأثيرها في المستعمرات التي تملكها. فوافق البريطانيون ليولد جورج وارتور بلفور واللورد ميلز على دعم مشروع جيم وايزمن بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ورأت الحكومة الأمريكية بذلك فرصة لتعميق الانقسامات في العالم العربي ولتقسيم الإمبراطورية العثمانية، وفي الوقت نفسه أرادت تهديم الإمبراطورية النمساوية- الهنغارية لأنها كانت تمثل الفرصة الممكنة لبناء أوروبا عند نهاية الصراع.(1/88)
أما المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة بدخولها الحرب فقد ظهرت دون أي تلكؤ. فأولاً كما رأى أندريه كاسبي تم إيجاد حل لمشكلة البطالة «كان هناك عمل للجميع، وحتى لسود الجنوب الذين اكتشفوا طريق معامل الشمال الشرقي». فنتج عن ذلك السلم الاجتماعي لأن «المداخيل الحقيقية للعمال قد زادت بنسبة 25% أما بالنسبة للمزارعين فقد كان عصرهم الذهبي رغم الرسوم التي فرضت على القمح» . وقد بلغت الأرباح المحققة أوجها بفضل التجارة، فالقمح والفولاذ والحديد والنحاس ... إلخ قائمة البضائع الأمريكية التي كانت ترسل إلى فرنسا وبريطانيا تطول لأن هذه البضاعة كانت مدفوعة الثمن فبدت الاحتياطات المالية للأمريكيين بأنها لا يمكن أن تنضب.
وانتهت الحرب وإذا كانت نتيجتها مشجعة للولايات المتحدة فأية قوة يمكن أن تقف أمامها في ذلك الحين؟ الحرب بالنسبة لأوروبا كانت كارثة، حوالي 13 مليون أوروبي سقطوا في ساحات المعارك المختلفة ويمثل عدد الخسائر 15% تقريباً من الذكور في ألمانيا وكذلك هي النسبة لفرنسا. لقد مات أيضاً مليون شخص في الأسر وأعطبت الحرب الكثيرين، وضاعف وباء الرشح الإسباني في عدد الضحايا: بشكل إجمالي ليس أقل من عشرين مليون في بضع سنوات. فأين ما اتجه النظر وقع على الدمار والأطلال. خلال هذه المذبحة الجماعية لم يخرج أي بلد أوروبي منتصراً. في مسرحية رولان دور كلس «صلبان الغابة» يتساءل أحد الشخوص قائلاً: السلام أو لا سلام أتى ذلك متأخراً كثيراً، إنها الهزيمة ولا نستطيع فعل أي شيء فقد تمت اللعبة، بالنسبة لنا إنها هزيمة».(1/89)
أمام هذه المذبحة لا يسعنا إلا أن نورد هنا الرأي الجلي والخالي من المواربة الذي صدر عن جورج ستنر George Steiner واستنتاجه يستدعي كل تصوراتنا الممكنة حول المستقبل فهو يقول:« إننا لا نستطيع أن نرى بوضوح في أزمات الثقافة الغربية أننا لن نستطيع أن نفهم أصول وأشكال الحركات الاستبدادية لأوروبا الوسطى وعودة الحرب العالمية إن لم نكن نحفظ في أذهاننا بشكل دائم التجاوزات التي خضعت لها بعد عام 1918 المراكز الحيوية في أوروبا. فالاحتياطات الفكرية التي لا يمكن تعويضها وقوى التحمل النشطة والمهارة السياسية كل هذا تحول إلى العدم. لقد تم قتل الأطفال وكأنهم
لم يولدوا، هذه السمة الهجائية لبريخت ولجورج غروث لها أصداء وراثية بشكل خاص. فالإنسان الأوروبي ومؤسساته ومن أجل الحفاظ على تقدمه، هو بحاجة لخليط من القوة الذهنية والجسدية ولموزاييك خلاسي ولنماذج جديدة حيث تتعدى الثروة حدود الخيال، وبالمعنى البيولوجي نحن أمام ثقافة تناقصت أو بالأحرى مرحلة «ما بعد الثقافة».
هذا الاستنتاج القاسي يجد صداه في كلمات الكونت ديونز في مسرحية (الليدي برد) للكاتب د.ه. لورانس عندما يردد قائلاً:«هل تفكرون بأن ألمانيا والنمسا قد خسرتا الحرب؟ لقد كان هذا لا مفر منه. لقد خسرنا جميعاً الحرب، كل أوروبا ( ... ... ) إنها حرب انتحارية. ولم يكن أحد قادراً أن يكسبها. لقد كانت انتحاراً لنا جميعاً. فهم (أمريكا واليابان) لا يؤخذون بعين الاعتبار. إنهم لم يقوموا بأي شيء سوى أنهم أعانونا على الانتحار، إنهم لم يزجوا بأنفسهم فيها بشكل حيوي». ولهذه الكلمات صدى آخر في الملاحظات الخالية من كل وهم والمعبرة لأبطال هنري باربوس Henri Barbusse في كتابه (النار):«عندما يلتقي جيشان هناك إذن جيش عظيم ينتحر وقد تكون هذه هي الحرب الأعظم».(1/90)
كيف لنا أن لا نصادق على كل هذه العبارات لمجرد رؤية هذه الأرقام؟ فإضافة للدم الذي أريق هناك القوى الحيوية التي لن تخدم أوروبا بعد ذلك إطلاقاً والشباب الذي تمت تضحيته وفقدان التأثير السياسي الدولي. لقد كلفت الحرب الكثير الكثير للمملكة المتحدة فالثمن يرتفع إلى 44 مليار دولار. وفي ألمانيا تم هدر 22% من الثروة القومية و26% في إيطاليا و30% في فرنسا. وأمام أوروبا هذه المحترقة والنازفة والمدمرة كان هناك المنتصر الحقيقي في الحرب أي الولايات المتحدة. وبشكل بسيط وبريء ولكن أيضاً بفضل مهارتهم الخالدة استطاع الأمريكيون أن يعطوا عن أنفسهم الصورة الإيجابية، فاعتقدت أوروبا بأن الأمريكيين اجتازوا المحيط من أجلها، في هذا الإطار يقول المؤرخ جان باتست دروسل: «إن قصة دخول الأمريكيين الحرب تدل دلالة جيدة بأن الولايات المتحدة بوصفها الامتداد الجبار لأوروبا بفضل الهجرة لم تدخل الحرب من أجل أوروبا بل قد نستطيع أن نقول: «على عكس ذلك» بالطبع لولا الموارد المالية الأمريكية لم تتمكن دول التفاهم من البقاء على قيد الحياة ولكن ويلسون كان هناك لإطلاق بلاده نحو غزو الدائرة الثالثة وكان ينوي أن يفرض على الأوروبيين – الخاسرين وكل المنافسين دون تميز في معركة الانتحار الجماعية- خطته ورؤيته للديمقراطية الجديدة New Democracy إنها الديمقراطية الدولية تحت قيادة أمريكا».
عصبة الأمم: قيادة العالم إنطلاقاً من واشنطن(1/91)
أشار ويلسون بشكل خاص في برنامجه الذي أعلنه أمام الكونجرس في الثامن من كانون الثاني 1918 بأنه من الآن فصاعداً سيكون على الدبلوماسية الأمريكية أن تكون «منفتحة» وعلى حرية التجارة البحرية أن تكون إجمالية ويجب إزالة الحواجز الجمركية(1) وتخفيض التسلح ويجب حل المسائل الاستعمارية بذهنية منفتحة وبشكل غير متحيز أخذين بعين الاعتبار أماني الشعوب، النقطة الأخيرة وهي الأهم حملت الرقم 14 وتعلقت بعصبة الأمم.
كانت البنية الضمنية لإنشاء المنظمة الدولية المستقبيلة في ذهن الولايات المتحدة وفية للمشروع الذي غرست بذوره في الحلم الأمريكي قبل أكثر من قرنين. فعلى عصبة الأمم أن تكون مطابقة لنظام عالمي مثالي قائم على المبادئ الليبرالية والحرب باتت ممنوعة وأصبحت من الآن فصاعداً جريمة وسيكون الحق لكل المدافعين عن النظام العالمي بأن يشهروا السلاح بوجه كل دولة معتدية. كانت إدانة الحرب من أجل اجتثاث الإمبريالية تهدف في الواقع كل إمبريالية منافسة لإمبريالية صاحب الرسالة أي الولايات المتحدة نفسها ووحدها فقط. وفي الوقت ذاته وإن كان خفض الاسلحة قد حصل في كل مكان (ما عدا بالطبع في أمريكا نفسها) فقد تم ذلك حسب النسب التي أرادها الرئيس ويلسون. وحدها الولايات المتحدة ستكون قادرة على التدخل ضد المشاغبين المحتملين، كما أنه كان هناك أمر أكثر خطورة فلم يكن أي بلد في العالم قادر أن يدافع عن نفسه ضد الأمريكيين أنفسهم.
__________
(1) نجد في الاتفاقات الحالية لمنظمة التجارة العالمية وبطلب من الأمريكيين الرغبة نفسها بإزالة حواجز الحماية الجمركية عند الآخرين في الوقت الذي لا يطبقون هم أبداً إلا القواعد التي لا تزعجهم.(1/92)
أما المادة من الميثاق التي ارتأت حرية التجارة البحرية والتي عن طريقها كان ينوي الرئيس ويلسون مقاومة المجابهات الاقتصادية لأن البحرية التجارية الأمريكية تمثل بعد الحرب نصف الأسطول التجاري الضخم لبريطانيا العظمى فقد كانت هذه المادة بمثابة فرض الأمر الواقع على العالم الذي يتيح للأمريكيين امتلاك الجزء الأكبر من الأسواق كما سيكون الحال قريباً في آسيا وفي أمريكا اللاتينية فبدون الاحتراسات التجارية والجمركية لا أحد سيكون قادراً على مقاومة الصعود الهائل لما وراء الأطلسي: كان احتياطي الذهب للولايات المتحدة يعادل نصف ما تملكه مجموعة الأمم (وقد بلغ 60% في عام 1929) كما أصبحت المنتج الأول في العالم للفحم، أما إنتاجها من الفولاذ وصادراتها خاصة للقمح فقد بلغت الضعف. وأتاحت لهم ديون الحرب أن يبقوا السكين فوق حنجرة الدول الأوروبية كلها وأخيراً ترافق تقسيم المستعمرات الألمانية بمظاهر مشبوهة ولم تكن معروفة في السابق. فما كان ويلسون يفرضه على الآخرين لم يكن يطبق أبداً منه شيئاً على نفسه.لقد نادى عالياً بمكافحة الاستعمار في الوقت الذي استعمرت الولايات المتحدة سابقاً بشكل مباشر أو بواسطة نظام الحماية قارة أمريكا اللاتينية إضافة إلى أراضي آسيوية كتب بيار ميكل يقول:«كان يحلو للأوروبيين تذكير ويلسون بأنه رفض أن يسمح لليابانيين من ذكر المساواة العرقية في مقدمة دستور المنظمة المستقبلية لعصبة الأمم. كما أنه لم يقم بأي جهد لمصلحة الأمم المحتلة والتي يقودها الأمريكيون كالفليبين مثلاً. وأخيراً لم يعارض ويلسون تقسيم المستعمرات الألمانية كما أنه لم يعرض وضعها تحت الوصاية».(1/93)
إن سبب فشل عصبة الأمم يعود بدون شك إلى أن أهم دولتين في العالم غير الولايات المتحدة بقيتا خارج العصبة، ولكن أهم من ذلك كله هو أن مجلس الشيوخ قرر عدم دخول أمريكا في العصبة لأنها لم تكن بمستوى ما كانت تنتظره. فبدت عصبة الأمم بأنها لا تتناسب مع الصورة التي صنعتها الولايات المتحدة عن «الآلة» الدولية حسب رغبتها. إلا أن سيطرتها على القدر المستقبلي للأمم باتت منذ ذلك الوقت مؤكدة.
منعطف فرساي:
امتد عقد مؤتمر السلام في فرساي من 18 كانون الثاني إلى 28 حزيران 1919. وبدأً من أوروبا فقد أدت المتطلبات الأمريكية في فرساي إضافة إلى عناد ريمون بونكاره Raymond Poincaré الذي كان أولاً نصيراً للحرب بهدف الانتقام كما دفع الروس إلى تأييده من أجل تدمير وإهانة ألمانية المهزومة أدى كل هذا إلى تفتيت القارة العجوز. إن إدانة المهزومين وفكرة الديون التي كان عليهم دفعها والتي فرضت عليهم بمثابة العقوبة والشعور الذي نما عندهم بأنهم عوملوا بشكل ظالم كل هذا غرس ولوقت طويل الحقد في القلوب ورسم طريق الانتقام.
لقد قُسّمت أوروبا الوسطى إلى مجموعة من الدول وكل دولة ضمت في أحضانها كخراج ملتهب، أقليات تكره بعضها البعض. أما الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية التي استطاعت في السابق أن تحتوي على أقليات تعايشت بشكل منسجم نسبياً ومتجانس فقد تم تقسيمها. الإمبراطورية العثمانية هي الأخرى اختفت وقامت الخلافات وأدى استمرارها إلى تشكيل العناصر الأساسية التي قادت إلى صراع دولي ثاني والى الوضع الحالي في البلقان وفي أوروبا الشرقية كمشكلة اليوغسلاف في ألبانيا وكوسفو ومشكلة السلوفاك وشعوب تشيكا ومشكلة رومانيا وهنغاريا ومشكلة روسيا وأوكرانيا.(1/94)
وبما أنها منعت أوروبا من إعادة بناء نفسها على أسس أوروبية تاريخية شرعية فقد أضعفت الولايات المتحدة في كل مكان مواقف الأمم الأوروبية الأساسية في العالم وقد خدمها في ذلك بعض قادة الدول الأوروبية غير القادرين على المقاومة. أما المبادئ التي أعلنها ويلسون فقد عملت على زعزعة الاستقرار في قارتي آسيا وأفريقيا. وبدأت ورشة طويلة الأمد بهدف التفتيت. تأثر العرب بشعارات تدين الإمبريالية الأوروبية وبدعوات واشنطن إلى تقرير المصير مما فجر شعورهم القومي. أما الهند وتحت تأثير غاندي فقد قاومت الهيمنة البريطانية ونالت الاستقلال في عام 1947. وفي كل مكان، في مصر وتونس والجزائر والمغرب والهند الصينية والفليبين، قامت معارضة السلطة الاستعمارية الأوروبية. حظ سعيد؟ بدون شك لأنه وفي كل مكان عملت الولايات المتحدة جاهدة لكي تملئ الفراغات.
وباعتبار أن الأمريكيين كانوا أسياد اللعبة بواسطة الأسلحة وغالباً بالدبلوماسية، وكانوا أسياد الموقف أيضاً بفضل قوتهم المالية فقد استطاعوا متابعة عمليتهم الاستثنائية للبحث عن الثروة ولإقامة البنى الاقتصادية التي تخدم استراتيجية هيمنتهم.
الآلية الاقتصادية الكونية:(1/95)
بين أعوام 1921-1929 وضعت الطفرة الاقتصادية الولايات المتحدة على طريق ازدهارٍ لم تعهده في حياتها، كان هذا عصر الاستهلاك العالي الكثيف الذي منحها الوهم بأنها أوجدت أخيراً«الجنة على الأرض والوفرة للجميع»، لقد أعلن الرئيس هوفر Hoover بعبارات طنانة بأن الولايات المتحدة «هي الآن أقرب إلى أن تنتصر نهائياً على الفقر بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ في أي بلد كان». فقد فرضت بالتأكيد إرادتها على الأسواق المالية العالمية ولكن النظام الذي أحدثته ما لبث أن ظهر وبشكل سريع بأنه زائغ ويحمل في طياته الخطر. كان الازدهار أولاً نتيجة الفورة الاقتصادية وإن كانت قد صنعت الثروة للكثيرين إلا أنها تركت الأكثر على حافة الطريق. كتب أيف هنري نويلهات Noulhat يقول:« إن نظريات داروين الاجتماعية التي تصر على ضرورة الصراع من أجل البقاء وبأن التقدم البشري مرتبط بنصر الأقوى وبإبعاد الضعفاء تماماً كالقيم البروتستانتية التي ترى بأن النجاح المادي هو مكافأة للجهد، كل ذلك خلق الجو المناسب». وعاد النمو السكاني إلى الازدياد واستمر النشاط الذي يهدف لتوسيع الحدود باتجاه الغرب وعرفت البنوك والصناعة تطوراً استثنائياً. بالمقابل حتى لو ظهر مستوى الحياة قد تحسن بشكل عام إلا أن هوة عدم المساواة تعمقت.(1/96)
ازدادت ثروة الشركات الصناعية بنسبة 62% بينما لم ترتفع الأجور إلا بنسبة 26% خلال ست سنوات. أما البطالة التي ما أن انتهى المجهود الحربي حتى عادت للظهور، كما زاد عدد أصحاب الملايين (4500 في عام 1914 إلى 11000 عام 1926) واستمرت حماية السوق القومي بواسطة الحواجز الجمركية التي من الصعب اجتيازها في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تنادي بإلغاء كل أنظمة الحماية لدى الآخرين، وارتفعت كلفة الحياة الاجتماعية نظراً للنشاط الاقتصادي والصناعي والمالي المزدهرين لدى أصحاب الأملاك الأرستقراطيين المزيفين الذين أدانهم جفرسون. فأفتتح فريدريك تايلور المنظمة العلمية للعمل وتم إعداد دراسة تحليلية لأفعال العمال حيث باتت تحسب بالدقائق. ووضع فورد أول سلسلة للتركيب الذي حول العمال إلى آلة. وخلق منها التمركز المالي للمشاريع نظام احتكاري بالكامل يديره بالغالب الوصوليون الذين لا رادع لهم. فالمنافسات بين المجموعات الاقتصادية والخوف في أمكنة العمل وفي الورشات وعدم المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء والسود وعمل الأطفال (صادقت المحكمة العليا مرتين في عام 1918 و1919 على قانون عمل الأطفال الذي حاول تخفيف وطأته) والظروف الصعبة وفي بعض الأحيان غير إنسانية كل هذا كان يشكل المشهد الاقتصادي والاجتماعي في أمريكا.(1/97)
حاولت النقابات التي قامت في القرن التاسع عشر أن تحقق مطالبها الشرعية وكان نصيب النقابات التي لم تحاول بأي ثمن أن تتحد مع مجموعة أرباب العمل أو الخضوع لها الفشل. أما الرؤساء الذين تتالوا على الحكم خلال السنوات التي تلت نهاية الصراعات لم يفكروا أبداً بالجانب الاجتماعي أو الأخلاقي. لقد مات وارن كاماليل هاردنغ (1865-1923) كما يبدو على أثر الفضائح التي طالت بعض أعضاء حكومته وعلى أثر جو الفساد الذي ساد آنذاك. ولم يستطع كالفن كولدج (1872-1933) منع سير الأمور مهما تكن نتائجها. وبقي أخيراً هربر كلارك هوفر (1874-1964) في الذاكرة لأنه رفض توزيع مكافآت الإعانة الاجتماعية إلى العاطلين عن العمل بعد الانهيار المالي في عام 1929. لقد تحقق إذن النموذج المثالي الذي ابتدعه ثورو Thoreau القائل بأن الحكومة الجيدة هي الحكومة التي تترك رجال الأعمال ينشطون فلا تحكم أبداً أو تمارس دورها بأقل شكل ممكن.
خلال فترة ما بين الحربين لم تهتم الولايات المتحدة سوى بأمرين: ضمان بحبوحة الطبقة المترفة عن طريق إعطاء الحرية الكاملة للمشاريع العظمى والعمل الدولي المرتبط بالمصلحة القومية الأمريكية فقط. فأمريكا اللاتينية كما رأينا خضعت لوصاية الولايات المتحدة وكانت الاستثمارات والإشراف المالي والصناعي والتدخلات المباشرة أوغير المباشرة (عسكرية، سياسية، دبلوماسية) كافية لإبقاء أمم الدائرة الثانية تحت جزمتها. وسمحت لها القوة البحرية والتجارية الأمريكية والوسائل التي استخدمتها أن تمتد باستعمارها لآسيا ومن ثم لأوروبا.
في ذلك العصر استمرت الولايات المتحدة باستخدام ذكي للخطاب ذي الوجهين. ففي المعاهدات كلها كانت بالطرق الدبلوماسية وبالدعاية تخرب للآخرين وخاصة للأوروبيين ما كانت تعمل على بنائه عندها. ولهذا الغرض كانت تستخدم السلاح الاقتصادي كمتمم للسلاح الدبلوماسي والأيديولوجي.(1/98)
كان من الأنسب لإضعاف مواقف الأوروبيين في مستعمراتهم بشكل أكبر قطع سبل العيش أمامهم، فبدت الولايات المتحدة متصلبة فيما يخص مسائل الديون. وكانت تستخدم بين أيديها ثلاثة أمور، أولاً: التعويضات الألمانية حيث منحت أمريكا لألمانيا قروضاً واسعة من الأموال الفائضة التي لابد من توظيفها خارج الحدود الرسمية. ثم كان هناك الديون التي تمت فيما بين دول التفاهم أنفسها، وأخيراً الديون للأمريكيين الذين كانوا يعتبرونها ديوناً تجارية لا يمكن تأجيلها. الشيء الذي أجبر إذن الأوروبيين بأن يتفقون فيما بينهم لدفع الديون. وبما أن الولايات المتحدة تقوم بمد ألمانيا بالأموال بصفة الدين وهي العدو السابق ألم يكن بإمكانها إذن أن تفعل الشيء نفسه مع شركائها القدامى؟!! بالواقع لم تكن تمنح قروضاً إلا للدول التي كانت تدفع ديونها. فلم يكن باستطاعة، اليابان والاتحاد السوفيتي وفرنسا، القوى الاستعمارية الأهم بعد الحليف البريطاني الحصول على أي شيء. وهكذا وجدت دائرة عبثية: الولايات المتحدة تقرض ألمانيا التي تدفع التعويضات إلى الحلفاء والذين بدورهم يدفعون للأمريكيين ما يتوجب عليهم من ديون.
آلية محفوفة بالمخاطر وبدت زيادة الإنتاج تهدد بالخطر أكثر فأكثر وسمحت القروض الشخصية للأفراد بالشراء مما ساهم بتبديد المواد المكدسة وقاد هذا التضخم الناتج عن تخفيض مفاجئ للقروض إلى الكارثة.
نحو الانهيار الأوروبي:
دل انهيار عام 1929 إلى أي درجة كان يشكل النظام الاقتصادي العالمي سلاحاً مرعباً وقد استخدمته الولايات المتحدة كأداة لغزو الكرة الأرضية.(1/99)
في غداة الصراع الأول كانت الديون الأمريكية على أوروبا ضخمة. وقد ظهر تفوق الولايات المتحدة عن طريق مضاعفة التبادلات المالية بين 1919 و1930. أما أزمة النظام النقدي الدولي عام 1930 ثم انفجاره عام 1933 فقد عملا على خلق حرب نقدية بواسطة المضاربات في سوق الصرف. وقد حققتالأعوام بين 1914-1918 للولايات المتحدة ازدهاراً لم يسبق له مثيل. كتب أندريه كاسبي يقول:«منذ عام 1915 عندما فهم المتحاربون أن الصراع لن يكون قصيراً كما كانوا يأملون شكلت الولايات المتحدة مخزناً للمواد الأولية وللمواد الغذائية وللمؤن. لقد سعد الصناعيون والفلاحون والتجار الأمريكيون ببيع الأطعمة أي القمح واللحوم والسكر والمواد الصناعية كالحديد والفولاذ والمحركات دون أن ننسى القطن والأدوية بفضل حيادهم الذي لم يمنعهم من التجارة مع المتقاتلين» ولن ننسى الأوساط المالية لأنه«منذ كانون الثاني عام 1915 أخذت المصارف الخاصة وعلى رأسها مجموعة مورغن بتقديم القروض المالية إلى الفرنسيين والى البريطانيين ( ... ) من هنا نستنتج بأن أوساط الأعمال أثرت على الرئيس ويلسون ... ولكنها لم تكن بحاجة لاشتراك الولايات المتحدة في الحرب لكي تجني الأراباح الخرافية». وقد بدا واقعياً واثقاً مما يقول عندما أعلن ويلسون بأنه عند نهاية الحرب ستكون قوى الحلفاء رهينة بيد الولايات المتحدة.(1/100)
ما كان يبدو أنذاك واقعاً بشكل جزئي أصبح واقعاً حقيقياً تماماً منذ بداية الحرب العالمية الثانية التي ما كادت تعلن حتى ساعدت التوسع الاقتصادي للولايات المتحدة وفتحت الأبواب أمام أسواقها وبدلت الأعمال الفاشلة لسياسة روزفلت إلى نجاحات. يقول كاسبي بأن «جدول المؤشرات الاقتصادية دل على أن الحصيلة الاقتصادية للجدول الجديد New Deal كانت هزيلة. صحيح أن عدد العاطلين عن العمل كان أقل ولكن الضّرر كان مستوطناً لذا كان من المفروض أن يكون هناك إنتاج مكثف وهذا ما تطلبته الحرب إضافة للاستنفار العام للرجال الذين هم في سن حمل السلاح لكي تختفي شريحة من لا عمل لهم». فإذا كانت الولايات المتحدة قد أصبحت «ترسانة الديمقراطية» فهي لم تفعل ذلك بشكل هبة أو بصورة مجانية. في الرابع من تشرين الثاني 1939 «بدل الكونجرس الحظر التام ببنود الدفع الفوري والشحن: لم يكن الأمريكيون يستطيعون بيع الأسلحة إلى المتحاربين إلا بشرط أن يدفعوا نقداً ويتكفلوا بالشحن» فعانت بريطانيا العظمى مالياً لأنها كما قال ديغول في مذكراته حول الحرب «كان على الإنكليز خلال هذا الشتاء المظلم أن يدفعوا ثمن مشترياتهم بالذهب وبالعملات الصعبة». أما الرهانات السياسية فلم تكن منسية فقد تنازلت الولايات المتحدة (ليس بدون خلفيات) لبريطانيا العظمى عن خمسين سفينة مقابل استخدام القواعد الإنكليزية لأجل غير مسمى في الأرض الجديدة وفي الباهاما وفي برمودا.(1/101)
شعر روزفلت منذ عام 1937 بأن الحرب في أوروبا لا يمكن تحاشيها ومباشرة لاحظ المكسب الذي يمكن للاقتصاد الأمريكي ربحه من خلال هذه الحرب بفضل الإنتاج المكثف والاستنفار العام لصالح المجهود الحربي وبذلك يمكن تأمين الأسواق وحل مشكلة البطالة. وشيئاً فشيئاً جهد الرئيس لإقناع المواطنين بأنه لا يكفي أن تكون الولايات المتحدة «ترسانة الديمقراطية» بل يجب عليها المشاركة بفاعلية في «الحرب الصليبية ضد إمبراطورية السوء (اليابان وألمانيا)» وفي هذا الإطار قال كلود فوهلن:«كان يجب إذن إقناع الرأي العام بأن الدول الاستبدادية تهدد القيم التي اعتقدت بها الديمقراطية الأمريكية». في الوقت ذاته ترك ستالين يتصرف بحرية في أوروبا الشرقية لأنه كما قال أندريه كاسبي فهم بأنه «هكذا يعمل على كسب السلام كما هو في طور كسب الحرب».(1/102)
وَفَّرَ الهجومُ الياباني على بيرل هاربر العنصر الحاسم الذي جعل الولايات المتحدة تقرر دخول الحرب. هل كان ذلك مفاجأة؟ ودون اللجوء إلى الإدعاء كما فعل بعض المؤرخين بأن اقتراب الأساطيل اليابانية الذي حدث قصداً من أجل أن يصبح اشتراك الولايات المتحدة في الحرب أمراً لا يمكن تحاشيه(1). إلا أننا بالمقابل نستطيع أن نؤكد بأن المجابهة مع اليابانيين كانت مخططة سلفاً، وإلا كيف لنا أن نفسر الإجراءات الاقتصادية بحق اليابان في أيلول 1940 إلى تموز 1941 التي هدفت إلى حرمان هذا البلد من المنتجات الإستراتيجية خاصة البترول؟ كما أن الولايات المتحدة هيأت نفسها للعمل ضد ألمانيا. فأقامت في الأطلسي منطقة محايدة لتجبر الألمان بحصر عملياتهم في الجزء الشرقي. تبع ذلك وقوع بعض الأحداث التي لم يمكن تحاشيها وخاصة بعد أن تقرر اشتراك سفن الحرب الأمريكية بمرافقة مواكب البواخر في شمال الأطلسي في أيلول 1941. وفي 17 تشرين الأول أصيبت المدمرة كرني بالأضرار أما المدمرة روبن جيمس فقط تم إغراقها في مياه المحيط في 31 تشرين الأول.
في 11 كانون الأول 1941 عندما أعلنت ألمانيا وإيطاليا الحرب ضد الولايات المتحدة كان الأمر قد حدث، لقد نبت هذا الصراع بسبب الشطط الأوروبي منذ بداية القرن وبسبب نتائج ذلك وخاصة اتفاقية فرساي المشؤومة التي فرض الأمريكيون القسم المخيف منها والتي سلمت إليهم الدائرة الثالثة.
روزفلت وغزو العالم:
__________
(1) يجب أن نعترف بأن أسطولاً بهذه الأهمية وقادراً على التوجه إلى جزر هاواي دون أن يتمكن النظام الدفاعي الأمريكي من اكتشافه يشكل أمراً مشبوهاً وخاصة إذا علمنا أن إدارات مسؤولين كبيرين في القيادة الأمريكية قد تم إخطارها بالتهديد الياباني وهذان المسؤولان هما الجنرال مارشال رئيس أركان الجيش والأميرال كنغ قائد أسطول الأطلسي.(1/103)
أتاحت المجابهة مع اليابان للولايات المتحدة أن تهيء وتنجز السيطرة السياسية ومن ثم الاقتصادية على آسيا تماماً كما فعلت واشنطن في أمريكا اللاتينية. أولاً كانت الفرصة مؤاتية لوضع حد للنفوذ الأوروبي في هذا الجزء من العالم. بعد عام 1945 بات موقف الهولنديين (الهند الهولندية) والبريطانيين والفرنسيين غير محتمل، وعندما هزمت الولايات المتحدة اليابان تخلصت من المنافس الوحيد القادر على أن يقف في وجهها في المحيط الهادئ.
أما بالنسبة لنوايا الأمريكيين في أوروبا فقد تأكدت شيئاً فشيئاً مع مسيرة العمليات. وأضافت الولايات المتحدة إلى إرادة تنظيم الحرب على الأرض الأوروبية بهدف إعادة ترتيبها بعد الحرب نيتها إلى إبعاد المزعجين وخاصة فرنسا غير الفيشية.(1/104)
بذل الأمريكيون جهدهم لتقوية علاقاتهم مع حكومة فيشي منذ عام 1940، وفي كانون الأول أرسل روزفلت الأميرال ليهي والقنصل روبرت مورفي الذي كان شديد العداء لفرنسا الحرة إلى ويغان Weygand في شمال أفريقيا قبل ذلك كانت هناك محاولة من أجل تقليل شأن الحركة الديغولية من خلال اتهام الأميرال موسيليه Muselier بالتورط في مؤامرة بالاتفاق مع حكومة فيشي. إلا أن هذه المحاولة المدعومة من ضباط بريطانيين بتشجيع من الأمريكيين تم فضحها من قبل ديغول الذي تلقى فيما بعد اعتذارات من تشرشل ومن أيدن. في 24 كانون الأول 1941 حصل موسيليه نفسه على انضمام سان بيار وميكلون إلى حكومة فرنسا الحرة، مما أثار غضب الولايات المتحدة التي كانت منهمكة بالتفاوض مع حكومة فيشي من أجل حياد جزر الأنتيل. في شباط عام 1942 أصبح السير أرتور ترافرس هاريس (1892-1984) مدير إدارة المدفعية وعاد إلى الولايات المتحدة حيث كان على رأس وفد القوى الجوية الملكية. ألم يكن إذن من المفاجئ أن يعتمد على تكتيك سمي «بقصف المنطقة» التي تحمس لها الأمريكيون بشكل كبير والتي كانت تهدف إلى إحداث دمار واسع في الأراضي الألمانية. فقد تم قصف ستين مدينة من أكبر المدن مما أحدث الرعب الذي استمر حتى نهاية الحرب ولم يتم فقط استهداف ألمانيا بل أيضاً فرنسا وبلجيكا حيث قصفت حتى الدمار مراكز اقتصادية عصبية وتصاعدت العمليات بالتعاون بين القوى الجوية الملكية والقوى الجوية للولايات المتحدة حتى شهر آذار عام 1943. في عام 1942 انطلقت عملية ما سمي بـ(تورش Torch) التي هدف الأمريكيون والبريطانيون منها الإنزال في شمال أفريقيا في وسط الإمبراطورية الفرنسية والتحالف مع فيشي بغية استعادة موقع لهم في أوروبا ولجم نفوذ فرنسا الحرة في المنطقة. لتحقيق ذلك جرت اتصالات مع الأوساط المعادية لديغول أي الجنرال جيرو في الرابع من أيلول من قبل روبرت مورفي.(1/105)
في 8 تشرين الثاني انطلقت العملية، في 13 من الشهر نفسه أصبح الأميرال دارلن المتحدث الرسمي للحلفاء مما أثار غضب الجنرال ديغول. وعندما اغتيل دارلن خلفه في منصبه جيرو. إذن لم يكن مستغرباً أثناء مؤتمر «الدار البيضاء – أنفا» من 13-24 كانون الثاني 1943 أن يرفض ديغول فكرة روزفلت وتشرشل ومستشاريهم العسكريين بإقامة قيادة ثلاثية يكون فيها ديغول نفسه تابعاً لجيرو وللجنرال جورج.
ديغول ومقاومة روزفلت:(1/106)
لا يوجد أي شيء يمكنه إلقاء الضوء على النوايا الأمريكية المتعلقة بمستقبل العالم افضل من العلاقة الخاصة جداً التي قامت بين روزفلت ومستشاريه من جهة والجنرال ديغول من جهة أخرى. منذ بداية اللعبة كان روزفلت يبغض ديغول. لقد رأى فيه دون شك الشخصية الأوروبية الوحيدة القوية التي تملك ما يكفي من النباهة لاختراق النوايا الأمريكية ومن التصميم الكافي لمنع حدوثها. هناك أمران أساسيان ميزا مخططات روزفلت أولاً: المحاولة المدعومة لإخراج ديغول وحكومة فرنسا الحرة من أجل ترتيب عالم ما بعد الحرب على هواه. أشار الجنرال إلى ذلك في مذكرات الحرب Les Mémoires de la guerre فقال:«في العمق إن ما كان الأمريكيون يعتبرونه تحصيل حاصل هو إلغاء فرنسا وبهذا كانوا في وضع منسجم مع حكومة فيشي» وأضاف: «أمام ضخامة الموارد الأمريكية وطموح روزفلت الذي كان يريد أن يفرض قانونه ويوزع الحقوق في العالم كنت أشعر أن الاستقلال هو المشكلة». ثانياً تأكيد استمرار محاباة بريطانيا العظمى تجاه الأهداف الإمبريالية لمستعمرتهم القديمة. حول ذلك يقول ديغول:«إن دخول روسيا وأمريكا الحرب الذي حمل معه ثقل التحالف مع دول عظمى كان من المفروض أن يدفعها إلى التقارب من سياستنا وتعمل وبشكل متضامن وصريح في أوروبا وفي المشرق وفي أفريقيا وفي المحيط الهادي» ولكن لم يحدث شيء من هذا. وكان الموقف البريطاني تجاه الجنرال ديغول يتغير حسب اشتداد الضغط من روزفلت. في بداية تموز 1941 بدء جو العداء بالظهور. وأتخذ إذن القرار من قبل الرئيس الأمريكي بأن لا يعطي لحكومة فرنسا الحرة الدور الرئيسي لمقاومة النازية بل لفيشي وتصنعت وزارة الخارجية الأمريكية تجاهل ديغول وأنصاره.
في كتابه القيم حول شارل ديغول وصف جان لاكوتور(1/107)
Jean Lacouture التقلبات التي رافقت مراحل «التعاون» بين ديغول والحكومة الأمريكية طيلة فترة الحرب مشيراً إلى عداء وكراهية روزفلت ومستشاريه الأساسين للجنرال ديغول له جذوره في الموقف المعارض الصريح الذي أعلنه ديغول ضد الأهداف الإمبريالية الأمريكية. تنبأ ديغول ودون تباطؤ بأنه لا يمكن أن يترك الساحة حرة للأنكلوسكسونيين، فعمل على إقامة علاقات مباشرة مع الاتحاد السوفيتي لأنه وكما يقول الصحفي جيرار جوف Gèrard Jouve كان لديه القناعة القوية بأن فرنسا والاتحاد السوفيتي «هما قوتان قاريتان ولذلك لديهما قضايا وأهداف نوعية مختلفة عن أهداف القوى الأنكلوسكسونية».وبرهن بعد ذلك عن الواقعية أمام المصلحة العليا لقضية التحالف فحاول إقامة تقارب مع واشنطن في نهاية كانون الثاني 1942 إلا أن روزفلت والقوى الناطقة بالإنكليزية ردوا بميثاق الأطلسي الذي أعد ووقع على متن باخرة الحرب برنس أوف ويلز (أمير ويلز) في شهر آب 1941 وهذا الميثاق يطرح من جديد النقاط الأربع عشرة لمخطط ويدرو ويلسون. يطالب الميثاق بأن تتخلى الديمقراطيات المتحالفة عن بعض المكاسب في الأراضي وتشجع تقرير المصير للأمم المستعمرة بواسطة قوى أخرى أي الولايات المتحدة بالطبع.(1/108)
يعود تاريخ كراهية روزفلت لديغول إلى ما اتفق على تسميته «قضية دكار» التي كما كتب لاكوتور «حولت المشاعر غير الودية لروزفلت ولمعاونيه إلى حذر شرس تجاه ديغول». في 27 آب سمحت النيويورك تايمز لنفسها أن تضع موقع الشك شرعية الحركة التي أعلنها الجنرال بعد نداء 18 حزيران. الإشارة الأولى للفظاظة الأمريكية تعود إلى كانون الأول 1941 عندما قام وزير الخارجية الأمريكية كوردل هال بتسمية الفرنسيين الأحرار بأولئك الذين «يطلقون على أنفسهم» اسم حركة. فبذلك نما كما يذكر لاكوتور بين ديغول وبين روزفلت عنصر حساسية وعند الرئيس الأمريكي بشكل خاص «قناعة مخالفة للعقل وعنيدة أدت إلى عدم الرؤية والى مشاعر التنافر بعيداً عن كل تعقل» كان من الواضح أنه إذا كانت الولايات المتحدة تدعي أنها تحارب «من أجل انتصار الأنظمة الديمقراطية» فإنه نجم عن ذلك مخططات أعدها روزفلت لإعادة ترتيب الكرة الأرضية إلا أن الدافع الضمني لم يتم الإفصاح عنه.(1/109)
انسجاماً مع المفهوم الفيدرالي والمعادي للاستعمار الخاص بهم جابه الأمريكيون كل رؤية وسطية وإمبريالية عرضها الآخرون. إن غزو فرنسا كان يفترض تأمين منصة لتخليص أوروبا من المحتل الألماني من أجل إبداله بقوة أخرى يستطيعون الإشراف عليها. في هذا الإطار بدا الجنرال ديغول إذن عنصراً مزعجاً. المكانة التي أعطيت لفرنسا كانت ثانوية، كتب لاكوتور يقول:«إن كان الفرنسيون قد هيئوا المساحات الأرضية لتمكين الطائرات من الهبوط وأرسلوا بعض المعلومات وهاجموا بعض القطارات وقدموا خبراءهم (إن كان لديهم بالطبع) ... » مقابل ذلك أعطوا أرضاً ليست اقل بكثير من أرضهم قبل عام 1940 (ما عدا بعض الاستثناءات جهة بلجيكا التي كان يجب توسيعها) تحت رعاية لجنة عليا أمريكية مكلفة بإعادة تأهيلهم وشرطة دولية مهمتها في فرنسا «المنزوعة السلاح» أن تحافظ على النظام داخلياً وخارجياً ... هذا ليس عرض كاريكاتيري إنه بحق الحصة المعطاة لفرنسا من قبل الأمريكيين حسب مجموعة الأفكار التي قدمها الرئيس التنفيذي الأمريكي من عام 1940 إلى عام 1944 وحتى يوم الإنزال في النورماندي.
لم تنظر الإدارات الأمريكية إلى ديغول «إلا كبقايا صغيرة وفظة من قصة انقضى زمنها، ومن تاريخ لا يتناسب مع الوقت الراهن» هذا ما عبر عنه دبلوماسيون مثل مينار بارنز وفرمان ماتوز المسؤولان عن توجهات روزفلت ووزارة الخارجية الأمريكية طيلة تلك السنوات. أضاف لاكوتور يقول:«في كتابات بارنز بدت فرنسا بعد انكسارها وهزيمتها كأنها لم تعد موجودة كأمة أما بالنسبة لـ «فريمان ماتيو» فإن الديغوليين هم عبارة عن قطاع طرق» وقد اعتمد وزير الداخلية الفيدرالي هارولد أيفز نفس العبارة.(1/110)
كان روزفلت محاطاً بأخصائيين معاديين لفرنسا ولرئيس مقاومتهامثل كوردل هول الذي لم يكن يعرف عن فرنسا أي شيء وسمنر ويلز الذي كان يخشى كثيراً الأوروبيين وأدولف برل ووليم ليهي والأميرال روبرت مورفي – الدبلوماسي- كل هؤلاء كانوا ضعاف البصيرة فزرعوا الحذر ضد فرنسا وضد ديغول.
نقل أدريان تكسيه محادثات حضرها وتمت بين أندريه فيليب الناطق الرسمي لديغول وروزفلت وسمنر ويلز في لندن في 20 تشرين الثاني 1942 وخلال هذه المحادثات قال روزفلت: «بالنسبة لي فرنسا لم تعد قائمة من وجهة النظر السياسية حتى يأتي وقت تنظم فيه انتخابات لاختيار ممثلين لها»، أراد روزفلت إذن أن يبدو برغماتياً عندما قال:«أنا لست مثالياً مثل ويلسون، أنا أهتم قبل كل شيء بالفعالية، عندي قضايا يجب حلها. فأهلاً وسهلاً بمن يساعدني على حلها. دارلن يعطيني اليوم الجزائر وأنا أصرخ عاش دارلن، وإذا أعطاني كسيلنغ أوسلو أصرخ عاش كسيلنغ! ... فليعطني لافال Laval غداً مدينة باريس وسأصرخ عاش لافال!».(1/111)
وتتالت ازعاجات وعلامات الاحتقار تجاه قائد فرنسا الحرة في تموز عام 1942 عندما تم اتخاذ القرار بإطلاق عملية إنزال الحلفاء في شمال أفريقيا التي استبعد منها الفرنسيون لعدة أسباب. يطرح جان لاكوتور سؤالاً فيقول:«هل لنا أن نفترض وجود دوافع أخرى لدى روزفلت؟ ألن يسمح له هذا التدخل في أفريقيا الشمالية عملياً بتحقيق هدفين شخصيين هما تطهير أفريقيا الشمالية من الاستعمار الفرنسي ومنح الجنرال ديغول ما أسماه ميلتون فيورسه «بفيزا النسيان»؟ على سؤال لاكوتور هذا لا نستطيع إلا أن نجيب بالموافقة. المفاوض الذي اختاره روبرت مورفي وهو الجنرال ويغان Weygand «كان مدعواً في شمال أفريقيا بشكل قوي من المعادين للألمان والمعادين لديغول والمنحازين للأمريكيين» مما يؤمن أيضاً خدمات محبي أمريكا من رجال الأعمال ومن بينهم جاك لومفر دبري صاحب زيوت لسيور وهنري داستيه ولافيجري. كتب الجنرال جيرو نفسه إلى مورفي في 28 آب 1942 بأنه علينا أن نطع «الفرنسيين المنشقين» أي ديغول وفرنسا الحرة خارج إطار الإنزال ولا يجب أن يعلموا عنه أي شيء. «بهذا الشكل أعطى جيرو للأمريكيين الإجازة بالتدخل بالشؤون الفرنسية وباضطهاد من يحلو له عن طريق العودة إلى هذا الحكم الجديد للمصالح الفرنسية».(1/112)
لم يكن روزفلت ينتظر موافقة جيرو.، فقد كتب يقول:«أنا أرى أنه من الضروري أن يبقى ديغول جانباً ويجب ألا نعطيه أي معلومة»، وأنجزت عملية تورش دون صعوبة والمسؤوليات التي كان يجب منحها بشكل طبيعي إلى جيرو أعطيت لدارلن من قبل مورفي والجنرال كلارك بالاتفاق مع واشنطن ووزارة الخارجية في لندن وتسارعت الإجراءات المعادية لديغول فتم تعيين مراقب برامج أمريكي في الإذاعة فمنع أي هجوم ضد دارلن وبتان Pétain. وإلى جانب الإيعاز الذي وجهه ديغول إلى تشرشل بعدم السماح للولايات المتحدة بقيادة الصراع صدر بيان من اللجنة الوطنية الفرنسية صرح فيه ديغول بأنه يرفض تحمل أي مسؤولية في المفاوضات التي يقودها الحلفاء تحت الإدارة الأمريكية في شمال أفريقيا. فرد الأمريكيون «بتصعيد المحظورات وبالفرمانات الاستبدادية وبالضغوط على الناطق الرسمي لفرنسا المقاتلة».
كان هذا هو زمن الخضوع الإنكليزي وخاصة خضوع تشرشل أكثر فأكثر لأوامر واشنطن. يقول ديغول:«إن رئيس الوزراء كان قد قرر ألا يقوم بشيء هام إلا بالاتفاق مع روزفلت. فإذا كان أكثر من أي إنكليزي يؤيد الوسائل الأمريكية غير المناسبة وإذا كان يتحمل بصعوبة حالة التبعية التي وضعت فيها الولايات المتحدة الإمبراطورية البريطانية بسبب المساعدات وإذا كان يشعر بمرارة لهجة التفوق التي كان يعتمدها روزفلت تجاهه فلأن تشرشل كان قد قرر بشكل نهائي أن يخضع أمام ضرورة الحلف الأمريكي. لذلك لم يكن ينوي أن يتخذ تجاه فرنسا الحرة أي موقف حاسم إزاء موقف البيت الأبيض. لقد كان روزفلت حذراً من الجنرال ديغول أما تشرشل فكان متحفظاً». بالنسبة لروزفلت فلقد استمر بالتعاطي مع تحفظات الجانب الفرنسي المناضل بهزء معلناً احتقاره لكل ما يمكن له أن يكون بمثابة «الضمير الوطني الفرنسي».(1/113)
الأكثر تعبيراً عن ذلك هي قراءة المخططات التي أعدها روزفلت لأوروبا (آذار 1943) عندما ستنتهي الحرب. فمجموعة الجيوش الأوروبية سوف تكون تحت سيطرة ثلاث دول هي بريطانيا العظمى والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وسيكون إذن تحت تصرف هذا الثلاثي الإشراف الكامل على معظم دول القارة العجوز. فسيتم تقسيم بلجيكا وإنشاء دولة جديدة: والونيا Wallonia تضم بلجيكا الحالية الوالونيه واللوكسبورغ والإلزاس واللورين وجزءاً من شمال فرنسا. يقول لاكوتور:« قرر روزفلت من الآن فصاعداً أن يعامل فرنسا ليس كبلد محرر بل كبلد محتل خاضع لإدارة عسكرية إنكليزية – أمريكية». إلا أن رؤى روزفلت قد تعطلت عندما أصدر الجنرال ديغول تعميماً أعلن فيه أن «كل قطعة من الأراضي المحررة ستدار بواسطة مندوب تعينه اللجنة الفرنسية للتحرر الوطني CFLN في الوقت نفسه أعلن المجلس القومي للمقاومة بأن اللجنة الفرنسية للتحرر الوطني هي الحكومة الشرعية لفرنسا . وفي 3 حزيران 1943 أصبحت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية».
تثبيت الخط السياسي:(1/114)
مما لم تغفره الولايات المتحدة للجنرال ديغول هو أنه جسد مبدأ السيادة القومية المرتكزة على أولوية المبدأ السياسي الذي كان عند الاقتضاء يمكن أن يعرقل أهدافها في الهيمنة. هذا الدور الذي خص الجنرال ديغول نفسه به أكده جان مولان Jean Moulin في رسالته إلى الجنرال:«بماذا يتعلق إذن الأمر خارج قضية تحرير الأرض؟ بالنسبة لك الأمر يتعلق باستلامك للسلطة ضد الألمان وضد فيشي وضد جيرو ومن المحتمل أيضاً ضد الحلفاء»بناء على ذلك رأى لاكوتور بأن تعيين اللجنة القومية للجمهورية هو تجسيد «لعنصر التحدي ضد روزفلت: لا، فرنسا لن تكون «المحمية» التي حذر منها أنطوني أيدين مفاوضيه في واشنطن». لأن الولايات المتحدة وإن استخدمت البريطانيين كأدوات فهي لم تكن لينة معهم. فالسياسيون أمثال فالز وويلكي والصحف مثل لايف ماغزين في «رسالتهم المفتوحة إلى الشعب الإنكليزي» لم يترددوا بانتقاد أساليب الإمبريالية الإنكليزية. هنري غريمال يذكرنا بذلك فيقول«من يالطا خضع تشرشل لهجوم الحليفين الكبيرين اللذين هما مبدئياً ضد الاستعمار. أحدهم (ستالين) باسم نظرية بلاده الرسمية والآخر (روزفلت) لأسباب تاريخية واقتصادية». «الأسباب التاريخية» باتت معروفة لدينا وهي كيف يمكن السيطرة على العالم إذن كان لا يزال هناك أماكن تخضع لإشراف أمم أخرى منافسة؟ أما الأسباب الاقتصادية فهي ليست بحاجة لتفسير. إن الضغط الأمريكي المستخدم بحذاقة لم يكن غريباً عن استقلال الهند وبرمانيا وسيلان. وإن كان استقلال الدول التي خضعت بالسابق للهيمنة الاستعمارية هو قضية شرعية واضحة فالموقف الأمريكي أقل شرعية. فتجاه الكلام الأخلاقي الموجه لفرنسا ولبريطانيا العظمى ولبلجيكا ولإسبانيا وللبرتغال عن حق الشعوب بتقرير مصيرها كان هناك سياسة الاستيلاء القائمة على احتلال مواقع السلطة التي تركتها هذه الأمم.(1/115)
أخذت المحاولات اليائسة للتخلص من المزعج ديغول بُعْدَهَا الحقيقي يوم الإعداد لعملية أوفر لورد Overlord، لقد قررت الولايات المتحدة من جانب واحد بأن القوى الفرنسية ستكون تحت تصرف هيئة أركان الحلفاء ويكون لها حق التعامل معها كيفما تريد. ثم اقنع روزفلت ملك إنكلترا بأن لا يخبر ديغول وحكومة فرنسا الحرة بالجدول الزمني لتحرير الأراضي الفرنسية. هذا الموقف أدين من قبل الصحف الإنكليزية والأمريكية كلها. أما تشرشل فقد برهن مرة أخرى عن طاعته وانصياعه وعندما كان يوجه له الانتقاد كان يصرخ «كيف تريدون منا نحن البريطانيين أن نتخذ موقفاً منفصلاً عن موقف الولايات المتحدة؟ إننا سوف نحرر أوروبا وهذا لأن الأمريكيين معنا لتنفيذ ذلك، فعليكم إذن أن تعلموا بأنه وفي كل مرة يكون علينا أن نختار بين أوروبا وبين عرض البحر سوف نختار دائماً عرض البحر. وفي كل مرة علينا أن نختار بينكم وبين روزفلت سأختار دائماً روزفلت».
في الفترة الواقعة بين عام 1939 (بداية الحرب العالمية الثانية) وكانون الأول عام 1941 (دخول الولايات المتحدة الصراع) أنجزت أوروبا عملية الانتحار الجماعي التي بدأتها في عام 1914. إن «حرب الثلاثين عاماً» التي لم تعرف عملياً فترة توقف من عام 1914 إلى عام 1945 خدمت مخططات الإمبرياليتين العظمتين في العالم الأمريكية والسوفيتية.(1/116)
بما يخص الولايات المتحدة بدت خطة الاستنزاف التي باشرها الرئيس ويلسون الخصم القوي للتوازن الأوروبي الذي يمكنه أن يشكل قوة مزعجة لإمبريالية بلده بدت إذن أنها قد وصلت إلى المرحلة التي توجتها بالنجاح. أما الاتحاد السوفيتي المعادي للاتحاد الأوروبي القادر على إيجاد جبهة متماسكة تقف أمام المد الشيوعي، وجد في الولايات المتحدة الحليف الموضوعي له. لقد أقر أوجين ويبر Eugen Weber في كتابه «بأن الرئيس روزفلت ومستشاره الأساسي هنري هوبكنز بدا بأنهما أصبحا مقتنعين بأنه لدى الولايات المتحدة وروسيا بشكل أو بأخر أموراً مشتركة أكثر مما للولايات المتحدة مع الدول القديمة التي كانت تحتفظ في داخلها بطبقات اجتماعية عفا عليها الزمن وفي الخارج لديها المستعمرات. لقد رأى روزفلت أنّ رجالاً كتشرشل مازالوا يتمسكون بدون جدوى بالماضي ويحاولون إعادة الاعتبار لقيم الزمن الغابر وإقامة أنظمة ملكية أو محافظة وهياكل إمبراطورية. لذا تستطيع روسيا والولايات المتحدة التعاون ضد هذه المبادرات وخاصة إذا كان ذلك يلبي الحاجات الشرعية في الأمن والازدهار لروسيا».
إن إعادة الهيكلية الإمبراطورية من قبل الأوروبيين يتطلب عودة وضع ما قبل الحرب الاستيلاء على الأراضي والأقاليم التي تملكها فرنسا وإنكلترا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وهذا ما كان الأمريكيون يحلمون بالاستيلاء عليه، فالعودة إلى وضع ما قبل الحرب يسمح بإيجاد نقاط ارتكاز قادرة على جمح تقدم الإمبريالية الأمريكية. لذلك كان لابد من وقف ذلك وبأي ثمن فبدا إذن التعاون بين ستالين وروزفلت (ثم ترومان) من الضروري إقامته ضد المصالح الأوروبية.(1/117)
إن هزائم هتلر بعد أشهر قليلة من هجومه على الاتحاد السوفيتي (22 حزيران 1941) جعلت الأمريكيين يدركون بأن ساعة إخضاع أوروبا قد دقت والإخضاع كان قد بدأ مع ويلسون ومعاهدة فرساي. وحتى قبل نهاية الحرب ضمنت الولايات المتحدة هيمنتها النهائية على النظام الاقتصادي العالمي. لقد اتبعت خطة على مرحلتين. في المرحلة الأولى عملت على إقامة بنية ضاغطة وملزمة استطاعت أن تحافظ على تبعية اقتصاديات الدول الديمقراطية لها. هذه البنية نتجت عن لقاءات بريتون ودز في عام 1944، وقامت المرحلة الثانية على إنهاك بطيء للدول الاشتراكية قادها إلى الانهيار بعد سنوات من التيه الذي قضى عليها من الداخل.
((
الفصل الثالث
الشبكة الكونية الأمريكية
لم تُمثّل سيطرة الولايات المتحدة على النظام الاقتصادي إلا مرحلة من التقدم الأمريكي نحو التفوق العالمي. لقد فُرغّت أوروبا بعد عام 1945 عملياً من مقوماتها فرأت الولايات المتحدة أن الوقت قد حان أخيراً من أجل إقامة هيمنتها السياسية والعسكرية والثقافية في آنٍ واحد.(1/118)
عملياً لم يميز الدمار بسبب الحرب إلا القارة الأوروبية، كتب فيليب ماسون يقول:«كان اقتصاد كل المناطق مضطرباً بشكل كامل، كانت الفوضى الاقتصادية في اليابان وفي الصين والاتحاد السوفيتي وأوروبا بما فيها بريطانيا العظمى التي كانت على حافة إفلاس مالي لا سابق له بعد توقف القروض. الصورة كانت نفسها في كل مكان، لقد خلف انهيار الإنتاج الزراعي والصناعي والتضخم والعجز الكارثي في ميزان الحسابات البطالة وانخفاض مستوى الحياة والتراجع الأخلاقي مع انتشار البغاء والسوق السوداء» مقابل وضع كهذا ظهرت الولايات المتحدة كما كان الحال غداة الحرب العالمية الأولى في وضع مزدهر «فلقد وضعت الحرب حداً للأزمة الاقتصادية وامتصت البطالة وكشفت عن طاقات إنتاجية لا يشك فيها، فالإنتاج الأمريكي وحده كان يمثل ثلثي إنتاج العالم بأجمعه». ومنذ عام 1944 وبشكل خاص خلال المؤتمرات الكبرى بين الحلفاء التي استبعد منها أي منافسة بين الإمبرياليتين عمدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى تقسيم جيوسياسي للعالم «فارتسم نظام عالمي جديد». رغم خسائره «تمتع الاتحاد السوفيتي بمكانة مرموقة وبدا انتصاره كانتصار الاشتراكية التي كانت تمارس جاذبية خاصة على الجماهير الفقيرة في الدول الأوروبية». بالمقابل «كانت الولايات المتحدة في أوج قوتها وكانت لا تزال تتمتع وحدها بامتلاك السلاح النووي» لقد عمدت القوتين إلى تقسيم أوروبا إلى معسكرين الأول غربي تحت السيطرة الأمريكية والآخر إلى الشرق تحت التبعية السوفيتية.(1/119)
لقد كانت منظمة الأمم المتحدة بمثابة وضع الحجر الأساسي للمنظمة الدولية المستقبلية الضرورية لتحقيق التفوق السياسي الأمريكي والذي كان بشكل مؤقت تفوقاً أمريكياً سوفيتياً. وأصل المنظمة وعلينا ألا ننسى ذلك أبداً إنه روزفلتياً، الرئيس الأمريكي هو الذي أطلق في عام 1941 المشروع، وفي عام 1943 في مؤتمر وزراء الخارجية المنعقد في موسكو تم اتخاذ قرار بإقامة «منظمة عالمية لحفظ السلام» هذه الصيغة استخدمت اللغة الصارمة الحقوقية والسياسية للدلالة على المؤسسة الأممية التي ستشرف من خلالها واشنطن على دول المستقبل الأعضاء. في عام 1944 جمع مؤتمر دومبرتون أواكز Dumbarton Oaks الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية والصين فأتمت مؤتمر يالطا وحددت هيكليات المنظمة. في 26 حزيران 1945 أسس ميثاق 111 بشكل منظمة الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول 1945 بدأ العمل فعلياً بهذه المنظمة. فإن ما لم يستطيع الرئيس ويلسون من الحصول عليه في عصبة الأمم استطاع روزفلت فعله أخيراً. لقد كان تحت تصرف الولايات المتحدة أول شبكتين من نسيجها الشامل: الأولى الاقتصادية وهي تتمثل بالنظام النقدي الدولي والثانية سياسية ودبلوماسية تتمثل في منظمة الأمم المتحدة.(1/120)
لقد عقدت كل المؤتمرات بين الحلفاء دون مشاركة الجنرال ديغول. بين 28 تشرين الثاني والأول من كانون الأول عام 1943 عقد مؤتمر طهران بحضور روزفلت وستالين وتشرشل حيث تم الاتفاق على الحدود السياسية الجديدة في الشرق وهو خط كوزون Cuezon. في مؤتمر دومبرتون أواكز أوقف العمل بخطة مورغنتو وتم تفكيك الصناعة الألمانية. في محادثات موسكو (9-18 تشرين الأول عام 1944) حدد تشرشل مدعوماً بروزفلت وستالين وأيدين دوائر النفوذ في البلقان. أعطي للسوفيت كل من رومانيا وبلغاريا وهنغاريا ويوغسلافيا مناصفة مع بريطانيا العظمى. وأعطى لإنكلترا اليونان التي خضعت فيما بعد للإشراف الأمريكي . وأخيراً في يالطا قرر تشرشل وستالين وروزفلت بأن يكون خط كوزون الحدود النهائية من الآن وصاعداً بين الشرق والغرب. من جهة أخرى تم الاتفاق على توزيع مقاعد مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة.
مرة أخرى جاءت البادرة الأولى للمقاومة من فرنسا، لقد رفض الجنرال ديغول دمج منطقة الاحتلال الفرنسي في ألمانيا مع منطقتي الاحتلال الإنكليزية والأمريكية كما اقترح وزير الخارجية الأمريكية ذلك في السادس من أيلول 1946 في ستوتغارت. ومن حينها برزت المجابهة بين مفهومين مختلفين لبناء أوروبا رغم وجود توافق إجماعي حول توحيد الدول التي مزقت تمزيقاً كبيراً فكان هناك نموذجان: أحدهم تصور إقامة أوروبا الفيدرالية على طريقة الولايات المتحدة وتخضع لواشنطن وكانت بلجيكا وهولندا تدعم هذا الاتجاه. النموذج الآخر كان يرى إقامة أوروبا الكونفدرالية وتدعمها بريطانيا العظمى وفرنسا و ودوترى Dautry وسيكفريد Siegfried ورماديه Ramadier وأخريين.(1/121)
في مؤتمر لاهاي (7-10 أيار 1948) تصارعت كل الاتجاهات وتم تشكيل لجنة ارتباط أصبحت في 25 آب 1948 حركة أوروبية يرأسها أربع رؤساء شرف وهم تشرشل والإيطالي كسبري والبلجيكي سباك والفرنسي بلوم الذي جاء مكانه فيما بعد شومان. في لاهاي أيضاً عقد في 20 تموز مؤتمراً تم خلاله اقتراح بواسطة جورج بيدو Bidaulr وفرنسا وبريطانيا العظمى وهولندا واللوكسبورغ وبلجيكا خلق اتحاد جمركي واقتصادي من جهة ومجلس أوروبي من جهة أخرى. فكان مفهوم المتخطي للحدود القومية موجوداً لدى الجميع بشكل ضمني.
أما الولايات المتحدة المؤيدة لوحدة أوروبية تحت جناحها فقد دعمت هذا المشروع لكي يكون بمقدورها أن ترجح كفة الميزان إلى الجهة التي تسعدها أكثر وكانت قد دشنت الحرب الباردة قبل سنة من ذلك.
الحرب السهلة:
حتى لو كان المؤرخون الذين يحملون الولايات المتحدة المسؤولية الكبرى في الحرب الباردة ليسوا محقين كثيراً إلا أن التحليل المتأني للواقع (الحلف الموضوعي مع الاتحاد السوفيتي على تقسيم العالم) والدراسة الموضوعية لتسلسل الأحداث تثبت بشكل كافٍ المصدر الذي تعمد قيام الحرب الباردة فقد استخدمت الإمبرياليتان الواحدة الأخرى كمطارق من أجل تدعيم أفضل لأنظمتها المهيمنة.(1/122)
الطريقة التي انتهت بها حملة المحيط الهادئ بالمصير الاستشهادي الذي أنزل باليابان عن طريق الجريمة البشعة بضرب القنبلتين الذريتين على هذا البلد نادت الضمير الإنساني حول أهداف الإستراتيجية الأمريكية. ويشير أندريه كاسبي كم أن عدداً من الأمور بالنسبة لموقف الولايات المتحدة تجاه اليابان تضيء الغموض حول ما قامت به فكتب يقول:« لماذا لم يحاول الأمريكيون استخدام القصف بالسلاح التقليدي قبل أن يقرّروا التدمير الذري لهيروشيما وناكازاكي؟ ولماذا لم يصغ المسؤولون السياسيون للخبراء الذين أكدوا بأن اليابان سوف يوقع على استسلامه قبل نهاية عام 1945 حتى لو لم تستعمل القنبلة وحتى لو لم يدخل الاتحاد السوفيتي الحرب وحتى لو لم يتم الإنزال في الأرخبيل الياباني؟ ولماذا ضربت ناكازاكي بعد هيروشيما إن كان يكفي فقط إقناع اليابانيين بعواقب القنبلة؟ ولِمَ اتخذت الولايات المتحدة موقفاً متعنتاً تجاه طوكيو { ... ... ..} منذ نجاح التجربة الذرية الأولى في الأموغوردو؟ ولماذا عند نهاية تموز لم تعد تقبل أي مساعدة سوفيتية؟!!».
إن امتلاك القنبلة الذرية شكّل الورقة الرابحة الحاسمة لصالح الولايات المتحدة، فبواسطة هذه القوة التدميرية التي عرضت للجميع استطاعت تأكيد تفوقها العسكري، كما وفرت لها أيضاً تفوقاً علمياً قادراً على أن يتحول إلى تقدم تكنولوجي حاسم مما يؤمن ايجاد سلاحاً اقتصادياً رئيسياً، لقد أدت عملية ضرب اليابان بالقنابل الذرية مهمة مضاعفة فقد فرضت على كل منافس محتمل شبح التدمير الشامل وخلقت لدى الأوروبيين فكرة التهديد والمظلة الأمريكية هي القادرة فقط على حمايتهم ففي هذا الإطار المحدد إذن فرضت الحرب الباردة نفسها.(1/123)
الرئيس ترومان هو الذي أطلقها، لقد كان شخصاً جذاباً في بعض النواحي ولكنه كان أيضاً نتاجاً صافياً للإيديولوجية الأمريكية. كان ترومان كثير الإيمان ينتمي لعائلة كالفانية (بروتستانية متزمتة وقد أصبحت بعد ذلك معمدانية) تدرج أولاً في أعمال المصارف (إذن دائماً المال مع الدين هما ثدي السلطة في الولايات المتحدة)واجتاز بنجاح الاختبار السياسي وأصبح في 12 نيسان 1945 الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة. وما اتفق على تسميته بنظرية ترومان ما هو إلا استئناف وتحديث نظرية مونرو وخاصة عندما يؤكد ترومان بأن «على سياستنا أن تؤيد الشعوب الحرة التي تقاوم الخنوع الذي فرضته الأقليات المسلحة أو بواسطة الضغوط الخارجية».
لقد قبل ترومان في مذكراته بكثير من اللباقة أو من الصراحة أن يعترف بأن الولايات المتحدة هي بحاجة للإشراف على عدد كبير من مناطق العالم فقد قال:«لكي نحافظ على التوازن في اقتصادنا ونسمح له أن يتطور أيضاً علينا أن نشجع تطور البقية (أي الآخرين)». كان إيجاد المنافذ يختفي دائماً خلف مبدأ فورد الذي يدعو للسماح لأكبر عدد الدخول إلى عالم الاستهلاك من أجل دورة الآلة الاقتصادية، إلا أنه يجب علينا أن نفهم ماذا يعني تعبير «أن نشجع الباقي» لدى الرئيس الأمريكي إن هذا يعني بأن الدول الأخرى توسع السوق الأمريكي بأن يكون امتداداً لها. فإذا تبنت الدول الأخرى بنى مشابهة لبنى نظام الولايات المتحدة الليبرالي – التبادلي ستشعر بالضرورة بالحاجة إلى استيراد المنتجات الأمريكية.(1/124)
ولكن لدى الدول الأخرى أيضاً مواد أولية، بهذا الصدد يتابع ترومان فيقول:«سيأتي وقت علينا أن نحصل فيه من خارج الولايات المتحدة على عدد من الأشياء التي نحن بحاجة إليها. علينا أن نذهب إلى لابردور وإلى ليبريا لكي نبحث على المعادن الضرورية لمنتجاتنا الفولاذية ومن الخارج يلزمنا أن نجلب النحاس الذي لدينا منه في الأريزونا وفي أوتاوا ولكننا لا يمكن أن نستغني عن نحاس تشيلي. هناك أيضاً القصدير في بوليفيا وماليزيا والمطاط في إندونيسيا وأستطيع طبعاً أن أكمل فالقائمة طويلة كما نحن بحاجة لتأمينه من باقي دول العالم». الدول المشار إليها هي بالطبع تحكمها الأقليات أو حكومات تابعة مباشرة لواشنطن حيث تتواجد الشركات الأمريكية بشكل قوي وحيث أن الرأسمال الأمريكي يشرف بطريقة ضمنية على الاقتصاد الوطني. ففي الدائرة الثانية مثلاً لم تحاول الولايات المتحدة اتخاذ أي مخاطرة لأنه ليس من الوارد أن يفقد السلطة أولئك المدعومين من الولايات المتحدة طالما أنهم يخدمون المصالح الأمريكية. ففي تشيلي خدم الرأسمال الأمريكي الشمالي الذي أثمر في مناجم النحاس والنترات منذ فجر الحرب العالمية الأولى المصالح الأمريكية وأزاح كل العقبات أمامها. في عام 1925 عمل الجيش على إقامة النظام الجمهوري المناصر للولايات المتحدة ووضع الجيش حداً لمحاولات إعادة امتلاك الثروات القومية التي قامت بها حكومات الجبهة الشعبية وبعد ذلك حكومات اليسار الوسط ما بين أعوام 1938-1952 وقام أيضاً بقتل سيلفادور الليندي في عام 1973. وفي كل مرة كانت المساعدات العسكرية الأمريكية موجودة بشكل خفي ولكن فعال.(1/125)
يؤكد ترومان «بأننا مضطرون عملياً أن نهتم بالشعوب الأخرى وأن نكافئهم بشكل مناسب وذلك من أجل السلع التي هي ضرورية بالنسبة لنا، للمحافظة على متابعة برنامجنا الإنتاجي» إنها الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك وليس هناك طريقة غيرها فنحن لا نستطيع أن نتطور إلا إذا تطور العالم.
أيَّاً كان تقييمنا لتحليل ترومان فأنه يشكل اعترافاً مهماً، فمن أجل ضمان «تعاون» الدول التي تنوي الولايات المتحدة استغلال موادها الأولية فلمصلحة هذه الأخيرة أن «تكافأ بشكل مناسب» النخبة المحلية التي هي كما في أمريكا اللاتينية لا تتشكل إلا من ممثلي البرجوازية في السلطة منذ بداية نيل هذه الدول استقلالها النسبي. إلا أن الاعتراف قد تم التعبير عنه بشكل صريح في خطاب ذو طابع رسولي الذي تبرر عن طريقه أمريكا مسبقاً ما تفعله وتحتمي به.يؤكد ترومان أن «أمتنا قد قامت بفضل رجال أمنوا بالله» وكما كان يدعي جورج واشنطن «لم يوجد أي شعب سوى شعب الولايات المتحدة اعترف وعبد اليد غير المرئية والتي تدير قضايا البشرية». من هنا تأتي فكرة أن أمريكا هي الوريثة والغاية لما حققته البشرية إلى اليوم. «يبدو لي أن جمهوريتنا تشكل مجموعة تجارب الجمهورية الرومانية والمفهوم اليوناني لحرية التعبير والمساهمة البريطانية التي قامت تحت شكل الإعلان عن الحقوق». وبما أن الولايات المتحدة هي اليوم إناء هذا الميراث عليها إذن أن تقدم للعالم مساهمتها. «وسنقدمها بالمساعدة في الكفاح من أجل السلام وبتطوير كل موارد العالم بشكل مناسب من أجل أن يملك الناس في كل مكان شيئاً أهم من التقاتل فيما بينهم».(1/126)
هنا تظهر إذن الإيديولوجية الأمريكية دون قناع، فهي تؤكد بأننا غاية تيه القرون ونجاحاتها أيضاً، لقد سمح الله تعالى لنا أن نبني دولتنا من أجل أن نعطي للعالم وبالقوة الأعمال وكل وسيلة أخرى ونحمل له الرسالة. هذه الرسالة هي أن على العالم أن يتطور حسب معاييرنا لأنها معاير مباركة من القدرة الإلهية سنساعد عملياً في القتال من أجل السلام ولكنه سيكون السلام الأمريكي Pax Americana سنطور موارد العالم ولكن سيكون ذلك لمصلحتنا ولمصلحة النخبة التي تفكر مثلنا والتي تدعمنا. ويتابع ترومان فيقول:«يفكر الروس اليوم بحماقة بأننا إمبرياليون»، ونحن نجيب بأن «هذا هو عكس الحقيقة. إنهم هم الإمبرياليون وليس نحن، إننا لا نرغب بأي أراضي جديدة، نحن لا نريد أن نستعبد أي شعب، إننا ننوي أن نساعد كل الشعوب الأخرى لأننا عندما نساعدهم نساعد بذلك أنفسنا».(1/127)
إن عملية أن نلصق بالآخر الأخطاء التي نتهمهم بها تبدو إذن حرباً موفقةً، فإن كان صحيحاً بأن هيمنة الولايات المتحدة لا تحتاج بالضرورة لاحتلال أراضي هذا يعود لما أكدناه سابقاً أي بسبب البعد المرن لمفهوم الحدود التي هي أولاً ذهنية وغامضة أكثر من كونها محسوسة. فما أنجزته الولايات المتحدة في أول دائرتين يجعلها قادرة على أن تعيده في كل أنحاء المعمورة، أما فيما يتعلق بمساعدة الآخرين وكأننا نساعد أنفسنا عن طريق السماح للدول الأخرى أو على الأقل للبرجوازية المسيطرة أن تصبح غنية فهذه الدول ستدفع الثمن عاجلاً أم أجلاً. وعندما يؤكد ترومان «بأننا سنطور قوتنا ليس من أجل مهاجمتهم (السوفيتيون) بل لتثبيط همتهم بالهجوم علينا وعلى العالم الحر». فهو يستخدم مفردات مناسبة – «العالم الحر»- لوصف النظام الذي أقامته الولايات المتحدة والتي تنوي أن تجني المصلحة منه وأن تسيره حسب إرادتها. وبما أن أمم «العالم الحر» اقتنعت بالدعاية - «الطمع الشيوعي الدولي» وبالخطر الذي تمثله الإمبريالية الأخرى فما كان على هذه الأمم إلا أن تمنحها نفسها، واستخدمت الحرب الباردة لترجمة هذا التهديد.
لنذكر بإيجاز المراحل التي أدت إلى نشوب الحرب الباردة، في 12 آذار 1947 صرح ترومان في خطاب أمام الكونجرس بأن الحكومة اليونانية التي تواجه خطر نشوب حرب أهلية تقدمت بطلب إلى الحكومة الأمريكية من أجل أن تمنحها مساعدة اقتصادية ومالية. قبل كل شيء كانت الحرب الأهلية بقيادة الشيوعيين اليونان تخدم (كما قال) المشاريع السوفيتية حيث سنحت لها الفرصة كي تحاول أن تدفع ببيادقها نحو مناطق السواحل والشرق الأوسط، وتركيا بالمناسبة كانت كاليونان مهددة، هذا الواقع استدعى المسؤولية الكونية للولايات المتحدة والحكومة الأمريكية لا تستطيع أن تسمح لنفسها أَلاَّ تقوم بالدور الذي آل إليها.(1/128)
ماذا كان عليه الوضع في اليونان وتركيا في الحقيقة بداية 1947؟ هل كان الاتحاد السوفيتي يهدد مباشرة أو بواسطة حكومة شيوعية اليونان؟ وبعبارة أخرى هل كان ترومان جاداً عندما طالب باتخاذ إجراءات سريعة من أجل مساعدة الحكومات اليونانية والتركية المحافظة لدفع الخطر الشيوعي؟
في اليونان كانت معظم الأوساط المثقفة ماركسية ولكن ليس أكثر مما في فرنسا أوفي إيطاليا في تلك الحقبة. إن انقسام السياسة العالمية إلى قطبين متنافرين كان وراءه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وكلا الإمبرياليتين كانتا بحاجة لكي تثبت نفسها في المكان الذي تسمح بناه أن تبرر نسبياً الخطر الكامن المتمثل بالآخر، إلا أن السوفييت بعد أن حققوا بعض الأهداف حسب رغبتهم في يوغسلافيا وألبانيا وبلغاريا ورومانيا وهنغاريا وبولونيا ووضعت ألمانيا خارج حالة الإزعاج، شعروا بأنهم في وضع تائه بشكل أو آخر أثر المنحى الذي اتخذته بعض الأحداث فقد كانوا ينتظرون إلى أن تتعاون كل حكومات المعسكر الشيوعي معهم، وفوجئوا بمشاعر القوميين والاستقلاليين لدى البعض (يوغسلافيا – تشيكوسلوفاكيا) فلم يصروا على اتخاذ أي أجراء في محاولتهم لإقامة أنظمة مرتبطة بهم خارج منطقة نفوذهم. بالنسبة لليونان ولتركيا لم يظهر السوفيت أبداً أي نية بضمهم أو بالتدخل بشكل أو بأخر لقلب الوضع فيهما لصالح المتمردين الشيوعيين. وكما وصف ذلك نيقولاس ريازانوفسكي بأنه لا يجب الاعتقاد «بأن كل المبادرات التي اتخذها الاتحاد السوفيتي كانت مناورات محبوكة بحنكة وجزء من خطة ميكيافلية قررت مسبقاً».(1/129)
كانت تركيا وخاصة اليونان تحتلان بنظر الأمريكيين موقعاً حاسماً بين الشرق والغرب. كان الخطر إذاً كبيراً إذا تم استخدامهما كحلقة وصل بين جزئي أوروبا مما يولد تقارباً قد يسهل على المدى الطويل قيام كيان أوروبي من الأطلسي إلى الأورال كما كان يتصوره الجنرال ديغول. كان الوضع يتعلق من جهة أخرى بالنسبة للولايات المتحدة بأن تحتاط من أي عبور للاتحاد السوفيتي عبر اليونان وتركيا إلى الشرق الأوسط. هنا يبرز سؤال آخر: لماذا كانت الولايات المتحدة تتمسك بقوة بالدفاع عن تفوقها في هذه المنطقة ؟(1/130)
عندما أدان الأمريكيون الإمبريالية السوفيتية في العالم وخاصة في الشرق الأوسط بمساعدة أصدقائهم – نذكر هنا بخطاب فولتون عندما حذر بصخب تشرشل في آذار 1946 من الخطر الذي يمثله التوسع الشيوعي على الأنظمة الديموقراطية – برر الأمريكيون مسبقاً كل مناوراتهم وتدخلاتهم والتدخلات المستقبلية ذلك لأن الشرق الأوسط بالنسبة لهم يغطي الرهان الأساسي المتعلق بالبترول. فقد ضاعفت العربية السعودية والكويت والإمارات المتحدة إنتاجها من البترول فتجاوز المئة ضعف. وهذا البترول رخيص فأصبحت الولايات المتحدة منذ عام 1948 دولة مستوردة أكثر من كونها مصدرة لهذا السائل النفيس. وانغرست شركاتها النفطية في كل أنحاء الشرق الأوسط وشكلت رؤوس أموالها موارد للمداخيل المرتفعة. أوروبا هي بحاجة لهذا البترول لأن 25% من حاجاتها يتم تغطيته من الشرق الأوسط. وعن طريق سيطرتها على منابع التموين النفطية أمسكت ستندر أويل Standard Oil وسكوني Socony بمقبض السكين بقوة. حول هذا يقول أندريه كاسبي:«بدون شك استفادت الشركات الكبرى من دعم وزارة الخارجية الأمريكية ويمكننا أن نورد عدة تصريحات تؤكد على دعم الدبلوماسية الأمريكية للتوسع المالي». إن التفكير بأن الاتحاد السوفيتي قد يجني القليل من سلة النفط ومن الميزات الاستراتيجية المرتبطة به كان يكفي لاستنفار كل الطاقة الحيوية لدى وزارة الخارجية الأمريكية. كتب مساعد وزير الخارجية يقول:«على الولايات المتحدة أن تضمن قيادة العالم وبسرعة» لأنه من الضروري المحافظة على السيطرة الأمريكية على اليونان وتركيا ومن خلالهما على منطقة الشرق الأوسط وبتروله.(1/131)
كما نعلم استمرت الحرب الباردة حتى بداية التسعينات، فأتاحت للسوفيتي وللأمريكيين كثيراً من التجاوزات والصدمات المؤسفة والخيانات. وعن طريق استخدام التهديد السوفيتي والشيوعي كحجة مرعبة وافقت الدول الأوروبية (ما عدا فرنسا الديغولية) على كل مخططات الحكومة الأمريكية وعلى توقيع كل الاتفاقات التي عرضت عليهم والتي حاكت بيت العنكبوت السياسي والاقتصادي والنقدي والاستراتيجي والدبلوماسي شيئاً فشيئاً فأوقعت واشنطن وبشكل هادئ «العالم الحر الأوروبي» بشركها.
الانتشار العنكبوتي:
عند نهاية الأربعينات قام عدد من المؤسسات المتعددة الجنسية بموافقة النخب الوطنية في أوروبا والعالم وشكلت شبكة من النسيج العنكبوتي المهيمن والتي أمسكت الولايات المتحدة بخيوطه، هذه المؤسسات هي: النظام النقدي الدولي بمنظماته الاثنتين: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي (1944)، والأمم المتحدة، والغات GATT، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE
(1948)، والحلف الأطلسي NATO(ناتو) عام 1949 والجميع تحت سيطرة واشنطن.
ولكي نفهم كيف تعمل الآلية الاستبدادية الأمريكية من الأنسب أن نتفحص خطوة خطوة وباختصار كل من هذه المؤسسات والطريقة المستخدمة لأسر الدول الأعضاء أو بعض الدول المجبرة على اللجوء إليها. سنرى كيف كانت تترك للولايات المتحدة الملعب حراً لكي تطلق كل عملية عسكرية تراها من مصلحتها أن تقوم. هذا ما حصل في كوريا وفيتنام وأخيراً – القائمة تطول – في حرب الخليج والصومال ويوغسلافيا.
نظام النقد الدولي:(1/132)
منذ الولاية الرئاسية لجورج واشنطن كان الأمريكيون قد فهموا بأن بديهيات الليبرالية الكلاسيكية (سميث، ريكاردو) التي تنادي بالتبادل الحر دون أي حدود كانت بطبيعتها تسهّل تحقيق أهدافهم التوسعية. عندما نصح واشنطن في خطابه لحلفائه بأن يمتنعوا عن التحالف السياسي مع أي كان وأن يعطوا الأفضلية لتطوير علاقاتهم الاقتصادية مع باقي العالم كان آنذاك يعلن عن أحد المبادئ الأساسية لديه وربما شكلت في حينها نواة الإمبريالية الأمريكية.
منذ ذلك الوقت ما أنفكت الولايات المتحدة عن عقد الاتفاقات لصالحها في كل مكان فارضة على شركائها أن يحترموا بنودها ولكنها أعفت نفسها من ذلك في كل مرة كانت مصالحها تملي ذلك. لقد أجبرت الأوروبيين على تبني مفهوم منفتح من أجل التبادلات الاقتصادية ودفعوهم لرفع الحواجز الجمركية أما هي وضعت فقط بالمقابل تشريعات للحماية الاقتصادية مبالغ بها بهدف واحد وهو استيعاب الواردات وتطوير صادراتها واستثماراتها. وباعتبار أنها تعلمت بشكل جيد من درس «ميلون» الذي كان يرى أن المستفيد الوحيد الحقيقي من نظام التبادل الحر هو البلد الذي يصدر أكثر ويستورد أقل لذلك لم تتوقف يوماً عن توسيع مدى نشاطها التجاري وعن الاستئثار التكنولوجي الخارجي وعن جني ثمار الاكتشافات التكنولوجية وعن نشر استغلالها وعن عمليات إشباع الأسواق فقادت شيئاً فشيئاً الاقتصاد العالمي إلى سباق جهنمي الذي كان يجذب الربح بشكل دائم نحوها بحركته الحلزونية(1). في أقل من شهر جعلت الولايات المتحدة من النظام النقدي العالمي بفضل الدولار والمؤسسات التي أوجدتها الحرب العالمية الثانية سلاحاً يمتلك فعالية لم تكن معروفة من قبل.
__________
(1) التجسس الصناعي والحصول على الإجازات الأجنبية كانا وسيلتي تفوق أمريكا.(1/133)
كانت التجارة الدولية تجري بواسطة تبادل السندات بين المشاريع والباعة عن طريق المصارف خلال القرن العشرين، فتطورت المبادلات النقدية المستقلة التي كانت تسمح للمصارف بالمضاربة بفوارق سوق الصرف. وشيئاً فشيئاً تخلى النظام ثنائي المعادن الثمينة – الذهب والفضة- الذي قام عام 1792 عن مكانه إلى نظام المعدن الثمين الواحد (الذهب) وكان الذهب يؤمن عام 1913ما نسبته 71% من سوق التبادل النقدي وبتحريض من الولايات المتحدة أصبح الذهب معياراً عام 1900 وأرتبط بالدولار. وكما رأينا دفعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) هذا البلد إلى الواجهة الاقتصادية العالمية وأتاحت لها الإمكانية لفرض الشروط الموجودة في المعاهدات غداة انتهاء الصراع، هذه الشروط كانت مسؤولة بشكل كبير عن التوتر الذي قاد إلى الحرب العالمية الثانية. حول هذا يؤكد أوتو ده هبسبورغ بأن «الخطة المتعددة النقاط للرئيس ويلسون التي وعدت بالحكم الذاتي للقوميات كانت نموذجاً للتناقضات، لأنه في الحقيقة من دون أخذ رأي الشعوب عملنا على خلق دولتين مصطنعتين من جهة تشكوسلوفاكيا ومن جهة أخرى في يوغسلافيا أو ما كان يدعى آنذاك بمملكة الصرب والكروات والسلوفان». طلقة الرحمة وجهتها أوروبا إلى نفسها بالحرب العالمية الثانية متيحة للولايات المتحدة أن تفرض في مؤتمر بريتون وودز نظام نقدي عالمي جعل منها سيدة اللعبة الاقتصادية والمالية والدولية.ولاستخراج الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من قبل الولايات المتحدة جهزت هذه الأخيرة النظام الجديد بمؤسستين ذات رهبة خاصة.
صندوق النقد الدولي:
إضافة إلى كونه مدعو إلى تأمين التضامن الدولي في مجال النقد والانصياع أيضاً للنظام المشترك فمهمة صندوق النقد الدولي الأساسية هي ضمان «آلية تحويل النقد واستقرار أسعار الصرف وتوزيع المساعدات بالعملة النقدية» إلى مختلف الدول الأعضاء.(1/134)
هيكلية الصندوق بحد ذاتها هي مفسدة لأنها تقيم الهيمنة الأمريكية بشكل لا عودة عنها. تضم المنظمة حالياً 140 عضواً وكل دولة تدفع حسب حصص معينة مبلغاً يتناسب مع حصتها في التجارة الدولية. الولايات المتحدة التي تمتلك 23% من الأصوات تتمتع بحق الفيتو وبالأكثرية، مما يؤمن لها عدم التصويت إلا على ما تريد قبوله، هذا يعني أنه لا يستطيع أي مشروع أن يصل إلى مبتغاه إن لم يخدم بشكل أو آخر أهدافها السياسية والاقتصادية. ومع ارتفاع الحاجة إلى السيولة النقدية ارتفعت الحصص المتوجب تسديدها للصندوق بشكل منتظم إلا أن المساعدات النقدية لم توزع إلا إذا استجابت الدول الطالبة إلى برنامج إصلاحات ليبرالية صارمة مهما تكن نتائجها الاجتماعية. ولإيجاد حل وسط بين المفهومين : الفرنسي الذي كان يطلب أداة جديدة للدين، والأمريكي الذي كان إلى جانب عملة حقيقية، أي عملة الولايات المتحدة، تم إنشاء عام 1969 ما يسمى بحقوق السحب الخاص D.T.S. والذي يمتاز بتعريف مبهم حيث ظهرت فيه مرة أخرى مغالاة الأمريكيين. فهو يغطي حق اكتساب وسيلة الدفع أي إمكانية تبادل حقوق السحب الخاصة مقابل العملات الصعبة التي يمكنها بعد ذلك أن تكون وسيلة للدفع. بالأساس الدولة الطالبة عليها أن تحتفظ بالشكل الأساسي بأقل من ثلث الحقوق التي حصلت عليها.(1/135)
وباعتبار أن الولايات المتحدة كان همها الحفاظ على الإشراف على ما هو أساسي في حقوق السحب الخاصة فقد عملت في البداية على تثبيت قيمة الحقوق بالنسبة للذهب (حيث تملك الاحتياطي الأول في العالم) وبعد ذلك عام 1971 بالنسبة للدولار. في عام 1974 حددت قيمة الحقوق إنطلاقاً من سلة النقود حيث يحافظ الدولار فيها على مكانة مرموقة: 42.3% مقابل 28.4% للمارك الألماني و13.3% للين الياباني على التوالي و13.3 للجنيه البريطاني و12.7% للفرنك الفرنسي. وتعاظم الدولار الآلي إلى حقوق السحب الخاصة عام 1978 حيث أنها أصبحت قابلة للاستعمال بشكل مباشر من قبل البنوك المركزية كوسيلة دفع. وبقي الدولار رغم كل شيء الأداة الأكثر استعمالاً (أكثر بست مرات). فيما بعد تم تقديم اقتراح بخلق حساب استعاضي يسمح بزيادة أهمية حقوق السحب الخاصة D.T.S. على حساب الدولار إلا أن الولايات المتحدة رفضته بعنف.
البنك الدولي:(1/136)
في الأصل كان يعرف باسم البنك العالمي لإعادة الاعمار والنمو (B.I.R.D) وقد أنشئ هو الآخر بواسطة اتفاقات بريتون وودز، السبب الأول في إنشاء البنك الدولي هو المساعدة على إعادة بناء الدول الأعضاء وتشجيع نموها الاقتصادي. يندرج نشاطه إذاً في أفق أبعد مدى من نشاط صندوق النقد الدولي. إلا أن دوره في الواقع هو ذات الدور أي العمل بصبر ولكن بتصميم على ضمان الانتقال من الاقتصاد الوطني إلى الاقتصاد العالمي لسوق التبادل الحر الواقع تحت هيمنة واشنطن. وكما الحال بالنسبة لصندوق النقد الدولي فالرأسمال الذي تسدده الدول الأعضاء يتناسب مع الوزن الاقتصادي وعدد الأصوات الذي تتمتع به، إذاً الولايات المتحدة تمسك منطقياً بالأغلبية، أما القروض فكانت تعطى حسب المردودية المالية للمشاريع تحت سلطة التمويل وكذلك ضمن نظامها الاقتصادي الصارم. ومن أجل جعل عمل البنك الدولي أكثر مرونة ثم إنشاء الجمعية الدولية للتنمية والشركة المالية الدولية عام 1960. هذه التسميات كانت تخفي وراءها ضبابية كثيفة الغموض من المقرضين الذين كانوا يصنعون القوانين في الدول التي تقدم لها الأموال في منأى من كل إشراف ديموقراطي.(1/137)
وعمل كل من صندوق النقد الدولي F.M.I والبنك الدولي B.M على الصعيد الاقتصادي على وضع الأساس الأيديولوجي الثنائي القطب الذي يخفي وراءه الفلسفة السياسية الأمريكية. فمهمة الولايات المتحدة هي بسط الديمقراطية الليبرالية في أرجاء المعمورة، وأن تتربع على رأسها، لذا كان يتوجب على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إخضاع الأمم للنموذج الاقتصادي والسياسي الأمريكي. فالمقومتان الأساسيتان اللتان شكلتا الأيديولوجية الأمريكية أي الدين والاقتصاد وجدتا في أرثوذكسية هاتين المؤسستين. إن المدينة الفاضلة تحت لواء الولايات المتحدة سوف تكون التطبيق المادي للوصول إلى السيطرة على كل الكون لبرجوازية التجارة العالمية ذات الميل الليبرالي والتي وضعت مصيرها في يد الجمهورية الأمريكية وفي الوقت ذاته هذه المدينة ستكون الدليل المادي على اكتمال الإرادة الإلهية التي أوكلت لهذه الجمهورية وعن طريق إزالة الآخرين مهمة إقامة الدولة الوحيدة الناتجة عن ترتيب إرادة الله.
العقيدة الذرائعية «الدوغماتية» والأرثوذكسية:(1/138)
يظهر المفهوم الأيديولوجي لعمل صندوق النقد الدولي F.M.I والبنك الدولي B.M ونظام النقد العالمي برمته عبر ذرائعية الأنظمة العقائدية الليبرالية التي يستوحى منها عمله، والذي يترجم بشكل خارج كل الشروط بتحويل المبررات الكاملة إلى سلسلة من التأكيدات الأحادية المعنى دون برهان وبشكل مطلق وقابلة للتطبيق الدولي أما غايته فتكمن في شكل من التبادل الحر بوصفه نظام لا يمكن الالتفاف عليه. فإن الشروط الضرورية لإنجاز الآثار المرتقبة من قبل نظرية التبادل الدولي لا يمكن أن نجدها في الواقع ولكنها تعود أكثر إلى الواقع التجريبي في المختبر أكثر من كونها موجودة في تطبيقات محسوسة. هذه الظاهرة إذاً هي مجهولة. أبداً لم يتم إنجاز الواقع حيث كان من المفروض أن يسير كل شيء في التجارة الدولية دون عقبات، بل إن هذا الواقع لم يدخل حيز الممكن لأنه وإن كان صحيحاً أن الدول الأوروبية تحاول أن تخضع لمتطلبات المعاهدات التجارية إلا أن دولاً كاليابان وكوريا أو الولايات المتحدة مثلاً تستمر بممارسة سياسة وقائية خفيَّة بشكل أو آخر وتطالب الآخرين بالشفافية. إن ذرائعية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تظهران جلياً في نموذجين من التصرف يكشف عنهما بشكل فاضح الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد موريس ألّيه Maurice Allais.(1/139)
أولاً يبدو هذا في عدم واقعية النماذج المقترحة كقواعد لكل أنظمة الاقتصاد الوطنية إذ تشكل المصورات والمعادلات الرياضية المفترض أن تضمن المتانة العلمية للطرح في الحقيقة متانة وهمية التي لا يمكننا عند مناقشتها إلا أن نستنتج عدم جدارتها. وتظهر الذرائعية ثانياً في تناقضات المنهج وعرضه وتلغي الاستنتاجات والنتائج التي أعدت بواسطة التحليلات المختلفة غالباً نفسها أو تتناقض. إن إرادة تعميم النموذج الليبرالي على العالم كله يقود إلى شكل من أشكال الاختصار والتبسيط والى قبول إرشادات قائمة على استنتاجات نظرية صرفه أو مصطنعة. وكما يشير برنار ماريس فإن اللغة التي تستخدمها هاتان المؤسستان الكبيرتان تنتمي إلى لغة مبهمة والى لغة ذات رنين علمي هدفه الحصول على الاعتراف بمراسيمهم وإعطائها السلطة التي تعطى تقليدياً إلى اللغة التكنولوجية العلمية. فالوسيلة الأيديولوجية التي عالجت هذه المسائل لم تكن مختلفة في العمق عن الأسلوب الذي يميز الماركسية بالنتيجة. فالمطلق الذي هو الخطة والذي يجب أن تكون كل المتوقعات متطابقة معها له أثره في السوق الذي هو المنقذ الإلهي لكل نظام ليبرالي والذي يجب أن يخضع لمتطلباته الجميع. هذا الخضوع لقوانين السوق قادر على جعل جهاز المؤسستين والمتعاونين معها بطرح الفرضيات المرعبة. لهذا كان البنك الدولي في تقريره عام 1991 قدمه لورانس سومرز الاقتصادي الأمريكي الذي اصبح فيما بعد عضواً في إدارة الرئيس كلينتون وهو خريج هارفرد قد تمنى تغير أمكنة المصانع التي تسبب التلوث من الشمال باتجاه بلاد الجنوب ذات التلوث الأقل بسبب مساحة أراضيها وقلة كثافة سكانها. من بين مبررات سومرز أن السرطانات التي يسببها التلوث نتيجة المخلفات السامة الصناعية لن يكون لها إلا تأثيرٌ خفيفٌ لأن الأمل في الحياة لسكان العالم الثالث هو أقصر من المعدل الموجود في بلدنا.(1/140)
لن يكون باستطاعتنا فهم ليبرالية التبادل الحر دون التعامل معه كظاهرة إيمانية صافية غير قابلة للنقاش من قبل أنصاره النتيجة التي يعطيها لأنه مثلاً حسب بيتر مرتان رئيس تحرير الطبعة الدولية للفاينانشال تايمز ينتج رابحين أكثر من الخاسرين. لذا يعمل على نمو اللامساواة في كل مكان وحسب تقرير صدر مؤخراً عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن عدد الدول الفقيرة في تزايد. وفيما يخص الأجراء الذين لا تتوقف أجورهم عن الانخفاض رغم أنهم يعملون أكثر فأكثر فقد اخترع علماء الاجتماع لهم تسمية «العاملين الفقراء». في مقال آخر تحت عنوان الليبرالية تشجع الديمقراطية تبرهن التجربة العكس وبأن المسافة بين المراكز الحقيقة للقرار على المستوى الدولي (الاجتماعات التحضيرية للدول السبع الكبرى ولمنظمة التجارة الدولية ولقاءات دايفوس والبنوك المركزية والمجموعات المالية والصناعية الكبرى الوطنية والمتعددة الجنسيات والممولين من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ... إلخ)وأولئك الذين تطالهم هذه القرارات الخفية لم تكن أبداً بهذا الاتساع إلى درجة لم يعد أمام المنتخبين والحكومات إلا مهمة الموافقة على القرارات المتخذة في مكان آخر بعيداً عن المجالس السياسية. أما الأداة الذرائعية الثالثة فهي انعدام القواعد والحواجز والمخاوف السياسية والاجتماعية لصالح التبادل. وحدها هي الدول التي تخلصت من تلك العقبات تستطيع أن تزدهر بشكل حقيقي. في الواقع لم تستطع كوريا الجنوبية وتايوان والصين وسنغافورة بناء قوتها الاقتصادية إلا بفضل نظام حماية لم تتأخر الولايات المتحدة واليابان، أيضاً من الاعتماد عليه.(1/141)
وبالاعتماد على قانون كهذا يهدف التأثير المعمق لصندوق النقد الدولي وللبنك الدولي إلى بسط وفرض نموذجه الاقتصادي الوحيد الذي تستخدمه الولايات المتحدة على كل العالم بذكاء. وكما يذكر «آلان كوته» فإن تفكك الاتحاد السوفيتي ودخول الصين بإرادتها في السوق الدولية سمحتا لهذا النموذج أن يصبح نموذجاً لا يمكن التراجع عنه فعلياً. وعلى المدى البعيد الهدف هو إذاً توحيد العالم وتخليصه من كل أثار للثقافة الأصلية المستندة على التاريخ وكذلك العمل على توحيد الأذواق والتقاليد واللباس والمواقف الفكرية وإبدالها بالتصرفات ذات الشكل الأمريكي.
لقد بدأ فعلاً العمل على تفتيت الكيانات القومية وكان دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أساسياً في تكيف العالم الثالث من خلال هدفه بسوقها نحو اقتصاد السوق وبحشرها في قالب التقسيم الدولي للعمل. ولم يثن هاتين المؤسستين عن قناعتهما الفشل المتكرر لسياستها والفساد والعجز الذي ميز نشاطهما الشيء نفسه لدى تنوُّع التنمية التي تتبع لهما والتي تجاوزتها بحجم أعمالها، وإذا كانت المساعدة المالية للقطاع العام محسوبة وخاضعة للتطبيق من قبل المستفيدين بأسلوب صارم فإن المساعدة للقطاع الخاص أخذت تحظى بالأفضلية خلال السنوات المتتابعة. فالربح الذي يشكل المقياس القطعي لكل اقتصاد ليبرالي زال أثره بشكل جلي تاركاً في الظل الهدف الرسمي وهو مساعدة الدول الطالبة لتحسين ظروف حياة أبناء شعبها. لقد بلغت الأرباح المحسومة من قبل الممولين حوالي 150مليار دولار بين 1983-1990 جمعت من دول الجنوب باتجاه الشمال وأضمحل في الوقت ذاته استقلال الجنوب.
آلية السلب، المجرّبة:(1/142)
تتطابق الأساليب المستخدمة بواسطة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بخطوطها العريضة مع الصورة التالية: عندما تعمل دولة في طور النمو لسبب أو آخر على مساعدة من المؤسسات الدولية وتجد نفسها مضطرة لمساعدة مالية يتم إرسال خبراء لها يمثلون المصالح الضبابية للممولين الذين ينحصر همهم الأساسي بجعل التعاون المستقبلي مطابقاً للصرامة الأيديولوجية. ورغم أن المشاريع المعدة تختلف بتفاصيلها حسب بعض العوائق الخاصة إلا أنها تقدم هيكلية عامة مطابقة لشرط القبول. عندها تقوم «مخططات القهر» بفرض عدد من المراحل الضرورية قبل منح القرض:
1-تحرير الأسعار.
2- تخفيض العملة الوطنية.
3- تجميد بل تخفيض الرواتب.
4- قطع في المصروفات العامة من أجل تخفيض العجز الخارجي.
5- خصخصة الشركات العامة الكبرى (مصارف – شركات النقل – المؤسسات الصناعية).
6- فتح الحدود أمام المنافسة الدولية. ...
7- التخصص في عدد محدود في الإنتاج المعد للتصدير.
لهذه المتطلبات نتائج مشابهة في كل مكان، فتحرير الأسعار يؤدي لصعودها جاعلة السلع الأكثر ضرورة صعبة المنال أمام جزء كبير من عامة الشعب وتسمح بإثراء أقلية منه. أما تخفيض العملة بهدف ضرب الصادرات تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة التي غالباً ما تكون ضرورية لحياة البلاد بتأثير بسيط على الصادرات لأن معدلها بالنسبة للمجموع العام يبقى متواضعاً. تجميد أو تخفيض الرواتب يزيد في الإفلاس الناتج عن تحرير الأسعار ويؤدي إلى ارتفاع البؤس وتهميش الطبقات الاجتماعية الدنيا المنهكة أساساً والضعيفة بسبب عدم كفاءتها أو بسبب فساد عدد من الحكومات المحلية.(1/143)
أما النتائج الأكثر كارثية – نحو تنظيم اجتماعي ثنائي القطب- فهي تأتي من تخفيض الموازنة العامة. إذ تقوم الطبقات الميسورة بتعويض العجز المتنامي للنظام (تعليم،صحة،سكن) عن طريق توجهها إلى القطاع الخاص: مدارس ومستشفيات مجهزة بشكل جيد، قصور فاخرة، مخازن ضخمة. معظم فئات الشعب ترى نفسها مجبورة على التأقلم مع ما يقدم لها من مؤسسات عاجزة: أبنية مدرسية تالفة وغير صحية وخدمة طبية سيئة في المستشفيات التي ينقصها كل شيء. كما تصبح مراكز المدن خاوية في حين تكثر الملاجئ البالية بجانب الأماكن العمرانية على هامش التجمعات السكنية.
أما خصخصة شركات القطاع العام الكبرى فإنها تجرد الدول من وسائل السياسة الاقتصادية الحقيقية، يحرم تخصيص البنوك الحكومات من السيطرة على سياستها النقدية. إذاً يحرمها من جزء مهم من سلطة القرار السياسي(1).
__________
(1) في أوروبا إن استقلال البنوك المركزية المقرر في معاهدة ماسترخت ومن ثم المرحلة الحاسمة في عام
2002 – العملة الموحدة- سوف تضع حداً نهائياً لوجود دول القوميات بتذويب الهويات الوطنية في البوتقة الأمريكية الشكل.(1/144)
ويؤمن امتصاص الساحة الصناعية من قبل القطاع الخاص انصياع أرباب العمل وخضوع الحكومات لمصالح الرأسمالية العالمية. أما بالنسبة لخصخصة الشركات الكبرى لإنتاج المواد الأولية (معادن، بترول، منتجات زراعية) فهي تعمل على سقوط المجموعة الكاملة للثروة القومية في جعبة المجموعات الأجنبية حيث المجموعات الأمريكية هي المسيطرة(1). وتسهل إزالة الحدود أمام دخول البضائع تدفق المنتجات اليدوية الكاسدة في الأسواق الأمريكية(2) الداخلية واليابانية والأوروبية إلى الأسواق المحلية حيث لا يمكن لعدد كبير من الناس الحصول عليها. في هذه الأثناء شجعت الإجراءات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بروز فئة من حديثي النعمة تسهل تصريفاً مقبولاً للمنتجات المستوردة.
تؤدي الخصخصة في الاقتصاد المحلي في إطار التقسيم العالمي للعمل إلى وجود تأثيرات فاسدة منها سلب الفلاحين المحليين لصالح المجموعات المُستَغلَّة التي هي بين أيدي الشركات المتعددة الجنسيات الأجنبية ودخول هذه المنتجات المتخصصة في نظام دولي تحت إشراف تمويل دول الشمال التي تجعل منه تابعاً بشكل كامل للقرارات الخارجية دون أي سلطة عليها من الحكومات الوطنية، ومن بين هذه التأثيرات أيضاً ترك الزراعات الغذائية(3).
__________
(1) أصبحت الولايات المتحدة سيدة الموقف في معظم قطاعات الإنتاج في مجالات مختلفة بهذه الطريقة كالموز والزيوت والذرة والقطن ... إلخ ونذكر هنا أن الاتفاق الأخير للغات GATT ذهب حد إعطائها ملكية البذور والحبوب التي كانت إلى هذا الحين ملكاً للفلاحين المحليين الذين ينتجونها وينجحون بتوفير قسم منها من عام إلى آخر.
(2) حيث تتمتع المنتجات بمجموعة من المساعدات الخفية من أجل التصدير.
(3) مما يجبر الحكومات على الاستيراد بأسعار منخفضة المواد التموينية التي يحتاجها الشعب والذي توقف عن إنتاجها.(1/145)
هذا يحملنا على الاستنتاج بأننا أمام سلب أراضي الدول التي وقعت تحت رحمة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبأن ذلك في الوقت نفسه هو انقضاض على القواعد الأيديولوجية ضد كيان الدولة. وزاد عدد هذه المجموعات خلال أقل من عشرين عاماً من 11 ألف مجموعة تشرف على 82 ألف شركة في الخارج عام 1975 إلى 37500 مجموعة تشرف على 207 آلاف شركة في عام 1992. هذه المجموعات تمثل حوالي نصف الأملاك المنتجة في العالم. أما توزعها على المعمورة فقد كان بناء: 80% مركزها الرئيسي كان في دول «الثالوث» (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي اليابان والمنطقة الآسيوية) 50% في الولايات المتحدة وبنسبة أقل في اليابان أو في إنكلترا أو في فرنسا. واحد بالمئة من هذه المجموعات تمتلك 50% من الممتلكات و50% منها تمثل في الخارج النفط والسيارات والكيمياء والمنتجات الصيدلانية.
المكسب الأيديولوجي للولايات المتحدة معبر، ففي حين رأى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في عام 1976 الدول النامية تدين التبادل الحر وتطالب بنظام الحماية، قام الاجتماع التاسع الذي عقد في جوهنسبرغ في حزيران 1996 بتقديم منبر لها حيث عمدت إلى قدح العولمة وانفتاح الأسواق وتحويل الرساميل الخاصة والمتعددة الجنسية. وينظر لهذه الأخيرة اليوم على أنها منبع متميز للأرباح لصالح العالم الثالث، وبين الليبراليتين العالميتين تخلت الليبرالية الأوروبية «الاقتصاد الاجتماعي للسوق» لصالح الليبرالية الأمريكية ومن قبل الأوروبيين أنفسهم وأعطت الليبرالية الأمريكية الأفضلية للاختلال الاقتصادي ولحرية التبادل الكاملة وللخصخصة ولإلغاء القطاع العام ولمرونة سوق العمل. ويبحث المجلس الأوروبي للإسراع بالأمركة رافعاً شعار الأفضلية لانفتاح السوق الأوروبية أولاً أمام الاتصالات والكهرباء.(1/146)
يتفق الخبراء على الاعتقاد بأنه إذا بذلت المنظمة العالمية للتجارة جهداً لإعادة الانسجام إلى الاقتصاد العالمي فإن الدور الرائد الذي تلعبه الولايات المتحدة يحتوي على مخاطر متوقعة فقط لأنه يعود لها القدرة على شل أو إطلاق الآلية الكاملة لهذه المنظمة. إن محاولة الولايات المتحدة بتصدير تشريعاتها (قوانين هلمز بروتون وأماتو) لها طبيعة تدفع للقلق. فالتأثيرات الأساسية لخطط القهر لصندوق النقد الدولي التي تندرج في التوسع في أرجاء المعمورة هي للأيديولوجية الليبرالية على الطريقة الأمريكية. إن الحرب الليبرالية ضد الدولة تقود إلى نزع أسس الدولة وجعلها غير قادرة على فرض إرادتها السياسية الخاصة والمتعلقة بالمصلحة العامة. وهكذا تجعل دورها مشابهاً للشرطي المسؤول عن حفظ النظام في كل الدول إلا في حالة أمريكا اللاتينية هي الأكثر ذهولاً.
مخططات التسوية والاخضاع وأمريكا اللاتينية:
تعد أمريكا الوسطى من بين مناطق العالم التي كانت الأكثر معاناة من قرارات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فلقد عاشت غواتيمالا في حرب أهلية مُقَّنعة رغم المفاوضات الجارية بين الحكومة والاتحاد الثوري الوطني الغواتيمالي، تعطلت هذه المفاوضات بسبب موقف الملاكين الكبار للأراضي Les terratenientes الذين كان من مصلحتهم المحافظة على حالة الفوضى. أعطى انتخاب الفارو أرزو في 9 كانون الثاني 1996 إلى سدة الرئاسة بصيصاً من الأمل للطبقات الشعبية التي أغرقتها الإجراءات الليبرالية المتطرفة في أعماق البؤس والخوف، عاد أقل من 40% من أولئك الذين كانوا في المنفى المكسيكي خلال الثمانينات إلى بلاد نازفة محطمة دون هيكلية. وأبقت الحكومة التي سيطر عليها أرباب العمل على الفوضى المقصودة بواسطة حكم الأقلية التي لا تدفع عملياً أي ضريبة في حين أن 80% من السكان يكسبون راتباً لا يكفي لشراء الضروريات الأولية.(1/147)
في نيكاراغوا وبالرغم من السلام الداخلي الهش كان النمو الاقتصادي سلبياً. الخصخصة الإجبارية للمصارف إضافة لتراجع الدولية شجعت البطالة والعنف الذي كان يثار من قبل المنبوذين. وقد زادت مساوئ مخططات القهر لصندوق النقد الدولي في عام 1994 عند الحصول على قرض جديد الذي أكد خضوع البلد للقواعد الليبرالية وللمولين الأجانب. فتم بذلك تدعيم الفساد لأن جزءاً كبيراً من الأموال كان يختفي في جيوب البرجوازية. تراجعت استثمارات نيكاراغوا البلد الصناعي الهامشي من 22% عام 1984 إلى أقل من 14% عام 1992. وبصفته بلد زراعي بشكل أساسي يرتكز خاصة على زراعة التبغ التي تمثل 50% من الصادرات في حين أن السوق الدولية التي يقع تحت سيطرة الأمريكيين الشماليين لم يكن متحمساً كثيراً للتبغ فانخفضت أسعاره، فكان ثمن القنطار (100كغ) 143 دولار في أول الثمانينيات فأصبح ثمنه 60 دولار تقريباً عام 1993. وقد وافقت البنوك على تقديم قروض بفوائد باهظة مما أدى إلى خنق المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي سبق لها أن عوملت بشكل سيئ من الليبرالية المتوحشة.(1/148)
في الجزء الجنوبي من أمريكا اللاتينية تبدو حالة كولومبيا الأكثر تمثيلاً للنظام الذي أقامته الولايات المتحدة والمؤسسات المالية فيما بعد. يقول البروفيسور الأمريكي نعوم شومسكي إن إدارة الرئيس الأمريكي أعطت عام 1962 لجيوش بلاد الجزء الأسفل من القارة دوراً جديداً. فلم يعد الأمر يتعلق بالنسبة لها بتأمين دفاعها الوطني ضد العدو الخارجي بل أصبح الموضوع يتعلق بالأمن الداخلي. وقد اعترف شارل كيشلنغ المسؤول الأسبق عن برنامج الحرب ضد العصابات أيام رئاسة كيندي وجونسون بأنه لم يعد يكفي منذ ذلك الحين تحمُّل «جشع ووحشية العسكريين في أمريكا اللاتينية» ولكن انتقلنا معهم إلى «شراكه مباشرة». إن الأساليب التي استخدمها العسكريون المدربون من قبل الأمريكيين لم تقل شراسة عن «أساليب فرق التصفية لهنريش هتلر». هذه المقارنة ليست بسبيل المصادفة لأن الولايات المتحدة استقبلت حينها القادة السابقين للنازية الذين ساعدوا في إعداد كراسات التدريب. وقد دأب معاونون في البيت الأبيض أمثال روبرت مكنمارا على تطبيق الأساليب المقترحة من أجل أبعاد «كل من يمكنه أن يهدد الأمن الداخلي» لدول أمريكا اللاتينية. في عام 1981 أعد الاقتصادي إدوارد هرمن من معهد وارطن (جامعة بنسلفانيا) دراسة تحدثت عن علاقة سببية بين الطَّغمة العسكرية وإيجاد «مناخ مناسب للأعمال» يتجلى أوتوماتيكياً بتصاعد القمع والتعذيب والاغتيالات وإرهاب الدولة وانتهاك حقوق الإنسان بأسوأ أشكاله الفاضحة. كولومبيا الحالية هي النتيجة المباشرة لهذا النظام، وباعتبارها موطناً لمنظمات مافيا المخدرات بالتواطؤ النشط مع الصناعة الكيميائية الأمريكية ومع البرجوازية المحلية (المصارف والمصانع التي تجنى منها أرباح ضخمة) ومع العنف والعصابات فهي اليوم من بين الدول حيث حقوق الإنسان الأكثر انعداماً.(1/149)
إلا أنه جرت العادة بشكل عام أن يُذكر هذان البلدان كنموذجين لتطبيق العقيدة الليبرالية المتطرفة، فمن الجدير إذن أن تستحوذا الانتباه بشكل خاص.
في بلد مثل البيرو Pérou العوز الاجتماعي كبير جداً. الرئيس فوجيموري Fujimori الذي انتخب في 28 تموز 1990 تحت شعارات «العمل، التكنولوجيا، الشرف» جذب التعاطف الشعبي وخاصة تعاطف الهنود نتيجة صدى المبادئ التي أعلن عنها «لا تسرق، لا تتقاعس عن العمل، ولا تكذب». طبق فوجيموري بإيعاز من صندوق النقد الدولي خطة ليبرالية متطرفة كانت الأقسى على وجه الأرض وعرفت باسم «صدمة فوجي» Fuji chock، لقد عرف عنه بأنه متسلط وكتوم وعنيد ومبالغ في الذرائعية، مستشاره هو فلاديميرو مونتسينتوس عميل بارز لـ C.I.A (وكالة المخابرات المركزية)وضمانة واشنطن ويبدو أيضاً أنه متورط مع مافيا الكوكائين. إن الدعم الجماهيري الذي تمتع به فوجيموري أثناء انتخابه الأول استمر معه لبعض الوقت، رغم انقلابه الشخصي وضربته للمؤسسات عام 1992. وأدت إجراءاته التي أتخذها من حل البرلمان وتعليق للضمانات الدستورية وانتخابات المجلس التأسيسي الذي ضمن انتصار حزبه إلى إيجاد دستور جديد عام 1993 يسمح بإعادة انتخاب الرئيس والذي أصبح فعلياً عام 1995 بفضل الضغوطات التي مارسها الجيش. وتفسر الحصيلة الاقتصادية الثقة التي مازال يتمتع بها لدى أكثرية ضئيلة من الشعب. التضخم المالي الذي بلغ مداه أيام رئاسة آلان غارسيا (1773530%) هبط إلى 3.2% والنمو الذي دعمه تدفق الرساميل الأجنبية ودخول البلاد في النظام المالي الدولي والتدفق السياحي والنصر النسبي المدعوم من قبل الولايات المتحدة ضد حركات العصيان لم تتمكن من منع قيام الهوة التي باعدت بين النخبة الاقتصادية وباقي فئات الشعب.(1/150)
عام 1992 كان لا يزال في البلاد 15 مليون فقير من أصل عدد السكان البالغ 22 مليون نسمة، وكان هناك تسعة أشخاص من أصل عشرة عاطلين عن العمل، كما كان يوجد 3 ملايين طفل يعملون من أجل كسب الرزق بينهم 200 يموتون كل يوم بسبب سوء التغذية.
تحسن الوضع اليوم رغم أن الأفضلية المطلقة للرئيس هي الأمن فأجل إلى وقت لاحق النضال من أجل القضاء على البؤس، وترتكز السياسة الاقتصادية بشكل أساسي على وفاء الديون (الأموال الضرورية تأتي من مصادر شتى منها تجارة الكوكائين حيث أن البيرو تشكل 60% من الإنتاج العالمي) هذه السياسة هي المسؤولة عن نسبة البطالة المرتفعة (19%) وعن العوز الاجتماعي الكبير. فإذا كانت هذه السياسة التي تطبق المعايير الأساسية للتطرف الليبرالي قد سمحت لـ 15% من الشعب (مدراء المشاريع والأجراء والبرجوازية الكبيرة) جني الثروات إلا أنها جعلت 85% من الشعب في حالة اليأس من بينهم 45% فقراء أو في فقر شديد و20% ليس لديهم الحد الأدنى لأسباب العيش. وقد أثار فوجيموري غضب الجماهير عندما باع مصفاة باميلا فكانت الخطوة الأولى لخصخصة شركة البترول الوطنية بيتروبيرو Petro Peru. ورغم جمع 100 ألف توقيع لإجراء استفتاء حسب بنود الدستور حول هذا البيع فإنه لم يتم تنظيم مثل هذا الاستفتاء لأن الرئيس قد أصدر قانوناً أخضع فيه قرار هذه الموافقة للبرلمان. في أيار 1996 وبسبب نقص في العملة الصعبة الذي يعاني منه القطاع الصناعي قامت الحكومة من جهة أخرى بالتنازل والتوقيع على اتفاق مع شركة شل- موبيل للسماح لها باستغلال بئر الغاز الطبيعي في كامسا.(1/151)
في التشيلي البلد الذي ترى فيه المؤسستان الماليتان الدّوليتان نموذجاً يحتذى به كونه مخبراً لليبرالية في أمريكا الجنوبية بإشراف الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين ساهمت النجاحات بتعميق الهوة بين الأقلية المسيطرة وبين الآخرين. فمنذ قيام الانقلاب العسكري التشيلي المدعوم من الأقلية المحلية ووكالة المخابرات المركزية C.I.A في 11 أيلول 1973 ضد الرئيس الليندي تم تدمير مجالس النقابات. واستبدل تدريجياً القطاع الصناعي-الذي لم يكن موجه نحو التصدير أي لم يكن جزءاً من نظام الحصص الدولي للعمل- بصناعات معتمدة من قبل صندوق النقد الدولي حسب متطلبات واشنطن. أدت الدول إذاً مهمتها فضمنت عن طريق التواجد البوليسي حرية العمل وامتيازات الأغنياء(1) في حين أن القرارات السياسة المُفرغة من بعدها الاجتماعي كانت تتخذ خارج البلاد. كتب فيليب غرينييه الباحث في المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا CNRS يقول: «الإنجاز البارز للتشيلي ذات الليبرالية الجديدة كان دون أي نقاش إقامة مجتمع ذو اتجاهين في بيئة مريضة». كان على البلاد أن تواجه عملياً مشكلة انسجام اجتماعي هش. وبالنظر لمعدل وجود المشاريع المتدني بعد بوليفيا (15%) فإن أكثر من 30% من الشعب يعيش تحت عتبة الفقر حتى لو كان عدد الفقراء في خمس سنوات تراجع من 5 ملايين إلى 4 ملايين.ولم يترافق نجاح النخبة الاقتصادية أبداً مع توزيع عادل للأرباح. وقد تمت التضحية بقطاعات الخدمات العامة التي تشكل الهدف المفضل لصندوق النقد الدولي لصالح زيادة العائدات. لهذا السبب لم يعد القطاع الصحي يكلف أكثر من 1.2% من الناتج المحلي الصافي في الوقت الذي كان يتمتع بـ 3.2% منه أيام الليندي وكانت تحسم النسبة 1.2% من المشتركين في الضمان.
__________
(1) يملك 20% من التشيليين 50% من الدخل القومي ويعيش 30-40% من الشعب في العوز والحاجة الماسة.(1/152)
رغم تبديل نظام الضمان الاجتماعي الذي أسس عام 1952 بنظام آخر عام 1981 وأصبح يعتمد على الاشتراكات الفردية الخاصة، لذا كان هناك نظام طبي له اتجاهان. ففي حين أن 23.7% من الشعب كانوا يتمتعون بالخدمات الطبية الخاصة (كانوا يعتبرون إذاً زبائن لا مرضى) ويتصرفون بـ 230 دولار سنوياً من العلاج للفرد كان هناك 63.4% يكتفون بالقطاع الصحي العام الذي لا ينفق أكثر من 130 دولار فكانت له خدمات طبية بالحدود الدنيا ومتواضعة. في عام 1996حدثت مجابهات في داخل اليمين بسبب قضايا مؤسساتية وضعت الرئيس إدوارد فري Eduardo Frei في موقع صعب. فإن كانت النتائج الاقتصادية تدعو للتفاؤل (5% من البطالة رسمياً – 8.5% نسبة النمو – 8.2% نسبة التضخم – 26.5% من الناتج المحلي الصافي للاستثمارات – 27,9% نسبة الوفر – 7% ارتفاع الإنتاج الوسطي) إلا أن عدم المساواة لم تنخفض نسبته مع سوء للتوزيع لم يسبق له مثيل. ولم تشكل البرامج التي وضعتها الحكومة لمكافحة الفقر المدقع إلا علاجاً آنياً.(1/153)
حقّاً أن دول أمريكا اللاتينية تعمل جاهدةً على حماية نفسها لذلك عقدت خلال السنوات التي مضت سلسلة من المؤتمرات من أجل التوصل إلى اتفاقات اقتصادية. في الأول من كانون الثاني 1995 بدأ العمل بنظام «حركة التكامل الاقتصادي الإقليمي» وهي سوق كبيرة مشتركة لدول أمريكا الجنوبية يضم البرازيل والأرجنتين والأرغواي والبراغوي والأمانة العامة تمركزت في مونتافيدو. أبرمت بوليفيا اتفاق شراكه مع مركسور في كانون الأول 1995 في حين أن تشيلي وقعت اتفاق تبادل تجاري حر معه في حزيران 1995. في كانون الأول 1995 أيضاً أبرم مركسور مع الاتحاد الأوروبي اتفاقاً كان محوره إيجاد منطقة واسعة من التبادل الحر من الآن حتى عام 2005. أما الألسا ALCSA (اتفاق التبادل الحر لأمريكا الجنوبية) هو مشروع اتفاق برازيلي بهدف إيجاد منطقة للتبادل الحر لأمريكا الجنوبية وهي مدعوة لإقامة مفاوضات في وضعية قوية نسبية مع الألنا ALENA (اتفاق التبادل الحر في أمريكا الشمالية). الآفاق لم تكن بهذه النسبة من الانشراح فالاتفاق المزمع مع الألنا لن ينقص انصياع اقتصاديات أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة، ونستطيع أن نشك أن الولايات المتحدة قادرة على جني المكاسب من اتحاد لن تتخلى فيه عن أي شيء يخدم مصالحها. في الواقع أزعج الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي واشنطن وحمل الولايات المتحدة على اللعب بحذق باستخدام سلطتها للتأثير على أمم جنوب القارة. أما بالنسبة للمؤشرات الاقتصادية الشاملة فإن كانت إيجابية في بعض الأحيان إلا أنها لم تتوصل إلى إخفاء الاختلافات التي تغطيه ولا إلى قلب ميزان المؤشرات الاجتماعية التي تدل على ارتفاع في البطالة والعمل الموسمي وتوسع في القطاع غير المتعارف عليه (84% من فرص العمل غير الزراعية تم إيجادها عام 1995).
الاتفاقات الدولية:(1/154)
تندرج الاتفاقات الدولية الموقعة بين الولايات المتحدة والبلدان الأخرى وخاصة مع أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ضمن منطق أمريكي لا يمكن المساس به.«لا للعلاقات السياسية القسرية والملزمة ولكن قبل كل شيء نعم للعلاقات الاقتصادية» هذه كانت إذن نصيحة جورج واشنطن والتي تم التعبير عنها من جديد عند نهاية القرن التاسع عشر بواسطة ماهان وآخرين وهذه النصيحة تعني أنه «علينا خلق علاقات اقتصادية وبهذا الأسلوب نستطيع أن نسيطر على العالم».
لقد بدأت محاولة وضع أوروبا تحت الوصاية عن طريق المبادلات التجارية بعد عام 1945 بواسطة خطة مارشال. وحقق بالشكل الذي استخدم فيه أحلام جان مونيه(1) بإقامة أوروبا الأمريكية كما طمأن الشعوب الأوروبية التي قيل لها بأنها أمام خطر التوسع السوفيتي لن تستطيع أوروبا البقاء على قيد الحياة بدون أمريكا. ويؤكد أوتو ده هبسبورغ المشتبه قليلاً بعدائه للأمركة بأن ستالين حسب المعلومات التي عرفت من الجنرال سيكورسكي حول المخططات المتعلقة بأروربا «لم يكن يريد إلا السيطرة على الجزء الشرقي من بولونيا وهذا ما حصل عليه سابقاً في اتفاقية رينتروب – مولوتوف بما فيها كاربوتو أوكرانيا مما يؤمن له إقامة الجسر في حوض الدانوب إضافة إلى جزء من رومانيا للإشراف على الدانوب. ولم يكن يريد أن يذهب إلى ابعد من ذلك ولم يهتم بروسيا الشرقية وبسليزا وبألمانيا الشرقية» كذلك وبعكس ما كان ترومان يشيع فإن احتلال اليونان وتركيا لم يكن يعنيه أيضاً.
__________
(1) بتنا ندرك اليوم أن جان مونيه كان يكره ديغول وبما أنه كان على اتصال بالوسط الاقتصادي كتاجر قديم للكونياك ويعمل في قطاع المصارف وصفه ديغول «رجل الأمريكيين». ونستطيع أن نفهم أكثر أن أوروبا التي أراد إيجادها عند قراءة المذكرة التي كتبها بعد خطاب 18 حزيران وأتهم فيها ديغول بـ«عدو الشعب» وبأنه «يلقي خطابات هتلرية» كما أنه طالب بـ«تدمير» قائد فرنسا الحرة.(1/155)
يضاف إلى هذه الأسباب الجيوسياسية بشكل خاص ما كانت أمريكا تراه من ضرورة إطلاق الاقتصاد الأوروبي بهدف مساعدة أوروبا للخروج من بؤسها بل من أجل فتح الأسواق التي بدونها يبقى الازدهار الأمريكي ضرباً من الوهم. لذلك عندما أعلن وزير الخارجية الأمريكي مارشال في عام 1947 بأنه ينوي أن يحمل لأوروبا سياسة جديدة «ليست موجهة ضد بلد أو عقيدة معينة ولكن ضد الجوع والفقر واليأس والفوضى تهدف بعث الحياة الاقتصادية» كان علينا إذاً أن نفهم ماذا يريد أن يقول.
بعث الحياة الاقتصادية لا يمكن تصوره إلا كامتداد للاقتصاد الأمريكي، فمن غير الممكن إقامة علاقات اقتصادية مع شريك جائع وغير منظم وفقير وبالتالي لا يمكن تحقيق الثروة كما يؤكد أوجين فيبرر وهذا صحيح بأن «خطة مارشال استعملت قبل كل شيء لتحريك تعاون الأوروبيين بإقامة برنامج مشترك لإعادة البناء (1948) الذي ومنذ عام 1951 أعاد الإنتاج الصناعي لمستواه قبل الحرب» لذا كان للمخطط الأمريكي هدفان: أولاً كان يجب إعطاء الحياة للاقتصاد الأوروبي واستخدامه كمنافذ ثم نسج علاقات اقتصادية قوية جداً بشكل أنه بات من الصعب على أوروبا أن تستمر بمفردها وقد دعم ذلك الصورة التي كونتها أمريكا عن نفسها أمام الرأي العام كبلد كريم ومتفان.(1/156)
لم تطلق الولايات المتحدة خطة قبل أن تحدد قطاعات مصالحها الأساسية في كل أنحاء العالم بشكل مسبق. وهكذا دخلت مناطق أوروبا الغربية والبحر المتوسط وحوضه والشرق الأوسط ومضيق جبل طارق ومحيطه والساحل الأفريقي وأمريكا اللاتينية واليابان في دائرة الأفضلية. ومن أجل تشجيع شركائها وخاصة الأوروبيين لتضمن انصياعهم قامت الولايات المتحدة أحياناً بإشعال أو بالمساعدة على إشعال عدد من البؤر وأحياناً وقفت متفرجة أمام ما يجري في بؤر أخرى.ومن هذه البؤر جاء الشعور بأن الخطر الشيوعي في أوجه فانفجرت بعض القضايا كما في تشيكوسلوفاكيا وبرلين (1948) ثم في كوريا (1950) مما عجل عملية استقلال ألمانيا الفيدرالية التي شكلت عودتها كقوة اقتصادية أمراً ضرورياً من أجل الغزو الأمريكي لأوروبا.
ولكي تكتمل مهمة إقناع الشعوب الأمريكية بالتوحد تحت عصا الولايات المتحدة لم يتوقف الرؤساء ترومان ثم أيزنهاور عن التلويح بالخطر الشيوعي. في هذا الإطار كانت كلمات أيزنهاور المحبوب من الأوروبيين هي الأكثر تعبيراً عن الطموحات الأمريكية.(1/157)
لقد رجع منطقياً إلى وودرو ويلسون الذي توجهت مناوراته المعادية للاستعمار ومحاولته تفتيت الأراضي الأوروبية فاستعادها روزفلت بعد بضع من عشرات السنين فكانت إحدى أسباب الحرب العالمية الثانية. لقد استعار من ويلسون تأكيده بأن «الشكل الأكثر كمالاً للفعالية يكمن في التعاون العفوي بين الشعوب الحرة» مستنتجاً بأن ذوبان الأعراق والديانات المختلفة قد خلق القوة الخارقة التي لم تعرف الأرض مثلها إلا في الولايات المتحدة. فما كان منه إلا أن يتساءل ماذا يمنع الأمم الأخرى من اتباع المثال نفسه ؟ ولم يكن في أية لحظة يمكن أن نتصور تجارب خاصة فالذوبان المطلوب لا يمكن أن يتولد بواسطة النموذج الأمريكي فقال مؤكداً بأن «نظامنا هو الأكثر إنتاجية على الأرض» لا شيء يمكن أن ينافسه إذاً لأنه رمز يقتاد به. ويذكر مساعدة أوساط رجال الأعمال الأمريكية «لتحريك الأخلاق الكامنة من طرق الحياة الأمريكية»مؤكداً أنه عندما يقوم رجل أعمال ببيع سيارة أو براد فهو يبيع عملياً إنتاجاً هو بدون شك الأفضل في العالم وهو يبيع أيضاً «إنتاجاً أمريكياً وأكثر من ذلك فإنه يبيع جزءاً من أمريكا».
إلا أن الولايات المتحدة كما أشار روزفلت التي تمتلك الموارد المادية والطبيعية والبشرية الأكثر أهمية في العالم مما يجعل منها أمةً فريدةً تستثير حسد وحقد الآخرين. فهي تتعرض إذاً لمؤامرات دولية تهدف أبعادها: فالإمبريالية السوفيتية التي حاولت الاستيلاء على تركيا واليونان مازالت قائمة. في هذا الإطار يبدو من الضروري أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليتها بقيادة العالم الحر «لأننا نحن شعب ينظر إلى العالم بتفهم وبعطف لجميع المشاكل التي تهم الإنسانية» لذلك على أمريكا أن تدعم منظمة الأمم المتحدة التي أنشئت في زمن روزفلت ولكنها نمت فعلياً زمن ترومان» فهي منظمة مثال سيمكنها وقف مطامع الاتحاد السوفيتي فكان مخطط مارشال هو الامتداد الطبيعي لهذه السياسة.(1/158)
ولكي يتجنب الإفصاح عن الطموحات الفجة أعلن أيزنهاور والإدارة الأمريكية بأن أوروبا الغربية رغم أنها تمتلك قدرة اقتصادية أساسية لكنها مهددة بالمطامع الشيوعية. وانطلاقاً من هذا وفي سياق النجاحات الأمريكية منذ الحرب بات من السهل اعتبار كل مبادرة ومنها مخطط مارشال كمحاولة نزيهة لإعاقة التقدم السوفيتي في أوروبا. إن ما يسميه الرئيس «بالفوضى الدولية» – الخطر الكبير على أمن الولايات المتحدة – ما هو بالحقيقة إلا رفض من قبل بعض الأمم أو المناطق الدخول في شبكات تابعة لواشنطن. ولم يُفوت الرئيس الأمريكي أية مناسبة ليردد «لقد اختارنا القدر بمهمة قيادة الآخرين بين الأمم المحبة للعدالة والحرية، ونحن لدينا الإرادة ولدينا الوسائل وعندما أدرك ذلك أحد أعداء الحرية جعلنا هدفاً رئيسياً له بغية القيام بحرب مستقبلية، هذا يعني أن أمننا مرتبط بوجود وبتطور العالم الحر».
علينا أن نذكر هنا أن هذا التعبير الأخير ما هو إلا تسمية مناسبة للدلالة على منطقة النفوذ الأمريكي حيث تشكل أوروبا الغربية جزءاً منها علماً أن أوروبا الشرقية قد تم التنازل عنها إلى الاتحاد السوفيتي كثمن لعدم تدخله في المشاريع الأمريكية. من هنا أتى تقسيم العالم إلى معسكرين متعارضين: فتحققت بذلك ما ضمرته الأيديولوجية الأمريكية على المستوى العالمي. فكان من جهة النظام المهين الممثل بشكل أساسي بالمعسكر الشيوعي، ومن جهة ثانية الديمقراطيات حيث كانت الولايات المتحدة بالطبع هي النموذج والقائد، فهي تمثل نوعاً خاصاُ من الأيديولوجية «المرتكزة على الكرامة الإنسانية وعلى الحق»والمعسكر المنافس يتلخص بكلمة واحدة «سلطة الدولة» فباسم مكافحة نظام سلطة الدولة تم إقامة نظام دولي يرتكز على الحرية الاقتصادية وحرية انتقال الأموال والبضائع والمنظمات المتعددة الجنسيات فجاء زمن عقد الاتفاقات الدولية بتشجيع من الولايات المتحدة.(1/159)
ينجم عن هذا الاستنتاج أن نظام سلطة الدولة هو مصدر إزعاج للديمقراطية. يقول أيزنهاور بأنه «في اتفاق الأمم الأوروبية الغربية حيث نبذل الجهود لإقامة اقتصاد قادر على الاستمرار بنفسه علينا ألا يغفل عن نظرنا لحظة بأن لهذه الأمم مشكلة أمنية». فعلى الولايات المتحدة أن تشعر بأنها مسؤولة عن هذه المشكلة الأمنية كما عليها أن تشرف على حسن سير هذا الاقتصاد.«وإذا كان علينا أن نجعل من أوروبا وحدة اقتصادية فعلينا بالتأكيد أن نجعل منها وحدة سياسية أو بكل الأحوال نجعل منها مجموعة حيث كل عضو يعتمد على الآخر دون أدنى شك فيما يتعلق بالأمن، لأنه إذا أصبحت أوروبا وحدة اقتصادية فمن المنطق أن نفترض بأن الجلد والثياب سوف يتم إنتاجها في بلد ما وبأن الأدوات المعدنية والسلاح سيتم تصنيعها في بلد آخر وربما أنتجت الطائرات في بلد ثالث، فكل فريق سوف يرتبط إذاً بالآخرين». يبدو هذا الخطاب واضحاً كل الوضوح وخاصة إذا وضع في سياقه الأيديولوجي.(1/160)
هو أولاً يدعو الدول الأوروبية كي تتكتل في كيان عضوي يجعلها غير قابلة للتفكك عن بعضها البعض، ومن ثم يدعو بوضوح كل أمة للدخول في النظام العالمي لتقسيم العمل الذي تمسك الولايات المتحدة بمفاتيحه. ولكن لكي يقبل الأوروبيون ببذل جهودهم في المجال الاقتصادي الذي يجعل منهم دولاً مرتهنه بعضها البعض كان يجب أن نجنبها الخوف الذي أثارته مشاكل الأمن. لهذا جاءت الدولة الصديقة إلى رئيس الولايات المتحدة لتقول له:«نعم نحن نرغب أن نعيش مثل الولايات المتحدة ولكن هناك عدة أسباب تمنعنا من أن نعلن ذلك بصوت عال وقوي». يتابع أيزنهاور قائلاً بأن أحد الأسباب هي أننا نتحسر على أمننا ورغم عنا سوف ننجر إلى سباق مع الدول الديكتاتورية. وبشهامة الفارس أجاب الرئيس الأمريكي على هذه المخاوف قائلاً:« لا تجزعوا سوف نسهر على راحتكم، طبعاً أنا على قناعة تامة بأنه علينا أن ندخل في برنامجنا أن نهتم بأمن أوروبا في نفس الوقت الذي نقوم باستثماراتنا فيها بشكل حكيم من أجل مساعدتها لكي تحقق الاعتماد على الذات في المجال الاقتصادي بشكل يصبح لديها القدرة لسد احتياجاتها داخل نظام قائم على حرية العمل». خلف هذه اللغة الملتبسة يظهر بوضوح مشروع أيزنهاور للسيطرة العسكرية وللأوروبيين القلق عندما يصبحون على طريق الازدهار لكي يحافظوا على اقتصادهم وهم أسياده ظاهرياً بمفردهم ولكن في الحقيقة سيندرج هذا الاقتصاد في لعبة العولمة المتنامية. وعندما سيقتنع الأوروبيون بتهديد الخطر الشيوعي الذي تولت الولايات المتحدة مهمة الوقوف بوجهه سوف تتحقق بذلك المهمة الأساسية هي إقناع الأوروبيين بتسليم أمرهم لوصاية الحماية الأمريكية.(1/161)
لقد لخص أندريه كاسبي بشكل رائع روح مخطط مارشال للمساعدة الاقتصادية لأوروبا فقال:«قليل من المصالح المفهومة فالمساعدة الغذائية التي تقدمها الولايات المتحدة ستصرّف الإنتاج الزائد من لدى المزارعين الذين لم يتوصلوا للتخلص منه مما يؤمن عمل الاقتصاد النامي وسيسمح بشكل أو آخر وعلى المدى البعيد بإقامة تبادل مثمر بين أمريكا وأوروبا وقليل أيضاً من المبادئ. فالولايات المتحدة تدافع عن نظام قائم في الوقت نفسه على التبادل الحر وحرية انتقال الآراء والبضائع ورؤوس الأموال وليس على أراضي لا يهددها أحد». القروض – وليس الهبات – منحها مخطط مارشال أولاً لبريطانيا العظمى ولفرنسا وليس لألمانيا التي دمرتها الحرب. لقد تم تسليم البريطانيين ما مجموعه 3.389 مليار دولار وبين عام 1947 وعام 1949 وتم تقديم 2.713 مليار دولار لفرنسا بينما حلت إيطاليا في المركز الثالث فقد حصلت على 1.508 مليار دولار بينما حلت ألمانيا في المركز الرابع بمبلغ 1.390 مليار فقط.(1/162)
يمكن أن نفسر بشكل بسيط هذه الكياسة تجاه بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا مقابل صرامة ظاهرية تجاه ألمانيا، فهذه الأخيرة التي دمرت بنسبة 90% لم تكن قادرة على أن تأمل بإعادة بناء اقتصادها قبل مرور عدة سنوات. أما إنكلترا وفرنسا فقد تم تصنيفهما من بين البلدان المنتصرة وإيطاليا التائبة لم تتعرض لخسائر غير قابلة للإصلاح في وقت قصير. في هذا لإطار يقول سرج برشتين « لقد تم العمل على إعادة البناء على الأسس القائمة دون إعارة الاهتمام إلى الإنتاجية أو المردود ودون إعطاء أي تفضيل لإقامة المشاريع». فلم يكن الدولي ولا المحلي لما بعد الحرب يسمح بذلك فعلى سبيل المثال لم يكن لفرنسا أن تقوم بعمليات تصدير. لقد بلغ العجز في ميزانها التجاري بين أعوام 1946-1949 حولي 9 مليارات دولار دون احتساب عجزها في الأراضي التابعة لها خارج حدودها. لقد أوجد مخطط مارشال إذاً آلية، التي هي في حين تشجع الصناعة وتعمل على رفع مستوى الحياة لرفع مستوى القدرة الشرائية كانت بذلك تعمل على دفع قدرات التصدير وكذلك استيراد المنتجات وخاصة الأمريكية. لقد كانت الولايات المتحدة تقدم الدولارات ويقوم بالمقابل مصرف فرنسا بتعويض القيمة بالفرنكات إلى الخزينة التي بدورها تدفعها إلى المشاريع لتتيح لها شراء الدولارات من أجل تسديد ثمن موادها المستوردة من البضائع الأمريكية. ما دفعه مصرف فرنسا مقابل المساعدة الممنوحة من الولايات المتحدة بلغ 732 مليار فرنك وقد ساهم هذا المبلغ بالطبع على إعادة بناء قوي للقطاعات المؤممة (كمؤسسة كهرباء فرنسا ومؤسسة غاز فرنسا ومؤسسة الفحم والسكك الحديدية) إلا أن هذا الشكل من عدم التوازن المالي ناتج عن التضخم المالي، مما أعاق بشكل أساسي القيام بعملية إعادة بناء منسجمة. ساهم هذا الوضع برفع أسعار المشتريات من خارج فرنسا فأعاق بالتالي التصدير وشجع عمليات الاستيراد.(1/163)
ونتج عن ذلك عدم توازن دائم في ميزان المدفوعات والميزان التجاري الذي لم يكن من الممكن إعادة التوازن إليه بفضل المساعدة التي قدمها مخطط مارشال».
أصاب الأمريكيون بذلك عصفورين بحجر واحد، لقد أوجدوا الحافز لاقتصادهم عن طريق عمليات التصدير إلى البلدان الأوروبية التي استعادت قدرتها على الاستيراد وفي الوقت نفسه لقد حصروا هذه البلدان نفسها في دائرة التبعية لهم. وهكذا نستطيع أن نفهم «الاعتراضات الأمريكية»المؤيدة لانفتاح كامل نحو نظام المبادلة وعدائهم لكون «فرنسا تحافظ على نظام إشراف قاسٍ على التبادل بغية المحاولة لخفض الاستيراد».
خلق هذا الكرم الأمريكي الظاهري الكامن وراء القرار الأمريكي بوضع خطة للمساعدة الاقتصادية لأوروبا ومؤثراتها الإيجابية التي أتاحت لها أن ترفع مستوى المعيشة بشكل ملحوظ بأن تختفي عملياً إرادة الولايات المتحدة بالحصول على ما كان الرئيس ويلسون قد وضع مسودته الأولى: تأكيد تبعية القارة العجوز للولايات المتحدة أكثر فأكثر، وهكذا استخدمت الدعاية الأمريكية في النورماندي في حزيران 1944 حيث احتفلت بذلك القوات الأمريكية واستخدمت أيضاً النصر الممنوح للجنرال ديغول في نيويورك في 22 آب 1945 فاستغلت بذكاء مشاعر الفرح التي تنعم فيها أوروبا ووضعت إستراتيجية كان عليها أن تؤمن في وقت واحد سوقاً للعمل والازدهار الاقتصادي وسكب الفائض الزراعي والصناعي للولايات المتحدة في السوق الأوروبية. فكانت أيضاً بداية الهيمنة الاقتصادية والمالية والثقافية وأخيراً السياسية للولايات المتحدة على القارة الأوروبية.(1/164)
فيما يخص فرنسا أظهرت الخطوة المتخذة بالتوقيع على اتفاقيات بلوم – بيرنس Blum-Byrnes في ربيع 1946 أنها كانت حاسمة. فمقابل مساعدة قدرها مليارا دولار لمدة أربع سنوات قبلت بفتح سوقها على مصراعيه للواردات الأمريكية. فجاءت البواخر بالمئات محملة بما مقداره 4500 طن من المواد الغذائية حملت ما يقارب 2000 شاحنة باتجاه جميع أنحاء فرنسا. وهكذا «أتاح الكرم الأمريكي » الذي صاحبه آلة دعائية كبرى «لأوروبا أن تعيش» وقامت بين أوروبا والولايات المتحدة علاقات بالتبادل الحر دون حواجز ولكن لم يكن ذلك متبادلاً فقد سقطت كل الحواجز الجمركية في أوروبا وكان من الصعب إعادتها من جديد. أما عواقب هذا القرار لم تكن فقط اقتصادية ولكن أيضاً ثقافية.
تميزت الهجمة الاقتصادية الأمريكية في أوروبا بثلاث ظواهر، أولاً بالجاذبية السهلة لعالم الصناعة والمال والأعمال التي حققت نصراً واسعاً لأمريكا التي أعطت عن نفسها صورة ساطعة لأمة ديناميكية ترنو إلى المستقبل وتمسك بالصواب وبأفضل مفاتيح المستقبل وكشفت قبل كل شيء بأن أمريكا على علاقة ومنذ زمن طويل بالأوساط الاقتصادية الأوروبية التي تستفيد بشكل كاف دون أن تهتم بتأثير ذلك على المدى البعيد في العواقب السياسية. ثانياً جذب آلاف الشباب تجاه الجامعات الأمريكية الذين قاموا بالسفر للدراسة ثم العودة مبهورين ومأخوذين بالمفاهيم الحديثة مثل «الإنتاجية» و«العقلانية». وأخيراً عرفت الولايات المتحدة كيف تستطيع أن ترسل لأوروبا رسلها مسلحين بوصفات خاصة بهم كفيلة أن تضمن للاقتصاد الأوروبي التطور الذي كانت بانتظاره.(1/165)
غرس هذا التكتيك الثلاثي في النسيج الاقتصادي بذرة تحول أمريكي (أمركة) مقنَّع لم يكن باستطاعة أحد إيقافه. ومنذ بداية الستينات أصبحت أوروبا تتغذى بالمسلسلات التلفزيونية الأمريكية (فليبر – الهارب – غير القابلين للفساد: «النزيهون») وبالمنتجات من جميع الأصناف. في ذلك الوقت بدأت الاستثمارات الضخمة التي أخضعت الصناعة الأوروبية لنير الرأسمال الأمريكي. فهناك منتجات تحمل أسماءً اعتدنا عليها في أيامنا هذه مثل سنجر، وجيلت، وأ.ب.م، وأسو، وليغيز، وكامي رفريجيدر، وهوفر، وسيمنز، وموبيل، وكولجيت، وكوداك وكنبز وبلاك أند دارك، وعلكة هوليود، و تري أم، ومالبورو، وفايرستون، وروبنسون، وبلايتكس، وتامبكس، وبولارويد وكوكا كولا، هذه المنتجات أصبحت تشكل جزءاً من مشهد حياتنا اليومية دون أن يعلم الكثيرون من الأوروبيين مصدرها الحقيقي.
لقد وصلت الأهداف الأمريكية إلى مبتغاها، كتب أندريه كاسبي يقول:«تبدو الحقيقة أن القروض الأمريكية قد جعلت الاقتصاد الأوروبي أن يقف على قدميه، وجنبت الاقتصاد الأمريكي مشكلة غياب شركاء اقتصاديين له». في نهاية الستينات شعرت الولايات المتحدة بأن لديها كامل الحرية لتهيئة الساحة الغربية حسب مزاجها. أما الجانب السوفيتي فكان طليق اليدين وحصل على تطمينات منتظمة كما حدث أثناء «انقلاب براغ» في شباط 1948.(1/166)
وإذا كان مخطط مارشال قد سمح للأمريكيين بوضع أوروبا الغربية على مسار التبعية والعبودية كان يجب أيضاً العمل على جعل ذلك طريقاً لا يمكن العودة منه. لذلك وضعوا شركاءهم على طريق ملتوٍ بواسطة المعاهدات، فشجعت أمريكا على إقامة المؤتمرات التي تتناسب مع ذلك حيث تم توقيع الاتفاقيات المتعددة التي تربط شركاءهم دون أن يكلفها ذلك أي التزام. شهد عام 1948 ولادة عدة معاهدات منها: «الاتفاق العام للتعرفة والتجارة (الغات GATT) ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية O.C.D.E وكان اسمها المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي O.E.C.E وفي عام 1951 قامت المجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ C.E.C.A كما قامت بعد ذلك مؤسسات أخرى وخاصة في إطار الأمم المتحدة.
كانت السنوات التي امتدت من نهاية الحرب حتى بداية الخمسينات لصالح الولايات المتحدة وأمام مخاوف رجل يدعى ديغول، كان هناك «فريق الأوروبيين» من جان مونييه إلى روبرت شومان مروراً بغاسبري وتشرشل فكانوا جميعاً مشغولين ببناء أوروبا تتعدى حدود القوميات، أوروبا فيدرالية مع التطابق الكلي مع رغبات الولايات المتحدة حتى قبل أن يعلنها أيزنهاور. ورغم ذلك اعترض وزير الخارجية البريطاني أرنست بيفن على اقتراح روبرت شومان في تموز 1948 «بإقامة مجلس أوروبي مؤلف من ممثلين للبرلمانات» طالما أنه كان يخشى وجود سلطة تنفيذية أوروبية حقيقية مستقلة عن واشنطن كالأمريكيين، وأدى الحل الوسط بين بيفن والآخرين في 28 كانون الثاني 1949 إلى القرار بإيجاد مجلس أوروبي وافتتحت أول جلساته في 8 آب 1949 في ستراسبورغ.(1/167)
قبل ذلك بعام قامت معاهدة الغات GATT التي أوجدت لافشال كل محاولة للاقتصاد الأوروبي للسير على أي طريق مخالف للطريق الذي رسمه الأمريكيون، رسمياً كان هدف المؤسسة هو تسهيل توسيع التجارة الدولية عن طريق تخفيض الرسوم الجمركية وإقامة نظام توزيع الحصص وعقد الاتفاقات ذات الأولوية وخفض حواجز التعرفة وتشريع المساعدات الوطنية للصادرات مع تعميم البند المطلق بالأمة الأكثر تفضيلاً(1).وقد أطلقت على المفاوضات تسمية جولات Rounds والتي جهدت على توجيه الدول الأعضاء نحو التبادل الحر الكامل الذي تحتاجه الولايات المتحدة. في كانون الأول عام 1993 قبلت أوروبا الصيغة النهائية للغات ووقعت عليها وهكذا وصلت العملية التي بدأت بمخطط مارشال إلى مبتغاها. كانت نتائج هذه الاتفاقات حساسة لعدة أسباب في القطاع الزراعي أجبر الأوروبيون ما بين سنوات 1991-1992 على تخفيض إنتاجهم من الزيوت والحبوب في وقت زاد الأمريكيون من حصتهم المعدة للتصدير إلى السوق العالمي. وحصلوا بالتالي على شراء الأوروبيين منهم غذاء مواشيهم على حساب الإنتاج المحلي ودون أعباء الرسوم الجمركية. ورغم أن الأمريكيين يملكون 50% من السوق الدولي للقمح مقابل 20% لأوروبا فقد كانوا يريدون المزيد. وفي الوقت الذي كانوا يحملون فيه بقوة أثناء المفاوضات على ما سموه «نظام الحماية الأوروبي» لم يتوانوا هم بإتباع مثل هذا النظام. فكانت مساعداتهم للزراعة تساوي ضعفي مساعدات الأوروبيين مقابل رواتب للمزارعين الأمريكيين أعلى بكثير مما يحصل في أوروبا. وأتاحت قوانين محاربة الغش حسب التعريف المنحاز الأمريكي أن تفرض الرسوم على 97% من الواردات أما السوق الأوروبية كانت مقيدة عن طريق الحصص التي كانت مفروضة عليها.
__________
(1) كان هناك استثناء واحد تم قبوله وهو متعلق بالدول النامية التي منحت معاملة خاصة بالنسبة لصادراتها من المنتجات اليدوية وهذا ما كان يعرف بالنظام العام التفضيلي.(1/168)
كما أن الرغبة الأمريكية بالسيطرة الكاملة على الأسواق الغذائية العالمية تظهر جلية في المناورات التي لا تهدف إلى أكثر من محو القوة الأوروبية في هذا المجال. وترفض الحكومة الأمريكية إزالة نظام المساعدات للتصدير وهو نظام مرعب في مجال التصدير للحبوب. أما الأوروبيون وبسبب عدم التفاهم فيما بينهم وقفوا عاجزين. ومنذ عام 1962 كان تصدير الزيوت كالصويا أو المنتجات البديلة للسوق الأوروبية المشتركة يتم دون أي رسوم جمركية. في عام 1991 أضافت الولايات المتحدة لترسانتها القوية سبعين إجراءً خاصاً لتدعيم نظام الحياة الاقتصادية لديها. أوروبا هي حالياً منكوبة. الزراعة في فرنسا خاضعة لنظام إراحة الأرض لذلك هي لا تستطيع في حال نشوء أزمة أن تمد شعبها على الصعيد الغذائي أكثر من ثلاث أسابيع كحد أقصى(1).لقد تطور الوضع قليلاً بشكل أرقام وليس بأرقام نسبية. في 1996-1997 تقدمت محاصيل الحبوب بالنسبة للمرحلة السابقة، لقد زاد إنتاج القمح والأرز وأيضاً الذرة والشعير والذرة البيضاء. ماتزال الولايات المتحدة تنتج 16.3% من الحبوب في العالم (10.7% من القمح) مقابل 5% لأوروبا (6.1%)، وتراجع المخزون الدولي للحبوب عام 1995 – 1996 بسبب ضعف مستوى التبادل الذي كان في أضعف مستوى له منذ عام 1984 ثم زاد عام 1996-1997. أما بالنسبة لإنتاج الرز فقد حقق أعلى مستوياته وخاصة الأزر الأسيوي أما بالمقارنة مع الاتحاد الأوروبي فقد بقي إنتاج الحبوب في أمريكا أعلى منه بكثير.
__________
(1) ليس من الصعب تصور مثل هذه الأزمة ، فإن أصبح من الصعب الوصول للاحتياط البترولي في الشرق الأوسط تكون اللعبة قد تمت. إذا أن هذا الاحتياط مرتبط كلياً بالولايات المتحدة ولا تتوقف رغبة الهيمنة الأمريكية عند هذا الحد. ففي مجالات أخرى كالطيران أو الكيمياء أو الفولاذ ... إلخ فهذه الرغبة كما رأينا ظاهرة للعلن.(1/169)
يريد الأمريكيون السيطرة وبكل الوسائل على السوق الدولية في المجالات التالية: الفولاذ – السيارات – الطيران المدني والعسكري – الكيمياء – الإلكترونيات – الآلات الصناعية – الآلات النصف آلية – النسيج. وفي كل مجال من هذه المجالات كانت الإعانات الأمريكية الحكومية التي في غالبها مقنعة تتمتع بأهمية خاصة. في الطيران مثلاً تبلغ قيمة الإعانة للأيرباص عشرين مليار دولار بينما الإعانة المعطاة من قبل الحكومة الأمريكية للبوينغ على شكل عقود عسكرية تتراوح بين 33-40 مليار دولار.
إن شبكة الإجراءات غير المشروعة التي تستخدمها الحكومة الأمريكية لقطع الطريق على المنافسين للولايات المتحدة تثير العجب: اللجوء إلى العقود العامة وإلى الحواجز الصحية وإلى نسبة الحصص وإلى توزيع الحصص وإلى الرسوم الجمركية المناسبة وإلى اتفاقات الحد الطوعي ... إلخ، وخلال المحادثات الأخيرة التي أدت للاتفاق النهائي في كانون الأول 1993 كان الهدف الرسمي النهائي الذي اتبعه الأمريكيون بواسطة ماكي كانتور ممثل بيل كلينتون هو «تحسين وضع العاملات والعاملين الأمريكيين» ولكن ضمناً ظل أميناً لمشروع الهيمنة الدولية بواسطة التجارة.
المشروع الذي أدى مؤخراً للاندماج بين بوينغ ومكدونالد دوغلاس الذي أعلن عنه من كانون الأول 1996 والذي تم تدعيم خطره باندماج بين لوكهيد مارتن ونورثروب غرمن (بداية تموز 1997) يظهر بوضوح الطريقة التي يلجأ إليها الأمريكيون من أجل خدمة المنظمة العالمية للتجارة O.M.C لصالحهم من أجل تحطيم منافسيهم، فأمام تهديد لجنة بروكسل الأوروبية برفض الاندماج أجاب الرئيس كلينتون وكالمعتاد بالابتزاز حيث قال:«لا للرفض وإلا الحرب التجارية».(1/170)
بدت اللجنة حتى نهاية تموز وكأنها تحافظ على موقفها الصامد ولكنها انتهت إلى إعطاء الضوء الأخضر لأن شركة بوينغ وافقت على التخلي عن تطبيق عقودها مع الشركات الأمريكية لمدة عشر سنوات. ومرة أخرى كان الموقف انتحارياً عندما نعلم ما مدى النزعة الدائمة لدى الأمريكيين بتفسير الاتفاقات على ضوء مصالحهم وحدها. من جهة أخرى تجاوزت المكاسب الأمريكية ومن بعيد كل الحدود المتعارف عليها، فسيكون لاحتكار السوق الناتج عن الاندماج وزناً هائلاً يصل إلى 70% من السوق الدولي للطيران المدني ومكاناً مرموقاً في مجال الطيران الحربي. عدا ذلك سوف يضع 48 مليار رأسمال عمل هذا إن لم ننس أن بوينغ سوف تنعم بمبالغ نقدية ستضخ من قبل البنتاغون في البرامج العسكرية لمكدونالد دوغلاس وهذا ما هو إلا وسيلة ملتوية لصنع طائرات تجارية جديدة. وبغياب ردة فعل سريعة وحازمة من المجموعة الأوروبية لن نستطيع البقاء.
الحلف الأطلسي:
إذا كانت اتفاقات بريتون وودز (نظام النقد العالمي S.M.I – صندوق النقد الدولي F.M.I – البنك الدولي B.M) وخطة مارشال والاتفاقات الدولية مثل اتفاق الغات GATT قد سمحت للولايات المتحدة أن تبسط هيمنتها الاقتصادية على العالم إلا أننا لا نستطيع أن نهمل الجانب العسكري.
تعود محاولة إقامة نظام مراقبة عسكري على أوروبا إلى عام 1944 عندما قرر حينها روزفلت بأن الجنرال ديغول لا يمثل السلطات الفرنسية وأنه من المناسب في فرنسا إقامة «حكومة عسكرية حليفة في الأراضي المحتلة AM GOT» بقيادة أمريكية.
إلا أن تحرك الجنرال ديغول السريع سمح لفرنسا أن تنجو من ذلك، ومنذ ذلك الزمن تصور ديغول قيام أوروبا قوية ذات سيادة قادرة على القيام بدور يساوي الدور الروسي والأمريكي. وفكر بإنشاء محور فرنسي بريطاني إلا أن إنكلترا اعتبرت أن عبقريته سترميها في البحر مع بنت عمها الولايات المتحدة لذلك لم تستجب للغرض.(1/171)
في عام 1946 – شاء الأوروبيون أم أبوا – وجدت الأمم الأوروبية نفسها أمام ضرورة تمتين الروابط العسكرية فيما بينها. وهكذا بين عامي 1947-1948 ناور الأمريكيون حتى وجدوا أنه من الضروري إنشاء حلف تكون الولايات المتحدة فيه وفي وقت واحد الكفيل والموجه. وعبر عن إرادتها بتوحيد مناطق الاحتلال الغربي الثلاث في برلين في منطقة واحدة مما أثار حذر ثم خوف الروس الذين كان لديهم ردة فعل بمحاصرة المدينة مما أقلق الأوروبيين فسارعت إحدى عشرة دولة أوروبية في 4 نيسان 1994 إلى توقيع اتفاقية الأطلسي مما قادهم إلى منطق دولي ذي قطبين وهذا ما كانت الدولتان العظمتان تتمناه. اختارت منظمة معاهدة حلف الشمال الأطلسي مقر قيادتها في فونتنبلو في فرنسا وكانت مهمتها تنسيق الأهداف العسكرية والسياسية والاستراتيجية وبنية الحلف الذي كان في بدايته حلفاً عسكرياً كلاسيكياً وكل أعضائه متساويين.
وكان الهدف المعلن هو إيجاد وسائل دفاع مشتركة دون المساس بالاستقلال الوطني للدول الأعضاء، إلا أن الولايات المتحدة – التي كانت تقدم المساعدة العسكرية الضرورية وتمتلك احتكار السلاح النووي –فرضت نفسها من جراء ذلك الأمر الواقع كقائدٍ وحيدٍ للحلف.
وإن كان الهيكل الأساسي بسيطاً نسبياً وكان امتداده محدوداً إلا أنه مالبث تحت التأثير الأمريكي إلى أن اتجه نحو التدخل الكلي. ففي الوقت الذي أخاف التفجير الأول للقنبلة الذرية السوفيتية في 14 تموز 1949 الأوروبيين ودفعهم للخضوع ، إلا أن الحرب الكورية هي التي عجلت في ارتمائهم في حضن الحامي الأمريكي. أما الولايات المتحدة فلم تبخل بتهويل التهديد السوفيتي والشيوعي ولا بوسائل الضغط على الحكومات الحليفة. وتم تسليم قيادة المنظمة للجنرال أيزنهاور وأعطي الإشراف بالكامل للضباط الأمريكيين، فاعترض ديغول ولكن حكومات الجمهورية الفرنسية الرابعة خضعت للأمر الواقع.(1/172)
ورغم الاستغراب الظاهري الذي أبدته السلطات الأمريكية حين تدفقت قوات كوريا الشمالية على الجنوب إلا أنه كان يبدو أن السلطات الأمريكية لم تكن غريبة بالكامل عن اندلاع العداء. فلم تنتظر واشنطن نهاية الحرب العالمية الثانية كي تعد المخططات التي تستهدف كوريا وكان ذلك في يالطا حين اتفق الأمريكيون والسوفيت على إقامة خط فاصل من الشمال والجنوب عند مستوى الخط 38ْ، وفي 1948-1949 سحب الجانبان جيوشهم دون أن ينسوا ترك مستشارين وأسلحة وأنصاراً مهمتهم التأثير على السلطات عند الضرورة. في كوريا الجنوبية أقام الديكتاتور سينغمان –المعادي للشيوعية والمنحاز كلياً لأمريكا نظاماً – نظاماً دكتاتورياً برجوازياً قاسياً. إن تراجع ماك أرثور ودين اشيسون عن تصريحاتهم ساهم بزرع بذور الشك، فقد صرحا علناً أن كوريا الجنوبية لا تدخل ضمن «إطار الدفاع» للولايات المتحدة بعد أن كانا قد أكدا لحكومة الجنوب بأن تحتل موقع «الزبون» المفضل للولايات المتحدة، كما أن المفاجأة التي أبداها الأمريكيون عند اندلاع العداء كانت موضع الشك.
إن موضع الجنرال ماك أرثر يعبر على المدى البعيد عن الطموحات الأمريكية، فهو لم يخف رغبته بغزو الصين وكان يتحرق لاستخدام السلاح النووي ضد الجار الكبير للكوريتين. فهل عبر بذلك عن تطرفه أم يا ترى تعدى بذلك الحدود المسموحة للكلام؟!! إذ تمت تصفيته في 11 نيسان 1951، ثم وقعت الهدنة في بنمنجوم Panmunjom في 27 تموز 1953 بعد أشهر طويلة من المفاوضات الصعبة مكرسة الوضع القائم، ليس تماماً لأن الجنوب المتذبذب قبل الصراع وجد نفسه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً تحت القطاع الأمريكي.وفي الزحمة استفاد الأمريكيون منها بتوقيع سلسلة من المعاهدات مثل المعاهدة مع اليابان في 18 أيلول 1951 على ظهر معاهدة بالسياق نفسه. يمكن إذن تلخيص الوضع الإجمالي على الشكل التالي:(1/173)
1- الإسراع بالعودة إلى التسلح في العالم والسباق على التسلح مع الاتحاد السوفيتي.
2- نشوء سابقة لأن الولايات المتحدة اختبرت بنجاح وداعة منظمة الأمم المتحدة.
3- تأكيد القوة العظمى والإمبريالية الأمريكية التي منحت نفسها حرية التحرك العسكري والسياسي والاقتصادي والدبلوماسي والثقافي وللغرب الذي اقتنع بسهولة بشرعية «حملتهم الصليبية ضد الشر المطلق» الشيوعية وضد العبودية التي وضعت بعض الشعوب نفسها فيها ولم تكن هذه الشعوب قد خضعت بعد للهيمنة الأمريكية.
4- تكريس يالطا لأنه من الآن وصاعداً بات من المعروف بأن مصير الدول التابعة لمنطقة النفوذ السوفيتي وخاصة بلاد شرق أوروبا هو مغاير لمصير الأمم الغربية.
أرست النتيجة الأولى أي انطلاق التسليح والجري المسعور للتسلح بقوة، الصرح العسكري والصناعي للولايات المتحدة وتشكل اللوبي الذي سيكون تأثيره حاسماً في الصراعات المستقبلية.وأصبحت مبيعات الأسلحة إحدى الموارد الأساسية لمصالح هذا البلد. أما السابقة التي أوجدتها حملة كوريا، فقد شكلت بروفة عامة لآفاق العمليات اللاحقة.
من جهة ثانية بررت الحملة الصليبية ضد الشيوعية التدخلات العسكرية وأكثر تعبيراً التدخل في فيتنام التي انتهت بتورط العم سام.
أخيراً لقد استمر المنطق الثنائي القطب حتى سقوط جدار برلين عام 1989.
إحدى التأثيرات الأكثر ديمومة والأكثر أهمية لحرب كوريا كانت تلك التي دفعت الحلف الأطلسي للتدخل بشؤون الآخرين على الدوام. وبعد أن تأكدت الولايات المتحدة من السيطرة العسكرية على أوروبا لم تتوقف عند هذا الحد ووقعت معاهدات مشابهة مع أستراليا ونيوزيلاند (حلف ANZUS 1951) الباكستان وتايلندا والفليبين (OTASE 1954) ومن جديد مع الباكستان وإيران وتركيا (CENTO 1959). وعندما اكتملت الشبكة، أصبحت الإدارة الأمريكية ترسل إلى رؤساء دول عرفوا بوداعتهم من طرف إلى آخر من المعمورة.(1/174)
وقد بدت هذه الظاهرة بأنها ضرورية لوزير الخارجية جون فوستر دالاس الذي كان يخشى بأن يتملص جزء من دول العالم الثالث من المحاولة الأمريكية ببسط سيطرتها خاصة بعد نشوء دول عدم الانحياز(1) في مؤتمر باندونغ Bandung في نيسان 1955.
وفي أوروبا أنهى الحلف الأطلسي تدخله الكامل مع إعادة تسليح ألمانيا ودخولها الحلف عام 1955، مما وضع في الوقت نفسه حداً بعيد الأمد لتوحيد البلد وكانت مغامرة مجلس الدفاع للاتحاد الأوروبي هي المحرك الرئيسي لهذا القرار المستعجل بالتدخل من قبل الأمريكيين.
تعود المبادرة لرينيه بلفن René Pleven الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس الوزراء الفرنسي والذي بعد الضجة الناتجة عن الرفض الفرنسي لإعادة تسلح ألمانيا عبر بتشجيع من جان مونيه عن الحاجة لتأمين وسائل دفاع ذو سيادة للدفاع عن أوروبا.
__________
(1) تجمع من عدة دول (29) أعلنت الحياد وعدم اهتمامها بالخضوع لهذا المعسكر أو ذاك بالرغم من أنها متعاطفة مع موسكو أكثر من واشنطن.(1/175)
ومن البداية كان الأمريكيون ضد مشروع كهذا، فقد كان الحلف الأطلسي قد قدم كادراً كافياً للأمريكيين لكي يستطيعوا السيطرة عسكرياً على الأمم الأوروبية لذلك كان من غير الوارد أن تفكر هذه الأمم بالانفلات منه أو بالتفاهم فيما بينها على إيجاد نظام دفاعي لا تشارك فيه الولايات المتحدة التي استغلت الظرف لتقوم باستعراض لوقتها. فقد دعم أيزنهاور ووزير خارجيته فكرة دالاس بإيجاد جيش أوروبي بشرط أن يتبع للجنة «شيب SHAPE» أي يكون تحت قيادة عليا لجنرال أمريكي(1).وبالفعل جرت عدة جلسات نقاش للتصديق على إقامة مجلس الدفاع الأوروبي (1953-1954) تحت المظلة الأمريكية وكاد أن يتم توقيع الاتفاق حوله لولا المعارضة المستغربة قليلاً من بريطانيا العظمى التي كانت ضد أي مشاركة في جيش أوروبي والمعارضة الأساسية الفرنسية وخاصةً من قبل التجمع الديغولي (التجمع من أجل فرنسا RPF). وفي 30 آب 1954 وبعد رفضه في تصويت للجمعية الوطنية سقط مشروع مجلس الدفاع الأوروبي.
__________
(1) كان دالاس وراء مشروع شخصي عمل على تنفيذه بعناد، لقد كان إلى جانب الرئيس ويلسون كمستشار في مؤتمر فرساي وكان نشيطاً في عدة مؤتمرات دولية لدعم نشر الديانة المسيحية وكان يؤمن بشكل قوي بالدور الإلهي للأمة الأمريكية فقد كان على اقتناع بأن مهمة بلاده هي قيادة العالم، ومن خلال الحرب الكونية الثانية كان المدافع عن فكرة الحكومة الكونية حيث تحتل فيها الولايات المتحدة المركز الملكي. وبسبب كراهيته للشيوعية قطع آلاف الكيلومترات لإقناع الحكومات الغربية بالخطر السوفيتي والصيني وبضرورة الاتحاد مع أمريكا.(1/176)
أستدرك الأمريكيون وأنصارهم من دول أوروبية ذلك وقدموا سلاحاً بديلاً. لقد تعرضت فلسفة الحلف الأطلسي لمخالفة حقيقية عندما تعرض مبدآن أساسيان لها للانتهاك وهما المساواة بين كل الأعضاء وعدم وجود مكان دائم لها. الأول كان وراءه الأمريكيون وهيمنة الولايات المتحدة والثاني عن طريق إقامة المكان الدائم بشكل فعلي. وساهمت الموافقة الألمانية كبلد كامل العضوية ودعم دالاس لها على تعزيز التماسك العام داخل البنية التي يتحكم بها البيت الأبيض ولكن في عام 1956 كان هناك مخالفة ثانية وهي حاسمة.
في الخامس من أيار أوصى مجلس المنظمة بعدد من الإجراءات الهادفة إلى تطوير التعاون بين الدول الأعضاء في «مجالات ليست عسكرية» والى زيادة الوحدة لـ «المجموعة الأطلسية». هذه الكلمة الأخيرة تدل على أن الولايات المتحدة ترى أنها توصلت إلى اعتبار دول أوروبا الغربية موجودة في باحة خلفية جديدة تتولى هي حراستها. وخلال الأشهر الضرورية لإعداد مشروع القرار (من أيار إلى كانون الأول 1956) بقيت وسائل الإعلام صامته، وأثناء هذه العملية الموغلة في الديمقراطية حيث تم تغيير فلسفة وأهداف الحلف الأطلسي غيبت الشعوب بشكل مقصود. في 13 كانون الأول تمت الموافقة على التقرير المؤرخ في 5 أيار والذي يوصي بإجراءات جديدة واعتبر «كوثيقة أساسية للحلف الأطلسي».
وكانت النتائج ذات أثر كبير فقد تحول الحلف من حلف محلي موجه ضد عدو معروف ومتفق عليه إلى مجموعة مهمتها أن تقوم «بمهام أخرى ليست دفاعية». واتسعت صلاحياتها إلى السياسة وإلى الاقتصاد وإلى الثقافة وإلى الإعلام. ولم يكن هناك شك في إقامتها الدائمة وفي تفوقها وبالتالي في عولمة دورها. واتسعت منطقة تطبيق قراراتها فطالت الكون بأسره وكل مكان حيث يمكن أن تمس مصالح أعضائها وشكلت صيغة مبهمة لتبرير أي تدخل.(1/177)
لم يفاجأ أحد من أن الجنرال ديغول نظر إلى هذا التطور بعين غير راضية، البداية كانت عندما عرف أثناء انعقاد مجلس الدفاع الأوروبي أن أمريكا تحاول فرض سيطرتها العسكرية على أوروبا فاقترح على أيزنهاور أن يتم تشكيل قيادة للحلف الأطلسي مؤلفة من ثلاثة أعضاء حيث يتمتع كل عضو بشراكه متساوية مع الآخرين فرفض بالطبع أيزنهاور هذا الاقتراح.
عند عودة الجنرال ديغول لشؤون الدولة حاول كبح ما يمكن من السيطرة الأمريكية، في 29 حزيران 1958 جاء رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكملان إلى باريس وكان همه أن يرضي أصدقاءه الأمريكيين الذين أزعجتهم طريقة تطور السوق الأوروبية المشتركة فطلب إلى ديغول أن يتخلى عن الأوروبيين بتركه الاتحاد الذي اعتبره شكلاً جديداً من أشكال «الحظر القاري». فقال ديغول «لا». واستنتج أن على أوروبا أن تتجاوز المحور الفرنسي البريطاني الذي كان عمودها الفقري واتجه صوب ألمانيا وتم كل شيء بالغالب أثناء لقائه بالمستشار الألماني أدينوار Adenauerفي 14 أيلول 1958 في كولومبيا فولدت يومها فكرة أوروبا كسيدة حقيقة لمصيرها قادرة على مجابهة فكرة الاستعلاء المتعددة الجنسية.(1/178)
لم يستسلم الأمريكيون بسهولة، ومنذ بداية الستينات سارعوا لزيادة تبعيته لهم وتمركزت في قلب هذه المسألة الاستراتيجية النووية.وباعتبارها ضماناً لتفوقها العسكري ولإشرافها على الجيوش الغربية الأوروبية شكلت السيطرة النووية للولايات المتحدة الميدان حيث لم تكن تنوي أن تتقاسمه مع أحد ولم يسمح لأي مراقب أوروبي من الحلف الأطلسي بحضور تفجير نووي حتى شهر أيار 1957 في يوكا فلاتس (نيفادا). أما التجربة الأولى للقنبلة النووية لبريطانيا – الحليفة المفضلة – في 3 تشرين الأول 1952 ومرة أخرى بدا أنه ليس فقط لا يستطيع أحد تقرير أي شيء دون موافقة الولايات المتحدة بل إنه حتى التجربة التي جرت بالقرب من أوستراليا في جزيرة مونتبللو Montebello لأن الأمريكيين رفضوا إعارة مكانٍ لبريطانيا العظمى، وما لبثت المسألة النووية أن شكلت مركز اهتمام الإدارة الديغولية للحصول لفرنسا إن لم يكن لأوروبا على استقلاليتها التي تعيقها بنية الحلف الأطلسي نفسها. ولم يخفف مجيء كيندي إلى البيت الأبيض من حدة التوجه الأمريكي، ففي 14 كانون الثاني 1961 وفي مواجهة عناد سلطات واشنطن التي صممت بالاحتفاظ لنفسها فقط حق القدرة على إشعال الحرب الذرية أكد ديغول نيته «ببناء وحتى استخدام عند الضرورة قوتنا الذرية بأنفسنا».إلا أن الظرف الراهن لم يكن مؤاتياً، فقضية جدار برلين المتمثلة بقضية كوبا جعلا من عام 1962 عاماً للمخاطر الكامنة. ومع تأكيد دعمه لسياسة كيندي في وجه السوفيت إلا أن الجنرال ديغول حافظ بصرامة على موقفه بما يخص الاستقلال النووي. وقد تم التعبير عن المقاومة الأمريكية في العام السابق عندما جدد كيندي ووزير دفاعه روبرت مكنمارا مطلبهم بأن تكون في يد الولايات المتحدة لوحدها سلطة القرار في هذا المجال.(1/179)
أيمكن أن نرى بذلك ردة فعل تعبر عن تحسسهم من الجنرال ديغول بعد أن نصحهم بعدم التورط في فيتنام؟ إلا أن أمام قرار فرنسا بالحصول على قوة ردع لنفسها استخدمت ولان كل ما لديها لهذا الاستحقاق، ورفضت أن ترسل للسلطات الفرنسية البلاتينيوم اللازم وبالرغم من أن العملية قد انطلقت راحوا بعد ذلك يسخرون من الطموحات الفرنسية ويتجاهلون نجاح مهندسيها وعلمائها.
وعقب التجربة النووية التي جرت في ريجان في الجزائر في 13 شباط 1960 تمثل رد الأمريكيين باتفاق موسكو ومن حينها تتابعت المحاولات المختلفة لعرقلة الديغولية ولوضع أوروبا في خانة التحالفات. في ذكرى يوم الاستقلال في 4 تموز 1962 اقترح الرئيس كيندي في خطابه بأن يقوم بين أوروبا والولايات المتحدة اتحاد أسماه بعبارة بالشراكة الأطلسية.وأقترح من جهة أخرى إيجاد اتحاد أوروبي حسب النموذج الأمريكي (الولايات المتحدة الأوروبية) ومن جهة أخرى إيجاد مساواة كاملة بالحقوق وبالواجبات بين الكتلتين الكبيرتين الأمريكية والأوروبية فيما يتعلق فقط بالسلاح النووي.
وبما لا يخلو من الاستعلاء عرض الأمريكيون أنفسهم لتأمين الأمن الأوروبي في هذا المجال وأن يكون لهم بمفردهم حق استخدام مفتاح وتصنيع السلاح النووي وطبعاُ هم مجبورون أن يتدخلوا عند كل هجوم ضد أي بلد من الحلف من أجل الدفاع عنه. ومن جهة أخرى ووفاءً لخياراتهم منذ الاستقلال وخاصة منذ نظرية مونرو طالب الأمريكيون الكونجرس بواسطة كيندي أن يصوت على قانون التوسع التجاري، هذه الوثيقة التي كان المحيط القريب من كيندي يعتبرها كاتفاقية الغات GATT والتي كانت تعتبر بأنها ستكون الممهدة لها، فهي كانت تنوي إزالة الحواجز الجمركية الأمريكية بشرط أن ترفع الدول الأوروبية حواجزها أيضاً: وهذا ما هو إلا شكل من أشكال الصفقة الخادعة بنظر ترسانة القوانين والأنظمة التي تسمح للولايات المتحدة استخدام نظام الحماية المقنعة.(1/180)
جاءت أزمة الصواريخ في كوبا في تشرين الأول 1962 في وقتها لكي تذكر العالم القلق بأن دور الولايات المتحدة كحامي لأوروبا يبدو ضرورياً اكثر فأكثر وأن الوقت الآن لا يسمح بأن تبدي – كما تفعل فرنسا – ميولاً استقلالية. إلا أن الجنرال ديغول انبرى في 14 كانون الثاني 1963 وصرح علناً بأن فرنسا قد قررت أن تقود الحملة بمفردها.(1/181)
في 7 آذار 1966 أعلن بأن فرنسا قررت الانسحاب من الحلف الأطلسي وأن على الأمريكيين سحب قاعدتهم ومستودعات عتادهم وفرقهم العسكرية من أراضيها(1). وبعد عدة سنوات حاول هنري كيسنجر التقليل من قرار الجنرال ديغول فأشار إلى أن قرار الخروج من الناتو لم يكن قراراً بالتخلي عن الحلف إذ أن خطوة الجنرال لم تكن إلا رمزية. إلا أن فرنسا تابعت تصميمها ليكون لها سياسة تميزها عن سياسة واشنطن فعارض ديغول هيمنة الدولار على نظام النقد العالمي وشجع على اعتماد عملة جيدة، وفي 20 حزيران 1966 ذهب إلى الاتحاد السوفيتي بزيارة ودية. وفي حزيران 1967 وبعد حرب إسرائيل الخاطفة (مدعومة من الأمريكيين) ضد الدول العربية أصدرت فرنسا حظراً على الطائرات المتعاقد عليها والمدفوعة الثمن من الدولة العبرية. أما فيما يتعلق بخطاب ديغول في كندا وجملته الشهيرة «عاشت الكوبيك حرة» فقد أثار غيظ أمريكا.
__________
(1) وهنا أيضاً برز الاستعلاء الأمريكي بشكل فاضح: استعراضات منظمة للفرق العسكرية القريبة من المدن بكامل ثيابهم ومعداتهم الموسيقية وأبواقهم وطبولهم لإعطاء صورة عن جيش متنصر ولا يمكن هزيمته. وفي كل القواعد هناك مخازن وصيدليات متخصصة تبيع فقط المنتجات المستوردة من الولايات المتحدة والتي كانت تعلن بأنها الأفضل في العالم وتقوم بمنافسة غير شريفة للمتاجر المحلية. احتلال الأراضي كان مؤثراً 14 قاعدة – 40 مستودعاً للعتاد – خط نفطي – 260000 عسكري – 60000 مدني، وإن أخذنا بعين الاعتبار أراء السكان المحليين كانت تصرفات الأفراد شبيهة بما يفعله الأمريكيون في كل مكان «مثيرون للصخب ووقحون ومتعجرفون وغير محترمون ومتسلطون»، وهناك الكثير من مثل هذه العبارات لدى السكان الذين عانوا منهم لاستعمالها في وصفهم.(1/182)
لكن التدخل الأكثر حسماً هو خطاب بنوم بن في الأول من أيلول عام 1966 في خضم حرب فيتنام حيث أكد بأنه بالنسبة لفرنسا هذا الصراع الذي تقوده قوة أتت «من الجانب الآخر للمحيط الهادي» لا يمكن أن يكون له «حلاً عسكرياً».
وتحرك كل اللوبي المؤيد لأمريكا في كل مكان يوم تم توقيع المعاهدة بين فرنسا وألمانيا فقامت الكتلة المؤيدة لأمريكا في البندستاغ (البرلمان الألماني) بحملة صارخة وحققت نجاحاً لدى التصديق على الوثيقة بإضافة مقدمة اعتبرت لصالح الولايات المتحدة وصفعة للجنرال ديغول. وبعد فترة وجيزة استخدم المستشار الألماني لودفيغ أرهرد الذي نشأ في الولايات المتحدة ذلك لكي يميل كفة الميزان بشكل ملحوظ على حساب أوروبا. إلا أن ديغول تابع انطلاقته وكرر في ستراسبورغ في عام 1966 بأن الحلف الألماني – الفرنسي أساسي من أجل أوروبا مستقلة بشرط أن يكون لديها التصميم بأن لا تضع «حياتها» بين يدي قوة «صديقة لا شك» ولكن المصير والتاريخ جعلتها تنتمي لعالم مغاير لأوروبا. بين أعوام 1964-1966 حاول ديغول جاهداً شق طريق ثالث بين الكتلتين واتجه إلى الصين وأوروبا الشرقية وآسيا. وفي 10 آب 1967 تكلم في أحد خطاباته عن «الناسكين في محراب الطاعة الأطلسية» ورفض من جانبه أن يكون «الأداة الفرنسية المساعدة» لصالح هذا الطرف أو ذاك من القوتين العظمتين.(1/183)
ذهب الجنرال وأخذت الأشياء تعود شيئاً فشيئاً إلى ما كانت عليه وبسبب خيانة «الديغوليين» انتهى التوازن لصالح الطروحات الأمريكية. وعادت الهجمة كما سبق وبشكل أشد، وفي خطابه في 23 نيسان 1973 أطلق هنري كيسنجر نداءاً لصالح «أطلسية جديدة» تضم أوروبا والولايات المتحدة واليابان، فقد اقترح أن تعمل هذه الدول بشكل تستطيع أن تعالج بمفردها القضايا الدولية، وقد جدد الرئيس ريغان هذا النداء بعد عشر سنوات. بالواقع إنه بعد التعديل الذي جرى عام 1956 رغم المعارضة الديغولية تعززت عولمة الحلف الأطلسي مع مرور السنين وكان لها تأثيران كبيران بالنسبة للدول الأوروبية الأعضاء.
الأول هو ضمان سيطرة الولايات المتحدة على الحلف، فقد وجدت هيئات الأركان والجيوش الأوروبية سجينة شبكة من هيئات أركان دولية رؤوسها الأساسية كلها أمريكيون. ثم امتدت صلاحيات الحلف فطالت مجالات أخرى (سياسية – اقتصادية – ثقافية ) مما أعطى الأمريكيين مميزات حاسمة في كل مجال منها.على الصعيد الاقتصادي كان بوسعهم أن يمارسوا على الأوروبيين ابتزازاً دائماً مستخدمين العوائق أو التسهيلات النقدية والتجارية وعند الضرورة كانوا يهددون بتخفيض حصتهم في توزيع الأعباء والتكاليف كما حصل برهاناً على ذلك خلال لقاء نيكسون وبوم بيرو في ريكيافيك في حزيران 1973. في المجال السياسي إذا كانت الخيارات الاستراتيجية للحلف قد أعدت نظرياً من قبل جميع الدول الأعضاء إلا أنه في الواقع ما كانت هذه الدول تقوم إلا باعتماد القرارات المتخذة في البيت الأبيض.(1/184)
أما فيما يخص الجانب العسكري بالذات لم يكن هناك أي أمر مما يحضر ويعتمد إلا وتكون منابعه ليس في أي مكان آخر سوى البنتاغون. وتأكيداً لذلك لسنا بحاجة أكثر من النظر إلى طريقة توزيع المهام داخل الحلف الأطلسي: استأثرت أوروبا بالجهود الجوية الأرضية أما الاحتكار النووي فقد كان من حصة الولايات المتحدة إضافة إلى البارجات الحربية الثقيلة والقيادة العليا. وهكذا حصلت عملية الاستلاب التي كان ديغول قد توقعها.
لقد حاولت فرنسا أن تقوم هنا وهناك بعملية تمرد ولكن دون نجاح، فلقد عملت الآلية للحلف الأطلسي بذكاء لإفشال السوق الأوروبية المشتركة التي حتى استسلام بلير هوس وأخيراً الغات في بداية 1994 وعملاً بمادة التفضيل المعمول بها في السوق ونجاح عمليات التصدير كانت قد ضايقت الأمريكيين. وعند قيام السوق خلافاً لإرادتهم أجاب الأمريكيون مباشرة بتحريض البريطانيين لإنشاء منطقة منافسة للتبادل الحر عام 1959 (AELE) ولكنها لم تكن ذات فعالية.
وشكل الغات(1) المحاولة الثانية، لقد مارست الولايات المتحدة دائماً التكتيك الذي شكل أساس قيام الحلف الأطلسي ألا وهو قاعدة: فرق تسد. وباعتبارها سيدة في فن الشروع بالمناقشات المنفصلة مع الدول الأعضاء سواء كان ذلك على مستوى الحلف أو دول الاتحاد، لذلك كانت تثير الأحقاد وتنفخ على الجمر وتوقظ الغيرة وتستغل الخلافات الحساسة بين الدول الأوروبية. في قمة أوتاوا في تموز عام 1981 اعترضت فرنسا على سيطرة واشنطن على الحلف الأطلسي وإعادة الكرة في تشرين الأول ثم في كانون الأول 1982 وأيضاً خلال دورة أنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أيار 1983 ولم تغير المقترحات الفرنسية الواقع وخضع الجميع أمام الرفض الأمريكي المستمر.
__________
(1) الغات: (le GATT): الاتفاق العام على التعرفات الجمركية والتجارة.(1/185)
وفيما يخص الحلف الأطلسي تمسكت الولايات المتحدة بمواقفها لعام 1956 وبالوثيقة الموقعة وخاصة المادة 17 التي تضع أوروبا تحت السيطرة على المدى الطويل وتؤكد بأنه «يجب وجود عملية مديدة على المستوى القومي من أجل تكوين العادات والتقاليد والقياس وهذه العملية لن تكون في أحسن الأحوال إلا بطيئة ومتدرجة».
بعد المنعطف الكبير للتسعينات بدا من الطبيعي طرح مسألة سبب وجود المنظمة وأهدافها، ومنذ عام 1991 أصبح من الواضح بأن الولايات المتحدة ليس لديها أي نية بالتنازل عن وصايتها لأحد بل تريد على العكس أن تعزز بُناها وتمتين أوصالها، وظهر أن ذلك سلاح ذو حدين حيث كان على السلطات الأمريكية لأسباب مالية بشكل خاص أن تخفض من عدد قواتها المسلحة وتحافظ في الوقت ذاته على تفوقها.
لم تترك التصريحات التي صدرت منذ العام 1991 أي مجال للشك حول هذا الهدف الأخير، أما التطورات الأخيرة للوضع الجغرافي السياسي (جيوبوليتك) الدولي لم ينظر إليه كما يجب حول تبديل أهداف الحلف الأطلسي «ولم يؤثر لا على غرض ولا على وظائفه الأمنية» التي كان قد حددها، فهذه الأخيرة تؤمن «ديمومة مستمرة» وتقدم «فرصاً جديدة لإدراج إستراتيجيتها في إطار من المفهوم العريض للأمن». الوقت كان أكثر فأكثر
لصالح العولمة.
- امتداد جغرافي (اتساع منطقة عمل الحلف).
- امتداد استراتيجي (اتساع الصلاحيات).
- امتداد هيكلي (تجديد البنى العسكرية).(1/186)
الاقتراحات الأمريكية الأخيرة لم تلق من قبل الأوروبيين أية معارضة وليس هذا فحسب بل طرحت الولايات المتحدة أيضاً فكرة توسع الحلف الأطلسي لتشمل دول أوروبا الشرقية (كانون الثاني 1994). فقد وصف البيان الختامي للاجتماع الوزاري لمجلس شمال الأطلسي في 17 كانون الأول 1992 المنظمة «كأحد الأدوات الضرورية من أجل توجيه التغيير في مجمل أوروبا» تعلق الأمر كما أقرت تقارير جيرميا وولفوويتز (وهذا ما سنتكلم عنه لا حقاً) بإبعاد وبأي ثمن ظهور قوة عظمى حالية.
ولذلك تم التخطيط لإنشاء «قوة رد سريع» تسمح بُناها بمهارة عالية على صعيد التدخل توافق الحلف الأطلسي نفسه. وتشكل هذه القوة من عدة قوات متعددة الجنسيات وهكذا انتفت فكرة إنشاء قوة دفاعية أوروبية ذات سيادة حقيقة ومستقلة.
وقد دفعت التغييرات الأساسية التي حدثت منذ انهيار المعسكر الشيوعي الأمريكيين إلى متابعة تفوقهم وتشكلت لديهم أولويتان هما: العمل على إقامة الانسجام بين الجهد الدفاعي والواقع القائم والمحافظة على تفوقهم السياسي والعسكري في العالم.
وباعتبار أن الحرب الباردة قد انتهت كان من المناسب إذاً المحافظة على عدم التوازن من أجل منع أية قوة منافسة من أن ترى النور، والتقريران االذان قُدّما إلى الرئيس بوش من قبل البنتاغون عام 1992: تقرير بول ولفووتيز وتقرير الأميرال جيرميا كانا واضحين بشكل كامل فيما يخص الهدف المنشود ألا وهو بسط هيمنة الولايات المتحدة على كامل الكرة الأرضية بواسطة كل الوسائل العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية الضرورية(1). والاستنتاج العام للتقريرين يدعو الجيش الأمريكي أن يحتوي من الآن وصاعداً على مايلي:
__________
(1) ضم أعضاء مرموقين من الكونجرس صوتهم إلى هؤلاء الذين أعدوا التقريرين أمثال السيناتور سام نان وليزاسبان رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب والذي أصبح فيما بعد وزيراً للدفاع.(1/187)
1- قوة نووية استراتيجية قادرة على التدخل ضد كل منافس يملك قوة شبيهة.
2- قوة في المحيط الهادي تتمركز في اليابان وفي كوريا الجنوبية قادرة على مواجهة القوى النووية والتقليدية الصينية وعلى تنفيذ مهام مراقبة الشرق الأقصى لروسيا وكوريا الشمالية.
3- قوة في المحيط الأطلسي تتمركز في قواعد نورفولك.
4- قوة طوارئ جاهزة للتدخل السريع في كل مكان حيث تفرض ذلك مصلحة الولايات المتحدة.
لقد تم تبني التوجيهات التي أوصت بها التقارير وبعض أعضاء الكونجرس بواسطة الرئيس كلينتون الذي أعاد تنظيم الحلف الأطلسي بإنشاء قوة للتدخل السريع من جهة قوامها 100 ألف جندي أمريكي ومن جهة أخرى قوة أساسية للدفاع مؤلفة من سبع وحدات مدرعة قوامها 500 ألف رجل من الجيوش الأوروبية والتعزيزات الأمريكية (الاحتياط).
وتم تعزيز سلطة القادة العليا للحلف في أوروبا فأمسك الضباط الأمريكيون وعلى جميع المستويات بالمراكز المفصلية للحافز ويكفي أن نذكر حرب الخليج ثم حملة الصومال لكي نبرهن على أهمية النفوذ السياسي الأمريكي وكيف كانت رغبات واشنطن بالتدخل تترجم وكأنها أوامر.
إن موضوع التدخل ضد العراق هو ذو مغزى بما يتعلق بالولايات المتحدة التي بدت كقوة عالمية وحيدة وسيدة الحلف الأطلسي. تعالوا اليوم لنعود لهذا التدخل ولنرى باختصار ما حدث.
قلة هم حتى اليوم من فهموا بأن تدخل قوة متعددة الجنسيات في حرب الخليج ارتدت لباساً مخالفاً كلياً لعملية شرطية لنصرة الحق. لقد انقسم الرأي العام الأوروبي حينها بين أقلية ضئيلة من أولئك الذين بذكاء أدانوا التدخل ومن أكثرية ساحقة التي جذبتها حملة الرئيس بوش الدعائية فرأت بذلك حملة صليبية جديدة من الغرب العادل ضد صدام حسين الذي انقلب شيطاناً(1).
__________
(1) بعض الشخصيات الذكية وخاصة في فرنسا أعلنت عن معارضتها ونذكر من هذه الشخصيات جان بيار شوفمنان – ميشال جوير – لويس بوولز – أندريه جيرو.(1/188)
الأهداف الحقيقة للحرب كانت أولاً اقتصادية ثم أصبحت جيواستراتيجية، هذا ما كشف عنه أحد أعضاء الدائرة المالية الدولية أتش. ثيمي H. Thieme ممثل البنك الألماني في نيويورك في Beleggers Almanak فقال «لقد اكتشفنا مؤخراً حقولاً بترولية في المملكة العربية السعودية هي أكبر بكثير من التي يتم استثمارها»، الأمر لا يحتاج إذاً لعبقري من أجل فهم الرهان إلا إذا وضع صدام حسين أو أحد المتطرفين الدينيين يده على هذه الحقول.
لذلك كانت ردة فعل الولايات المتحدة قاسية لهذه الدرجة، لقد أرادت الحفاظ على هذه الحقول من أجل العالم الحر وتمنع التفريط به لمصلحة المتعصبين لأنّ للشركات الليبرالية الغربية الحق أكثر منهم بالمطالبة بهذه الحقول حسب راي الأمريكيين.
وليس مستغرباً أن نعلم أنه بين 1953 و1990 كان لكل وزراء الخارجية الأمريكيين علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالشركات البترولية الكبرى(1). وليس مستغرباً على ضوء ذلك أن يكون الرهان على البترول حاسماً في عملية اتخاذ القرار الأمريكي.
__________
(1) كان جون فوستر دالاس مستشاراً قانونياً لشركة Standard Oil ومدير مؤسسة روكفلر. كريستان هرتر (1959-1961) كان مرتبطاً بروكفلر بواسطة مؤسسة السلام العالمي التي كان يديرها راسك (1961-1969). أما هنري كيسنجر (1973-1977) فكان مقره في مجلس العلاقات الخارجية لمؤسسة روكفلر وأخوته. أما سايروس فانس (1977-1980) كان إداري ثم مدير لروكفلر وعضو في المؤسسة الثلاثية. من عام 1981 حتى عام 1982 كان ألكسندر هيغ مدير مصرف منهاتن. وكان جورج شولتز (1982-1989) مدير شركة برشتل المرتبطة بشفرن وجولف وايل، أما جيمس بيكر وزير خارجية جورج بوش فكان يمثل شركة من القضاة في هيوستن بخدمة الشركات البترولية الكبرى وكانت عائلته تملك حصصاً مهمة في شركة أكسون – موبيل – ستندر وايل ... وأخريات.(1/189)
قبل كل شيء علينا أن ننظر للهجوم المعادي للعراق بمنظار أوسع وهو القتال من أجل الحفاظ على حق الولاية الغربية وخاصة الأمريكية على المادة الأولية الحيوية ألا وهي البترول.
فمن الوسائل الأكثر فاعلية في سلب العالم الثالث هي هذه السيطرة على المواد الأولية ولقد أمنت الحكومة الأمريكية لمجموعة اللوبي مصالحها الواسعة، وذلك كان إما بغرض التعرفة التي تقررها الشركات المتعددة الجنسية أو بممارسة ضغوط غير مباشرة (انخفاض أو ارتفاع مصطنع لأسعار المواد الأولية في بورصة شيكاغو).
وصف الأستاذ الجامعي عالم اللسانيات نعوم شومسكي Noam Chomsky بشكل رائع هذه الاستراتيجية للولايات المتحدة فقال:«البترول الذي هو المورد الطبيعي الأساسي للاقتصاد الأمريكي ولكنه موجود في أراضي لا يملكها الأمريكيون يجب أن تبقى الأراضي إذن تحت تصرف الولايات المتحدة لذلك هي بالتأكيد مستعدة أن تقوم بالحرب من أجل أن تشتري البترول الذي لا تملكه وبالسعر الذي تفرضه».(1/190)
إن ارتفاع سعر برميل النفط عند مطلع السبعينيات هو الدليل على ذلك، فبعد خفض قيمة الدولار في 12 شباط 1973 كان على شركات البترول أن تعوض هذا الانخفاض من أسعار النفط ولكنها رفضت أن تخضع لهذا الطلب وفي الأول من حزيران اتفقت منظمة الدول المصدرة للنفط OPEC على رفع سعر النفط بنسبة 11.9%، وفي الأول من أيلول قررت ليبيا وهذا حق لها أن تؤمم الشركات الكبرى للبترول، واتخذت الدول العربية في الكويت قراراً بمراجعة أسعار البترول ورفعها بنسبة مهمة. وفي السادس من تشرين قامت سوريا ومصر بهجوم عام ضد إسرائيل وغداة الحرب أمم العراق أكسون Exxon وموبيل للزيوت وهي شركات أمريكية موجودة في العراق. فردت بفرض حظر ضد العراق ورفضت فرنسا الاشتراك فيه. وأمام تبدل مواقف بعض الدول العربية التي أصبحت حليفة للولايات المتحدة (مصر) وأمام عدوانية إسرائيل اختار العراق الهروب إلى الأمام فوصل إلى شكل من الانعزالية، في هذا الوقت قادت حاجة الولايات المتحدة المتزايدة لنفط الخليج دفعها إلى أن تسيطر بصرامة على المنطقة. فكانت السعودية والكويت وكذلك الإمارات وقطر تخضع لرغبة واشنطن وفي حين كانت أسعار البترول تهبط كانوا مجبورين على استثمار البترودولار من ربحهم في الاقتصاد الغربي (مما يمثل حوالي 93% من الاستثمارات لدول الخليج) وخاصة في الاقتصاد الأمريكي. وفي نهاية الثمانينات عاد البترول لسعره عام 1973 وكان على دول منظمة الدول المصدرة للنفط OPEP أن تعوض ذلك من التصدير الذي بلغ عام 1986 15% من دخلها القومي مقابل 4% من الخسارة من الدخل من الاستيراد لدول الغرب وكان ذلك في قلب الأزمة البترولية.(1/191)
وكما كان يحدث في كل تدخل عسكري أمريكي أعلنت البيانات الرسمية الدفاع عن «المصالح الحيوية للولايات المتحدة»، في 7 كانون الثاني 1991 أوضح الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في جريدة نيويورك تايمز بأنه« نحن لا نذهب إلى هناك للدفاع عن الديمقراطية لأن الكويت ليست بلداً ديمقراطياً، ولا يوجد بلد ديمقراطي في المنطقة، ( ... ) ونحن لا نذهب إلى هناك للدفاع عن الشرعية الدولية، نحن ذاهبون إلى هناك وعلينا أن نفعل ذلك لأننا لا نسمح لأحد أن يمس مصالحنا الحيوية».(1/192)
الهدف فيما بعد كان جيوسياسي فالعراق الذي أمم الشركات الأمريكية وعزز وضعه العسكري والسياسي من خلال حربه ضد إيران كان يشكل تهديداً بأن يصبح قوة عظمى إقليمية. وأمام بروز النظام العالمي الجديد الذي رسمته واشنطن بدا استقلال العراق أمراً لا يمكن تحمله، وبما أن الولايات المتحدة كانت منهمكة بإعادة النظام الاستعماري الذي كان في السابق تحت سيطرة بريطانيا وجدت نفسها في مجابهة أمة قادرة على خلط الأوراق. ففي الوقت كانت أغلب دول المنطقة قبلت بهيمنة واشنطن ارتكب العراق غلطة امتلاك وسائل استقلاله وخاصة الاقتصادي والسياسي الشيء الذي اعتبر غير مقبول. إضافة وحسب تصريحات مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A وليم كاسي كما أنه لم يكن من الممكن ترك نيكاراغوا – كما حدث في كوبا 1959- أن تقيم نظاماً يمكن له أن يصبح نموذجاً ناجحاً لقيام دولة ذات طابع اشتراكي لذلك لم يكن من المعقول أن يستمر العراق طويلاً بانتهاك النظام العالمي الأمريكي، وأخيراً وفي الوقت الذي سمحت لإسرائيل بتعزيز موقفها المهيمن في المنطقة قامت الولايات المتحدة بالإضرار بالمصالح الأوروبية وبالإساءة إلى العلاقات بين أوروبا والدول العربية. وقد أصابت عصفورين بحجر واحد لأنها قضت في المهد على الصحوة الجديدة للعالم العربي بإقامة وحدته وفي الوقت ذاته قامت بتكدير طويل الأمد لصورة أوروبا وخاصة فرنسا لدى الشعب العربي.(1/193)
وهكذا فهي لم تقم فقط بارجاع الدول الأوروبية إلى بلادها بعد الحرب دون أن تجني اية فائدة بل قامت باستبعادها من كل الصفقات التي تبعت الحرب. ووضع النظام العالمي الجديد الناتج عن حرب الخليج تحت السيطرة الكاملة للولايات المتحدة من دون أن يكون للدول الأوروبية الحق بقول كلمتهم. وبعث من جديد النظام الاستعماري القديم واستبدلت الأمم المستعمرة القديمة بالولايات المتحدة وضعفت سلطة العرب بينما حصلت دول الخليج ذات الأنظمة غير الديمقراطيةعلى ديمومة امتيازاتها مقابل صلاحيات أمريكية على النفط وضمان عدم اتحاد العالم العربي إلى الأبد. وعن طريق منع العراق أن يصبح قوة مسيطرة في الخليج ودفع البعض لمعارضة واشنطن تم توجيه إنذار إلى دول الجنوب محذرة إياها من أية محاولة تمرد ضد السلام الأمريكي مما شجع كذلك المملكة السعودية والكويت للسماح بإقامة أوسع القواعد الأمريكية على أراضيها. وأخيراً هناك ظاهرة لا يمكن تجاهلها وهي البنية العسكرية الصناعية المسؤولة عن تزويد السوق العملاق بالسلاح والتي انتكست عند نهاية الصراع بين الشرق والغرب منذ انهيار الاتحاد السوفيتي فاستطاعت مع هذه الحرب أن تستعيد أملها، الأرقام في هذا المجال معبرة. في أيلول كان جورج بوش قد أعلن عن عقد بيع للأسلحة مع المملكة العربية السعودية بقيمة 20 مليار دولار خفضت بعد ذلك إلى 7.5 مليار دولار من قبل الكونجرس. وبعد سنة في شباط ضربت مبيعات الأسلحة حسب تقرير صادر عن البنتاغون الرقم القياسي وصل إلى 33 مليار دولار ونصف هذه المبيعات كانت في الشرق الأوسط. وفي 30 أيار 1991 تكلم ديك تشني عن صفقة أسلحة لإسرائيل وللإمارات العربية المتحدة ولم يعلن عن قيمتها، وعلى مدى عام من حرب الخليج باعت الولايات المتحدة من الأسلحة ما قيمته أكثر من 15 مليار دولار. وباعتبارها المصدر الأول في عام 1997 وللسنة السادسة على التوالي باعت الولايات المتحدة في عام 1996 11.(1/194)
3 مليار دولار من العتاد الحربي أي بزيادة 23% عن عام 1995.
ولتعزيز موقفها المهيمن على السوق العالمية للأسلحة لم تتوان الولايات المتحدة عن التقليل من أهمية السلاح الفرنسي، وبعد أن أعلنت أن قوة الردع التقليدية لقوات التدخل الفرنسية ضعيفة أوكلت إليها دوراً هامشياً في العمليات التي جرت على أرض العراق ولم يتوقف الجنرال شوارزكوف ومن خلف الكواليس من الاستهزاء من العتاد العسكري لفرنسا. فالدبابات الوحيدة التي جابهت العتاد المستورد من الاتحاد السوفيتي كانت دبابات أمريكية وبريطانية قادرة على مجابهة عتاد عسكري وهي أقوى من الدبابات الفرنسية. هذه الحملة المدسوسة كانت تخفي استراتيجية على المدى الطويل في مجال بيع الأسلحة. فعن طريق تقليل أهمية العتاد الفرنسي الفعال والخفيف والأرخص استطاع الأمريكيون السيطرة على الأسواق التي كانت في عجلة من أمرها لعقد الصفقات بعد نهاية الحرب.
كانت الأنظار متجهة إلى هدف نهائي – السيطرة الدولية – لذا استخدم الامريكيون سوق السلاح بصورة أخرى مخيفة وأكثر تخريباً، فليس فقط زادت صادراتهم منذ حرب الخليج حتى 25% من إنتاجهم العسكري (197 مليار فرنك) ولكنهم جذبوا أيضاً دول الاتحاد الأوروبي في كمين زادت نتائجه تبعية أوروبا للولايات المتحدة. إن اتفاقية ماستريخ ذات الوحي الليبرالي نصت على أن «الهدف هو تطوير الاتحاد الأوروبي كوسيلة لتعزيز الدعامة الأوروبية للحلف الأطلسي». هذا يعني من جهة إعلان بأن المنظمة الوحيدة الأوروبية العسكرية هي منظمة الحلف الأطلسي المسيطر عليها بالكامل من الولايات المتحدة ومن جهة أخرى إعلان بأن الاتحاد الأوروبي الغربي البعيد كل البعد عن تكوين نواة أوروبية مستقلة ما هو إلا «دعامة» لمنظمة الحلف الأطلسي(1).
__________
(1) حتى أنّ الأمريكيين ذهبوا إلى أبعد من ذلك بإقناع الأوروبيين بإنشاء الـ «CALS» أو ما يعرف بـ:
Computer-Aided Acquisition and Logistic Support (الدعم اللوجستي لسوق الجنود بمساعدة الحاسوب) وهي مجموعة تضم مكاتب للدراسات في جميع أنحاء المعمورة في مجال التسلح والتكنولوجيا العالية. والعضو الأهم في هذا الصرح هو البنتاغون، حيث أنه يمثل 80 مليار فرنك فرنسي من الإنفاق السنوي في مجال المعدات الحاسوبية العسكرية أو غير العسكرية، مما يؤهله للعب دوراً أساسياً في هذا المصرفي المعلوماتي المتعدد الجنسيات. النتيجة بدون أدنى شك معروفة وهي ربط كل البحوث والاكتشافات ذات الطابع العسكري وحتى الصناعي في العالم بالقوة الأمريكية، أي الخضوع الكامل لأوروبا للقرارات الأمريكية فيما يخص القدرة الدفاعية.(1/195)
منظمة الأمم المتحدة:
إضافة للشبكة الاقتصادية مع الغات والمنظمة العالمية للتجارة والاتفاقات التجارية الكبرى والمعاهدات الدولية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وللشبكة العسكرية مع الحلف الأطلسي تمتلك الاستبدادية الأمريكية شبكة دولية دبلوماسية سياسية وهي: منظمة الأمم المتحدة.
إن ميثاق الأمم المتحدة الذي وقع في سان فرانسيسكو في 26 حزيران ودخل حيز التطبيق في 24 تشرين الأول 1945 هو ثمرة استراتيجية انكلوسكسونية تم إعداده خلال الحرب العالمية الثانية تحت رعاية الرئيس روزفلت. الأنظمة الأساسية لمجلس الأمن تؤكد على أنه يمتلك «مسؤولية الحفاظ على السلام» (المادة 39) وهو المؤهل أن يقرر التدخل لدى أي تهديد للسلام. وعند اللجوء للمادة 39 يبرز نوعان من الوسائل يمكن استخدامها: تلك التي تفرض استخدام القوة (المادة 42) والوسائل التي لا تفرض استخدام القوة (المادة 41). وكل قرار يتخذه المجلس يجب قبوله من الأعضاء كماويجب تطبيقه (المادة 25).
في حالات عدة على محكمة العدل الدولية أن تلتئم وتطلق حكمها في حال التعرض للقانون الدولي. هذا ما جرى أثناء حرب الخليج أو في الحالة الليبية: فلم يعترض أحد على قصف طرابلس في عام 1986 حيث قتلت خلاله ابنة الرئيس القذافي ولأنه كان في الغالب يقطع الطريق أمامها لم تكن المحكمة تتدخل مما كان يتيح لبعض أصحاب القرار على الصعيد العالمي أن يكونوا في منأى عن أية مراقبة قضائية وأن يتخذوا قراراتهم بارتياح بالتدخل أو عدمه، فوظفت الولايات المتحدة ذلك كوسيلة متميزة لخدمة مصالحها وخير دليل على ذلك عدد مرات الحظر الاقتصادي المتخذة بالضغط التي مارسته على هذا البلد أو ذاك والمحاباة تجاه بعض الدول.(1/196)
إن مهمات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالأمن الجماعي فشلت جميعها، السبب الأول وراء ذلك كان انعدام التفاهم حول الأمور الأساسية فلم يتمكن الأعضاء الخمس للمجلس من التوصل أبداً لقرار سياسي حقيقي بل كانوا يفضلون التوصل إلى حل وسط هش، لا يؤدي غالباً إلى حدوث أي تأثير. وعندما تمس مصالح الولايات المتحدة كما في حالة الصراع في الخليج لم يكن الأمريكيون يجدون أية صعوبة في «إقناع» شركائهم من اتباع خطواتهم(1). فأثناء الغزو التركي في 13 شباط 1975 كانت حصيلة المعارك أكثر من 3000 قتيل في الجانب اليوناني وقام الأتراك بتهجير السكان مما ضمن للجزء الواقع تحت سيطرتهم قدرات اقتصادية أفضل. ولم يصدر أي ضغط من منظمة الأمم المتحدة في وجه الفعل التركي. كذلك يوم الغزو لتيمور بواسطة إندونيسيا في 7 كانون الأول 1975 بعد مغادرة الرئيس فورد ومستشاره هنري كيسنجر للبلاد بثلاث ساعات قام الجيش الإندونيسي بشكل غير شرعي بغزو الجزيرة وسبب ذلك موت 100–200 ألف شخص. وخلال التصويت على معاقبة حكومة جاكرتا صوتت الولايات المتحدة إلى جانب الغزاة. وقد سمحت مشاركة الأمريكيين للغزاة باستخدام قنابل النابالم من أجل إخضاع سكان الجزيرة في ظروف وصفتها بعثة برلمانية أسترالية بالمذبحة التي لم يرتكب مثلها أبداً منذ الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين قدمت الإدارات الأمريكية المختلفة مليارات الدولارات للحكومة الإندونيسية ومنها 400 مليون دولار كمساعدة اقتصادية من إدارة الرئيس كلينتون الذي باعها أيضاً سلاحاً بقيمة 270 مليون دولار.
__________
(1) لقد ضرب الأمريكيون الأرقام القياسية في استخدام حق الفيتو فبين عام 1970-1990 استخدموا أكثر من 60 مرة هذا الحق مقابل 26 لبريطانيا العظمى وغالباً لدعم المواقف الأمريكية على حساب دول العالم الثالث أو على حساب أوروبا، أما فرنسا فاستخدمته 11 مرة والاتحاد السوفيتي 8 مرات فقط.(1/197)
مثالان مؤثران لا يزالان حتى الآن في ذاكرة البشر، المسألة الصومالية ومسألة أقدم منها وهي قضية الكونغو.
الأزمة الكونغولية 1959-1960:
في سياق المحاولات التبعية للرئيس ويلسون غداة الحرب العالمية الأولى تابع الأمريكيون في كل مكان بعد عام 1945 حملتهم الرامية إلى طرد الدول الأوروبية من دول العالم الثالث حيث لا تزال مسيطرة. وكما كتب جاك فاندر في كتابه عن الأزمة الكونغولية «لقد أصبح من الآن وصاعداً قوتان عظيمتان حقيقيتان تسيطران على العالم وهما الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وصممت هاتان القوتان بحزم على اتخاذ موقف ضد الاستعمار بسبب أنهما لم تكونا قوى استعمارية ولأن ضعف القوى الاستعمارية وخاصة فرنسا وبريطانيا العظمى ساهم بتعزيز موقفها في المحافل الدولية».كانت مهمة الولايات المتحدة غير صعبة «لأن شرعية الدول الاستعمارية في مجموعة الأمم أصبحت مغايرة لتلك التي كانت من قبل عام 1940 كما أن المحن التي مرت بها خلال الحرب أجبرتها تدريجياً على التخلي استعمارها في آسيا أولاً ثم في أفريقيا.
أثناء الصراع العالمي وهكذا سقطت أسطورة القوى التي لا تقهر مثل بلجيكا وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا وهولندا، بعد أن عملت هذه القوى على أن تبرز بعناية هذه الأسطورة في وجه الشعوب الخاضعة للاستعمار وعملت الولايات المتحدة بدأب على إزالة هذه الأسطورة فكانت جاهزة لتساعد بشكل خفيّ أولئك الذين يقاتلون المستعمرين وهذا ما حصل في فيتنام حيث تظاهرت بدعم فرنسا في الوقت الذي كانت تمد فيه سراً المقاومين التابعين لهوشي منه بالسلاح والعتاد. وهكذا فقد الأوروبيون مستعمراتهم الواحدة تلو الأخرى: الهند في عام 1947 وإندونيسيا في عام 1949 والهند الصينية بعد هزيمة الفرنسيين في ديان بيان فو في عام 1954 والمغرب وتونس حصلتا على سيادة محدودة قليلاً في عام 1956.(1/198)
في هذه السنة نفسها حدثت «المخططات الأولى الحقيقية للتحرر السياسي في الكونغو». حتى لو كان الوضع العام مؤات لها خاصة بفضل الشخصيات البلجيكية التي عرفت تحت لقب«رجال تصفية الإمبراطورية» وعرفوا كيف يزاوجوا بين الديناميكية وآلة الاستعمار، إلا أن التأثيرات الخارجية لم تكن غريبة عن الموضوع. لقد نشط الأمريكيون بواسطة جماعات كالوتكوفر المرتبطة بأنصار يَهْوه والذين انتشروا في الكونغو تحت اسم الكيتوالا أو بواسطة برامج إذاعية إنطلاقاً من دول المنطقة كمصر مثلاً. في نهاية الخمسينات كان الوضع قد نضج من أجل القيام بتغير كبير. في 28 كانون الأول 1958 طالب باترس لومومبا في خطاب ألقاه في ليوبولدفيل بـ«تحرير الشعب الكونغولي من النظام الاستعماري وحصوله على الاستقلال». وعجلت انتفاضات 4 كانون الثاني 1959 الأمر نتيجة الحماقات العديدة للسلطات المحلية البلجيكية، السنة التالية سرعت بالتغير. كتب فاندر لندن يقول: «الأشهر الستة الأولى من عام 1960 لم تكن أبداً هادئة في كل البلاد»، الإدارة عاجزة عن فرض احترامها وخاصة في ريف ليوبولدفيل وحركات متذبذبة استقلالية في كتنغا حيث أعلنت حالة الطوارئ في 14 حزيران ومجابهات في كاشاتي. وفي 21 حزيران انتخب أحد أنصار لومومبا كرئيس لمجلس الممثلين وطُلب إلى لومومبا أن يقوم بتشكيل الحكومة التي حصلت على ثقة البرلمان (23-24حزيران) وبعد الانتخابات الرئاسية التي كانت حصيلتها انتصار جوزيف كازافوبو (24حزيران) فقام بتسمية لومومبا كرئيس للوزراء، وفي 30 حزيران حصلت البلاد على الاستقلال.
الأيام التي امتدت بين 4-14 تموز 1960 فجرّت الأزمة النهائية وأخرجت المستعمر البلجيكي خارج الكونغو وتوجت الجهود الأمريكية من أجل وضع رجل نصير لأهدافها في سدة السلطة.(1/199)
الجدول الزمني حدث على الشكل التالي: صعوبات أولى ظهرت بين صفوف القوى العاملة في ليوبولدفيل مصادمات في تيسفيل (5 تموز) فوضى عامة في ليوبولدفيل (7 تموز) اضطرابات في كوما وكنغوليو وماتادي. فقررت الحكومة البلجيكية أن تعزز قدراتها في قواعدها الأفريقية (8تموز) تلا ذلك اضطرابات مسلحة في إليزابيث فيل وفي لولوبورغ (9تموز) وتدخل القوات البلجيكية في كتنغا (10تموز) وفي ماتادي (11تموز) فتبع ذلك إعلان استقلال كتنغا. في 12 تموز وجدت وزارة المستعمرات استحالة استمرار الموظفين البلجيكيين بالقيام بمهامهم في أفريقيا وفي 13 تموز تفجرت الأحداث في ليوبولدفيل واحتلت القوات البلجيكية مطار ندجيلي. في 14 تموز قطعت العلاقات الدبلوماسية مع بلجيكا. بالواقع وإلى جانب الأخطاء التي ارتكبها البلجيكيون في بلدهم وفي الكونغو بالذات لابد من توجيه الاتهام إلى المناورات الأمريكية. في البداية هناك الشائعات التي أثارها عملاء المخابرات الأمريكية (C.I.A) والتي انتشرت في كل مكان حول طائرات سوفيتية قد تكون قد حطت في مطار ندجيلي وأن الضباط البلجيكيين قد حاكوا مؤامرة تؤدي إلى ذبح الجنود الكونغوليين. تبع ذلك غليان أدى لحالة من الفوضى كانت مصيرية. الشائعات نفسها ألهبت كيفو وكتنغا مما أدى للصدام المسلح في حامية إليزابيث فيل في 9 تموز أمام تهديد بتدخل المظليين البلجيكيين. ثم إن وراء إعلان استقلال كتنغا في 11 تموز نشطت المصالح الأمريكية، ومن جهة أخرى لابد أن نشير إلى الغموض الذي أثارته بين الناس والجيش والمناورات والأخطاء التي ارتكبت قصداً. وبالرغم من النية الحسنة للرئيس كاسافوبو ولرئيس وزرائه لومومبا الذين جابوا البلاد بهدف التهدئة ولوضع حد لسوء التفاهم إلا أن كل شيء كان قد تم. ولم يعد هناك مهرب من تدويل الصراع وهذا ما سعت إليه الولايات المتحدة مما أدى إلى تدخل الأمم المتحدة التي نشرت قواتها في ليوبولدفيل في 16 تموز.(1/200)
بالتواطؤ مع الأمريكيين المستعدين دائماً للتدخل شن ممثلو منظمة الأمم المتحدة الذين كانوا على اتصال وثيق بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية هجوماً على حكومة لومومبا التي عمل الأمريكيون على زعزعتها بواسطة جوزيف كاسافوبو الذي نحّى بومومبا عن الحكم بتشجيع من السفارة الأمريكية وأحدثت أزمة دستورية أغرقت البلاد بالفوضى وبالمواجهات بين الفصائل. وكان قائد عملية الأمم المتحدة في الكونغو أندريه كورديه – الموظف النموذجي- هو الذي نقل أوامر واشنطن إلى المنظمة الدولية. ثم نظمت الاستخبارات الأمريكية (C.I.A) انقلاباً دفع بـ (موبوتو Mobuto) إلى السلطة وقامت باغتيال باترس لومومبا. فعلق موبوتو فوراً عمل البرلمان والدستور. ودعم الرئيس كندي ترشيح النقابي سيرل أندولا ليكون رئيساً للوزراء لأنه يتناسب مع الطروحات الأمريكية. في تموز 1961 عقد البرلمان اجتماعاً برئاسة منظمة الأمم المتحدة وخوفاً من التأثير الخارجي المعارض لمصالحها وخاصة من قبل فرنسا حاصرت السلطات الأمريكية البناء بواسطة قوات الأمم المتحدة. وبغية إقامة حكومة تابعة لها قامت السلطات الأمريكية بحفر نفق يصل خارج البرلمان مع داخله وبواسطته كان مسؤول الاستخبارات الأمريكية يمرر رزم الدولارات من أجل شراء أصوات البرلمانيين (1). وفي الداخل كان محمود خيري أحد كبار الموظفين في منظمة الأمم المتحدة يقوم بدور الوسيط.
العملية الصومالية:
قضية أقرب إلينا، الصومال. في نهاية عام 1992 كان برنامج تدخل الأمم المتحدة في الصومال الذي وضعه بطرس غالي بسيطاً:
نزع سلاح الميليشيات.
دعوة المؤتمر الوطني للاجتماع.
إعادة توحيد البلد تحت سلطة تنفيذية مؤقتة تضم الجمهورية التي أعلنت عن تسميتها «أرض الصومال».
__________
(1) تم توزيع الكثير من هذه الرزم بشكل واسع في المقاهي والبارات.(1/201)
منذ البداية عارضت الولايات المتحدة عدداً من نقاط هذه الخطة. فجورج بوش لم يتحرك إلا لاعتبارات بسيطة للسياسة الخارجية وكان يهدف منع خفض الميزانية العسكرية من قبل الكونجرس. لذلك رفض نزع سلاح الميليشيات. في كانون الأول 1992 أمر بإنزال القوات الأمريكية في الصومال في جو من الدعاية الضخمة وتحت أنظار وسائل الإعلام الأمريكية التي بثته بالتالي في كل أنحاء العالم ليبرز بهذا الإخراج السينمائي العاطفي وجه أمريكا المنظمة والفعالة.
يتكون الشعب الصومالي في أغلبيته من بدو رحل (70%)منظم بشكل قبائل. رئيس الحكومة زياد باري يتبنى بشكل دائم خطابين، الأول هو محاولة لإبراز أنه يمثل نظاماً حديثاً مترفعاً عن القبلية، والثاني هو شبه رسمي يتمسك بإقامة بنية قبلية متعددة الأوجه تفسد آليات إخضاع المجتمع التقليدي للقانون. لقد تصورت الولايات المتحدة بأن تفاهماً قسرياً ومكتوباً بين القبائل يمكن له أن يشكل حلاً لا يتعارض مع مصالحها الخاصة، فتوصلت إلى وثيقة لم تكن تعني شيئاً بالنسبة للصوماليين المعتادين على الجمل الرنانة وعلى الحلول الخطابية الموثقة بالوعود.(1/202)
أمام فشل المفاوضات عقد الجنرال عيديد وحلفاؤه من الاتحاد الوطني الصومالي سلسلة مؤتمرات محلية بأسلوب قريب من الطريقة التقليدية. ففي 31 أيار 1993 تم عقد اتفاق بين الاتحاد الوطني الصومالي والجبهة الديموقراطية من أجل إنقاذ الصومال ومنظمة المجرتين التي تمسك بشمال البلاد. طبعاً منظمة الأمم المتحدة مستقلة لا تستطيع إلا أن تقبل التسوية التي كانت من عمل الصوماليين بأنفسهم. في أول الأمر أعلنت الأمم المتحدة بشخص أمينها العام بطرس غالي تأييدها للمعاهدة. وبعد لقاء تم مع رئيس الولايات المتحدة بدل بطرس غالي رأيه وأعلن أن الاتفاق غير صالح. إذ أن المؤتمرات التي أدت إليه كانت «غير مؤهلة». ورداً على ادعاء عيديد بأن التسوية الصومالية لا يمكن إلا أن تكون قضية الصوماليين أنفسهم ردت الولايات المتحدة بموقفها الثلاثي المعهود: تحويل عيديد لشيطان (وصف على الحال بالعدو العلني) وإطلاق حملة إعلامية عنيفة وتحميل عيديد وحده المسؤولية الكاملة للحرب الأهلية (الأرقام أشارت إلى أكثر من 300 ألف قتيل).
القضية الصومالية التي بدأت بجو من السرور عند الإنزال على الطريقة الهوليودية وبتعظيم العمل الإنساني الأمريكي الذي يهدف إلى إنقاذ آلاف الناس من الجوع مع تصفية الفائض الزراعي الأمريكي وهذا الهدف لم ينساه الأمريكيون أبداً، انتهت هذه القضية كما نعلم إلى الغموض الكامل حيث تم الانسحاب في نهاية الأمر بطريقة أقل تمجيداً. لقد وصف روني بروماني رئيس منظمة أطباء بلا حدود مشهد جنود الأمم المتحدة من الأمريكيين بشكل خاص قائلاً:«في الغالب كانوا سكارى ويبولون في الشوارع وهم واقفون على الأسطحة ويرسلون وراء النساء ويضربون الرجال بقسوة وفي بعض الأحيان الأطفال».
«(1/203)
سياسة المعيارين والمكيالين» التي طبقتها الأمم المتحدة بقسوة ضد الدول التي تزعج أمريكا وبرحمة وتسامح تجاه أصدقاء الولايات المتحدة انتهت بالاساءة للمنظمة التي تراجعت هيبتها. وبدأت ترتسم ردة فعل على هذا الواقع وبشكل مفاجئ مع مجيء الأمين العام الجديد كوفي عنان مع أنه معروف بـ«رجل الأمريكيين» الذين فرضوا انتخابه. فالابتزاز الذي تستخدمه الولايات المتحدة برفضها دفع ديونها المتراكمة منذ سنوات تجاه الأمم المتحدة إن لم تصبح مطواعة في يدها أثار باستمرار غضب الأمين العام. أما ملف منظمة الأمم المتحدة الموجود بين أيدي المحافظين المتزمتين في مجلس الشيوخ بقيادة جيسي هلمز ليس مرشح للحل لأن الإجراءات المتخذة تهدف إلى تخفيض الحصة الأمريكية من 25% إلى 20% من الموازنة ودفع المستحقات السابقة بالتقسيط وبتخفيض يصل لـ 60% وكذلك بتخفيض حاد في قوات الأمم المتحدة التي عانت بالأصل من تخفيضات قاسية وترافق كل هذا مع إجبار المنظمة على إخضاع حساباتها لما يوازي في أمريكا لسوق الصرف ألا وهو مؤسسة الحسابات العامة.
كان جواب كوفي عنان معبراً عن الدور الذي يلعبه الأمريكيون بالتلاعب بالأمم المتحدة وتوجيهها على طريقتهم، لقد قال:« ليس من وظيفة الأمين العام أن يفرض إرادة الولايات المتحدة على الدول الأعضاء الآخرين الـ 184».
((
الفصل الرابع :
إخضاع العقول
اعتبرت الولايات المتحدة منذ البداية أن الإمساك بالاحتكارات الثلاثة هو أمر أساسي:
الأول:
يتعلق بالقوة العسكرية وقد حصلت عليه بواسطة منظمة الحلف الأطلسي وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء وبيع الأسلحة والسلاح النووي على مستوى العالم الغربي (في ماعدا فرنسا).
الثاني:(1/204)
هو احتكار الاقتصاد وكان قد أصبح فعلياً بشكل جزئي منذ اتفاقيات بريتون وودز عام 1944 حيث أصبح معيار النقد الدولي العملة الوطنية الأمريكية : الدولار، ولا يزال هذا المعيار قائماً حتى الآن. كما أن النظام الدولي الناتج عن الاتفاقيات خاضع لمخاطر السوق (حيث تستطيع الولايات المتحدة التأثير فيه) ولاحتمالات النتائج الأمريكية وخلف هذا النظام مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي – البنك الدولي) من أجل خدمة مصالح الولايات المتحدة والمجموعات الاقتصادية المستفيدة على مستوى العالم بأكمله. ومنذ سقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية استطاعت الولايات المتحدة تحقيق هذا الاحتكار بشكل كامل لأن الأيديولوجية الاقتصادية الوحيدة المعترف بها والمطبقة في العالم أصبحت الرأسمالية الليبرالية والتبادل الحر وهذا ما كانت تطالب به النخب الأمريكية. أخيراً بواسطة الاتفاقيات الدولية المتعددة كاتفاقيات الغات GATT (المنظمة الدولية للتجارة) أمسكت الولايات المتحدة ببقية الأمم وجعلتها رهائن. فقد تضمنت شبكتها الاقتصادية نقطة مركزية ذات وجهين:
1-الأيديولوجية الليبرالية والسلطات الاقتصادية والمالية والسياسية الأمريكية التي تتخذ بموافقة المجموعات المستفيدة للأمم الأخرى القرارات الاقتصادية التي يشعر بتأثيرها الكون بأكمله.
2- التكتلات الاقتصادية مثل نظام النقد الدولي والهيئات التابعة له ومؤسسة الدولار كمعيار والاتفاقات الدولية كل هذه التكتلات تسيطر على مراكز القرار الوطني للأمم وتتحكم بها.
الثالث:
بدون شك هو الأكثر خطورة لأنه استبدادي بجوهره ألا وهو احتكار وسائل الاتصالات ومن المفيد هنا أن نعرض لمحة تاريخية مختصرة.
تقزيم العالم:(1/205)
منذ القدم فهم أصحاب السلطة بأن التحكم فقط بالأدوات العسكرية والبوليسية والسياسية ليس كافياً لتأمين بقاء ديمومة هذه السلطة. حتى قبل أن يضع الفلاسفة في أثينا أيام سقراط وما بعده مفهوم الأيديولوجية أدركت طبقة الحكام ومؤيدوها أن ما يقود الشعوب يتشكل من مجموعة من المعتقدات والعادات الحاضرة في الأذهان على شكل صور حيث حلت معظم رموزها وتحولت لتقاليد. الوظيفة الأساسية لهذه التقاليد ولهذه الرموز تقوم على إقحام المعتقدات والعادات بالرؤوس من أجل أن تجعلها متناسبة مع الطاعة والولاء. لذلك وجدت باكراً فكرة أن الناس يولدون داخل مجموعة لها بالطبع بنية اجتماعية وعلى كل فرد فيها أن ينسج معها وبدت هذه الفكرة لدى أصحاب الامتيازات بأنها أحد المفاهيم الأولى التي يجب أن تصبح تقليداً. نتج عن ذلك تعزيز للمجتمع الذي أريد له أن يكون ما أمكن غير قابل للعزل مع إبعاد كل إرادة ولو ضعيفة للاعتراض على وضع النظام القائم.
على عكس اليونان حيث كان من النادر وصول الأحرار إلى مركز مهم في حكومة الحاضر, جعلت روما الذرائعية والمتسامحة من الليونة الاجتماعية مصدر لتجدد النخب التي كانت تضمن قوة الجمهورية وبعد ذلك قوة الإمبراطورية. وبعيداً عن فكرة أن كل ما ينبثق عن روما يعكس إرادة مجلس الشيوخ والشعب كانت المجموعة الأيديولوجية الرومانية على قدر كافي من الغموض لكي تسمح بالمرونة الاجتماعية فاتحة عدة ممرات بين الطبقات الاجتماعية.(1/206)
إن الفكرة المثالية «للرجل النبيل» المثقف والإنساني وصاحب الفكر المنفتح والقريب من الإنسان المتعلم الصيني في مدرسة كونفوشيوس وما بعده هذه الفكرة وصلت إلى وضع نموذجي مع أشخاص كسيسرون Cicerone وسنك Séneq وأنطونين أو مارك أورل، وأثبتت أنه بواسطة الجهد والإرادة والتوسط وتطبيق المعرفة والعقل على الموجودات وكذلك بواسطة الاستقامة والتمسك بالقيم الثقافية والأخلاقية كان يستطيع أي عضو في المجتمع أن يحسن وضعه الاجتماعي.(1/207)
بعد أن خرجت أوروبا (التي برزت للوجود على أثر سقوط روما) من حال الانحطاط حيث غرقت فيه نتيجة اختفاء أروع نموذج تنظيمي في تاريخها وضعت نفسها تحت تأثير الكنيسة في نوع من النظام الاجتماعي الذي ذكرنا بالنظام اليوناني القديم. كان تسلسل الطبقات خلال العصر الوسيط بدءاً من طبقة الأسياد وصولاً لطبقة العبيد يشجع مع تقوقعه في نظامه الاجتماعي العلاقات بين طبقات الشعب والتي تقوم على نوع من تبادل الخدمات ومجموعة من القيم التي تستبعد الشراكة الحقيقية، تبادل ذو طابع اقتصادي فقط على طريقة ما يسمى بخذ وهات الذي سيجد فيما بعد استتباباً مع النهوض القوي لبورجوازية المدن. هذه الأخيرة التي كانت تقوم على مرجعيات تجارية وطيدة عملت ما في وسعها لإقامة نهج مزدوج: الأول أيديولوجي بطبيعته لم يكن يعترف بأي تنظيم اجتماعي إلا بذلك الذي كان يناسب شركاء الاقتصاد والذي كان بالقول كما بالهدف يعتمد فقط على منطق الربح. والثاني ولأنه مرتبط بالأول كان يعتبر من الطبيعي بأن الجري نحو الربح كالسياسة ينبعان من إرادة القوة، إن هذه الإرادة ليس لها معنى إلا أن تقوم على السلطة الناجمة عن حيازة الأملاك المادية والتي هي بلغة عصرنا تتلخص بهذا التأكيد: السلطة تعود لمن يملك المال. بدون أي اعتبار للطبقات المحرومة انخرطت البرجوازية منذ القرن الرابع عشر بالحوار مع السياسيين (الملوك – الأمراء – الأسياد – العائلات الكبرى الأرستقراطية) كتطوير للفكرة القائمة بأن السلطة قابلة للاقتسام. فإذاً لم تكن البرجوازية بعد التي تملك رأس المال قد حصلت مبدئياً على القوة السياسية إلا أن البرجوازيين كانوا يملكون بالمقابل القاعدة التي تقوم عليها هذه السياسة: القوة المالية. فبحسب وجهة نظر البرجوازية الصاعدة فإنه يحق فقط لمن يملك شيئاً (مال – عقارات – أراضي – سلطة سياسية) بأن يشترك في اتخاذ القرارات وهو المؤهل لكي تتعامل معه على قدم المساواة.(1/208)
أما من لم يكن يملك أي شيء ممكن ترجمته كماً وعداً فإنه في أحس حال لم يكن يمثل إلا خزاناً تنهل منه لإنتاج المملكة الاقتصادية.
لكن هذا الوضع كان يناسبه بالطبع أن يبقى هؤلاء المحرومون في مواقعهم ويكتفون بالقناعة بدورهم وأن يكونوا وحدات للإنتاج. لذلك راحت تحل جمعيات الإغاثة والإخاء وتعاونيات الحرفيين التي كانت (بالإضافة إلى اتفاقات الشرف حيث كان الأعضاء مدعوين لاحترامه) مسلحة لتدافع عن نفسها ضد المحاولات المتعددة لتكوين الاحتكارات من جانب البرجوازية التجارية. أما بالنسبة للشعب الضعيف والمنهك القوى فقدكان باستطاعة البرجوازية الاعتماد على الكنيسة المؤسساتية للإبقاء على خضوعه للأمر الواقع. على هذا الصعيد كانت أغلبية أعضاء الطبقات الأرستقراطية والأكليروس والتجارة متفقة على أنه لديهم مصالح مشتركة وطيلة العصر الوسيط أعطت رؤية العالم بدعم من الكنيسة لأهل أوروبا تفسيراً للعالم وللمجتمع كان مطمئناً في ذات الوقت للطبقات الحاكمة والطبقات الأدنى التي تشكل لهم اليد العاملة والمستهلكة. إلا أنه وتحت تأثير الأدباء والفنانين والأمراء المتنورين وبعد إعادة اكتشاف مؤلفات التراث القديم لليونان والرومان استطاعت العقول أن تتحرر. أما الكنيسة وبشكل اقل قطعية وبدفع من بعض أبنائها الذين ذكروها بواجبها نحو الفقراء وبإرثها ما قبل المسيحية (الذي كان خليطاً من التسامح وتذوق الجمال) خطت نحو العقائد المتعددة. وما أن طل القرن السادس عشر حتى كانت ردة الفعل حاضرة.(1/209)
وبواسطة الجمع بين العقلية التجارية وبالمراعاة الدقيقة للمبادئ الإنجيلية وضعت الحركة الإصلاحية البرجوازية الرأسمالية على طريق السلطة السياسية. من وجهة النظر الدينية كانت الرأسمالية البروتستانتية بسبب انتمائها لسلالة النخبة ولعملها الجيد واليقين الآخر هو أن هذه النعمة تتحقق بالنجاح المالي والتجاري والمادي، إضافة على أن التمسك الأخلاقي والتمسك بعالم الأعمال شكلت الشرط اللازم لحلول مملكة الرب على الأرض الآن.
على الصعيد الاقتصادي أصبحت العقيدة الليبرالية بصفتها الأولية قد وجدت لتشكل المقاس المناسب لأصحاب الأملاك عن طريق رؤيتها للعالم حيث أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي وفي العادات والتقاليد والقوانين والثقافات يشكل عائقاً للمبادلات التجارية. وما أن وجدت البرجوازية البروتستانتية نفسها في موقع مؤثر على القرارات السياسية حتى أعلنت إدراج هذه الرؤيا في عملية من الطقوسية عبر التعاون الوثيق ما بين النخب دينية كانت أم مثقفة.
وباعتبار أن الفكر التسامحي قد أرسل للمحرقة كان على البروتستانتية التي من البدء كانت منقسمة على نفسها (وهذا سبب تشعبها إلى عدة طوائف) أن تواجه مظاهر المقاومة أو الرفض من قبل الأنظمة القائمة. وكونها مضطهدة ومجبرة على الهجرة وجدت هذه الطوائف المتعنتة نفسها قد وصلت إلى مرحلة البحث عن أرض موعودة تسمح ببناء أمة جديدة تبعث بوقت واحد عقيدتها الدينية (القدس السماوية) وطموحاتها الاقتصادية.
هذه الأمة كانت الولايات المتحدة.(1/210)
إلا أنه وإن كانت المعتقدات الدينية التي حملتها حركة الإصلاح لم تنتصر بسهولة في أوروبا (فقد قامت على الفور حرب جديدة أقل حماسة وهي الحركة المضادة للإصلاح) إلا أن الإنجيل الليبرالي استمال أصحاب الأملاك أينما وجدوا. وباعتبار أنها كانت كنيسة حقيقية لم تنتظر المؤسسة الليبرالية طويلاً كي يعلن «أباء كنيستها» أمثال لوك وسميث وريكاردو وبنتام عن «العقائد» (كالمنفعية والأيدي الخفية ومجموعة المصالح الخاصة التي تقود إلى خير الجميع والتبادل الحر وإطلاق سياسة دعه يعمل دعه يمر) التي لا يمكن إثباتها بالوقائع وعن نوع من أنواع «العقيدة المسيحية» التي احتوت على عدة نصوص مثل مقالة «ثراء الأمم» وعلى «خوارنه»وعلى «مؤسسات» لكي تشرف على التطبيق الصحيح للمبادئ (اليوم هذه المؤسسات هي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمصارف المركزية المستقلة لإضافة إلى الرجال الذين يديرونها).
ضمن هذا الأفق أصبح من الواضح للبرجوازية الليبرالية أنها اقتربت من الهدف (خلال النصف الثاني للقرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر) وكان يجب بمجرد دخولها معابد السلطة كما حدث سابقاً في أوج زمن الكاثوليكية في العصور الوسطى أن تقنع الشعوب أنه لا يوجد نظام أفضل من نظامها. ومن أول انعكاسات الثورة الصناعية في إنكلترا في السنوات التي تلت عام 1770 كان التعبير أكثر فأكثر عن الطموحات البرجوازية الرأسمالية الليبرالية.(1/211)
قبل ألفي عام طالب أفلاطون من أجل ضمان وحدة المجتمع المدني إضافة للفصل الواضح بين الفئات السياسية والعسكرية والاقتصادية ضرورة تعليق السلطتين الاقتصادية والعسكرية بالسياسة وهذا يضمن أن لا يكون للمسؤولين السياسيين أي أفضلية مالية للدخول بقضايا اقتصادية كما يضمن عدم إعطاء أي مسؤولية سياسية لرجال الاقتصاد. بعد ألفي عام وقرون قليلة ملازمة للثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر حصلت فئات المصالح الأوروبية على ما كانت ترنوا إليه دائماً ألا وهو إزالة الحدود بين الكتلة السياسية والكتلة الاقتصادية من أجل أن يندمجا في أحضانهما. وضمن هذه المبادئ تمت تربية جيل الشباب. إذاً كان لزاماً أن يتم تعديل النظام المدرسي القائم.(1/212)
في هذه الأثناء تحركت الطبقات الكادحة وكل أولئك الذين في الطبقات الأخرى لم يتقبلوا أن تقوم بكل اطمئنان في إنكلترا طبقة أرستقراطية من الملاك الذين يستغلون الشعب. وأصبح الأدب بشكل خاص البديل الأيديولوجي الحقيقي وكما لاحظ تري أككلنتون فقد شهد نهاية القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر (إن لم يكن ثلاثة أرباعه) إنكلترا تتحول إلى دولة بوليسية ذات مؤسسات كان عليها الحفاظ على مكاسب المستفيدين من النظام نفسه. وأقامت الأنظمة البرجوازية الجديدة في أوروبا أيديولوجية نفعية شرسة ومدعية حلمت الطبقة الوسطى التي ولدت بعد الثورة الصناعية أن تجعلها أبدية وأن تنشرها في كل مكان. هذه الأيديولوجية كما عبرت عنه مقدمة كتاب ديكنز «الأوقات الصعبة Hard Times» كانت تهدف إلى «تقديس ما هو عملي وتقليص العلاقات الإنسانية إلى نظام تبادلي سلعي مع ازدراء الفن بحجة أنه ليس أكثر من زينة غير مفيدة». ومقابل فظاظة الرأسمالية الهدامة للعلاقات الاجتماعية التي حولت العمل إلى وسيلة للاستلاب تحت غطاء نظام الرواتب الذي شكل الرصيد الأدنى لعبودية جديدة ولا يرى شيئاً غير قابل لكي يترجم إلى كميات من التبادل في السوق الحرة، مقابل ذلك صنع الرومنطقيون (ورد ثورث – كولريدج ثم وبشكل أعنف شيلي – كيتس – بيرون) من الخيال الخلاق «أحد الأطواق النادرة» حيث كانت القيم الإنسانية لها حق الحياة والدفاع الذاتي في وجه المبادئ الآلية وغير الإنسانية للرأسمالية الصناعية.(1/213)
أخذت ردة الفعل الحقيقية شكلها من خلال الأدب. ديكنز طبعاً وديزرائيلي أيضاً الذي وصف «الأمتين» (الأغنياء والفقراء) في كتابه سيبل عام 1845 وجورج غسينغ في العمال في داون 1880 وانكلاسد 1884 وديموس 1886 الذي سخر من أنانية وخبث الطبقات المالكة ولكنه عبر عن شكه في قدرة الطبقات الكادحة على التحرر وعلى إظهار مبدأ الغيرية للوصول إلى هذا الهدف ... وكذلك أتش. جي. ويلز في الزمن الآلة وراويات أخرى كثيرة ... وردة الفعل هذه ظهرت أيضاً في حركات النقابيين والحركات الاجتماعية السياسية وفي المحاولات الإصلاحية التي لم يفد بعضها وخاصة تلك التي حدثت عام 1832 إلا الطبقات الوسطى على حساب العمال. كما ظهرت ردة الفعل عبر الجهود المعزولة ولكنها كانت حاسمة في تقرير فريدريك أنجلز حول واقع الطبقة الكادحة في إنكلترا (1845) وجهود كارل ماركس بشكل خاص.(1/214)
وقد أدت هذه السنوات من النضال والاستنكار على مستوى القارة بأسرها إلى جعل البرجوازية الرأسمالية أن تدفع الثمن وأن تتخلى عن بعض المواقع، إلا أنه كانت تنتظرها أيام أفضل فقد كانت أنظارها تتجه إلى ما وراء الأطلسي. فأعطتها الحرب العالمية الثانية والعالم المتجه نحو الأمركة بعد بريتون وودز الفرصة للانتقام. وهنا تكمن إحدى عقد المسألة، فأن يكون للولايات المتحدة امتلاك الهيمنة العسكرية والاقتصادية هذا لا يتحقق إلا إذا توصلت في الوقت نفسه على الصعيد العالمي إلى نسج شبكة من التواطؤ والاتفاقات المستترة تضم في أغلب البلدان بعض المجموعات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتنفذة والتي ترى في الولايات المتحدة النموذج الأمثل للأمة التي ترجمت مادياً مفهوم «الأمة لشركة مغفلة» وقدمت لها النموذج الذي تقتدي به هذه الأمة التي تمسك بسيادتها والتي يجب تقليدها وإلا فاتنا قطار «الحداثة». ولكي تستطيع الأمة الرأسمالية الليبرالية الأمريكية أن تصل إلى تحقيق مهمتها التي كانت تعتقد أنها مكلفة بها سماوياً كان يجب على أكبر عدد ممكن من أغنياء العالم أن يقدموا لها العون في هذه المهمة أو على الأقل أن لا يشكلوا عائقاً لها.
إن التعاطف العملي لهذه المجموعات المتواطئة مع الولايات المتحدة يشكل ضرورة لها لكي تتابع مسيرتها كي تصل إلى الهيمنة الأخيرة ألا وهي الهيمنة على الاتصالات.
الخبز وألعاب السيرك(1):
__________
(1) عبارة مشهورة وجهها باحتقار الشاعر «جوفينال» (60-130م) إلى سكان روما، في أشعاره الهجائية، ويقصد بها أنهم لا يهتمون إلا بتوزيع القمح المجاني وبألعاب «السيرك».(1/215)
اشتمل عالم الاتصالات على «الخبز والرهانات» التي شدت إليها اهتمام حكام روما القديمة. فإذا كان الخبز ينتمي بشكل أكبر إلى الدائرة الاقتصادية ولكنه ليس غائباً بشكل كلي عن دائرة الاتصالات بالمعنى الأوسع للمفهوم لأنه يساهم في وقت واحد في العادات الغذائية وفي الشكل الأكثر حداثة واستهدافاً للدعاية ألا وهو عالم الإعلانات. فتغذية الطبقات الشعبية وعدم القدرة على الاستجابة للحاجات الغذائية للجميع والعمل على إلهاء أصحاب الحظ السيئ والمحرومين والمهملين بالألعاب كل ذلك شكل دائماً الهم الأكبر للحكام، ضمن هذا المنظور يظهر فن الاتصالات الذي يتضمن فن الدعاية وقد احتل فيه المقام الأول.
نستطيع أن نفهم أهمية الاتصالات عند قراءة تعريفها: فهي مجموعة الأفعال التي يتبادل من خلالها الكائن البشري مع أبناء جنسه الأنباء والمشاعر والانطباعات والانفعالات والأفكار والمعتقدات والطقوس ... إلخ تتم هذه التبادلات بواسطة أقنية ووسائل نستطيع شكلياً تقسيمها على الشكل التالي:
1- وسائل محدودة (تربط عدداً محدداً من الأفراد داخل دائرة تتفاعل فيما بينها بشكل حميمي) مثل المحادثة وتبادل وجهات النظر والدردشة والمحاضرات والندوات الشفهية والبطاقات الحميمية والملاحظات المكتوبة والأفلام والتسجيلات على المستوى السمعي البصري ... إلخ.
2- وسائل جماهرية: الصحافة المكتوبة والتلفاز والسينما والطباعة والإعلان والفنون التشكيلية ... إلخ.(1/216)
نلاحظ أن مجموعة كل مكونات الاتصالات بالشكل التي تم تحديدها (تبادلات ووسائل) تضم كامل الدوائر الإعلامية التي تكون النشاط البشري فيما يمكن أن يكون الشيء الأساسي لأن ذلك كما نرى يشكل روحها. إذاً نستطيع أن ندرك بسهولة كم أن السيطرة الإقطاعية التي أنجزت عملياً على هذه الدوائر بواسطة قواعد السوق والتبادل التجاري باتت تشكل اليوم انفصالاً قاتلاً في تطور الحضارة الغربية كما عهدناها حتى يومنا هذا. نلاحظ أخيراً بأن الإمساك باحتكار هذا المجال يعرض الحرية البشرية للخطر في أعز ما تملك. ضمن هذا الإطار نقول أنه قد أنجزت خطوة لا عودة عنها في الاتجاه السيئ من قبل الولايات المتحدة ومن بعض المجموعات الكبرى الصناعية والمالية والتجارية في العالم. وبسبب المناورات التي بدأت منذ عشرات السنين والتي شملت عمليات ضم وانضمام وتفاهم بين مجموعات صحفية واتصالات وبين أصحاب مصانع صهر المعادن الثمينة والمواد العالية التقنية من كتب وأفلام وصحف ومنتجات من كل صنف أصبحت هذه المجموعات تحت سيطرة فئات لا يعادل قوتها المالية أي شيء في العالم مع تقلص واضح في عددها وانخفاض في عدد الأيادي التي يمكن أن تحركها. هذه الفئات عملت على بسط نفوذها بشكل واسع على الصعيد الكوني.(1/217)
وهكذا فإن المناورات التي هدفت إلى فرض أيديولوجيتها ثم احتكار وسائل نشرها (أي الأيولوجية) قد بدأت بشكل جدي منذ نهاية الصراع العالمي الأخير. لقد فهمت الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية بأن الفوز بالعقول يمر بهذا الإلغاء لهوية الآخرين وهو ما يسمى بالمثاقفة واتسبدالها بهوية جماعية قيمة بنظرهم والتي بالطبع هي هويتهم. ولكي يصبح العالم أمريكياً يجب أولاً أن نقنع الآخرين بتفوق النموذج الأمريكي على ما سواه، بعد ذلك كان يجب شن حملات هجومية ضد كل ما يمكن أن يشكل تهديداً له.وبمساعدة مجموعة أصحاب المصالح الاقتصادية وأصحاب الثروات العالمي استطاع الأمريكيون الهجوم على أساسين لهوية الشعوب: الإرث الجماعي والأداة الثقافية والعاطفية التي تتيح للفرد إمكانية التفكير والحكم واتخاذ القرار.
إن الإرث الجماعي للشعب هو لغته وتاريخه ونبوغه ومكتسباته الفنية والأدبية والعلمية والقافية وتقاليده أيضاً التي تشتمل على نظام القيم لأي مجموعة بشرية والذي يتضمن سماته(1) الثقافية وعاداته وتقاليده وتراثه وطريقة لبسه وغذائه وأسلوب عمله ولهوه وتصوره طرق تسليته وحبه وموته والأداة تتكون من تصوراته التحليلية والاستنتاجية والجمالية وحساسيته وتفهمه التي تقوده إلى فهم شامل للعالم وإلى تطبيق عملي لتفكيره ولقراره أي في نهاية المطاف إلى اختيار اتجاهاته لممارسة أفعاله. وعند تزوير إدراك شعب ما لإرثه بإبعاد هذا الإرث شيئاً فشيئاً وإبداله بإرث مختلف عن طريق صناعة عادات وهيكليات تفسيرية نابعة من مصدر أيديولوجي غريب نكون بهذه الطريقة قد قمنا باستلاب روح هذا الشعب وتحويله إلى قطيع.
__________
(1) الوحدة الدنيا للمعنى الثقافي غير الظاهرة، أي ضمنية وغير مدركة كما في علم الدلالة حيث أن السمات للغات الطبيعة لا تظهر في البنية اللغوية المستخدمة وتسمى بالوحدات الدنيا للمعنى.(1/218)
وضمن الإطار العام للهجمة الليبرالية على الصعيد الكوني تهدف إمبريالية الولايات المتحدة إلى جعل التقاليد والتذوق والرغبات ذات نمط واحد وإلى تسوية وتوحيد العادات والمظاهر وإلى القصور الذهني وإلى التطور التبسيطي الدولي. الهدف النهائي من وراء ذلك هو تقسيم البشرية إلى كتلتين متواجهتين: الأولى وفيرة العدد مؤلفة من الزبائن (المشترين والمستهلكين ودافعي الضرائب) اللذين يساهمون بأعمالهم بزيادة ثروات الطبقات المالكة وبدفع مسيرة المعمورة. الثانية قليلة العدد مؤلفة من الباعة (صناعيين وتجار وممولين ووسطاء تجار) اللذين يساهمون بشكل ضعيف بمسيرة تجمع ما، وهم بشكل أو آخر غير معنيين بهذا التجمع. فهم يكتفون بتقويم السوق التجاري من أجل قواتهم لأن باستثمار فوائدهم الضخمة يساهمون بخدمة مضاعفة الأرباح لصالحهم بشكل كامل. إن هذا التصدير الشكلي حتماً يتيح لنا قراءة فظة ولكن منسجمة مع الواقع المعاصر.(1/219)
لكي يحافظ هذا النظام القائم على فعاليته كان عليه أن يعمل بعمق من أجل تفتيت كل ما يشكل الهوية الجماعية التي يراها عوائق لنظام التبادل. ولكي تفقد الشعوب في كل مكان والتي عرفت بمجموعات من رجال ونساء وأولاد يجمعهم ببعض ثقافة مشتركة تعمل فعلاً على تضامنهم لكي تفقد هذه الشعوب في كل مكان ردود فعلها الجماعية المغروسة في ذاكرة مجتمعها كان يكفي أن نحولها لكتلة أي إلى كومة مكدسة من الأفراد اللامبالين دون تميزيه ودون ثقافة ذاتية عديمي الجنسية مستهلكين في نظام التبادل مدعوين إلى الأداء الوظيفي داخل بنية محكومة فقط بالقوانين الاقتصادية. هذا المشروع لإقامة الكتل وصل إلى إقامة قانون الغاب وحرب الجميع ضد الجميع التي تشجع كسب الثروات وتنتصر لقانون الأقوى والأسرع والأقل تردداً والأكثر مكيدة والأكثر تسلحاً بعقلية الكسب والأكثر أنانية وذلك عن طريق إزاحة المنافس واحتكار السلطات واستغلال المنتجين المستهلكين. كل هذا يمر عبر تدمير النخب القادرة أن تقود سياسياً وتضيء ثقافياً الشعب. ويتم مثل هذا التدمير بشكل أكثر فعالية عندما تكون الطبقة المالكة تمسك بعصب هذه الحرب ألا وهو المال.
المعركة المقصود فيها هنا هي مواجهة بين الإنسان الاقتصادي الذي نذر نفسه لإله التجارة والمال والذي قرر أن يجعل من الكون سوقاً واسعة لا حدود لها والرجل المثقف الذي يرى أن سؤال سقراط: من أكون؟ هو السؤال الجوهري. إن منع الأفراد من طرح هذا السؤال أو عند طرحه نمنعهم من الإجابة عليه خارج الطريقة المخطط لها ذات الوجه الواحد والتي تم تكليفها، هذا المنع شكل القضية التي شغلت منذ الأزل الأنظمة الاستبدادية. وبشكل منطقي كان على الاستبدادية الليبرالية أن تنذر نفسها من أجل ذلك.(1/220)
على سبيل الذكر الولايات المتحدة تقوم بالجمع بين الدور الرمزي للرأسمالية الليبرالية وبين الإرادة الإمبريالية التي عليها تأدية المهمة الإلهية التي أوكلت إليها. وإذا لم ننس بأنه وفي كل مكان هناك شراكه موضوعية بين الكتل صاحبة المصالح وبين الولايات المتحدة وخاصة في سعيها للسلطة وهي شركاء بالذات في مؤسسات احتكار هذه القوة العجيبة لمجال الاتصال نستطيع حينها أن نتناول مسألة الاتصال بنظرة جديدة وذكية.
عن التزوير كفنّ هام:
لماذا يمكن أن يشكل احتكار وسائل الاتصال ميزة حاسمة لمن يستطيع الإمساك به ؟؟ لأنه كما قلنا يمثل كامل الوظائف الذهنية للبشر وللشعوب إنه يشكل روحهم. يرتكز النجاح الأول الأمريكي في مجال الاتصال على تناقض ومفارقة. فرغم أنها أمة مخاتلة وصلفة وشرسة(1) ومسؤولة عن عدة تدخلات خارج حدودها الشرعية منذ نهاية حرب الاستقلال(2) كما أنها كانت موضع كراهية عدة شعوب إلا أن الولايات المتحدة ورغم كل هذا استطاعت أن تكوّن رأياً عاماً يؤيدها. ويفسر ذلك الدعاية والإعلام. فتزوير التاريخ والتلاعب بالإعلام وهما اللذان أدانهما أورويل Orwell عام 1984 وهما ما كان يميز الأنظمة الفاشية والماركسية كانا ودون معرفة الرأي العام في صلب الأساليب التي استخدمها الأمريكيون بدهاء. لقد كان ذلك بفضل عدة عوامل وهي: السيطرة الطويلة على الدعاية واحتكار وكالات الأنباء الدولية الكبرى وقوتهم المالية وكذلك أيضاً سلبية مؤسسات الإعلام والتربية والحكومات في مجمل بلاد العالم.
__________
(1) نذكر هنا بقول ملفيل الذي ورد سابقاً
(2) انظر الملحق: التدخلات الأمريكية الرئيسية في العالم.(1/221)
لقد تجلت الدعاية الأمريكية والدعاية الموالية لها في بداية الأمر من خلال الدور الذي قامت به الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية. دون شك لقد أدت أمريكا خدمة مميزة لأوروبا التي كانت ترزح تحت الحذاء النازي. آلاف الشباب قتلوا على شواطئ النورماندي وفي غابة منطقة الأردين من أجل تحرير الأوروبيين من الطغيان الذي كان لبعض مفاهيمه كنقاوة العرق والقضاء على الضعفاء عشية 1939 صدى مؤيد في بعض أوساط ما وراء الأطلسي. وتجبرنا الحقيقة أن نقول أنه من بين الفرق العسكرية الأربع للحلفاء التي نزلت عند شواطئ فرنسا في 6 حزيران 1944 كان هناك فرقتين فقط أمريكية وهي الفرقة السابعة بقيادة المايجور جنرال كولنز والخامسة بقيادة المايجور جنرال جرو. الفرقتان المتبقيتان كانتا بريطانية (الفرقة 30 للجنرال بوكنل والأولى للجنرال كروكر والفرقتان ضمتا ألوية بريطانية وكندية). أهالي مناطق الإنزال كانوا على معرفة بذلك حتى أن الأقاويل التي سرت حينها كانت تردد «نزل البريطانيون! نزل البريطانيون!» فبالنسبة للجميع في ذلك الوقت كان المنقذون بريطانيون قبل كل شيء. حملة تغير الحقائق خلال 20-30 عاماً أعطت للأمريكيين فقط الشرف الكامل بتحرير أوروبا. بالواقع اتفق الأوروبيون والأمريكيون مصادفةً على عدد من القيم، وهكذا من جديد لم تتأخر الفرصة كي تأتي لتتيح للولايات المتحدة أن تضع يدها على حلقة ثالثة مما ضمن لها الزعامة الدولية.(1/222)
مصدر مثل هذه القراءة المعادة لتاريخ الحرب العالمية الثانية يكمن في أن الأمريكيين كانوا من أوائل من مارس الهيمنة على وسائل الإعلام الأساسية التي بفضلها لم يتوانوا عن أن يفرضوا في كل مكان صورة وهمية عدائية للثقافات القومية. هذه الوسائل تتكون من وكالات أنباء ودعاية وسينما وتلفزيون ومن مؤسسات استفتاء واتصالات.لقد سمحت لهم السيطرة على وسائل الإعلام الأساسية أن يمارسوا بدءاً من فترة ما بين الحربين تأثيراً حاسماً على العناصر العظمى التي تشكل الدائرة الروحية للشعوب: التقاليد والتربية واللغة هذه العناصر تشكل مجموع كل النشاطات التي يستطيع من خلالها شعب ما أن يتميز عن الشعوب الأخرى ويؤكد ذاته كونه فعلاً أمة فريدة.(1/223)
في عام 1848 ولدت في الولايات المتحدة وكالة الأنباء الأسوسيثت برس (الصحافة المتحدة)تبعها بعد ذلك يونايتد برس الأسوسيثت (مجموعة الصحافة المتحدة) عام 1907 وانترناشيونال نيوز سرفس (وكالة الأنباء الدولية) عام 1909 وانضمت عام 1958 إلى وكالة يونايتد برس انترناشيونال (اتحاد الصحافة الدولية). وإذا أضفنا إلى ذلك وكالة رويتر التي تنتمي اليوم إلى صحافة بريطانيا العظمى وأوستراليا ونيوزيلاند كمعظم الوكالات غير الأمريكية في العالم التي تكتفي في أغلب الأوقات بأخذ أخبارها من الوكالات الأمريكية نستطيع أن نحصل عندها على تكتل قادر أن يسيطر على 90% من الأنباء المبثوثة(1) وبواسطة الصحف الرئيسية ذات الصيت الدولي (نيويورك تايمز الصادرة عام 1851 ونيويورك هرالد تريبيون) والمجلات (لريدير دايجست وناشينال جيوغرافيك مكازين والبلاي بوي والتايم ونيوز ويك) وشبكات التلفزة (أن.بي.سي – أي.بي.سي – وفي عام 1980 سي.أن.أن C.N.N المحطة الكونية الأولى) تمسك الولايات المتحدة بسلطة ذات أهمية لا يستهان بها تسمح لها منذ عشرات السنين بالتكيف بتفكير عدة مليارات من الأشخاص. فعن طريق الصحافة والسينما والتلفاز والراديو قامت طريقة تكيف الثقافة والتقاليد والإعلام والسياسة واستخدام القوة وحتى كتابة ولفظ الإنكليزية بالطريقة الأمريكية وإدخال هذه الطريقة في العقول.
__________
(1) الوكالة التلغرافية السويسرية مثلاً لا تشذ عن هذه القاعدة فهي تستوحي برقياتها من الوكالات الأمريكية وقامت مؤخراً بنشر بياناً تهكمياً لخطاب فيدل كاسترو أمام أعضاء الحزب الشيوعي الكوبي. فكل جملة مهمة لفظها رئيس الدولة الكوبية حولت إلى جمل ساخرة بما في ذلك ذكر تشي غيفارا الذي اغتيل بأمر من واشنطن منذ ثلاثين عاماً. إن سويسرا التي استوحت مباشرة دستورها من الدستور الأمريكي تقوم بشكل حقيقي بتغذية شغفها للولايات المتحدة وللنموذج الأمريكي.(1/224)
إن وسائل الاتصالات حيزاً متميزاً للتحالفات بين الوسائل الاقتصادية وسلاح النشر الجماهيري وهذا ما وصل إليه التعاون بين وكالات الأنباء الأمريكية الموجودة في كل دول العالم خلال حرب الخليج: احتجاز الأخبار، إيصالها بالقنوات المختلفة بتحيز منهجي للروايات الأمريكية مرفقة بحملة من تسميم العقول(1). إن الأحداث التي سبقت الحرب مثلاً ما كانت إلا صدىً لما كان قد حدث سابقاً قبل الحرب الكورية أو الحرب في فيتنام(2).
سلاح الدعاية:
إن لم يكن الأمريكيون هم الذين اخترعوا الدعاية إلا أنهم بالمقابل هم الذين جعلوا منها سلاحاً فعالاً للتحكم بالجماهير وللغزو السياسي والاقتصادي والثقافي. فالدعاية التي استخدمت بشكل منهجي ومكثف بعد الحرب العالمية الأولى فرضت نفسها في كل مكان ولم تترك متراً مربعاً واحداً من الجدران واللوحات والواجهات وحتى في السماء بفضل استخدام الطائرات: فحولت الإنسان إلى أداة خاصة بها لترويج ميزات هذا النوع من السجق أو الشمع الملمع وانتشرت بشكلها المهين لرجل يحمل لوحتين إعلانيتين على صدره وظهره.
__________
(1) انظر الملحق.
(2) انظر الملحق.(1/225)
ومهما ظهرت ناعمة ولطيفة بالنسبة لعدد كبير من الناس لأنها أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية إلا أن الدعاية رغم ذلك تشكل خطراً قد يستهان به إلا أنه قاتل. إن الطريقة التي صنع بها الأمريكيون الدعاية جعلتها خطيرة بطبيعتها وبأسلوب استخدامها وبانعكاساتها الناتجة عنها. وبما أن الدعاية ترتكز بالطبع ليس على المعرفة التي يجب أن نملكها عن الشيء بل عن اللذة التي نحصل عليها ومن جهة أخرى على المعين الوحيد وهو الارتياح الشخصي لذلك أدخلت إلى المنتج الذي تروجه الشعور بالسعادة الذي أمتد إلى مجمل نظرتنا إلى العالم الذي تمثله. في كتاب «السعادة الملائمة» قال فرانسوا برون عن الدعاية بأنها:«تضفي انعكاسات حمقاء على أناس أذكياء». وإعطاء مشاعر الفرح للواقع يتم بطريقة مضحكة لعوبة ملائكية وظاهرياً ليست عدوانية. ولأنها تتعامل مع كل شيء تتناوله على أنه سلعة لذلك فإن الدعاية تجعل رؤية الشيء معوجة لدى من يخضع لها بخلق تناقض بين القيمة والنوعية الضمنية للسلعة وبين التقديم المبالغ به: في الحقيقة لا تقدم الدعاية أي دليل بأن السلعة هي حقاً تمثل ما يقال عنها.(1/226)
الخطر يصبح أكبر عندما تستعمل الدعاية وسائل أكثر تضليلاً. إن الأساليب الحالية بعد أن أثبتت نجاحاتها في عدة مجالات (كاللغة المنمقة) وأصبحت أكثر فعالية بفضل تقنيات مهمة (صور مركبة) ضاعفت عشرات المرات الأثر الحاسم للدعاية على المشاهد أو القارئ. فعندما نربط نوع سجائر أو رائحة عطر بصور تظهر فعل التدخين أو التطيب مع مشهد جميل وخيالي لكنه طبيعي المظهر صحي ساحر مع صورة أبطال (من يدخن أو يتطيب) جميلين معافين، تنجز الدعاية هكذا عدة عمليات بلاغية ذات أثر لا علاقة له بهذا الالتفاف الذي يبقى صعب الإدراك من قبل عقل غير متمرس وقليل الحذر. إن مسخ الواقع علناً عن طريق إعطاء ميزات مشهد ما وطبائع البطل الممثل للسلعة التي هي بالحقيقة تعرض الصحة للخطر (السيجارة) أو هي تافهة (رائحة) – حتى لو كان من المفضل أن تكون رائحتنا طيبة لا نتنة – إن هذا المسخ يستطيع أن يؤثر بعمق على المخيلة لدرجة جعلها مضطربة. إن القصف الإعلاني الذي يجعل المشاهد أو المستمع وسيلة والصفعات التي تنتظر المتنزه عند كل زاوية شارع تسبب لمخيلة أغلب الناس المعاصرين أضراراً ضخمة وعميقة. فعندما تحتل الدعاية بهذه الطريقة الحيز المكاني بحيث تصبح الأفلام والأخبار والأفلام الوثائقية والحوارات السياسية والثقافية ليست أكثر من شواطئ خيالية في عالم دعائي غير محدود. حتى لو حاولنا تجاهل ذلك فإن الدعاية سوف تؤدي إلى تهجير المخيلة الذاتية والجماعية (عنصر داخلي المنشأ) لتضع مكانه مخيلة أخرى (عنصر خارجي المنشأ).(1/227)
إن ما تفعله صفعات الإعلان هو تدمير ذري للحقيقة المرئية والمسموعة وتعليب للواقع يضاف إليه بواسطة الالتفاف البلاغي المنمق الإلغاء الزمني الضروري للتفكير ولهضم المعلومة المغلوطة المرسلة (والمسببة للسعادة). إن التورط السياسي والاقتصادي نتيجة ذلك يبدو كبيراً. سياسياً هي تؤدي إلى المثاقفة (محو ثقافة أخرى) بإبدال مخيلة بأخرى أي المخيلة المتعددة التمثل الخاصة بالثقافة الأوروبية بمخيلة أحادية البعد، تجارية نابعة من الاختزال الاقتصادي الملازم لليبرالية. اقتصادياً تقوم الدعاية بالتأثير على العقول بوضعها في قالب ذي بنية معدة هدفها تجاري بحت وتستخدم الغاية الوحيدة لكل خطاب، فهي لا تحترم أي شيء أو غير قابلة للتعبير عنها بأرقام السوق. وهكذا تختلط «عملية تشويه العالم» وخاصة العالم البشري المتوارث من آلاف السنين للحضارة اليونانية اللاتينية المسيحية عن طريق التفاهات، تختلط بعملية قلب القيم وبالتحويل الأحادي البعد للكون.
السلاح التلفازي:
منذ أكثر من عشرين عاماً ارتبطت الدعاية بشكل قطعي مع التلفاز. لقد شكلت الشاشة الصغيرة جزءاً أساسياً من تكوين جميع المنازل. وإن استخدمت بذكاء فهي تستطيع أن تكون أداة ثمينة لاكتساب المعارف، وبالمقابل إن استخدمت بدون روية تصبح بدون شك أداة خبيثة. إن تعميم نظام البث عبر الكابل سمح بالتقاط عشرات الأقنية وستصبح مئات بعد زمن قصير بل آلاف، وبالبرامج المبثوثة من جميع الأنحاء من المفترض أن تساهم بنمو البشرية والشعوب وبالانفتاح نحو الآخر والثقافات وطرق التفكير. إلا أن الواقع كان عكس ذلك.
لنستعرض بإيجاز الحرب الثقافية بين الولايات المتحدة وأوروبا (وخاصة فرنسا كهدف أساسي) والحرب التكنولوجية والعلاقة مع السينما.(1/228)
التلفاز هو أداة قوية للمثاقفة، وتستخدمه كبرى التكتلات الإعلامية في الولايات المتحدة مدعومة في أغلب الأوقات من المسؤولين عن أكثرية القنوات الأوروبية. مراجعة بسيطة للبرامج الرئيسية الفرنسية تعبر بوضوح عن هذا الواقع.
قناة عامة كالقناة الفرنسية الثانية France 2 تبث حوالي 300 دقيقة من البرامج اليومية التي تساهم تدريجياً بالدعاية للطريقة الأمريكية بالتفكير وبرؤية العالم وهذا يحتل 25% من البرامج المبثوثة. يضاف إلى ذلك الصفعات الإعلانية ذات الطابع الأمريكي – الليبرالي. إلى جانب هذه النسبة المئوية التي لا تختلف عنها النسبة المبثوثة على القناة الثالثة FR3 التي يتناقض دورها كقناة عامة فرنسية وأوروبية شيئاً فشيئاً. هناك أيضاً النسب على القنوات الخاصة وهي معبرة. على القناة الفرنسية TF1 هناك حوالي 810 دقائق بث معظمها أمريكية أو أمريكية الشكل، ولأسباب تجارية تحتل هذه البرامج 67% من إجمالي البث. وإذا كانت القناة السادسة M6 تقدم لوحة مشابهة تقريباً إلا أنها تضاعف من هذه الظاهرة عبر الأغاني المصورة Clips التي تولد تأثيراً مضللاً. أخبار ذات طابع موسيقي وكل شيء – بما في ذلك الإطار حيث يقف المغنون – يقوم على أساس الصور الهاربة ذات الحركة الدائمة وبالكاد تحبس الأنفاس من واحد إلى آخر وتمنع الانتباه والتفكير من التركيز.(1/229)
كل ذلك سيكون له على المدى الطويل نتائج تضر بالملكة الضرورية لاكتساب المعرفة والثقافة، وهذه الملكة هي التركيز. فالعالم لم يعد يُدرك ككل بل كتسلسل احساسات مرئية ومسموعة عابرة وخاطفة إذاً، تافهة تحمل بذاتها قيماً مشابهة لها لا معنى لها. وهكذا يبدو طالب المدرسة عاجزاً عن تركيز انتباهه لأكثر من خمس دقائق ويصبح عاجزاً دماغياً بهذه القدرة الضامرة على قراءة بلزاك وشتوبريان أو زولا. خيبة الأمل هذه حيث لا دليل لها ولا مراجع أكيدة تجعلها أن تهيم من فكرة إلى أخرى مع استحالة أن يستطيع أن يجمع بينهما. لقد امتلأ عالمه بصور ملونة مصنوعة من أمواج زرقاء من شواطئ كاليفورنيا وبيوت فخمة مع مسابح لأغنياء فلوريدا ومن مخيمات الجامعات الخاصة على الشواطئ الشرقية أو على شواطئ المحيط الهادي. إنها صورة ممزوجة بمشاهد الفتيات بوجوه لينة وباستدارات سيلوكونية، رؤية العالم على هذا الشكل التي فرضت مع مرور الأيام على الشباب بواسطة التكرار والجعجعة بلا طحين عن طريق دفعات من الصور والأصوات لا ترتكز على العالم كما هو بالواقع بل على مشهد العالم. فتنحي الحقيقة بغموضها وبتنويعاتها ليظهر بدل عنها رؤية كالبطاقة البريدية باردة وبسيطة ومتحركة. المشاهد هنا لا يصبح أكثر من ناظر(1) عاجز عن أي ردة فعل ما عدا تقليده للصورة التي ترسل له كصورة عنه. هذه الصفة الأخرى للتلفزيون الأمريكي – الليبرالي التي هي التبادل السلعي المتمثلة بالبيع عن طريق التلفاز Téléshopping يطبع كل ما يعرض على الشاشة.
__________
(1) فكرة الخطر من أن يصبح العالم عالم من الناظرين كان قد رفضها الكاتب آلان غريه في كتابه «الناظر».(1/230)
العلاقات الإنسانية تُختضر بأيديولوجية السوق عن طريق العرض والطلب وهنا تطرح نفسها الفرضية الأساسية وهي أننا نستطيع أن نحصل على كل شيء ولكن لكل شيء ثمنه. وككل مشاهد يستطيع إنسان نهاية هذا القرن أن يشبه بأي شخص من أولئك اللذين يمرون أمامه. إنه يستطيع أن يقرر اكتساب أي سلعة يستخدمها هؤلاء الأشخاص بشرط أن يشتري سيارة أمريكية مثلهم وبذلة من الحرير مثل أبطال المسلسلات الأمريكية ويشتري فيلا ومسدس وطائرة وخلاط ولم لا امرأة جميلة أيضاً. ولكي يحصل ذلك يلزمه بالطبع المال، لذلك يبدو من الضروري أن يتوفر لديه الكثير منه. هؤلاء اللذين يتبخترون أمام عينيه ألا يبرهنون له بشكل خاص أنه لا يوجد هناك أي شيء أهم من المال وأليست كل الوسائل مسموحة وكل المخططات مشروعة وكل الحيل مطلوبة لكي يحصلوا عليه بالحيلة كي يسمحوا للآخرين بالنيل منهم؟!! إنه انعكاس للنظام الذي يتطلب أن نصبح هذا البطل الذي نشاهده ونعجب به ونرتهن له. كل الحركات تصبح متجهة نحو التبادل الوحيد الذي يستحق كل الاحترام، إنه التبادل الوحيد الذي يستحق كل الاحترام إنه التبادل السلعي، تبادل يفقر أكثر عدد من الناس ويزيد بثروات الأقلية منهم. للمنتجات الأمريكية هذه جانب آخر مفسد فهي تدفع أيضاً للمنافسة وبما أن الشغل الشاغل للتلفازات الأجنبية وخاصة الأوروبية والبرازيلية أن تبحر باتجاه الريح فقامت تنسخ أكثر فأكثر الطرق الروائية والأدوات المكونة للمسلسلات الأمريكية وغالباً ما كان يحصل ذلك بشكل ممسوخ فمرة ضاربة طبلة باللباس العسكري الأمريكي تهز بأوراكها على طول الشوارع وأخرى طلاب يلعبون بكرة السلة يرسمون من جديد المشهد العمراني الفرنسي والإيطالي أو البرتغالي بألوان شوارع وجامعات الغرب الأمريكي جاعلين بهذه الطريقة الحدود مبهمة أكثر فأكثر بين عالمين قاما بتطبيع مراجعهما الثقافية: أحدهم الأوروبي وهو تابع للآخر: الأمريكي.
المدفعية الهوليودية:(1/231)
المعركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا التي هي في وقت واحد معركة تكنولوجية وتجارية وثقافية بدأت منذ ولادة هذا الفن الذي سيصبح مهماً وهو السينما. بداية الصراع كانت حول من هو الذي اكتشفه فكانت المواجهة بين الأخوين لومبر وتوماس أديسون. وكما برهنت مؤخراً معركة اكتشاف مرض السيدا لا تقبل الولايات المتحدة بسهولة أن تعطي أبوة الاكتشاف في بعض المجالات المهمة لأحد غيرها وخاصة إذا كان هذا التصرف يدرّ الأرباح. ففي مجال السينما السعفة هي من حق أوروبا وعندما احتل ليون غومون Gaumont وشارل باتيه Pathé المركز الأول في السوق الدولية كظم الأمريكيون غيظهم والحقد يملأ قلوبهم. ولما ولدت السينما الناطقة استطاع الأمريكيون جذب كل النجوم والمواهب الأوروبية الواعدة في المسرح والسينما، 80% من الأفلام الهوليودية التي عرفت شهرة واسعة في فترة ما بين الحربين لم يكن لها أبداً أن تحقق ما حققته لولا المبدعين مثل شابلن وهيتشكوك وستنبرغ وعشرات غيرهم أو ممثلين وممثلات مثل أنغريد برغمن وبول برينر وشارلي شابلن ومادلين ديترش وأرول فلاين وغرتا غاربو وكاري كرنت ... إلخ بعضهم كمارسيلو ماستروياني كان له شرف مقاومة هذا الجذب.(1/232)
أدرك الأمريكيون مبكراً جداً الدور البارز الذي يمكن أن تلعبه هذه الأداة المؤثرة على العقول لتسحرها وتفرض على العالم صورة إيجابية عن النموذج الأمريكي. وهكذا وإلى جانب المال ميزت البساطة المانوية(1) والفعالية بالتصوير الأفلام الهوليودية. وتشكل ظاهرة والت ديزني مثالاً صارخاً في هذا المجال. والت ديزني المتعاطف مع النازية والمهاجم في لجنة مكارثي كل أولئك اللذين يتهمهم بالشيوعية لم يخترع الصور المتحركة ولم يكتب حتى سيناريوهات أصلية. عرف ديزني (مدفوعاً بروح الاستثمار وبموهبة رجال الأعمال الحادة) كيف يستفيد من اختراع فرنسي لم تعطه فرنسا أهمية مستغلاً الجاهزية المالية الكبرى لأمريكا بعد الحرب العالمية الأولى فأقام مصنعاً سينمائياً ضخماً. ويجدر بنا هنا أن نعترف لديزني ولكل من وضعهم حوله ببراعته بالوصول إلى نوع من الإتقان في تحريك الرسوم وفي حركة التنقل وفي فعالية تحريك العواطف وكذلك في إضفاء روح النكتة والبساطة والمباشرة. إنه متكلف الشاعرية ولكن عند القراءة السطحية له يبدو مؤثراً ظريفاً ساحراً، السبب الذي يجعل من تحفة ديزني عند تحليلها موضوعاً ذا أثر مخرباً. فجمالية الصور المطبوخة وعفوية التعاطف والمعاداة مع الشخوص المأخوذة ولكن بالطبع بدرجة أعلى من مسرح بن جونسون (1573-1623) جعلت المشاهد مجرد ناظراً سلبياً تمت السيطرة عليه بسهولة. ومنذ البداية يعرف ما يواجه فالطيبون والسيئون معروفون من النظرة الأولى والمشاهد يعلم أن الولايات المتحدة الطيبة سوف تنتصر بالنتيجة.
__________
(1) نسبة إلى ماني الفارسي صاحب عقيدة الصراع بين النور والظلام.(1/233)
إن قراءة روايات بيرّو Perroult وغريّم Grimm ومقارنتها مع ما تقدمه والت ديزني أو حتى قراءة الرواية الفنية والمعقدة لرواية نوتردام ده باري ومقارنتها بفيلم أحدب نوتردام تتيح لنا أن نفهم كل انحرافات عملية الاقتباس وإعادة الإنتاج. لقد صنع ديزني من روائع عالية المستوى تحتوي على أبطال يتمتعون بصفات داخلية معقدة قصصاً ذات صور مبسطة وطفولية بتصوير جذاب وحوارات مرة ملائكية وأخرى مخيفة لبناء عالماً نموذجياً مانوياً. لقد كان جان بير شوفنمان على قدر كبير من الحق عندما رأى بأن الثقافة الأمريكية بأسلوبها التي اعتمدته في استوديوهات ديزني بإنتاجها حكايات وأساطير أوروبية إنما تقوم بعمل خطير وهو «أنها تحتفظ بالقصة ظاهرياً ولكن تحول معناها العميق لاستغلالها لخدمة نظام قيمها (كالفردية والاستهلاكية) بعيداً كل البعد عن النموذج البنيوي القائم في المجتمعات الأوروبية». وكامتداد للنموذج الأمريكي ولأيديولوجية السوق وخطورته لأنه في الغالب جذاب، وسعت أفلام الصور المتحركة بدورها تأثيرها بإقامة مؤسسات ديزني لاند التي تهدف أن تنغرس في كل أنحاء الكرة الأرضية. يقول الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل «ليست أورو ديزني بالطبع إلا نقطة ماء – ربما كانت أكبر قليلاً من غيرها – في المحيط الذي يكاد يغمرنا بل أستطيع القول أنه قد غمرنا وأغرقتنا فعلاً».
تمتلك الإنتاجيات الهوليودية الضخمة جزءاً لا يستهان به من مشروع المثاقفة التي بدأت به الولايات المتحدة. يشهد على ذلك أسلوب التلاعب بالتاريخ الأوروبي وإعادة تركيبه بألوان وجهة النظر الأمريكية. لقد صور التاريخ الروماني في فيلم رائع ولكنه غير شريف على الصعيد الفكري، إنه فيلم Cluo Vadis (كلوفاديس) وهو يقدم البرهان على ذلك، أخرج الفيلم وعُرض على الشاشة الكبيرة في جميع أنحاء العالم في عام 1951 وشكل(1/234)
مثالاً ممتازاً على ما تستطيع الولايات المتحدة عبر صناعة السينما فعله بثقافة الأمم الأخرى. ديكور مذهل وثياب فاخرة، صورة مدهشة لعظمة وجمال روما القديمة. الأبطال كانوا رائعين (أغلبهم إنكليز) والجو فخم وملتهب في آنٍ واحد: كل شيء وجد حتى يؤثر في العقول. كل شيء صنع فنياً وتقنياً لكي يقطر بفعالية سماً نافذاً ولكنه قاتلاً. لقد استعار ميرفن لروا (1900-1987) الذي ولد في سان فرانسيسكو والذي وصفه اوستينوف في (دير مي Dear Me) باللامثقف، سيناريو كلوفاديس من رواية لهنريك سينكيفز وهو كاثوليكي بولوني متعصب، وتجهد الرواية والفيلم من أجل إعطاء الإمبراطورية الرومانية صورة مشوهة مبسطة ومغايرة للواقع بشكل يحمل أغلب المشاهدين الجاهلين على الخروج من هذا السفر في القرن الأول بعد الميلاد مشوشين ومعادين لروما. يكفي أن نذكر هنا مقدمة الفيلم لنفهم ذلك حيث تعرض فرقة عسكرية قاسية ومعجرفة تجر وراءها قطيعاً من الرجال المقيدين بالسلاسل وينهال الجنود عليهم ضرباً بالكرباج دون أي سبب ظاهر وبعد لحظات يسقط بعض السجناء أرضاً بعد أن انهارت قواهم ويدهسون فوراً بأرجل الجموع الجريحة والمضطربة. ويأتي صوت من الصالة ليصرخ بصوت لاذع ضد خيلاء الإمبراطورية الروماني: لحسن الحظ ولد المخلص الذي سيعيد الحق. هذه الطريقة رغم فعاليتها ولكنها لن تستطيع أن تصمد أمام التحليل التاريخي الصحيح ولكن لا يقوم بهذا التحليل إلا حفنة قليلة من المشاهدين.(1/235)
لأوروبا نصيبها بالطبع من سيطرة السينما الأمريكية منذ الثلاثينيات. لن نتكلم هنا عن المبدعين والممثلين الذين كان عليهم أن يهربوا من الأنظمة الاستبدادية ليساهموا بالنهوض العظيم للسينما الألمانية والإيطالية والإسبانية والنمساوية بنسب مختلفة ولا عن مضمون الأفلام حيث تظهر السيطرة التكنولوجية والمالية والتجارية على عالم السينما. يكفي هنا أن نذكر فقط تاريخاً مأساوياً وهو عام 1947 عندما أُجبر رئيس الحكومة الفرنسية ليون بلوم أن يمنح مقابل إعانة مالية خاصة موافقته على إعطاء السينما الأمريكية وضعاً مميزاً.
منذ ذلك الحين دخل نموذجان في عالم المنافسة، فمن جهة النموذج الصناعي الأمريكي الذي لا يحترم كثيراً الابداع والمبدعين والذي كان ينظر إليهما كسلع وكان ينوي سحق الجميع ويطالب دائماً بحيز أكبر وبحقوق، أكثر ومن جهة ثانية النموذج الفرنسي الذي يرتكز على مفهوم أكثر ثقافيةٍ. الوضع الحالي بات معروفاً وخاصة بعد معركة الغات GATT الخاسرة من قبل الأوروبيين بالرغم من المظاهر. ففي فرنسا مع أن وضع السينما أفضل عليه مما هو في إيطاليا وفي ألمانيا، تتمتع الأفلام الأمريكية بحرية كاملة بالتوزيع. بين 70-80% من الأوقات المتاحة للعرض في التلفاز كما في صالات السينما تحتلهما الأفلام الأمريكية كما أن الشركات الخمس الأوائل لتوزيع الأفلام في أوروبا هي شركات أمريكية(1).
__________
(1) في بلد مثل بولونيا واحد بالمئة فقط من الصالات مخصصة للأفلام الوطنية، أما باقي الصالات فهي لاحتكار الأفلام الأجنبية وبشكل خاص الأمريكية. أما في هنغاريا النسبة هي 3% للأفلام الوطنية و97% للأفلام الأخرى.(1/236)
مقارنة سريعة في هذا المجال يمكنها أن تقدم لنا فكرة واضحة، في عام 1992 في الوقت الذي عرض على شاشات السينما في الولايات المتحدة 492 فيلماً أمريكاً مقابل 27 فيلماً أجنبياً فقط كان لها حق الدخول إلى الصالات الأمريكية. في عام 1983 35% من بطاقات دخول السينما كانت لأفلام أمريكية. ووصلت النسبة إلى 57% عام 1993 بينما تبلغ هذه النسبة 71% على مستوى أوروبا حتى أنها وصلت إلى 80% عام 1996. بالمقابل لا تحتمل الولايات المتحدة في بلادها أكثر من 1 - 3 % من الأفلام الأوروبية، وهناك شروط قاسية توضع في وجه دخول هذه الأفلام. ومن جهة أخرى مقابل موجة النسخة الأصلية التي تلقى عندنا في أوروبا إقبالاً كبيراً جداً بالأصالة واحتراماً للمخرجين غير الناطقين بالفرنسية ومن أجل دبلاج أكثر أمانة للحوار الأصلي، نرى المشاهدين الأمريكيين يرفضون في آنٍ واحدٍ الدبلاج والترجمة المكتوبة فتعرض الأفلام الأجنبية بنسختها الأصلية في صالات صغيرة لا تشد إليها الجمهور الواسع. كما أن هناك تراجع في النظام التعليمي الأمريكي لدرجة أنه يجب دبلجة حتى الأفلام البريطانية وإلا لن تفهم من الجمهور الأمريكي.
في أوروبا اختفت معظم الإنتاجات الوطنية في هاوية الصناعة السينمائية الأمريكية : 85% من السوق الألمانية هي سينما أمريكية وتحولت استديوهات بابلسبورغ العظيمة في برلين إلى صالات متاحف بعد أن أنتجت سلسلة من الروائع في عالم السينما مثل الملاك الأزرق أو السيد الملعون أو لونوسترانو لمرنو. فالشروط الأمريكية لفتح أسواقها في هذا المجال هي شروط انتحارية بالنسبة للبلد الذي يقبل هذه الشروط. ويمجد جاك فالنتي زعيم الشركات الأمريكية استخدام قانون الغاب في هذا المجال (بالرغم أنه يناضل كي
لا يُعمل به في بلاده) أنه يعلم أن الاختلال الكامل للأنظمة سيمنح الصناعة الهوليودية السيطرة المطلقة على السينما العالمية.(1/237)
تملك الحكومة الأمريكية حصتها في مثل هذا المشروع، فعندما يقوم المنتجون باغراق السوق في العالم بالأفلام السينمائية والتلفازية بدءاً من السوق المحلية، فهم يحاولون علناً خنق المنتجين الآخرين والأعمال الوطنية مبعدين تدريجياُ المضمون الثقافي التقليدي واحلاله بمضون الأيديولوجية الأمريكية، كما حدث عام 1992 حيث عرضت المحطات الفرنسية 200 ساعة من الصور المتحركة مقابل 200 ساعة من إنتاج أمريكي أو ياباني عندها نستطيع أن ندرك بأن المعركة ليست متساوية. وبعيداً عن عملية احلال صور أجنبية مكان صور فرنسية مشابهة ، فعندما نعرض صور متحركة أعدت بواسطة الحاسوب بأسعار رخيصة نكون بذلك نعمل على تعويد المشاهد الأوروبي على طريقة معينة من التفكير. وعندما تفرض شركة كولومبيا الحصول على حق توزيع الأفلام الأمريكية بمفردها في أوروبا، وعندما تفرض الشركات الأمريكية الكبرى إفساح المزيد من المساحة الإعلامية للمنتجات الثقافية لبلادها فهي تساهم في مشروع تهديم الهوية الوطنية للدول الأخرى عن طريق توحيد مستوى الذوق والبنى الفكرية(1).
__________
(1) عندما نشاهد فيلم كرتون فرنسي مثل «الملك والعصفور» لبول غريمو ثم نرى مباشرةً لساعات طويلة بل لأشهر وسنوات رسوم متحركة يابانية وأمريكية (طبقاً للنسبة مع الإنتاج الأوروبي) نتأثر فعلاً بالتناقض ما بين الأكوان المعروضة. إن رائعة غريمو هي نموذج للعمل الذي تتنافس فيه الشاعرية والعمق الفكري وهذا ما يميز الفكر الأوروبي المركب الذي لا يمكن أن يكتفي بتفسير بسيط أحادي البعد. أما مستويات القراءة فهي غنية ذات معاني متعددة ومرجعية هادفة. بالمقابل الرسوم المتحركة الأمريكية الممتازة التقنية (وربما لهذا السبب) تدهشنا بالبساطة الجارحة بتقديمها الواقع، والرسوم اليابانية تتميز بالعنف الذي لا يمكن إلا أن يترك أثاره المدمرة والدائمة .(1/238)
لقد سبق أن أعلنت الشبكة الأمريكية لتوزيع الأفلام السمعية البصرية AMC عن نيتها في بناء مجمّعات تحتوي كل واحدة منها على عشرين صالة وذلك في دول العالم كلها. في باريس وَقَّع مكتب الشبكة اتفاقاً مع أونيفرنس بحجة تشجيع تسويق الأفلام الفرنسية في الولايات المتحدة ومقابل ذلك تعطى للأفلام الأمريكية حرية واسعة في الأسواق الفرنسية. في هذا السياق يبدو رأي المخرج السويسري آلان تانر أنه نير، لقد قال «إن هوليود نجحت ليس لأن أفلامها أفضل بل لأن الأمر يتعلق بآلة حرب مدهشة تغرق العالم بصور عدوانية تحمل أكثر فأكثر أيديولوجية فاشية» بفضل المليارات والتقنيات الخاصة. علينا أن نعلم أنه في سويسرا يبدو الأمر عادياً عندما تعرض صالات المدينة تسعة أفلام أمريكية من أصل عشرة أفلام، أما الفيلم العاشر ليس من الضروري بأن يكون أوروبياً.
المنحى الذي اتخذته السينما الأمريكية في نهاية الثمانينات يثير القلق، لقد ولى بعيداً زمن الروائع الأمريكية الناقدة والخلاقة كأعمال فورد وكاسافت ومان وهيوستون وولز أو حتى كفيلم «هير» الذي عارض تدخل أمريكا في فيتنام أو فيلم «الرقص مع الذئاب» لكوستنر (يحاول أوليفر ستون اليوم أن يكون استثناءً سعيداً). فمنذ عشر سنوات امتازت سينما ما وراء الأطلسي وفي آنٍ واحد بسوقية محتواها وبحربها التجارية المدمرة ضد دول العالم.
اعتمدت سوقية المحتوى على فظاظة المواقف واللغة التي انحسرت إلى أبسط تعابيرها كالتقليد الصوتي والشتائم والكلمات البذيئة. واتخذت البنية المانوية التي ميزت السينما والفكر الأمريكي بعداً مبالغاً به. لقد أصبح العنف دائماً متجاوزاً حدوده والقيم المسيحية اتخذت فقط شكلها المزدوج البعد أي هناك دائماً خطر أساسي (الشريرون) يهدد العالم فتقوم الولايات المتحدة أو رئيسها (الطيبون) بإنقاذه.(1/239)
لقد عرضت بذكاء دراسة أجريت مؤخراً الآلية التي تقوم عليها معظم الأعمال الأمريكية موضحة أن مبدأها الأساسي هو عملية استعادة قانون أرسطو حول تهذيب النفس والإيقاع الجامح تولد شعوراً مزيلاً للقلق قادر أن يجد حلاً للتوترات الميتافيزيقية التي تتجاوز الجمهور الذي هو بالأصل أمريكي (ولكنه ليس فقط أمريكياً) وقدراته بالإمساك بثقافته تراجعت شيئاً فشيئاً ويفقد أكثر فأكثر إدراكه لهويته بارتمائه على عتبات بدائية وغريزية لحقيقته النفسية. وكما كتب مؤخراً أحد النقاد حول فيلم «كون أير» وفيلم «ذي فان» فقال:«تحول الظاهرة التكنولوجية الخالصة هذين الفيلمين إلى شريط غنائي تسجيلي (كليب) لمحطة تلفزيون MTV والذي هو أحقر ظاهرة تلفزيونية عالمية». علينا أن نفهم إذاً بأن على الفيلم أن ينطلق بسرعة تتضاعف أكثر فأكثر وأن يحتوي على أكبر عدد ممكن من المشاهد القصيرة. فإذا تابعت السينما سيرها على هذا الطريق سنرى قريباً أفلاماً طويلة مؤلفة من سلسلة من الصور التي لا تستطيع العين أبداً تسجيل محتواها: لقد انتهى عصر الديكور وانتهى عصر الملابس وانتهى عصر الممثلين وبقيت فقط اللقطات السريعة المنومة مغناطيسياً.
يرتبط هذا الفقر العدواني للمحتوى بالميل لسياسة احتكار الأقليات للتوزيع. إن معظم السوق الدولية اليوم يعود ملكيته إلى ست شركات أمريكية التي لا تتأخر باستخدام سياسة التحميل أي شراء أحد الأفلام الأساسية ويجبر المشتري أن يحمل معه سلسلة من الأفلام الأخرى الهابطة والتي لا يمكن بيعها بغير هذه الطريقة. ومقابل هذا التهديد تتخذ أوروبا موقفاً تافهاً وتتبع سياسة تدمير ذاتي.
لقد بات قريباً اتخاذ قرار إلغاء الحصة النسبية التي تجبر التلفزيونات على عرض كمية دنيا من الأفلام الأوروبية. يؤدي هذا الإلغاء على المدى القصير إلى فقدان حوالي مليون فرصة عمل وعلى المدى البعيد يؤدي بكل بساطة إلى فقدان كل السينما الأوروبية الأصلية.(1/240)
السلاح المطلق: احتكار عالم الاتصالات
يضاف لدى الأمريكيين إذاً احتكار عالم الاتصالات إلى جانب الاحتكارات الاقتصادية والعسكرية. الرهانات المغطاة من قبل هذا الاحتكار هي رهانات أساسية ليس فقط كما يؤكد فرانسوا لوتر «بسبب قوة النمو في هذا القطاع» وليس أيضاً «بسبب أن نموه يتحكم ببنية طرق الإنتاج والاستهلاك في المستقبل» ولكن لأنه يؤدي إلى السيطرة على الأدمغة والذكاء والاحساسات. فعملية زرع مئات الأقمار الصناعية حول الكرة الأرضية ليس هذا وحده كافياً لإغراق العالم بالأصوات والصور، المطلوب أيضاً ألا تقوم الدول بتشويشها. فإن قررت حكومة ما باسم الخصوصية الثقافية والحفاظ على الهوية الوطنية أن تمنع التقاط الموجات تكون بذلك قد أدت اللعبة بمهارة.
أما السؤال المزدوج: هل تريد الولايات المتحدة ضمان سيطرتها على عالم الاتصال ؟ وهل تستطيع القيام بذلك؟ الجواب إيجابي في الحالتين.
هي تريد ذلك هذا لا يقبل الجدل أبداً، فالرئيس كلينتون ونائبه آل غور أكدا بأن إحدى المعارك الأساسية للولايات المتحدة هي معركة «الأوتسترادات الإعلامية Information superhighways». السبب المعلن هو اقتصادي، باعتراف آل غور تدر السيطرة على هذه الطرق في غضون عشر سنوات مئة مليار دولار كما أنها من جهة أخرى ستعمل على إيجاد أكثر من مليون ونصف فرصة عمل من الآن وحتى عام 2003. ولكن هناك سبب آخر ألا وهو السيطرة على الاتصالات العالمية. في نهاية عام 1996 أكد جوزيف س. ناي العضو السابق في البنتاغون وهو اليوم على رأس مدرسة كيندي في هارفرد بأن «أمريكا وبفضل قدرتها التي لا مثيل لها بالدخول بدوائر الأنظمة الإعلامية سوف تؤمن في مستقبل قريب سيطرتها السياسية على العالم».(1/241)
هل لديها الوسائل؟ يغطي مصطلح «وسائل الإعلام المتعددة» من طرف إلى آخر من السلسلة أدوات كثيرة التنوع من المكونات والمصنعين ومجالات السيطرة والمضامين والتوزيع وتأثيرات الاتصال. وفي كل مجال من هذه المجالات تكاد الولايات المتحدة أن تحقق السيطرة عليه.في مجال المكونات يبدو الرهان أساسياً إن كان فيما يتعلق بالإنتاج أو المراقبة، فقد ضمنت المجموعة أو المجموعات القادر على السيطرة ميزة لا يستهان بها في مسيرة السباق للسيطرة على مجمل سلسلة الاتصالات. فالحاسوب والهاتف والتلفاز من جهة والبث السلكي والأشرطة الدقيقة والرقائق والموجات والأقمار الصناعية (الوسائل) من جهة أخرى وأخيراً استوديوهات السينما والإعلان والصحافة والتأهيل (مضمون) كل ذلك شكل المجموعة التي تشحذ كل المطامع. فقط من أجل الامتلاك والإنتاج والتوزيع تم إنشاء شركات احتكارية عملاقة. ففي الولايات المتحدة انطلقت عام 1982 عملية الليبرالية بتفكيك المحمية الاحتكارية A.T.T. ونتائجها باتت معروفة.
وهكذا عقدت شركة مايكروسوفت حلفاً مع أي.بي.أم IBM لضمان السيطرة على السوق العالمية للحواسيب. فالحاسوب كأداة رئيسية في التواصل مستقبلاً فيما بين القنوات سيسمح بتجميع الألعاب والأفلام والأخبار والدعاية والتأهيل في كتلة اتصالية متداخلة. أما التلفزيون فهو الرهان في حرب خسرتها مسبقاً أوروبا على مستوى البرامج وكذلك على المستوى التكنولوجي.(1/242)
مع الـCNN الشبكة الدولية الأولى أغرق تيد ترنر أكثر من 80 مليون عائلة في أكثر من 142 بلداً بالأخبار التي هي صوت أمريكا وعيونها وارتفعت الأرباح من 1.2 مليار فرنك عام 1993 إلى أكثر من ثلاثة مليارات فرنك عام 1995. القناة الفرنسية الأولى (TF1) والتي تشكل مع القناة السادسة (M6) موقعاً متقدماً للولايات المتحدة في فرنسا بسبب دوافعها التجارية الصرفة اتبعت خطى أمريكا بطريقة لا إرادية وأسست محطة LC1 التي لم تكتفِ فقط بتقليد النموذج بل استوحت منها المضمون وكشبكة الـCNN استخدمت الـLC1 أسلوب احتكار النشرات السريعة لتقنع المشاهد باللجوء إلى اللعب بجهاز التحكم. في هذا الصدد يقول رئيس تحرير الـCNN «عندما يرى المشاهدون في زاوية الشاشة عبارة (مباشر) يتوقفون عن تغيير المحطات لبرهة. وقبل أن يتسلل الملل إليهم نقوم بعرض تقرير مباشر آخر مع صحفي مختلف. فإذا كنا نريد فعلاً أن نكسب المزيد من المال، يجب أن يتابع المشاهدون برامجنا لكي يشتروا منتجات من يمول إعلامنا»، يساهم تجزئة الأخبار بشلل ملكية التركيز لدى الأفراد وبذلك يسهل التحكم بهم. ولكن السيد ترنر لا يتوقف عند هذا الحد، فبفضل قمره استرا ASTRA ومحطة الصور المتحركة نِتْ وورك Net work التي تبث على مدى 24 ساعة في الـ 24 ساعة فهو ينثر الصور المتحركة «هانا وبربارة» وأفلام شركة MGM بواسطة محطته للأفلام السينمائية TNT في أنحاء العالم(1).
__________
(1) بهذا الصدد تبدو بريطانيا العظمى مساعداً قيماً لأن البريطانيين يشكلون رأس الحربة الأمريكية في أوروبا الشمالية فمحطة سبرتشنل مثلاً قامت بشرائها المحطة الأمريكية CNBC.(1/243)
الحرب التكنولوجية هي أيضاً خسرتها أوروبا. لقد استخدم اليابانيون والأوروبيون النظام التماثلي لتطوير بثهم التلفزيوني المستقبلي. لقد تعالت الأصوات في أوروبا للتحذير ضد هذا الخيار للنظام التماثلي ولكن دون جدوى فهي لم تمنع الخسارة الكبرى. أما الأمريكيون فقد اختاروا النظام الرقمي بهدف أن يجعلوا منه نظاماً عالمياً، وبالتعاون مع مجموعة تجارية كبرى اعتمدت اللجنة الفيدرالية للاتصالات بشكل نهائي النظام الرقمي ونتيجة لذلك وبفضل الضغوط (ابتزاز اقتصادي وتهديد سياسي ... إلخ) كسبت الولايات المتحدة اللعبة. أما في المجموعة التي تتألف من AT&T و NBC وZenith وMIT اختارت فيلبس الأوروبية النظام الأمريكي (نذكر هنا أن مدير فيلبس في شمال أمريكا هو جي.بيتر بنغهام).
يستنفر البث السلكي والرقائق الإلكترونية طاقات لا يستهان بها، سيتمكن الأمريكيون بفضل الرقائق الإلكترونية أن يضمنوا السيطرة المطلقة على البث السلكي (الكبل) كما حدث في البث التلفزيوني ذي الدقة العالية. العملاق انتل Intel مع رقائق البانتيوم Pentium والشركة المتحدة: أبل-أي.بي.أم Apple-IBM مع بي.سي. PC سيحتلون المراتب الأولى لصناعة تجهيز الحواسب مما سيسمح برؤية آلات فيديو تتمتع بصفات مشابهة للتلفزيون. ونضيف لذلك ما يعرف «بكليبر شيب» وهو طريقة جديدة بالتشفير تسمح بتشفير الصوت آلياً أو تشفير معطيات سرية وإدخالها في الحاسوب وتشفير فاكس أو هاتف. يتعلق الأمر بجملة من الأسرار من كل الأنواع: مصرفية وقضائية وطبية وحتى عسكرية وسياسية، إن «الكليبر شيب» قد تم اختراعه في الولايات المتحدة وهو يحتوي على مفاتيح تسمح للمستخدم أن يشفر أو أن يفك رسالة ما، إلا أن الحكومة الأمريكية احتفظت بنسخة ثانية عن المفتاح لتستطيع في حال أي مخالفة أن تتعرف على الشخص المشفر والشخص الذي له علاقة بالرسالة المتبادلة.(1/244)
تمتلك بعض الدول أنظمة تشفير وتفكيك من نوع دي.إي.أس DES وهو النظام الأمريكي القديم. هذا ما نجده في سويسرا مثلاً حيث تتعامل المصارف مع الأسهم المالية بواسطته، ولكن ليس فقط المُصنع بل تعمل الحكومة الأمريكية على فرض «الكليبر شيب» في كل مكان بدلاً عن الأنظمة التقليدية. وتجتهد الدول الأمريكية الزبون الأساسي لـ «الكليبر شيب»على جعل الأنظمة القديمة لاغية ملزمة المستخدمين اعتماد الرقائق الإلكترونية الجديدة لتجنب أي تعارض. وإن لم يتوصل النظام الجديد من فرض نفسه فإن الحكومة الأمريكية تفكر بإبطال الأنظمة الأخرى.
وبما أن الحكومة الأمريكية تعي أهمية الفرصة المتاحة عن طريق ممارسة السيطرة السياسية الحاسمة فقد صممت على مساعدة الموزعين بنشر الرقائق الإلكترونية الجديدة مستعدة مرة أخرى أن تخرق قوانين الحماية التي فرضتها وذلك بتقديم تسهيلات عبر مساعدات مالية حكومية مقنعة للحصول على تصاريح للتصدير(1).
__________
(1) إذا توصلت الولايات المتحدة أن تفرض على المصارف والإدارات ومديريات الشرطة والمخابرات ومراكز البحوث العلمية في الخارج باقتناء «الكليبر شيب» فسوف يدق الناقوس مهدداً استقلال الأمم وحريات الشعوب التي أصبحت وهمية أكثر فأكثر. لقد بدأت المعركة فعلاً لأن وزارة العدل الأمريكية قد تقدمت بطلب للحصول على 50 ألف خط هاتفي مزودة بالرقائق الجديدة.(1/245)
لدى الدولة الأمريكية في هذه الحرب الخفية الجياشة كثير من الحلفاء الأقوياء بشكل مجموعات صناعية ومالية التي تؤلف فيما بينها تحالفات غير قانونية ومدانة على الصعيد الأخلاقي. من بين هذه المجموعات العملاقة التي تشكل ألوية المعركة هناك مثلاً شبكة البث السلكي TCI و(تايم ورنر Time Warner) حليفة (يو.أس. وست US West) وعملاق البث السلكي فيكوم الذي امتص شركة برمونت آخر شركة سينمائية هوليودية مستقلة وذلك مقابل مبلغ غير معقول وقدره 100 مليون دولار. إن فيكوم-برمونت هي الأولى في العالم على صعيد توزيع أشرطة الفيديو، وبلوكبستر انترتنمنت التي تصل مع شركة MTV الإنكليزية إلى 230 مليون مشاهد في العالم تحتل المركز الثاني على الصعيد العالمي لأن تايم ورنر استولت على المركز الأول.(1/246)
أما ميديا لاب ميت في بوسطن فهي مخبر للأبحاث بفضل المساهمات الثمينة للباحثين الأوروبيين الذين لم تعد تشغلهم مصالح القارة العجوز ومن الآن يبدو أن نتائج هذه المساهمة حاسمة. وشركة الاتصالات هوكز هي اليوم تستعد لإطلاق تجربة نظام جديد للأقمار وهو التلفزيون المباشر Direct TV الذي سيبث 150 قناة. المجموعة مؤلفة من أي.تي. أند تي AT&T وسيلكون غرافيكس Silicon Graphics وتايم ورنرTime Warner تحضر مشروع جوال «كل الخدمات من نِتْ وورك Net work» وهو عبارة عن مكتبة رقمية قادرة على توفير 500 فيلم رقمي هذا ما عدا الألعاب والأخبار والرياضة وسوق البيع التلفزيوني والتأهيل والخدمات المتعددة بواسطة الحاسوب. أما تي.سي.آي TCI تحضر إطلاق مسفر عالمي المستوى لـ 540 قناة. وعملاق البث السلكي قدم البرهان بأن السيطرة على الشبكات وتصنيع الأسلاك يمثل رهاناً مهماً. ألم تقم تايم ورنر Time Warner بزج نفسها مؤخراً في مزاد مجنون لكي تمتلك الشركة السويسرية موتر كولومبوس Motor Columposوهي تضم 200 ألف عائلة مشتركة بالبث السلكي؟!! فمع يو.أس. وست US West التي حملت إلينا عبر تحالفها مع تايم ورنر Time Warner نموذج المستقبل التلفزيوني المتفاعل وتحالف بول أتلنتك مع العملاق تليكومنيكشن، تستعد الولايات المتحدة للسيطرة على الاتصالات العالمية.(1/247)
تصيب النتائج كل مجالات الفكر وهوية الأفراد والتبادلات بين البشر وبين الدول. إن السيطرة الأمريكية على الاتصالات مبرمجة كما يدل توزيع الاختصاصات في هذا المجال. أوروبا التي لا علاقة لها بالمفهوم ولا بالصناعة استأثرت بالتجميع وبتقديم الخدمات وبتوزيع الأدوات التكنولوجية المرتبطة بالاتصالات. فالأوروبيون بعد أن تم تجاوزهم وأزيحوا من السباق للسيطرة على التكنولوجيا اكتفوا بدور التابع الذي يستقبل الأدوات التي تم تصنيعها وما عليهم إلا بتجميعها. أما الإلكترونيات ذات الاستهلاك الواسع فكانت من نصيب اليابان التي من الصعب التغلب عليها في عدد من الاختصاصات.
وفيما يخص البرامج إن كانت متعلقة بالحواسب أو التليفزيون أو السينما أو الإعلام فقد احتفظت الولايات المتحدة بها بشكل كامل لنفسها. اليابان والولايات المتحدة بلدان، والثاني يسيطر على الأول والاثنان هما سيّدا الاتصالات الدولية. وعلى أوروبا أن تقوم بمهمة الحراسة. لقد لعبت الطريقة التي عومل بها منذ عشرات السنين العلماء والمعرفة العلمية على السواء، دوراً مهماً بتهميش التكنولوجيا الأوروبية. لقد اضطر الكثير من الباحثين بسبب التخلي عنهم بأن يذهبوا ويعرضوا على الأمريكيين إبداعهم الذي لم تكن السلطات العامة في أوروبا مهيأة لتشجيعهم. حالة البروفيسور مونتنيه لا تزال حاضرة في الأذهان فقد أجبر عام 1996 أن ينهي نشاطه كباحث متقدم في مجال السيدا (الأيدز) لأنه بلغ سن التقاعد فذهب يتابع أعماله في الولايات المتحدة.(1/248)
وسائل إعلام مختلفة تنشر محتواها بقنوات أمريكية ويابانية ستكون كلياً من ابتكار الولايات المتحدة أما أوروبا فستكون مجمدة تستخدم بشكل سيئ التطور التكنولوجي: هذا ما يجب أن نتعود عليه. واليوم الموعود الذي سيشهد استسلام أوروبا بات وشيكاً، ففي 15 شباط 1997 أشرفت المنظمة الدولية للاتصالات على اتفاق سيتيح بموجبه تسليم عشرات الأسواق إلى مضاربين عمالقة أمريكيين(1). الآن من بين المضاربين الأوائل الخمسة عشر في العالم عشرة منهم أمريكيون وهم : أي.تي.تي. – بلثوث – جي.تي.أي. – نينكس – بل أتلنتيك – أم.سي.أي – أمريتش – سبرنت – ثوثرن بل – يو.أس.وست. وقد أصبحت أوروبا بالنسبة لهذه المجموعة هدفاً مفضلاً، وبضغط من لجنة بروكسيل والشركات الكبرى المتعددة الجنسية بدأت الحكومات الأوروبية بعملية إنهاء الاحتكار الحكومي بواسطة الخصخصة وبسبب حالات من المقاومة مارست هذه السياسة على مراحل.
وتؤكد فرانسواز لوتر بأن «المستقبل هو ملك لمجموعة شبكات ولشركات الخدمات المتخصصة التي تجمع ما بين نقل ومعالجة المعلومة، وسوف ينتج عن ذلك تقسيم الأسواق بشكل دقيق وانفجار للحدود ما بين الاتصالات والمعلوماتية والسمعي البصري وتكثيف للمنافسة». حرب الجميع ضد الجميع هنا أيضاً سوف تخدم أهداف التكتلات الأمريكية.
تشويه الثقافات:
ترتبط السيطرة على الاتصالات بالضرورة بمضمون، فإذا كان على المكونات المختلفة للسلسلة أن تعمل على التوجيه نحو الأيديولوجية الأمريكية فسوف تطال هذه الأخيرة كل المجالات: الغذاء واللباس واللغة ... .إلخ.
الزي الكوني:
__________
(1) راجع حول هذا الموضوع مقال دان شيلر أستاذ الاتصالات في جامعة بنسلفانيا – سان ديغو – وقد نشره في جريد لوموند دبلوماتيك – آذار 1997.(1/249)
تكشف طريقة اللباس عند شعب ما قبل كل شيء عن البيئة المناخية التي يعيش فيها، ولكنها أيضاً تذهب لأبعد من ذلك، ففي اللباس تظهر المفاهيم والاحساسات وثروة خيالهم وميزات تطورهم التاريخي والفلسفي والثقافي. اللباس هو الروح وهو التكوين تماماً كالأدب واللغة. يكفينا أن نفتح القاموس على الصفحات المخصصة فيه لثياب شعوب أوروبا عبر القرون لنكتشف تنوعها وغناها من ألوان وتفصيل وأساليب تشهد على واقع ثقافي يرتكز على التنوع والإبداع.
صادفت بداية ضحالة اللباس وألوانه المتنافرة في أوروبا مع بداية التحول الصناعي (القرن التاسع عشر) وزادت حدتها بعد الحرب العالمية الأولى وتعمقت أكثر فأكثر بعد الحرب العالمية الثانية بانفتاح الأسواق للنفوذ الأمريكي حيث تسيطر العقيدة التقليلية والتكيفية. فمن الضرورة التجارية – البيع في كل مكان لتأمين السيطرة الاحتكارية – ولدت عملية تجانس الأذواق واللباس خلال مرحلة التوحيد الصناعي للأنماط. ومن حالة غياب رهافة الذوق ولد اللباس الفظ (العملي والذي لا يفنى) أو اللباس المبرقش.
لندخل إلى أي قاعة مدرسية في أي مكان كان في العالم ولننظر إلى الصبيان والفتيات الجالسين على مقاعدهم، يرتدي الأغلبية اللباس الموحد مفروضاً على جيل بأكمله مطلبه الأساسي بالمقابل هو أن يمتلك حقه بألا يفعل كباقي الناس. إنهم يعتقدون أنهم يملكون هذا الحق عندما يستسلمون لغريزة «الجماعية» التي تدفعهم بالتالي إلى ارتداء اللباس الموحد الأمريكي: الجينز، وهكذا لا يعود هناك أي تمييز بالجنس ولا بالشكل فهذا اللباس المستورد مباشرة من الولايات المتحدة أو المقلد يحول لابسه إلى راعي بقر ويمكن أن يكون لونه أسود أو أزرق أو أحمر لذلك أصبح سروالاً عالمياً(1). إذا جمعنا كل أولئك
__________
(1) حالياً يوجد أيضاً قمصان جينز وسترات جينز .. إلخ.(1/250)
الرجال والنساء والأولاد الذين لكي يكونوا كالموضة يرتدون قمصاناً من كاليفورنيا وقبعات تكساسية وكسكيت لاعبي البيسبول وقمصان تحمل علامة إحدى الجامعات الأمريكية أو برمودا من فلوريدا سنحصل على صورة دقيقة عن خضوع الكرة الأرضية لقواعد اللباس الأمريكية.
إضافة لذلك وكالأمواج تتابعت الموضة الأكثر تفاهة وفي بعض الأحيان كان الزمن الذي يفصل بين الواحدة والأخرى قصيراً جداً بل إنها كانت متواكبة. مرة كانت ارتداء قمصان طويلة جداً فوق صدرية صغيرة تسمح برؤية السرة ومرة أخرى كانت ارتداء بنطال جينز واسع أكبر بثلاث مقاسات على الأقل عن القياس الحقيقي حتى يتحول من يرتديه إلى أشبه بأكتع هارب من جليد ساحلي تعرض لهزة أرضية، وأحياناً كان ارتداء أحذية ثقيلة سوداء مثل الفحم تحمل مسامير فتجعل من يرتديها وكأنه من عمال مناجم كلونديك أو كفتيات خطبن حديثاً لفرنكشتاين المخيف فتيات هزيلات راغبات بتشويه أنفسهن، وبطريقة المصادفة تظهر أحياناً طالبات أنيقات لا نعرف من أين أتين فتحمل لهذه اللوحة القاتمة بريقاً متفائلاً كنقطة بيضاء في مزيج ألوان حفل جهنمي.
الذوق الوحيد:(1/251)
لا تقدم الولايات المتحدة الكسوة فقط بل تطعم أيضاً وتروي الظمأ، في إيطاليا مثلاً هناك ألف طريقة وطريقة للعمل على تناسب الشراب مع المعجنات وفي الريف الفرنسي يوجد ألف وصفة لإعداد الأطباق التقليدية، وألف طبخة وطبخة يطهها الإسبانيون بمحبة وفن، وفي اليونان والبرازيل والصين هناك أطباق لا نهاية لها للأذواق المختلفة والطعم المتنوع ورثناها بكرم من آلاف السنين. بالمقابل صنعت الولايات المتحدة أطباق لا طعم لها ولا تمييز معقمة باسم «الطعام السريع» ما يعرف بالتعبير الركيك فاست فودFast Food. ثلاث آلاف سنة من المطبخ المتنوع والفني باختلافه والذي يشكل مرآة للمزاج القومي الفريد والذي يتناسب مع الرغبات اختصرت إلى أطعمة ذات شكل واحد في ما يمكن أن نسميه «الكلب الحار» (هوت دوك Heat dog) أو همبرغر Hamburger. أصبحت السندويش ليس أكثر من بسط لأوراق من الخس ولحم زهري أو أخضر وقطع من الخيار البلاستيكي بين طبقتين من الخبز تقدم ملفوفة بورق مقصب. بدورها المطاعم مثل الكافيه رويال ومكسيم وشه ثانت ايفيت أو البتي روتيه (حيث مدام مارت تطهي أهم الأطباق العائلية التي تلذذت بها الأجيال) اختصرت إلى يافطة بسيطة وهي: ماكدونالد (أو ماكدو كما يلفظها الشبان)(1) . لقد استبدلت البطاطا المقلية على الطريقة البلجيكية الدسمة والسميكة وعلى الطريقة الفرنسية المقرمشة والمحمرة بطريقة «الفريت» بالطريقة الأمريكية(2).
__________
(1) مطاعم الفاست فود Fast Food مثل ماكدو انتشرت في كل مكان، فلا يمضي أسبوع دون أن نرى اختفاء مطعم أو مقهى تقليدي ليقوم مكانه مطعم يرفع (بعد إجراء قليل من الديكورات) أعلام السلسلة الأمريكية أو الايرلندية أو الإنكليزية ويصبح ملجأ التلاميذ بين الحصص الدراسية أو عند نهاية اليوم الدراسي.
(2) تعمل سلسلة بيتزا هات Pizza Hat على الدفع لنسيان معجنات نابولي لصالح بيتزا اصطناعية معدة بلا ذوق مغمورة بالكاتشب.(1/252)
وعند ماكدو تقاليد المؤسسة هي أيضاً تقاليد أمريكية فاللجان ممنوعة والرواتب مبتذلة وساعات العمل الأسبوعية لا سقف لها، وعند حدوث أي خطأ في الصندوق فإن عامل الصندوق يعوضه مباشرة من جيبه ويستقيل أو يلاحق قضائياً. ولا نزال مذهولين مما حدث في المحكمة في بداية 1997 في لندن المقامة من السلسلة ضد عاملين لديها عضوين في مجموعة لأصدقاء البيئة اتهما بالذم والقدح. لقد ربح ماكدو القضية وحكم له بمبلغ 96 ألف دولار كتعويضٍ ورَدٍّ للاعتبار ولكن المحكمة كلفته 16 مليون دولار أجرة محامين هذا إن لم نحسب ما دفعه للدعاية المضادة بحربه ضد العاملين اللذين فضحا أساليبه. همبرغر وكاتشب فوق كل الأطباق وانتشار النخاسين في كل مكان هذا هو مشهد المطعم الأممي (والذي يُنتظر أن يصبح وحيداً) بروعته المأساوية.(1/253)
وكان على المشروب الدولي الكوكا كولا أن يصبح المتمم للغذاء الدولي الذي تقدمه سلسلة مطاعم ماكدو، لقد اخترع هذا المشروب عام 1886 بواسطة جون بمبرتون في مختبره الصيدلاني في أطلنطا (وهو مركب من جوزة الكوكا وأوراق الكولا وأوراق الكوكا ومن السكر والكافيين) ويتكون من هذه المستخلصات النباتية وقد أبقي على طبيعة المزيج والنسب الممزوجة سراً. في عام 1892عندما اشترت اساكنتر صيغة التركيب تم إضافة الصودا الفوارة المتلألئة وتم إطلاق شركة الكوكا كولا. وبالتوازي مع منافستها الببسي كولا التي أسست بدورها عام 1889 انطلقت الكوكا كولا لغزو العالم. البلد الوحيد الذي حاول دون فائدة بعد عام 1944 مقاومة استعمار الكوكا هو فرنسا وبالتوازي مع الجبنة الملفوفة بالورق المقصب ومع موسيقى الروك والعلكة والسيارات ذات الصادمات اللامعة والبرادات قامت الكوكا كولا ثم الببسي بإزالة الثقافة الأوروبية بواسطة سلاح الغذاء (المثاقفة الغذائية). أسست هذه الشركات اليوم مصانعَ لها في كل القارات مع ميل أكبر إلى البلدان حيث اليد العاملة رخيصة، وتدفع هذه الشركات رواتب بالكاد تكفي أصحابها مع غياب كامل للحماية الاجتماعية لتحقق بذلك أرباحاً هائلة. وكما الحال لدى ماكدو والجينز فالكوكا كولا تغرق يومياً الكرة الأرضية وحتى الأهل والمعلمون الواعون من هذه المخاطر يقفون صامتين عند أرصفة المقاهي بصحبة أبنائهم الذين لدى سؤال النادل:«ماذا تريدون أن تتناولوا» يجيبون بصوت واحد مثل المذعورين:«كوكا،كوكا، كوكا ... ».
لغة عالمية جديدة:(1/254)
بقي مجال آخر للتأثير الأمريكي، إنه مجال اللغة. إن اللغة الأم لكل شعب مهددة بالعدوى الأنكلو – أمريكية. كانت اللغات دائماً عبر الأزمان قابلة لاستعارة الكلمات، وفي اللغة الفرنسية هنالك كلمات كثيرة أجنبية مختلفة الجذور، وقد أغنت هذه الكلمات باستمرار اللغة الفرنسية ونستطيع أن نجد الظاهرة نفسها في لغات الأرض كافة. أما ما هو جديد في نهاية هذا القرن هو أن الإنكليزية المحكية في الولايات المتحدة التي تجمعها طريقة اللفظ لبعض الأصوات إضافة إلى المفردات وبعض التراكيب النحوية وكتابة إملائية خاصة، تحاول أن تتعامل مع باقي اللغات بنفس الأسلوب الذي تتبعه أمريكا بالسياسة والاقتصاد وبالثقافة أي أسلوب الإبادة التدريجية. إن الاستعارات الأجنبية للغة الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية هي متممة لبنية هذه اللغات فهي تأتي لتضيف كلمات أو تعابير لم يكن لها بشكل عام مقابل ولذلك كانت الاستعارات تعتبر دعامة قيمة. أما الاستعارات الأمريكية فهي مختلفة لأنها تأتي لتحل محل كلمات أخرى فهي استبدالية فلا تضيف بل تقتل وتحتل.(1/255)
كما انغرست المجموعات الاقتصادية الأمريكية في بلد ما وقامت بإبعاد المنافسين المحليين وباحتلال الأرض عمدت الكلمات الأمريكية بنفس الطريقة فأخذت شيئاً فشيئاً من اللغات الكلمات واحتلت مكانها. يقول كلود أجيج Claude Hagége في الولايات المتحدة «لا يمر الدفاع عن الإنكليزية عبر السلطة السياسة، فمن أجل دعم اللغة تقترح المؤسسات الخاصة في أغلب الأوقات على الجامعات الأجنبية بإبعاد الفرنسية من التعليم في جامعاتهم». أما في الجامعات السويسرية توجد أقسام الآداب واللغة الإنكليزية منذ أكثر من قرن. وحتى نهاية السبعينات كان لا يعقل أن يتخرج طالب من هذه الأقسام إن لم يكن لديه معرفة معمقة عن معظم الأدباء البريطانيين. ثم قبلت الجامعة أن يختار الطلاب في امتحاناتهم أحد الأدباء الأمريكيين وبعد ذلك وفيما عدا شكسبير لم يعد يفرض أي أديب. وبدأ المدرسون الأمريكيون أو الدارسون في أمريكا بالازدياد أكثر فأكثر وهم يشكلون اليوم ليس فقط الجزء الأساسي في الهيئة التدريسية في أقسام اللغة الإنكليزية في مختلف الكليات والثانويات والإعداديات بل إن أكثر الطلبة الراغبين بالانتماء «للحداثة» باتوا يحتقرون الأدب الإنكليزي ويفضلون الأمريكي الذي يتمتع ببنية مستقلة يمكن التمكن منها هذا إن لم نأخذ بالحسبان الدعم القيم والأكيد الذي تقدمه سفارة الولايات المتحدة في برن.(1/256)
في هذا الخصوص هناك تعميمٌ معبرٌ صادر عن قسم الإعلام للولايات المتحدة في 12 كانون الأول 1988 تعلن فيه سفارة أمريكا في برن بإطلاق برنامج جديد للمدرسين في الثانويات يحصل بموجبه على منحة فردية من أجل متابعة دراستهم لمدة شهر في الولايات المتحدة الشرط المطلوب للحصول على هذه المنحة هو ضرورة أن يكون موضوع الدراسة إعداد برامج الثانويات السويسرية هدفها إغناء معرفة الطلبة بمعلومات عن الواقع الأمريكي، ويحدد الشرط بأن على البرنامج أن يتوصل إلى «نشر المعلومات عن الولايات المتحدة بين الطلبة في المرحلة الثانوية». أما المدرسون الذين يقع الاختيار عليهم فسوف يحاطون بخبراء أمريكيين طيلة فترة إقامتهم في الولايات المتحدة. ولن يطول الوقت حتى يدرك المهتمون بهذا البرنامج بأن ما يهدف إليه هو مشروع كبير يطمح لنشر المعلومات الإيجابية عن أمريكا. كثير من الأساتذة تم الاتصال بهم اتصالاً شخصياً ودُعوا للاشتراك في مكتبة الفيديو في السفارة بشرط أن يكون محور تعليمهم يرتكز على اللغة الأمريكية وعلى الولايات المتحدة. ومن أجل تشجيعهم أرسلت السفارة لهم مجلة أمريكية تعليمية شهرية مجاناً. والأساتذة الذين يرفضون الإذعان لهذا الشرط الأساسي أي إعطاء الأولوية التعليمية للرؤية الأمريكية لا يستلمون المجلة ولا يسمح لهم بالدخول إلى مكتبة الفيديو في السفارة.(1/257)
إن أمركة العالم بواسطة اللغة تشكل سلاحاً خطيراً يستعمله الأمريكيون بحذاقة بواسطة الجذب تارة والقوة تارة أخرى. كتبت الصحفية فرجيني دو مرون تقول:« لقد تم اكتساح عالم الإعلان والسيطرة عليه بواسطة اللغة الأنكلوسيكسونية» كما قالت الكاتبة الكندية من كيبيك ليز بزونت التي استشهدت بمقال ظهر في المجلة الأمريكية «فورن بوليسي» يمتدح الإمبريالية الثقافية (الأمريكية) ويدافع عن المقولة التي تؤكد أن تنوع الثقافات هو السبب الأساسي للصراعات وللهمجية في العالم:« يجب إذاً الرد على ذلك ليس بإبعاد الإنكليزية والثقافة التي تحملها ولكن باليقظة والعمل على إحياء التعامل باللغة الفرنسية وهو الفعل الوحيد الذي يمكنه أن يقف حاجزاً ضد المحاولة الإمبريالية للإنكليزية»(1/258)
اللغة الإنكليزية البريطانية نفسها طُمست لمصلحة ما أسماه بحق الكاتب اتيبل«المزيج اللغوي الأطلسي». حول هذا الموضوع يقول الكاتب جان ديتور:«انقض هذا المزيج على اللغة الإنكليزية وشوهها أكثر مما شوه اللغة الفرنسية». لقد ساعدت إرادياً أو لا إرادياً العلوم والصناعة واللغة المحكية في الجامعة والرياضة والتلفزة والسينما على نشر المفردات والكتابة الإملائية الأمريكية التي غزت الشاشات والأماكن العامة ورفوف الإعلان ومنتجات المخازن الكبرى والتقارير الرسمية. لقد انطلقت فكرة التعديل الإملائي للغة بواسطة نيو وبستر بعد حرب الاستقلال واعتبر هذا التعديل بمثابة حرب باسم الوطنية والتفوق الأمريكي. وفي عام 1783 ظهر كتابة التهجئة للغة الأمريكية. ونتيجة للحماس الذي أظهره توماس بين وأزره ستيلس وتيموتي دويك ووليم سميث وكتاب آخرون ومثقفون وأساتذة وقضاة ورجال سياسة الذين اعتبروا أن الأمة الأمريكية تمثل المشعل الذي سينير العالم وصلت الولايات المتحدة لقمة المجد والشرف فحلم وبستر أن يبدع لغة أمريكية خالصة تتميز عن الإنكليزية المحكية في إنكلترا الغارقة في الفساد والجنون والاستبداد. ووضعت المؤلفات والآداب الأمريكية وبستر كأي فرد من الأمريكيين الأوائل «ينكي» مشبع بالتفوق بكل ما هو أمريكي. ومن حينها دخلت العناصر الأساسية للتغيير إلى ميدان الفعل فانتشرت الكلمات والتراكيب والتعابير والإملاء الأمريكية وأخذت مكانها بدلاً من مثيلاتها الإنكليزية.(1/259)
أليس من المدهش مثلاً أن يرصع الطلبة والتلامذة والمهندسون والأطر الإدارية والسكرتيرات والتجار ورجال الأعمال في كل أنحاء العالم نصوصهم وتقاريرهم ورسائلهم بكلمات أمريكية فيكتبون مثلاً Center بدلاً من centre و Thru بدلاً من Through وcolor بدلاً من colour وdéfence بدلاً من defense وtraveler بدلاً من traveller وtheater بدلاً من theatre ... إلخ أما المفردات فلها نصيبها أيضاً فبعد يوم عمل في الورشة نقول الآن نلتقي البيت بدلاً من في البيت (home بدلاً من at home) وللتعبير عن المرض نقول sick بدلاً من ill وفي الشارع نقول نمشي على حافة الطريقة بدل من كلمة الرصيف (Sidewalk بدلاً من pavement) ... إلخ والتعابير أيضاً سارت في المنحى ذاته فيقول التلاميذ الذين تعلموا في أمريكا (I just went home أتيت لتوي إلى الوطن) والجملة الإنكليزية السليمة هي (I have just gone home) وهل معك سيجارة (do you have a cigarette? بدلاً من Have you got a cigarette?) ... إلخ وطالت هذه الطريقة بالكلام أسلوب لفظ الأحرف ذاته فحلت لفظ {R} الاسترجاعية مكان مثيلتها الإنكليزية الخفيفة والأنيقة وحلت اللكنة الأمريكية الفظة بدلاً من لغة البي.بي.سي B.B.C الإنكليزية المنمقة.(1/260)
لا يوجد تلميذ أو بالأحرى طالب جامعي جدير بأن يحمل هذا اللقب إلا ويفكر بأن يجري دورة في جامعة أو معهد عالي أمريكي. وهكذا أخذت جامعات هارفرد وشيكاغو ويال وبرنستون ونيويورك ولوس أنجلوس وأقسامها للاقتصاد والحقوق والآداب والأم.أي.تي MIT في بوسطن ومجموعتها العملية ومعاهد الأبحاث تهيّء وتخرج الكوادر المستقبلية والموظفين بل وتحكمت بالمسؤولين السياسيين المقبلين في كل أنحاء المعمورة. الجميع بالقصد أو بدون قصد حملوا وطبقوا ونقلوا النموذج وأسلوب التفكير والأساليب والحلول وردات الفعل الأمريكية الشكل.كم من الناس الواعين لا يستعملون يومياً المفردات الأمريكية؟!! وقد يندهشون حين نقول لهم هناك كلمات أخرى يمكن أن يستعملوها للتعبير عن أفكارهم دون الإساءة للغة الفرنسية. إن عملية إلغاء المفردات للغة الأم وانهيار المخزون المعجمي والتفقير التركيبي كل هذا يشكل المواد الأساسية للأمية وهي تساهم أيضاً بتشويه اللغة الإنكليزية الأوروبية وبتعميم إجباري للغة عامية ولكنة أمريكية في المحافل الرسمية كلها.
انتصار الابتذالية:
في كتابه «حرب الذوق» الصادر عام 1995 برهن فيليب سولرز كم أفسدت الليبرالية والأمركة حضارتنا وقارن عصر النور مع عصرنا فأشار بوضوح إلى دأب الأول بعدم الإساءة للحس الجمالي في أسلوب التعبير أو اللباس أو الغذاء وإلى استسلام الثاني الذي يتهمه بحق بأنه تخلى عن مسؤولية إثبات الهوية ووضع الذوق العام تحت تصرف متطلبات السوق ودراسات علماء الاجتماع. طالما أنه يأتي من خلف الأطلسي «ما هو سياسي وما اقتصادي صحيح» إضافة إلى المشاعر والعواطف والنرجسية التي أصبحت رائجة بفضل التلفاز الأمريكي للتحالف مع نمو غير معقول للأمية وللتعصب المذهبي (الاقتصادي والديني ..إلخ) من أجل نشوء بنية كونية استبدادية وسوقية في آنٍ واحدٍ. فهذا الانتصار حسب سولرز للتزمت الذي يقود دائماً إلى الفاشية.(1/261)
تقع المسؤولية الكبرى في هذا الإطار وبدون شك على الجزء الأكثر انفتاحاً نحو الخارج من الشعب الأمريكي والأكثر ظهوراً في وسائل الإعلام.فالقسوة الأخلاقية والخشونة والتعنت أصبحت إرثاً من الماضي الذي أطلعنا فيما سبق على خطوطه العريضة. وكما أوضح دانيال بورستين فقد ساهم المناخ وأسلوب الحياة في أمريكا والأصول المهنية (طباعة أو فلاحين) للسكان القادمين من أوروبا على خلق مجتمع أمريكي مؤلف من أناس لا يملكون الكثير من التهذيب وغير مرهفين. فالحدس السليم المبسط والنفعي أخذ سريعاً مكان رهافة الحس ولعبة المضاربة والمنافسة وقانون السوق كانت الشعار الأعلى في هذه المبارزة والتجربة الخشنة في المواجهة حلت محل التفكير الفلسفي. ويتابع بورستين فيقول إن المسيرة نحو الغرب كَوَّنَتْ الإنسان الأمريكي كما نعرفه اليوم. لقد أوجد هذا الخليط من الأفراد المختلفين من إيرلنديين وألمان وبولونيين ويهود وإيطاليين وإنكليز من يوركشير وسفولك وأزكس ولندن وجميعهم من نفس الطبقة الاجتماعية، نوعاً من التوازن
المقياسي لهذا الشعب على الصعيد اللغوي وعلى مستوى التصرفات. ويؤكد بورستين فيقول «إن الحياة في أمريكا كانت منبعاً ومصدراً للتماثل».
عملية التماثل هذه أو التأخذ تمت ضمن مفهوم التبسيط الذي يحمل الفظاظة والخشونة رغم محاولات رجال مثل وبستر لكي يحفظ للغة الأمريكية ضمن رؤية التسلط والمفاخرة نقاءً يقربها من الإنكليزية البريطانية في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر وبالرغم من جهود الأغنياء للاحتفاظ بنمط معاشي قريب من البرجوازية الإنكليزية.(1/262)
لايزال يظهر هذا التبسيط اليوم في طريقة التعبير وفي الأساليب الفظة وغير المهذبة لإنسان الشارع كما للإنسان الذي يعمل بالسياسة الخارجية. وملخص القول كما يؤكد بورستين فإن اللغة الأمريكية تكونت في قالب عناصره «من ربان السفن ومن باعة الفرو ومن الكشافة ومن أولئك الذين كان عملهم يرتكز على مدح مزايا بلدانهم والقتال ضد الهنود واستصلاح الأراضي» وتميزت بالاكتشافات المتعددة للغة محكية لا تكترث كثيراً بالقواعد» وبرهنت حسب تعابير بورستين عن «الحيوية المشتعلة» كما كان عليها أن تتأقلم مع كل المفاهيم والأهداف والأوضاع الجديدة وهذا لا شك فيه. فالنتيجة كانت «نوعاً من التمجيد للعامية» ونصراً للمخلفات عند نهاية «جلسة سكر» وكان لهذه اللغة وقعها الموسيقي وقواعدها الفظة. ويضاف لذلك أسلوب التكلم وهو الشكل الأمريكي للتحدث بمبالغة «شبيهة إلى حد غريب بلغة الدعاية في القرن العشرين» وهي «اللغة التي لا صح فيها ولا خطأ إنها لغة العظمة في المبهم» ونجدها في التصرف الكلامي وفي الحركات المبتذلة والمبالغ بها للسياسيين وللمثليين ولرجال الأعمال الأمريكيين. ويضيف بورستين فيقول هذا الصوت الصارخ والمبالغ به الذي ولد من «حيوية بدائية» والذي استخدم «على المراكب البسيطة وفي مسيرة العربات وفي مخيمات عمال المناجم ولدى باعة الفرو» انتهى به المطاف ليهبط «من أعلى الكراسي ومن المنصات ومن منبر الكونغرس. لقد ارتفع هذا الصوت إلى أعلى السلم الاجتماعي راح المبشرون والأساتذة وأعضاء الكونغرس يتكلمون كالعامة».
أثر هذا الغياب للتميز وهذه الفظاظة اللفظية والفكرية باللغة المعاصرة لأكثر الأمريكيين. يجب علينا إذاً أن نعمل ضد هذا الخبل وهذا التهور.
((
الفصل الخامس :
هل نستطيع أن نتخلص
من الإمبريالية الأمريكية؟
وأنت ، يا أمريكا
أبناؤك كبار ولكنك أنت أكبر من كل شيء
تمسكين النصر بيسارك والعدل بيمينك
أنت، مبدأ الوحدة وتمسكين بكل شيء(1/263)
توحدين وتمتصين وتتسامحين
بك أنت، وبك أنت فقط أتغنى إلى الأبد
أنت وأنت فقط تساوين العالم
بمشاهدك المنسجمة والمتعددة والمتنوعة واللامحدودة
أنت تحتوين العالم في لغة واحدة ودائرة واحدة
إنك القدر الوحيد ولا انقسام فيه لهذا العالم
(والت وايتمان)
ابحري، ابحري بقدر ما تستطيعين يا سفينة الديمقراطية
طوقك من كل القيم
قاعك ليس الحاضر فقط بل الماضي العريق
أنت فوق قاعدة ليست بمثل الغرب بل
إنها تبحر مختصرة الأرض كلها
(والت وايتمان)
« ... ... تصرف بناء وقوة عسكرية كافية لردع أية أمة أو مجموعة أمم تجرؤ على أن تتحدى سيادة الولايات المتحدة».
(تقرير ولفووترز)
«إن الله مع أمريكا، إن الله يريد أن تقود أمريكا العالم»
(ريتشارد نيكسون)
أقل من مائة عام تفصل بين القصيدتين لوايتمان وما بين التقرير الذي طلبه البنتاغون من ولفووترز. والمدة الفاصلة ما بين القصيدتين اللتين افتتحنا بهما الفصل وبين تصريح الرئيس نيكسون في خضم حرب فيتنام هي أقل أيضاً. ومنذ السنوات الأولى للقرن السابع عشر عندما وطئت أقدام مستعمري فرجينيا الأوائل أرض العالم الجديد وهم مقتنعون بأنهم سيشيدون إمبراطورية مدعوة للسيطرة على الكرة الأرضية إلى يوم ذكر الرئيس كلينتون لهذه المهمة ومروراً بالهدف الإمبريالي الذي تم إعلانه في نهاية القرن التاسع عشر وتهديدات رونالد ريغان وجورج بوش – أي فرق يوجد ما بين هذه التهديدات ودعوات القديس برنار الذي دعى رهبان الهيكل أثناء الحملة الصليبية الثاني إلى القتل «باعتبار أن الخضوع للموت أو إعطاؤه لا جرم فيه حسب المسيح»؟ - خلال هذه الفترة إذاً لم تتبدل كلمة في خطاب الولايات المتحدة.(1/264)
هوت إمبراطورية الشرق عبر صيحات الحبور والاستبشار، وأدىّ ذلك إلى سقوط الجدران وارتعاش فرائص العالم وفكرنا حينها أن ذلك كان مقدمة للسلام الضائع وللديمقراطية ولسعادة الجميع. فإمبراطورية الغرب بقيت وحدها والذي ينبغي أن يكون واعداً ظهر أنه مثقل بالتهديدات وبالمخاطر. فأكثر من أي وقت مضى باتت أمريكا كدولة عظمى وحيدة وليست جاهزة لتنسى أحلامها بالسيطرة حتى وإن كانت هذه الأحلام تندرج في نوع من التناقض. لأن كما يُذكر بذلك ألفردو جي.أيه. فلادو «الرأي العام الأمريكي المتمسك دائماً بزعامة العالم هو كثير الحذر بالنسبة للتدخلات العسكرية البعيدة عن بلاده». نعم للسيطرة بالتأكيد ولكن ليس بثمن دم الرجال الأمريكيين. إنهم يفضلون أن يسيطروا بواسطة التجارة والروابط الاقتصادية وبالاتفاقات التي تجبر الآخرين والتي تستطيع الولايات المتحدة تفسيرها بحرية لصالحها. هناك أيضاً هذه الأسس الصلبة المؤلفة من فضاءات معينة في العالم تستقبل القواعد والبنى التحتية وانطلاقاً منها يبديان كل تدخل ممكن في أي وقت أو هذه الناقلات الضخمة التي تخوض غمار البحار والمحيطات وتسمى بالأسطول السادس والسابع ... إلخ.
تمسك الولايات المتحدة اليوم بيدها الأوراق الأساسية في اللعبة الكونية بالطبع. فلا يمكن اتخاذ أي قرار جوهري ولا إقرار حل حاسم دون موافقتها. في القارة العجوز الأمريكيون هم الأسياد بالرغم من المقاومات التي تنشأ هنا وهناك في المجال الاقتصادي. إن اتفاقيات دايتون هي تجسيدٌ لعجز الأمم الأوروبية عندما تنفجر أزمة كبرى عسكرية أو سياسية، ألم ير التوقيع تحت مظلة الولايات المتحدة في 14 كانون الأول 1995 كما قال قادة كروات وصرب وبوسنيين «مسجونون في قاعدة عسكرية» في الوقت الذي كان فيه «الروس والأوروبيون ينتظرون طويلاً عند الباب»؟؟ تعالوا لنذكر هنا باختصار بالجدول الزمني لهذا التنازل.(1/265)
عندما ضعفت الفيدرالية اليوغسلافية التي خلقت من التوزيع الذي قام به تيتو سنة 1945 للصرب على أربع دول (كرواتيا – البوسنة والهرسك – مونتنغرو – صربيا) وهذا ما لم يقبله الشعب الصربي، ساهمت عدة عناصر بتصعيد التوتر بعد وفاة المارشال من هذه العناصر نشر عزت بيكوفتش عام 1983 لبيانه الإسلامي الذي عبر فيه عن إرادته بإقامة أنظمة إسلامية وباتباع سياسة لعموم المسلمين. إلا أن العامل الأساسي الذي حمل الولايات المتحدة على ممارسة الضغط على يوغسلافيا بواسطة صندوق النقد الدولي كان بسبب الدين الضخم الذي أخذته يوغسلافيا خلال السنوات الأخيرة لنظام تيتو. طلقة الرحمة أتت من ألمانيا التي اعترفت غداة اجتماع الدول الاثنتي عشر في بروكسيل في 16 كانون الأول 1991 بكرواتيا وسلوفانيا دون أن تستشير أحداً، بل طلبت من شركائها الأوروبيين أن يفعلوا مثلها. وهكذا وضمن أجواء الانبعاث القومي الهائج باتت الحرب أمراً لا مفر منه. أما الولايات المتحدة التي جعلت من ألمانيا شريكاً مميزاً لها في أوروبا دعمت القوميين دون تحفظ. فألمانيا هي الرابط الأساسي بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية بما فيها روسيا لم تتوقف يوماً عن خدمة المصالح الأمريكية منذ نهاية عهد المستشار أيزنهاور، وقد بدت أنها حليفة قيمة أكثر فأكثر يوم تبعت سياسة واشنطن لتوسع الحلف الأطلسي.(1/266)
عندما اندلعت الحرب استخدمت الولايات المتحدة المشاكل الاقتصادية الصربية للدفع إلى التفجير النهائي للفيدرالية اليوغسلافية، وتم التصويت في 30 أيار 1992 على فرض عقوبات اقتصادية ضد بلغراد بالرغم من تحفظ الدول الأوروبية إلا أنها لم يكن باستطاعتها مقاومة الرغبة الأمريكية ويُفسر هذا التحفظ ليس فقط بخطر انفجار يوغسلافيا وهذا لم يكن لمصلحة الأوروبيين بل كان هناك تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي في 2 حزيران 1992 يشير إلى مسؤولية الكروات في تصعيد الصراع، وهذا ما اعترف به أيضاً الجنرال الفرنسي موريون، إلا أن الأمريكيين أجلوا نشر هذا التقرير. وفي 3 حزيران طلب الكروات رسمياً التدخل العسكري ضد الصرب وقد ساندتهم ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي كان يهمها حينها بعد حرب الخليج إرضاء المملكة العربية السعودية ودول إسلامية أخرى. وفهم الأوروبيون بأن البيت الأبيض كان يرغب تدخلاً عسكرياً أوروبياً لا تشترك به القوات الأمريكية.(1/267)
اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالتدخل عندما أعدت باريس خطة قابلة لإقامة السلام تقسم بموجبها البوسنة والهرسك إلى ثلاث دول كونفدرالية: إسلامية وكرواتية وصربية وكان لابد من تقديم تنازلات من أجل الوصول إلى اتفاق شامل. إلا أن مذبحة سوق سراييفو التي لم يتأكد أحد من فاعليها لم يترك المجال للتفكير بكل الفرضيات (نذكر هنا انفجار مين الذي شكل الحجة لغزو كوبا عام 1898) هذه المذبحة إذاً حملت الأمريكيين على التدخل في الصراع. عندها طلب الأمين العام للأمم المتحدة (ويمكن أن نسأل لماذا؟) من الحلف الأطلسي وليس من مجلس الأمن بالتدخل عسكرياً. وبعد استعراضات القوة الأمريكية في بحر الأدرياتيك وقصف المواقع الصربية في البوسنة (من 29 آب إلى 20 أيلول 1995) لم يعد هناك أي نقاش لكف يد الأوروبيين وأقرت اتفاقيات باريس في 14 أيلول 1995 العمل بمقررات دايتون (21 تشرين الثاني) بإشراف قوات الأيغور وهي قوات لتطبيق القرارات بإشراف الحلف الأطلسي قوامها 60 ألف رجل ثلثهم من الأمريكيين. وأصبحت عملية الإبعاد الأوروبي فعلية عن تسوية ملف هو أوروبي بشكل كامل عندما اتخذ مجلس الأمن قراراً في 15 كانون الأول منح به الحلف الأطلسي مسؤولية تطبيق اتفاق السلام في البوسنة. وحتى نهاية عام 1997 لم تجد أي قضية حلاً لها وبقي الوضع السياسي المصطنع لهذا البلد _كما كان الحال عام 1919) في حالة توتر ولم يتوقف عن التشرذم سياسياً واجتماعياً وخاصة بسبب مسألة اللاجئين الذين لم يتخذ بعد قرارٌ بعودتهم. أما القوات الجديدة SFOR التي تتولى مهمة نشر الاستقرار والتي أنشئت في كانون الثاني عام 1997 (30 ألف رجل) فإن الولايات المتحدة تمتلك أكبر فرقة منها. ولم يبدل الإعلان قرار انسحابها في حزيران 1998 أي شيء لأن مستقبل المنطقة ومستقبل كامل البلقان هو اليوم بين يديها.(1/268)
تركت المرحلة الانتقالية التي بدأت عام 1989 بسقوط جدار برلين مسألة أساسية معلقة وهي إعادة بناء قوة أوروبا حسب ميشيل فوشه يطرح سؤالاً ثلاثي الأبعاد:«هل يجب على أوروبا أن تصبح قوة عظمى أي دولة جماعية قادرة على التأثير بما فيه التأثير العسكري ؟ هل يتعلق الأمر ببساطة بالدفاع عن المصالح أو جملة المصالح المتطابقة ؟ أو هل يجب التفكير بعقلية ما بعد الحرب الباردة من تواجد وتأثير وإشعاع ؟ » أمام هذه الأسئلة الثلاثة ومهما كان الجواب واضحاً إلا أنه ليس بالبسيط وخاصة فيما يتعلق بوسائل العمل التي يتطلبها.
لم تكن الدول الأوروبية عبر التاريخ إلا دولاً متكونة موحدة لها مشروع جماعي وكل محاولة لقلب هذا المشروع من قبل أقلية مّا كانت تواجه بمقاومة السلطات السياسية. فلم يتحمل أي ملك في الماضي قيام مجموعات أو أقليات عرقية تستأثر بحق توجيه الواقع السياسي أو حتى امتلاك جزء من هذا الحق وإلا عرض بذلك الوحدة الوطنية للخطر.(1/269)
لهذا قام فيليب لوبل بالتخلص تارة من اليهود وتارة أخرى من كهنة الهيكل كما هدّد اللومبارديين لأنه رأي في الثلاثة رمزاً بل أكثر من الرمز للسلطة المالية والاقتصادية القادرة على جعل السلطة السياسية رهينة بيدها. إن أوروبا كونفدرالية كانت أو فيدرالية مؤلفة من دول قومية لا يمكن لها مستقبلاً أن توجد خارج الوحدة السياسية المجسدة بشكل دولة قوية مستقلة ولها دورها في الخارج وهذا يتطلب أن تضع تحت وصايتها السلطة الاقتصادية وبالطبع إمكانية امتلاك التأثير العسكري.ومهما يكن الشكل السياسي الذي تختاره هناك مبادئ تطرح نفسها فالدول القومية بأولوياتها الموروثة من التاريخ تشكل نقطة انطلاق لا يمكن تجاوزها، ثم إن أوروبا لا يمكن أن تكون مغايرة للبنية الملازمة والمعقدة للدول التي تشكلها وهذه الدول تتكاثر بالطريقة التي رسمها ليبراليو المدرسة الكلاسيكية وأصحاب الفكر النفعي. إذا أرادت القارة أن تصبح قوة سياسية عظمى في هذا العالم عليها أن تجسد المفصل السليم والصلب الذي يرتكز على قواعد تاريخية وثقافية وعلى حقائق قومية في فرنسا وألمانيا وإيطاليا ... إلخ ولا يستطيع تطابق المصالح القومية أن يكتفي بأن يكون القاسم المشترك الصغير السياسي والاقتصادي بل يجب أن يكون محصلةً لمجموع المكونات القومية وصوغها بواسطة سلطة سياسية قومية مهما كان شكل البنية التي تختارها. هذه العملية لبناء الدولة الأوروبية القومية ولتنظيم المصالح القومية في وقت واحد، تبدو على الفور بأنها ضرب من الوهم إذا لم تظهر للعالم دليلاً على عقبات الوجود وعلى التأثير السياسي الاقتصادي وعلى الإشعاع الثقافي الذي لابد له إلا أن يمر بعملية إعادة الاعتبار للغات الأوروبية على مستوى العالم أجمع على حساب الإنكليزية الأمريكية المرجع.(1/270)
حيال هذه المخاوف الضاغطة ستصطدم كل محاولة أوروبية لاثبات وجودها بما أسماه ميشيل فوشه «قوى الحضارة المادية التي تنتشر على الصعيد العالمي». هذه القوى إن أردنا أن نعترف بذلك أم لا، هي قوى أمريكية وحتى الحقائق القومية الخاصة تساهم بتقوية القوة المركزية متناقضة مع ما تحتاجه أوروبا لكي تؤكد وجودها كقوة سياسية ذات سيادة. هذا الدور قامت به ألمانيا وإنكلترا وإسبانيا وإيطاليا عندما تضع العصي في العجلات التي تديرها فرنسا في كل مرة تحاول فيها هذه الأخيرة معارضة الولايات المتحدة. هذا الخلاف القائم هو أحد الأسباب التي جعلت فوشه يقول بحق بأن الاتحاد الأوروبي «يواجه خطر أن يحتل موقع المقاول في المؤسسة وفي الاستراتيجية المقررة بواسطة واشنطن».(1/271)
وإن كانت أوروبا تتجاهل ذلك لأنها تفضل ألا تراه أو لأنها عمياء أو جبانة – وتتجاهل الوزن الناتج عن وحدة وجهات النظر ووحدة الأساليب فهذا التجاهل ليس موضع شك. إن أوروبا اليوم 25% من الناتج الدولي وتمثل عملاتها الثلاث الأساسية 43% من مجموع ديون صندوق النقد الدولي مقابل 40% للدولار وتحتل صادراتها واستيراداتها المركز الأول في العالم. رغم ذلك فكل شيء يبدو وهمياً بمفاهيم القوة السياسية الحقيقية لأن الولايات المتحدة أقامت الحواجز في كل مكان وهي قادرة على التحكم بالمؤسسات العالمية (الحلف الأطلسي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة) وتثير الكثير من ردات الفعل بكل سهولة لإسقاط أي محاولة للاتحاد الأوروبي من أجل الوصول إلى سيادة قراراته الأساسية. لذلك تبدو أوروبا حالياً غير قادرة أن تحقق ذاتها لغياب الوحدة الأكيدة والعلنية، ولغياب الصورة الجديرة بالثقة والمقنعة والتي تستطيع أن تجذب إليها دول آسيا المتضايقة من العجرفة الاقتصادية الأمريكية من الكفاف الصيني. إن ظاهرة استقبال 215 ألف طالب من العالم الثالث في الجامعات الأمريكية مقابل 50 ألف طالب يختارون الجامعات الأوروبية هي ظاهرة غير بريئة فهذه العقول التي تعد بالطريقة الأمريكية تساهم بقوة بتغيير العالم حسب النموذج الأمريكي.(1/272)
لا نستطيع هنا أن نندّد بالشكل الكافي بالجبن الأوروبي وخاصة في مجال الدفاع. يشير بدقة فلادو في سياق وصفه للنموذج الدولي فيما يخص القوة العسكرية إلى الطريقة التي تطور فيها مفهوم «الحرب». فإذا خضعت كل الأمم إلى «المراجعة الشاملة العميقة لسيطرتها على العنف المشروع» وإذا لم يعد استعمال القوة المسلحة ممكناً دون عقاب إلا أنه هناك استثناء كبير هو الولايات المتحدة. إن مفهوم «المجتمع الدولي» بدلالاته الإيجابية يخفي واقعاً مخادعاً ومقلقاً. فإرادة هذا المجتمع الأسطوري ورغباته نستطيع تفسيرها قليلاً من خلال مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي) أو إقليمية (الحلف الأطلسي) وهي مؤسسات بعيدة كل البعد عن الحيادية وعن اللامبالاة. في هذا الإطار يقول فلادو «بالتأكيد إن المصالح التي يعبر عنها المجتمع الدولي تستطيع أحياناً الولايات المتحدة أن تتصرف بها وتستخدمها بطريقتها لأنها هي الأقوى»، ونحن لا يمكننا أن نقول ذلك أفضل. اختراع مفهوم آخر أوجدته الولايات المتحدة يشكل أحد التفسيرات للقانون الدولي حسب الرهانات الخاصة بعملاق ما وراء الأطلسي، هذا الاختراع هو «الدول الطعم» وبعبارة أخرى شيطنة الحكومات التي تمثل أفعالها أو وجهات نظرها أو المواقف التي تتخذها ازعاجاً للأمريكيين الذين نتيجة ذلك يرمون عليهم الخزي والعار ويتعاملون معهم «كدول عصاة»، عند رؤية الواقع لا يمكننا أن نقتنع بشكل كامل بأن القانون الدولي قد تقدم منذ بضع عشرات السنين إلا إذا قبلنا بأن أنظمة الأقوياء التي يقودها بالطبع أقوى الأقوياء تشكل بحد ذاتها تقدماً. ولا يبدو أن انتصار القوة العظمى المخربة قابل أن يسعد أي إنسان في العالم إن لم يكن أمريكياً أو متعاوناً معه بروحه.(1/273)
هنا أيضاً تتحمل أوروبا بشكل خاص مسؤولية كبيرة، فبدلاً أن تكتفي بطلب المساعدة من الولايات المتحدة في كل مناسبة أوتوماتيكياً كعادتها أو بسبب الكسل، عليها من أجل مصالحها أن تخلق قوة ومراكز عسكرية أوروبية فقط كما أن تسليحها ومعداتها ومراكز قرارها أوروبية بشكل كامل ودون أي استثناء. يتطلب هذا المشروع بالتأكيد زوال الحلف الأطلسي وترحيل القوات والموظفين الأمريكيين إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي وللأسف نحن لانزال - لأن الجنرال ديغول لم يعد بيننا – على بعد سنوات ضوئية من هذا الأمل.
إن أوروبا ليست المنطقة الوحيدة في العالم التي تقع تحت الوصاية الأمريكية، الشرق الأوسط هو في نفس الموقع.(1/274)
الأمريكيون هم المنسقون لعملية السلام التي من أجلها كما ذكَّرنا مؤخراً إدوارد سعيد قدم الفلسطينيون الكثير من الضمانات وتنازلوا كثيراً ( لا شك كثيراً جداً) والأمريكيون مازالوا حتى هذا التاريخ، يقودون المفاوضات مع الأطراف المعنية بمفردهم لأن الأوروبيون قد استبعدوا هنا أيضاً، وسوريا لا تجري محادثات إلا مع الولايات المتحدة، وذلك منذ حرب الخليج حيث أسعفها الحظ باختيار المعسكر الرابح والتي أعطت الولايات المتحدة مصداقية لا شيء موضوعي يبررها فعلاً. وإن كان الفشل الذي منيت به اتفاقيات أوسلو أزعج واشنطن إلا أن السيطرة الأمريكية على المنطقة لم تتأثر بذلك. ومع وجود نقاط ارتكاز مثل المملكة العربية السعودية والكويت ومصر والأردن بجانبها إسرائيل المتذبذبة والمحيرة أحياناً ولكنها الحليف الأبدي لها، فالسيطرة التي تمارسها الولايات المتحدة على منابع النفط لا يمكن أن يناقشها أحد. وخاصة أنها من جانب آخر تناور لكي تستطيع محاصرة إحدى الدول التي تقاومها وهي إيران، فإلى جانب حظر التبادلات الاقتصادية والتجارية مع طهران وفرضه على العالم أجمع بواسطة قوانين (هلمز – بورتون واماتو) تحاول الولايات المتحدة استخدام ما لديها من أساليب لعزل هذا البلد. وبشكل متناقض لموقفها فهي تدعم طالبان الحركة الأصولية المسلحة المتطرفة (مما يدفعنا أن نفكر جدياً حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الأمريكيون في الجزائر). ما تريد الولايات المتحدة تحقيقه بالمدى المنظور يتجاوز الخنق الممكن للنظام الإيراني. فشركة أونوكال الأمريكية تتمسك كثيراً بتنفيذ مشروع أنبوب الغاز الذي يصل بين الباكستان وتركستان، ورغم التحفظات المهمة ساندت تركستان وأزبكستان حركة طالبان ليس إرضاءً فقط لواشنطن، بل أيضاً بسبب التفكير بإشادة أنبوب الغاز.(1/275)
وأمام التعنت العقائدي لطالبان عبرت الولايات المتحدة عن انزعاجها مما أدى بهدف الاقتصاص إلى تقارب بين كابول وطهران، أما فيما يخص الروس فقد دعموا قيادة مسعود عدو طالبان. إن ما تستطيع إيران أن تكسبه من هذا التفاهم مع أفغانستان هو واضح بالطبع، فهي تخفف من التضييق عليها في السندان ما بين المملكة العربية السعودية وتركيا (الحليفتين لأمريكا) في الغرب وما بين أفغانستان وباكستان في الشرق، وعدا ذلك فهي ستصبح في موقع قادر على التصدي لعداء واشنطن وخاصة بعد عدم انصياع الأوروبيين بواسطة شركات شل (إنكليزية – هولندية ) وتوتال (فرنسية) إلى التهديدات الأمريكية بالتدابير الثأرية.(1/276)
في المحيط الهادي حيث لا أحد يقاسمها العظمة شهدت الولايات المتحدة تأكيداً لسيادتها على آسيا عبر مجموعتين من الأحداث: الأول هو التوتر المفاجئ في بحر اليابان خلال صيف 1995 عندما حاولت كوريا الشمالية المتورطة أكثر من أي وقت مضى أن تهرب إلى الأمام بالإعلان عن طموحاتها النووية والثاني هو التهديدات الصينية ضد تايوان في ربيع عام 1996 التي أدت إلى نشر حاملتي الطائرات للقوات البحرية الأمريكية وكان ذلك كاف لعودة الهدوء. أما فيما يخص ميثاق الأمن الذي يجمع منذ عام 1945 بين الولايات المتحدة واليابان فقد تم تعزيزه طويلاً بإصدار إعلان مشترك في نيسان 1996. وباعتبارهم قد جلسوا بثقة في مواقعهم الاستراتيجية في جنوب المحيط الهادي (جزر سموا وغوام ومريال الشمالية) وهي مواقع مهمة بسبب احتياطها من الفحم لذلك كان الأمريكيون جاهزين للتدخل في جميع أنحاء المنطقة الواقعة بين سواحل الولايات المتحدة والمحيط الهندي. وتوزعت التبعية الآسيوية على محورين، أولاً المحور العسكري، فلم تكن اليابان هي البلد الوحيد الذي ربط أمنه بحلف مع الولايات المتحدة لأن جنوب شرق آسيا كان في الوضع نفسه. ثانياً وهو الأهم أيضاً المحور الاقتصادي. وكما في أوروبا فقد ارتبطت آسيا بشبكة من اتفاقيات التعاون والدمج حيث أن شروطها راحت تضيق الخناق عليها.وقد نتج عن التكيف القسري مع القواعد الدولية وخاصة قواعد المنظمة الدولية للتجارة بعد مرحلة من النمو الاستثنائي، اضطرابات وعدم استقرار. فقد تراجع النمو في كوريا الجنوبية التي كانت ضحية الديون الكبيرة لمشاريعها. أما تايلاند فقد دفعتها المضاربات العقارية إلى الرعب وكادت تصل إلى الإفلاس على الطريقة المكسيكية بعد انهيار عملتها.(1/277)
ومن جهة أخرى تستخدم الولايات المتحدة بذكاء لعبة المنافسة بين اقتصاديات الدول الآسيوية المختلفة لصالحها باحتفاظها في الوقت نفسه بأسلوب الضغط بفضل المخططات البنيوية لصندوق النقد الدولي. وأخيراً على الصعيد الثقافي انتشر التحول الغربي للشرق الأقصى بواسطة اللغة الإنكليزية والانترنيت وإعداد العقول الإدارية في الجامعات الأمريكية.(1/278)
في وجه تطور على هذا النحو سوف تقوم حقاً عقبات، فالليبرالية المتطرفة على الطريقة الأمريكية والتي قُدمت كأمر يصعب التغلب عليه تعمل على صدم وتشنج المشاعر الوطنية للدول الآسيوية التي لها قواعد تاريخية متينة وعريقة. وتبدو الصين في طليعة هذا الرفض بالاستسلام ولا ينقصها من أجل ذلك العوامل المتينة من جاهزية اقتصادية واضحة وفخر وطني شرعي قادر على الإنقاذ وإرادة قوية باستعادة الأراضي التي ترى أنها بالواقع قد سلخت منها. لا تخاف الصين أن تسمع صوتها المخالف مزعجة به الأمريكيين وخاصة عندما أدانت الحلف بين اليابان والولايات المتحدة. إن الصين تمثل لأوروبا التي تنازلت منذ زمن بعيد عن حب نفسها مثالاً مشجعاً. بالنسبة لأفريقيا هي المكان حيث أوروبا وخاصة فرنسا قد خسرت الكثير وحصدت الولايات المتحدة الكثير من المكاسب الاستراتيجية الحاسمة. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أفريقيا الحالية المؤلفة من قسمين اللذين بوقاحة حملا اللقبين «الدول المفيدة» و«الدول غير المفيدة» بالنظر إلى اللعبة الاقتصادية الإستراتيجية الشاملة ماذا يمكننا أن نستنتج ؟ تظهر المنطقة الجنوبية التي تسيطر عليها دولة جنوب أفريقيا العملاقة كمنطقة مستقرة لا تزعج كثيراً الولايات المتحدة أما المغرب حيث التوتر والألم هي اليوم مسرح لإعادة توزيع الأوراق، وفرنسا التي تتمتع بورقة رابحة بفضل العامل الثقافي والسياسي المهم الذي هو اللغة الفرنسية بدأت تتراجع هناك لصالح الأمركة الزاحفة والماكرة. في تونس يحافظ النظام على وضعه بصرامة بواسطة حكومة لا تتردد أن تضع في السجن العناصر المزعجة (مثل محمود موادا زعيم الحركة الديمقراطية للإنقاذ الذي حكم عليه عام 1995 بالسجن لمدة أحدى عشرة عاماً وكمياس شماري النائب عن الحركة الذي حكم عليه لمدة خمس سنوات سجن في 17 تموز 1995).(1/279)
بالمقابل توجد الصناعة في وضع مرض زراعياً (الإنتاج بازدياد مما يسمح بتخفيض استيراد الأغذية) وسياحياً (مع أنها في انخفاض بسيط) وبالرغم من أن العلاقات قد تعززت بين تونس والاتحاد الأوروبي بواسطة توقيع اتفاق التبادل الحر إلا أن دورها المساعد على الاستقرار في المنطقة لا يمكن أن تتجاهله الولايات المتحدة مما يتيح لهذه الأخيرة أن تركز اهتمامها على الجزائر وليبيا.(1/280)
في الجزائر حيث الشعور المناهض لفرنسا هو قوي (هناك الكثير من الأخطاء التي ارتكبت) ولم يعد سراً على أحد بأن أمريكا تراهن منذ عدة سنوات مضت على انتصار إسلامي. هل لجهاز السي. أي. أيه C. I. A. كما يقول البعض علاقة مع الحركة المتطرفة المسؤولة عن ارتكاب أبشع المذابح التي تدمي الواقع اليومي للجزائريين ؟ بدون أن نذهب بعيداً بهذا الاتجاه نستطيع على الأقل تقديم رؤيتنا المستقبلية.فأمام هذه الأعمال الوحشية سيتحرك الرأي العام الدولي طبعاً وسيطلب تدخل الأمم المتحدة وإذا حصل سيناريو تدخل شبيهً بالتدخل في الكونغو عام 1960 فسيكون ذلك أمراً مستساغاً وبين مصر الحليفة القوية والجزائر المسيطر عليها لن تتأخر ليبيا بالسقوط وهذا ما تأمله الولايات المتحدة. وبعد اتهامها دون دليل مقنع بحادثة «لوكاربي»وحادثة «تنره» خضعت ليبيا لحصار اقتصادي لأربع سنوات مما أدى إلى تفتيت بنيانها بشكل ملموس كما فكك نسيجها الاجتماعي. فعاودت الصراعات القبلية إلى الظهور في الوقت الذي فقدت السلطة السياسية المعزولة عن الشعب الكثير من هالتها وهذا الوضع الذي يذكر في بعض جوانبه بالوضع في تشيلي أيام الليندي أخذ يتدهور: تضخم نقدي خطر (600%) وارتفاع مذهل بالأسعار وتخفيض في قيمة العملة بلغ 75% خلال عشرين عاماً ومشاكل اجتماعية يصعب السيطرة عليها: مخدرات وانحراف وإجرام مما أدى إلى تعزيز الإجراءات الأمنية. وقانون هلمز – بورتون المطبق (خارج كل شرعية حسب القانون الدولي) خارج الأراضي الأمريكية ينال من كل الشركات الصناعية والتجارية التي تقيم علاقات اقتصادية مع ليبيا وقد وجد الكثيرون أنها إجراءات رادعة فعلاً.إن طلقة الرحمة لن تتأخر كثيراً لأن السيناريو الأمريكي الأخير قد بدأ. ألم يعلن جهاز السي. أي. أيه C. I. A.(1/281)
أنه اكتشف بفضل أقماره الصناعية للتجسس في «ترهونه» معملاً للسلاح الكيميائي تحت الأرض؟ نحن نعلم منذ زمن بأن هذا النوع من الإعلان المبهرج يسبق عادة صيحات بدء المعركة. إن الدخول الأمريكي في بقية أفريقيا «المفيدة» يثير العجب عندما ننظر من خلال الخارطة إلى حجمه، ففي الواقع كل هذه الدول من زائير سابقاً إلى جمهورية الكونغو وغينيا والغابون والكاميرون والسنغال وجمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندة ... إلخ تمثل مصالح اقتصادية واستراتيجية عظمى. وفي كل مكان وخاصة في المنطقة التي تتعامل بالفرنك الفرنسي الأفريقي الذي خفضت قيمته أيام حكومة إدوارد بلاديور حلت المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي – البنك الدولي) مكان المؤسسات التي كانت موجودة سابقاً ومرتبطة بفرنسا تم إعداد الخطط الهيكلية التي تناسب الواقع المستجد. وبمعنى آخر تحولت المنطقة السابقة لنفوذ الفرنك كي يصبح منطقة للدولار. وبهذا ينتهي إذاً النفوذ الفرنسي في أفريقيا فيبدو أنه حقاً بأن شبه الجزيرة لبكاسي (بين نيجريا والكاميرون) الغنية بالبترول وبالصيد البحري والآبار الاستثنائية للبترول في خليج غينيا واحتياط المناجم في الكونغو تشحذ ذكاء المناورات الأمريكية في هذه المناطق. فتدريب رجال كابيلا بواسطة مستشارين عسكريين أمريكيين يمكن تفسيره برغبة الولايات المتحدة بالتقرب إلى أقصى درجة ممكنة مع السلطات الجديدة في دولة زائير سابقاً بهدف استغلال النحاس ومعدن الكوبلت في شابا والألماس في كاساي وفي منطقة وتاسا (التي تحتوي أيضاً على الذهب) والنحاس في مناجم كولويسي ولوممباشي.(1/282)
هناك أيضاً التدخل السياسي – العسكري، وقد ظهر بشكل محسوس عن طريق البعثات التدريبية للمقاتلين في مختلف الدول التي يمكنها أن تشترك بشكل رمزي بقوات التدخل السريع لحفظ السلام «على الطريقة الغربية» أي الأمريكية. البلاد المعنية بذلك حتى الآن هي السنغال وأوغندا وأثيوبيا ومالي ومالاوي وغانا وهذه الدول تتلقى التدريبات والأسلحة من واشنطن (استراتيجية توسع سوق الأسلحة مترافقة دائماً بالإشراف الدولي على التسلح). وإذا أضفنا إلى ذلك المناورات الحاسمة لشركات البترول مثل شفرون واكسن وتكساكو الساعية أن تأخذ مكان الشركات الأوروبية نستطيع حينها أن ندرك بسهولة خطورة الوضع. ليس عجيباً إذا أن تدعم الولايات المتحدة حكومة الرئيس الحالي للكونغو، باسكال ليسوبا الذي يؤيد عقد اتفاق معها على حساب شركة البترول الفرنسية «إلف ِELF» لدعمه ضد منافسه دينس ساسو نغسو. هذه الشركات نفسها تتنافس مع شركة «ألفELF» في السباق على استغلال ما يمكن أن يكون أغنى الآبار البترولية الأفريقية في خليج غينيا. يشكل التدخل الأمريكي من الساحل الأطلسي إلى الخليج الفارسي حوالي ثلث القارة الأفريقية ويقسمها إلى جزئيين وما كان يسمى «بالحقل المربع» الفرنسي قد انتهى وحل مكانه نوعاً من تدويل الصراعات والرهانات الأفريقية وما هو إلا صيغة مريحة تغطي أمركة القارة.(1/283)
لقد بدأت إعادة انتشار الاقتصادي – الاستراتيجي في منطقة البحيرات الكبرى التي تتمركز تقليداً بين قطبي الاستقرار لبوروندي وراوندا عام 1989، إن يووري موسفني الرجل القوي في أوغندا قد عرف كيف يطرح نفسه كضامن للمصالح الأمريكية ضد الأصولية الإسلامية بالشكل الذي ظهرت فيه في السودان. فأوغندا المستخدمة كقاعدة خلفية لعناصر الجيش الوطني الراوندي التي قلبت نظام الرئيس الراوندي جوفنال هبياري مانا اكتسبت موقعاً تحسد عليه وذلك خلال العملية التي وضعت حداً لاستراتيجية التضامن المتنافسة خلال الثمانينات بين فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة على زائير تحت نظام موبوتو. وبرز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كعوامل مساعدة قيمة للعودة القوية للأمريكيين إلى المنطقة، هذه العودة لا مفر منها لذا لم يفهم الفرنسيون والبلجيكيون باكراً بأن الأنظمة الزائيرية والراوندية قد وصلت إلى نهاية السباق. إن انتصار قوات كابيلا واستيلاءه على كنشاسا دون مقاومة في 17 أيار 1997 كان متوقعاً من اللحظة التي أضحت بها الدبلوماسية الأمريكية سنداً له. ولم تخف جمهورية الكونغو الديمقراطية نيتها بمعارضة كل مساهمة فرنسية في أي إعادة تشكيل في المنطقة ورفض حتى أن تتدخل في شؤون دولة الكونغو الجارة. ليس من الصعب إذا تكهن الاستراتيجية التي تحكم مثل هذه المواقف من بدايتها للوصول إلى المصالح التي تراهن عليها.
التنازلات الأوروبية:(1/284)
أمام التحدي بالرد على الهيمنة الأمريكية على العالم فيما عدا بعض العوائق (مركسور في أمريكا اللاتينية التي تحاول الحكومة الأمريكية التغلب عليه بواسطة عملية ميامي(1) والمنظمة الآسيوية ANSEA التي تحاول الولايات المتحدة بالرد عليه عن طريق منظمة المحيط الهادي الآسيوية للتعاون الاقتصاديAPEC (2))، أمام ذلك لاتزال أوروبا تتحسس طريقها. مؤخراً أظهرت خضوعها العجيب لمنظمة حلف الأطلسي الأداة القيمة بالنسبة للولايات المتحدة. لقد قدمت لها منظمة الدفاع فرصة لقطع الطريق أمام بناء أوروبي لم يكن أبداً وديعاً.
__________
(1) إحدى عشر مجموعة عمل دائمة تمثل 34 دولة أمريكية ما عدا كوبا تحاول إعداد مشروع لمنطقة واسعة للتبادل الحر القاري تمتد من ألاسكا إلى أرض النار. هذا المشروع الذي تسوسه واشنطن يهدف عملياً إلى تحييد ما أمكن تأثير مركوسور حول الاستعادة الجزئية للاستقلال الاقتصادي لشعوب أمريكا اللاتينية.
(2) هذه المنظمة قامت بمبادرة أستراليا الحليف المخلص للولايات المتحدة وكان ذلك عام 1989. الدول الأعضاء (بروني – ماليزيا – إندونيسيا – الفليبين – بوباسي – غينية الجديدة – كوريا الجنوبية – الصين – تايوان – هون كونغ – وطبعاً الولايات المتحدة) تهدف إلى ليبرالية التبادل بين آسيا ودول المحيط الهادي وذلك حتى عام 2010 حسب أنماط مختلفة، وتحت وطأة معاملة صندوق النقد الدولي تدافع الدول الآسيوية عن نفسها رغم كل شيء وبشكل جيد. وبعد الأزمة المالية الأخيرة قررت تايلاند وماليزيا والفليبين وإندونيسيا وسنغافورة بعد الكثير من المعاناة أن تؤسس صندوقاً إقليمياً قيمته 100 مليار دولار يتدخل في الأزمات المستجدة. بالطبع عارضت الولايات المتحدة ذلك وصرح الناطق شبه الرسمي الأمريكي سنتلي فيشر المدير المساعد لصندوق النقد بأنه «عندما تعمل هذه الدول بمثل هذا الصندوق فإنها لن تبذل جهداً لتنظيم أوضاعها المالية».(1/285)
لقد صرح الرئيس كلينتون باشراقته المعهودة بأن «توسيع الحلف الأطلسي سيكون بالنسبة لعصرنا ما كان مشروع مارشال قبل خمسين عاماً» بل حتى إنه ذهب الانضمام عليه إلى أبعد من ذلك، فالميثاق الذي تم توقيعه عملياً وكما أكد جان أنطوان جياسيلي نائب رئيس لجنة الموازنة في البرلمان الأوروبي «قد محى يالطا». وأحل مكانه بالفعل تقسيماً جديداً للعالم نستطيع أن نقول عنه هذه المرة أنه يصعب إزالته، إذاً حسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي السابق جان فرانسوا بونسه J.F. Poncet «في واشنطن الكفاية الذاتية هي المطلوبة» فالسبب يبدو جلياً. لقد قرر الأمريكيون بالمناسبة كل شيء. إنهم اختاروا بأنفسهم الدول التي ترغب الولايات المتحدة أن تراهم في الحلف: بولونيا وهنغاريا والجمهورية التشيكية لأنها تمثل آفاقاً مغرية لسوق مهم للسلاح مقدمة فرصة مضاعفة مالية وسياسية. ويندرج تبديل السلاح غير الأمريكي بسلاح أمريكي في خط استراتيجي احتكاري تحدثنا عنه في مجال الدفاع: إذا أصبحت الولايات المتحدة هي الممول الوحيد للسلاح فسوف تحكم العالم بشكل نهائي. فهنغاريا تستطيع أن تكون القاعدة الخلفية لبعض المعدات الأمريكية في حال انسحاب محتمل من البوسنة حيث تتصرف الولايات المتحدة بكل انفعال. وقد مول مكدونالد دوغلاس قرص كمبيوتر ليزري دعائي يهدف لإقناع الشعب الهنغاري بالتصويت لصالح دخول بلدهم في الحلف الأطلسي. إن الشركة الأمريكية لصناعة الطائرات تساعدها شركة لوسنت للتكنولوجية الممول الأول للبنتاغون بمعدات المعلوماتية والعملاق الأمريكي للاتصالات وقد جهزت قاعدة تسزار Taszar وهي إحدى القواعد التي يستخدمها الحلف في هنغاريا وينوي مكدونالد دوغلاس أن يفوز بعقد تجديد معدات سلاح الطيران المجري بالطائرة المقاتلة هورنت ألف 18.(1/286)
علاوة على ذلك فإن التحالف الضمني زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا قد تم تجديده لأن التفاهم المباشر بين كلينتون ويلستن أبعد مرة آخرى الأوروبيين عن إدارة قضاياهم ناهيك عن إدارة قضايا العالم أجمع.
إذا كان باستطاعتنا أن نعتبر أن الشخصية الأوروبية للدفاع قد ماتت فإن الشخصية السياسية ليست بأحسن حال. إن مشروع توسيع الناتو تم اعتماده برمته من كلينتون وتطبيقه حسب إرادته ولكن طلبت فرنسا مع سبع دول آخرى بأنه آن الأوان لتعيين أوروبي على رأس قيادة الجنوب أجاب وزير الدفاع الأمريكي وليم كوهن بالرفض القاطع فانصاع الأوروبيون لذلك. بل إن البعض منهم راح يتهكم قائلاً:«أوروبا الأطلسية حتى الأورال قد وجدت الآن» بالفعل ولكنها أوروبا أمريكية. ولقد حدد معالمها باسكال بونيفاس مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في جامعة باريس 13 فقال:«تمت إعادة تحديد البنية السياسية والاستراتيجية لأوروبا بواسطة الأمريكيين وإعادة التحديد هذه ممهورة بختمهم دون سواهم. والحلف الأسطوري بين فرنسا وألمانيا الذي طالما أزعجهم لم يعد كذلك وحل مكانه كيان توحيدي عاصمته واشنطن. أما الناتو فقد تحول من أغراضه العسكرية ليصبح منظمة سياسية أي اصبحت مهمته أن ينفذ الأهداف الأمريكية لخدمة المصالح الأمريكية ولم يؤخذ بعين الاعتبار أي حاجة أوروبية. نحن اليوم إذا أمام أوروبا مدمجة كان قد رفضها ديغول بالسابق أما مهندسة أوروبا هذه فهي الولايات المتحدة والهدف الأخير للإدارة الأمريكية هو الوصول إلى أوروبا لا تختلف حدودها السياسة أبداً عن حدود الحلف الطلسي وسوف تتوصل لذلك.(1/287)
هذا ما نراه يحصل منذ عام وهو شاهد على التنحي الأوروبي بشكل حقيقي فإزاء الولايات المتحدة التي تبلغ نفقاتها العسكرية مجموع ما تنفقه فرنسا والمانيا واليابان وروسيا والصين تحاول اليوم أن تزيد نفقاتها، وعلاوة على ذلك لقد حصلت على تقدم تكنولوجي في مجال التسليح لن يستطيع أحد تعويضه على المدى المتوسط والذي كما يشير الكونجرس قد أنجز بكل سرية منتهكاً اتفاقية الحظر التي سبق أن وقعتها حول تطوير الأسلحة النووية الحديثة (صاروخ ترايدنت W 88 الذي يتم تحديثه من أجل الوصول إلى ترايدنت 2) في غياب أي تواجد أوروبي. نريد أن نذكر هنا بأن القضية اليوغسلافية ساعدت على اكتشاف ذلك. فتدخل الناتو في البوسنة أتاح لواشنطن امتحان الأمم المتحدة التي باتت تعترف بالحلف الأطلسي كونه ذراعها المسلحة وبأن الحلف قد أصبح جاهزاً لخدمة المصالح الأمريكية عسكرياً في كل مكان ترى الولايات المتحدة أن ذلك بات ضرورياً.(1/288)
في النسق نفسه أزيحت بقفا اليد المحاولة الفرنسية بتشكيل نظام ذاتي للدفاع الأوروبي داخل الحفل. في 3 و4 حزيران 1996 تم توقيع اتفاق في برلين تم بموجبه قيام مجموعات من القوات المتعددة الجنسيات تحت قيادة أوروبية ولكن لا يمكنها اتخاذ قرار نهائي دون موافقة الولايات المتحدة. في 9 كانون الأول من نفس العام أكد في نورنبرغ الرئيس شيراك والمستشار كول دون مواربة بأن الحلف الأطلسي لا يتبدل وبأن إطاره الأمريكي الصافي لا اعتراض عليه. وأخيراً ورداً على الطلب الفرنسي بإعطاء قيادة المنطقة الجنوبية لأوروبي كان الجواب لنقوله مرة أخرى رفضاً قاطعاً يفسره تردد باقي دول القارة العجوز. إذا نظرنا إلى خارطة انتشار الناتو في أوروبا وأضفينا إليه انتشار مرتقب لقواته في بولونيا وهنغاريا وجمهورية تشيكا ندرك أن الاستحكام الأمريكي لا يمكن تجاوزه. هناك ثلاث قواعد للولايات المتحدة في إسبانيا وخمس في بريطانيا العظمى وسبع في ألمانيا واثنتان في البنلوكس وخمس في إيطاليا وست في اليونان وتركيا وسيكون من السهل عليها زيادتها عند الحاجة بقواعد في أوروبا الشرقية لتمتين حلقات الشبكة التي تلف أوروبا في وجه روسيا. ومع الإعلان عن طلبات ترشيح دول البلطيق للدخول إلى الناتو تكون الأرض الأوروبية قد اعتبرت عسكرياً تحت السيطرة الأمريكية الكاملة.
على أثر ذلك لم تعد غطرسة واشنطن تعرف أية حدود. وتجسد الاتجاه الأحادي الجانب بجملة أوامر سيكون مملاً تعدادها والكلام عن محتواها إلا أن جان فرانسوا بونسه يذكر أدواتها الأساسية: «تعين الأمين العام للأمم المتحدة واستبعاد أوروبا من المفاوضات الاسرائيلية الفسلطينية والإيعاز إلى حلفاء أمريكا للانضمام إلى الحظر ضد كوريا وإيران واستراتيجية الابعاد التي تقودها بوينغ.(1/289)
بدعم من واشنطن ضد صناعة «الطائرات الأوروبية» ومن المناسب هنا إضافة التفسير المزاجي الذي تستخدمه أمريكا في تفسير بنود المعاهدات التجارية والصناعية والتدخل أيضاً في قضايا العالم الثالث، عدة قضايا حدثت أو في طور الحدوث تبرهن على ذلك: بالنسبة للولايات المتحدة تأخذ القوانين الأمريكية الأولوية على كل القوانين الأخرى. فهي تعتبر أن هذه القوانين ببساطة غير موجودة. في نهاية أيلول 1997 ورداً على اتفاق الذي وقعته شركة توتال مع إيران يسمح للشركة الفرنسية استثمار بئر دولي كبير على بعد مسافة من الشاطئ الإيراني قامت الولايات المتحدة بالتلويح بقانون اماتو و أمر خجول موجه إلى توتال للتخلي عن مشروعها وإلا عرضت نفسها للعقوبات الاقتصادية. وهو قرار أمريكي بحت إذن يطبق دولياً، فإذا تنازلت فرنسا ولجنة بروكسل سيكون ذلك سابقة حاسمة بنظر الكون كله في طريق تبعية أوروبا(1)، أمام هذا وكالعادة أسمعت أوروبا هرطقتها، وقد انمحى الاتحاد السوفيتي من الخارطة إلى غير رجعة وكان يشكل للأمريكيين الحجة المناسبة في كل مرة يرتفع صوت لإرادة الاستقلال للأمم الأوروبية. فمن أزمة برلين إلى سباق التسلح النووي كان الرؤساء الأمريكيون يلوحون بالعملاق الشيوعي مثل رأس زهر البحر الذي فمه مفتوح وشعره من الثعابين. وبذلك كانوا يتوصلون عن طريق إثارة الرعب إلى ما يريدون: زيادة الاعتمادات العسكرية – إقامة قواعد للصواريخ على الأراضي الأوروبية – خضوع الحكومات – تصفية الميول الاستقلالية.
__________
(1) كتب المدير السابق للسي.أي.إيه وهو وزير سابق يقول:«خلال الولاية الأولى لبيل كلينتون فرضت الولايات المتحدة أو هددت بفرض عقوبات اقتصادية 60 مرة على 35 دولة وهي تشكل وحدها 42% من سكان العالم».(1/290)
كان يمكن أن نصدّق الولايات المتحدة المرتبكة اليوم بأن زمن توازن الرعب قد ولى، إلا أن الجنرال الأمريكي كولن بول برهن في الأول من أيلول 1993 أنه لا يوجد شيء من هذا فقال: «إن الإمبراطورية السوفيتية قد حل مكانها شيء من نوع آخر مختلف – العراق وكوريا وشياطين آخرون ومخاطر ذات طبيعة إقليمية».الأمريكيون مستعدون إذاً لاستنباط مخاوف أخرى لاقناع الأمم وخاصة الأوروبية منها بتقبّل هيمنتهم العسكرية والسياسية للأبد، بالنسبة للعراق لقد انتهى الأمر، لقد اشترك الأوروبيون بعملية الغزو لصالح الولايات المتحدة التي ضمنت سيطرتها على آبار البترول وأصبحت تقرر وحدها الأسعار والكميات المسموح تصديرها وضمنت أيضاً سقوط الأوروبيين الذين فقدوا حظوتهم المعنوية بأعين الشعوب العربية، أما كوريا فسوف يتم الأمر قريباً(1).
__________
(1) لقد أعدت التقديرات: عشرة ألوية مشاة من الاحتياط و346 سفينة منها إحدى عشرة حاملة طائرات وواحدة احتياط و13 سرية طائرات وخمس احتياط وثلاث ألوية بحرية محمولة وواحد احتياط أي ما يقارب بشكل إجمالي مليون وأربعمائة ألف رجل دون أن نحسب الاحتياط، هذه المعلومات كشفها (أليس أسبين) نفسه.(1/291)
لا تترك الولايات المتحدة – ونحن نعرف ذلك – أي شيء للصدفة وهي لم تنس أبداً مهمتها السماوية ووضعتها دائماً نصب عينيها، يتساءل أنطوني لاك مساعد الرئيس كلينتون لقضايا الأمن القومي فيقول في خطاب له في جامعة جوهنز هوبكنز في 21 أيلول 1993:«لا تجبرنا مصالحنا ومثلنا فقط على الالتزام بل بالقيادة»، ويضيف «علينا أن نحرك الديمقراطية واقتصاد السوق في العالم لأن ذلك يحمي مصالحنا وأمننا ولأن الموضوع يتعلق بانعكاس للقيم التي هي في وقت واحد أمريكية وعالمية». بالنسبة لوايتمان تضم أمريكا العالم وقيمها هي قيم العالم وتاريخها هو تاريخ العالم في الماضي والحاضر والمستقبل. أمريكا بالنسبة لأمريكي نهاية القرن العشرين هي الديمقراطية وهي السوق وهي مستقبل العالم قيمها هي قيم عالمية. ما هو الفرق إذاً بين هذين المفهومين وهاتين الطريقتين في التعبير؟!!.
الخلود الأمريكي:
أمريكا، العالم بالتأكيد ولكن قبل كل شيء خطر العالم، لأن الخمسين سنة الفاصلة بين نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بداية الولاية الثانية لبيل كلينتون لم تكن خاسرة ولم تذهب ضياعاً وفي كل مكان في العالم سجلت الولايات المتحدة النقاط.
هنالك أولاً متابعة إنجازات الرؤساء خلال القرن التاسع عشر ثم إنهاء الاستعمار وتطويره وفي هذه النقطة برز بشكل خاص تصميم الرئيسين ويلسون وروزفلت، فالشعوب لها الحق بتقرير مصيرها فكان من الطبيعي أن تتوصل شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى اختيار مصيرها بأنفسها.(1/292)
يبدو واضحاً هنا خبث المقولة، إن مقولة إزالة الاستعمار بالنسبة للولايات المتحدة تعني دائماً الآخرين ولا تعنيها هي أبداً. وهكذا ومن عام 1945 حتى عام 1962 منحت فرنسا الاستقلال لكل أراضيها القديمة ما عدا جيبوتي ومن عام 1945 حتى عام 1957 كانت إنكلترا مرغمة على فعل الشيء ذاته وفي عام 1949 تحررت إندونيسيا من وصاية هولندا وتحررت المستعمرات الأفريقية من الانتداب الإسباني والبرتغالي والبلجيكي ونالت استقلالها. أليس من الصدفة إذاً أن تتحرك الولايات المتحدة في نفس الوقت ببيادقها في كل مكان من آسيا وأفريقيا وتعزز سيطرتها على أمريكا اللاتينية «دائرتها الثانية»؟!! أليس من الصدفة أيضاً أن يحل الدولار مكان الفرنك والجنيه والبيزتا في المستعمرات الأوروبية القديمة المحررة وأن تتخذ سياسات اقتصادية وعسكرية مقتبسة عن النموذج الأمريكي وأن تحل اللغة الإنكليزية مكان اللغات الأجنبية الأخرى؟ بالطبع لم تتحرر الهند كلياً من النفوذ البريطاني ولكن الشركات المتعددة الجنسيات فيما وراء الأطلسي استفادت من ذلك كثيراً (بالرغم من بدء ظهور ردة الفعل لأنه حتى وإن أصبحت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول للهند بمعدل قدره 9 مليارات دولار إلا أن الانفتاح قد أتجه إلى الاتحاد الأوروبي والصين وآسيا الجنوبية التي أصبحت الهند الشريك الأول لها، إضافة إلى أنه تم العمل باتفاق جنوب آسيا التجاري في كانون الثاني 1996)، أما برمانيا فقد غرقت في الديكتاتورية وكانت الأنظمة منقسمة ما بين الشرق والغرب، وفيما يخص إندونيسيا فقد سقطت في حصالة واشنطن. ولكن الانتصار الأمثل بالنسبة للأمريكيين كان بالتأكيد انتشار الأيديولوجية الأمريكية في كل مكان.(1/293)
الليبرالية التي ليست فقط عقيدة اقتصادية بل أيضاً رؤية حقيقية للعالم استقبلها العديد من أصحاب الأملاك والمصلحين كنعمة وكعلاج لجميع الأمراض(1)، وخاصة لأولئك الذين يحققون مصالحهم وينقذون المظاهر المعنوية لأنها تمتلك قاعدة دينية وعلينا أن لا ننسى بأن توكفيل قد أشار إلى ذلك فقال:«عند الأمريكيين يجب اعتبار الدين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى». ثم إن الجماهير التي لا تعرف الألاعيب السياسية والاقتصادية اقتنعت بوساطة الحملات الإعلامية بأنه ليس هناك أي نظرية أفضل من الليبرالية. بعد مرحلة كارتر الرئيس الأمريكي الوحيد الذي آمن بشكل حقيقي ببعض القيم وبشفافية ضرورية للسياسة الأمريكية بعده عاش فكر الحروب الصليبية أيام مجده. الريغانيون على طريقة رامبو قدموا الدولارات والخبرات للكونتراس، إنها مدرسة الأمريكيين التي تعد مقاتلي الموت لديكتاتوريات أمريكا الجنوبية. لقد أباد «جنود بوش للدفاع عن الحق» المدنيين العراقيين (بلغ الرقم 100 ألف قتيل حسب المراقبين الموثوقين ويبدو أن الحقيقة تتجاوز هذا الرقم) وكل ذلك من أجل أن تقوم أمريكا بتحريك بيادقها بحرية على رقعة الشطرنج الجيوسياسية(2): لا بالتأكيد إن الولايات المتحدة لم تتبدل.
__________
(1) الأنانية وغريزة الاستيلاء والجشع والشعور اللاجتماعي والمضاد للتقاسم كل هذا أصبح أخيراً بالنسبة له منظريات مزينة بألقاب الضمير الواعي والنية الحسنة والاكتفاء الذاتي.
(2) سبب الحظر غير المبرر والمتوحش ضد العراق أكثر من مليون قتيل معظمهم من الأطفال بسبب نقص الأدوية وتجهيزات المستشفيات. الأمر ذاته حصل في كوبا حيث هناك أيضاً أطفال يموتون بسبب نقص الأدوية وحيث لا يوجد نظام صحي لولا مساعدة الجمعيات كالجمعية الطبية الكوبية في سويسرا.(1/294)
فإذاً كما قال أندريه كاسبي عن الثمانينات « بأن أمريكا ريغان كانت تريد تكييف العالم حسب مبادئها ومصالحها» فإن أمريكا كلينتون لم تتخل عن هذه المبادئ الأبدية. يقول مارتن والكر إن قمة هلسنكي الأخيرة بين الرئيس الأمريكي كلينتون والرئيس الروسي يلتسن أظهرت استمرارية تاريخية عجيبة، إن الإدارة الأمريكية مقتنعة بأنها ملتزمة بمؤتمر يالطا وقيام الحلف الأطلسي عام 1949 الذي افتتح الحرب الباردة، ومن جهته كان آلان كوتا قطعي في حكمه إذ قال إنه يوجد اليوم نظام دولي و«تقوم الولايات المتحدة في هذا النظام بدور لا يقتصر فقط على البطل الأساسي، بل تقوم أيضاً بدور وكيل الأعمال». لقد أزيح المنافس السوفيتي و«الاتحاد الأوروبي لم يعد ذا فائدة بالنسبة لها بل على العكس فإن كان مباحاً لها أن يكون لديها نوع من التفهم لتلاحمه أي لقوته الاقتصادية، ولكن الولايات المتحدة لا تتحمل أن يُصبح هذا الاتحاد قوة عظمى جديدة يتقاسم معها السلطة على العالم» ومنذ ذلك الحين بدأت القوة الاقتصادية لأوروبا تشكل لهم نوعاً من الظل، الشيء الذي لم تعد الولايات المتحدة تتقبله.(1/295)
حيال التوقعات الكونية التي تزعج الولايات المتحدة أصبح موقف الحكومة الأمريكية يوماً بعد يوم مزعجاً وغير مقبول. إنه غير مقبول بسبب تصرفها بالنسبة للخطر البيئي. فإن تسخين الكرة الأرضية بسبب الاحتراق (مازوت – بترول – غاز) يمكنه أن يؤدي بدءاً من عام 2100 إلى ارتفاع حرارة الأرض بنحو ثلاث درجات وسترتفع المحيطات حوالي 85سم وستؤدي إلى إتلاف جذري لأنماط العيش وإلى غرق جزر المحيط الهادي إلا أن الأمريكيين لا يبالون ويرفضون توقيع بعض الاتفاقيات المقيدة مهما كان نوعها رغم كونهم أكبر من يلوث الكرة الأرضية. إنه غير مقبول أيضاً أن تتخذ مثل هذا الموقف في مجال بيع الأسلحة وخاصة الألغام المستعملة ضد الأفراد وتشترك الولايات المتحدة مع الصين في هذا المجال إضافة إلى بعض الدول غير الديمقراطية وقد رفضت أن توقع على اتفاق أوتاوا –2.
هل أمريكا استبدادية؟
حسب التعريف الأكثر بساطة تعتبر الاستبدادية قوة مجمّعة أي بمعنى أنها تهدف إلى امتلاك مجمل أجزاء الكيان الذي تحاصره.
منذ البداية كما رأينا أنها حتى قبل أن تصبح ولايات متحدة كانت أمريكا تطمح إلى عولمة نمط أنظمتها، ولم يفتش مفكروها الأوائل من أساتذة وكتاب وقساوسة ورجال دولة عن لحظة لاخفاء هدفهم النهائي ألا وهو: فرض نموذجهم للمجتمع على العالم أجمع.(1/296)
قبل كل شيء ومن أجل تقديم المثال عرضت للآخرين لدرجة التفاخر الصورة الرائعة لأمة جديدة مختارة من الله لهدف واحد هو توزيع رسالة وحيدة لمستقبل تراه مشرقاً لكل الشعوب. إلا أنه وفي وقت مبكر جداً زالت إرادة إثارة الرغبات أمام اليقين بخضوع الآخرين بالإكراه لأنه بدا أمام هذه المقاومة أو تلك أمراً لا مفر منه. لقد اعتقدت أمريكا وأرادت لنفسها أن تكون كياناً كلياً لا شبيه له. ولذلك رأت نفسها أعلى من كل المناطق التي يعيش فيها الأفراد والأمم، المناطق التي تعتبر أن من واجبها ضمها، فهي العالم بأسره لأن الإرادة السماوية أرادت ذلك ولأنها تجسد نموذج العالم الأتي حسب المخططات الإلهية، فالقدر حملها مهمة الإملاء على الأمم والشعوب لقانون واحد ما هو إلا قانونها.
إن كان بعض هذه الشعوب وهذه الأمم خلال التاريخ اعتقدت أيضاً بأنها مكلفة بمهمة حضارية وهذا لا نقاش فيه ولكن ما يميز أمريكا التي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة هو التأكيد الشرعي بالثقة بالذات وبشخصية غير مألوفة أخذت عندها شكلاً مرضياً. وإن كان من الطبيعي كما يحدث في أي جهاز حي بأن تعبر أي أمة دون مراوغة عن إرادتها بالسيطرة أما فيما يخص أمريكا فهي تشعر بهذه الإرادة لها جذور إلهية. لقد ظهرت ثقتها بنفسها منذ البداية بشكل تأكيد مضخم لاستعلاء مطلق وفي الوقت نفسه بشكل شخصية قومية مصابة بمرض العظمة.(1/297)
وكلما حاولنا الغوص أكثر في التجربة والتعمق بمفهوم الاستبدادية سنكتشف بأن أمريكا التي بدأت قوة بسيطة محيطة دون معالم واضحة وذات حدود مبهمة، اكتسبت تدريجياً بعداً كثير التعقيد. وأود أن استعير من كلود بولان تعريفه للظاهرة، لقد وصف الاستبدادية كظاهرة تفرض «أيديولوجية وشرطة تلجأ إلى الرعب واحتكاراً لوسائل الاتصالات الإعلامية واحتكاراً للقوى المسلحة واقتصاداً متمركزاً»، أي عنصر من هذه العناصر نراه مكوناً أساسياً للولايات المتحدة في بنيتها التكوينية كدولة وفي موقفها وهدفها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي تجاه باقي دول العالم.
الأيديولوجية أولاً:
تكونت أمريكا شيئاً فشيئاً إنطلاقاً من نواة أيديولوجية ذات محورين. أولاً كانت القناعة بأنها مكلفة برسالة، وثانياً كانت متأكدة بأنها لكي تستطيع أن تنجز هذه الغاية انجازاً جيداً لديها السماح التام باستخدام كل الوسائل. لذلك تميزت السياسة الأمريكية منذ ولادتها بتصميم على العمل وبتمسك بالهدف وبالحفاظ الدائم على العنصر الأيديولوجي المولد للفعل. وتوصلت هذه السياسة لذروة قوتها بالتنفيذ مع مطلع القرن الثامن عشر وأصبحت بوضع أفضل منذ القرن التاسع عشر.
نشر سلطة وحيدة بعد ذلك :
عرضت أمريكا للخارج صورة سلطة ذات رأس واحد يمثلها رجل: إنه رئيس الولايات المتحدة. هذا الأخير موجود في مجموعات مصالح مالية وشركات عسكرية – صناعية ولوبيات وأجهزة بوليسية غامضة (أف.بي.أي وسي.أي.أيه) ومافيا، فتارة عليه أن يبذل جهده ليحافظ على توازن هذه المجموعات وتارة بفضل هيبته وشخصيته وإرادته عليه أن ينجز عدة أمور. وإذا ذهب بعيداً خاصة على صعيد السياسة الداخلية فعليه أن يدفع(1/298)
ثمن ذلك غالياً. هذا لا يمنع بأن مختلف الرؤساء كانوا لا يتوقفون عن أداء دور حاسم على صعيد باقي العالم. ومهما كانت أعباء السياسة الداخلية لم يغب عن أعينهم هدف ديناميكية إستراتيجيتها الخارجية ألا وهي استخدام الأمم لإخضاعها وتحقيق مثل هذا الهدف يمر عبر إشراف الأكثرية.
من هنا أتى دور الاحتكارات:
على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تتولّى في الوقت الحالي احتكاراً مطلقاً في كل المجالات، فهي دون أي جدل تجهد لتحقيق ذلك وتسعى إليه ومثل هذا الموقف يتطلب دون شك تواطؤات مختلفة خارج حدودها. وبوساطة اللعب بذكاء بالتخويف وبالجذب وبسياسة الأمر الواقع وبالابتزاز وبحبال المودة وبكل الوسائل الأخرى توصل الأمريكيون تدريجياً إلى بلورة المشهد الجيواستراتيجي حول أقطاب ذات ميل كبير للاحتكار الأحادي ولاحتكار الأقلية لسوق العرض. وفي المجالات التي يعول عليها كان الأمريكيون يملون قانونهم على مجمل الأمم.
الاحتكارات العسكرية والسياسية:
على الصعيد العسكري والسياسي أيضاً تملك اليوم الولايات المتحدة بسلطة مهيمنة للتدخل ولنشر القوات وللقيادة بفضل منظمة حلف الأطلسي التي استطاعت ليس فقط المحافظة عليها رغم غياب العدو الذي أنشئت المنظمة من أجله ولكنها عملت على اتساعها.(1/299)
وهكذا تمتلك الأداة لتفرض بالقوة متطلبات سياستها التوسعية كيف ومتى ما أرادت وهي تقتسم بذكاء المسؤولية ودفع تكاليف العمليات مع حلفائها الغربيين. كان يكفيهم تهيئة الأرض كما فعلت بالعراق عام 1991(1). علاوة على ذلك لم تخف الإدارة الأمريكية أبداً هدفها الحصول على احتكار التسلح. إذا توصلت إلى ذلك سيكون لكل الأسلحة والمعدات وقطع الغيار والتكنولوجي العسكرية مورد واحد فقط مما يؤدي لحرمان الأمم من سيادتها في مجال الدفاع، أي دفعها إلى الولاء حسب الواقع. وما حصلت عليه مؤخراً سويسرا من مكتسبات عسكرية وكذلك الأمر في فيلندا وفي المكسيك وفي
تايوان لا يدعو أبداً للتفاؤل في هذا الموضوع.
الاحتكارات الاقتصادية:
على الصعيد الاقتصادي وإن كان الاحتكار هو نسبي حسب حصص مجموعات المصالح المحلية الأخرى في العالم إلا أنه قائم تماماً منذ زمن. فمن وجهة النظر الأيديولوجية الاقتصادية لقد أدى اعتماد الليبرالية للتبادل الحر للمدرسة الكلاسيكية من قبل معظم الحكومات تقريباً بعد تنقيحه وملاءمته وتشديده بواسطة منظريه ومستخدميه الحاليين، إلى تفكير وحيد يشل أي نشاط إرادي.
__________
(1) أخذت الحملة المعدة في أحد مكاتب الاتصال الأمريكية على عاتقها تهيئة الرأي العام العالمي فخلق هذا الفصل الواضح بين السيئين (صدام وشعبه) والطيبين (الولايات المتحدة والتحالف الذي قادته إلى المعركة).(1/300)
إن الانتصار الذي حصل في «بروتون ووذر» عند المجابهة التي تمت بين مفهومين أساسيين للرأسمالية، مفهوم وايت ومفهوم كيتز سمح للأمريكيين مع التوقيع على اتفاقات عام 1944 بسط نظامهم على العالم أجمع. لقد أصبح باستطاعة هذا النظام أن يعتمد على مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التبادل الاقتصادي) وعلى نظام اتفاقات شاملة (المنظمة الدولية للتجارة) للسهر على السير في الطريق الصحيح ويعيد المنشقين إلى الصراط المستقيم ويقصم ظهر العصاة، إضافة لذلك تم فرض الدولار والمحافظة عليه رغم كل العقبات كعملة للمحاسبة والدفع على الصعيد الدولي مما أعطى للأمريكيين الإمكانية لتمويل عجزهم بوساطة الآخرين وللتلاعب برفع وتخفيض العملة الخضراء حسب مصلحتهم الآنية، وللتصرف على هواهم بنبع كتلة نقدية لا ينضب ومتجدد حسب الرغبة. وإن أضفنا لذلك أمراً مهماً وهو أن المؤسسات الأساسية المتعددة الجنسية في العالم هي مؤسسات أمريكية وبأنها هي وفروعها تشكل أداة قوية للالتفاف على التشريعات الوطنية ولاحتقار الحدود وللتلاعب مع الأوضاع ومع الفرص مع العوائق الاجتماعية الخاصة علمنا حينها كيف أن وول ستريت Wall Street وواشنطن يقودان الجزء الأكبر من اللعبة الاقتصادية والتجارية والمالية.(1/301)
قد يكون صحيحاً أنه يظهر في الأفق علامات مشجعة بشكل خاص في آسيا، ففي أيار 1997 خلال ندوة طوكيو حول استراتيجية النمو التي نظمها صندوق النقد الدولي ومعهد السياسات للميزانيات وللنقد في وزارة المالية اليابانية، أيَّد الموظفون الكبار والجامعيون الآسيويون المشاركون وبشكل خاص من اليابان وماليزيا بأن «استراتيجيات النمو المرتكزة على السوق ليست الحل الأفضل لكثير من اقتصاديات الدول النامية». وتساءلوا حول ماهية «تطبيق سياسات صناعية داخلية كتلك التي حدثت في آسيا» هذا التأثير التكتيكي أو الانتهازي أو الواقعي بدا وكأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة يتخذون خطوات تشكك بالمعيار الليبرالي المتطرف الكلاسيكي. وقد أوضح آخر تقرير للبنك الدولي أن حالة النجاحات تتناقض مع نظرية الدولة الدنيا واعترفت منظمة التبادل التجاري على مضض بأن بعض الإجراءات الإدارية تتناسب أحياناً مع المفهوم السليم للنمو الاقتصادي.
الاحتكار الدبلوماسي:(1/302)
على الصعيد الدبلوماسي والأصعدة السياسة والعسكرية التي تنتج عنه تتمتع الولايات المتحدة باحتكار آخر تحسد عليه عن طريق وبواسطة منظمة الأمم المتحدة، وأن تستخدم هذا «البناء» الروزفيلتي على هواها هذا ممّا لاشك فيه. وما علينا إلا أن نراقب الوقاحة التي تتعامل بها دائماً مع الأمين العام ومع قرارات مجلس الأمن. فمنذ عدة سنوات هي تمتنع عن دفع مستحقاتها وهذا النقص اتّخذ أبعاداً خطيرة وما هي إلا إحدى المؤشرات ومنها الفوقية الاستبدادية التي عاملت بها بطرس بطرس غالي رغم المعارضة الفرنسية فخلعته من منصبه وأتت ببديل عنه. إن موافقة الأمم المتحدة التي لا تشكل للأمريكيين إلا شكلية بسيطة تهدف إلى تمرير عملياتهم العسكرية والمحافظة على النظام بمظهره البراق الشرعي، هذه الموافقة تبدو مريحة وخاصة حين تتعزز بعقد عدة قمم ومؤتمرات وإنجاز مخططات واتفاقات تشكل إخراجاً مناسباً من أجل حل يكون لصالح الولايات المتحدة الستراتيجي عبر مفاوضات يبعد عنها بالعادة أي مفاوض أو شاهد مزعج(1). وحيث أن القرارات الأساسية والحقيقية مثلما حصل مثلاً في دايتون فيما يتعلق بيوغسلافيا السابقة هذا البلد الذي دمره الأمريكيون بواسطة صندوق النقد الدولي بالتآمر مع الألمان.
الاحتكار الثقافي:
__________
(1) مثلاً فرنسا حين أبعدت عن التسوية في الشرق الأوسط بعد حملة العراق.(1/303)
الصعيد الأخير وهو ليس الأقل دلالة هو الصعيد الثقافي فليس هناك أي غد مشرق أمام أمريكا المستبدة إن لم تتم عملية إخضاع العقول. هذه العملية قد بدأت فعلاً بفضل العمل الدؤوب بالنخر وبالإفساد وبإلغاء العادات الثقافية المميزة للشعوب. إن سيطرة مشروب على الواقع ويخرج اسمه آلياً من أفواه الأكثرية (كوكاكولا) وانتشار نوع خاص من المطاعم التقليدية المحلية، والشعور المريح بالحلاقة مع جيليت وبقص أعشاب الحديقة مع غابي Gaby والسفر مع جنرال موتورز وتهوية الأمعاء بأقراص كيلوغز Kellogg’s كل هذا يساهم شيئاً فشيئاً بالثقافة الكاملة ويهيئ الطريقة إلى أمركة التقاليد. وكما تهدف الولايات المتحدة إلى احتكار بيع الأسلحة كذلك تعمل للحصول على احتكار بيع الأطعمة. إذاً بتنا ندرك بشكل أفضل الخطر الكامن على الصعيد التجاري والثقافي من خلال الهجوم الحالي للمؤن المعالجة جينياً. وبحصولهم بواسطة منظمة التجارة العالمية التي تخدم شركاتهم المتعددة الجنسية على هذا الانتهاك لحق العيش ألا وهو الحق المطلق للبذور وجد الأمريكيون أنفسهم بالنسبة لبعض أصناف الأطعمة أنهم قادرون بمفردهم تغذية الكون.(1/304)
تطال الهجمة الأمريكية كل مناطق الثقافة ولذلك فقد تم شراء سلسلة الكتب البريطانية بوكس أتك في 28 كانون الأول 1997 بوساطة العملاق الأمريكي بوردرز بانتظار منافسه في الولايات المتحدة برنرز ونوبل لينقض بدوره على بريطانيا العظمى ثم على أوروبا. إن الحصول على بوكس أتك يمثل خطراً كبيراً فسيكون لبوردرز قدرة التحكم باثنين وعشرين مركزاً للبيع يوجد إحدى وعشرين منها في لندن وضواحيها وواحداً في أديمبرغ وهي تنوي نشرها في جميع أنحاء المملكة المتحدة. إن عدم استقرار السوق هو الذي سمح بخلق مثل هذا الوضع الذي يضاف للأوضاع الأخرى والذي من نتائجه فتح الأسواق الثقافية أمام المنتجات الأمريكية والشركات الأمريكية المتخصصة وخاصة في مجال المكتبات الكبرى. لقد باتت المكتبات التقليدية مهددة ولم تعد تحقق أكثر من 24% من نشاطها بوجه المحلات العملاقة التي حققت زيادة في سوقها من 4% إلى 6% خلال عامين في بريطانيا العظمى.
ومن بين المناطق الثقافية الأساسية هناك الذوق، لقد دفعت الحملات المنجزة في مجال الحواس السلطات الفرنسية إلى إطلاق عمليات للتعليم في مجال الغذاء يتضمن تعليماً لحاسة الشم والتذوق في المدارس الابتدائية. وكشف إحصاء أخير لدى تحضير أطباق بواسطة طباخين مهرة اعتمدوا في طبخهم على منتجات طبيعية عالية الجودة بأن التلاميذ وبأغلبية مخيفة صرحوا بأنهم لم يحبوا ما تناولوا من طعام وبأنهم سيكونون سعداء أكثر لو أنهم أكلوا همبرغر مع الفريت.
التفوق الفكري:(1/305)
لم تكتف أمريكا بغزوها لعالم التقاليد (العادات الغذائية واللباس ..إلخ) بل حققت لنفسها تقدماً حاسماً على طريق الاحتكار الفكري. فقد تبدلت جذرياً التصرفات في مجال البحث العلمي والإجراءات في المخابر والمواقف الذهنية المتعلقة بالمعرفة وذلك منذ بروز العالم العلمي الأمريكي. فمن جهة وكما يذكرنا فيليب انجلهرد فإن فرضية غابور – القائلة «بأن كل شيء ممكن سيتم تحقيقه يوماً ما»- قد تحكمت أي تعامل مع الظواهر العلمية حتى جعلت ممكناً حتى الأكثر خيالاً والأكثر تخريباً(1). ثم أن الأولوية الاقتصادية قد تحكمت بكل هذه الأيديولوجية فربطت أمريكا أي اقتراب من دراسة العلاقات الإنسانية علمياً بمتطلبات سوق المبيعات. ولكي لا تشعر باقي الدول أنه قد تم تجاوزها فقد وجدت نفسها مجبرة لتتخذ نفس الاتجاه. فكل مسألة لا تهدف إلى اعتبارات الربح والسيطرة على العالم بالنسبة للولايات المتحدة هي مسائل لاغية. وهذا لم يصب العلوم فقط فالجامعة كلها اليوم غارقة برؤية الأشياء على «الطريقة الأمريكية». لقد بات من الطبيعي الذهاب إلى جامعة أمريكية وإلا واجهت خطر فقدان قيمتك العلمية. فالهالة التي وضعها الأمريكيون على المجلات العلمية الأساسية في كل أقسام الجامعات كما أن تدخلهم في مشاريع أو في مراكز البحث المحترمة مثل مراكز البحث العلمي في جنيف أو فرض هيمنة اللغة الإنكليزية – الأمريكية كل ذلك يعزز شيئاً فشيئاً سلطانهم المطلق الذي يمكن أن لا يكون كلياً على الأمد القصير لولا أنهم استطاعوا أيضاً السيطرة على عالم الاتصالات.
التهديد بالوصاية في عالم الاتصالات:
__________
(1) نقصد هنا الاستنساخ، فإن بدت الولايات المتحدة بأنها متحفظة بإطلاق البحوث في هذا المجال (نحن لا نجهل الخبث الذي تعطيه لمخاوفها) فإن آسيا قد حصلت على هذا الحق بشرائه من إحدى المختبرات الأمريكية فحظر الرئيس كلينتون على المخبر متابعة تجاربه.(1/306)
يّغلق وينهي احتكار الاتصالات سلسلة الاحتكارات التي بدأت بالاحتكار الثقافي المؤدي عبر الاحتكار الاقتصادي إلى السياسي. إن الضربة القوية لمخطط مارشال الذي فتح به الأمريكيون السوق الأوروبية في معظم المجالات قد هدمت الحاجز الثقافي الذي منع تدفق الصور في السينما ثم في التلفزيون. وفي أقل من خمسين عاماً تحققت الخسارات الكبرى التي بلاشك يصعب إصلاحها. لقد نقلت الأفلام الهوليودية خلال عشرات السنوات صورة أمريكا المطمئنة واللطيفة والقوية والتي يصعب التغلب عليها والواضحة. هذا العالم الخيالي الذي نشأ في نهاية الألفية تم تضخيمه عبر شبكات المعلوماتية والإعلامية. إن الاحتكار في عالم الشبكات – الانترنيت(1).
__________
(1) لقد استقبلت مؤخراً الحكومة السويسرية وكذلك المسؤولون في التربية والصناعة والمهن بالترحاب بيل كيتز الذي أتى لإطلاق الانترنيت. من الواضح أن الحكومة السويسرية ستكون من أوائل الدول في العالم الذي قامت بنشر الشبكة في المدارس دون الانتباه لتأثيرها على الأجيال. وكتب أحد الصحفيين الأذكياء يقول «لقد سمح وضع بيل كيتز كملياردير أن يفتح الكثير من الأبواب وأن يصافح كثيراً من الأيدي ومنها كاسبر فيليجه المستشار الفيدرالي». وهذا أكيد بأن الملياردير يستطيع فتح المزيد من الأبواب في سويسرا أكثر من المثقف ومن الفنان. يجب علينا أن لا نستهين بخطر الانترنيت وقد نبه لذلك فنسان سميث فقال «إن الشبكة وقعت الآن بشكل كامل بيد التجار. لقد أصبح الانترنيت اليوم الولد العبقري والواعد لليبرالية الصاخبة وللتكنولوجيا ولم يعد بقدرة أحد السيطرة عليه. في هذه اللحظة يتهيأ آخر الحالمين للانطلاق، ففي سنوات وجيزة أصبح الانترنيت تجارة وليس شيئاً آخر». ولا يخفي الأمريكيون نواياهم..يقول فنسان سميث «على الانترنيت أن يخدم أولاً التجارة ويصبح منطقة للتبادل الحر وعلى الولايات المتحدة أن لا تدخل عليه أي قانون وتدعه خارج الضريبة المالية».(1/307)
هو مدعو للقيام بوظيفة أساسية في عملية الهيمنة بواسطة الاتصالات كما هو الحال في السينما والتلفزيون والمعدات ومكاتب الاتصالات والإعلام وهو الهدف الأخير للمناورات الأمريكية. وعند إنجاز حبك بيت العنكبوت هذا (سيخلق قولبة البث الفضائي رجلاً جديداًله عادات وحاجات جديدة أمريكية) تكون اللعبة قد تمت. ألم نر كيف في جميع أنحاء العالم نمدح الهدوء الذي يميز جولات وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبريت ورحلاتها في العالم التي أكدت «أن أحد الأهداف الأساسية في عالمنا هو الاطمئنان بأن المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة يمكنها الانتشار على الصعيد العالمي» فأملت قانونها على رؤساء الدول مرددة مواعظها ومانحة أو مانعة الإجازات والتعويضات؟!!.
حول المهارة الأمريكي:
علينا أن نعترف للولايات المتحدة الأمريكية من بين مزاياها أنها تملك إرادة متابعة مشروعها القائم على أسس أيديولوجية وسياسية. إنه إيمان مميز ورثت مبادئه من أجدادها، فيه شجاعة في الفعل وعناد في مواجهة مخاطر التاريخ وتجاوز الحواجز ومواجهة العداوة والأحقاد مما أتاح لهذه الأمة رغم كل شيء أن تصل أو تكاد تصل إلى إنجاز رسالتها التي أمنت بها بمصداقية على أنها مكلفة بها حسب الإرادة الإلهية. لقد أنجزت فعلاً حرية التجارة وإلغاء (لدى الآخرين) الحواجز التجارية والثقافية والسياسية ورفض الأحلاف المرغمة عليها. ولم يعد النفوذ الأوروبي إلا ظلاً لما كان عليه قبل أقل من قرن وحل مكانه في كل مكان النفوذ الأمريكي وعصبة الرئيس ويلسون للأمم التي قامت غداة الحرب العالمية الأولى ولم يتمكن الأمريكيون منها تحولت بعد الصراع الثاني إلى منظمة الأمم المتحدة التي يقودها الأمريكيون فعلياً. والمخاوف التي رفضوها دائماً بسبب الواجب القومي فرضوها على الآخرين: عسكرية وسياسية بواسطة الحلف الأطلسي واقتصادية بواسطة بريتون وودز ومنظمة التجارة العالمية ... إلخ.(1/308)
أبهر نجاحاتهم دون مناقشة هو الأيديولوجي، ألم يقوموا بإقناع كل الكون بأنه لا يوجد إلا فكر واحد صحيح ولا توجد إلا رؤية واحدة للعالم ومفهوم سياسي واقتصادي واحد؟. إن الرأسمالية الليبرالية للتبادل الحر التي اقتبسها الأمريكيون من المفكرين البريطانيين واستخدموها كأداة إخضاع لقوتهم ولمصالحهم أكدت حسب التعريف نفسه لصندوق النقد الدولي «الترابط الاقتصادي المتنامي لمجمل دول العالم الذي سببه زيادة حجم وتنوع الصفقات عبر الحدود للأملاك وللخدمات إضافة للتدفق الدولي لرؤوس الأموال وترافق في نفس الوقت مع الانتشار المتسارع والعالم للتكنولوجيا». لقد حددت هذه العولمة التي هي انتصار الأمركة على الكون حسب ما يقول مارتن وولف في الفايننشل تايمز « نجاح الانتشار الدولي لليبرالية الاقتصادية التي بدأت في أوروبا الغربية قبل نصف قرن مع مخطط مارشال». لقد تأكدت عملية اندماج المجتمعات والأفراد والنظم وألغت في نفس الوقت أي أمل بدوام أساليب الحياة وطرق التفكير وأي محاولة بخلق أي شيء مخالف لنموذج الاندماج الوحيد. إن استبدال كل عقائد العالم التي غالباً ما تنافست فيما بينها بالعقيدة الليبرالية وإن إلغاء الثقافات والنظم السياسية لصالح الثقافة الأمريكية والنظام الأمريكي يشكل التحدي الأقوى الذي لم تعهده الكرة الأرضية أبداً.
العالم ضد أمريكا:
إزاء هذا التحدي للعالم ولأوروبا بهيمنة الاستبدادية الأمريكية، كيف سيكون الرد(1)؟!!.
__________
(1) سنعالج بالتفصيل مسألة الحلول الممكنة في كتاب يصدر قريباً.(1/309)
أولاً وبالضرورة عن طريق استعادة الوعي، أراد هذا الكتاب أن يساهم في ولادة وتفتح هذا الوعي. لا يمكن مقارعة من يريد أن يفرض قانونه إلا إذا أحسسنا فكرياً وجسدياً بسلطان من يهيمن علينا. إن المفهوم العميق للديمقراطية يكمن في إرادة فهم العالم وهي العمل معاً داخل المجتمع القومي من أجل الخير العام. وللوصول لذلك علينا أن نمر عبر التفكير بحالة المجتمع وهذا التفكير لا يمكن إثارته إلا بالتربية .لقد بات من الضروري عند هذا الواقع أن نضع حداً ليس فقط لبعض المواقف السلبية أمام افتتان الشباب بالنموذج الأمريكي (الذي لا يدرك كل مضارهّ) بل أيضاً علينا أن نفسر لهم صراحة هذا النموذج (فضائله التي لا يمكن الجدل فيها ولكن أيضاً عيوبه وخيباته المخيفة ونكساتها الصارخة(1) ).
__________
(1) البلد الذي يبلغ عدد مساجينه الحد الأعلى في العالم بالرقم وبالنسبة المئوية، وحيث يوجد 35 مليون عائلة تعيش تحت عتبة البؤس، وحيث أن الأغنياء لهم الحق بالتربية الصحيحة وحيث المحرومون لا يملكون الحد الأدنى من الراتب ولا العناية الطبية ولا التقاعد المشرف، وحيث من الأفضل عندما نتنزه أن لا نبتعد عن الشوارع الرئيسية خوفاً من الاغتيال من أجل الحصول على دولار واحد، هذا البلد لا يمكنه الإدعاء بطرح نفسه كنموذج وحيد للعالم.(1/310)
سوف تسمح السياسة التربوية السليمة أن نفهم ما يجب أن تكون أوروبا القائمة على قواعد أكثر ملائمة: ثقافية واجتماعية وسياسية. يمكنها أن تكون رأسمالية بلا شك ولكن بأهداف ليس بالضرورة أن تكون فقط البحث عن الإثراء لأقلية بواسطة جهد الأكثرية التي يحسدها المهملون والمحرومون. إن المعاهدات والاتفاقيات والمؤسسات الداعمة للعولمة الليبرالية (بريتون وودز – الحلف الأطلسي – صندوق النقد الدولي – البنك الدولي – منظمة التجارة العالمية) يجب إعادة دراستها وإعادة ترتيبها وإصلاحها. إنه من غير المحتمل أن يبقى الدولار العملة المقياس للعالم وهو عملة إحدى الأمم. لماذا لا نعود لفكرة البنكور التي اقترحها كينز؟ ثم على أوروبا أن تصبح قبل كل شيء قوة سياسية حقيقية متحدة وملتحمة – وإلا كما حدث في الممالك اليونانية القديمة فسوف تسقط تحت نير كتلة سياسية أعلى – وهذا لا يمكن حدوثه دون التقاء جميع الإرادات المستندة إلى جذورها المكونة من مقومات الحضارة التي تجمع بلادنا العريقة.
إعادة اكتساب واسترداد التربية:
نحن نعيش نهاية قرن قاتم، قرن كما ذكر مؤخراً جان دورمسون أحرقنا خلاله الكتب، والمتوحشون يقفون على حدودنا بل هم داخلها أحياناً وهناك كتاب وفنانون مهددون بالموت ويموتون كل يوم. مازالت كلمات ألن منك الخشنة ولكنها مشؤومة لها صداها عندما قال:«إن المئة ألف أمي الذين يصنعون الأسواق إن لم نحترم عدداً من المعايير الدقيقة كمعايير الكنسية يستطيعون أن يقلبوا اقتصاد أي بلد ما رأساً على عقب»، ولكي نمنع الأميين أن يكونوا مصدر إزعاج علينا أن نعمل على إزالتهم وذلك بأن نجعل من التعليم سلاحاً لخدمة الناس والحضارات التعددية.(1/311)
إن المدرسة هي مفتاح كل تغير مستقبلي وكل استعادة للوعي، وهي أيضاً يجب أن تتبدل. إن النظام المدرسي يجب أن يهدف إلى تكوين أفراد واعيين ومثقفين وفطنين، فالعقول المبنية بشكل سليم تستطيع أن تمتلك رؤيا واضحة للتاريخ وللعلوم وللآداب وللفلسفة وللفنون. ومع المعرفة المعمقة للغات القديمة والحديثة وإتقان اللغة الأم بشكل كامل كتابة وقراءة يستطيع طالب اليوم أن يصبح مواطن الغد الناقد والمتسامح والمتمسك بعناد بمواطنيه وبانتمائه الثقافي. سوف يفهم بأن الأولوية يجب أن تعطى للسياسة، وعلى الاقتصاد أن يعود لموقعه المرتبط بالسياسة أي المرتبط بإرادة المواطن.(1/312)
لقد أدركت تكتلات المصالح الكبرى والاقتصاديات العريضة والغامضة أهمية تحويل مسار المدرسة باتجاه إلغاء الثقافات وعملت على تكثيف المعرفة المحض نفعية. لقد فهمت منذ زمن كما قال فيليب انجلهرد أن الجواب الوحيد على القلب المؤذي لحقائق الأولويات (إخضاع السياسة للاقتصاد بدلاً من العكس، الشيء الذي يؤدي إلى بعثرة الاجتماعي والصناعي والسياسي والثقافي تحت الاندفاع الانتحاري للمالي مسبباً فك الارتباط العام للبنية الاجتماعية) هذا القلب يعتمد إذاً على تفضيل قيام ما يمكن أن نسميه «المجتمع ذو المسؤولية المعممة» المرتبط «بإعادة البناء السياسي» الشيء الذي يرفضه ماكموند (مكدونالد للمعدة وماكنتوش للدماغ) وهذا ما يتكلم عنه بمهارة غي سومان بشيء من الإقرار بالذنب بعد أن كان قد كتب الكثير من البلاهات حول حسنات كل ما هو ليبرالي. إلا أن عملية تحمل المسؤولية هذه يجب أن تمر بالثقافة. لقد بات من الضروري لكل مواطن أن يستعيد امتلاكه لناصية الثقافة – والمدرسة هي افضل الوسائل لذلك – من أجل تكوين الجمهور الناقد الذي يدعو إليه أنجلهرد مع أطيب أمنياته ومن أجل حفز «القدرة الرافضة» التي تستطيع «إطلاق عملية التغيير والمجيء بجمهور من المواطنين أكثر أهمية وهم لن يتحملوا بعد ذلك الممارسات الاجتماعية والسياسة المهيمنة وحتى لو لم يصرحوا بذلك». وكأنها صدفة حيث نرى أن عمليات الاغتيال ضد المدرسة تتأكد أكثر فأكثر كونها الوسيلة لامتلاك المواطنية.(1/313)
ومن الأمثلة الكثيرة نذكر الإجراءات الأخيرة المتخذة في سويسرا لمشروع إصلاح البكالوريا (أو النضوج الفيدرالي) إن هذه الإجراءات تشكل برهاناً على إرادة الإلغاء المتبعة في الأوساط السياسية التي بالطبع تقود البلد. قبل كل شيء يبدو من المستحيل الحصول على أسماء أعضاء اللجنة المكلفة على المستوى الفيدرالي بإعداد الإصلاح. فكل شيء في سويسرا مستتر وسري. ثم هناك المنافسة بين فروع الثقافة (اللغة اللاتينية واللغة اليونانية والفلسفة) والفروع المسماة بـ «المفيدة» أو بـ«الواقعية» كاللغة الإنكليزية (التي هي أكثر وأكثر لغة أمريكية) والاقتصاد أو أيضاً الاختفاء الصريح والتراجع لنسبة ملائمة لفروع الثقافة وهذا يهدف لا أكثر ولا أقل إلى شطب كل المناهج من أجل إطلاق المناهج التقنية فقط. فمن الصحيح أنه عندما نقوم بعمليات الحساب والقياس والحل للمعادلات الرياضية ليس من الضروري أن نقرأ أو نغذي الذاكرة ولا نواجه خطر التفكير أي خطر إعادة النظر بالمجتمع حيث نعيش. إن شعار «فرق تسد» يشكل إحدى القواعد السياسية الأكثر تطبيقاً. إذ تجري المناقشات مرة أو مرتين خلال العام داخل الدوائر المدرسية في المقاطعات (التربية من اختصاص المقاطعات) حسب الفروع إذ إن الفروع المتعارضة فيما بينها. أحد أهم نتائج هذه العملية هي إعاقة أي رؤيا للإصلاح والهدف الآخر هو تركيز المناقشات حسب الفروع على الربح والخسارة بمعيار ساعات التدريس. فعندما نحمل المدرسين على أن يتخاصموا فيما بينهم نوجه بذلك الطاقات نحو قضية مغلوطة لنبعدها عن القضية الحقيقية.(1/314)
كل ذلك من أجل الهدف النهائي وهو إبطال دور الثقافة والذاكرة، إن القوى المظلمة التي هي وراء مشروع الإصلاح – أرباب العمل السويسريين (أحد أحسن من يمثل التاتشرية في العالم) واللوبيات المالية والصناعية والبنوك ... إلخ – تشهد على تصميمها لتخليد النظام الليبرالي للتبادل الحر الدولي الذي يخدمهم و«يطوع» الأجيال المستخدمة كأدوات للعالم الاقتصادي النفعي وللمردودية ولامتيازات الثروة.
اللغة والهوية:(1/315)
إن المواطن الواعي والناشط هو مواطن قادر على التعبير وهو قبل كل شيء يحب لغته. وكما كتب موريس دريون بأنه لا شيء ممكن أن ينفع الدولة في النضال من أجل اللغة القومية «إذا استمرت اللغة داخل الأمة نفسها بالتراجع وبالتلف بالتفتت».وهكذا فإن «العطب قد أصاب جسد من يجب أن يكون في وسط المعركة من صحافة وتلفاز ودعاية وإدارة وحتى التعليم، فالكل أصابه مرض اللامبالاة وبات كسيحاً. لدينا الكثير من هبطت قواهم اللغوية والكثير من الناس الذين يلتفون قليلاً أو كثيراً بالرايات الأجنبية من أجل مصالح وهمية». قبل كل شيء علينا إفهام الشبيبة واليافعين بأن «كل واحد منا مسؤول بطريقته وقبل كل شيء هو مسؤول أمام نفسه. إن اللغة هي التعبير عن النفس والطبع. فمن لا يحترم لغته فهو لا يحترم نفسه أي أنه لن يصبح بالتالي محترماً من الآخرين. نحن المسؤولون بشكل جماعي تجاه سبعة وأربعين بلداً بل خمسين بلداً في القريب العاجل، متحدين بشكل مؤسساتي لأن لديهم قاسم مشترك وهو اللغة الفرنسية وهم يمثلون اكثر من ربع الأمم المتحدة ومستقبلهم مرتبط بمستقبلنا». لأنه علينا أن لا نخدع أنفسنا «المسألة هي قضية استراتيجية بل جيواستراتيجية». يجب أن تحدث ردة الفعل في كل مكان بدءاً من كل واحد منا. «لنرفض أن نشتري المنتجات التي تستخدم لغة دعائية تشوه اللغة الفرنسية، لنرفض أن نستمع إلى البرامج التي تقلل من كرامتها، لنعترض على كل نشرة غير مفهومة، لنطرد من حياتنا كل كلام غير مفهوم في أي مكان نواجهه لنرمي بالخزي والعار كل أولئك الذين يوسخون ويذلون ويشوهون أغلى ما نملك من تراثنا».
مشروع خاتمة:(1/316)
في كتابه المدهش «تاريخ الأمريكيين» وفي فصله الأخير يساهم دانيال بورستين من موقف المدافع بدعم الحجة التي نحاول في كتابنا هذا تقديمها، وعندما حاول عرض الأسباب الأساسية التي توجه ضد الولايات المتحدة وخاصة في أوروبا قدم ترسانة من العناصر هدفها نفي هذه الأسباب التي تنطلي على من ليس مأخوذاً بالنظريات الأمريكية. على كل حال لقد جلب الماء إلى الطاحون ليدعم كتابنا المتواضع.(1/317)
لقد أكد لأولئك الذين يتهمون أمريكا بالإمبريالية إن هذا ليس هو الواقع ولكنه اعترف أنه في القرن التاسع عشر «كانت الولايات المتحدة قوة إمبريالية عندما وتحت شعار القدر المعروف استولت على الأرض الواسعة من جنوب غرب المكسيك أو عندما شعرت لفترة وجيزة بنزعة استعمارية». ونفس الشيء «في القرن العشرين كانت تدخلاتها في أمريكا الوسطى في ذات السياق، فمن وجهة نظر الشكل ليس هناك اختلافات عميقة بين إرسال ويلسون للفرق الأمريكية إلى فراكروز عام 1914 واحتلال السوفييت لأفغانستان عام 1979: في الحالتين تهدف العملية الحكومات القائمة وكلتاهما: أمريكا والسوفييت قليلة الاحترام لحقوق الإنسان». وعلاوة على ذلك في كل مكان تملك الولايات المتحدة قواعد عسكرية ، راحت تشكل بها «شبكة من القواعد في العالم كله لتثقل بها كاهل الخيارات الحرة للشعوب، فهي تقدم السلاح لقادة الدول المكروهين من مواطنيهم وتساعد حركات معادية للثوار، فالأنظمة الديكتاتورية والقاسية كشاه إيران وسيموزا في نيكاراغوا وترجيلو في جمهورية الدومينكان وبارك في كوريا لم تستطع أن تبقى في مكانها طويلاً لولا فضل المساعدة العسكرية الأمريكية بالعتاد وبالمال وبالمستشارين» وقد اعترف أن «الولايات المتحدة هي التاجر الأول للمدافع في الكرة الأرضية» وأضاف أنه «من أجل إبعاد قلب النظام الشيوعي المرادف للبؤس والديكتاتورية والدمار دون عودة الحريات». وسقطت الشيوعية ومازالت الولايات المتحدة أيضاً «التاجر الأول للمدافع في الكرة الأرضية» وهذه المرة ليس لضرب الديكتاتوريات ولكن من أجل إقامة ديكتاتوريتها.(1/318)
أما فيما يتعلق بالدعم للطغاة فبورستين لا ينكر ذلك. لقد قال «حتى السبعينات كانت السي.أي.أي التي أسست في عام 1947 الأداة لهذا النشاطات السرية»عملياً لا نستطيع إحصاء تدخلاتها: في إيران حيث ساهمت بإعادة الشاه للعرش عام 1953، وفي البرازيل حيث دعمت الانقلاب العسكري عام 1964، وفي كمبوديا حيث ساعدت على قلب الحكومة المحايدة للأمير سيها نوك، وفي كوبا حيث دبرت الغزو الذي أخفق في خليج الخنازير عام 1961 كما عملت على اغتيال فيدل كاسترو، وفي غواتيمالا عام 1945 حيث أرعبت الإصلاحات الاجتماعية المتذبذبة للرئيس ارينز مصالح يونايتد فروت (اتحاد الفاكهة).
وإن كان ينكر الاتهام «بالهيمنة الاقتصادية والملية للرأسمالية الأمريكية» إلا أن بورستين لا يستطيع إلا أن يعترف بوجود الشركات المتعددة الجنسيات مع فروعها في العالم أجمع وبسيطرة الدولار وهما يشكلان معاً «أدوات هذه السيطرة». وإذا كان هناك عملياً «انقسام دولي على صعيد العمل مما يضمن للولايات المتحدة النشاطات الأكثر نبلاً والواعدة مستقبلاً» وإذا «كان الدولار يتمتع بمزايا استثنائية» التي بفضل «النظام المسمى بالجامايكي الذي يعود إلى عام 1976 يبدو أنه عزز هذا الانتصار الدولار» مما سمح لهم «الاستدانة بدون حدود بهدف الإعلاء الدائم لأهدافها الداخلية»، وإذا كان صحيحاً بأن «الولايات المتحدة لم تنجح بالهروب من إنذارات سياسة التهاون وهي المسؤولة الأساسية عن تداع ما لم نعد نجرؤ على تسميته نظام النقاد العالمي»، كيف إذاً نستطيع إنكار «الهيمنة الاقتصادية والمالية للرأسمالية الأمريكية؟».(1/319)
وأخيراً ولدى الإجابة على اتهام آخر وهو الاتهام بأمركة الكون يعترف بورستين بأنه «عملياً فيما يرسله لنا الأمريكيون يوجد الكثير من السوقية والكثير من الأدوات المريبة إن كان ذلك يتعلق بالهمبرغر الذي لا طعم له والذي يرافقه البصل والكاتشب، أو بالأفلام التلفزيونية التافهة أو بالشيوخ الروحيين الفاشلين لكاليفورنيا أو بالصخب الصارخ بشكل موسيقى، أو باستهلاك المخدرات المختلفة». إذا كان كل هذا موجوداً بمقدورنا بعد أن ننكر بأن أمركة الكون قائمة على قدم وساق. وفي كل مكان تنتشر أنماط الاستهلاك والنماذج والمخططات الأيديولوجية التي أعدتها الولايات المتحدة وهذا يحدث حتى في الدول الاشتراكية، وتتمتع الولايات المتحدة بطاقة دعائية لا مثيل لها. والاختلافات الثقافية التي شكلت ثروة البشرية هي في طريقها للاندثار تسحقها مطابع الشكل الواحد. واستفادة الثقافة الأمريكية من تفوقها المادي فراحت بذكاء تفسد الأرض. فحيث حلت فككت البنى الاجتماعية التقليدية وأفقرت العادات والفلكلور المحلي. إن الامتثالية تجتاح بمكر الكون، امتثالية ذات صناعة أمريكية Made in America تهدف إلى تحويل كل أفراد البشرية إلى «أقزام أمريكيين ضحلين». ألا يحق لنا أن نرى في ذلك أن «الأمريكيين قد صنعوا سلاحاً حاذقاً لتسخير العالم لمصالحهم ولنمط تفكيرهم ؟ » إن طرح السؤال هو إجابة عليه ويبدو لنا هنا أن دانيال بورستين كان لنا عوناً قيماً.(1/320)
كتابنا هذا كان قاس على الأمريكيين، فأمام ضخامة الخطر علينا أن نرد برفض واضح، إذ إنه لا يمكن أن نوقظ الناس وننبههم لأن يدركوا هذه الأمور بالهمس في آذانهم. لقد حاول هذا الكتاب أن يشرح ويوضح آلية ما ألا وهي غزو الثقافات المختلفة للعالم بواسطة الأيديولوجية الأمريكية (اقتصادية وسياسية وثقافية) التي تعمل في كل مكان لإلغاء الثقافات الأخرى. ولم يحاول الكتاب متابعة الأحداث فهو أمر لا يمكن تحقيقه باعتبار أن التطور يتم بشكل يومي. لقد فضحنا الآلية والمسؤولية مازالت قائمة بشكل كلي. فعلى القارئ أن يتابع تأثيرات هذه الآلية يوماً بيوم، الآن نحن أطلقنا بقوة رسالتنا فعلينا أن نمد لشعب الولايات المتحدة يد الصداقة ولكنها يد لا تلوى.
هنالك صوت ينادينا اليوم من العالم الآخر، إنه صوت الفيلسوف الراحل جان ماري بنوا. فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً حذرنا من أن نغفل ونرضى بوضعنا بحيث نصبح «مستهلكين متخمين ومنتجين مستغَلين ومجاملين في وقت واحد»، لقد أوصانا بالمقاومة وألا ننخدع بواقع العالم.
هذه الحقيقة في مطلع العام 2000 تبدو نوعاً من «القدرية الأطلسية»، لقد كتب بنوا يقول أنها «قدرية تتناغم مع التبعية ونحن نرى اليوم تعزيزاً لهذا الخضوع بالتسليم بأنه يتناسب مع الأمر الواقع باعتباره يتلاءم مع الطموحات العميقة لفكر سان سيمون الذي لم ينته بعد ببساطته الاشتراكية المغلوطة وبالحلم أننا لم نعد نتعامل مع البشر وعلينا أن نهتم من الآن وصاعداً فقط بإدارة الأمور».(1/321)
علينا أن نبعد هذه القدرية الأطلسية وأن ندعو الولايات المتحدة نفسها لإعادة تعريف المصطلحات وأن نعلمها احترام الآخرين، وإن لم تستجب لنا علينا بالرد على سبيل المثال باستخدام سلاح نملكه جميعاً وهو المقاطعة المنهجية والتامة للمنتجات المصنوعة في أمريكا. ويتابع الفيلسوف فيقول «بأي حق نعتبر أنفسنا أنه محكوم علينا أن نتقاسم أيديولوجية الطريقة الأمريكية في المعيشة وكأنها قدر لا مفر منه وباسم أي مرسوم قدري نرى فيها مستقبل مجتمعنا؟».ويدعونا إلى الإنصات لكلود ليفي ستروس الذي يدعو بكل فرح لهذا التنوع الذي يشكل عظمة البشر عندما يريدون تجاوز الذات والسمو. وهو يؤكد أن علينا «ألا ننسى أبداً بأنه لا توجد فئة من البشرية تمتلك صيغاً يمكن تطبيقها على المجموع وأن البشرية عندما تصبح في بوتقة واحدة بنمط واحد للعيش هي بشرية لا يمكن تصورها لأنها ستصبح هياكل عظمية». لنساعد الأمريكيين إذاً ولنساعد أنفسنا في الوقت ذاته في رفض تحجر العالم.
انتهى
((
ملحق
... التدخلات الأمريكية الرئيسية في العالم:
1819 ... ضم فلوريدا.
1846 ... بداية الحرب العدائية ضد المكسيك وضم الأراضي التي تشكل حالياً كاليفورنيا ونيومكسيكو (مكسيك الجديدة) وأريزونا ونيفادا وأوتاوا.
1854 ... تحت تهديد مدافعه أجبر الكومدور بري اليابانانيين بفتح مرافئهم أمام التجارة الأمريكية.
1898 ... غزو الفليبين.
... غزو كوبا.
... ضم هاواي.
... ضم بورتوريكو.
... ضم جزيرة غوام.
1900 ... اشتراك أمريكا بحرب البوكسرز في الصين.
1903 ... التدخل في بنما لدعم الطغمة المؤيدة لأمريكا التي استولت على السلطة.
1906 ... التدخل في كوبا.
1909 ... التدخل في نيكاراغوا
1912 ... إرسال المارينز إلى المكسيك.
1914 ... التدخل في المكسيك.
1915 ... التدخل في هاييتي التي أصبحت محمية أمريكية.
1917 ... المشاركة في حرب أوروبا.
... نزول القوات في كوبا لتعين رئيساً يعمل لصالحها.
1924 ... احتلال سان دومينيك.(1/322)
1925 ... عودة الجيوش الأمريكية بعد شهرين من رحيلها.
1934 ... احتلال هايتي.
1941 ... حرب المحيط الهادي التي انتهت بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي.
... الاشتراك في حرب أفريقيا الشمالية وأوروبا.
1947 ... إنشاء جهاز السي.أي.أي الذي كان هدفه إسقاط الحكومات خلال عشرات السنين مستخدماً الجريمة والتخريب ... إلخ.
1950 ... الحرب الكورية.
1954 ... تدخل الخيش، مدعوماً من السي.أي.أي. في غواتيمالا.
1958 ... إرسال المارينز في لبنان.
1961 ... المحاولة الفاشلة لغزو كوبا (خليج الخنازير).
... إرسال المستشارين العسكريين إلى فيتنام الجنوبية كمقدمة للحرب التي دامت حتى عام 1971 (معاهدة باريس).
1962 ... التدخل في جامايكا حيث استقرت شركات ليل وتيت وبونتد نروت.
1965 ... التدخل في جمهورية الدومنيكان.
1970 ... التدخل في كمبوديا.
1982 ... نزول قوات المارينز في لبنان.
1983 ... التدخل في جزيرة غرنادا والاحتلال العنيف للجزيرة.
Bibliographie sommaire
( ... Bairoch Paul (1995), Mythes et paradoxes de l’histoire économique, La Découverte, Paris.
( ... Baudrillard Jean (1970), La Société de consommation, Folio «Essais», Paris.
( ... Béanger Jean, Vincent Bernard, Marienstras Elise, Heffer Jean, Portes Jacques, Nouailhat Henri, Fohlen Claude, Toinet Marie-France, Bertrand Claude-Jean, Mélandri Pierre (1997), Historie des Etats-Unis, sous la direction de Bernard Vincent, Flammarion «Champs», Paris.
( ... Bergeron Louis, Berstein Serge, et al. (1987), Dictionnaire d’histoire économique, de 1800 à nos jours, Hatier, Paris.
( ... Boncœur Jean, Thouement Hervé (1989), Histoire des idées économiques, Nathan, 2 vol., Paris.
( ... Brune François (1985), Le Bonheur conforme, Gallimard, Paris.
( ... Burdeau Georges (1979), Le Bonheur conforme, Gallimard, Paris.
((1/323)
... Chaliand Cérard, Rageau Jean-Pierre (1983), Atlas stratégique: géopolitique des rapports de forces dans le monde, Fayars, Paris.
( ... Chevénement Jean-Pierre (1992), Une certaine idée de la République m’amène à ... , Albin Michel, Paris.
( ... Conolly Bernard (1995), The Rotten Heart of Europe, Faber, London.
( ... Cotta Alain (1996), La Troisiéme Révolution française, Jean-Claude Lattés, collection «Pluriel», Paris.
( ... Cotta Alain (1991), Le Capitalisme dans tous ses états, Fayars, Paris.
( ... De Benoist Jean-Marie (1976), Pavane pour une Europe défunte, Denoël/ Gonthier, Paris.
( ... De Gaulle Charles (1994), Mémoires de guerre, Omnibus/Plon, Paris.
( ... Destexhe Alain (1989), Amérique centrale: enjeux politiques, éditions «Complexe», Bruxells.
( ... Durosell Jean-Baptiste (1990), Histoire de l’Europe, Librairie Académique Perrin, Paris.
( ... Eagleton Terry (1986), Literary theory: An introduction, Blackwell, Oxford.
( ... Engels Frieddrich (1975), La Situation de la classe laborieuse en Angleterre, Editions sociales, Paris.
( ... Fabre Pascale et Danièle (1995), Histoire de l’Europe au XXe siècle, Editions Complexe, Bruxelles.
( ... Grimal Henri (1982), Le Commonwealth, PUF, collection «Que sais-je?» Paris.
( ... Grjebine André (1982), La Nouvelle Economie internationale, PUF, Paris.
( ... Habsbourg Otto (de) (1994), Mémoirs d’Europe, Critérion, Paris.
( ... Heffer Jean (1997), Les Etats-Unis de 1945 à nos jours, Armand Colin, Paris. Hérodote, 85,2e trimestre 1997, «Etats-Unis, le racisme contre la nation».
( ... Jobert Michel (1987), Les Américains, Albin Michel, Paris.
((1/324)
... Julien Frédéric (1987),Les Etats-Unis contre l’Europe, Le Labyrinthe, Paris.
( ... Kaspi André (1989), Les Américains, Seuil «Histoire», 2 vol., Paris.
( ... Kempe Frederick (1990), L’Affaire Noriega, Presses de la Renaissance, Paris.
( ... Kolko Gabriel (1997), Anatomy of a peace, Routledge, London.
( ... Lacouture Jean (1986), De Gaulle, Seuil «Historie», 3 vol., Paris.
( ... Lamore Jean (1989), Cuba, PUF, collection «Que sais-je?» Paris.
( ... Lhérété Annie et Jean-François (1994), Chronologie thématique des Etats-Unis, Nathan «Université», Paris.
( ... Manigat Leslie (1991), L’Amérique latine XXe siècle, 1889-1929, Seuil «Histoire», Paris.
( ... Marientras Elise (1992), Les Mythes fondateurs de la nation américaine, éditions «Complexe», Bruxelles.
( ... Maris Bernard (1990), Des Economistes au-dessus de tout soupçon, Albin Michel, Paris.
( ... Masson Philippe (1992), Précis d’histoire de la Seconde Guerre mondiale, Tallandier, Paris.
( ... Miliband Ralph (1982), L’Etat dans la société capitaliste, François Maspero, Paris.
( ... Milza Pierre (1983) , Les Relations internationales de 1871 à 1914, Armand Colin, Paris.
( ... Miquel Pierre (1983), La grande guerre, Fayard, Paris.
( ... Neirynck Jacques (1996), Le siége de Bruxelles, Desclée de Brouwer, Paris.
( ... Nouailhat Yves-Henri (1997), Les Etats-Unis et le monde au XXe siége, Armand Colin, Paris.
( ... Polin Claude (1982), Le Totalitarisme, PUF, collection «Que sais-je?» Paris.
( ... Ramos-Horta José (1997), La Saga du Timor-Oriental, Favre, Lausanne et Paris.
( ... Reader W.J. (1985), Life in Victorian England, Batsford, Londres.
((1/325)
... Riasanovsky Nicholas (1987), Histoire de la Russie, Robert Laffont, Paris.
( ... Sachwal Frédérique (1997), L’Europe et la mondialisation, Flammarion «Dominos», Paris.
( ... Sowell Thomas (1983), L’Amérique des ethnies, L’Age d’Homme «Cheminements», Lausanne.
( ... Steiner George (1973), Le Château de Barbe-Bleue, Folio «Essais», Paris.
( ... Stone I. F. (1952), The Hidden History of Korean War, New York.
( ... Tocqueville Alexis de (1963), De la Démocratie en Amérique, 10/18, Paris.
( ... Trevelyan G.M. (1979), English Social History, Pelican, Harmondsworth.
( ... Vanderlinden Jacques (1985), La Crise congolaise, éditions «Complexe», Bruxelles.
( ... Vayssière Pierre (1991), Les Révolutions d’Amérique latine, Seuil «Histoire», Paris.
( ... Weber Eugen (1987), Une Histoire de l’Europe, Fayard, 2 vol., Paris.
( ... Ouvrages de référence générale:
( ... L’Etat du monde: Annuaire économique et géopolitique mondial (1997), La Découverte, Paris.
( ... L’Etat du monde: Annuaire économique et géopolitique mondial (1998), La Découverte, Paris.
(((
لمحة عن الكاتب:
ميشيل بينيون Michel Bugnon-Mordant ولد عام 1947، درس الأدب واللسانيات الإنكليزية والفرنسية والفلسفة الصينية في جامعات نيوشاتل وفريبور وأكسفورد.
حصل على إجازة في الآداب وتابع دراسته في لندن واستنكز، ثم حضر أطروحةً في الأداب الإنكليزية حول الشاعر كوليه ريدج Coleridge.
يحمل دكتوراه في الآداب وهو أستاذ في جامعة فريبور، ويعد حالياً ... دراسة معمقة حول كتابات كونفيشيوس وزونزي وسينيك.
لمحة عن المترجم:
حامد فرزات، ولد عام 1953، درس في لبنان وحصل على شهادة في الفلسفة (بكالوريا قسم ثاني)، انتسب إلى جامعة دمشق وحصل على إجازة في الآداب من قسم اللغة الفرنسية.(1/326)
تابع دراسته بعد ذلك في جامعة السوربون الجديدة في باريس، حيث حصل على شهادة دراسات معمقة حول الكاتب إميل زولا Emile Zola، وحضّر أطروحةً في علوم اللسانيات والصوتيات الفرنسية.
يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وهو أستاذ مساعد في جامعة دمشق كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية.
ترجم إلى الفرنسية كتاب البعث ثورة متجددة 1991.
نشر عدة مقالات أدبية وسياسية في الصحف والمجلات.
((
الفهرس
بطاقة شكر ... 3
مقدمة ... 3
تمهيد ... 3
الفصل الأول : نحو قيام الأمة المشمولة بالعناية الآلهية ... 3
من أين أتت أمريكا؟ ... 3
شعب الله ... 3
تدين حديث العهد ، وتعنت فكري ... 3
غموض نفسي وغياب لكل اعتبار ... 3
حكم الأقلية و«الذرائعية» ... 3
الأمة الأمريكية ... 3
الصفح التاريخي ... 3
الأمة الثنائية الوجه ... 3
المهمة الكونية ... 3
من التوسع الجغرافي إلى السيطرة الاقتصادية ... 3
السيطرة على الدائرة الأولى ... 3
المكسيك المغتصب ... 3
مرحلة خارجية عارضة ... 3
الغرب يتمم الإنسان الأمريكي ... 3
الضمانة الليبرالية ... 3
السيطرة على قارة أمريكا الشمالية ... 3
الاستيلاء على الدائرة الثانية ... 3
احتلال هاواي ... 3
كوبا الثمرة الناضجة ... 3
الهيمنة على الاقتصاد هو المثال على ذلك ... 3
استغلال ظاهرة مسبقة ... 3
بورتوريكو ... 3
الوعد المنقوض ... 3
شحذ الهمم للاستيلاء على أمريكا الوسطى ... 3
الهندوراس ... 3
غواتيمالا ... 3
بنما ... 3
الظهور الإمبريالي ... 3
توسع وإثراء وضمير صالح ... 3
الفصل الثاني : خضوع الدائرة الثالثة ... 3
أوروبا التائهة ... 3
عصبة الأمم قيادة العالم إنطلاقاً من واشنطن ... 3
منعطف فرساي ... 3
الآلية الاقتصادية الكونية ... 3
نحو الانهيار الأوروبي ... 3
روزفلت وغزو العالم ... 3
ديغول ومقاومة روزفلت ... 3
تثبيت الخط السياسي ... 3
الفصل الثالث : الشبكة الكونية الأمريكية ... 3
الحرب السهلة ... 3
الانتشار العنكبوتي ... 3
نظام النقد الدولي ... 3
صندوق النقد الدولي ... 3
البنك الدولي ... 3
العقيدة الذرائعية «الدوغماتية» والأرثوذكسية ... 3
آلية السلب، المجرّبة ... 3(1/327)
مخططات التسوية والاخضاع وأمريكا اللاتينية ... 3
الاتفاقات الدولية ... 3
الحلف الأطلسي ... 3
منظمة الأمم المتحدة ... 3
الأزمة الكونغولية 1959-1960 ... 3
العملية الصومالية ... 3
الفصل الرابع : إخضاع العقول ... 3
تقزيم العالم ... 3
هذه الأمة كانت الولايات المتحدة. ... 3
الخبز وألعاب السيرك ... 3
عن التزوير كفنّ هام ... 3
سلاح الدعاية ... 3
السلاح التلفازي ... 3
المدفعية الهوليودية ... 3
السلاح المطلق: احتكار عالم الاتصالات ... 3
تشويه الثقافات ... 3
الزي الكوني ... 3
الذوق الوحيد ... 3
لغة عالمية جديدة ... 3
انتصار الابتذالية ... 3
الفصل الخامس : هل نستطيع أن نتخلص من الإمبريالية الأمريكية؟ ... 3
التنازلات الأوروبية ... 3
الخلود الأمريكي ... 3
هل أمريكا استبدادية؟ ... 3
الأيديولوجية أولاً ... 3
نشر سلطة وحيدة بعد ذلك ... 3
من هنا أتى دور الاحتكارات ... 3
الاحتكارات العسكرية والسياسية ... 3
الاحتكارات الاقتصادية ... 3
الاحتكار الدبلوماسي ... 3
الاحتكار الثقافي ... 3
التفوق الفكري ... 3
التهديد بالوصاية في عالم الاتصالات ... 3
حول المهارة الأمريكي ... 3
العالم ضد أمريكا ... 3
إعادة اكتساب واسترداد التربية ... 3
اللغة والهوية ... 3
مشروع خاتمة ... 3
ملحق ... 3
لمحة عن الكاتب ... 3
لمحة عن المترجم ... 3
الفهرس ... 3
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
أمريكا المستبدة: الولايات المتحدة وسياسةالسيطرة على العالم "العولمة"/ Michel Bugnon -Mordont ؛ ترجمة /
حامد فرزات – دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 –
239 ص؛ 24سم.
1- 327.73 ب و غ أ ... ... ... ... ... 2- العنوان
3- بوغنون- موردانت ... ... ... ... ... 4- فرزات
ع- 2285/11/ 2001 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/328)