كتاب
أفضل أيام الدنيا
لفضيلة الشيخ
جماز بن عبد الرحمن الجماز
موقع فضيلة الشيخ / جماز بن عبد الرحمن الجماز الرسمي
www.aljmaz.net
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد....
فبين يديك أخي القارئ الكريم مجموع أربع رسائل مختصرة، تتحدث عن أفضل أيام الدنيا (أيام عشر ذي الحجة) اجتهدتُ في جمعها وانتقائها وتهذيبها وتوثيقها؛ وقد رتبتها على النحو التالي:
الرسالة الأولى: (عشر ذي الحجة) 1-4
الرسالة الثانية: (دروس عقدية وتربوية في الحج) 2-4
الرسالة الثالثة: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) 3-4
الرسالة الرابعة: (يوم عرفة، فضائله وأسباب تحصيلها) 4-4
وقد حرصت أن تكون مسيرة واضحة لكل قارئ، حتى يعم النفع بها الصغير والكبير والذكر والأنثى.
أسأل الله جل وعلا أن ينفع بها ويضع لها القبول، وأن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، إن ربي لسميع الدعاء، والحمد لله رب العالمين.
كتبه
جماز بن عبد الرحمن بن عبد الله الجماز
السعودية – شقراء
الرمز البريدي 11961 ص ب 524
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
إن الأمة الإسلامية تعيش في هذه الأوقات أياماً شريفة، وليالي فاضلة، وأزمنة عامرة بذكر الله تعالى وشكره، وموسماً عظيماً من مواسم طاعة الله وعبادته، يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى ربهم، والسعيد من اغتنم تلك المواسم وأكثر فيها من الطاعات والصالحات، وعما قريب نرى حجاج بيت الله الحرام يقفون هناك على عرفات، في مشهد رائع من مشاهد العبودية، يستمطرون رحمة الله ويستجلبون عفوه ومغفرته، ويسألونه من فضله، ويتوجهون إليه بالذكر والدعاء، والاستغفار والمناجاة، معترفين بالذل والعجز والفقر والمسكنة.(1/1)
وفي يوم العيد، يوم النحر الذي هو أكبر العيدين وأفضلهما، يشترك المسلمون جميعاً في الفرح والسرور في جميع الأمصار، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده، وذلك لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولذلك شرع للجميع التقرب إلى الله بذبح الأضاحي وإراقة دماء القرابين.
فأهل الموسم يرمون الجمرة ويشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج، ويقضون تفثهم ويوفون نذورهم ويقربون قرابينهم ثم يطوفون بالبيت العتيق.
وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم يذبحون عقب ذلك نسكهم، ويقربون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك شكراً منهم لهذه النعم.
والعيد أيها الأحباب موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بخالقهم ومولاهم إذا فازوا بإكمال طاعته وحازوا ثواب أعمالهم بفضله ومغفرته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].
بأي شيء نستقبل عشر ذي الحجة:
حري بالمسلم أن يستقبل مواسم الخير عامة بالتوبة الصادقة النصوح، وبالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، فإنّ الذنوب هي التي تحرم الإنسان فضل ربه، وتحجب قلبه عن مولاه، ومن عزم على شيء أعانه الله، ومن صدق الله صدقه الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت:69]، فاحرص على اغتنام الفرصة السانحة هذه، قبل أن تفوت عليك، فتندم ولات ساعة مندم، وكن من الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:90].
فضل عشر ذي الحجة:(1/2)
قد فضّل الله تعالى عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يُخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» (رواه البخاري)
وفي رواية: «ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجراً من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى: قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» فقال: فكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً، حتى ما يكاد يقدرُ عليه. رواه البيهقي والدارمي وحسنه الألباني.
وروي عنه أنه قال: «لا تطفئوا سرجاكم ليالي العشر» أورده ابن رجب.
وقال مجاهد: «العمل في العشر يضاعف» أورده ابن رجب.
وقال: «جميع الأعمال الصالحة مضاعفة في العشر من غير استثناء شيء منها.... وقد روي في خصوص صيام أيامه وقيام لياليه وكثرة الذكر فيه..... وهو لا يصح» ا.هـ
وقال: «العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها» ا.هـ
وقال: «ويستثنى جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد» ا.هـ
وهو أن يُعقر جواده ويهراق دمه «وذكر ابن رجب ما معناه» أن الحج المفروض أفضل من التطوع بالجهاد، والتطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج، إلا أن يكون الرجل ليس من أهل الجهاد فحجه أفضل من جهاده، كالمرأة....
وأما أيهما أفضل، عشر ذي الحجة أو العشر الأخيرة من رمضان؟ فالصواب أن ليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان، ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فُضِّلت باعتبار ليلة القدر وهي من الليالي، وعشر ذي الحجة إنما فُضِّل باعتبار أيامه، إذْ فيه يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم التروية، وبه قال ابن القيم وابن كثير.
سبب فضل عشر ذي الحجة:
واعلم أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة، منها:(1/3)
1- أن الله تعالى أقسم بها، والعظيم لا يُقسِم إلا بعظيم، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ - وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر:2]، قال غير واحد من السلف والخلف: هي عشر ذي الحجة، وهو قول جماهير المفسرين، واختاره ابن كثير.
2- وجاء في قوله تعالى: {....وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...}[الحج:28]، قال ابن عباس: «الأيام المعلومات أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق» رواه البخاري معلَّقاً مجزوماً به، وهو صحيح. قاله النووي، وهو قول الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
3- أنها أفضل أيام الدنيا، كما شهد بذلك النبي- صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر- رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: «أفضل أيام الدنيا العشر» يعني عشر ذي الحجة، قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: «ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجلٌ عُفِّر وجهه بالتراب» رواه البزار وغيره وحسنه الهيثمي والمنذري.
4- أنه- صلى الله عليه وسلم - حثّ فيها على العمل الصالح، وذلك لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان بالنسبة لحجاج بيت الله الحرام، وقد تقدم ذلك.
5- أنه- صلى الله عليه وسلم - أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير.
6- أن فيها يوم عرفة ويوم النحر.
7- أن فيها الأضحية والحج.
قال الحافظ ابن حجر: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره» ا.هـ
وظائف عشر ذي الحجة:
إن أدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد، يقدُرها حق قدرها الصالحون المُشمِّرون.
وإن واجب كل واحد منا استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، وذلك بأن يخص هذه العشر بمزيد عناية، وأن يُجاهد نفسه بالطاعة، وقد كان هذا هو حال السلف من الصحابة.(1/4)
يقول أبو عثمان النهدي: «كانوا –أي السلف- يُعظِّمون ثلاث عشرات: العشر الأخيرة من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم» ا.هـ
ومن الأعمال والأقوال في ذلك:
1- الإكثار من العمل الصالح:
فالعمل الصالح محبوب لله تعالى في هذه العشر، وهذا يعني فضل العمل وعظم ثوابه عند الله تعالى، فمن لم يمكنه الحج، فعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بطاعة الله تعالى، من الصلاة والدعاء والقراءة والذكر والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنفاق في سبيل الله والشفقة بالضعفاء والدعوة إلى الله، وغير ذلك من طرق الخير وسبل الطاعة.
وفضل العشر عظيم، وخير كثير من الله تعالى، والفضائل لا تُدركُ بِنَظَر، ولا مدخل فيها لقياس، فإن الله تعالى مُنعم مُتفضِّل، له أن يَتفضَّل بما شاء، على من يشاء، فيما شاء من الأعمال، لا مُعقِّب لحكمه ولا رادَّ لفضله.
2- التوبة النصوح:
فالتوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم، لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير، فيحصل الاعتراف بالذنب والندم على ما مضى، وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان إذا اجتمع للمسلم توبة نصوح مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}[القصص:67]. فيحرص كل واحد منا على مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء، فالثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرج والمآب {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:7-8].
3- التكبير:(1/5)
فيسن التكبير والتحميد والتهليل أيام العشر، وإظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، يجهر به الرجال وتخفيه المرأة، إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى، وهو لا يتقيد بمكان، فحتى في الأسواق وعلى الفراش والمجلس وأثناء المشي. ولا يتقيد بزمان، فيؤتى به في الليل والنهار، والسفر والحضر، ولا يتقيد بحال، فيؤتى به قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً أو راكباً أو محمولاً أو على غير طهارة.
والأظهر أنه مطلق من أول ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق، وفي كل وقت من تلك الأيام، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فيصار إليه، ويدل على ذلك ما قاله الإمام البخاري في صحيحه: «باب التكبير أيام منى، وإذا غدا من عرفة، وكان عمر- رضي الله عنه - يكبر في قبته بمنى.
فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً؛ وكان ابن عمر يكبّر بمنى تلك الأيام خلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جميعاً، وكانت ميمونة تكبّر يوم النحر، وكنّ النساء يكبِّرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد. رواه البخاري في صحيحه معلّقا مجزوماً به.
قال الحافظ ابن حجر: «وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال» ا.هـ
وقال: «ظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده»ا.هـ
وقال الشوكاني: «والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام، كما تدل على ذلك الآثار المذكورة» ا.هـ ورجّحه صديق حسن خان والصنعاني، ولم يصح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - حديث في كيفية التكبير، وإنما هي آثار عن الصحابة، قال الصنعاني: «وفي الشرع صفات كثيرة واستحسانات عن عدة الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك» ا.هـ(1/6)
ومما ورد عن الصحابة: ما جاء عن ابن مسعود: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد» رواه ابن أبي شيبة وصححه الألباني، قال ابن تيمية: «وهو المنقول عن أكثر الصحابة» ا.هـ
وكان ابن عباس يقول: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل الله أكبر على ما هدانا» رواه البيهقي وهو صحيح.
وكان سلمان يقول: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا» رواه عبد الرزاق وصححه الحافظ ابن حجر، والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة، ولذلك فينبغي الجهر به، إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}[الحج:28]، والمعلومات هي العشر. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة:203]، والمعدودات هي أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم العيد، وهو المنقول عن ابن عباس بسند صحيح.
وفي حديث عبد الله بن عمر، أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» رواه أحمد، ورواه الطبراني، ولفظه: «فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير» وجوّده المنذري وصححه أحمد شاكر.
«وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبِّران ويُكبِّر الناس بتكبيرهما، وكبّر محمد بن علي خلف النافلة» رواه البخاري معلّقاً مجزوماً به.(1/7)
ونقل ابن تيمية: أن التكبير المشروع في عيد الأضحى بالاتفاق، ومتى أراد المصلي أن يُكبّر خلف الصلاة ونعني به ما قال عند العلماء: أنه التكبير المقيد، فينبغي أن تعلم أنه ليس فيه نص صحيح صريح عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، ولكنها آثار عن الصحابة وغيرهم، واجتهادات من أهل العلم، والأمر فيه واسع، حتى لو تركه، فلا يضر ذلك.
وذهب جماهير العلماء إلى استحبابه بعد المكتوبات المؤداة في جماعة.
وأما صلاة الفريضة منفرداً فيكبِّر بعدها عند مالك وأحمد.
وأما النوافل فذهب جمهور العلماء إلى عدم استحبابه، وقول عند الشافعية أنه يكبِّر.
وأما محله بعد الصلاة، فهو قبل الذكر العام للصلاة (والإمام يُكبِّر مستقبل القبلة بعد السلام مباشرة، وله تأخيره إلى أن يستدير ويستقبل الناس، ويكبِّر المأموم ولو لم يُكبِّر الإمام، والمسبوق إذا أكمل وسلّم كبَّر). هذا هو المذهب، والصحيح: أنه بعد «ومنك السلام». قاله ابن عثيمين رحمه الله.
4- الصيام:
فهو من جملة الأعمال الصالحة، وقد أضافه الله إلى نفسه لعظم شأنه وعلو قدرهن وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزري» رواه البخاري.
وقد خص النبي- صلى الله عليه وسلم - صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة، وحث عليه ورغّب، وبيّن فضل صومه، ففي حديث أبي قتادة قال: «سُئِل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة، فقال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده...» رواه مسلم، وفي لفظ آخر: «يُكفِّر السنة الماضية والباقية» رواه مسلم.(1/8)
وبعض الناس يخص اليوم السابع والثامن والتاسع بالصيام، ويعتقد أنه سنة واردة، وتُسمّى بثلاث الحجة، فهذا لا أصل له، وفيه حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم - قالت: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة.....» رواه أبو داود وغيره، وصححه بعض أهل العلم، قال النووي: «صيام التسعة مستحبة استحباباً شديداً» ا.هـ
وصيام تسع ذي الحجة هي لمن أراد الحج، ومن لا يريد الحج، سواءً أحرم به أو لم يحرم، نواه أو لم ينوه، هذا الذي يظهر من كلام أهل العلم؛ وقال آخرون: سنية صومها باعتبارها عملاً صالحاً؛ وأما حديث: «كان يصوم تسع ذي الحجة» فمنكر، لا يصح؛ قاله العلوان، ويؤيده حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صائماً في العشر قطّ» رواه مسلم، وفي لفظ: «أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يصم العشر» رواه مسلم، وإلا فصيامها مباح، وهذا هو الصحيح، والله أعلم.
5- أداء الحج والعمرة:
وهما أفضل ما يعمل في عشر ذي الحجة، بل هو أفضل العبادات، وأجل الطاعات، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، والحج واجب على الفور في حق من استطاع إليه سبيلاً، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97]، وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» رواه البخاري ومسلم؛ وهو فرض مرةً واحدة في العمر، لقوله- صلى الله عليه وسلم -: «الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع» رواه أبو داود، وهو صحيح.(1/9)
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا» رواه مسلم، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «من أراد أن يحج فليتعجّل، فإنه قد تضل الضالة، ويمرض المريض، وتكون الحاجة» رواه أحمد وابن ماجه وهو حسن.
وكثير من الناس وجب عليه الحج واستطاع إليه سبيلاً، فقبع في بيته، وركن إلى موطنه وأهله، تركه تساهلاً وتهاوناً، وجعل يتصنّع المعاذير، فيا من ترك الحج بخلاً وكسلاً وطاعة للشيطان المريد، أسأت الظن بربك ورأيت رأياً غير سديد، على كم تسوّف بالفرض شُحًّا وغيًّا؟ وإلى كم تماطل بالفرض رباًّ غنيًّا؟ أما تخاف من التسويف موتاً وحياً؟ فعلام التسويف من عام إلى عام؟ أعلى يقين من طول الأعمار وصحة الأجسام؟ فالغنيمة الغنيمة لبلوغ المرام، والعزيمة العزيمة إلى حطَّ أثقال الآثام. والرحيل الرحيل إلى بيت الله الحرام، بيت حجه أبونا آدم- عليه السلام -، وحجته ملائكته الرحمن قبله بألفي عام، وحجتُه أنبياء الله ورسوله الكرام، وأذّن إبراهيم الخليل بحجه، فأجابوه من الأصلاب والأرحام.
فاتقوا الله يا من أقدركم الله على الحج، واحذروا أن تؤخروه، فقد هُدِّدتم وتُوعدتم بقول الله {وَمَنْ كَفَرَ} وبقول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -: «لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى أهل الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين» وفي لفظ: «ليَمُتْ يهودياً أو نصرانياً، ليمت يهودياً أو نصرانياً، ليمت يهودياً أو نصرانياً، رجل مات ولم يحج، وعنده لذلك سعة وخُلِّيْ سبيله» رواه البيهقي وغيره، وصححه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقال الحافظ ابن حجر المكي –صاحب الزواجر-: ومثل هذا لا يُقال من قِبَل الرأي، فيكون في حكم المرفوع، ومن ثمَّ أفتيت بأنه حديث صحيح. ا.هـ(1/10)
ومما يروى في الأحاديث الضعيفة: حديث علي مرفوعاً: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97]، رواه الترمذي وغيره.
وحديث أبي أمامة مرفوعاً: «من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً» رواه البيهقي وغيره.
وحديث حذيفة مرفوعاً: «الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له». قال الدارقطني: الموقوف أصحّ ا.هـ
وقال ابن عباس: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب فيه عليه زكاة، فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت، وتلا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون:10]، والمراد بالصلاح هنا الحج، رواه الترمذي وغيره، وهو ضعيف.
وجاء عن سعيد بن جبير قال: «مات لي جار موسر، لم يحج، فلم أصلِّ عليه» أورده ابن حجر المكي في الزواجر.
فاتق الله عبدَ الله، وقم بأداء فرض الله عليك، واعلم أن ترك الحج مع القدرة عليه إلى الموت كبيرة من كبائر الذنوب، والإنسان إذا حج فرضه، فإنه يُسن له أن يحج كل خمس سنين، مرة، لحديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله عز وجل: إن عبداً صحّحت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم» رواه ابن حبان وغيره، وهو حسن.(1/11)
والإكثار من الحج والعمرة تطوعاً سنة، وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه البخاري ومسلم.
وفُسّر الحج المبرور في حديث جابر، وأنه قيل للنبي- صلى الله عليه وسلم - وما بره؟ قال: «إطعام الطعام، وطيب الكلام» وفي رواية: «إطعام الطعام وإفشاء السلام» رواه أحمد وهو حسن.
وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «من حج فلم يرفُثْ ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه البخاري ومسلم.
ورواه الترمذي ولفظه: «غُفِر له ما تقدم من ذنبه، وفي حديث عبد الله بن مسعود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» رواه الترمذي وغيره، وهو حسن.
وعند البيهقي: «فإن متابعة بينهما يزيدان في الأجل»، وفي حديث ماعز أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سُئِل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجه برة تفضُلُ سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها» رواه أحمد وغيره وهو صحيح، وفي حديث عبد الله بن عمر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين ويُرفع في الثالثة» رواه البزار وغيره وهو حسن.
وإن الحجاج والعمار إذا أحرموا فقد أحرموا عن الحلال، فأحرموا أنتم عن الحرام، منعوا أنفسهم من الطيب، فاحذروا أنتم جيفة الهوى، يا حسنهم وقد نزعوا المخيط، ونزعوا عن التضييع والتفريط، فارقوا لأجل مولاهم أولادهم، وأعروا عن رقيق الثياب له أجسادهم، وتركوا في مراضيه محبوبتهم ومرادهم، فأصبحوا وقد أعطاهم، وأمسوا وقد أفادهم.(1/12)
فيا أخي الحبيب: إن لم نصل إلى ديارهم فلنصل إنكسارنا بانكسارهم، وإن لم نقدر على عرفات، فلنستدرك ما فان وغن لم نقدر على ليلة جمع ومنى، فلنقم بمأتم الأسف هاهنا! أين المنيب الأواب؟ أين المجدُّ السابق؟ هذا يوم يرحم فيه الصادق، أسفاً لعبد لم يُغفر له اليوم ما جنى، كلما همّ بخير نقض الطرد ما بنى حضر مواسم الأرباحْ، فما حصل خيراً ولا اقتنى، ودخل بساتين الفلاح، فما مدَّ كفا ولا جنى، ليت شعري من منا خاب، ومن منا نال المنى.(1/13)
«الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» أيها الأخ الكريم، اعلم، أنك إذا خرجت إلى الحج فأنت في ذمة الله وحفظه، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، كما في حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازياً عن سبيل الله، ورجل خرج حاجاً» رواه أبو نعيم وغيره وهو صحيح، واعلم أنه من حين خروجك من بيتك إلى أن تقضي مناسك الحج، وأنت ما بين أن تُكتب لك حسنة، أو تمحا عنك سيئة، أو أن تغسل عنك الذنوب، أو تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، كما في حديث عبد الله بن عمر وقصة الرجلين الثقفي والأنصاري. وعندما سأل الأنصاري قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: «أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكلِّ وطأة تطؤها راحلتك، يكتبُ الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة، فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخورٌ لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك» رواه الطبراني وغيره وهو حسن.
أيها الأخوة، ولنا قدوة بمن سلف فهذا طاووس بن كيسان وأيوب السختياني وابن المسيَّب حجوا أربعين حجة، وهذا عمرو بن ميمون وأبو عثمان النهدي حجا ستين حجة، وهذا الأسود بن يزيد حجّ ثمانين، من بين حجة وعمرة، وهذا سفيان بن عيينة حج ثمانين حجة، ويروى أنه كان يقول في كل موقف: اللهم لا تجعله آخر العهد بك، فلما كان العام الذي مات فيه، لم يقل شيئاً، وقال: قد استحييت من الله تعالى.(1/14)
بل بلغ ببعضهم كسعيد بن جبير، أنه كان يخرج في كل سنة مرتين، مرة للحج ومرة للعمرة، وكذلك مسلم بن يسار، كان يحج كل سنة ويحجّج معه رجالاً من إخوانه، وبعضهم كان يعدلُ لنفسه في العبادة، فهذا عيسى بن يونس غزا خمساً وأربعين غزوة وحج خمساً وأربعين حجة. وهذا عبد الله بن وهب قَسَم دهره أثلاثاً: ثلثاً في الرباط، وثلثاً يُعلّم الناس بمصر، وثلثاً في الحج، وحج ستاً وثلاثين حجة.
فيا عبد الله، لا تفوتك المشاعر: تلك الذكريات الجميلة والمشاهد العظيمة، وقد سئل سفيان الثوري جعفر بن محمد الصادق، فقال: لمَ جُعِل الموقف من وراء الحرم؟ ولم يُصيَّر في المشعر الحرام؟ فقال جعفر: الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والموقف بابه، فلما قصده الوافدون، أوقفهم بالباب يتضرعون، فلما أذن لهم في الدخول، أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة، فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم، رحمهم فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلما قرَّبوا قربانهم، وقضوا تفثهم وتطهّروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم، أمرهم بزيارة بيته على طهارة، قال سفيان فلم كُرِه (يعني حُرم) الصوم أيام التشريق؟ قال جعفر: لأنهم في ضيافة الله، ولا يجب على المضيف أن يصوم عند من أضافه، قال سفيان: جُعلت فداك، فما بل الناس يتعلّقون بأستار الكعبة، وهي خرق لا تنفع شيئاً؟ قال: جعفر ذاك مثل رجل بينه وبين رجل جُرم، فهو يتعلّق به ويطوف حوله، رجاء أن يهب له ذلك الجرم.(1/15)
أخي الحبيب، فإذا خرجت إلى البيت الحرام، فاسأل الله القبول، فهذا عمر بن ذر لما أتى الحرم، قال: ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة، ونعلو شرفاً، ويبدو لنا علم حتى أتيناك بها، نقبة أخفافها، دبرة ظهورها، ذبلة أسنامها، فليس أعظم المؤمنة علينا إتعاب أبداننا ولا إنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران! يا خير من نزل النازلون بفنائه.... وأما من رضي بالقعود وفضَّل الأهل والولد، وترك الرحيل إلى مساقط الرحمة ومواطن القبول ومظنات الإجابة، فلك أن تعزي نفسك برؤية الحجيج وهم ذاهبون إلى بيت الله الحرام، فهذا السلطان الكبير جلال الدولة ملكشاة التركي وقف يتأمل الحجاج فرقَّ ونزل وسجد وعفّر وجهه وبكى، وقال بالعجمية: بلغوا سلامي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وقولوا: العبدُ العاصي الآبق أبو الفتح يخدم ويقول: يا نبي الله، لو كنت ممن يصلح لتلك الحضرة المقدسة، كنتُ في الصحبة، فضجّ الناس وبكوا ودعوا له...
أسأل الله العلي القدير أن يبلغنا حج بيته الحرام، في نعمة الإسلام، ومن حبس عن حج فليجاهد نفسه على طاعة الله تعالى، وليشتغل بذكر الله تعالى كما هي وصية النبي- صلى الله عليه وسلم - لفقراء الصحابة الذين لا يجدون ما يجاهدون ويحجون ويعتمرون ويتصدّقون به، ومن حصر عن أداء النسك فليُرقْ على تخلُّفه من الدموع ما تيسّر، ومن كان قد بعد عن حرم الله، فلا يُبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإنَّ رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت، أو البيت منه بعيد، فليقصد رب البيت، فإنَّ من دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
دروس عقدية وتربوية من الحج
تمهيد:(1/16)
إن النفوس لما كانت مجبولة على محبة الأوطان وعدم مفارقتها، رغّب الشارع في الحج ترغيباً شديداً، وجعل له فضائل جليلة، وأجوراً كبيرة، لأنه يتطلب مفارقة الأوطان والمألوفات من أهل ومال وصاحب وعشيرة، وكذلك تشويقاً للعباد إلى رؤية تلك المعالم التي هبط فيها الوحي، ونزلت فيها الرسالة، لقد كان للحج تأثير عظيم في تزكية النفوس وإصلاح القلوب، لما فيه من معاني العبودية ومظاهر الربانية التي تجلّت في كل أعماله ومناسكه، فأثمرت في واقع السلف قلوباً تقية وأفئدة زكية وأبداناً طاهرة نقية، فكانوا مع أحسانهم العمل يخشون الرد وعدم القبول، فما أحرانا نحن المسلمين أن نعود إلى ما كان عليه السلف الصالح عقيدة ومنهاجاً، عبادة وسلوكاً، حتى نفوز بما فازوا به من سعادة الدارين، العزّ في الدنيا والنعيم في الآخرة.
الحج بين الواجب والواقع:
إن زاد العبادات في مجتمع المسلمين يُفترض أن يصبغ حركة المجتمع كله بدينونتهم لله تعالى في علاقاتهم ليظهر في سلوكيات الأفراد، فهل بدا واقع المسلمين بارزاً فيه صدى زاد الحج، تلك العبادة التي تمزج بين قلوب المسلمين، وترسخ فيها وحدة الشعور، ثمرة لوحدة الشعيرة، هل بدا كذلك؟ وهل تزود المسلمين من زاد الحج وعاشوا حكمه وهم يطبقون أحكامه على وجه مشروع ومسنون؟ هل تحرك ذلك الموكب من ذوي الرداء الأبيض الناصع بين الشاعر شامة تزين الأرض، يباهي بها الرحمن ملائكته، حجيجاً مترابطي القلوب، مسلمين على منهج الله؟ هل بدت حكم الحج العظيمة وآثارها الجليلة متحرّكة مع ذلك الموكب تنطق بها جوارح الحجيج، وتبدوا شاخصة في مناسكهم؟ هل ذابت الفوارق النفسية بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، وذهبت مع ثياب الحل وبدت النفوس صافية حانية متآلفة لا يقل صفاؤها عن صفاء ثياب الإحرام.(1/17)
الحقيقة: أن اجتماع ذلك الكم الهائل من المسلمين على ذلك الصعيد الطاهر، وإن بدت زيادة عدوه ملمحاً إيجابياً من ملامح الصحوة، وزادت فيه مساحات الالتزام الصحيح أثراً من آثارها إلا إن مساحات كبيرة منه تجيب سلباً عما سلف من تساؤلات وذلك لأسباب، منها:
1- أن كثيراً من المسلمين بعيدون عن الأسس العقدية الصحيحة، مما يلزم معه أهمية التوعية بالتوحيد لله وإخلاص العبودية له جل وعلا.
2- أن تلك العبادة أصبحت لدى كثير من المسلمين مجرد رحلات سياحية، تكاد تكون خالية من روحها الإيمانية، بل صارت مجالاً للتفاخر والمباهاة.
3- الجهل السائد لدى كثير من الحجاج بآداب وأخلاقيات تلك الشعيرة، ولا سيما في التطبيق العملي للحج من الطواف والسعي وعند التنقل بين المشاعر، وبسبب ذلك الجهل، انتشر ما يحصل بين الحجاج من سلوكيات غير حميدة وإيذاء لا مبرّر له.
لهذا كله فإنه لزاماً على كل عبد أراد حج بيت الله الحرام، أن يدرك حقيقة الحج، وكلما استوعب المرء حقيقته وروحه، والحكم والغايات التي شُرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه، كلما كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد من ذلك، ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب لا غير (ولعل من أبرز الحكم والغايات والمعاني العقدية والدروس التربوية والمستقاة من هذه الفريضة العظيمة ما يلي):
1- التسليم والانقياد لشرع الله تعالى:(1/18)
كم نحتاج أخي الكريم إلى ترويض عقولنا ونفوسنا، كي تنقاد لشرع الله تعالى بكل تسليم وخضوع، فالحج خير مثال لتحقيق هذا التسليم، فإن تنقل الحجاج بين المشاعر وطوافهم حول البيت العتيق وتقبيلهم للحجر الأسود ورمي الجمار وغير ذلك، كل ذلك أمثلة حية لتحقيق هذا الانقياد لشرع الله تعالى وقبول حكم الله عز وجل بكل انشراح صدر وطمأنينة قلب، لقد دعا إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فقالاً: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:128]، لقد دعوا لنفسيهما وذريتهما بالإسلام الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه، المتضمن لانقياد الجوارح.
ورضي الله عن الفاروق عمر، إذا يقول عن الحجر الأسود: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبّلتك» خرّجه البخاري في صحيحه. يقول الحافظ ابن حجر: وفي قول عمر هذا، التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه» ا.هـ
ويقول أقوام السنة إسماعيل الأصفهاني: «ومن مذهب أهل السنة: أن كل ما سمعه المرء من الآثار مما لم يبلغه عقله، فعليه التسليم والتصديق والتفويض والرضا، لا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه...» ا.هـ
2- تأصيل التوحيد في النفوس:(1/19)
إن منسك الحج من أعظم شعائر الإسلام تمثيلاً للتوحيد، ففيه تعود بنا الذكريات إلى إبراهيم- عليه السلام - الذي حطم الأصنام ليكون الدين كله لله، وترك بلاد الأصنام مهاجراً إلى ربه، وهو الذي سمانا المسلمين من قبل، وهو الذي بنى مع ولده إسماعيل- عليه السلام - أول بيت للناس يُعبد فيه الله وحده. قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26]، وبعدها بقليل، حذر سبحانه من الشرك ونجاسته فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}[الحج:30]، بل إنك ترى أن عامة مناسك الحج يتجلى التوحيد فيها ناصعاً، ولذلك وصف الصحابي حجة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عندما ما أحرم من ذي الحليفة. قال: فأهل بالتوحيد وهو يعني التلبية، فمن أجل تحقيق التوحيد لله وحده والكفر بالطاغوت، شُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية قائلاً: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» بينما كان دعاء العرب في الجاهلية: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» ومن أجل تحقيق التوحيد شرع للحاج والمعتمر أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]كما كان يفعل الرسول- صلى الله عليه وسلم -، كما شرع الله تعالى التهليل عند صعود الصفا والمروة، فيستحب للحاج والمعتمر أن يستقبل القبلة عند صعوده الصفا والمروة ويقول: «الله أكبر –ثلاث مرات- لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده –ثلاث مرات-» كما كان يفعل الرسول- صلى الله عليه وسلم(1/20)
-، وفي مناسك الحج وشعائره تربية للأمة على إفراد الله سبحانه بالدعاء والسؤال والطلب، والرغبة إليه والاعتماد عليه، كما عند المشعر الحرام فجر يوم العيد وبعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.
3- تعظيم شعائر الله وحرماته.
من أبرز غايات الحج وحكمه تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته وإجلالها ومحبتها والتحرج من المساس بها أو هتكها، قال تعالى بعد أن ذكر أحكاماً عن الحج {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[الحج:30] والحرمات المقصودة هاهنا أعمال الحج المشار إليها في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}[الحج:29] وقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32] فتعظيم مناسك الحج عموماً من تقوى القلوب، كما ذكر ذلك بعض المفسرين، وفي الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة (يعني الكعبة) حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا» خرّجه ابن ماجه وحسنه الحافظ، وينبغي أن نعلم أن تعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها، يقول ابن القيم: «وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلّى أحدهما عن الآخر فسدت».
4- تحقيق الولاء بين المؤمنين والبراء من المشركين.
كم هو محزن حقاً تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً وتمزقهم إلى دول متعددة ومتناحرة، وقد غلبت عليهم النعرات الجاهلية المختلفة، وإن فريضة الحج أعظم علاج لهذا التفرق والتشرذم، فالحج يجمع الشمل وينمي الولاء والحب والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقي (الكتاب والسنة) وقبلتهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقتراباً حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد، وزمان واحد، ويؤدون جميعاً مناسك واحدة.(1/21)
كما أن في الحج أنواعاً من صور الولاء للمؤمنين: حيث الحج مدرسة لتعليم السخاء والإنفاق وبذل المعروف أياً كان، سواءً أكان تعليم جاهل أو هداية تائه أو إطعام جائع أو إرواء غليل أو مساعدة ملهوف.
وفي المقابل: ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم يقول ابن القيم: «استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك» ا.هـ
ولقد أفاض الرسول- صلى الله عليه وسلم - من عرفات بعد غروب الشمس مخالفاً أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها، ولما كان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام بعد طلوع الشمس، خالفهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - فدفع قبل أن تطلع الشمس وأبطل النبي- صلى الله عليه وسلم - عوائد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع حيث قال، كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع».
5- تذكر اليوم الآخر واستحضاره.
إن الحاج إذا فارق وطنه وتحمّل عناء السفر: فعليه أن يتذكر خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وأهوالها، وإذا لبس المحرم ملابس الإحرام، فعليه أن يتذكر لبس كفنه وأنه سيلق ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا، وإذا وقف بعرفة: فليتذكر ما يشاهده من ازدحام الخلق وارتفع أصواتهم واختلاف لغاتهم، موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن، قال ابن القيم:
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي……كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ناهيك عن الترحال والتعب بين المشاعر، فهما يذكر أنه بالضيق والضنك في عرصات القيامة حتى إن من العباد من يلجمه العرق.
6- محبة الرسول- صلى الله عليه وسلم -.
إن محبة الرسول- صلى الله عليه وسلم - من أجل أعمال القلوب وأفضل شعب الإيمان، ومحبة الرسول- صلى الله عليه وسلم - توجب متابعته والتزام هديه، وإن التأسي برسول الله- صلى الله عليه وسلم - أثناء القيام بمناسك الحج سبب في نيل محبته، حيث قال- صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم».(1/22)
وفي اتباع النبي- صلى الله عليه وسلم - تحقيق لمحبة الله تعالى، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:31].
7- تحقيق التقوى.إن الغاية من الحج تحقيق التقوى، ولذا نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات الحج بشكل جلي، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.....وَاتَّقُوا اللَّهَ......}[البقرة:196].وقال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة:197].
8- ربط الحجيج بأسلافهم.
تحمل أعمال الحج في طياتها ذكريات قديمة، من هجرة إبراهيم- عليه السلام - وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أمر بذبح ابنه، وبنائه للبيت، وأذانه في الناس بالحج، حتى مبعث نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم -، والتذكير بحجة الوداع معه- صلى الله عليه وسلم - حيث حج معه ما يربو على مائة ألف صحابي. وقال لهم- صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم» ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر، حيث تربوا أعداد الحجيج على أكثر من ألفي ألف من المسلمين مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد أرض المشاعر قبله، ويتأمل الصراع العقدي الذي جرى بين الموحدين والمشركين فيها، وما بذله الموحدون من تضحية بالأنفس ومتع الحياة من أهل ومال وجاه، وما قام به المشركون من عناد وبغي ودفاع عن مصالح أنفسهم وشهواتها، ليدرك أسباب هلاك من هلك ونجاة من نجا، ويعد نفسه عدواً للمجرمين ويستيقن أن العاقبة للمتقين.
9- تعميق الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية.(1/23)
يجتمع الحجاج على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في مكان وزمان واحد، بمظهر واحد وهتاف واحد، لهدف واحد، وهو الإيمان بالله تعالى والامتثال لأمره والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف والتعاون والتفكير والتناصح وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجّعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم، والعمل على الرفع من شأنه.
إن الحج أيها الأخوة الأحباب: من أعظم شعائر الإسلام إبرازاً لهذه الخاصية، ففيه يجتمع المسلمون من شتى أقطار الأرض، ألا يُوحى لنا هذا بمحاولة التوحد التي نرى ونحس بعض إرهاصاتها، ولكن لم تتحقق بعد على أرض الواقع، حتى بين أصحاب المنهج الواحد، مع أن هذا التوحد فيه مصلحة الدين والدنيا، ومع هذا فلا تزال فكرة التوحد ضعيفة، وسبب ذلك هو ضعف البصيرة عن العواقب، والنظر إلى العاجل من مغانم سطحية مؤقتة لا تسمن ولا تغني من جوع، إن أهل السنة الآن مدعوون لأن يجمعوا الناس على دين واحد، وإذا كان الغرب الأوربي والغرب الأمريكي قد انفرد بالساحة وحده، ولم يعد له منافس من الشرق الشيوعي، فإنه يعلم ويصرح علناً أن المنافس الآن هو الإسلام، وإذا لم نتمكن من التوحد تحت راية التوحيد، فسنبقى رقماً كما أطلق علينا ((العالم الثالث)).
10- الإكثار من ذكر الله تعالى.
المتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء، يجد أن الإكثار من ذكر الله تعالى سمة بارزة في مناسك الحج، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[البقرة:198]، وقال- صلى الله عليه وسلم -: «إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل» خرجه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وضعفه الألباني.
11- التعود على النظام والتربية على الانضباط.(1/24)
في الحج قيود وحدود والتزام وهيئات، لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوّده حب النظام والمحافظة عليه، وتربّيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي والذهاب والانصراف والبداية والنهاية في أوقات محدّدة، فالوقوف بعرفة له وقت، والإفاضة منها كذلك، والمبيت بمزدلفة له وقت، والدفع منها كذلك، ورمي الجمار له وقت، منه يبتدي وبه ينتهي.
12- التربية على الخوف من الله ومراقبته.
ففي أعقاب الدخول في النسك يلتفت السياق القرآني والتفاتة رائعة، فيقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.....}[البقرة:197]، فكل خير وكل قربة وكل عبادة، فإن الله به عليم وعليه يجازي، وبه يُرفع المؤمن عنده درجات وهو طريق تحلية النفس وتزكيتها وتطهيرها بعد تخليتها من الرفث والفسوق والجدال، والإقبال على الله تعالى بهذه الصفة النظيفة والهيئة الوضيئة، والتقلب في هذه الرياض يمحوا من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
13- التربية على الخوف من الله ومراقبته.(1/25)
أ- العفة: قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ.....}[البقرة:197] والرفث: هو الجماع ودواعيه من القول والفعل، فالحاج يطوف حول الكعبة، ويطوف حولها نسوة، وقد يكون في الطواف شيء من الزحام مما قد يقع فيه البصر على ما لا يجوز النظر إليه من النساء الأجنبيات، وقل مثل هذا في السعي بين الصفا والمروة وعند رمي الجمار. ولعل في هذا أكبر الأثر في تربية الضمير، فالمسلم يُترك هنا لضميره ولوجدانه المؤمن، الذي يحجزه عن فعل أي محظور، فهو يعلم أن الله تعالى يراقبه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن مخالفة ومعصية في الحرم، ليست كغيرها من المخالفات، فهي عظيمة وجسيمة، قال ابن الجوزي: اعلم أن غضّ البصر عن الحرام واجب، ولكم جلب إطلاقه من آفة، وخصوصاً في زمن الإحرام وكشف النساء وجوههن، فينبغي لمن يتقي الله عز وجل وأن يزجر هواه في مثل ذلك المقام، تعظيماً للمقصود، وقد فسد خُلُق كثير بإطلاق أبصارهم هنالك. ا.هـ
وينبغي على النساء ترك مزاحمة الرجال عند أداء المناسك فيما فيه سعة وقدرة، واختيار الأوقات التي يخف فيها الزحام، كما كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفعل، فقد كانت تطوف في ناحية منفردة من البيت، بعيدة عن الرجال وكانت لا تقبل الحجر ولا تستلمه ولا تستلم الركن اليماني إن كان ثمة زحام، ولما قالت لها مولاتها: يا أم المؤمنين طفتِ بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، قالت عائشة: لا آجرك الله.... لا آجرك الله، تدافعين الرجال، ألا كبّرت ومررت.
ب- كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة. قال تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة:197]، قال عطاء: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية: «نفي جنس» مراد به المبالغة في النهي عن الجدال والمذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة شرعية.(1/26)
ج- الرفق واللين والسكينة. قال- صلى الله عليه وسلم - عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل في الدفع من عرفة: «أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» خرّجه البخاري في صحيحه، والإيضاع الإسراع، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة: «ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غُفر له».
د- إنكار الذات والاندماج في المجموع في الحج ينكر العبد ذاته، ويتجرد عما يستطيع أن يخصّ نفسه به، ويندمج مع إخوانه الحجيج في اللباس والأكل والهتاف والتنقل والعمل، فيبتعد عنه العجب والغرور، ويطامن من كبريائه.
هـ التربية على تحمل تبعة الخطأ عند أداء المناسك يفرض المسلم على نفسه رقابة سلوكية صارمة، تحاسبه أشد الحساب على كل مخالفة تصدر منه كبيرة كانت هذه المخالفة أو صغيرة يسيرة، فإذا ما ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام، وجب أن يعود إلى ضميره، فيكفر عن هذا المحظور الذي وقع فيه بإراقة دم أو صدقة أو صيام، ولكن السلطة التي تضبط ذلك وتسجله، هي سلطة الضمير ومحكمته، فليس هناك سلطة خارجية وراء ذلك.
و- التربية على التواضع. ويظهر ذلك جلياً في الوحدة بين جميع الحجيج في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم ومال.... وقد كان من خطبة النبي- صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» خرّجه أحمد وهو صحيح.
ز- التربية على الصبر بأنواعه: حيث يُلجم العبد نفسه عن الشهوات بترك محظورات الإحرام ويمنعها عن بعض المباحات (في غير الإحرام) ويعرضها للضنك والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه، كالتنقل بين المشاعر راكباً أو ماشياً، وتحمل النصب والإعياء والزحام والأذى من الناس أثناء تأدية النسك، كالطواف والسعي ورمي الجمار.(1/27)
ح- التربية على البذل والسخاء. وهذا واضح في تحملّ نفقات الحج كلها، بل يتعدى ذلك إذا رأى الحجاج في حاجة وفقر، فتدفعه نفسه إلى بذل الصدقة، راجياً فضل الزمان والمكان، ولا يقتصر ذلك على الأكل والشرب، بل حتى توزيع الكتاب والشريط، ليفهم الناس أمور دينهم ويصححوا عقائدهم، وفي حديث بريدة: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» خرّجه أحمد وغيره وحسنه المنذري وصححه السيوطي وضعفه الألباني، ولما قالت عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله، يصدُر الناس بنسكين وأصدر بنسك، فقال لها: انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم، فأهلي، ثم أتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك» خرّجه البخاري في صحيحه، وفي رواية: «إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك» خرّجه الحاكم وهو صحيح، قال ابن حجر والنووي: ظاهر الحديث أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة ا.هـ (تنبيه: ذكر الحافظ في «الفتح» أن ذلك ليس بمطّرد، كقيام ليلة القدر أفضل من ليالي العشر، وركعتين في الحرم في غيره).
وبعد: تلكم بعض اللمحات من أثر الحج في تربية الضمير والوجدان، تضاف إلى كثير من الآثار والمنافع التي يشهدها المسلمون في الحج، والتي أشار إليها المولى عز وجل بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج:28]، وذلك من العمل الذي يرضي الله عز وجل، قال ابن جرير الطبري: «عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك بشيء من منافعهم بخبر ولا عقل، فدلّ ذلك على العموم» ا.هـ(1/28)
إذاً فهي دنيوية وأخروية فردية وجماعية، تجل عن الحصر، ويدلّ لذلك تنكيره لمنافع وأبها مها (منافع) فهنيئاً لهؤلاء المسلمين الطائعين، هنيئاً لهم حجهم وعبادتهم التي ترفعهم إلى هذا المستوى المشرق الوضيء الكريم، والتي تهذّب نفوسهم وتزكّيها، وتربّي وجدانهم وتطهّره، وتذهب بذنوبهم وآثامهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
ففي ثنايا آيات الحج، إشارات تحت العبد على الاستكثار من الطاعات وقت أداء النسك، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ....وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.....}[البقرة:197] قال ابن القيم: «أمر الحجيج بأن يتزودوا لسفرهم، ولا يسافروا بغير زاد، ثم ينبّههم على زاد سفر الآخرة، وهو التقى، فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه، فكذلك المسافر إلى الله تعالى، والدار الآخرة لا يصل إلا بزادٍ من التقوى، فجمع بين الزادين، فذكر الزاد الظاهر والزاد الباطن» ا.هـ
ولعل من أهم الطاعات التي ينبغي أن يستكثر منها العبدُ ويشغل بها وقته أثناء النسك:
1- أعمال القلوب/ من إخلاص ومحبة وتوكل وخوف ورجاء وتعظيم وخضوع وإظهار افتقار وصدق في الطلب والمسألة، وتوبة وإنابة، وصبر ورضا وطمأنينة ونحو ذلك، فمدار الإسلام عليها. قال ابن القيم: «ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها» ا.هـ(1/29)
2- التوسع في أعمال الخير/ فقد رتّب الله تعالى أجراً عظيماً على الحج المبرور، وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رواه البخاري في صحيحه، وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه البخاري في صحيحه.
ومعاني البر تعود إلى معنيين، أحدهما: الإحسان إلى الناس، وفي حديث النواس بن سمعان أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «البر حسن الخلق...» رواه مسلم. قال النووي: «قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف والمبرّة وحسن الصحبة والعشرة وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق» ا.هـ وقال ابن رجب: «وهذا يُحتاج إليه في الحج كثيراً، أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول والفعل» ا.هـ
وقال ابن رجب: «ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج ما وصّى به النبي- صلى الله عليه وسلم - أبا جري الهجيمي ا.هـ وأبو جري هو جابر بن سُليم، أوصاه النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً أن تأتيه، ولو أن تهب صلة الحبل، ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تلقى أخاك المسلم ووجهك بسط إليه، ولو أن تؤنس الوحشان بنفسك، ولو أن تهب الشسع، وإياك وإسبال الإزار، فإنه من المخيلة ولا يحبها الله....» رواه أحمد وابن حبان وهو صحيح.(1/30)
وفي الجملة، فخير الناس أنفعهم للناس، وأصبرهم على أذى الناس، وعن بعض أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -، أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرُد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجةٍ أحبُ إلى من أن أعتكف في المسجد شهراً -يعني مسجد المدينة- ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسدُ العمل كما يُفسد الخل العسل» رواه ابن أبي الدنيا، وهو حسن، والحاج يحتاج إلى مخالطة الناس، والنبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» رواه الترمذي وهو صحيح. وفي حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سُئل: يا نبي الله، ما الحج المبرور؟ قال: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام».
وفي رواية: «وطيب الكلام» رواه أحمد والطبراني وهو حسن. وقال أبو جعفر الباقر: «ما يعبأ من يؤم هذا البيت إذا لم يأتِ بثلاثة: ورع يحجزه عما حرم الله، وحلمٌ يضبطُ به جهله، وحسن صحابة لمن يصحب، وإلا فلا حاجة لله بحجه» ويروى في الأحاديث الضعيفة مثله، قال ابن رجب: «فهذه الثلاثة يُحتاج إليها في الأسفار، خصوصاً في سفر الحج، فمن كملها فقد كمُل حجُه وبر» ا.هـ وقال ربيعة: «المروءة في السفر، بذل الزاد وقلة الخلاف على الأصحاب وكثرة المزاح في غير مساخط الله عز وجل» ا.هـ(1/31)
والمعنى الثاني مما يراد بالبرِّ: فعل الطاعات كلها والتوسع فيها، وأعظم ذلك الإخلاص، وقد دعا النبي- صلى الله عليه وسلم - ربه مستعيناً قائلاً: اللهم هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة» رواه ابن ماجه وهو صحيح. ثم المتابعة للنبي- صلى الله عليه وسلم - في كافة أعماله وخصوصاً مناسك الحج، ولذا كان- صلى الله عليه وسلم - يقول في الحج: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» رواه مسلم، ولقد استوعب الصحابة رضي الله عنهم ذلك الأمر، فقال الفاروق عمر حين قبل الحجر: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقبلُك ما قبلتك» وفي رواية: «استلمك ما استلمتُك، فاستلمه» رواه البخاري في صحيحه، ومن أعظم أنواع بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى. قال تعالى: {.....فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} والمعنى: فإذا دفعتم من عرفات فادعوا الله عند المشعر الحرام وهو المزدلفة، ومنه التلبية والتكبير، والمراد بالذكر الدعاء، ثم كرر الأمر بالذكر تأكيداً {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي: اذكروه ذكراً حسناً، كما هداكم هداية حسنة، وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ....} أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس من لدن إبراهيم- عليه السلام - إلى الآن لتكميل باقي المناسك في يوم العيد، ثم أمر تعالى باستغفاره والإكثار من ذكره {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:199] فهم في مساقط الرحمة ومواطن القبول ومظنات الإجابة، ثم قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.....}[البقرة:200] وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادته أن(1/32)
يستغفر الله عن التقصير ويشكره على التوفيق.
والمقصود: الحث على كثرة الذكر لله عز وجل، كذكركم آباءكم، يعني: كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فكذلك أنتم، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك، (وقيل: إنّ العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره، فكان ذلك الذكر، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد من ذكرهم لآبائهم).
ثم أرشد تعالى إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه لا يلتفت إليها، فقال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200] وفيه النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا، والذم لمن جعلها غاية رغبته ومعظم مقصوده، ثم امتدح الله من يسأله للدنيا والآخرة، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[البقرة:201-202]. فللأولين نصيب من الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة، فصار هذا الدعاء {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أجمع دعاء وأكمله وأولاه، ولهذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الدعاء به والحث عليه، وفي حديث أنس قال: كان أكثر دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم -: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» رواه البخاري ومسلم، وعند مسلم: «اللهم» بدل ربنا، وزاد: وكان أنس إذا أراد أن يدعوا بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه» قال ابن كثير: «فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن(1/33)
الحسنة في الدنيا يشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنيء وثناءٍ جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا، وأما الحسنة في الآخرة، فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام» ا.هـ
قال القرطبي: «والمراد نعيم الدنيا والآخرة، وهو الصحيح» ا.هـ
هذا في الكتاب.
أما في السنة: ففي حديث سهل بن معاذ عن أبيه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أن رجلاً سأله، فقال: أي الجهاد أعظم أجراً، قال: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً» ثم ذكر الصيام والصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: «أكثرهم لله تبارك وتعالى ذكراً» رواه أحمد والطبراني وهو حسن، وضعّفه جماعة، وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط، إلا بُشِّر بالجنة» رواه الطبراني وهو حسن، وفي حديث أبي بكر الصديق أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: «أفضل الحج العج والثج» رواه ابن ماجه وغيره، ورواه البزار ولفظه ما برُّ الحج؟ قال: «العج والثج» ورواه أبو يعلى، وزاد: «فأما العج فالتلبية، وأما الثج فنحر البدن» وهو حسن.
وهذا الذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، والتلبية التي يجهر بها العبد في مناسكه، وسيلة من وسائل تربية الوجدان وإعلاء قيمته، وهو يصقل النفس ويزكيها، بما فيه من إظهار العبودية لله تعالى وصدق اللجوء إليه.(1/34)
3- الدعاء والمسألة/ فالحج من مواسم المسألة والدعاء العظيمة التي ينبغي استغلالها والتضرع بين يدي الله فيها، وفي حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم» رواه البزار وهو حسن، ورواه ابن ماجه، ولفظه: «وإن استغفروه غفر لهم» وهو صحيح وضعّفه الألباني.
واستحب كثير من السلف كثرة الدعاء بـ: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» في أيام التشريق، وقال عطاء: ينبغي لكل من نفر أن يقول: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار».
4- الدعوة إلى الله عز وجل/ ينتشر الجهل بين الحجاج، تنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج، مما يوجب على العلماء والدعاة والقيام بما يجب عليهم من إرشادٍ ونصح وتوجيه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. قال شجاع بن الوليد: «كنت أحج مع سفيان –يعني الثوري- فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً».
5- الاجتهاد في العبادة/ فلفضل الزمان والمكان، يحسنُ بالحاج الاجتهاد في العبادة ومجاهدة النفس على ترك الدعة والراحة، فهي أيام قلائل، وأجورها عظائم، وأول ذلك الخضوع والخشوع بين يدي الله عز وجل، وعلي بن الحسين لما أراد أن يلبي، قالها، فأغمي عليه وسقط من ناقته فهُشِم، وكان شريح القاضي إذا أحرم كأنه حية صمّاءَ، ثم قضاء الأوقات بذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، فهي من أعظم أنواع بر الحج. ثم الإكثار من الصلاة، صلاة النوافل في الليل والنهار، فهذا مسروق بن الأجدع حج فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى يرجع، وهذا علي بن الحسين يصلي في الحجر، فدعا وهو ساجد: عُبيدُك بفنائك، مسكينُك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرُك بفنائك. قال: فوالله ما دعوتُ بها في كرب قط إلا كُشِف عني» القائل: غما طاووس أو عليّ نفسه».(1/35)
وفي حديث بريدة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف» رواه أحمد وغيره وحسّنه المنذري وصححه السيوطي وضعفه الألباني، ومر معنا حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سُئل: ما بر الحج، قال: «إطعام الطعام وإفشاء السلام» رواه أحمد وهو حسن.
حتى نستفيد من الحج
أيها الأخ المبارك/ إن دليل الحج المبرور هو استقامة المسلم بعد الحج ولزومه الطاعة وتركه المعصية، قال الحسن البصري: «الحج المبرور: أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة» فلتحذر أخي من أن تهدم ما بنيتْ، وتشتّت ما جمعت، وتبدد ما حصّلت، فتنتكس بعد الاهتداء، وترتكس بعد النقاء، وتخلع ثوب الطاعة والصفاء، مرتدياً بدلاً منه، ثوب المعصية والتعاسة والشقاء وتُسود الصفحات بأعمال شوهاء، فتكدر صفوها، وتطمس نورها، بعد أن كانت بيضاء، والله عز وجل يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}[النحل: 92] .
أيها الأخ الحبيب/ بعد أن هجرت لذيذ الفراش وأتعبت جسمك وأنفقت ريالك وتركت عيالك وأعمالك، طاعةً لله وطعماً في الجنة، أوصيك بالاستمرار على الطاعة والمحافظة على أوامر الله، والانتهاء عما حرم الله، أوصيك بالبعد عن المعاصي والسيئات والمسارعة إلى الخيرات، والانطراح بين يدي بديع الأرض والسماوات، فإنّ ذلك كله سبب للفلاح والفوز في الدارين.
سل حالك أخي/ كيف حالك وأنت تودّع بيت رب العالمين، كيف بمن يودّعها، وقد عَمَر بها قلبه، وأنِس وهو يُناجي ربَّه، حقاً وصدقاً، إنها لحظات صعبة، لا ألومُك لو قطرت عيناك الدموع لفراق تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المباركة، بل، حُقَّ لك أن تبكي، وأنت تُودّع هذه البقاع الطاهرة والأجواء النقية والرفقة الصالحة.(1/36)
ولكن كما كان سفيان بن عيينة رحمه الله في مشهد عرفة كل عام يقول: «اللهم لا تجعله آخر العهد بك» فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعيدك إليها أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة.
أيها الأخ المبارك/ تذكر أن الحج يهدم ما قبله من ذنوب، وأنك بحجك ترجح كيوم ولدتك أمك، فما أعظم أن يصبح الإنسان نقي الصحيفة من سواد الذنوب، بريء الساحة من درن العيوب، تلك من غايات الحج العظيمة يرقبُها كلُّ مؤمن قد حج فلم يُلبِسْ حجه برفث ولا فُسوق، فغدا حُجه مبروراً وسعيه مشكوراً وذنبه مغفوراً وصار ثوابه الجنة دار المتقين، أي شعور يختلع في نفس المؤمن، حين يُحسُ أن جبار الأوزار والخطايا قد هُدتُ، وأحمال الآثام والموبقات قد ألقيتْ.
فإياك أخي/ أن تقابل الله بعد هذه النعمة بالمعصية، وافتح صفحة جديدة من حياتك مع الله عز وجل، أسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا ويُكفّر عنا سيئاتنا، ويتوفنا مع الأبرار، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
يوم عرفة فضائله وأسباب تحصيلها
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
فيوم عرفة من الأيام الفاضلة، تجاب فيه الدعوات، وتُقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يومٌ عظّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة.
ويوم كهذا أخي الحاج حري بك أن تتعرّف على فضائله، وما ميزه الله به على غيره من الأيام.
فضائل يوم عرفة
1- أنه يومٌ أقسم الله به/ والعظيم لا يُقسم إلا بعظيم، وهو اليوم المشهود في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3] وفي حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يومُ عرفة والشاهد يوم الجمعة....» رواه الترمذي وغيره وهو حسن.(1/37)
وهذا الوتر الذي أقسم الله به في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3] وفي حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العشر عشر الأضحى والوتر يومُ عرفة والشفع يومُ النحر» رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
2- أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم/ فعن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بـ نعمان يعني عرفة، فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالنذر ثم كلَّمهم قُبُلاً، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آبائنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون» رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصحّحه الألباني، فما أعظمه من يوم، وما أعظمها من ميثاق.
3- أنه يومُ إكمال الدين وإتمام النعمة/ فعن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}[المائدة:3] قال عمر: «قد عرفنا ذلك اليوم والمكان، الذي نزلت فيه على النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم الجمعة» رواه البخاري في صحيحه والسائل: كعب الأحبار.(1/38)
4- أنه يومُ عيد لأهل الموقف/ ففي حديث عقبة بن عامر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» رواه أبو داود وهو صحيح، وصحّحه الألباني، وعن عمر بن الخطاب أنه قال: «نزلت آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.....}[المائدة:3] يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد» رواه الطبراني وابن جرير، وعن ابن عباس قال: «فإنها نزلت في يوم عيدين، في يوم الجمعة ويوم عرفة» رواه الترمذي وغيره وهو صحيح.(1/39)
5- أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف/ ففي حديث عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم، وزاد رُزين في جامعه: «واشهدوا ملائكته أني قد غفرت لهم» وفي حديث جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أيام أفضل عند الله من أيام.....قال: «وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شُعثاً غُبراً ضاحين، جاؤوا من كل فجٍّ عميق، لم يروا رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم أر يوماً أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة» رواه أبو يعلى وغيره وهو حسن، وفي حديث أنس بن مالك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفات، وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال: «يا بلال أنصِتْ لي الناس» فقام بلال، فقال: أنصِتوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فأنصت الناس، فقال: «معشر الناس، أتاني جبريل- عليه السلام - آنفاً فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضَمن عنهم التبعات» فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ قال: «هذا لكم، ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة» فقال عمر بن الخطاب: «كثر خير الرب وطاب» أورده المنذري وعزاه لابن المبارك، وهو حسن.(1/40)
وقال ابن سيرين: «كانوا يرجون في ذلك الموقف حتى للحمل في بطن أمه» أورده ابن عبد البر في التمهيد، وقال مجاهد: «كانوا يرون أن الرحمة تنزل عند دفعة الإمام عشية عرفة» أورده ابن عبد البر في التمهيد، وعن طلحة بن عبيد الله بن كُريز أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «مارُؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحرُ ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى فيه من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب بالعظام إلا ما رأى يوم بدر، فإنه رأى جبريل- عليه السلام - يزع الملائكة» رواه مالك في الموطأ وحسنه ابن عبد البر.
أخي الحاج/ وحتى تحصل على هذا الفضل العظيم لا بُدَّ من فعل الأسباب التي يُرجى بها العتقُ والمغفرة. ومنها:
1- حفظ الجوارح عن المحرمات في ذلك اليوم/ وفي حديث ابن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي- صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي- صلى الله عليه وسلم - يصرفُ وجهه بيده من خلفه، وجعل الفتى يُلاحظ إليهن، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: «ابن أخي، إن هذا يومٌ من مَلك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفِر له» رواه أبو يعلى، وهو صحيح، وصححه المنذري.
2- الإكثار من التهليل والتكبير والتلبية في هذا اليوم/ ففي حديث ابن عمر قال: «غدونا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر» رواه مسلم، وفي رواية: «فلا غداة عرفة» رواه مسلم، وفي حديث أنس بن مالك: «كان يُهَلُ المهل منا فلا يُنكر عليه، ويُكبّر المكبِّر منا، فلا ينكر عليه» رواه مسلم.
3- الإكثار من الدعاء بالمغفرة والعتق في هذا اليوم/ فهذا الموقف، مشهدٌ عظيم، ويومٌ كريم، ليس في الدنيا مشهد أعظم منه، كما ذكر ذلك ابن تيمية، قال ابن تيمية: وأما توقيت الدعاء فيه فليس فيه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - شيء موقت....ا.هـ(1/41)
وفي حديث أسامة بن زيد قال: «كنت رديف النبي- صلى الله عليه وسلم - بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى» رواه النسائي وغيره وجوده ابن حجر، وأما حديث: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» فرواه مالك في الموطأ من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز، قال عنه ابن عبد البر وابن حجر: وهو مرسل. ورواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» وضعّفه الترمذي، قال ابن القيم: وأسانيد هذه الأدعية فيها لين. ا.هـ
وقال العلوان: الحديث ضعيف ولا يصح إلا مرسلاً، وهذا قول أكابر أهل الحديث. ا.هـ وأما ما ورد عن الصحابة فعن عبد الله بن الحارث أن ابن عمر كان يرفع صوته عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اهدنا بالهدى وزيّنا بالتقى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ثم يخفض صوته، ثم يقول: اللهم إني أسألك من فضلك وعطائك رزقاً طيباً مباركاً، اللهم إنك أمرت بالدعاء، وقضيت على نفسك بالإجابة وإنك لا تخلف وعدك، ولا تكذب عهدك، اللهم ما أحببت من خير فحبّبه إلينا ويسّره لنا، وما كرهت من شر فكرهه إلينا وجنبناه، ولا تنزع منا الإسلام بعد إذ أعطيتنا» رواه الطبراني في الدعاء، وجوده ابن تيمية.(1/42)
فيوم عرفة أخي الحاج/ من الأيام الفاضلة التي تجاب فيها الدعوات وتقال العثرات، قال ابن عبر البر: الدعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب. ا.هـ فاحرص على الدعاء وتفرغ للذكر والاستغفار، فطوبى لعبدٍ فَقِه الدعاء في يوم الدعاء، ولعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار، وقد ذكر ابن رجب أن العتق من النار في يوم عرفة عام لجميع المسلمين. قال: من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار. ا.هـ
واحذر أخي/ من الذنوب التي تمنعُ المغفرة في هذا اليوم، إذ كيف تطمع في العتق من النار، وأنت مصرّ على الكبائر والذنوب؟ وكيف ترجوا المغفرة وأنت تبارز الله بالمعاصي في هذا اليوم العظيم؟
فاجأر إلى الله عز وجل، واستقبل القبلة وارفع يديك متضرعاً إلى ربك، معترفاً بتقصيرك في حقه عازماً على التوبة الصادقة.
4- الذل والانكسار بين يدي الله عز وجل/ فهو عنوان الإخلاص وأحوال الصادقين تشهد بذلك، فهذا مطرّف بن عبد الله الشخير وبكر المزني، وقفا بعرفة، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي، وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله، لولا أني فيهم. وهذا الفضيل بن عياض واقف بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء، وقال: واسوأتاه منك! وإن عفوت: ودعا بعض العارفين بعرفة، فقال: اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي، فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني، وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهملان، فقلتُ له من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: والذي يظن أن الله لا يغفر لهم.(1/43)
أيها الحجيج/ وعما قليل يقفُ إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف، فهنيئاً لمن رزقه الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ومحب ألهبه الشوقُ وأحرقه، وراجٍ أحسن الظنَّ بوعد الله وصدّقه، وتائب أخلص الله في التوبة وصدقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه، وحينئذ، يطلعُ عليهم أرحم الرحماء، ويباهي بجمعهم أهل السماء، ويدنوا ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟
فيا أخي/ قم على بابه بالذل والانكسار، وارفع قصة ندمك، مرقومة على صحيفة خدّك بمداد الدموع الغزار، وقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف:23] وقد دعا علي بن موسى بعرفة: «اللهم كما سترت عليّ ما أعلم. فاغفر لي ما تعلمْ، وكما وسعني علمُكْ فليسعني عفوك، وكما أكرمتني بمعرفتك فاشفعها بمغفرتك يا ذا الجلال والإكرام.
خواطر من عرفات
عرفات، يا رمز الأمة والرسالة، عرفات، كم وقفت بساحتك جموع، وسالت على ثراك دموع، وتعارفَ على راحتيك الناس، وذابت في محيطك الأجناس، وبورك مُنكسرٌ ورُدّ شديد المراس. كم تعانقت فوقك قلوب، وفرّجت على ثراك كروب، ومحيت أوزارٌ، كم امتزجت فيك دموع المذنبين، وتعانقت أصوات المستغفرين، وتوحدتْ رغبات الراغبين، كم تجرّدتْ فيك النيات وسألت على جنباتكِ العبرات، وخشع أهل الأرض لخالق الأرض والسماوات.
أيها المسلمون/ كم تغلي قلوب أعدائكم حقداً! وكم عضواً أناملهم غيضاً وحسداً {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:105] هم يريدون أن يقطعوا دابر الدين كي تخور التقوى ويُتبع الهوى، وتعم البلوى، كي لا يعز دين، ولا يقوى يقين، ولا يتم تمكين.(1/44)
كيف يُضحى بأسانا بيننا شديداً، وأملنا في العودة إلى المنبع الرائق بعيداً.
أيها الأحباب/ إن الذي أمركم بالتلبية فلبيتم وبالحجج فحججتم، وبالوقوف هنا، فوقفتم، هو الذي قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[الأنفال:60] وتسلحوا لهم بالتقوى، فمن أراد غنى بغير مال، وعزاً بغير جاه، ومهابة بغير سلطان، فليتق الله، فإن الله عز وجل يأبى أن يُذِلَّ إلا من عصاه.
وتذكروا جيداً وصية نبيكم منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، يوم النحر في منى وهو يقول ويُقرِر، ويوصى ويُحذر «فإن دمائكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلّغت؟» قالوا: نعم....قال: «اللهم اشهد، فليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ مبلّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بدعي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» رواه البخاري في صحيحه. فاذكروا ذلك جيداً، واعلموا أن الأمة التي تعمل بالمعاصي وتحيد عن أمر الله، تسقط وتنهار، ولستم والله أفضل من سعد بن أبي وقاص –بطل القادسية المُبشر بالجنة، السابق إلى الإسلام، ومع كل ذلك هذه وصية عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - له، وهو متأهب للمسير إلى القادسية حيث قال له: «يا سعد، لا يغرنك من الله أن قيل خالُ رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحوا السيئة بالحسنة، يا سعد، إن الله ليس بينه وبين أحد نسبٌ إلا طاعته، فالناس جميعاً شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالتقوى ويُدركون ما عنده بالطاعة».
فكونوا رحمكم الله على المؤمنين قلوباً صافية، وعلى أعداء دينكم أُسوداً ضارية.
أنسيتم أيها الأحباب غضبة رسولكم، حيث أقسم ألا يبيت اليهودُ بالمدينة، وقد أنجز ذلك.
أنسيتم غضبة الهادئ الوديع الساكن أبي بكر، حين زمجر وقال: «والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونهُ إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه».(1/45)
أنسيتم غضبة نور الدين، حينما وقع الأقصى أسيراً في أيدي الصليبية فظل حزيناً عابساً، ولما سأله سائل «لم لا تضحك» قال: «أستحي من الله أن أبتسمْ والأقصى أسيرٌ في أيدي الأعداء»!
والآن أيها الأحباب/ متى تحركنا مصاحف تحرق، ومساجد تهدم، وأعراض تنتهك، وأطفال أطهارٌ يُداسون بالأقدام، ودموع في كل زمان ومكان.
رُبَّ وامعتصماه انطَلَقت…ملء أفواه الصبايا اليُتَّم
لامست أسماعهم لكنها…لم تُلامس نخوة المعتصم
أيها الحجيج/
نريدها أمة جادة في القول والعمل، إن قالت فبعلم، وإن سالمت فبعلم، وإن حاربت فبعلم، وإن قرّرت فبعلم، ليست عابثة ولا لاهية ولا غافلة، يقول يحي بن معاذ رحمه الله، القلوب كالقدور، تغلي في الصدور ومغارُفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلّم، فإن لسانه يغترفُ لك مما في قلبه من بين حلو وحامض وعذبٍ ومالحْ يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه:
أتُسبى المُسلماتُ بكل ثغرٍ…وعيشُ المسلمين إذن يطيبُ
أما لله والإسلام حقٌّ…يُدافع عنه شبانٌ وشيبُ
فقلْ لذوي البصائر حيث كانوا…أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فنشكر الله تبارك وتعالى على ما أنعم به علينا من إتمام الكلام على أفضل أيام الدنيا، وقد أظهرت لنا الرسائل الأربع الفضل العظيم، والخير العميم الذي اختصت به العشر الأولى من ذي الحجة على غيرها من سائر أيام العام.
فمنافع عظيمة وأجورٌ كبيرة، ومحو للسيئات، وكتبٌ للحسنات، ورفعٌ للدرجات فما أحرانا أن نهتبل هذه الفرصة، ونغتنم تلك النفحات، فالموفق من تعرض لها، إذْ أنّ من أصابته سعد بها آخر الدهر.(1/46)
أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لنا ذنوبنا ويُكفِّر عنا سيئاتنا، ويتوفنا مع الأبرار، وأن يجعل لنا في هذه العشر المباركات الحظ الأكبر، والنصيب الأعظم.
إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، هذا ما نعلم، وفوق كل ذي علمٍ عليم، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/47)