أحمد القصص
أسس
النهضة الراشدة
من منشورات
رابطة الوعي الثقافية
طرابلس – لبنان
الطبعة الأولى
1416هـ - 1995م
دار الأمة
للطباعة والنشر والتوزيع
ص.ب: 135190
بيروت - لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) } (آل عمران)
محتويات الكتا
آية الافتتاح ................................................................
المقدمة ................................................................
القسم الأول: فلسفة النهضة .............................................
المؤرخون وفلسفة النهضة ................................
فلسفة النهضة في الفكر الغربي المعاصر .....................
سر النهضة .................................. ...........
النهضة الصحيحة والنهضة الخاطئة ........................
بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية ...................
القسم الثاني: الحضارة الإسلامية .........................................
الحضارة ................................................
الإسلام المبدأ ...........................................
القسم الثالث: المجتمع الإسلامي .........................................(1/1)
المجتمع ونهضته ..........................................
منهج الرسول- صلى الله عليه وسلم - في تغيير المجتمع .........................
المجتمع الإسلامي والاحتكاك .............................
الحضاري والفكري .....................................
دعاة التغيير: بين المبدئية والواقعية .........................
"لا إله إلا الله محمد رسول الله" .........................
القاعدة الفكرية للمسلمين
الإسلام نظام الحياة والمجتمع والدولة .....................
السعادة: نيل رضوان الله تعالى ...........................
الروح والناحية الروحية .................................
نهضة الأمة الإسلامية بالوحي ............................
براءة الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات ..............
المصادر والمراجع ..........................................................
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
منذ نشوء الأمة الإسلامية، وقيام مجتمعها ودولتها، في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عاشت الأمة الإسلامية قروناً متطاولة، وهي لا ترى أمة ولا دولة تدانيها في حضارتها ونهضتها وقوتها وعزتها.
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قامت دولة الإسلام في الجزيرة العربية، وتاخمت بلاد أعظم إمبراطوريتين في ذلك التاريخ: إمبراطورية فارس وإمبراطورية الروم البيزنطيين، واحتَكت بهما منذ أول عهدها.
وفي عهد الخلفاء الراشدين تنطلق جحافل المجاهدين، تحمل الإسلام رسالة إلى العالم خارج جزيرة العرب، لتحول البلاد من ديار كفر إلى دار إسلام.(1/2)
فتنهار تحت أقدامهم إمبراطورية فارس، بعد عُمر دام قروناً من التاريخ القديم. وتندحر إمبراطورية الروم عن بلاد الشام وشمال إفريقية، مخلية الساحة أمام الحضارة الإسلامية كي ترفع شأن أمم تاقت إلى الرحمة منذ مئات السنين.
ثم في عهد الخلفاء الأمويين، تستمر دولة الإسلام في التوسع، مخترقة في الشرق هضاب آسيا وسهوبها عابرة أنهارها، حتى تصل إلى مشارف سور الصين وتخوم الهند. وتستمر جحافل الغازين في المضي غرباً حتى تصل إلى شواطئ المحيط الأطلسي، ثم لتعبر مضيق جبل طارق متوغلة في الأندلس لتتاخم الحدود الجنوبية لفرنسا.
وبعد ذلك، في عهد الخلفاء العباسيين تتكرس الفتوحات الإسلامية وتستمر في التوسع ولو على نحو أقل نسبياً. ويكون ذلك العصر عصر ازدهار الثقافة الإسلامية والمذاهب الفقهية والمدارس الفكرية، وقيام عظيم العمران وروائع المدنية وعجائب العلوم والاكتشافات، ليصبح المجتمع الإسلامي منارة الأرض وجنة الدنيا الساحرة في نظر سائر الشعوب.
وفي القرن الخامس الهجري، يفتح الله تعالى على المسلمين بلاداً جديدة، أهمها بلاد الأناضول (آسية الصغرى)، حيث يطهّر المجاهدون "السلاجقة" تلك البلاد من بقايا النفوذ البيزنطي ويدحرون الروم حتى يتاخموا حدود عاصمتهم القسطنطينية.
إلا أن نهاية ذلك القرن تحل لتحمل معها عاقبة تشرذم المسلمين وتفكك خلافتهم إلى إمارات وسلطنات متناحرة. فيسلط الله تعالى جحافل الحملات الصليبية التي انطلقت من الغرب الأوربّي الغارق في ظلمات العصور الوسطى وهمجيتها، فتشق طريقها عابرة آسية الصغرى، لتحتل السواحل الشامية كلها وصولاً إلى أرض المسجد الأقصى، حيث تحصد مجازر هؤلاء المتوحشين عشرات الألوف من المسلمين ذبحاً في المسجد الأقصى. فتُحشد جيوش المسلمين بعد تلك الصاعقة المدمرة الغادرة من أجل تحرير البلاد والمقدسات والثأر للمسلمين وكرامتهم.(1/3)
ولا يكاد المسلمون يحررون بلاد الشام على يد مجاهدين أبطال أمثال صلاح الدين والظاهر بيبرس، حتى تداهمهم، من ناحية الشرق هذه الكرة، غزوات أشد همجية وأعظم دماراً، تهلك الحرث والنسل وتأكل الأخضر واليابس وتذبح الملايين من النساء والولدان والشيوخ فضلاً عن الرجال: إنها غزوات التتار والمغول الذين عاثوا في الأرض خراباً ودماراً، حتى اقتحموا على المسلمين عاصمة خلافتهم بغداد سنة 656 هـ، وذبحوا أهلها، وقتلوا آخر خليفة بغدادي وفقأوا عينيه. ودمروا أعظم مكتبة عرفها التاريخ، ورموا كتبها في دجلة، فجعلوا منها معبراً بين ضفتيه، واصطبغ نهر دجلة بمداد الكتب، وطُوي تراث من الصفحات التي سودتها ... بل أضاءتها أقلام النساخ، بأفكار العباقرة وثمرات المجتهدين وتجليات الشعراء وبلاغة الأدباء وفصاحة العرب ... لتُفتح صفحات مظلمة من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث تصبح بلاد فارس والشام والعراق مرتعاً للمجرمين الكفرة والمتوحشين ظمأى الدماء أكلة لحوم البشر ... إنها حقاً صفحات مظلمة ... حقبة انحطاط مخيف وتراجع عجيب، من أمة دان لها الشرق والغرب خمسة قرون.(1/4)
إلا أن الناظر للتاريخ، المتعمق في صفحاته، المستنير بأحداثه، حين يحكم على المجتمع الإسلامي في ذلك العصر بالانحطاط، فإنه لا يحكم بذلك مقارنة مع سائر المجتمعات والدول ولا قياساً عليها. بل هي مقارنة مع سابق عهد المسلمين وقياس عليه. ذلك أنه، على ما أصاب المسلمين من ضعف وهزيمة، لم تكن توجد على وجه الأرض أمة تدانيهم في حضارتهم ورقيّهم وتقدمهم، وأن أعداء المسلمين الذين أذلوهم وسفكوا دماءهم ما تغلبوا عليهم برقي ولا رفعة حضارية. وإنما هي موجات من الغزوات الهمجية التي عرف التاريخ العديد من أمثلتها، تفور وتثور في فجاءة من الزمان، لتقتحم على الشعوب الغافلة عن عوامل ضعفها بلادَها على حين غرّة، ولتفسد في الأرض كما أفسدت يأجوج ومأجوج زمن ذي القرنين. ولكنها لا تلبث أن تنطفئ جذوتها وتنكسر شوكتها، بعد أن دمغ التاريخ وصمة عار في جبينها ... بل على قفاها.
فها هي جحافل الصليبيين تعود إلى ديارها تجر أذيال الخيبة والعار، رغم استقرارها في بعض بلاد الإسلام ما يداني القرنين من السنين، وقد تأثرت بالحضارة الإسلامية وعادات المسلمين، وتنعمت ببعض مدنيّتهم. وها هي جحافل المغول تتهاوى أمام ضربات جيش المماليك الذي استجمع قواه في مصر، ليدحر هؤلاء المعتدين ويعيدهم من حيث أتوا ولكن، مع فرق مهم بين مجيئهم ونكوصهم، فقد انطلقوا من ديارهم مشركين وثنيين، وعادوا إلى ديارهم وهم يدخلون في دين الله أفواجاً، ويعتنقون عقيدة ضحاياهم ويدينون بدينهم.(1/5)
وهكذا ... عاد المسلمون ليستأنفوا سابق مجدهم وعزهم، فتولى المماليك حماية بيضة المسلمين والذود عن حرماتهم ومقدساتهم في بلاد مصر والشام والعراق والجزيرة العربية وشمال إفريقية. وفي الأناضول قامت قبيلة بني عثمان لتحمل الراية عن أسلافها السلاجقة، وليطهر مجاهدوها أرض الأناضول نهائياً من فلول البيزنطيين، بل ليقتحموا بعد ذلك على البيزنطيين أراضيهم داخل القارة الأوربّية، وليقرروا سنة 1453 م نهاية عهد الإمبراطورية البيزنطية، محققين وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح عاصمة "هرقل" القسطنطينية التي بقيت، مئات السنين، القلب النابض لتلك الإمبراطورية العاتية، ولتتحول إلى مدينة الإسلام "إسلامبول" بل لتتحول سنة 923 هـ إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، في ظل الخلفاء العثمانيين.
مضت سنون طوال بعدها، وجيوش المسلمين تهدد ممالك أوربا ودولها. فقد وصل مجاهدو الخلافة العثمانية مقتحمين ديار أوربا الشرقية إلى أسوار فيينا عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، مهددين بذلك أوربا اللاتينية والجرمانية بأسرها. ونشأت آنذاك لدى الغربيين "المسألة الشرقية"، ألا وهي: كيف السبيل إلى التخلص من الخطر الإسلامي؟ ولم يكن من خيار آنذاك إلا استرضاء الخلفاء العثمانيين، والحرص على العلاقات السلمية فيما بينهم وبين المسلمين.
إلا أن هذا السلم كان فرصة للغرب، كي ينعم النظر في أحواله ومجتمعه ودولته، وفي الأسس الحضارية التي تقوم عليها حياته. لقد أدرك أن الفارق الجوهري بين مجتمعه والمجتمع الإسلامي، إنما يكمن في الحضارتين اللتين تصوغان كلاً من هذين المجتمعين، وأن الصراع الحقيقي إنما هو الصراع الحضاري وليس العسكري. واكتشف أن الحضارة التي عاش في كنفها خلال العصور الوسطى هي من الانحطاط، بحيث لم تكن يوماً مؤهلة لأن تواجه حضارة قوية الأركان شامخة البنيان، هي الحضارة الإسلامية.(1/6)
وهكذا كانت القرون التي تلت سقوط الإمبراطورية البيزنطية والتي يطلق عليها المؤرخون الغربيون اسم "التاريخ الحديث"، مرحلة المخاضات الفكرية والثقافية والحضارية العسيرة، التي أسفرت مع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي عن ولادة الحضارة الغربية المعاصرة، التي قامت على أسس من العلمانية واللبرالية الرأسمالية.
تلك الفسحة التاريخية التي أتاحت للغرب أن يتأمل في أحواله وهويته الحضارية وأسس مجتمعه، كانت مترافقة مع تحجر في التفكير أطبق على أذهان المسلمين، بحيث انعدمت الحيوية الفكرية في المجتمع الإسلامي، وعاش المسلمون على تراث الماضين من الفقهاء وعلماء الإسلام، معتزّين بدينهم ونظامهم ونمط عيشهم وهيبة دولتهم وقوة جيشهم، ولا يرون حولهم أمة أو دولة تضاهيهم بحضارتها أو قوتها ولا يفطنون إلى عوامل الانحطاط والتخلف التي دبّت في كيانهم. وخلال القرن التاسع عشر الميلادي، أضيف إلى ذلك الفارق فارق جديد، ألا وهو فارق القوة العسكرية.
ففي ذلك القرن تعاظمت قوة الدول القومية في أوربا، وترافق ذلك مع قيام الثورة الصناعية التي تحولت قوة مادية تمدّ الجيوش الأوربية بأنواع الأسلحة الجديدة ووسائل النقل البرية والبحرية التي كانت عوناً لها على التوسع الاستعماري في بلاد العالم، ومنها بلاد المسلمين. بينما كانت قوة الدولة العثمانية في تراجع وهبوط سريع، وكان الفساد الإداري قد عم مؤسساتها والأزمات الاقتصادية تفت من عضدها.(1/7)
فإذا بغارات الغزو العسكري تترافق مع غارات الغزو الفكري. الأولى تقضم بلاد المسلمين الواحد تلو الآخر وتمرّغ أنوف المسلمين في التراب، والثانية تربك المثقفين وأصحاب الرأي بين المسلمين، وتصيب المجتمع بحالة من الضياع والحيرة. ولم تنته الحرب العالمية الأولى بداية هذا القرن إلا وقد أسفرت عن أعظم نكبة ألمت بالمسلمين خلال تاريخهم الطويل. هذه النكبة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، ولا ضياع أراضٍ شاسعة من ديار الإسلام، ولا إزهاق الألوف من أرواح المسلمين، بل هي أبعد من ذلك بكثير. إنها ضياع لهوية المسلمين، وسقوط لكيانهم المعنوي والمادي، وتَوارٍ للحضارة الإسلامية، وتقويض للمجتمع الإسلامي.
لقد عاش المسلمون في ماضي تاريخهم حقباتٍ من انحطاط وهزيمة وضعف ولكنهم، بكل تأكيد، لم يعيشوا أسوأ من هذه الحقبة، ولم يذوقوا يوماً مرارة الذل التي ذاقوها في هذا القرن، حتى انطبق عليهم، إلى أبعد الحدود، حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها" قيل: " يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟" قال: " أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن" قال: "قلنا وما الوهن؟" قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"(1).
وهكذا، لم يعد يماري عاقل في أن الأمة الإسلامية تعيش حالة انحطاط بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد، وإن اختلف القائلون في المدى النسبي لذلك الانحطاط. وبالتالي أصبحت أطروحات النهضة والرقي والتغيير والإصلاح والبناء والهدم وإعادة البناء ... من أهم الأطروحات التي شغلت أذهان المثقفين والمفكرين والكتّاب من أبناء المجتمع، فاستهلكت جهودهم وفرّغت أقلامهم واستأثرت بمجالسهم وأحاديثهم، سواء أكانوا مخلصين أو عملاء، واعين أو تائهين ضائعين.
__________
(1) - رواه أبو داود وأحمد. واللفظ للإمام أحمد. أنظر: المسند، الحديث رقم 2246.(1/8)
وكان من الواضح أن التأثير الثقافي والفكري والحضاري الذي كرسه الغزو السياسي الغربي للعالم الإسلامي، كان له النصيب الأكبر في توجيه تلك الأطروحات والجهود. وكان وصول أناس صُنعوا على عين الحضارة الغربية وسياسة دولها إلى سدة الحكم، عاملاً في قيام المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية والثقافية والتوجيهية، الرسمية منها وغير الرسمية، على أساس الحضارة الغربية. فكانت معظم الأطروحات التي ناقشت مسألة النهضة والارتقاء ووضعت لها التعاريف والفلسفات والأسس والتفاصيل، متأثرة بشكل أو بآخر بالحضارة الغربية بشكل كامل، بوصفها "الحضارة الإنسانية المعاصرة" وغاية ما وصلت إليه البشرية في مسيرة الارتقاء، إلى أطروحات تدعو إلى اقتباس "محاسن" تلك الحضارة من أجل " هضمها وإخراجها حضارة متميزة تتوافق مع هويتنا الحضارية"، وإلى أخرى تدعو إلى تلاقح الحضارات وتفاعلها من أجل مزيد من الارتقاء ... إلى ما هنالك من آراء ومقولات.
إلا أن الأطروحات الأشد خطورة، كانت تلك التي دأبت على دراسة الإسلام وفهمه - ومن ثم إبرازه - على نحو يتوافق مع الحضارة الغربية، أو يتكامل معها، أو على الأقل لا يتعارض معها. الأمر الذي أنذر بخطر تحول الإسلام إلى مجرد تراث حضاري تاريخي غابر، والاستبقاء عليه ديناً كهنوتياً روحياً قابلاً للتعايش مع أية حضارة تفرض هيبتها وسلطانها على الساحة الدولية، ولا سيما حضارة تفصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة.(1/9)
لذلك كان لا بد من إعادة النظر ملياً، في مسألة النهضة وفلسفتها والأساس الذي تقوم عليه، وما هي صلة الإسلام بتلك الفلسفة، وما هو البنيان الحضاري الذي يقدمه الإسلام من أجل بنائه على ذلك الأساس، وأين موقع الأمة الإسلامية اليوم من حضارة الإسلام ونظامه وطريقة عيشه، بعيداً عن تأثير الحضارة الغربية وضغط الواقع المعاصر، وأهواء السوقة من حملة الدعوات ومروجي الأفكار والسلع الثقافية الاستهلاكية المستوردة من هنا أو هناك. وذلك من أجل قيام عمل حركي إيجابي وفعال، للتغيير ودفع المجتمع قدماً نحو النهوض والارتقاء، اهتداء بما أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وصدق الله العظيم الذي قال:
{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }(1).
طرابلس الشام 3 ربيع الأول 1416 هـ..
31 تموز 1995 م.
أحمد القصص
القسم الأول
أسس النهضة
المؤرخون وفلسفة النهضة
لقد كانت مسألة النهضة - ولازالت - من المواضيع الأساسية الشاغلة لأغلب المؤرخين والمفكرين : ما هي النهضة؟ كيف تتحقق؟ لماذا نهضت هذه الأمة؟ ولماذا انحطت تلك؟ هل القضية في الدين؟ أو هل القضية في التكنولوجيا والمدنية؟ أو هي قضية فكر وثقافة؟
المؤرخون انشغلوا كثيراً في محاولة تفسير حركة النهضة والانحطاط منذ التاريخ القديم وحتى التاريخ المعاصر. فيراقبون ما حصل على النحو الآتي:
… في التاريخ القديم، يشهد العالم نهضة مجموعة من الحضارات ثُمّ انحدارَها حتى زوالها كالحضارة المصرية والسومرية والأشورية والبابلية والفارسية واليونانية وغيرها، ويُختم بنهضة عريقة عظيمة، هي نهضة الحضارة الرومانية التي انطلقت من مدينة روما الإيطالية لتجتاح أوربّا ثم حوض البحر المتوسط بأكمله لتجعل من ذلك البحر بحيرة رومانية.
__________
(1) - سورة المائدة - الآيتان 15 و 16.(1/10)
…مع بداية العصور الوسطى - أي خلال القرن الخامس الميلادي - تنهار الإمبراطورية الرومانية لتقوم على أنقاضها في أوربا حضارة العصور الوسطى التي تميزت بالانحطاط والتخلف، وسمّيت بعصور الظلمات، والتي استمرت مخيمة بظلامها على أوربا قروناً متطاولة حتى العصر الحديث. بينما يشهد الشرق في تلك العصور نهضة عظيمة عريقة، وذلك مع بزوغ شمس الإسلام أوائل القرن السابع الميلادي، حيث توسعت حضارة الإسلام لتشمل في رحابها البلاد الممتدة من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً مخترقة أوربا وصولاً إلى حدود فرنسا، بعد أن اجتاحت إسبانيا أو بلاد الأندلس. وتستمر هذه الحضارة قروناً متطاولة تورف بظلالها على الشعوب الإسلامية، فكان العالم الإسلامي آنذاك قبلة الأنظار ومنارة التائهين والجنة الأرضية في نظر سائر الشعوب.
…في العصور الحديثة، أي مع إطلالة القرن الخامس عشر تبدأ في أوربا بوادر نهضة جديدة تؤتي ثمارها مع بداية التاريخ الغربي المعاصر، أي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، والتي تُعدّ الحضارة الغربية اليوم امتداداً لها. في الوقت الذي يشهد فيه العالم انحساراً ملحوظاً للحضارة الإسلامية وانحداراً للمسلمين باتجاه الانحطاط، حيث وصل العالم الإسلامي إلى الحضيض أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين.
…وفي القرن العشرين يشهد العالم في بعض البلاد نهضة من نمط جديد لم تستطع أن تعمر أكثر من سبعة عقود، ألا وهي النهضة الشيوعية التي بدأت حياتها سنة 1917م لتموت في أرض انبثاقها قبل أفول القرن العشرين، والتي ربما ضربت رقماً قياسياً في قِصر عمر الحضارات، رغم الدور الهائل الذي لعبته في السياسة الدولية خلال القرن العشرين.(1/11)
لقد تعددت تفسيرات المؤرخين والمفكرين لحركة النهضة والانحطاط تلك. فمنهم من رأى أن نهضة الحضارات ثم انحطاطها أمر حتميّ طبيعي لا تفسير له سوى دبيب الحيوية في شعب من الشعوب ووصولها إلى الذروة، ثم انحسار تلك الحيوية ومن ثم موتها، وبالتالي زوال تلك الحضارة كما هو شأن الإنسان، حيث يبدأ عمره بمولده طفلاً ثم يشبّ ويكبر مروراً بالشباب والعنفوان وصولاً إلى ذروة الرجولة، ثم يعود منتكساً إلى الوراء مروراً بالكهولة فالشيخوخة ثم العجز وصولاً إلى الموت. من هؤلاء المفكرين "شبنغلر" الفيلسوف الألماني المتوفى سنة 1936 الذي يذهب "إلى أن التاريخ حضارات مستقلة فريدة، تكوينات عضوية فائقة لكل منها مصيرها الفردي وتمر بفترات النشوء والازدهار والموت، وعنده أن الحضارة الغربية التي تبدأ من القرن التاسع عشر - أي من قيام الرأسمالية - قد دخلت مرحلة الانهيار وكان ازدهارها في عصر الإقطاع"(1).
__________
(1) - الموسوعة الفلسفية - مادة شبنجلر.(1/12)
وبعضهم رأى أن رقيّ الحضارات هو نتيجة تحدٍّ تواجهه الشعوب، سواء كان ذلك التحدي داخلياً، أي بين فئات الشعب الواحد وطبقاته، أو كان تحدياً بين شعب وآخر، مما يؤدي إلى نشاط حيوي في المجتمع ينتج عن استجابة النخبة الواعية من ذلك المجتمع لمواجهة تلك التحديات، فيكون ذلك سبباً لنهضته. ويمثل هذا التفسير المؤرخ "توينبي" الإنكليزي المتوفى سنة 1975 الذي وافق شبنغلر في فكرة "أن تاريخ العالم يسير في دورات كبرى من الارتفاعات والانخفاضات وهو محصلة كلية للحضارات المختلفة التي تمر بالمراحل نفسها: الميلاد والنمو والسقوط والتفكك والتدمير"(1)، إلا أنه أضاف التعليل الذي ذكرناه لظاهرة النهضة(2). أما عن سقوط الحضارات، فيرى توينبي أن سببه هو عجز النخبة الخلاقة عن الاستمرار في مواجهة التحديات المستمرة كما واجهتها بداية الأمر، فيقول:"عندما تنحط الأقلية الخلاقة في تاريخ أي مجتمع من المجتمعات إلى أقليّة مسيطرة تحاول أن تحافظ بالقوة على مركز لم تعد تستأهله، هذا التبدل الهدام في طبيعة العنصر الحاكم يحفز البروليتاريا (الأكثرية) على الانفصال عنه والتخلي عن تلقائيّتها وحريتها في الانجذاب إليه ومحاكاته(...) وهكذا يشكل سقوط الحضارة طبقة محاربة داخل مجتمع واحد لم يكن كيانه في دور النمو الحضاري منقسماً على ذاته انقسامات حادة..."(3).
__________
(1) - الموسوعة الفلسفية - مادة توينبي.
(2) - نقلاً عن: عماد الدين خليل - التفسير الإسلامي للتاريخ - ص 74.
(3) - نقلاً عن: عماد الدين خليل - التفسير الإسلامي للتاريخ - ص 84.(1/13)
وهناك من يرى أن البشرية هي دائماً في ارتقاء مطّرد نحو النهضة. وأن الفرق الذي نراه بين أمة وأخرى في مستوى الرقي أو الانحطاط مردّه إلى أن بعض الشعوب سبقت غيرها في مسيرة "التقدم" وأن الشعوب المتخلفة سرعان ما ستلحق بتلك التي سبقتها. وأما الانحطاط الذي يحل بأمة بعد نهوضها، فينظرون إليه على أنه انتكاسة مؤقتة ناتجة عن انتقال الأمة من مرحلة إلى أخرى وأنه سرعان ما تخرج من انتكاستها تلك لتستأنف نهضتها ولترتقي إلى مستوى أعلى من ذي قبل.
ونجد هذا التفسير لدى مفكرين شهيرين هما هيغل وماركس. إلا أن هناك فرقاً مهماً بين الاثنين، ألا وهو أن هيغل يرى أن الشكل الأفضل للمجتمع الإنساني والأكثر رقياً هو الشكل اللبرالي الرأسمالي الذي وصلت إليه دول الغرب ولاسيما دولته بروسيا(1). بينما يرى ماركس أن أرقى شكل يصل إليه المجتمع يكون حين يصل إلى مرحلة الشيوعية الكاملة التي تعقب الدولة الاشتراكية(2).
ومن الذين يحاولون إحياء نظرية هيغل في هذه الأيام - ولاسيما بعد انهيار النموذج العملي لنظرية ماركس - الكاتب الأميركي ذو الأصل الياباني "فرانسيس فوكوياما" الذي ذاع صيته مؤخراً بعد إصداره كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الذي يبشر فيه بأن التاريخ وصل إلى مرحلته الأخيرة الفضلى بانتصار اللبرالية ذات الطراز الأميركي على كل ما سواها من أنماط العيش الأخرى.
__________
(1) - الموسوعة الفلسفية - مادة هيغل.
(2) - ألاسدير ماكانتاير - مقال من كتاب أعلام الفكر السياسي - تصنيف موريس كرانستون ص 103.(1/14)
هذه بعض التفسيرات التي تكلم بها المؤرخون والمفكرون لفهم حركتي النهضة والانحطاط. أوردتها فقط لأضع القارىء في أجواء الجهود التي بُذلت لوضع فلسفة للنهضة أو لفهم حركة الحضارات عبر التاريخ. لذلك لن أخصص بحثاً لنقدها، ذلك أنها ليست هي السائدة في عالمنا المعاصر بين أوساط المثقفين، وإنما النظرية السائدة اليوم هي النظرية اللبرالية الغربية التي تأثر بها معظم المثقفين المعاصرين - ولاسيما بعد سقوط الشيوعية - والتي تختلف عنها كلها، وسنخصص لها الفصل التالي.
وسيكون فهمنا الذي سنطرحه لتفسير حركة النهضة والانحطاط بمثابة الرد على كل تلك النظريات. والله الموفق وعليه الاتكال.
فلسفة النهضة في الفكر الغربي المعاصر
إن أغلب مفكري الغرب في التاريخ المعاصر - وتُعد أفكارهم استمراراً لبعض أفكار عصر النهضة الأوربية - رأوا أن القضية كامنة في مدى الحرية التي يتمتع بها الإنسان. فرأوا أنه بقدر ما يتمتع الإنسان بالحرية تبرز قدرته على الإبداع والإنجاز والابتكار، فيؤدي به ذلك حتماً إلى التقدم والنهوض. بخلاف ما إذا خضع للعبودية والاستبداد والقيود بشتى أنواعها، فإنه حينئذ يعجز عن الحركة والإبداع والإنجاز، فيرتكس به ذلك حتماً إلى الانحطاط والتخلف والتقهقر.
وقد رأوا أن أهم عائق يقف بين الإنسان وحريته في الحركة والعمل هو تعلقه بأوهام الغيب والكهنوت وما يسمى بالكائنات الروحانية غير المحسوسة. ويرى هؤلاء أن الشعوب حين يسيطر التفكير الديني على أذهانها، والنزعة الروحية على حياتها ومجتمعها ودولتها فإنها تبتعد عن التعاطي مع الواقع المحسوس، وتبقى مشدودة للتعلق فيما وراء المادة والحياة والكون، وتبقى أسيرة للمفاهيم الدينية والكهنوتية التي تحول بينها وبين حرية الحركة والإنتاج والإبداع، مما يؤدي بها إلى إهمال الواقع الحياتي وبالتالي إلى انحطاطها.(1/15)
وعدّوا التاريخ الأوربي شاهداً على نظريتهم تلك، حيث قالوا: إن العصور الوسطى كانت عصور تدين وروحانية، وكان الأوربي المتدين يرى أنه إذا كان هناك تعارض بين التدين والنهضة، وبعبارة أخرى: بين الروح والمادة، فإنه يفضل التدين المترافق مع الانحطاط على النهضة المترافقة مع الإلحاد والضلال أو الكفر.
وقد كانت تلك النظرة مبنية على الفلسفة التي تقول: إن الإنسان مكوّن من روح وجسد، أي إن فيه الناحية الروحية والناحية المادية، وإن هاتين الناحيتين في تركيب الإنسان متناقضتان بحيث لا يمكن إشباع ناحية إلا على حساب الأخرى. فإذا أراد الإنسان أن يتطهر ويسمو إلى مصافّ الملائكة فإن عليه أن يغلّب الروح على الجسد فيعتزل الدنيا ومتاعها ومشاغلها وينصرف إلى شؤون العبادة والتقشف والارتباط بالغيب والنزوع إلى الروحانية. أما إن هو أراد الدنيا ومتاعها والاهتمام بعمارتها وزخرفها فإنه يكون حينئذ قد قرر تغليب الجسد على الروح والابتعاد، بالتالي، عن طهر النفس ونقاء الملائكة، وطلق الغيب وخسر الآخرة.
يصف ول ديورانت هذه النزعة لدى المتديّنين في العصور الوسطى فيقول:"وقد وجّه كثير من المسيحيين همهم كله إلى العمل على أن يستقبلوا يوم الحساب الرهيب طاهرين من الدنس، فكانوا لذلك يرون في كل لذة من ملذات الحواس غواية من غوايات الشيطان، ولهذا أخذوا ينددون بعالم الجسم ويعملون لكبت الشهوات بالصوم وبكثير من أنواع التعذيب البدني، وكانوا ينظرون بعين الريبة إلى الموسيقى والخبز الأبيض والخمور الأجنبية والحمامات الدافئة وحلق اللحية، ويرون في هذه الأعمال استهانة بإرادة الله الجلية الواضحة للعيان"(1).
__________
(1) - ول ديورانت - قصة الحضارة - ج 11- ص 282.(1/16)
كما أن العقل الذي يميز الإنسان عن سائر المخلوقات ويؤهله للتعرف على حقائق الكون والإنسان والحياة لقي الازدراء والاحتقار من رجال الكهنوت إلى حد تصويره عدواً للدين والإيمان، فكان العامة من الأوربيين - كما يقول ديورانت - "يشعرون بأن من الحزم أن يؤمنوا بالأجوبة التي ينطق بها رجال الدين ويؤكدوها توكيداً يزيل مخاوفهم. ولو أن الكنيسة قد اعترفت بأنها تخطىء تارة وتصيب تارة أخرى لفقدوا ثقتهم فيها، ولعلهم كانوا يرتابون في المعرفة ويرون أنها الثمرة المرة للشجرة المحرّمة تحريماً ينطق بالحكمة، أو السراب الذي يضل الناس ويغويهم ليخرجوا من جنة السذاجة والحياة الخالية من الشك. وهكذا استسلم العقل في العصور الوسطى للإيمان في أغلب الأوقات والحالات، وجعل كل اعتماده على الله وعلى الكنيسة، كما يثق رجل هذه الأيام بالعلم والدولة"(1).
وها هو مارتن لوثر رائد الإصلاح الديني الذي أسس ما يسمى بالمذهب البروتستانتي والذي بذل جهده لإعادة روح العصور الوسطى بعدما شعر بتأثير العقل يتسرب إلى المجتمعات الأوربية يشنّ هجومه العنيف على العقل ويدعو الناس إلى رجمه ودوسه بالأقدام:"أنت لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل، فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر... إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تماماً ومنافية للمعقول وزائفة... إن العقل هو أكبر عدو للإيمان... إنه أفجر صنائع الشيطان، كبغيّ فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها... فاقذفها بالروث في وجهها... وأغرقها في العماد..."(2).
__________
(1) - المرجع السابق - ج 16- ص 12-13.
(2) - المرجع السابق - ج 24- ص 55-56.(1/17)
لما فهم المفكرون الغربيون في التاريخ الحديث والمعاصر الدين على هذا النحو - أي كما كان سائداً في أوربا خلال العصور الوسطى - رأوا أن سيطرة الدين على الحياة والمجتمع والدولة كانت العامل الأساس في انحطاط المجتمع في العصور الوسطى.
وكان من شواهدهم المهمة النظام الإقطاعي الموغل في الظلم والقسوة الذي كان الأوربيون يخضعون له قانعين بتأثير فكرة التفويض الإلهي الممنوح للملك، فكما يقول ديورانت: "كان الملك من الوجهة الزمنية تابعاً لله، يحكم بما له من حق إلهي، بمعنى أن الله أجاز له أن يحكم، ومن ثم فوضه في أن يحكم"(1).
__________
(1) - المرجع السابق -ج 14 - ص 429.(1/18)
وهكذا يمضون في الاستشهاد بالتاريخ الأوربي - وكأنه تاريخ العالم - فيصلون إلى التاريخ الحديث الذي يبدأ حسب اصطلاحهم في القرن الخامس عشر، فيربطون بين بوادر النهضة في تلك القرون وبين الصراع الذي بدأ ينشب بين الكنيسة الكاثوليكية التي تسيطر على المجتمع وتطبعه بطابعها وبين الإصلاحيين والثوريين الذين وقفوا في وجه تلك السيطرة. فكانت طلائع المعارضة متمثلة بادىء الأمر في حركة البروتستانتيين الإصلاحيين الذين طالبوا برفع النفوذ البابوي عن ممالك أوربا الحديثة وإماراتها، ورغم أن تلك الحركة اتسمت بالتزمّت البالغ الذي فاق ما لدى كنيسة روما من التعصب والاستهتار بالعقل والمعرفة، إلا أن تلك الحركة كسرت ذلك الطوق الذي كان يجعل من الكنيسة الكاثوليكية السلطان الأعلى على جميع ملوك أوربا وأمرائها(1) ولاسيما أن هذه الحركة طالبت برفع النفوذ البابوي والكنسي عن تلك الممالك والإمارات. فمن النقاط التي طرحها زونجلي أحد زعماء الإصلاح البروتستانتيين ودافع عنها بقوة، أنه "لا أساس للسلطة الروحية التي يطلق عليها اسم "الكنيسة" في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح. إلا أن السلطة الزمنية تؤيدها تعاليم المسيح وسنته"(2).
ورافق ذلك ظهور بعض الفلاسفة الذين تمردوا على الطروحات الكهنوتية وهيمنة الكنيسة، سواء على شكل ملحدين جاحدين للدين، أو على شكل علمانيين يطالبون بعزل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة، والحجر عليه داخل الكنيسة والبيت، وطالبوا بإطلاق حرية الإنسان ليبدع فيها بعبقريته وكفاءته ومواهبه، ولينجز الأعمال التي يعبر بها عن نفسه وتطلعاته، والتي هي سبب النهضة في أي مجتمع من المجتمعات.
__________
(1) - راجع المرجع السابق ج 27 - ص 262.
(2) - المرجع السابق - ج 24 - ص 117.(1/19)
فها هو ماكيافيلّي المفكر الإيطالي الشهير المتوفى سنة 1527 "كان يعتقد أن المسيحية - في أحسن حالاتها - تعلّم فضائل مغلوطة. فقد كانت تعلّم حسب رأيه الخضوع والذل وإنكار الجسد، وإعطاء الخد الآخر للّطم، ثم حصر أمل الإنسان بالفرح والسعادة في ما بعد الموت. وكانت فكرة ماكيافيلي عن الفضيلة على نقيض كلي مع المناقب المسيحية. فقد كان يستوحي نبل الإنسان ومجد الحياة على الأرض، وكان يعتقد أن هذا النبل يعبر عنه ليس في إذلال النفس بل في الاعتزاز الفخور"(1). "ونظراً إلى أنه كان كالآخرين من معاصريه يعتقد أن ائتلاف الدين والدنيا أمر مفروض، فقد عقد الأمل على أن ينتصر في إيطاليا القرن السادس عشر نمطه الجمهوري بعد التخلي عن المسيحية كديانة تجاوزها العصر فيزرع مكانها ديانة ومؤسسات دينية مرتكزة على روح روما القديمة، أي "ديانة زمنية" يكون غرضها الأساسي تعزيز مشاعر وفضائل وطنية"(2).
وقد هاجم جميعُ الكتاب الفرنسيين في القرن السادس عشر على وجه أو آخر ثقافةَ العصور الوسطى، مشددين على وعي الذات وعلى تنمية الفردية والابتكار. بلغ ذلك ذروته في الشكوكية النقدية التي حمل لواءها ميشال مونتين المتوفى سنة 1592(3).
__________
(1) - أرنستو لاندي - مقال في كتاب أعلام الفكر السياسي - تصنيف موريس كرانستون - ص 42.
(2) - المرجع السابق - ص 43.
(3) - بهجة المعرفة - المجموعة الثانية - ج 4 - ص 276.(1/20)
ثم يأتي القرن السابع عشر ليشهد بزوغ الاعتقاد لدى الفلاسفة والكتاب الأوربيين أن الحقيقة عن طبيعة الإنسان والكون يمكن أن تكتشف بالعقل، وفي الوقت نفسه أدى التفسير النقدي للكتب المقدسة والاهتمام بمقارنة الأديان إلى إضعاف هيبة العقيدة الدينية الرسمية. وفي باب الدين انعكست روح العصر العلمية في إنكار المعجزات والوحي الإلهي، وكذلك في مقاومة الاندفاع العاطفي الحماسي. ومن خصائص تفكير "الكتّاب المتنورين" - وهو الاسم الذي عرفوا به في تلك الحقبة - والذين كانوا يلقبون بالفلاسفة، أنهم وإن لم يكونوا عادة ملحدين، كانوا مثلاً يَرَوْن - على أسس إنسانية صرف - أنه من غير المعقول أن يفرض المرء عقيدته الدينية على فرد آخر أو أمة أخرى، وقد حولت أخبار الرحلات الاهتمام نحو العامل المشترك في جميع الأديان. وهو الاعتقاد بالله كمصدر لكل وجود. من هنا نشأت فكرة الوثني النبيل، وفكرة الإيمان الطبيعي بالله التي كانت تنطوي على القول بأن الله ما أن خلق الدنيا حتى تركها تجري وشأنها، أو "على غرار الساعة" كما قال ألكسندر بوب في "مقالته في الإنسان" سنة 1733(1).
وفي القرن الثامن عشر يتتابع "الفلاسفة المتنورون" ليؤكدوا فكرة فصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة. فها هو مونتسكيو المتوفى سنة 1755، على الرغم من أنه لم يكن ملحداً ينتقد الكنيسة ورجال الدين بشدة(2).
__________
(1) - المرجع السابق - ج 4 ص 356-359.
(2) - الموسوعة الفلسفية - مادة "مونتسكيو".(1/21)
وكذلك فولتير المتوفى سنة 1778 والذي نقد في مؤلفاته التاريخية النظرة الإنجيلية والمسيحية عن تطور المجتمع ورسم خطوطاً عريضة لتاريخ الإنسانية. ففلسفة التاريخ تقوم عنده على أساس فكرة التطور التقدمي للمجتمع في استقلال عن إرادة الله، وقد ناضل ضد الكهنوتية وما سماه بالشطحات الخيالية الدينية. وكانت المسيحية والكنيسة الكاثوليكية الهدف الرئيس لتهكمه حيث اعتبرها العدو الرئيس للتقدم(1).
وها هو جان جاك روسّو الذي اعتُبر كتابه "العقد الاجتماعي" عمدة الثورة الفرنسية الكبرى والذي أصبح إنجيل الشعب الفرنسي عقب الثورة، يدعو إلى الإيمان بالله وإنكار الوحي(2)، وبالتالي إلى فصل الدين عن الحياة. ويرى أن واضعي الشرائع ومن بعدهم الحكام والملوك لم ينسبوا القوانين والشرائع إلى الله إلا من أجل أن يعطوها صفة الإلزام وإنزال الرهبة في قلوب الشعب من مخالفتها، فيقول:"فبما أن المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاجّة، فعليه أن يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها أن تقود دون عنف وأن تقنع دون إفحام. هذا ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعانة بتدخل السماء وأن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب (...) هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين، هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية أولئك الذين لا يمكن أن تزحزهم الحكمة البشرية. ولكن لا يحق لكل إنسان أن يجعل الآلهة تتكلم ولا أن يكون مصدَّقاً عندما ينبىء الناس أنه ترجمانها"(3).
__________
(1) - المرجع السابق - مادة "فولتير".
(2) - المرجع السابق - مادة "روسّو".
(3) - جان جاك روسو - العقد الاجتماعي - ص 85.(1/22)
وأخيراً جاءت الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789، وأقصت الكنيسة نهائياً عن المجتمع والدولة والسياسة. يقول ول ديورانت: "لقد كانت معظم الثورات السابقة إما على الدولة وإما على الكنيسة، وندر أن نشبت ضدهما معاً في وقت واحد (...) أما الثورة الفرنسية فإنها هاجمت الملكية والكنيسة جميعاً، واضطلعت بمهمة ومخاطرة مزدوجة هي مهمة الإطاحة بالركيزتين الدينية والدنيوية للنظام الاجتماعي القائم"(1).
وهكذا يَعُدّ المعاصرون من المفكرين والمؤرخين الغربيين تلك الأوضاع دليلاً حياً على نظريتهم، حيث تناسب مقدار الرقي المتعاظم شيئاً فشيئاً في أوربا مع مقدار انحسار نفوذ الكنيسة عن المجتمع، وبالتالي انحسار الدين والتدين عن الحياة العامة. ثم وجدوا في الثورة الفرنسية التي افتتحت تاريخهم المعاصر البرهان الأكبر على نظريتهم حيث أقصيت الكنيسة عن واقع المجتمع وقُضي على نظرية التفويض الإلهي، وأطلقت الحريات العامة في المجتمع، فاستكملت حركة النهضة الأوربية مسيرتها وبدأت تؤتي أكلها وتثمر ثمارها التي يفتخر بها الغربيون إلى اليوم.
إن هذه النظرية التاريخية الحضارية لدى المفكرين الغربيين هي التي كانت وراء ظهور العقيدة العقلية التي اعتنقها الغرب منذ بداية التاريخ المعاصر وجعلها قاعدة لأفكاره، وقيادة فكرية لمجتمعه، ألا وهي عقيدة "فصل الدين عن الحياة".
__________
(1) - ول ديورانت - قصة الحضارة - ج42 - ص 397.(1/23)
وهكذا مضى هؤلاء في تفسير أيّة حركة نهضوية من خلال تلك النظرية، فعندما يريدون تفسير ظاهرة النهضة الشيوعية ومن ثم انحطاطها، فإنهم يعزون تلك النهضة إلى غياب التأثير الديني عن الحياة في المجتمع الشيوعي - ولاسيما أن الشيوعية تقوم على الإلحاد وتقول إن الدين أفيون الشعوب - وبالتالي إلى ارتباط الشعوب الشيوعية بالمادة والواقع والحياة. أما الانحطاط السريع لتلك "الحضارة"، فمرده في رأيهم ليس إلى الإلحاد وغياب الدين، وإنما لانعدام الحرية. فالحرية التي يستهدفها الإنسان بانعتاقه من الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب، سلبه إياها النظام الشيوعي حين حوله عن الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب، إلى الخضوع والعبودية للدولة والحزب الحاكم، وينظرون إلى الشعوب المنتفضة على الشيوعية اليوم من زاوية أنها تريد الانعتاق من العبودية للدولة من أجل أن تمارس حريتها ولتلحق بركب الحضارة الغربية اللبرالية. يقول اللبرالي المتطرف فرانسيس فوكوياما:" كلما اقتربت الإنسانية من نهاية الألف الثاني فإنه يلاحظ أن الأزمتين المزدوجتين التسلطية والاشتراكية، لم تتركا في ساحة المعركة إلا إيديولوجيا واحدة محتملة ذات طابع شمولي: هي الديمقراطية اللبرالية، عقيدة الحرية الفردية والسيادة الشعبية"(1).
هذه هي خلاصة المفهوم الغربي المعاصر عن حركتي الانحطاط والنهضة في التاريخ. ولن نستعجل كثيراً لنتوسع في نقد هذه النظرية. فإنه يكفينا أن نضع تلك النظرية على المحكّ بأن نعرض عليها نموذجاً واحداً من نماذج النهضات التي عرفها التاريخ، فنرى إن كانت تنطبق عليه أم لا. فمن شأن فلسفة النهضة، أو بعبارة أخرى "تعريف النهضة" إن كان صحيحاً، أن ينطبق على كل نهضة. فالتعريف يجب أن يكون جامعاً مانعاً، ولاسيما أن أصحاب تلك النظرية طرحوها على أنها قاعدة مستمرة.
__________
(1) - فرانسيس فوكوياما - نهاية التاريخ والإنسان الأخير - ص 68.(1/24)
فإذا سألنا هؤلاء عن سر النهضة الحضارية الإسلامية خلال العصور الوسطى، فإنهم يعجزون عن تفسير تلك الظاهرة وفق نظريتهم السالفة الذكر، فيتكلفون التفسيرات المختلفة من أجل إثبات نظريتهم. فعصور الحضارة الإسلامية التي شهدت أعظم نهضة عرفها التاريخ كانت عصور تدين وعبادة، بل كانت الحضارة الإسلامية - بما فيها مجتمعها ودولتها وطريقة عيشها - تقوم على أساس عقيدة روحية تربط الإنسان بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها.
فذلك المثال هو البرهان الحي والدليل القاطع على فساد النظرية الغربية في تفسير حركتي النهضة والانحطاط. فالفكرة تثبت صحتها بانطباقها على الواقع، ويثبت فسادها إن لم تنطبق على ذلك الواقع كما هو شأن تلك النظرية.
وفلسفة النهضة هي مسألة من الخطورة بحيث أنه لا يجوز أن تكون نظرية ظنية كما هو شأن تلك النظرية. بل يجب أن تكون فكراً يقينياً جازماً ينطبق على الواقع المحسوس، قادراً على تفسير كل نهضة وكل انحطاط للحضارات التفسير الصحيح.
سر النهضة
إن الذي يحدد الرقي والانحطاط في مجتمع ما، هو حضارته التي يقوم عليها. فإن كانت حضارته راقية أمكنه أن يرتقي، أما إن كانت منخفضة فإنه لن يعرف النهضة في كنفها يوماً من الأيام.
وحين نتكلم عن الحضارات في المجتمعات الإنسانية فهذا يعني أننا نتكلم عن طرق العيش وأنماط السلوك والعلاقات التي تتميز بها تلك المجتمعات. فالحضارة "طريقة عيش يعرف بها كل مجتمع على حدة"، وبما أن سلوك الناس وعلاقاتهم وطريقة عيشهم هي رهن المفاهيم التي يحملونها عن الحياة، فهذا يعني أن الحضارة "هي مجموعة المفاهيم عن الحياة". فمجموعة المفاهيم الغربية مثلاً عن الحياة هي التي تشكل الحضارة الغربية، وكذلك فإن الحضارة الإسلامية هي مجموعة المفاهيم الإسلامية عن الحياة.(1/25)
من هنا فإن الذي يقود الشعوب والأمم إلى النهضة هو الفكر الذي تحمله. كما أن الفكر أيضاً قد يكون هو السبب في انحطاط الشعوب. فإنه برقيّ الفكر الذي يحمله شعب من الشعوب يرقى وبانحطاطه ينحط. وما الحضارة لدى المجتمع إلا ذلك البنيان الفكري الذي يشكل عقليته ويصوغ علاقاته وينظم مشاكله. وما رقي تلك الحضارة وما انحطاطها إلا بمقدار رقي ذلك الفكر أو انحطاطه.
فما هو الفكر الراقي؟ وما هو الفكر المنخفض؟
إن الفكر الراقي هو ذلك الفكر الشامل المتكامل المتماسك، القادر على أن يعطي الإنسان رأياً عن كل شيء يرتبط بسلوكه، وموقفاً إزاء أي حدث، ويستطيع إعطاء نظام ينظم علاقات المجتمع كلها دون إغفال ناحية من نواحيه، تنظيماً دقيقاً متناسقاً متناغماً، بحيث يوجد في ذلك المجتمع نسقاً من العيش أو نمطاً من السلوك منسجماً وذا طراز معين ولون محدد، فلا تتضارب معالجاته، ولا تتناقض قواعده، ولا يأكل بعضها بعضاً. فهكذا فكر من شأنه أن يجعل من الجماعة البشرية التي تحمله وتطبق نظامه مجتمعاً متماسكاً قوياً يسير ارتقائياً نحو النهضة. ذلك أنه استطاع أن ينسّق علاقات المجتمع ويخلصه من الاضطراب والتناقضات والصراعات الداخلية.
ولكن المشكلة تكمن في كيفية الحصول على ذلك الفكر الراقي الذي يتمتع بتلك الصفات ويتميز بذلك التكامل وتلك الشمولية. فمن أين للمجتمعات ذلك؟(1/26)
إن الواقع المحسوس والتاريخ -فضلاً عن النظر والتفكير المستنيرين- يُثبتان أن فكراً كهذا لا يمكن أن يوجد إلا بوجود قاعدة فكرية له. ذلك أن كل بنيان يحتاج إلى أساس، ووجود القاعدة الفكرية هو الذي من شأنه أن يصلح أساساً لذلك البنيان الفكري. وهذه القاعدة الفكرية -التي هي الفكر الأساس - لا يمكن أن تكون قاعدة إلا بأن تكون عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، فتعرّف الإنسان بأصله ومآله، وبالتالي تعرفه بطبيعة حياته والغاية منها. وهكذا تكون هذه العقيدة صالحة لأن يُبنى عليها ذلك البنيان الفكري، كما أن من شأنها أن تكون عقيدة سياسية بحيث تنبثق عنها أنظمة للحياة ترعى شؤون الناس في مجتمعهم وتتوافق مع أفكارهم التي يحملونها والمشاعر السائدة بينهم. مما يجعل من ذلك المجتمع كياناً حضارياً متميزاً ومنفرداً، وتكون عقيدته تلك التي يعتنقها قيادة فكرية له تسير به ارتقائياً نحو النهضة. وهذا الفكر يسمى الفكر المبدئي(1).
__________
(1) - ورد في الموسوعة الفلسفية في مادة "مبدأ": المبدأ فكرة رئيسية، والقاعدة الأساسية للسلوك. ومن الناحية المنطقية، المبدأ هو المفهوم الرئيسي، والأساس لأي نظام.(1/27)
فالمبدأ - وهو العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام- هو الذي كانت تفتقر إليه شعوب أوربا في العصور الوسطى. أي إن تلك الشعوب لم تكن تمتلك فكراً مبدئياً تنهض على أساسه. صحيح أن تلك الشعوب كانت تتدين بدين واحد وعقيدة واحدة هي النصرانية، إلا أن تلك العقيدة لم تكن عقيدة سياسية، وإنما مجرد عقيدة وجدانية تلقتها تلك الشعوب تقليداً عن الآباء والرهبان والقساوسة(1)، وبالتالي لم تكن مؤهلة لأن تكون قاعدة لأفكار نهضوية في المجتمع، وبالتالي لم تنبثق عنها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة، وإنما هي مجرد عقيدة روحية تبيّن علاقة الإنسان بخالقه، كما ترشد إلى مجموعة من الأخلاق والقيم الروحية والإنسانية. وإننا إذا قلّبنا صفحات الإنجيل كلها فلن نجد أثراً لنظام للحكم أو الاقتصاد أو العقوبات أو ما شاكل ذلك. وإذا كان الملوك ورجال الكنيسة قد حكموا باسم الدين والتفويض الإلهي فهذا لا يعني أنهم رعوا شؤون الناس بقوانين استُمدت من الدين والإنجيل، بل طبقوا أنظمة وقوانين وضعية لا تمتّ إلى المسيحية بصلة، وكانت من أحطّ أنواع الأنظمة، وهي ما عرف بالنظام الإقطاعي. يقول ديورانت عن شريعة الإقطاع:"كانت العادات والشرائع شيئاً واحداً في نظام الحكم الإقطاعي حيث كان القضاة والقائمون بتنفيذ القانون المدني عادة أميّين. فإذا ما ثارت مشكلة خاصة بالقانون أو العقاب، سئل أكبر أعضاء المجتمع سناً عما جرت به العادة في هذه المشكلة أيام شبابهم، ولهذا كان المجتمع نفسه المصدر الرئيس للقوانين"(2).
باختصار: إن الانحطاط الذي عرفته أوربا خلال العصور الوسطى مردّه في الحقيقة إلى تلك الثقافة المنخفضة التي كانت سائدة فيها.
__________
(1) - راجع ول ديورانت - قصة اللحضارة - ج 16 - ص 12 - 13.
(2) - قصة الحضارة - ج 14 - ص 434.(1/28)
وكما كان شأن الشعوب الأوربية في العصور الوسطى، فكذلك كان شأن العرب في الجاهلية. فلم تكن لهؤلاء عقيدة عقلية سياسية تربط بينهم وتقوّي أواصر مجتمعهم بتنظيم علاقاته، وإنما كانوا يحملون عقيدة كهنوتية تقليدية هي "الوثنية"، وبالتالي لم تكن صالحة لأن تكون قاعدة لأفكارهم ولا قيادة فكرية لحركة مجتمعهم. وبذلك كان ذلك المجتمع منحطاًّ، حيث سادت القبلية التي جعلت من القبائل والعشائر مجتمعات متناحرة متقاتلة لا تفتأ تشن الحروب فيما بينها، ليس من أجل شيء إلا الثأر والعصبية، فعُرف ذلك المجتمع بالمجتمع الجاهلي.
ولكن شعوب الجزيرة العربية - على الرغم من انحطاطها - سرعان ما خرجت من ظلام الانحطاط إلى ضياء النهضة والرقي أوائل العصور الوسطى على نحو انقلابي مفاجىء. بينما استمر الانحطاط مخيماً على الشعوب الأوربية قروناً متطاولة حتى حلول العصر الحديث حيث لم تظهر بوادر النهضة إلا أواخر القرن الخامس عشر، ولم تؤت ثمارها إلا أواخر القرن الثامن عشر.
على أي حال، سنصرف النظر عن الفارق الزمني بين مولد كل من هاتين النهضتين وسرعة إثمارهما، ونطرح السؤال الآتي: ما العامل الذي توفر في هذين المجتمعين حتى دبّت فيهما عوامل النهضة وخرجا من حال الانحطاط إلى حال الرقي؟
إن الجواب يكمن فيما أسلفناه من فلسفة للنهضة. لقد وُجدت في كل من هذين المجتمعين عقيدة عقلية سياسية كانت بمثابة مبدأ قام عليه بنيان حضاري شامل قاد المجتمع نحو الارتقاء.(1/29)
ففي جزيرة العرب ظهر الدين الإسلامي كمبدأ يقوم على عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، وهي عقيدة "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وعن هذه العقيدة انبثق أعظم نظام للإنسان في حياته ومجتمعه ودولته، فنظّم علاقة الإنسان بخالقه بما بيّنه من عقائد وما شرعه من عبادات كالصلاة والصوم والحج، ونظّم علاقته بنفسه بما شرعه من الأخلاق وأحكام المطعومات والملبوسات، ونظّم علاقته بغيره من الناس بما شرعه من أنظمة للمجتمع والدولة. فانبثق عن تلك العقيدة نظام للحكم عرف بنظام الخلافة، وانبثق عنها نظام للاقتصاديبيّن للدولة مصادر المال وكيفية توزيعه وإنفاقه، ونظام اجتماعي ينظم علاقة الرجل بالمرأة ويعالج مشاكل الأسرة، ونظام للعقوبات وغير ذلك. وقد تمثل انبثاق تلك الأنظمة عن العقيدة الإسلامية بأنها استُنبطت كلها من القرآن والسنة اللذين نزلا وحياً من الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكانت هذه العقيدة قاعدة فكرية انبنت عليها الحضارة الإسلامية العريقة، وبذلك تحققت النهضة في بلاد العرب لتتوسع وتشمل مساحة عظيمة من المعمورة، منتشرة بسرعة لم يسجل لها التاريخ مثيلاً، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً. ويصف ديورانت البلاد الإسلامية في ظل الخلافة، فيرى أن "الخلفاء قد أمّنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيأوا الفرص لذوي المواهب، ونشروا الرخاء على مدى ستة قرون في أصقاع لم تر قط مثل هذا الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم والآداب والفلسفة والفنون ازدهاراً جعل آسية الغربية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة"(1).
__________
(1) - قصة الحضارة - ج 13 - ص 151.(1/30)
أما في أوربا، فقد أدى الصراع كما رأينا بين رجال الكنيسة من جهة والملوك والفلاسفة من جهة أخرى إلى ولادة مبدأ جديد، هو اللبرالية التي تقوم على عقيدة "فصل الدين عن الحياة"، أو ما يسمى "بالعلمانية". فكانت هذه العقيدة السياسية قاعدة فكرية قامت على أساسها الحضارة الغربية المعاصرة، وانبثق عنها النظام الرأسمالي الذي يقوم على جعل الإنسان حراً من أي قيد دينياً كان أو غير ديني. وهذا ما أدى إلى النهضة الغربية التي لاتزال قائمة إلى يومنا هذا، وتعمل على غزو المجتمعات وتحويلها إلى طريقة عيشها.
هذا هو التفسير الحقيقي للنهضة. إنها ذلك الارتقاء الفكري المتمثل في عقيدة عقلية سياسية تصلح قاعدة لأفكار المجتمع وأصلاً لانبثاق نظامه وأساساً لحضارته. وبعبارة مختصرة :
إن وجود "المبدأ" لدى أمة هو السبب في نهضتها.
النهضة الصحيحة والنهضة الخاطئة
إذا كان معظم المفكرين والمؤرخين والفلاسفة الغربيين يقفون عند حد البحث عن النهضة وأسبابها وتفسيرها، فمن الخطأ أن نتابعهم على ذلك. فها هو التاريخ قد أعطانا نماذج عدة من النهضات. ولم تكن كل نهضة كالأخرى، وإنما هناك اختلاف جوهري عميق، بل وأساسي بين نهضة وأخرى. فليس من الصواب أن يكتفي الإنسان بالبحث عن مطلق نهضة، بل عليه أن يبحث عن تلك النهضة التي تؤدي إلى هناء الإنسان أي إلى طمأنينته الدائمة. وبعبارة أخرى: ما دام هناك نهضة صحيحة وأخرى فاسدة، فهذا يعني أن على الإنسان أن يتحرى تلك الصحيحة.(1/31)
إذا كان المبدأ - بعقيدته ونظامه - هو سر النهضة، فهذا يعني أن النهضة الصحيحة منبعها المبدأ الصحيح. والمبدأ الصحيح هو ذلك الذي يقوم على العقيدة الصحيحة التي تقنع العقل وتوافق الفطرة الإنسانية فتملأ القلب طمأنينة. وهذه العقيدة من شأنها أن تعطي الإجابة الصادقة والفكرة الصائبة عن الكون والإنسان والحياة. وهذا المبدأ هو القابل للتطبيق في أي زمان وأي مكان، وهو الكفيل للإنسان بالنهضة الصحيحة.
أما المبدأ الذي يقوم على عقيدة خاطئة، فإنه لا يكون قابلاً للتطبيق، إلا بقدر ما يجد في المجتمع من ظروف وأوضاع مواتية ومتناغمة مع طرحه وتوجهه، وغالباً ما تكون قابليته للتطبيق آتية من كونه هو بحد ذاته رد فعل على أوضاع أو أزمات تفاقمت في مجتمع ما، كما هو شأن المبدأ اللبرالي. ثم سرعان ما يكتشف القائمون عليه عدم قابليته للاستمرار مطبقاً بعد أن يكتشف المجتمع مخالفته لعقولهم وتنافره مع فطرتهم، وسرعان ما يرتكس ذلك المجتمع من جديد في ظل نظام كان هو نفسه السبب في نهضته فيما مضى من الزمان. وأقرب مثال إلينا هو المبدأ الشيوعي.
فقد أحدث ذلك المبدأ نهضة لم تستطع الاستمرار أكثر من عدة عقود لشدة ما بلغ من الفساد. ذلك أن عقيدته صادمت فطرة الإنسان وعقله حين نفت وجود الخالق سبحانه، فقالت "لا إله والحياة مادة". فالفطرة الإنسانية تنزع بطبيعتها إلى عبادة الخالق المدبر، والعقل يقطع ويجزم بأن الكون والإنسان والحياة كلها مخلوقة لخالق، وذلك لما يظهر فيها من محدودية وعجز ولما يتجلى فيها من آثار الإبداع والإتقان التي تدل على مبدع حكيم أحسن خلقها. وبالتالي انبثق عن هذه العقيدة نظام عفن فاسد هو النظام الاشتراكي، رفع الإنسان لحظة من عمر التاريخ ليودي به إلى الهاوية ولم يتزحزح عن صدره إلا وقد أرداه صريعاً خائر القوى لا يقدر على شيء.(1/32)
أما المبدأ اللبرالي الرأسمالي الذي ظهر كانسلاخ عن أوضاع العصور الوسطى في أوربا، فهو أيضاً مبدأ خاطىء. ذلك أن عقيدته - عقيدة فصل الدين عن الحياة - ليست عقيدة روحية. فهي بعد أن اعترفت بأن الإنسان مخلوق لخالق - علماً أنها لا تجزم بذلك - فصلت ذلك الإنسان عن خالقه وقالت له:" إن الخالق خلقك على هذه الأرض ثم تخلى عنك وتركك لتدبر أمرك كيفما شئت"(1). فخالفت بذلك فطرة الإنسان الذي يرى نفسه عاجزاً قاصراً محدوداً، ويرى خالقه مدبر أمره وحياته كلها.
وإذا كانت تلك العقيدة - التي هي أصل المبدأ - فاسدة خاطئة فمن الطبيعي أن تكون الأنظمة التي انبثقت عنها فاسدة، والحضارة التي قامت عليها منحرفة.
أما الإسلام، فهو مبدأ مقنع للعقل وموافق للفطرة. ذلك أن عقيدته التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أعطت الفكرة الكلية الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة حين قررت أنها جميعها مخلوقة لخالق، وعما قبل الحياة الدنيا وهو الله تعالى، وعما بعدها وهو يوم القيامة، وحددت علاقة الإنسان بخالقه، وهي وجوب الانقياد لأوامره ونواهيه وتسيير الحياة بالنظام الذي أنزله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وربطت الإنسان وهو يعيش على هذه الأرض بيوم القيامة وما بعده وذلك بأن وعدته بالجنة إن هو فوّض أمره لخالقه سبحانه وانقاد لأوامره ونواهيه، وتوعدته بالنار إن هو خالف وتمرد وعصى. يصف الله تعالى لنا رحلة الإنسان منذ نزوله إلى الأرض وحتى خروجه منها يوم الحساب قائلاً:
{ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }(2).
__________
(1) - راجع: بهجة المعرفة- المجموعة الثانية - ج 4 - ص 359.
(2) - سورة البقرة - الآيتان 38 - 39.(1/33)
وبذلك كانت هذه العقيدة مقنعة لعقل الإنسان الذي يخاطبه القرآن الكريم قائلاً :{ أفي الله شك فاطر السموات والأرض }(1). وكذلك كانت هذه العقيدة موافقة لفطرة الإنسان التي تنزع إلى عبادة الخالق المدبر، والتي تكلم عنها القرآن الكريم قائلاً: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فِطْرَتَ الله التي فطرَ الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }(2).
وهكذا كانت هذه العقيدة عقيدة روحية(3)، فلا تعارض في الإسلام بين المادة والروح أو الناحية الروحية. فإذا كانت الروح هي إدراك الصلة بالله تعالى، فإن الإسلام يكون قد ربط بين المادة والروح حين أمر الإنسان بأن يسيّر أعماله المادية بأوامر الله ونواهيه، فيدرك صلته بالله تعالى حين القيام بالأعمال، فيجمع بين عمارة الدنيا ورضوان الله تعالى. وفي الوقت نفسه كانت هذه العقيدة عقيدة سياسية بما انبثق عنها من نظام للإنسان في حياته ومجتمعه ودولته.
هكذا ندرك الفرق بين الظواهر النهضوية في التاريخ. وهذا ما يجعلنا نقف عند التفسير الحقيقي لتميّز النهضة الإسلامية عن كل ما سواها من النهضات تميّزاً كلياً. وإذا كان لا بد لنا من عرض مقارنة بين النهضة الإسلامية وغيرها، فمن الخطأ أن تكون بينها وبين حضارة العصور الوسطى الأوربية، ذلك لأن العصور الوسطى الأوربية باعتراف الجميع لم تكن عصور نهضة وإنما كانت عصور انحطاط. إذن فلتكن المقارنة بين نهضة الحضارة الإسلامية ونهضة الحضارة الغربية المعاصرة التي تهيمن على العالم اليوم.
بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية
__________
(1) - سورة إبراهيم - الآية 10.
(2) - سورة الروم - الآية 30.
(3) - أنظر موضوع "الروح والناحية الروحية" في هذا الكتاب.(1/34)
إن التطور في العمران والمدنية والتقنية والعلوم والنواحي المادية، وإن كان أمراً مهماً لاستمرار الحضارات، إلا أنه ليس المقياس في الحكم على مدى رقي الحضارة أو انحطاطها، ولا على مدى صوابيتها أو فسادها. فإذا كانت الحضارة كما أسلفنا هي مجموعة من المفاهيم تكيّف نمط العيش في المجتمع، فإن هذه الحضارة تُقوّم بالنظر إلى ما أوجدته في المجتمع من طريقة في العيش وما أمّنته للإنسان من الاستقرار والاطمئنان والهناء. لذلك ليس غريباً أن نقوم بمقارنة بين الحضارة الإسلامية التي تجلت على أرض الواقع طوال العصور الوسطى وبين الحضارة الغربية المعاصرة على ما وصلت إليه من تطور مدني وتكنولوجي وعلمي. فجوهر التباين بين هاتين الحضارتين هو بالدرجة الأولى تباين نوعي، وليس تبايناً في مدى التقدم المدني والتقني أو ما شاكل ذلك.
وإذا كان التباين النوعي البعيد بين كل من هاتين الحضارتين يجعل من الصعب علينا استيفاء المقارنة، فبإمكاننا أن نذكر قسطاً من تلك الفروق.(1/35)
فعلى الصعيد السياسي، نجد أن الإسلام استطاع أن يجعل من الأمة الإسلامية على اختلاف قومياتها وشعوبها وألوانها وألسنتها مجتمعاً واحداً. فقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن دخلت الجزيرة العربية كلها في الإسلام، وبعد أن قضي على الشرك فيها وبعد أن أصبحت دار إسلام تحكم بالإسلام كله عقيدة ونظاماً. وجاء بعده الخلفاء الراشدون فتتابعت الفتوحات، ففتح العراق وكان يسكنه خليط من النصارى والمزدكية والزرادشتية من العرب والفرس، وفتحت فارس وكان يسكنها العجم وقليل من اليهود والرومانيين، وكانت تدين بدين الفرس، وفتحت الشام وكانت إقليماً رومانياً يتثقف بثقافة الرومانيين ويتدين بالنصرانية ويسكنه السوريون والأرمن واليهود وبعض الرومان وبعض العرب، وفتحت شمال إفريقية وكان يسكنها البربر وكانت في يد الرومان. وجاء بعد الخلفاء الراشدين الأمويون، ففتحوا السند وخوارزم وسمرقند وأدخلوها ضمن أراضي الدولة الإسلامية، ثم فتحت الأندلس وأصبحت ولاية من ولاياتها. وكانت هذه الأقطار المتعددة متباينة القوميات واللغة والدين والتقاليد والعادات والقوانين والثقافة، وطبيعياً كانت مختلفة العقلية مختلفة النفسية، ولذلك كانت عملية صهرها ببعضها وتكوين أمة واحدة منها موحدة الدين واللغة والثقافة والقوانين أمراً عسيراً وعملاً شاقاً، يُعَدّ النجاح فيه شيئاً غير عادي، ولم يحصل لغير الإسلام، ولم يتحقق إلا للدولة الإسلامية. فإن هذه الشعوب جميعها بعد أن ظللتها الراية الإسلامية ودخلت في الإسلام صارت أمة واحدة(1).
__________
(1) - راجع تقي الدين النبهاني - الدولة الإسلامية - ص 162 - 163.(1/36)
ويصف ديورانت انصهار الشعوب والقوميات بالحضارة الإسلامية قائلاً:"اتخذ غير المسلمين على مر الزمن اللغة العربية لساناً لهم، ولبسوا الثياب العربية، ثم انتهى الأمر باتباعهم شريعة القرآن واعتناق الإسلام. وحيث عجزت الهلّينية عن أن تثبت قواعدها بعد سيادة دامت ألف عام، وحيث تركت الجيوش الرومانية الآلهة الوطنية ولم تغلبها على أمرها، وفي البلاد التي نشأت فيها مذاهب مسيحية خارجة على مذهب الدولة البيزنطية الرسمي. في هذه الأقاليم كلها انتشرت العقائد والعبادات الإسلامية، وآمن السكان بالدين الجديد وأخلصوا له، واستمسكوا بأصوله إخلاصاً واستمساكاً أنسياهم بعد وقت قصير آلهتهم القدامى، واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلاد الممتدة من الصين وأندونيسيا والهند إلى فارس والشام وجزيرة العرب ومصر وإلى مراكش والأندلس، وتملّك خيالهم وسيطر على أخلاقهم وصاغ حياتهم وبعث فيهم آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها، وأوحى إليهم العزة والأنفة، حتى بلغ عدد من يعتنقونه ويعتزون به في هذه الأيام نحو ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الأنفس(1)، يوحد هذا الدين بينهم ويؤلف قلوبهم مهما يكن بينهم من الاختلافات والفروق السياسية"(2).
لقد انتظم الإسلام في كثير من حقبات التاريخ مختلف تلك الشعوب في دولة واحدة موحدة، وإذا شهد التاريخ انفصال بعض الدول والإمارات عن جسم الخلافة الإسلامية، فإنه لم يكن مردّ ذلك إلى النزاعات القومية أو العرقية، ولا إلى تصدع في المجتمع الإسلامي، بقدر ما كان مردّه إلى إساءة تطبيق النظام وتسابق الأمراء والعائلات على السلطة، بدليل أن الأمة بقيت اللُحمة بين شعوبها قوية ولم تفصل بينها أي حدود سياسية.
__________
(1) - هذا الرقم صحيح في الحقبة التي كتب فيها ديورانت كتابه، أما اليوم فقد فاق عدد المسلمين المليار.
(2) - قصة الحضارة - ج 13 - ص 133.(1/37)
بينما نجد الغرب إلى اليوم، رغم قيامه على مبدأ واحد ورغم أن حضارته واحدة، إلا أنه لم يستطع تذويب القوميات وصهرها لتصبح الشعوب الغربية كياناً سياسياً واحداً. فها هي المحاولة التي قام بها نابليون بونابرت لتوحيد أوربا مع بداية التاريخ الأوربي المعاصر، والتي اغتذت بالطاقة القومية الفرنسية تسقط أمام جدران القوميات الأوربية المختلفة. ثم ها هو القرن العشرون يشهد حربين عالميتين مدمرتين كانت النزعات القومية في أوربا من أهم عواملهما وأسبابهما. وها هو مشروع الوحدة الأوربية اليوم يشهد صعوبات جمة أيضاً بسبب التعصب القومي لدى شعوب أوربا، مع أن الوحدة المطروحة ليست وحدة كاملة، وإنما تقتصر على الناحية الاقتصادية والسياسة الخارجية والعسكرية دون الثقافية والتربوية والاجتماعية والمدنية وما شاكل ذلك.(1/38)
أما على الصعيد الاقتصادي فإن التاريخ الإسلامي يروي لنا أوضاعاً من المعيشة قلّما شهد التاريخ عدالتها. فقد أحسن النظام الاقتصادي الإسلامي توزيع الثروة بحيث كاد المجتمع الإسلامي في أكثر حقبات تاريخه يخلو من البؤس الحقيقي.ويكفي أن نتذكر أحد أركان الإسلام الأساسية، و الذي يتكفل بإيجاد قدر كبير من التوازن الاقتصادي في المجتمع، ألا وهو الزكاة، التي قال الله تعالى عنها في القرآن الكريم: { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم }(1). عدا عن سائر الصدقات والعطايا التي كانت كثيرة متعددة. وهذا نابع من سياسة الاقتصاد في الإسلام التي ترمي إلى ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعاً كلياً وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع(2). فالطب مثلاً كان مكفولاً للجميع مجاناً، يقول ديورانت:"تزعم الإسلام العالم كله في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها، مثال ذلك أن البيمارستان الذي أنشأه نور الدين في دمشق عام 1160 ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن، ويقول المؤرخون إن نيرانه ظلت مشتعلة لا تنطفىء 267 سنة"(3).
حتى إن هذه العدالة لم تستثن العبيد المماليك، فلقد أوصى الرسول- صلى الله عليه وسلم - بحسن معاملة العبد، لذلك فإن السيد كما يشهد ديوارنت "كان في العادة يحسن معاملته إلى حد لم يكن معه مركزه أسوأ من مركز العامل في المصانع الأوربيّة في القرن التاسع عشر، بل لعله كان أحسن حالاً من ذلك الصانع، لأنه كان أأمن على حياته منه"(4).
__________
(1) - سورة الذاريات - الآية 19.
(2) - تقي الدين النبهاني - النظام الاقتصادي في الإسلام - ص 62.
(3) - قصة الحضارة - ج 13 ص 360
(4) - المرجع السابق - ج 13 - ص 112.(1/39)
وشهدت البلاد الإسلامية ازدهاراً اقتصادياً مدهشاً لم يكن لواحدة من الدول القائمة آنذاك حتى أن تحلم به، ويكفينا نموذجاً أن نذكر ما أورده ديورانت عن الاقتصاد في الأندلس حيث قال:"بلغت الإيرادات في أيام عبد الرحمن الثالث 000،045،12 دينار ذهبي وأكبر الظن أن هذا كان يفوق إيرادات حكومات البلاد المسيحية اللاتينية مجتمعة. ولم يكن مصدر هذه الإيرادات هو الضرائب العالية بقدر ما كان أثراً من آثار الحكم الصالح، وتقدم الزراعة والصناعة ورواج التجارة"(1). وكلام ديورانت هذا يدل بشكل واضح على أن الدولة الإسلامية لم تكن دولة استعمارية، وأن الاقتصاد الإسلامي لم يكن قائماً على امتصاص دماء الشعوب ونهب خيراتها وثروات أراضيها، بل كانت الشعوب التي تدخل حظيرة الإسلام تنعم بعدالة الاقتصاد الإسلامي حتى ولو لم تدخل الإسلام. يقول المستشرق أستانلي لين بول في كتابه "حكم المسلمين في إسبانيا":"لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب"(2). ويذكر ديورانت أن المسيحيين في الأندلس كثيراً ما كانوا يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين (3)، وأن الأقاليم التي وقعت تحت حكم العثمانيين كرودس واليونان أو البيزنطيين أو البنادقة، حتى بلاد المجر نفسها ارتأت أن الأحوال فيها صارت تحت حكم سليمان إلى أحسن مما كانت عليه أيام آل هابسبرج(4).
__________
(1) - المرجع السابق - ج 13 - ص 293.
(2) - المرجع السابق - ج 13 - ص 292.
(3) - المرجع السابق - ج 13 - ص 297.
(4) - المرجع السابق - ج 26 - ص 113.(1/40)
أما الغرب الراقي اليوم، فإنه لم يستطع أن يوقف عود اقتصاده إلا بعد أن استعمر العالم وسيطر على موارده ومصادر ثروات شعوبه وامتص دماءهم. وهو لا يزال يمعن تفكيكاً وتمزيقاً لبلاد العالم وإشعالاً للفتن فيه، حتى يبقى متربعاً على عرشه ناقباً لمناجمه مستنبطاً آباره حاصداً أراضيه قاطفاً جنانه ومسخّراً طاقاته. ورغم غنى الغرب الفاحش وأمواله الطائلة لم يستطع النظام الرأسمالي أن يحسن توزيع الثروة بين أفراد المجتمع، فنرى الفروقات في مستوى الملكية تفوق حد التصور، ونجد في أغنى بلاد الغرب كالولايات المتحدة ألوفاً بل ملايين من العاطلين عن العمل الذين يسكنون الملاجىء أو المستودعات أو الأزقة أو ربما المجارير. ها هو أحد كبار الفاعلين في السياسة الأميركية وهو زبغنيو برجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر والذي يعمل حالياً مستشاراً في مركز الدراسات الاستراتيجية والعالمية بواشنطن يدق ناقوس الخطر من الأزمات المختلفة التي تعصف بالمجتمع الغربي عموماً ومجتمع الولايات المتحدة بشكل خاص فيقول حين كلامه عن المشاكل الاجتماعية والسياسية إنه على الرغم من إنفاق مبالغ هائلة في مجال النظام الصحي إلا أن عشرات الملايين من المواطنين الأمريكان لا يتمتعون بالرعاية الصحية المطلوبة، ويشكو من تهلهل البنية الاجتماعية وتداعي المرافق العمرانية حيث توجد أحياء سكانية فقيرة ومتداعية شبيهة بالموجود في أفقر دول العالم الثالث، ويتكلم عن "تجذر" مشكلة العنصرية والفقر، حيث تشير الإحصاءات إلى حقيقة مؤلمة ومخجلة وهي أن نسب الأمريكيين الذين يعيشون تحت خط الفقر يشكلون 7،35 مليون مواطن أمريكي، ولا يجد قسم كبير منهم سقفاً يستظل به، وهذه الحالة - على حد تعبير برجنسكي - لا تليق بالقوة العالمية الوحيدة(1).
__________
(1) - نقلاً عن مجلة الوعي - العدد 86 - مقال عن كتاب "خارج حدود السيطرة". الذي ألفه برجنسكي. ص 22 - 23.(1/41)
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن ذلك التماسك في المجتمع الإسلامي بين مختلف صُعده وفئاته وشرائحه ولا سيّما على صعيد الأسرة لم يشهده مجتمع من المجتمعات. ونحن في غنى عن وصف تلك الأوضاع الاجتماعية التي شهدها التاريخ الإسلامي والتي شهد بها الأعداء أنفسهم والتي لاتزال إلى حد كبير قائمة حتى اليوم، رغم التصدع الذي أحدثته الحضارة الغربية في مجتمعنا.
ولكن نظرة خاطفة إلى المجتمع الغربي ترينا مدى التفكك الاجتماعي والأسري الذي أخذ يفتّ من عضده وينكأ جراحه. ونعود لنترك الكلام لبرجنسكي حيث يشكو من "شيوع الإباحية الجنسية التي أصبحت "الطابع العام للحياة في أمريكا" وبالتالي فهي تهدد مكانة وبنية الخلية الأساسية في المجتمع وهي الأسرة، وذلك بتفاقم مشكلة ما يسمى بالأسر التي يقوم عليها أحد الأبوين (الأم غالباً) والتي تنشأ فيها أجيال من الأطفال غير الشرعيين، مع ما يصاحب هذه الظاهرة من آثار خطيرة تتمثل في تفكك الأواصر الاجتماعية. كما أن شيوع الإباحية الجنسية من أهم أسباب تفشي مرض الإيدز الخطر"(1). كما يشكو من "استشراء الفساد الأخلاقي على أوسع نطاق عن طريق وسائل الإعلام المرئية، إذ إن كل ما تقوم به هذه الوسائل باسم الترفيه هو نشر الفساد وبث مفاهيم الجنس والعنف كوسيلة لجذب المشاهدين"(2). ويتكلم عن "استفحال ظاهرة الجريمة والعنف التي تزداد تعقيداً بإمكانية حصول المدنيين على الأسلحة النارية بسهولة أكثر من حصول معظم جيوش العالم عليها، هذا بالإضافة إلى انتشار الأفلام وبرامج التلفزيون التي تشجع علىالعنف والجريمة، وهذا كله يجعل أمريكا تنفرد بأعلى نسب من جرائم القتل في العالم"(3). ولا ينسى أن يتكلم عن الانتشار المذهل للمخدرات، الظاهرة التي "تعود من ناحية إلى محاولة نفسية للهروب من واقع بائس، ومن ناحية أخرى إلى كون تجارة المخدرات
__________
(1) - المرجع السابق - ص 23.
(2) - المرجع السابق - ص 23.
(3) - المرجع السابق - ص 23.(1/42)
البديل الأكثر إغراء للحصول على الثروة بأسرع طريق. وتشير التقارير إلى أن تجارة المخدرات تدر على أصحابها مبلغاً يصل إلى 100 مليار سنويا"(1). وكدليل على فساد العلاقات بين أفراد المجتمع يتكلم عن "الإفراط في التحاكم إلى القضاء، وهي ظاهرة ليس لها مثيل في أية دولة أخرى، فرجال القضاء والمحامون في أمريكا يشكلون ثلث رجال القضاء في العالم"(2).
وفي دراسة أعدتها رابطة التجارة الإيطالية سنة 1993 اتضح أن 60 بالمائة من المتاجر والحانات والمطاعم تدفع أتاوات منتظمة لعصابات المافيا. وتقول الدراسة إن الجريمة تكسب سنوياً 25 مليار دولار من وراء الأتاوات التي يدفعها أصحاب المحلات في أنحاء البلاد. وهناك مدن تدفع مائة في المائة من محلاتها هذه الأتاوة، مثل مدينة بالرمو عاصمة صقلية، وهي تعتبر مركزاً للمافيا ووطناً أساسياً لها(3).
وفي بريطانيا يقول إحصاء رسمي إن 34% من المطلقين و 22% من المطلقات يعيشون مع شريك من دون زواج وتبلغ نسبة المولودين خارج الزواج 7،28 في المائة من المواليد في بريطانيا وفي 1990 ولد مائتا ألف طفل خارج الزواج في إنجلترا وويلز(4).
كل هذه الظواهر التي ذكرناها عن المجتمع الغربي - وهي غيض من فيض - نتيجة طبيعية وحتمية لوجهة النظر الغربية عن الحياة ولمفهوم السعادة في الذهن الغربي ولمقياس الأعمال في ذلك المجتمع.
وسنستمر في ترك الكلام لشاهد من أهلها، وهو برجنسكي الذي يسمي المجتمع الغربي - ولاسيما الأميركي - بعالم إباحية الوفرة فيقرر ما يلي:
__________
(1) - المرجع السابق - ص 23.
(2) - المرجع السابق - ص 22.
(3) - مجلة الوعي - العدد (70 - 71) - ص 44.
(4) - مجلة الوعي - العدد 57 - ص 10.(1/43)
عالم إباحية الوفرة عالم اختلت فيه موازين الأخلاق وموازين الخير والشر وتم إبدالها بموازين من صنع البشر "قانوني وغير قانوني"، وهكذا تم إقصاء القيم الدينية الداخلية في ضمير الفرد ووضعت مكانها قوانين وقواعد خارجية تنفذها أجهزة الشرطة والأجهزة القانونية، فلم تنتج الانضباط لوجود ثغرات عديدة في هذه القوانين ولأنها خارجية وغير ملزمة أدبياً، ولغياب الضوابط الداخلية المطلقة.
ويرى أن عالم إباحية الوفرة يشكو كذلك من اختلال مفهومي "الحرية" و"الحياة الطيبة"، حيث أصبح مفهوم الحرية إطلاق العنان لشهوات الأفراد دون التقيد بالمسؤوليات العامة ومصلحة المجتمع، وبالتالي أصبحت الحرية تعني انعدام الضوابط تماماً باستثناء الحالات التي تترتب عليها عقوبات قانونية.
أما مفهوم "الحياة الطيبة" المرتبط أساساً بمفهوم السعادة فهو -كما يرى برجنسكي - يعني في قاموس إباحية الوفرة طلب اللذة والمتعة الحسية من طريق جمع المادة والاستهلاك لأجل الاستهلاك، وبالتالي أصبحت الوفرة غاية في حد ذاتها لا وسيلة لتحقيق السعادة، ويشن برجنسكي بهذا الصدد حملة قوية على الإعلام الغربي وعلى التلفزيون بوجه الخصوص لقيامه بالدور الأكبر في نشر مبادىء الإباحية، والجري وراء المتع والشهوات المحمومة، وإشراب قيم إباحية الوفرة للناشئة وللعنصر النسائي بصفة خاصة(1).
__________
(1) - نقلاً عن: مجلة الوعي - العدد 86 - ص 20 - 21.(1/44)
أما التقدم المدني الذي يشمل العلوم والصناعة والتكنولوجيا والطب وما شاكل ذلك - والذي هو أبرز ما يفتخر به الغرب اليوم - فإنه لم يقم حائلاً أمام الشقاء والتعاسة اللذين يعاني منهما مجتمعه. فإن المدنية والعلوم هي وسائل يستخدمها الإنسان لتيسير سبل العيش ولخدمة طراز العيش ونمط الحياة التي يحياها، فإن كان هذا النمط من العيش ناجماً عن حضارة منحرفة وفكر خاطىء ونظام فاسد فإن هذه المدنية لن تزيد ذلك المجتمع والإنسانية عموماً إلا شقاء وتعاسة. يقول الفيلسوف الفرنسي غارودي الذي اعتنق الإسلام أوائل الثمانينيات:"وكما حدث في أثناء انهيار الإمبراطورية الرومانية، نعيش اليوم مرحلة "تعفن التاريخ" التي تمتاز من دون سواها بالهيمنة التقنية والعسكرية الساحقة لإمبراطورية ليس لها مشروع إنساني يمكن أن يعطي معنى للحياة وللتاريخ"(1). ويقول الفيلسوف الإنكليزي جود:"إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة الجديرة بالآلهة ولكننا نستعملها بعقول الأطفال والوحوش"(2).
لقد استخدمت الحضارة الغربية التكنولوجيا لصنع القنبلة الذرية التي أبادت الألوف من البشر، وأشعلت تلك الحضارة الحروب والفتن في العالم من أجل تسويق صناعاتها الحربية. والتكنولوجيا لدى هؤلاء أفسدت البيئة وأنتجت الأمراض العضوية المختلفة.
ثم ماذا نفع الطب أمام تلك الأمراض الفتاكة المستعصية التي أنتجتها حضارة الحريات والإباحية والشذوذ والرذيلة، حضارة الانفلات من كل القيم الروحية والخُلُقِية والإنسانية... إلا المادية؟! هل استطاع العلم أن يجمع شمل العائلة الغربية؟ هل استطاع أن يوقف الجريمة؟ هل وجد حلاً للأزمات النفسية التي يعاني منها ملايين البشر هناك؟
__________
(1) - نقلاً عن مجلة الوعي - العدد 63 - ص 10.
(2) - فهرس قصة الحضارة - ج 1 - ص 12.(1/45)
يقول الدكتور مراد هوفمان السفير الألماني لدى المغرب - وقد اعتنق الإسلام منذ عدة سنوات -:"لنتأمل معاً ضحايا ذلك المجتمع الصناعي وقيمة الحيدية المزعومة فحسب. إنهم يتمتعون بكل ما يريدون من الاستقلال الذاتي والحياة المؤمّنة منذ المهد إلى اللحد، والحرية أو الإباحية الجنسية التي لا تعرف محظوراً أو محرماً، والمخدرات على اختلاف أنواعها وأذواقها حسب كل مزاج وطلب، وأوقات الفراغ والعطلات والإجازات المكفولة قانونياً، وكافة الحقوق المدنية التي يحلم بها المرء، لكنهم على ذلك كله يحسون فراغاً هائلاً يملأ وجودهم الفعلي، ويتوقون إلى الحنان والدفء البشري من قبل الجماعة التي يعيشون معها أو ينتمون إليها وإلى سلطة زعيم روحي... وراء كل هذا يقبع سؤال خطير ملحّ عن مغزى الحياة أو الوجود"(1).
__________
(1) - مراد هوفمان - الإسلام كبديل - ص 29.(1/46)
إن التاريخ الإسلامي سجل لنا إسهامات في العلوم وإنتاجات في التكنولوجيا واكتشافات في الطب وإبداعات في الفنون والعمران وسائر الشؤون المدنية، جعلت من البلاد الإسلامية متحفاً رائعاً ومشهداً فتّاناً لكل من يفد إليه من الشرق والغرب. يقول ديورانت:"كان الإقليم المحصور بين بخارى وسمرقند يعد في أثناء القرن العاشر "إحدى الجنات الأرضية الأربع" وكانت الثلاث الأخر هي جنوبي فارس، وجنوبي العراق، والإقليم المحيط بدمشق في بلاد الشام"(1). ويقول:"كان العرب على جانب كبير من المهارة الآلية الفنية، وشاهد ذلك أن الساعة المائية التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان قد صنعت من الجلد والنحاس الأصفر المنقوش. وكانت تدل على الوقت بفرسان من المعدن يفتحون كل ساعة باباً يسقط منه العدد المطلوب من الكرات على صنجة، ثم ينسحبون ويغلقون الباب"(2). ويتابع قائلاً:"وبلغت بلاد آسية الغربية تحت حكم المسلمين درجة من الرخاء الصناعي والتجاري لم تصل إليها بلاد أوربا قبل القرن السادس عشر"(3).
لقد سخّرت المدنية في المجتمع الإسلامي لخدمة البشرية ولم تسخّر لإبادة الشعوب وإذلالها، فما قام به المسلمون كما تقول الفيلسوفة الألمانية زيغريد هونكة: "لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم"(4).
إن علماء الغرب أنفسهم يشهدون أن البنيان العلمي والتكنولوجي، وعلوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة وما شاكل ذلك مما توصل إليه الغرب اليوم قام بغالبيته بدعامة النظريات والمنجزات التي حققها العالم الإسلامي إبان عصور نهضته. تقول زيغريد هونكة:"لقد قدم المسلمون أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم"(5).
__________
(1) - قصة الحضارة - ج 13 - ص 107.
(2) - المرجع السابق - ج 13 - ص 108.
(3) - المرجع السابق - ج 13 - ص 108.
(4) - فهرس قصة الحضارة - ج1 - ص 11.
(5) - المرجع السابق - ج 1- ص 12.(1/47)
ويقول ديورانت:"لما أعلن روجر بيكن هذه الطريقة إلى أوربا بعد أن أعلنها جابر بخمسمائة عام كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبساً من نور المسلمين في الشرق"(1). ويقول الأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس): "إن النهضة أو إحياء العلوم والفنون الأوربية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص كانت تعزى في الأكثر إلى الاتصال المادي بين الشرق والغرب، لقد استفادت أوربا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي، ولكنها لم تعترف بهذا الجميل"(2).
إن تلك الثورة التكنولوجية، العظيمة التي شهدها القرن العشرون من اكتشاف الذرة واختراق للفضاء وغير ذلك، لا تعزى إلى الحضارة الغربية بقدر ما تعزى إلى تراكم المعلومات والاكتشافات والنظريات والقواعد المعرفية في الذهن البشري وسجلاته المدونة. أي إن تلك الثورة الصناعية كانت تنتظر أي حضارة ناهضة لتثمر على يديها فصادف أن كان دور الحضارة الغربية المعاصرة. بدليل أن النهضة الشيوعية - على ما فيها من مناقضة للحضارة الغربية - حققت إبان إزدهارها نفس المستوى الذي حققه الغرب من التقدم المدني والتكنولوجي، ولولا الانحطاط الذي ألمّ بكيان المنظومة الشيوعية ولاسيما الاتحاد السوفياتي لبقيت تزاحم الغرب في ذلك المجال. كما أن الحضارة الإسلامية اليوم أيضاً مرشحة لأن تلعب ذلك الدور إذا ما عادت الأمة الإسلامية إلى إحيائها من جديد.
لقد بدأت شعوب الغرب اليوم تكتشف أن نهضتها تلك ليست سبباً للسعادة بل هي سبب للشقاء والتعاسة والقلق والخوف والسعي وراء السراب.
__________
(1) - قصة الحضارة - ج 13 ص 292.
(2) - الإسلام على مفترق الطرق - ص 59.(1/48)
وصدق الله العظيم إذ قال: { والذينَ كَفَروا أعمالُهُم كَسَرابٍ بِقِيعةٍ يحسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءهُ لم يجدْهُ شيئاً وَوَجدَ الله عِندَهُ فَوفّاهُ حِسابَه والله ُ سريعُ الحساب }(1).
وإنه إذا كانت الشيوعية أقصر عمراً وأضيق نفساً فانهارت حضارتها بطرفة عين بسبب مصادمتها العنيفة للفطرة ونكايتها لعقل الإنسان وبديهته، فإن الحضارة الغربية سرعان ما ستلحق بها بعد أن تصل بالشعوب الغربية إلى الحضيض. وإذا كانت الشيوعية هي تلك المطرقة التي هوت على رأس الإنسان، أو ذلك المنجل الذي أصاب عنقه فأطاح برأسه وأرداه قتيلاً بالضربة القاضية، فإن الحضارة الغربية الرأسمالية هي ذلك السم الذي يجري في عروق الجسد دون أن يحس به الإنسان فتخور قواه شيئاً فشيئاً إلى أن يلقى حتفه وهو غافل عن نفسه. والذين تنبهوا إلى الخطر المحدق بالمجتمع الغربي يدعون، كما دعا برجنسكي الولايات المتحدة "إلى مراجعة كاملة للفلسفة المادية التي تقوم عليها حضارتها وإخضاع هذه الحضارة إلى عملية نقد ذاتي صارمة، كما أن على أمريكا أن تصل إلى قناعة بأن المجتمع الذي لا يمتلك قيماً وثوابت مطلقة، والذي يقوم على فلسفة تحقيق المتعة الذاتية وإرضاء النزوات هو مجتمع محكوم عليه بالانهيار والذوبان. وفي هذا الصدد يهيب برجنسكي بأمريكا أن تفقه دروس التاريخ في ازدهار الحضارات وانهيارها وفي تبوئها مرتبة الريادة وانحسارها عن هذه المرتبة فيقول: إن التاريخ يعلمنا أنه لا بد لأية قوة عظمى - لكي تحافظ على دور الريادة - من رسالة حضارية تقوم على فضائل الأخلاق وتكون نموذجاً يحتذى من الآخرين عن طواعية لا بالقوة والإكراه.... وفي غياب هذه الرسالة الحضارية فإن النموذج الأميركي سيتم رفضه كما رُفض النموذج الشيوعي السوفياتي من قبل"(2).
__________
(1) - سورة النور - الآية 39.
(2) - مجلة الوعي - العدد 86 - ص 25.(1/49)
أما نحن المسلمين، إيماناً منا بقوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً }(1)، فإننا على يقين أن العالم سيبقى يتخبط في مشاكله وأزماته حتى تعود الأمة الإسلامية من جديد إلى حمل الإسلام رسالة إلى العالم من أجل أن ينعم برحمة التشريع الإلهي الذي أُرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. وذلك لن يكون إلا بعد أن يستأنف المسلمون الحياة الإسلامية مجدداً بإعادة المجتمع الإسلامي الذي يعتنق الإسلام عقيدة ونظاماً للحياة والمجتمع والدولة، وحمل الرسالة إلى العالم.
والله عز وجل هو القائل في كتابه العزيز: { وَعَدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }(2).
وأما الانحطاط الذي ألمّ بالعالم الإسلامي، فإن نظرة عميقة نزيهة إلى تاريخه وحاضره ترينا أن العالم الإسلامي لم ينحطّ بسبب قصور المبدأ الإسلامي. فعقيدته هي العقيدة الصحيحة الموافقة لفطرة الإنسان ولعقله، والمنطبقةُ على واقع الكون والإنسان والحياة، ونظامه هو النظام الصحيح الذي نزل من عند الله تعالى لمعالجة مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً في كل زمان ومكان. ولكن ذلك الانحطاط كان بسبب تقصير المسلمين في فهمهم لذلك المبدأ وبالتالي إساءتهم لتطبيقه.
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 113.
(2) - سورة النور - الأية 55.(1/50)
فالمبدأ ليس دواء سحرياً يفعل فعله على نحو خيالي ساحر، بل إن فعله متوقف على أمة تعتنقه وتفهمه حق فهمه وبالتالي تحسن تطبيقه وصياغة مجتمعها به. والأمة الإسلامية آذنت بانحطاطها منذ أن رضيت بتحويل الخلافة إلى ملك، ومنذ أن أغلقت باب الاجتهاد وأهملت شأن اللغة العربية، فأغلقت على نفسها بذلك، الباب الذي تدخل منه عوامل نهضتها. ذلك أن الاجتهاد وفهم اللغة العربية هما الطريق الوحيد لفهم الإسلام وبالتالي لإحسان تطبيقه. فبدأ بنيانها الفكري بالتآكل وأصابه الهزال، فوجدت الحضارة الغربية القائمة على المبدأ الرأسمالي طريقها إلى المجتمع الإسلامي مفتوحاً. وظن المسلمون أن تلك الحضارة ستنهض بهم كما نهضت بالغرب، ونسوا أن عقيدتها تتعارض - من حيث الأساس - مع عقيدتهم التي يحملونها والتي لا يفكرون يوماً بالتخلي عنها.
وبما أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، فإن المسلمين مكلفون اليوم بالعمل على دراسة الإسلام من جديد دراسة عميقة صافية نقية واضحة، بمعزل عن أيّة غشاوة، وبعيداً عن كل اللوثات والسموم الفكرية التي تراكمت عبر عصور الانحطاط أو وفدت مع الغزو الفكري الغربي، من أجل أن يصوغوا مجتمعهم بأفكار الإسلام ومشاعره وأنظمته حتى يعود المجتمع الإسلامي المنارة التي تنير للشعوب والأمم درب الهداية والخلاص.
وصدق الله العظيم إذ قال: { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين }(1).
القسم الثاني
الحضارة الإسلامية
قال تعالى:
__________
(1) - سورة الأعراف - الآية 128.(1/51)
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) }
(إبراهيم)
الحضارة
إن كلمتي الحضارة و المدنية هما من أكثر المصطلحات شيوعاً في أيامنا هذه. ويجدر بنا - ونحن نبحث في موضوع الحضارات عموماً والحضارة الإسلامية خصوصاً - أن نقف عند مدلول هاتين الكلمتين، ولا سيما الكلمة الأولى: الحضارة، حتى يدرك القارئ ما نرمي إليه من معنى عند إيراد تلك الكلمة. صحيح كما يقال أن لا مشاحة في الاصطلاح، إلا أن ضبط الاصطلاح وتحديد مدلوله حين استخدامه أمر في غاية الأهمية، وذلك حتى لا تلتبس المعاني على السامع أو القارئ.
إن معنى كلمة الحضارة في اللغة هو كما ورد في لسان العرب: "الإقامة في الحَضَر (...) والحَضَر والحَضْرَة والحاضِرة : خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف". إذن، فحين تذكر الحضارة في اللغة فإنه يقصد بها ما هو عكس البداوة، أي سكن المدن والقرى. إلا أن هذا المعنى اللغوي للعبارة ليس هو المقصود حين الكلام عن الحضارة في النصوص الفكرية والتاريخية والسياسية المعاصرة. إذ أصبح لكلمة الحضارة مدلول اصطلاحي جديد مختلف عن المدلول اللغوي الأصلي.(1/52)
ونشأة هذا الاصطلاح تعود في الواقع إلى الدراسات الأوربيّة، وذلك حين درج الغربيون على استخدام كلمة "Civilisation" - وترجمتها إلى العربية الحضارة أو المدنية - للتعبير بها عن التطور المادي والصناعي والعمراني الذي أخذ يطّرد بسرعة خلال العصور الحديثة التي تلت القرن الخامس عشر الميلادي والتي سميت بعصور النهضة. إلا أن تلك العبارة تحولت مع مرور الوقت عن ذلك المدلول لتأخذ مدلولاً آخر جديداً. فقد أصبحت تطلق على ما يملكه شعب ما أو مجتمع ما أو أمة من الأمم من تراث وخصائص وإبداعات يتميز بها عن غيره من المجتمعات. فأصبح المؤرخون والمفكرون والكتّاب يتكلمون عن حضارات عديدة سالفة ومعاصرة. كالحضارة المصرية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة السومرية والرومانية والفارسية والصينية والهندية وحضارة أوربّا العصور الوسطى والحضارة الإسلامية وأخيراً الحضارة الغربية المعاصرة والحضارة الشيوعية وما شاكل ذلك.
وقد نقل هذا الاصطلاح الغربي إلى اللغة العربية باستخدام عبارتين هما الحضارة و المدنية. فأصبحت هاتان الكلمتان تستخدمان للدلالة على ذلك المعنى الاصطلاحي الجديد.
إلا أن المشكلة في هذا الاصطلاح، هي أن معظم الذين يستخدمونه يُدخلون في مدلوله كل ما يملكه مجتمعٌ ما أو يرثه أو يبدعه من أفكار وتشريعات وفنون وإنجازات علمية ومادية وغيرها، بصرف النظر عما هو من مميزات ذلك المجتمع وما ليس من مميزاته، من ذلك التراث وتلك الإنجازات والإبداعات التي يملكها.
مع أننا حين نتكلم عن حضارة مجتمع من المجتمعات، فإننا نتكلم عن طريقة العيش التي تميز ذلك المجتمع عن سائر المجتمعات. وواضح للعيان تاريخاً وحاضراً أن لكل مجتمع طريقة في العيش تميزه عن سائر المجتمعات تجعل منه جماعة بشرية ذات شخصية معينة ولون متميز وهوية خاصة، هذه الطريقة في العيش التي تميز مجتمعاً عن آخر هي ما يعبر عنه باصطلاح الحضارة.(1/53)
لذلك يجب أن يلحظ حين استخدام ذلك الاصطلاح وتعريف مدلوله أن لا يدخل ضمنه إلا ما هو من مقومات شخصية المجتمع التي تجعل منه مجتمعاً معيناً يختلف عن غيره من المجتمعات في طريقة عيشه، فلا تدخل الأشكال والوسائل المادية التي يستخدمها المجتمع في شؤون الحياة والتي لا يتميز بها عن غيره من المجتمعات. فالمصانع والسيارات والطائرات وسائر الإنجازات المادية التي تنتجها أمة من الأمم ليست هي التي تميزها عن غيرها من المجتمعات وليست هي التي تعطيها هويتها. فهذه أشكال ووسائل "حيادية"، وعامة لكل البشر والمجتمعات. فإننا نجد أن المجتمعات التي تتمسك بحضارتها وطريقة عيشها تقف بالمرصاد أمام كل وافد من الأفكار والأنظمة ووجهات النظر في الحياة، إلا أنها تستفيد في الوقت نفسه مما ينتجه أي شعب أو مجتمع من الأشكال والوسائل المادية ما لم تكن تلك الأشكال والوسائل متعارضة مع حضارتها التي تصوغ مجتمعها وتميز حياتها. بل إنك تجد الدولة الراقية التي تتمسك بحضارتها وتفتخر بها حريصة على مواكبة كل ما يتم إنجازه في البلاد الأخرى من الاختراعات والمبتكرات الفنية والتقنية والعلمية، إذ هي من أسباب القوة التي تحرص الأمة الراقية على امتلاكها. لذلك فإننا لا نستغرب أن يعمل كل من الحلفين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، على مواكبة ما ينجزه عدوه من مبتكرات وصناعات، بل قد يصل بهما الأمر في بعض الأحيان إلى سرقة التصاميم والمخططات العلمية والصناعية والهندسية والعسكرية. وهذا يعني أن هذه الإنجازات والمبتكرات من الأشكال والوسائل المادية ليست هي التي تطبع المجتمع بطابعه الخاص وهويته المتميزة. أما حين يكون الأمر متعلقاً بالعقائد والإديولوجيا والدراسات السياسية وما شاكل ذلك فإنك تجد كلاً من الفريقين متأهباً دائماً للمواجهة، إما عن طريق ضرب جدار سميك يحول بين تلك الأفكار ووصولها إلى مجتمعه، وإما عن طريق(1/54)
الدعاوة المضادة حيث يجند جيشاً من المفكرين والكتاب والنقاد الذين يوسعون الأفكار الوافدة ضرباً ونقضاً وتشويهاً.
كل ذلك يحتم علينا أن نضبط المصطلح الدال على نمط العيش و هوية المجتمع، فنميز بينه وبين ما يدل على مجموعة الأشكال والوسائل المادية المحسوسة المستعملة في شؤون الحياة، والتي هي عامة لجميع الشعوب والمجتمعات. وبالتالي فإننا نخصص كلمة الحضارة للدلالة على ما يميز المجتمع فيجعل له طريقة خاصة في العيش، ونجعل كلمة المدنية دالة على الوسائل والأشكال المادية المستعملة في شؤون الحياة. وبالرجوع إلى واقع المجتمعات وما يجعلها مجتمعات ذات لون معين ونمط خاص في العيش، نجد أن مجموعة المفاهيم التي يعتنقها مجتمع ما عن الحياة هي التي تعطيه هويته وشخصيته وتجعل له طرازاً خاصاً في العيش. إذ إن تلك المفاهيم هي التي تكيف علاقات الناس فيما بينهم في المجتمع، وما المجتمع إلا ناس قامت بينهم علاقات دائمية، وطبيعة هذه العلاقات في المجتمع هي التي تعطيه هويته وشخصيته(1). وبناء عليه يمكن تعريف الحضارة بأنها "مجموعة المفاهيم عن الحياة".
ونحن المسلمين أحوج ما نكون إلى ذلك التفريق بين الحضارة والمدنية. ذلك أن الإسلام جعل من الأمة الإسلامية أمة متميزة تحيا حياة ذات نمط خاص يتفرد كل التفرد عن سائر أنماط الحياة في المجتمعات البشرية. وما ذلك إلا لأن المجتمع الإسلامي قام على أساس عقيدة مصدرها الوحي الإلهي، انبثق عن هذه العقيدة نظام متماسك وانبنت عليها أفكار شاملة ونجمت عنها مشاعر، فصاغت علاقات الناس في المجتمع الإسلامي. فكانت الحضارة الإسلامية التي تجلت في ذلك المجتمع الإسلامي حضارة متفردة متميزة تتعالى كل التعالي على سائر الحضارات البشرية.
__________
(1) - راجع في هذا الكتاب "المجتمع ونهضته".(1/55)
وإذا لم يكن ذلك المصطلح موجوداً في عصور النهضة الإسلامية، فإن المسلمين فرقوا عملياً بين ما يجوز لهم أخذه من الشعوب والأمم الأخرى من وسائل وأشكال، وما يحرم عليهم أخذه مما هو مفاهيم عن الحياة، من عقائد وفلسفات وتشريعات وأنظمة وغيرها.
أما في عصرنا هذا، فمع شيوع اصطلاح الحضارة ومقولات التفاعل الحضاري و التبادل الثقافي، وإزاء الغزو الحضاري والثقافي الوافد من الغرب إلى البلاد الإسلامية، فإنه لا بد من إعطاء رأي الإسلام بوضوح فيما يجوز قبوله وما لا يجوز قبوله، مما يفد إلينا من الأمم والشعوب والدول الأخرى.(1/56)
فنقول، أما الحضارة فإنه لا يجوز أخذها من أي أمة من الأمم ولا من أي مجتمع من المجتمعات، ذلك أن حضارة المسلمين هي مجموعة المفاهيم الإسلامية عن الحياة، وهذه المفاهيم إمّا منبثقة من أفكار الإسلام أو مبنيّة عليها. وبما أن الإسلام هو دين الله الموحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقبل التداخل مع غيره من المذاهب والأنظمة والمبادئ، ويتسامى عن الاقتباس من أي حضارة أخرى. والناظر في التاريخ الإسلامي يلمس بجلاء أن الحضارة الإسلامية كانت بريئة من كل ما سواها من الحضارات الإنسانية. إذ لا يجوز للمسلمين أن يقتبسوا العقائد والفلسفات ولا الأنظمة والتشريعات. قال الله تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }(1)، وقال سبحانه : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون }(2)، وقال عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }(3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(4)، وقال عليه الصلاة والسلام : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(5)، وقال عليه الصلاة والسلام : "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"(6)، وقال في معرض التبكيت والذم : " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم" قيل : " يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟" قال : "فمن ؟!"(7).
__________
(1) - سورة المائدة - الآية 16
(2) - سورة الأعراف - الآية 3
(3) - سورة المائدة - الآية 3
(4) - رواه مسلم - كتاب الجمعة - الحديث 43
(5) - رواه مسلم - كتاب الأقضية - الحديث 17
(6) - رواه أحمد - 4/126
(7) - رواه مسلم - كتاب العلم - الحديث 6(1/57)
وبناء عليه، لا يجوز أخذ الفلسفات والعقائد من الكفار لتبنيها والاستفادة منها، وإن جازت دراستها للرد عليها ومجادلة أصحابها. ولا يجوز كذلك أخذ المبادئ من لبرالية وماركسية، ولا أخذ أنظمة الحكم من ديمقراطية وجمهورية وملكية ودكتاتورية وكنفدرالية وغيرها، ولا أخذ أنظمة الاقتصاد من رأسمالية واشتراكية وغيرها، ولا يجوز أخذ وجهات النظر عن الحياة كالحرية والإباحية والوجودية والارتقائية الماركسية أو الهيغلية أو غيرها. ذلك أن كل هذه هي مفاهيم عن الحياة والكون والإنسان أنتجتها عقول المشرعين الذين رسموا للناس حضارات تتنافى مع الحضارة التي يرضاها الله تعالى لعباده.(1/58)
أما المدنيّة، وهي "مجموعة الأشكال والوسائل المادية المستخدمة في شؤون الحياة"، فهذه يجوز أخذها والاستفادة منها، ما دامت غير ناجمة عن حضارة غير الحضارة الإسلامية، أو ما لم تكن متعارضة مع الحضارة الإسلامية. فهي تكون في هذه الحالة نتاجاً بشرياً حيادياً غير معبر عن وجهة نظر ولا طريقة عيش ولا عن حضارة من الحضارات. وذلك كما أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب حفر الخندق من الفرس حين أبلغه إياه سلمان الفارسي رضي الله عنه في غزوة الأحزاب، وكما أخذ عمر بن الخطاب أسلوب الدواوين من الفرس أيضاً، وهي شكل من أشكال المحاسبة المالية وإدارة الأعمال، وكما استفاد المسلمون على مر عصور نهضتهم من العلوم والإنجازات المادية التي أبدعتها الشعوب السالفة والمعاصرة لهم، إذ إن هذه الأشياء تنطبق عليها القاعدة الشرعية "الأصل في الأشياء الإباحة". وبناء عليه يجوز للمسلمين اليوم أن يأخذوا أو يقتبسوا من أي شعب من الشعوب الإبداعات المادية من عسكرية ومدنية وصناعية وغيرها، كالطائرة والسيارة والآلة العسكرية ومعدات الطب والهندسة والمختبرات والنظريات العلمية. بل ربما وجب ذلك في بعض الأحيان، وذلك حين تكون تلك الوسائل من أسباب القوة لقوله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }(1)، أو حين تكون تلك الأشكال والوسائل مما لا يتم الواجب إلا به. فإذا كان تصريف الأعمال في مؤسسات الدولة يقتضي العمل بأنظمة إدارة الأعمال وإدخال أجهزة "الكمبيوتر"، وإذا كانت رعاية شؤون الناس تقتضي من الدولة تنظيم السير والبناء والأسواق بأساليب حديثة، فلا بأس في استفادة تلك الأساليب من أي دولة من الدول. ذلك أن كل هذه الأشكال والوسائل المدنية لا ترتبط بحضارة من الحضارات.
__________
(1) - سورة الأنفال - الآية 60(1/59)
أما إن كانت تلك الوسائل والأشكال ناجمة عن حضارة غير الإسلام ومتعارضة مع الحضارة الإسلامية، فإنها في هذه الحالة تأخذ حكم الحضارة، فلا يجوز للمسلمين أخذها والانتفاع بها. مثال ذلك أن صورة امرأة عارية هي في الغرب شكل مدني، ولكن هذا الشكل المدني يرتبط بالحضارة الغربية التي أنتجت الانحلال والفساد الخلقي باسم الحرية بجميع أشكالها. فهذا الشكل المدني مما لا يجوز للمسلمين أخذه لأنه يتعارض مع الإسلام وحضارته التي تعُدّ المرأة عرضاً يجب أن يصان. وكذلك مصانع الخمور وآلات قتل الذبائح المخالفة للطريقة الشرعية، وأسواق البورصة القائمة على العقود الربوية وما شاكلها. فهذه كلها أشكال ووسائل أنتجتها حضارة غير الحضارة الإسلامية، وتتعارض مع الإسلام فلا يجوز أخذها.
ويأخذ حكم الوسائل والأشكال المدنية، كل الفنون والأزياء، فإن كانت ترتبط بوجهة نظر أو حضارة أو دين غير الإسلام، فلا يجوز للمسلمين أخذها. فلا يجوز لهم ارتداء أزياء الرهبان والراهبات والكهّان ومن شاكلهم، إذ لا يجوز التشبه بالكفار.
وخلاصة الكلام، أن الحضارة هي "مجموعة المفاهيم عن الحياة" فلا يجوز للمسلمين أخذها أو أخذ شيء منها من غير الإسلام، لأن إسلامهم أعطاهم حضارة كاملة متميزة. وأما المدنية - وهي مجموعة الأشكال والوسائل المادية المستعملة في شؤون الحياة - فإنها عامة لجميع البشر والمجتمعات، ويجوز للمسلمين أخذها ما لم تتعارض مع الإسلام وحضارته.
الإسلام المبدأ
إن الإنسان بطبعه وفطرته يبحث عن السعادة والرقي والرَّفاهَةِ، ويسعى إلى حياة كريمة يتجلى فيها ارتفاعه وعلوه فوق سائر المخلوقات.(1/60)
ولقد بحث الإنسان منذ القدم عن السبيل لتحقيق هذا الرقي والرَّفاهِيَةِ من أجل الوصول إلى السعادة، فشرع المفكرون والفلاسفة والمشرعون بوضع النظريات والعقائد والإيديولوجيات من أجل ذلك الهدف، وسار الناس وراء هؤلاء على اختلاف اتجاهاتهم ونظرياتهم وفلسفاتهم. ولكن، هل حقق جميع هؤلاء غايتهم وأملهم المنشود ؟ الجواب بالطبع ... لا.
ذلك أن هؤلاء لم يدركوا الطريق إلى النهضة الصحيحة، وبالتالي إلى السعادة.
إذا أراد الإنسان أن يحصل على النهضة الصحيحة وبالتالي على السعادة عليه أن يحصل على السلوك البشري السويّ. فسلوك الإنسان هو السبب في أن يؤدي بصاحبه إلى النهضة أو إلى الانحطاط. فما هو السلوك ؟
إن السلوك هو مجموع ما يقوم به الإنسان من أعمال في حياته ومجتمعه. وهذه الأعمال مردّها جمعيها في حقيقة الأمر إلى تلك الطاقة الحيوية التي يتمتع بها الإنسان.
الطاقة الحيوية في الإنسان هي التي تدفعه إلى القيام بالأعمال التي نشاهده يقوم بها. وهذه الطاقة الحيوية، هي مجموع ما لدى الإنسان من حاجات عضوية وغرائز، والتي يشعر الإنسان بالحاجة إلى إشباعها. فهو يريد أن يأكل ويشرب، ويريد أن يلبس وأن يمتلك وأن يدافع عن نفسه ويريد أن يقدّس ويبجّل ... وغير ذلك من الحاجات التي نراه يسعى لإشباعها، { زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا...}(1).
وقد وجد الإنسان أن وسائل إشباع هذه الحاجات والرغبات موجودة في الأشياء التي حوله والتي سُخّرت له، فاندفع ليحصل منها على ما يحتاجه ويريده. وهنا وجد نفسه أمام مشكلة :
__________
(1) - سورة الزخرف - الآية 32(1/61)
ما هي طريقة الانتفاع بالأشياء التي حوله ؟ أي ما هي طريقة إشباع حاجاته وغرائزه ؟ فالانتفاع بتلك الأشياء، وإشباع الحاجات والغرائز لدى الإنسان ليس عملية آلية وتلقائية كما هو شأن البهيمة، وإنما لدى الإنسان ذهن يضع أمامه الكثير من الخيارات والسبل للانتفاع والإشباع.
فإذا اختار الإنسان كيفية معينة للانتفاع بالأشياء وطريقة معينة لإشباع حاجاته وغرائزه فإنه يكون قد اختار سلوكاً معيناً، فهذا هو السلوك. إنه تلك الكيفية التي اعتمدها في إشباع رغباته وتلك القواعد التي تتحكم بتصرفاته وأفعاله وردود الأفعال التي تصدر عنه، ومواقفه إزاء الأشياء والأحداث التي يعاينها، وطريقة علاجه للمشاكل التي تعترضه في حياته.
والآن بعد أن عرفنا السلوك، نأتي إلى البحث الجوهري. ما هو السلوك السوي المؤدي إلى النهضة الصحيحة، وبالتالي إلى السعادة ؟ والإجابة تبدأ بما يلي :
إذا أردنا العثور على السلوك السوي، فلا بد لنا من الحصول على الفكر الصحيح، ذلك أن سلوك الإنسان مرتبط بمفاهيمه، وهو يكيّف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عن الأشياء. فسلوك الإنسان كما قررنا هو مجموع علاقاته مع الأشياء والناس من حوله، ومفهوم الإنسان عن تلك الأشياء هو الذي يعين له موقفه منها. فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه تكيف سلوكه نحوه، على النقيض من سلوكه مع شخص يبغضه وعنده مفاهيم الكراهية عنه، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه. لذلك إذا أردنا أن نرتقي بسلوك الإنسان فلا بد من أن نوجد له المفاهيم الصحيحة أولاً، { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }(1).
__________
(1) - سورة الرعد - الآية 11(1/62)
إلا أنه لا يتأتى وجود هذه المفاهيم عن الأشياء، إلا إذا كانت مستندة إلى الفكر عن الحياة الدنيا، أي كانت نابعة من وجهة نظر عن الحياة الدنيا، توضح للإنسان معنى وجوده في هذه الحياة والغاية منها. فإن هو حدد لنفسه الغرض من وجوده في هذه الدنيا وماهي المهمة التي تفرضها عليه تلك الغاية استطاع أن ينظر من خلالها نظرة ثابتة إلى الأشياء، فيكيف سلوكه تجاهها على نحو يجعله منسجماً مع نفسه.
والفكر عن الحياة الدنيا أيضاً، لا يتركز تركزاً منتجاً إلا بعد أن يوجد الفكر عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، وذلك بإعطاء الفكرة الكلية عما وراء هذا الكون والإنسان والحياة، لأنها القاعدة الفكرية التي تُبنى عليها جميع الأفكار عن الحياة. ذلك أن الإنسان يشعر ويدرك أن الحياة هي حلقة ضمن سلسلة متصلة الحلقات، وبالتالي فهي جزء من كل، لذلك كان إعطاء الفكرة الكلية عن هذه الأشياء هو حل العقدة الكبرى عند الإنسان، والتي ما زالت تلح عليه منذ أن وجد على وجه الأرض، ولا زالت تقلقه مالم يحلّها. ومتى حلت هذه العقدة الكبرى حلت باقي العقد، لأنها جزئية بالنسبة لها أو فروع عنها.
فإذا ما حصل الإنسان على هذا الحل فإنه يكون قد حصل على العقيدة، وعلى القاعدة الفكرية التي يبنى عليها كل فكر فرعي عن السلوك في الحياة وعن أنظمة الحياة. وبعبارة أخرى يكون قد حصل على "المبدأ".
فالمبدأ في اصطلاح الناس جميعاً هو الفكر الأساسي الذي تبنى عليه أفكار. ولا يصح أن يسمى الفكر مبدأ إلا إذا كان فكراً أساسياً تنبثق عنه كل الأفكار عن الحياة. والفكر الأساسي هو الذي لا يوجد قبله فكر مطلقاً. وهذا الفكر الأساسي محصور في الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة ولا يوجد غيرها فكر أساسي، لأن هذا الفكر هو الأساس في الحياة.(1/63)
وإن هذا المبدأ كفيل بأن ينهض بالإنسان، إلا أنه لا ينهض به النهضة الصحيحة إلا إذا كان حلاً صحيحاً يوافق فطرة الإنسان، ويقنع العقل، فيملأ القلب طمأنينة.
والمبدأ لا بد أن ينشأ في ذهن شخص، إما بوحي الله له به وأمره بتبليغه، وإما بعبقرية تشرق في ذلك الشخص. أما المبدأ الذي ينشأ في ذهن إنسان بوحي الله له به، فهو المبدأ الصحيح، لأنه من خالق الكون والإنسان والحياة، وهو الله تعالى، فهو مبدأ قطعي الصحة. وأما المبدأ الذي ينشأ في ذهن شخص بعبقرية تشرق فيه فهو مبدأ باطل، لأنه ناشىء من عقل محدود يعجز عن الإحاطة بالوجود، ولأن فهم الإنسان للتنظيم عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، مما ينتج النظام المتناقض المؤدي إلى شقاء الإنسان، لذلك كان المبدأ الذي ينشأ في ذهن شخص باطلاً في عقيدته وفي نظامه الذي ينبثق عنها، { اتَّبِعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }(1).
من هنا كان الإسلام هو المبدأ الوحيد الصحيح في الدنيا، فالإسلام الذي أوحاه الله تبارك وتعالى إلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وختم به الرسالات عمد إلى العقدة الكبرى فحلها للإنسان حلاً يوافق الفطرة ويملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة.
__________
(1) - سورة الأعراف - الآية 3(1/64)
فلقد بيّن الإسلام أن وراء الكون والحياة والإنسان خالقاً خلقها هو الله تعالى، ولذلك كان أساسه الاعتقاد بوجود الله تعالى. والإيمان بالله يجب أن يقترن بالإيمان بنبوة محمد ورسالته، وبأن القرآن الكريم كلام الله، فيجب الإيمان بكل ما جاء به. ولهذا كانت العقيدة الإسلامية تقضي بأنه يوجد قبل الحياة ما يجب الإيمان به، وهو الله تعالى، وتقضي بالإيمان بما بعد الحياة وهو يوم القيامة، وبأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مقيد بأوامر الله ونواهيه، وهذه هي صلة الحياة الدنيا بما قبلها، ومقيد بالمحاسبة على اتباع هذه الأوامر واجتناب هذه النواهي، وهذه هي صلة الحياة الدنيا بما بعدها. ولذلك كان حتماً على المسلم أن يدرك صلته بالله تعالى حين القيام بالأعمال - أي في سلوكه - فيسيّر أعماله بأوامر الله ونواهيه.
ومن أجل أن يسيّر الإنسان أعماله وفق أوامر الله ونواهيه، وحتى تكون العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية لمفاهيمه، جعل الله تعالى الشريعة الإسلامية شريعة شاملة لكل نواحي الحياة، تنظم سلوك الإنسان كله، وتعالج جميع مشاكله وتنتظم جميع أفعاله. فأعطى حكماً شرعياً لكل فعل من أفعال العباد، فإن أي فعل من أفعال العباد ينطبق عليه أحد الأحكام الشرعية الخمسة وهي : الوجوب والتحريم والندب والكراهية والإباحة. قال تعالى : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء }(1).
ومن مجموع تلك الأحكام الشرعية تكونت أنظمة الحياة. فعلاوة على أحكام العبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات، شرع لنا الإسلام أنظمة للحياة والمجتمع والدولة، بما في ذلك سياستها الداخلية، من نظام للحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم، وكذلك سياستها الخارجية من أحكام الجهاد والمعاهدات والحرب والسلم وغيرها. قال عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }(2).
__________
(1) - سورة النحل - الآية 89
(2) - سورة المائدة - الآية 3(1/65)
وبذلك كان الإسلام المبدأ الوحيد الكفيل بإنهاض البشرية النهضة الصحيحة وإيصالها إلى السعادة الحقيقية. وإن التاريخ خير شاهد على هذه الحقيقة العظيمة. فالقرون التي شهدت تطبيق الإسلام بشكله الصحيح شهدت أعظم نهضة عرفها النوع الإنساني. وإذا أراد البشر اليوم – وعلى رأسهم المسلمون - أن ينعموا بنهضة تعلي الإنسان وتكرمه وتوصله إلى السعادة، فعليهم أن يعيدوا المبدأ الإسلامي إلى معترك الحياة من خلال تطبيقه في المجتمع والدولة. عندها سيخرجون من دياجير الظلم والظلمات إلى رحابة النور والعدل. وصدق الله العظيم إذ قال : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات }(1).
لا إله إلا الله محمد رسول الله
القاعدة الفكرية للمسلمين
قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً }(2).
إن الإنسان الراقي، هو ذلك الإنسان الذي يتخذ لفكره قاعدة معينة يسير وفقها وتعيّن له وجهة نظره في الحياة وتجعل من أفكاره بنياناً متكاملاً ونسقاً متناغماً، فلا تتضارب أفكاره ولا تتناقض ولا يأكل بعضها بعضاً، مما يجعل منه شخصية متميزة ذات لون معين واتجاه ثابت وموقف حازم ورأي واضح.
أما الإنسان الذي لا يملك تلك القاعدة الفكرية فإنه يحمل مزيجاً من الأفكار غير متجانس ولا متكامل، وإنما هو مزيج من المتناقضات والمتنافرات. فكل فكرة تضرب الأخرى وكل رأي يأكل الآخر. وهذا الإنسان لا يثق بفكرة يحملها، ولا يجزم برأي يصدره،ولا يثبت على موقف يتخذه،وأفكاره هي دائماً في مهب الريح، عرضة لأن تتطاير مع أية نسمة تمر بها. وهذا ما يجعل منه شخصية مضطربة متلونة ضعيفة، إنها الشخصية "المنخفضة".
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 257
(2) - سورة النساء - الآيتان 174-175(1/66)
لذلك أراد الله عز وجل لعقيدة المسلمين أن تكون أساساً لتفكير المسلم كله وسلوكه كافة. قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }(1). فالعقيدة الإسلامية ليست كسائر العقائد الدينية، تتناول جزءاً من تفكير الإنسان وتلقي بظلالها فقط على كمية محدودة من أفكاره. بل هي العقيدة التي لا يتأتى لمسلم يعتنقها ويفهمها حق فهمها إلا أن يبني كل أفكاره وثقافته وآرائه عليها، وأن لا يحمل أي رأي أو فهم يناقضها، وهذا ما يجعل من العقيدة الإسلامية قاعدة فكرية. وهكذا نفهم أول آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }(2).
ومن هنا وجب على المسلم أن يستحضر عقيدته وما تحويه وتقتضيه من أفكار، حين يستمع لأي فكر، وحين يقرأ أي بحث، وحين يرى أي حدث ويسمع أي خبر. وبذلك فإن ذهنه لن يتقبل أي مفهوم يتعارض مع عقيدته التي يحملها.
فالعقيدة الإسلامية هي الجواب الجازم على الأسئلة الأساسية التي تشكل العقدة الكبرى لدى الإنسان. إنها الإجابة القاطعة عن أصل الإنسان والكون والحياة وعن مآلها، وهي التي تفسر للإنسان معنى وجوده والغاية التي يحيا من أجلها. وبذلك كانت جديرة بأن تكون الأساس لكل ثقافة الإنسان والسراج الذي ينير له طريقه في حياته الدنيا، قال تعالى : { أوَ من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }(3). ولأن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الصحيحة الحقة التي أوحاها الله تعالى إلى كل أنبيائه، كانت كفيلة بأن تعطي الإنسان موقفاً من كل فكر ورأي وحدث، قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء }(4).
انظر إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وهما تبينان هذه السمة الجوهرية للعقيدة الإسلامية.
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 208
(2) - سورة العلق - الآية 1
(3) - سورة الأنعام - الآية 122
(4) - سورة النحل - الآية 89(1/67)
{ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون }(1).
إن الكلمة الطيبة التي تذكرها الآية الكريمة كما فسرها أغلب المفسرين هي العقيدة الإسلامية، قال ابن عباس : "الكلمة الطيبة لا إله إلا الله"، وقال مجاهد وابن جريج : "الكلمة الطيبة الإيمان"(2). فالله تعالى يشبه الإسلام بالشجرة الطيبة الطاهرة، فكما أن أصل تلك الشجرة ثابت في الأرض مكين قوي، كذلك الإسلام فإن عقيدته هي أصل مقطوع به جازم يقيني، صالح لأن يكون أساساً لكل فروعه من أحكام وأفكار وآراء ووجهة نظر. وكما هي تلك الشجرة التي ذكرتها الآية والتي تذكر الآثارُ النبوية أنها النخلة(3) تؤتي أُكُلها كل حين، فلا تعرى من الورق، ويأكل الإنسان من ثمرها على مدار السنة بلحاً ورطباً وتمراً، كما هي تلك الشجرة فكذلك الإسلام، يؤتي أكله كل حين بإذن الله تعالى، فلا يعجز عن إمداد المسلم وإسعافه بالموقف اللازم إزاء أي فكر أو رأي أو حدث من الأحداث.
ثم بعد ذلك يأتي قوله تعالى : { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة...}(4)، فتؤكد هذه الآية المعنى ذاته. فالقول الثابت كما يقول ابن عباس هو "لا إله إلا الله". فالعقيدة الإسلامية هي التي تجعل من المسلم إنساناً ثابتاً وطيداً أمام كل استحقاقات الحياة.
__________
(1) - سورة إبراهيم - الآيتان 24-25
(2) - راجع تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن - الجزء التاسع- ص 359
(3) - المرجع السابق، جـ9- ص359
(4) - سورة إبراهيم - الآية 27(1/68)
وتأمّلْ في قوله تعالى : { ومن يؤمن بالله يَهْدِ قلبه والله بكل شيء عليم }(1). فالله عز وجل يخبرنا في هذه الآية الكريمة أن الإيمان به -وبالتالي الإيمان بما أوجب من العقائد- هو الذي يهدي قلب الإنسان. والقلب حين يرد ذكره في القرآن الكريم فإنه يراد به غالباً العقل، قال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها }(2). وبذلك يكون الإيمان بالله مرشداً للعقل موجهاً له في كل ما يعترض الإنسان في حياته، ولذلك ختم الله تعالى الآية بقوله : { والله بكل شيء عليم }، أي إن الله هو الذي يعلم كل شيء وهو القادر على أن يعلم الإنسان ما يلزمه في حياته، كما في قوله تعالى: { واتّقوا الله ويُعَلِّمُكم الله }(3).
هذه هي أهم سمة ميّزت المسلمين الذين حملوا الإسلام في صدر التاريخ الإسلامي. فأولئك الصحابة الذين كانوا في الجاهلية يحملون عقائد الكفر ويعبدون الأوثان ويقارفون الفواحش ويئدون البنات ويحيوْن حياة الانحطاط والتخلف ويتخلقون بأخلاق القبلية العصبية الجاهلية، أولئك تحولوا بمجرد أن أصبحت العقيدة الإسلامية قاعدة تفكيرهم إلى أناس آخرين، وكأن تلك الأبدان أصبحت تحوي في داخلها نفوساً أخرى غير تلك التي كانت تحويها. فإذا الرجل منهم يصبح شخصية متميزة ترفض كل عقائد الجاهلية وتأنف عاداتها الهابطة وتزدري مفاهيمها وتقاليدها البالية العفنة. وإذا بتلك القاعدة الفكرية الجديدة تنير لهم طريق الرشاد وتكشف لهم الأشياء على حقيقتها والناس على قدرهم، وتملأ عقولهم بثقافة عظيمة هي بمثابة البنيان الشامخ والصرح العظيم الذي قام على الأساس المتين، حتى اصبح الواحد منهم يوصف بحق بأن سلوكه القرآن.
__________
(1) - سورة التغابن - الآية 11
(2) - سورة الحج - الآية 46
(3) - سورة البقرة - الآية 282(1/69)
وبهذه القاعدة الفكرية، وما انبنى عليها من أفكار وأحكام وأنظمة، استطاعوا أن يحدثوا ذلك الانقلاب الشامل في جزيرة العرب لتتحول من الوثنية المنحطة إلى الإسلام الصرف النقي الصافي، الذي ودع عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين قائلاً : "تركتكم على المَحَجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك "(1). وبها أيضاً انطلقوا خارج الجزيرة العربية فاتحين العالم، ليواجهوا أمماً تحمل في أذهانها وضمائرها ثقافات عريقة وحضارات مزدهرة، فما كان من هؤلاء إلا أن ألقوا سلاحهم وهجروا قواعدهم الفكرية مقبلين على عقيدة الإسلام التي انهارت أمامها كل الحضارات والثقافات، ولم يصمد أمام قوتها فكر ولا دين.
ذلك أن هؤلاء المسلمين الأوائل حين واجهوا الثقافات والحضارات الأخرى، عمدوا إلى قواعدها الفكرية فنسفوها من أساسها. وميزوا بين ما يتعارض مع قاعدتهم الفكرية من تلك المعارف فردّوه ورفضوه، بل ونفوه من أذهان أصحابه، وبين ما يتوافق معها من المعارف فأخذوه واستفادوا منه وأسهموا في إثرائه وإنمائه. فإنهم في الوقت الذي أخذوا فيه علوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والحساب والفلك وعلوم الإدارة والفنون العسكرية والحربية والملاحية وغيرها من العلوم والأشكال المدنية وجعلوها من أسباب قوتهم، لم يفكروا في اقتباس العقائد والأديان والأنظمة والتشريع والإديولوجيات. وإنه وإن وجد بعض الناس ممن تأثروا بالفلسفة اليونانية وعُرفوا زوراً باسم الفلاسفة المسلمين، أو ممن تأثروا بالفلسفة الهندية أو بالفكر الفارسي، إلا أن هؤلاء كانوا قلة عزلهم المجتمع الإسلامي ولم يعبّروا عن التيار الفكري للأمة الإسلامية آنذاك.
__________
(1) - رواه الإمام أحمد في مسنده - 4/126.(1/70)
ولكن حين حلت بالمسلمين عصور انحطاطهم بدأوا يغفلون عن تلك الميزة التي تميزت بها عقيدتهم من كونها قاعدة فكرية، فبدأوا يتقبلون الأفكار والآراء والمذاهب التي تتعارض معها وتنافيها. فرأينا أناساً كثراً من المسلمين يتكلمون في الفلسفة ويجرون وراءها رغم كونها تتعارض من حيث الأساس مع طريقة التفكير الصحيحة التي جاء بها الإسلام والتي طرح عقيدته من خلالها، ورغم كونها تحوي أفكاراً تتعارض مع العقيدة الإسلامية من حيث الأساس، وربما أوصل بعضها إلى الكفر.
ورأينا أناساً من المسلمين يتغنون بالآداب الجاهلية ثم الأوربيّة غافلين أو متغافلين عن معارضتها لوجهة النظر الإسلامية.
وعلوم النفس والاجتماع والتربية التي يظهر فسادها، أصبحت تؤخذ وتدرس بكل راحة ضمير، بل وتدرس أحياناً في المعاهد الشرعية على الرغم مما فيها من أفكار فاسدة ومخالفة للإسلام علاوة على فساد منهجها.
وأصبح الدارسون للتاريخ ينجرفون مع علماء الغرب وفلاسفته في نظرتهم للتاريخ وفي تفسيرهم لحركة التاريخ، ويطبقون على تاريخهم الإسلامي النظريات التي ورّدها لهم الغرب، كأن يقولوا إن الحضارة الإسلامية هي امتداد للحضارات السالفة من جاهلية وهندية ويونانية ورومانية وفارسية. بل وربما وجدت بعض المتدينين من الباحثين والمؤرخين ينساقون مع النظرية التي ابتكرها بعض من يسمون بعلماء "الأنتروبولوجيا" من الغربيين والتي تدعي بأن الإنسان لم يكن في الأصل مفكراً، وبالتالي لم يكن هناك ما يميزه عن البهائم، وربما كان قرداً. وهي النظرية التي تتوافق مع نظرية داروين عن النشوء والارتقاء، والتي استساغ بعض الدارسين لعلم الأحياء (البيولوجيا) من المسلمين القول بها مع معارضتها لعقيدة الإسلام من حيث الأساس.(1/71)
أما الدارسون لما يسمى بالعلوم السياسية، فلم يفرقوا بين ما يتعارض مع قاعدتهم الفكرية من تلك المعارف وما لا يتعارض معها، أي لم يفرقوا بين الفكر السياسي وأنظمته من جهة - والتي يحرم الإسلام أخذها من غير الشرع - والأنظمة والقوانين الإدارية من جهة أخرى والتي يجوز أخذها كما أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظام الدواوين. وباتوا يأخذون الأفكار والأنظمة السياسية من الشرق والغرب، بل ويصلون إلى حد إلصاقها بالإسلام، كأن يقولوا بأن الإسلام ديمقراطي أو اشتراكي أو بأن نظامه نظام حر أو لبرالي أو ما شاكل ذلك.
ومثلهم الدارسون للاقتصاد، فإنهم لم يعودوا يفرقون بين الأنظمة الاقتصادية التي يحرّم الإسلام أخذها من غير الشرع وبين علم الاقتصاد الذي يبحث في وسائل تنمية الثروة الأهلية وحل الأزمات الاقتصادية وما شاكل ذلك، والتي يجوز أخذها بشرط عدم مخالفة الأحكام الشرعية. وراحوا يفاضلون بين النظام الاشتراكي والرأسمالي ليقرروا ما هو النظام الأصلح، غافلين عن أنهم يملكون أعظم نظام اقتصادي في العالم.
أما من حيث التشريع والقوانين، فقد أصبح كثير من المسلمين يستسيغون التحاكم إلى المحاكم التي تفصل خصوماتهم بالتشريعات والقوانين الوضعية التي لم تنبثق عن العقيدة الإسلامية، وأصبحوا يقبلون بأن يرعى الحكام شؤونهم بتلك التشريعات والقوانين.
هذه نماذج قليلة جداً من التخبط الفكري الذي تعانيه الأمة الإسلامية نتيجة تغييب العقيدة الإسلامية كقاعدة فكرية من الحياة، فليس غريباً مع حال كهذه أن نرى المسلمين في هذه الحالة من الانحطاط والتردي، فقد فقدوا هويتهم وشخصيتهم ومميزاتهم الحضارية، فأنّى لهم أن يدّعوا النهضة مع كل هذه المقَاتل ؟! فلا سبيل للمسلمين اليوم، من أجل العودة إلى سابق عزهم وقوتهم ونهضتهم، إلا باعتماد العقيدة الإسلامية قاعدةً فكرية يبنون عليها من جديد صرحهم الفكري والحضاري.
الإسلام
نظام الحياة والمجتمع والدولة(1/72)
لقد اكتشف الإنسان منذ أول تاريخه أن ليس بإمكانه العيش وحيداً منفرداً، وإنما هو بحاجة لأن يعيش ضمن جماعة بشرية تقاسمه ذات الشعور والأحاسيس، وتسعى لتحقيق نفس الأهداف والغايات التي يسعى لها.
ذلك أن هذا الإنسان أدرك بشكل جازم أن كثيراً مما يحتاجه لإشباع حاجاته ورغباته ولتأمين متطلبات حياته موجود لدى الآخرين. في الوقت الذي يملك هو فيه من الطاقات والإمكانيات والمواهب ما يحتاجه الآخرون، فهناك كثير من استحقاقات الحياة يعجز الإنسان عن مواجهتها بمفرده. من هنا رأينا الإنسان منذ القدم يعيش في جماعات بشرية كبيرة أو صغيرة، أطلق على هذه الجماعات اسم المجتمع.
في ذلك المجتمع يجتمع الناس ليتبادلوا المصالح والمنافع، وتقوم بذلك بينهم العلاقات الدائمية التي من شأنها أن تحافظ على استمرارية تبادل المنافع والمصالح. ونتج عن ذلك تخصص الناس في المهن والحرف والأعمال، فوُجد الفلاح والصناعي والحرفي والبناء والتاجر الذي ينقل السلع بين الناس والطبيب الذي يعالج أمراضهم والفنان الذي يرضي رغباتهم ونزعاتهم... وهكذا. قال تعالى: { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ...}(1).
__________
(1) - سورة الزخرف - الآية 32(1/73)
وقد أدركت المجتمعات البشرية بشكل جازم أيضاً، أن المجتمع حتى تدوم علاقاته ولا يتفكك وينهار، لا بد له من نظام هو بمثابة القواعد السلوكية التي يتقيد بها أعضاؤه والتي تنظم العلاقات بين الناس فيه وتعالج المشاكل الناتجة عن تلك العلاقات، وأنه لا بد من قيام سلطة في ذلك المجتمع تقوم على حفظ ذلك النظام وتطبيقه ورعاية شؤون المجتمع به وتمنع مخالفته وتأخذ على يد مخالفيه. لأن الناس إن تركوا ليحقق كل فرد منهم مصلحته كيفما أراد ولينال غاياته من الآخرين على مزاجه وهواه فإن المجتمع سيتحول إلى شريعة الغاب التي يأكل القوي فيها الضعيف، أو لتحول الناس إلى أسماك يأكل الكبير منها الصغير، وبالتالي سينهار المجتمع ويتحول عن كونه مجتمعاً. من هنا رأينا الناس منذ فجر التاريخ يتعارفون داخل مجتمعاتهم على نظام معين ويحرصون على تطبيقه، ورأيناهم دائماً يذعنون لسلطة ترعى شؤونهم بهذا النظام وتفرض الالتزام به على كل الأفراد وتأخذ على يد المخالفين له. هذه السلطة عرفت بالسلطة السياسية وعرفت أيضاً بالدولة.
إلا أن الناس وجدوا أنفسهم أمام مشكلة مهمة حيال ذلك الأمر، ألا وهي : من أين لهم هذا النظام ؟ فالقضية ليست أن يلتزم الناس بمطلق نظام. فالأنظمة كثيرة متعددة. ولكل نظام أثره في المجتمع، فهناك نظام ينهض بالمجتمع، وهناك نظام ينحط به المجتمع. هناك نظام يؤدي إلى سعادة الإنسان، وهناك غيره يؤدي به إلى الشقاء والتعاسة. مما يضع الإنسان أمام مسؤولية كبيرة، ألا وهي مسؤولية اختيار النظام الصحيح والصالح الذي يؤدي بتنظيمه لعلاقات الناس ومعالجته للمشاكل الناتجة عن تلك العلاقات إلى النهضة الصحيحة لتلك الجماعة البشرية، وبالتالي إلى السعادة والهناء والرفاهة.(1/74)
ولم يكن كثير من المجتمعات على قدر هذه المسؤولية منذ قديم التاريخ وإلى يومنا هذا، حيث لا زال كثير من الشعوب يعاني من آثار اختياره الخاطىء للنظام. وبما أن مسؤولية هداية البشرية تقع على عاتقنا نحن المسلمين، فلا بد لنا من إيضاح الطريق السويّ للحصول على النظام الصحيح. فنقول لها:
إن النظام، إما أن يكون من عند الله سبحانه خالق الإنسان والحياة والكون، وإما أن يكون من عند الإنسان نفسه. أي إما أن يكون مصدره الوحي وإما ان يكون العقل. فأي المصدرين هو المصدر الصحيح ؟
لقد طرح القرآن الكريم هذه المساءلة على البشر ليحثهم على التفكير وإعمال الذهن، فقال سبحانه : { قل أءنتم أعلم أم الله؟ }(1).
والإجابة البدهية على هذا السؤال، هي أن الواقع المحسوس يرينا أن عقل الإنسان عاجز عن إبداع التشريع الصالح لأن يكون نظاماً لحياة الإنسان. ذلك لأن النظام المطلوب هو النظام الذي يعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، أي يعالج إشباع الحاجات العضوية والغرائز البشرية، وهذه الكوامن البشرية يعجز العقل البشري عن سبر أغوارها وإدراك دقائقها حتى يعلم ما يصلح لها من نظام أو تشريع.
أما الخالق سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان وغرائزه وحاجاته العضوية وكوامن نفسه، فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه النفس من أنظمة ومعالجات. قال تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }(2)، وقال سبحانه: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }(3).
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 140
(2) - سورة ق - الآية 16
(3) - سورة الملك - الآية 14(1/75)
وحين يشرع الإنسان ويضع المعالجات، فإنه في حقيقة الأمر لا يعالج مشاكل الإنسان بوصفه إنساناً، أي لا ينظم إشباع الحاجات والغرائز، وإنما هو يعالج مشاكل عرضية ظاهرية ألمت بالإنسان في وقت من الأوقات وفي مكان من الأمكنة، بحيث لا يصلح هذا النظام لأن يطبق في غير هذا المكان وذلك الزمان. وغالباً ما يكون مخفقاً حتى في معالجة المسألة الجزئية، وجالباً الضرر بدل العلاج.
أما النظام الآتي من عند الله سبحانه، فإنه تشريع للإنسان بوصفه إنساناً، وبالتالي فهو صالح لكل زمان ومكان، لأن الإنسان في غرائزه وحاجاته العضوية هو هو لا يتغير مهما تبدلت الأزمان والعصور ... { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ...}(1).
علاوة على ذلك، فإن عقل الإنسان عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض. ذلك أن ما يراه فلان صالحاً من التشريعات للإنسان قد يراه غيره فاسداً خاطئاً، وبالتالي فإن كل مشرع يضع نظاماً يختلف عن الآخر. كما أن ما يراه الشخص نفسه اليوم صالحاً قد يراه غداً فاسداً، لذلك نرى المشرعين دائماً يعدّلون ويغيّرون تشريعاتهم بحيث أصبحت البشرية بالنسبة لهؤلاء كالفأر في المختبر يجربون بها نظرياتهم وتشريعاتهم، فاصطلت بنيرانهم وتقلبت على أشواكهم. وصدق الله العظيم إذ قال : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ...}(2).
أما التشريع الذي يتلقاه الإنسان من الوحي، فإنه التشريع الثابت الدائم الذي لا يطرأ عليه تعديل ولا تبديل ولا تغيير، لأنه من الخالق العليم الحكيم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
وبعد ذلك التباين البعيد، بين إنسان قاصر عاجز متأثر بأهوائه وبيئته، وبين خالق عليم حكيم لطيف حي قيوم : فمِمَّنْ يجدر بالبشرية أن تستقي نظامها ؟ أمن الإنسان أم من الله تعالى ؟ وبعبارة أخرى : من العقل أم من الوحي ؟
__________
(1) - سورة الروم - الآية 30
(2) - سورة المؤمنون - الآية 71(1/76)
أنظر في هذه الآيات التي تحمل المساءلة والإجابة الصحيحة البدهية معاً :
{ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يَهْدي إلى الحق أحق أن يتبع أمّن لا يَهدِي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون }(1)
{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }(2)
{ أفمن كان على بينة من ربه كمن زُيِّن له سوء عمله واتبعوا أهواءهم }(3)
{ ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }(4)
ثم اسمع إلى تلك الإجابات القاطعة والأوامر الجازمة :
{ إنِ الحكمُ إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }(5)
{ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى }(6)
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }(7)
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }(8)
من هنا جاء النهي الجازم في القرآن الكريم للإنسان عن التعدي على حق الله تعالى في التشريع للبشر، وجاء الذم الشديد والوعيد لمن يشرع فيحل ويحرم من عند نفسه :
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون }(9)
{ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون }(10)
{ بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل اللهُ وما لهم ناصرين *فأقم وجهك للدين حنيفاً فِطْرَتَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(11)
__________
(1) - سورة يونس - الآية 35
(2) - سورة المائدة - الآية 50
(3) - سورة محمد - الآية 14
(4) - سورة القصص - الآية 50
(5) - سورة يوسف - الآية 40
(6) - سورة طه - الآية 123
(7) - سورة الأعراف - الآية 3
(8) - سورة الأنعام - الآية 153
(9) - سورة النحل - الآية 116
(10) - سورة يونس - الآية 59
(11) - سورة الروم - الآية 30(1/77)
وقد أنزل الله تعالى على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - شريعة جعلها نظاماً للإنسان في حياته ومجتمعه ودولته، وبناها على عقيدة تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، وتشكل قاعدة فكرية لكل أفكار الإنسان وقيادة فكرية لسلوكه في الحياة. قال تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً، فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً }(1)، وقال سبحانه : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم }(2).
وجعل سبحانه شريعته نظاماً شاملاً لجميع نواحي الحياة، حيث نظمت كل السلوك الإنساني، سواء كان هذا السلوك علاقة بين الإنسان وخالقه، أو بين الإنسان ونفسه، أو بين الإنسان والإنسان. قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء }(3).
فقد نظم الإسلام علاقة الإنسان بخالقه حين بين له العقائد وشرع له العبادات. ونظم علاقته بنفسه حين شرع له الأخلاق وأحكام المطعومات والملبوسات. ونظم علاقته بغيره من سائر البشر حين شرع أحكام المعاملات والعقوبات التي شملت كل الميادين البشرية في الحياة والمجتمع والدولة، قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }(4).
__________
(1) - سورة النساء - الآية 174
(2) - سورة المائدة - الآية 16
(3) - سورة النحل - الآية 89
(4) - سورة المائدة - الآية 3(1/78)
فالإسلام ليس مجرد دين روحي ينظم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه بمجموعة من العبادات والأخلاق كما يظن بعض الناس وكما يريده البعض الآخر، بل هو دين شامل ونظام كامل. والعقيدة الإسلامية علاوة على كونها عقيدة روحية، هي عقيدة سياسية. فقد انبثق عنها نظام للإنسان في حياته ومجتمعه ودولته. وأوجب الإسلام على المسلمين أن تكون لهم دولة تحكمهم بما أنزل الله تعالى. قال سبحانه : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله }(1). وقال { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }(2). ونظم هذه الدولة حين شرع أنظمة للحكم والاقتصاد والاجتماع، وحين رسم سياسة للتعليم، وحين أعطى نظاماً للعقوبات وأحكاماً للبينات وحين رسم السياسة الخارجية للدولة.
وقد حرم الله تعالى على المسلمين - بعد أن جاءتهم هذه الهداية - أن يأخذوا أنظمة البشر والقوانين الوضعية، حيث عَدَّ كل شرع سوى شريعته طاغوتاً.
فقال سبحانه :{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً }(3).
السعادة :
نيل رضوان الله تعالى
إن السعادة هي الأمل والغاية التي يسعى إليها كل إنسان عاش على هذه المعمورة، بغض النظر عن انتمائه أو لونه أو عرقه أو حتى شخصيته.
__________
(1) - سورة النساء - الآية 105
(2) - سورة المائدة - الآية 44
(3) - سورة النساء - الآية 60(1/79)
فكل إنسان يتمنى أن يحصل على السكينة النفسية والطمأنينة الدائمة. ولكن الفرق بين إنسان وآخر، أو بين شخصية وأخرى، أو حتى بين مجتمع وآخر، أن كلاً من هؤلاء يفهم السعادة على نحو، وبالتالي يسعى لتحقيقها بطريقته الخاصة. وهذا يعني بالطبع أن ليس كل هؤلاء حققوا السعادة، ذلك أن للسعادة مفهوماً واحداً صحيحاً، ولتحقيقها طريقة واحدة لا ثاني لها، وكثير من الناس فهموا السعادة بغير ذلك الفهم وسعوا لها بغير تلك الطريقة فضلّوا سبيلها.
إن الذين قضوا حياتهم في عبادة الأوثان والكواكب والأبطال، والذين قضوا ساعات نهارهم وليلهم في الزوايا يتعبدون ويتبتلون، وأولاء الذين قضوا حياتهم في تحقيق الثروات الضخمة أو هؤلاء الذين قضوها سعياً وراء اللذة والشهوة والإدمان على الخمور والمخدرات، وأولئك الذين يصبحون ويمسون على ممارسة الجريمة بشتى أنواعها... كل أولئك يفعلون ما يفعلون أملاً بالوصول إلى السعادة، ولأنهم فهموا أن ذلك النمط من الحياة هو السعادة أو الموصل إلى السعادة.
حتى أولئك الذين يأخذون القرار بالانتحار، فإنهم يفعلون ذلك أملاً بالحصول على السعادة، باختراق ذلك الجدار الذي يحد حياتهم، أو على الأقل هم يحاولون الهروب من التعاسة التي تمثلت في الدنيا، لعلهم يجدون السعادة فيما وراءها.
إن معظم المذاهب المادية التي تسود العالم اليوم - وعلى رأسها الحضارة الغربية- تنظر إلى الإنسان بوصفه كائناً حياً يتمتع بطاقة حيوية ناتجة عن غرائزه وحاجاته العضوية، وأن مشكلته تكمن في تمكنه من الإشباع المادي لتلك الجوعات، وأنه بقدر ما يشبعها يسعد. فالسعادة تعظم بكثرة الإشباع وتنقص بقلة الإشباع.
من هنا كانت الحرية الشخصية من الأشياء المقدسة لدى الحضارة الغربية، لأن السعادة لديهم هي "نيل أكبر قدر من المتع الجسدية"، ولا يتأتى تمكين الإنسان من تحقيق السعادة إلا بتركه يفعل ما يريد ويشتهي دون حدود أو ضوابط ينضبط بها.(1/80)
لذلك كان من الطبيعي أن نرى المجتمع على هذه الحال من الفوضوية في السلوك الشخصي، حيث لم يعد الإنسان هناك يفكر في تنظيم إشباعاته، وإنما أطلق لغرائزه العنان وبدأ يبحث عن وسائل جديدة للإشباع، وتمادى في الانسياق وراء الغريزة، ولم يعد عقله إلا أداة للإبداع في فنون الإشباع واللذة. فانتشر الشذوذ الجنسي وزنا المحارم، ووصل الأمر برجالهم ونسائهم إلى مواقعة البهائم، وكثرت أنواع المخدرات والخمور وما شاكلها.
وبما أن المال هو من أهم الوسائل لتحقيق المتعة، أصبح تحقيق الثروات الضخمة من أبرز المثل العليا في المجتمع الغربي. وبما أن فكرة الحريات سيطرت على عقول الغربيين، فلقد أصبح يحق للإنسان أن يكسب ماله بالطريقة التي يريد، سواء عن طريق التجارة أو الربا، عن طريق الإجارة أو العهر، عن طريق الصناعة أو القمار. وإذا كان النظام الرأسمالي قد حد حرية الإنسان فقال : إن الحرية تنتهي حيث يبدأ الاعتداء على الآخرين، فإنه لم يستطع أن يوقف أكثر الناس عند ذلك الحد، ذلك أن فكرة الحريات كانت أقوى سلطاناً على العقلية الغربية من بنود القانون، فلا يمتنع الإنسان الغربي عن الاعتداء إلا حين يطاله القانون.
لذلك كثرت العصابات المنظمة كالمافيا وراجت تجارة المخدرات وأنواع الحشيش، واستشرت ظاهرة الاعتداء على الأعراض والأموال والأرواح، رغم ملاحقة القانون والشرطي.
وبما أن الشهرة والنفوذ هما أيضاً من الوسائل المهمة لتحقيق المتعة للإنسان أصبحا من أسمى الغايات لدى الإنسان الغربي. من هنا فإن أسعد إنسان في نظر الحضارة الغربية وأتباعها هو ذلك الذي حاز أعظم قدر من المال والسلطة والشهرة.
كل ذلك أدى إلى أن يصبح المجتمع الغربي كالغابة التي يأكل القوي فيها الضعيف. حيث يتسابق الناس على الرغيف ليكون آكله هو الرابح الذي يستحق الاحترام والتقدير، ويتزاحمون على المناصب ليعتليها القوي، وعلى السلطة ليتسلمها الأقوى.(1/81)
وهكذا، بدأ المجتمع الغربي اليوم يدرك أن الباب الذي طرقه ابتغاء السعادة، أوصله إلى التعاسة والشقاء والضنْك.
كل هذه المظاهر كانت نتيجة أن هؤلاء قد غفلوا عن أمور جوهرية ثلاثة فيما يتعلق بإشباع الجوعات الإنسانية ؟
أولها، أنه إذا كانت الحاجات العضوية كالأكل والشرب والنوم، وبعض الغرائز كغريزة النوع والبقاء تشبع إشباعاً مادياً، فإن غريزة كغريزة التدين ليس من شأنها أن تشبع إلا إشباعاً روحياً، بوصفها شعوراً بالحاجة إلى الخالق المدبر وتوجهاً نحو إقامة الصلة معه. فلما أغفل الغربيون أمر القيمة الروحية أحدثوا فجوة كبيرة في الوجدان البشري جعلته كاللطيم في هذه الحياة.
أما الثاني، فإن المشكلة المهمة فيما يتعلق بالحاجات العضوية والغرائز، إنما هي كيفية الإشباع وليس الإشباع بحد ذاته. فالأمر الطبيعي بالنسبة للإنسان أن تتيسر له وسائل الإشباع، فهو يجد الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه والمال الذي يريد والجنس الذي يشتهي، ويستطيع أن يستخدم الأشياء التي حوله للإشباع في أي وقت يشاء. فالحالات التي تكون فيها وسائل الإشباع نادرة ومفقودة هي حالات استثنائية غير طبيعية تعالج في أوانها.
أما كيفية الإشباع، أو تنظيم الإشباع، فهو الذي من شأنه أن يؤدي إما إلى سعادة الإنسان وإما إلى شقائه.
فالقضية ليست : هل يأكل الناس أم لا يأكلون أم كم يأكلون، ولا هل يلبسون أم لا، ولا كم يتملكون، ولا هل يعاشر رجالهم نساءهم أم لا يتعاشرون، بمعنى آخر، ليست : هل يعيشون أم لا يعيشون. بل القضية هي: ماذا وكيف يأكل الناس وكيف يلبسون، وكيف يتملكون وكيف يتعاشر رجالهم ونساؤهم. بمعنى آخر القضية هي : كيف يعيشون ؟(1/82)
أما الأمر الثالث، الذي غفلوا عنه، فهو أن الإنسان قد يشبع غريزته ويتمادى في إشباعها بحيث تطغى على الأخرى وتحول دون إشباعها، فلا يعود هناك تناسق بين الغرائز عند إشباعها، فيؤدي ذلك بالإنسان إلى الاضطراب والحيرة والقلق، أي إلى الشقاء كما هو شأن الإنسان الغربي اليوم.
إن الطريقة الصحيحة لتحقيق السعادة للإنسان تكمن في إشباع حاجاته وغرائزه إشباعاً منظماً منسقاً يوازي بين الغرائز بحيث لا يغفل غريزة، ولا يدع واحدة تطغى على الأخرى.
وإن أهم ما يجب التنبه إليه هو أن أبرز غريزة في الإنسان وأظهرها أثراً على سلوكه هي غريزة التدين. ذلك أن الإنسان حين يعي على هذه الحياة الدنيا، ويرى نفسه مدفوعاً لإشباع جوعاته يدرك فطرياً أن النعمة تحيط به من كل جانب، ذلك أن وسائل إشباع جوعاته مسخرة له ومتيسرة من قبل أن يكون على قيد الحياة، فالهواء والماء والطعام والحرارة المعتدلة وسواها من وسائل العيش التي لا حياة له من غيرها، أُمنت له وسُخّرت دون أي فعل منه أو جهد، فيجد نفسه مدفوعاً للبحث عن صاحب تلك القدرة التي أنعمت عليه بالحياة وأسبغت نعمها ظاهرة وباطنة، من أجل أن يعرب عن شكره وامتنانه عابداً إياه ومبجلاً، مقدساً له ومتذللاً. لذلك رأينا الإنسان منذ قديم الدهر عابداً متديناً حتى إذا ضل عن معرفة خالقه سبحانه اتخذ رموزاً وأوثاناً آلهة مزعومة يعبدها.
ثم إن ذلك الإنسان حين يقف أمام استحقاق العيش يشعر بالحيرة والقلق : كيف أشبع جوعاتي، كيف أعيش، كيف أستخدم الأشياء من حولي وكيف أواجه الحياة ؟ فيشعر أنه ناقص عاجز عن تدبير أمره وحياته، وأنه بحاجة إلى تدبير خالقه سبحانه، فيلجأ إليه طالباً منه تدبير أمره وحياته كلها.
وباختصار، إن غريزة التدين - التي هي جوهر الفطرة الإنسانية- هي ذلك الاحتياج إلى الخالق المدبر، الناشىء عن العجز الطبيعي في تكوين الإنسان.(1/83)
وهكذا، إن أغفلت هذه الناحية الجوهرية في الإنسان، ووضع على طريق الإشباع المادي البعيد عن إدراك الصلة بالله تعالى - أي بعيداً عن الروحانية - فإنه سيبقى قلقاً مضطرباً حائراً تعيساً نكداً ينشد السعادة فلا يجدها، كمن يركض وراء السراب.
لنتأمل الآن قوله تعالى عن هؤلاء : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور }(1).
من هنا كان تصوير الإسلام للسعادة هو التصوير الصحيح، وكان طريقه هو المؤدي إلى سعادة الإنسان. ذلك أنه وافق فطرة الإنسان فأشبع غريزة التدين إشباعاً صحيحاً حين عرّف الإنسان بخالقه سبحانه وأقام له الصلة الصحيحة معه بما بيّن من عقائد وشرع من عبادات. ثم حين دبر له أمره وحياته بما شرع من أنظمة للحياة تنظم إشباع جوعاته كلها، فلم يطلق الغرائز وإنما نظمها ونسقها ووضعها في المسار الصحيح. وبذلك أصبح الإنسان المسلم مسيراً حياته بأوامر الله ونواهيه.
لذلك، فإن الإنسان بقدر ما يلتزم بأوامر الله ونواهيه، وبقدر ما ينضبط سلوكه بالنظام الإلهي، يحقق لنفسه السعادة. وهكذا ندرك المفهوم الصحيح للسعادة بأنها نيل رضوان الله تعالى، وأن التعاسة هي في البعد عن رضوانه سبحانه.
وهذا ما يخبرنا به ربنا سبحانه وتعالى حين يقول :
{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام }(2).
{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة }(3).
{ فإمّا يأتينّكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون }(4).
__________
(1) - سورة النور - الآيتان 39-40
(2) - سورة المائدة - الآيتان 15-16
(3) - سورة النحل - الآية 97
(4) - سورة البقرة - الآية 38(1/84)
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }(1).
ثم يعرض الله تعالى لنا مقابلة بين الفريق السعيد وذلك الشقي، فيقول :
{ فمن اتّبع هداي فلا يضِلُّ ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً }(2).
وبذلك المفهوم، فإن السعادة قد تكون مع التنعم وزينة الحياة الدنيا وزخرفها إذا ما أقبل الإنسان عليها ملتزماً أوامر الله ونواهيه منضبطاً بحدود شرعه. أما إن هو أقبل على الدنيا معرضاً عن أمره سبحانه مقتحماً حرماته، فإنه لن يشعر بالسعادة مهما ادعاها، ذلك أن نفسه لن تستقر وقلبه لن يطمئن، إذ لا طمأنينة دون استشعار رضوان الله تعالى.
وبذلك أيضاً، قد تترافق السعادة مع الضيق والابتلاء والشدة، فالمسلم حين يقاتل في ساحة المعركة معرضاً دمه للإهراق ونفسه للإزهاق فإنه يشعر بعظيم النشوة والفرح، ذلك أنه يستشعر رضوان الله تعالى بقيامه بأعظم شعيرة من شعائره، وبالجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا. وكذلك شأنه حين يتعرض للاضطهاد والتنكيل من أجل كلمة الحق والموقف المبدئي. فها هو بلال رضي الله عنه يشعر بالنشوة والعزة وهو تحت الصخرة فوق رمال الصحراء المحرقة مصراً على ترديد "أحد أحد".
ثم ها هو سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل الرائع حين يفضل السجن المترافق مع رضوان الله تعالى على المتعة المترافقة مع سخطه سبحانه، فحين تهدده زوجة العزيز قائلة : { ولقد راودْتُهُ عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجننَّ وليكوناً مّن الصاغرين }(3)، يجيب ذلك الجواب الرائع : { قال رَبِّ السجنُ أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه ...}(4).
__________
(1) - سورة الأحقاف - الآية 13
(2) - سورة طه - الآية 124
(3) - سورة يوسف - الآية 32
(4) - سورة يوسف - الآية 33(1/85)
ويؤكد الله تعالى أن لا سعادة بغير رضوانه حين يقترن وعده بالجنة ونعيمها في العديد من الآيات، برضوانه سبحانه، وكأن نعيم الجنة لا يكتمل إلا بذلك الرضوان فيقول عز من قائل :
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم }(1).
{ جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه }(2).
الروح والناحية الروحية
منذ قرون بعيدة، وقبل ظهور الإسلام، وحتى قبل المسيحية، سادت لدى بعض الشعوب فكرة عن الوجود، مؤداها أن هذا الوجود إنما هو مكون من عنصرين اثنين : المادة والروح. فما يراه الإنسان حوله من الأشياء المحسوسة إنما هو الجانب المادي من الوجود. وأما الجانب الآخر المغيب عن الإنسان عادة فهو الروح أو العالم الروحاني. ويرون أن الجوهر في الوجود هو "روحه"، وأن مادته ليست إلا عَرَضاً له. ضمن هذه الفلسفة تعددت الأفهام في تحديد العوالم الروحانية، بين من يطلق عبارة الروح على خالق الوجود سبحانه، ومن يدرج ضمنها الملائكة أو الجن أو غير ذلك من "الأرواح".
__________
(1) - سورة التوبة - الآية 72
(2) - سورة البينة - الآية 8(1/86)
المهم في تلك الفلسفة نظرتها إلى الإنسان. فهي النظرة ذاتها، أي تصوير الإنسان مكوناً من عنصرين اثنين : المادة - وهي الجسد- والروح. ولقد ساد لدى هؤلاء اعتقاد مفاده أن هذين العنصرين هما في صراع دائم ناتج عن تناقضهما وتنافرهما. وهذا الصراع بين الجسد والروح سيسفر لدى كل إنسان عن أحد أمرين؛ إما أن تتغلب الروح على الجسد، وإما أن يتغلب الجسد على الروح. فإن انتصرت الروح على الجسد فقد وُجد الإنسان الخيّر الطيب والنقي التقي الذي يسمو فوق عالم الجسد والمادة ونتن الحياة الدنيا. أما إن انتصر الجسد على الروح، فهذا يعني أننا إزاء إنسان شرير انحط إلى مستوى البهيمة وغرق في أوحال الدنيا ونتنها، وبعد عن عالم الأرواح السامية.(1/87)
أما كيف تنتصر الروح على الجسد، وكيف ينتصر الجسد على الروح ؟ فإن الإنسان - في نظر هؤلاء - هو عبارة عن روح يأسرها الجسد ويمنعها من الارتقاء والتحرر والسمو إلى عالم الأرواح العليا. فحتى تنتصر الروح على الجسد لا بد من إضعافه وقهره وإذلاله حتى لا يقوى على الروح، وحتى تستطيع التفلت منه والتحرر من قيوده. لذلك، فإن على من يريد الارتقاء بروحه أن يقضي حياته في معركة ضد جسده، بأن لا يستجيب لرغباته وشهواته، فيبتعد عن متاع الحياة الدنيا وزخرفها ونعيمها، فلا يأكل إلا ما يقيم صلبه من مر الطعام وزهيده، ولا يلبس نواعم الثياب، وإنما يضع على كاهليه رقاع "الصوف" الخشن والثياب الرثة، ولا يركب الدوابّ الذلول وإنما يسيح في الأرض حافي القدمين حاسر الرأس في نوائب الأيام وعواتي الليالي، ولا يسكن البيوت الفارهة وإنما الدور الوضيعة والأكواخ الزرية، ولا ينام على الفرش ولا يتكئ على الأرائك وإنما يفترش الأرض والبسط اليابسة، ويهجر الرجل المرأة والمرأة تهجره، ويكبتان شهوة النوع، ويعيش حياة الرهبان، ويقضي أوقاته في قهر الجسد وإذلاله في الزوايا والتكايا ودور العبادة... وهكذا إلى أن يصل ضعف الجسد حداً لا يقوى معه على أسر الروح، فتنفلت منه وتسمو إلى عالم الأرواح العلوي وتتكشف الحقائق والقضايا أمام ذلك الإنسان جلية واضحة، ليس عن طريق الحواس الجسدية من بصر وسمع وغير ذلك، وإنما عن طريق الكشف "الوجداني". وهكذا تتدرج تلك الروح في الارتقاء إلى أن تصل- في زعم هؤلاء - إلى الاتحاد بالروح العليا أي بالذات الإلهية تعالى الله عن ذلك.
أما الإنسان الذي يستجيب لأهواء جسده، ويشبع رغباته وشهواته، وينال متع الحياة الدنيا ويأكل من طيبات ثمرها ويأخذ من زينتها، فقد حكم على روحه بالموت والفناء مع ذلك الجسد، وغرق في أوحال الدنيا ومادتها وأصبح في عداد الأشرار الفاسقين.(1/88)
هذه الفلسفة التي سادت وصاغت نمط العيش في المجتمع الهندي والمجتمع الصيني منذ قديم العصور ولا زالت إلى اليوم تلقي بظلالها على تلك المجتمعات، والتي تسللت إلى أذهان بعض الفلاسفة اليونان وكتبهم وآرائهم، كان لها تأثير عظيم في انحراف العقيدة النصرانية وتعاليمها، وبالتالي كان لها أثر عظيم في مجتمعات أوربّا في العصور الوسطى. ذلك أن الديانة النصرانية حين انتشرت في بلاد الشام وبعدها في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، أي في البلاد الأوربّية، تأثر أتباعها من قساوسة وأحبار بالفلسفات التي تشعبت أفكارها وأوهامها وغزت أذهان الناس وشوشتها، فانقلبت تلك الديانة السماوية بعد تدخل القياصرة والحكام والفلاسفة، ديانة أخرى جديدة. فكان مما دخل فيها، تلك الفلسفة عن الروح والجسد، وقد صادفت لدى النصارى تناغماً مع العقيدة التي تقول إن الحياة كلها منذ نزول آدم وحواء إلى الأرض وحتى يوم القيامة إنما هي مرحلة عقاب على الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم عليه السلام وزوجه حواء، لذلك فإنه لا يحق للإنسان أن يبحث عن الاستقرار والهناء والرفاهة في الدنيا، وإنما عليه أن يقنع بالذلة والشقاء والعذاب في الدنيا إلى أن يلقى السعادة والنعيم في الحياة الآخرة، "فكانوا لذلك يرون في كل لذة من ملذات الحواس غواية من غوايات الشيطان، ولهذا أخذوا ينددون بعالم الجسم ويعملون لكبت الشهوات بالصوم وبكثير من أنواع التعذيب البدني"(1).
__________
(1) - ول ديورانت - قصة الحضارة - جـ11 - ص 282.(1/89)
وهكذا ومع انتشار النصرانية في البلاد الأوربيّة أخذت تلك الفلسفة تنعكس على الحياة والمجتمع والسياسة، فكان أن نشأ إلى جانب السلطة السياسية التي يعلوها الملك ويليه الأمراء والإقطاعيون، سلطة جديدة هي سلطة الكنيسة التي يترأسها الحبر الأعظم (البابا) في روما حيث "الكرسي الرسولي". وهكذا تنازعت المجتمع سلطتان: السطلة الزمنية و السلطة الروحية، وجاءت عبارة الزمنية هنا كمرادف لعبارة المادية، وبما أن المادة والروح هما في صراع دائم حتى تتغلب إحداهما على الأخرى، فقد كان من الطبيعي أن ينشب الصراع في أوربّا فيما بين السلطتين الزمنية والروحية.(1/90)
في العصور الوسطى، عصور التدين، كان من الطبيعي أن تنتصر السلطة الروحية على السلطة الزمنية، إلى حد أذل بعض الملوك والأباطرة ومرغ أنوفهم في التراب، فكان الإمبراطور أو الملك الشرعي هو ذلك الذي يقلده بابا روما سلطة الحكم على الرعايا فيحكم الملك رعاياه بتفويض إلهي تمثل في التقليد العلماني الذي ناله من رأس الكنيسة الكاثوليكية، والويل للملك أو الأمير الذي ينزل به غضب الكنيسة ويصدر بحقه قرار حرمان كنسي. وكان نجاح الحروب الصليبية التي حض عليها أحبار روما العظام - وقد استهدف معظمها بلاد المسلمين في الشام وشمال إفريقية - من العوامل التي عززت موقع الكنيسة وسلطتها على أوربّا في العصور الوسطى. إلا أن القرون توالت لتوهن من قبضة الكنيسة وليعود الملوك والأمراء للتفلت من عقالها من جديد. فمع أفول نجم الحروب الصليبية واستنفاد أغراضها، عادت كفة السلطة الزمنية ترجح على كفة السلطة الروحية، وفي العصور الحديثة - أي بين بداية القرن السادس عشر ونهاية القرن الثامن عشر - ضعف تأثير الدين إلى حد ما على المجتمع وسطع نجم فلاسفة "التنوير"، في أوربّا، وفقدت الكنيسة ذلك السلطان الذي نعمت به خلال العصور الوسطى، وأصبحت مجرد مبرر لسلطة الملوك والأمراء الحاكمين. ومع بداية القرن التاسع عشر تم فصل الدين عن المجتمع والدولة نهائياً، وأقصيت الكنيسة عن التدخل في شؤون السياسة والحكم، وأصبحت مهمتها قاصرة على الكهنوت وشؤون العبادة والزواج وما شاكلها، وأصبح للكنيسة دولة الفاتيكان الروحية التي تتولى رعاية الشؤون الكهنوتية للنصارى الكاثوليك في العالم كله.
وهكذا توزعت رعاية شؤون الناس بين سلطتين منفصلتين، سلطة تحكم المجتمع وعلاقاته وتسيّر شؤون السياسة الداخلية والخارجية، وسلطة تتولى رعاية الشؤون الدينية والكهنوتية بمعزل عن السلطة الزمنية.(1/91)
هذا هو أثر فلسفة المادة والروح تلك على بعض الأمم والشعوب منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد هذا العرض هو : ما مدى صحة تلك الفلسفة ؟ ثم ما هو رأي الإسلام في هذه المسألة ؟
إن كثيراً ممن تصدوا لبحث هذا الموضوع من المسلمين، لم يبحثوا المشكلة من جذورها، وظنوا أن خلافهم مع أصحاب تلك الفلسفة ليس هو من حيث الأصل وإنما هو خلاف في التفصيل والتفريع والبناء. أعني أن معظمهم سلموا مع خصومهم بأن الإنسان مكون من جسد وروح، ثم نازعوهم في الكيفية التي يجب أن يعامل بها الجسد والروح، فقال كثير منهم إن الإسلام حافظ على التوازن ما بين الروح والجسد، بحيث أعطى لكل منهما غذاءه وما يتطلبه دون أن يطغى أحدهما على الآخر، فغذى الروح بالإيمان والعبادات والأذكار والقربات، ونظم غذاء الجسد بما شرعه من أحكام المطعومات والملبوسات والزواج وغيرها.
ولكننا نقول : إن معالجة مشكلة حساسة كهذه تتطلب مزيداً من الدقة والعمق في محاكمة الأفكار والآراء المطروحة فيها. فيُطرح السؤال لمحاكمة الأساس الذي تقوم عليه تلك الفلسفة: هل الإنسان مكون حقاً من المادة والروح ؟
إن الالتباس في المسألة وقع لدى كثير من الناس بسبب ما هو معلوم من أن الإنسان فيه روح، هي سر حياته، بوجودها يحيا وبخروجها يموت. ومن أن الله تعالى يقول : { ونفخت فيه من روحي }(1)، ويقول : { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون }(2). ومن غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تتكلم عن الروح وكينونتها في الإنسان. وهكذا سلم كثير من المسلمين لتلك الفكرة التي تقول إن الإنسان مكون من جسد وروح وإن لكل منهما غذاءه.
__________
(1) - سورة الحجر - الآية 29
(2) - سورة السجدة - الآية 9(1/92)
إلا أن الدقة تستوجب إنعام النظر في الفكرة لمعرفة ما هو المقصود بالروح التي يتكلمون عنها. فكلمة الروح هي كلمة مشتركة تحتمل العديد من المعاني. فقد وردت في لغة العرب وفي القرآن الكريم بعدة معانٍ. فمن تلك المعاني ما ورد في قوله تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين }(1)، والمقصود بالروح هنا جبريل عليه السلام. ومن تلك المعاني ما ورد في قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً }(2)، والمقصود بالروح هنا روح الإنسان التي بوجودها توجد الحياة وبخروجها يموت الإنسان. والروح بهذا المعنى شيء لا يطّلع عليه الإنسان وإن رأى أثره، وهو الحياة التي تدب في الجسد وتبعث فيه الحركة والحيوية. وبالجملة أطلقت عبارة الروح على عدة معان. قال صاحب "مختار الصحاح" : " الروح يذكر ويؤنث والجمع الأرواح. ويسمى القرآن وعيسى وجبرائيل عليهما السلام روحاً، والنسبة إلى الملائكة والجن روحاني بضم الراء والجمع روحانيون. وكذا كل شيء فيه روح روحاني بالضم"(3).
__________
(1) - سورة الشعراء - الآيتان 193-194
(2) - سورة الإسراء - الآية 85
(3) - الإمام محمد بن أبي بكر الرازي - مختار الصحاح - المادة "روح".(1/93)
إلا أن هذه المعاني كلها ليست هي المقصودة حين يتكلمون عن الروح والروحانية والناحية الروحية في الكون والإنسان والحياة. وإنما يراد معنى آخر هو معنى اصطلاحي، وليس من المعاني اللغوية التي يمكن أن نجدها في معاجم اللغة العربية القديمة. وإذا أراد الباحث أن يدرك معنى اصطلاحٍ ما، فإن عليه أن يدقق في النصوص التي ورد فيه ذلك الاصطلاح ليقف على المعنى الذي رمى إليه أولئك الذين تكلموا به. والمدقق في معظم تلك النصوص يجد أن هؤلاء يستخدمون كلمة الروح أو الروحانية أو الناحية الروحية، للتعبير عما يشعر به الإنسان حين إدراكه لصلته بخالقه عز وجل، فيقال إن المؤمن يشعر بالروحانية حين قيامه بشعائر العبادة من صلاة أو صيام أو حج. وحين يتأمل في ملكوت الله، يشعر بالناحية الروحية. ويشعر بالروح أيضاً حين يسمع الابتهالات والأدعية وحين يدخل دور العبادة وما شاكل ذلك. وهذا المعنى لا صلة له بالروح التي هي سر الحياة، إذ إن هذه الأخيرة تسري في الإنسان المؤمن الذي يشعر بالروحانية وفي الإنسان الملحد المنكر لوجود الله والذي لا يشعر بالتالي بالناحية الروحية أو الروحانية.
وبناء عليه يمكن أن نعرّف الناحية الروحية بكون الشيء مخلوقاً لله سبحانه وتعالى. فالكون والإنسان والحياة، ليست أشياء مكونة من عنصرين هما المادة والروح، وإنما هي أشياء مكونة من مادة فقط ولا يوجد في تركيبها شيء آخر. إلا أنها تتصف بناحية روحية ليست جزءاً من تركيبها، وإنما هي أمر اعتباري، وهو كونها مخلوقة لخالق. فالناحية الروحية في الكون هي كونه مخلوقاً لخالق، والناحية الروحية في الحياة هي كونها مخلوقة لخالق، والناحية الروحية في الإنسان هي كونه مخلوقاً لذلك الخالق سبحانه. والروح - بالمعنى الاصطلاحي الذي نتكلم عنه- هي إدراك الصلة بالله تعالى. فشعور الإنسان بالروح أو الروحانية هو إدراكه لصلته بالله تعالى من حيث إنه مخلوق له وعبد خاضع لقدرته وتدبيره عز وجل.(1/94)
من هنا، فإنه لا يعود هناك مجال للكلام عن أن الإنسان مكون من جسد وروح، وأن هناك صراعاً بين هذين العنصرين، وأن على الإنسان أن يغلّب الروح على الجسد أو أن يوازي بينهما. وإنما الذي يطرح هو السؤال التالي : ما مدى تأثير الروح - التي هي إدراك الصلة بالله - على الإنسان وحياته وسلوكه ؟
إن أصل سلوك الإنسان، هو أن فيه طاقة حيوية تدفعه إلى القيام بالأعمال. ونعني بالطاقة الحيوية هنا الدوافع والجوعات التي يندفع الإنسان بطبيعته إلى إشباعها. وإذا دققنا في واقع هذا الإنسان وجدنا أن هذه الطاقة الحيوية هي عبارة عن حاجات عضوية، كالحاجة إلى الغذاء والنوم وغير ذلك مما لا يمكن للإنسان أن يبقى على قيد الحياة إن لم يشبعها. ثم الغرائز التي يندفع لإشباعها بإلحاح بحيث إنه يشعر بالقلق والاضطراب إن لم يشبعها.(1/95)
هذه الحاجات والغرائز لدى الإنسان يلزمها نظام ينظم إشباعها. وهذا النظام إما أن يكون من عند الله تعالى وإما من عند الإنسان. فإن أشبعت تلك الحاجات والغرائز دون نظام أو بنظام من عند غير الله عز وجل، كان ذلك الإشباع إشباعاً مادياً لا روح فيه. أما إن أشبعت بنظام من عند الله بناء على إدراك الصلة به تعالى. أي بناء على الإيمان بالله خالقاً ومدبراً، فإن هذا الإشباع يكون إشباعاً صحيحاً مسيّراً بالروح. ومن بين تلك الغرائز التي يشعر الإنسان بالحاجة لإشباعها غريزة التدين التي يظهر أثرها في نزوع الإنسان نحو التقديس والتبجيل والعبادة والتذلل وإكبار الأقوى والأقدر. فالإحساس بالنقص والعجز الطبيعيين لدى الإنسان يؤدي تلقائياً إلى الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبر، وهذا ما عنيناه بغريزة التدين. إلا أن هذه الغريزة كسائر الغرائز، إما أن تشبع إشباعاً مادياً بمعزل عن الإيمان بالله تعالى خالقاً مدبراً، وذلك كعبادة الأوثان أو الكواكب أو الملوك أو الأبطال أو غيرها من سائر المخلوقات، وإما أن تشبع إشباعاً روحياً بعبادة الله وفق نظام من عنده عز وجل.(1/96)
إن الإسلام لما قام على أساس الإيمان بالله تعالى، قرر الناحية الروحية في الإنسان وحياته وما يحيط به من مادة الكون، من حيث إن هذه الأشياء هي مخلوقة لخالق هو الله تعالى. ثم إنه جعل حياة المسلم كلها تقوم على أساس روحي، وجعل الروح ملابسة لكل عمل يقوم به. ذلك أن الله تعالى شرع شريعة هي نظام شامل لحياة الإنسان كلها ومعالجات لكل مشاكله، وبالتالي جعل لكل فعل من أفعال العباد حكماً شرعياً، يجب على المؤمن أن يلتزم به حين القيام بالعمل، وذلك بناء على إيمانه بالله تعالى رباً وإلهاً معبوداً مطاعاً، { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }(1). فالمؤمن حين يلتزم في أفعاله كلها -وهي مادة- بأوامر الله ونواهيه بناء على إدراك الصلة بالله، أي بناء على الإيمان بالله تعالى، فإنه يكون قد مزج المادة بالروح، وقامت حياته كلها على أساس روحي، هو العقيدة الإسلامية.
وبناء عليه، فإن المسألة ليست: هل يشبع الإنسان حاجاته ورغباته أم لا يشبعها ؟ وليست أيضاً: كم يشبعها ؟ ولا هي: ماذا يشبع، الجسد أم الروح ؟ ولا هي: ماذا يغلّب، الجسد أم الروح ؟ فمن الخطأ أن تكون هذه الأسئلة محل بحث. وإنما محل البحث هو : كيف يكون الإشباع، وعلى أي أساس يجب أن يقوم ؟
__________
(1) - سورة النساء - الآية 65(1/97)
لذلك، فقد أخطأ من ظن أن التقوى تكون بالتقشف والبعد عن المتع والملذات وهجران نعيم الدنيا ومتاعها. فقد يمارس ذلك التقشف إنسان كافر لا يؤمن بالله حق الإيمان، فأين منه التقوى ؟ بل إن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصرح بأن الله تعالى خلق الدنيا ومتاعها وسخر كل ما فيها للإنسان، على أن يأخذها بحقها، أي وفق أوامره ونواهيه عز وجل. فالله تعالى يقول : { ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً }(1)، وقال سبحانه : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }(2)، وقال عز وجل : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون }(3)، وقال سبحانه مذكراً بنعمه على عباده: { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون}(4)، وغير ذلك الكثير من الآيات التي تتضمن هذا المعنى.
__________
(1) - سورة الإسراء - الآية 70
(2) - سورة الجاثية - الآية 13
(3) - سورة الأعراف - الآية 32
(4) - سورة النحل - من الآية 5 إلى الآية 8(1/98)
وفي عهد النبوة فهم بعض الناس التقوى بالتقشف وقهر النفس والجسد، وعندما سألوا عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقالّوها، فنذروا على أنفسهم تكاليف قاسية ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم أصابوا التقوى. فلما بلغ خَبرُهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شعر بخطر ذلك الفهم المنحرف، فاتخذ الإجراء الذي تستحقه تلك الظاهرة. فقد روى البخاري عن أنس بن مالك أنه قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(1).
__________
(1) - صحيح البخاري -كتاب النكاح- الحديث 5063(1/99)
وبهذا لا يكون هناك تعارض بين المتعة وبين الروح. فالإنسان الذي يأكل طيّب الطعام من الرزق الحلال، حامداً الله تعالى على نعمته، يشعر بالروح مع شعوره بلذة الطعام، { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }(1)، وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين }(2). والتاجر الذي يكسب الربح الوفير والمال العميم يشعر أيضاً بالروحانية إن هو التزم الأحكام الشرعية وراعى الحلال والحرام في تجارته، قال عليه الصلاة والسلام : " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"(3). وفي الحياة الزوجية يقول عليه الصلاة والسلام: "وفي بُضع أحدكم صدقة" قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً"(4).
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 172
(2) - سورة المائدة - الآية 87
(3) - رواه الدارمي في سننه - كتاب البيوع - باب في التاجر الصدوق
(4) - رواه مسلم -كتاب الزكاة- الحديث رقم 53 في بابه(1/100)
هذه النظرة الشرعية للإنسان وسلوكه وتقواه، هي التي ميزت الحياة في المجتمع الإسلامي خلال عهود نهضته وقوة الدولة الإسلامية. فلم يكن يوجد في ذلك المجتمع شرخ بين المادة والروح، ولم يكن يعرف في الدولة الإسلامية صراع بين سلطتين زمنية وروحية. إذ لم يكن هنالك إلا سلطة واحدة ترعى شؤون الناس بنظام الإسلام، وبناء على العقيدة الإسلامية، أي بناء على إدراك الصلة بالله تعالى. فالدولة سلطة سياسية تقوم على أساس روحي. ولم يكن هناك وجود لما يعرف اليوم بمحاكم مدنية وأخرى شرعية، وإنما كان هناك محاكم إسلامية تفصل كل أنواع الخصومات بين الناس بأحكام الشرع الإسلامي، سواء كانت متعلقة بالحكم أو المال أو الاجتماع (الأحوال الشخصية) أو غير ذلك من العلاقات المجتمعية.
إلى أن أتى الزمان الذي سيطرت فيه دول الغرب على بلادنا، وهدمت الدولة الإسلامية، وأقصت نظام الإسلام عن معترك الحياة والمجتمع والدولة، وجعلت شؤون الدين قاصرة على العبادات والأخلاق وما يسمونه الأحوال الشخصية. وأقامت دولاً تطبق الأنظمة الوضعية المادية وتفصل الدين عن الدولة.
فوُجدت في البلاد الإسلامية سلطات روحية تتمثل في "المفتي"، وقسموا المحاكم إلى مدنية تتولى فصل الخصومات بالقوانين الوضعية فيما يتعلق بالحكم والمال وما شاكل ذلك، ومحاكم شرعية تتولى رعاية الشؤون الاجتماعية أو ما يسمونه "الأحوال الشخصية" من زواج وطلاق وإرث.(1/101)
هذا النمط من العيش الذي يحكم حياتنا اليوم، ليس هو النمط الذي يرضاه الله تعالى ورسمه لنا في الرسالة الإسلامية. لذلك فإن قضية المسلمين المصيرية هي أن يعملوا على استئناف الحياة الإسلامية وإعادة نظام الإسلام إلى معترك الحياة والمجتمع، وأن يقضوا على كل ما يوحي بفصل الدين عن الدولة، من تقسيم المحاكم إلى مدنية وشرعية، ومن تنصيب سلطات روحية، ومن إقامة وزارات للأوقاف والمساجد وما شاكل ذلك. ففي نظام الإسلام هناك سلطة واحدة تحكم بما أنزل الله، وعلى المسلمين طاعتها في طاعة الله. قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً }(1).
نهضة الأمة الإسلامية بالوحي
لقد قررنا في الفصول السابقة، أن نهضة الإنسان في حياته ومجتمعه ودولته إنما مردّها إلى فكر مبدئي يقوم على عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، تكون بمثابة قاعدة فكرية تنبني عليها الأفكار عن الحياة الدنيا وتنبثق عنها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة. كما قررنا أن النهضة الصحيحة هي تلك التي تقوم على المبدأ الصحيح، وأن المبدأ الصحيح هو ذلك المبدأ الذي يوافق فطرة الإنسان فيقرر غريزة التدين فيه وسائر الغرائز ويشبعها الإشباع الصحيح، و يكون قائماً على العقل بحيث يقطع العقل بصحة عقيدته وانطباقها على واقع الكون والإنسان والحياة. ومن ثم قررنا أن ذلك المبدأ هو الإسلام بعقيدته العقلية وما انبنى عليها من أفكار وانبثق عنها من أنظمة.
في هذا الفصل نريد أن نتوقف عند طبيعة المبدأ الإسلامي ومضمونه لندرك طبيعة نهضة الأمة الإسلامية وأركانها ومقوماتها، ومن ثم لنقف على الخطوط الحمر التي لا يجوز للأمة الإسلامية أن تخترقها بوصفها الخط الفاصل بين منطقتي النهضة والانحطاط.
__________
(1) - سورة النساء - الآية 59(1/102)
وهذا يقتضي منا بالدرجة الأولى الوقوف عند العقيدة الإسلامية التي هي أساس المبدأ الإسلامي، وفهم الإسلام يتوقف على فهمها، كما أن اعتناقه يتوقف على اعتناقها.
إن الإسلام يقوم على شهادتي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وهاتان الشهادتان بالنسبة لسائر الشريعة الإسلامية هما الأصل الذي قامت عليه سائر الفروع.
أما شهادة أن لا إله إلا الله، فهي تقرر أن لا معبود بحق إلا الله تعالى بوصفه الرب الخالق المدبر. فالإله هو المعبود، والعبودية هي الخضوع المطلق والتذلل الكامل وتفويض الأمر للمعبود. وبالتالي فإن كل ما سوى الله تعالى من الأوثان والأصنام، الحية منها وغير الحية، البشرية وغير البشرية، لا تصلح لأن تكون آلهة تعبد، ذلك أنها لا تستطيع أن تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة محدودة، ومهما عظم شأنها وهال أمرها فإنها صغيرة حقيرة إزاء خالقها سبحانه وتعالى، بل إن عظمتها وهولها لدليل أقوى وأبلغ على عظمة خالقها الذي أوجدها من العدم... { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه }(1).
وانظر إلى تلك الآيات التي تلفت نظر الإنسان إلى سخف عبادته للأنداد من دونه سبحانه وتعالى :
{ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون }(2).
{ يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب }(3).
وفي تلك القصة التي يرويها لنا القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام وهو يجادل النمرود الذي ادعى الألوهية على الناس :
__________
(1) - سورة الأنعام - الآية 102
(2) - سورة فصلت - الآية 37
(3) - سورة الحج - الآية 73(1/103)
{ ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت، قال أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين }(1).
إذن فالعبادة لا تصح لشيء خلقه الله سبحانه، وإنما يجب أن تؤدى فقط لذلك الخالق الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه، فهو الوحيد الذي يتصف بصفات الكمال ولا يطرأ عليه النقصان ولا العجز ولا الاحتياج، بل كل ما سواه محتاج إليه سبحانه.
وهكذا فإن توحيد الألوهية لله سبحانه وتعالى يعني أن تكون عبودية الإنسان المطلقة لخالقه سبحانه وتعالى، وحين يتكلم القرآن الكريم عن العبودية، فإنه لا يعطيها مفهوم الطقوس الروحية والشعائر العبادية فقط، وإنما يعني بها الخضوع الكامل والمطلق من الإنسان لله تعالى، في جميع حياته، وذلك بأن يعيش في هذه الدنيا مسيِّراً أعماله حسب أوامر الله تعالى ونواهيه، مسلِّماً له نفسه، مفوضاً له أمره متوكلاً عليه في عيشه. وبذلك يكون معنى توحيد الألوهية أيضاً، توحيده سبحانه في التدبير والتشريع والحكم على أفعال العباد. أنظر إلى قوله تعالى وهو يقرر أن الحكم إنما هو له وحده ويقرن ذلك بالتوحيد والتوكل على الله وعبادته عز وجل...
{ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم }(2).
{ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون }(3).
{ له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون }(4).
{ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون }(5).
{ والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب }(6).
__________
(1) - سورة البقرة - الآية 258
(2) - سورة يوسف - الآية 40
(3) - سورة يوسف - الآية 67
(4) - سورة القصص - الآية 70
(5) - سورة المائدة - الآية 50
(6) - سورة الرعد - الآية 41(1/104)
وتأمل تلك الآية الكريمة وهي تنهى الناس عن أن يشرعوا فيحلوا ويحرموا من عند أنفسهم فيفترون على الله تعالى الذي له وحده حق التشريع، حيث يقول سبحانه :
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون }(1).
وقولَه سبحانه وهو يذم الذين يشرعون للناس الشرائع..
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله...}(2).
وبذلك فإن الشهادة الأولى : لا إله إلا الله، تعني أن لا معبود ولا مشرع بحق إلا الله سبحانه وتعالى. أي أن النظام الذي يجب على الإنسان أن يسير في جميع حياته وفقه ويسيّر أعماله به هو النظام الذي شرعه الله سبحانه.
وبعد، فإن هذه الشهادة العظيمة تحتّم على الإنسان السؤال التالي: إن كان التشريع هو لله تعالى، فمن أين لي معرفته ومن أين أتلقاه ؟
لذلك جاءت الشهادة الثانية مكملة للأولى ومجيبة على السؤال الذي نتج عنها، فتقول : محمد رسول الله، أي إن الشريعة التي ارتضاها الله تعالى للبشر هي الشريعة التي أنزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي الذي نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام. ولذلك فإنه بعد نزول الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا بد لمن يريد توحيد الله تعالى في الألوهية والتشريع من أن يتبع الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ذلك أنه هو الذي حمل الرسالة من الإله المشرع سبحانه إلى الإنسان العاجز الناقص المحتاج إلى تدبير خالقه وهدايته. وقد جاءت آيات كريمة كثيرة تؤكد ذلك المعنى...
{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون }(3).
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }(4).
__________
(1) - سورة النحل - الآية 116
(2) - سورة الشورى - الآية 21
(3) - سورة الجاثية - الآية 18
(4) - سورة آل عمران - الآية 31(1/105)
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً }(1).
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزّل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم }(2).
وبما أن الوحي الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - أعطى فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وشرع أنظمة للحياة كان ذلك الدين مبدأ، وكان ذلك المبدأ - أي الإسلام - المبدأ الوحيد الذي صدر عن الوحي لا عن البشر. وهذا سر تميّز نهضة الأمة الإسلامية. فإن نهضتها ناتجة عن عيشها وفقاً لما جاء به الوحي الإلهي، وتقيدها بأوامر الله ونواهيه وسننه التي ارتضاها لعباده المتقين، لذلك كانت النهضة الوحيدة الصحيحة. ذلك أن سلوك البشر فيها يتناغم مع حركة الكون وسائر المخلوقات، ويتناسق معها، وهي خاضعة للنظام الذي أراده الله تعالى لها لا تحيد عنه قيد أنملة. وانظر إلى تلك الآيات التي تقرر تلك الحقيقة..
{ وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون }(3).
{ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون }(4).
{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها }(5).
{ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهنّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً }(6).
__________
(1) - سورة النساء - الآية 65
(2) - سورة محمد - الآية 2
(3) - سورة آل عمران - الآية 83
(4) - سورة يس - الآيتان 38-40
(5) - سورة فصلت - الآيتان 11-12
(6) - سورة الإسراء - الآية 44(1/106)
ومن أهم ما يتناغم مع ذلك السلوك والعيش المتقيد بشريعة الوحي ويتناسق معه، تلك الفطرة الإنسانية التي خلقها الله سبحانه وتعالى نزّاعة إلى عبادة الخالق المدبر، والتي ذكرها عز وجل في الآية الكريمة { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }(1).
ومن هنا جاءت الآيات الكثيرة التي تربط بين الالتزام بشريعة الله تعالى وبين إسباغ النعم وتفجر الخيرات والتمتع بالأمن والطمأنينة والرفاهة، مثل قوله تعالى : { وألَّوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً...}(2). وقوله سبحانه : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون }(3).
ثم اسمع إلى تلك الآيات الكريمات وهي تروي لنا خطاب نوح عليه السلام لقومه الذين طغوا في الأرض وفسقوا فيها :
{ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً }(4).
واسمع إلى قوله تعالى يعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالاستخلاف في الأرض : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }(5).
وبالمقابل يتوعد الله تعالى المجتمعات التي تعرض عن أمر ربها وتطغى في الأرض وتفسق فيها بسوء العاقبة ووقوع الشقاء، ويضرب لنا الأمثال عن تلك المجتمعات التي أهلكها بظلمها :
__________
(1) - سورة الروم - الآية 30
(2) - سورة الجن - الآية 16
(3) - سورة الأعراف - الآية 96
(4) - سورة نوح - الآية 10-12
(5) - سورة النور - الآية 55(1/107)
{ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }(1).
من هنا، كانت نهضة الأمة الإسلامية ناتجة عن ذلك التقيد الكامل بأوامر الله ونواهيه، وبعبارة أخرى، عن ذلك الالتصاق المحكم بالوحي الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنه بقدر ما تلتصق الأمة الإسلامية بالوحي فكراً وسلوكاً بقدر ما تنهض وترتقي، وبقدر ما تبعد عن ذلك المعين الصافي بقدر ما تنحط وتنخفض، هذه معادلة ثابتة، لا يمكن أن تخرق في يوم من الأيام، وهذا هو التاريخ الإسلامي خير شاهد على ذلك.
فعندما صاغ المسلمون حياتهم بالإسلام في المجتمع الإسلامي الأول- زمن النبوة والخلافة الراشدة - حققوا نهضتهم المثلى وتحقق خير القرون، ومن ثم حين بدأ يطرأ الخلل على تلك الصياغة الفريدة وبدأ السلوك في المجتمع الإسلامي ينفصل عن القواعد والأحكام التي نزل بها الوحي، بدأ الانحطاط يتسرب إلى جسم الأمة الإسلامية، وكان مقدار ذلك الانحطاط يتناسب مع مقدار الشرخ الذي قام بين سلوك المجتمع وبين الوحي، وكان كلما اتسع ذلك الشرخ ازدادت الأمة انحطاطاً، إلى أن غابت شريعة الوحي عن حياة المسلمين ومجتمعهم ودولتهم فوصلوا إلى الدرك الأسفل من الانحطاط.
من هنا كان واجب المسلمين أن يحرصوا أشد الحرص على فهم الإسلام فهماً نقياً صافياً لا تشوبه شائبة، حتى يكون التزامهم بالإسلام وأفكاره وأحكامه التزاماً بالوحي الذي أنزله الله على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا يحتم عليهم أن يُحكموا نظرتهم إلى مصادر التشريع الإسلامي وذلك بأن لا يستقوا أحكامهم إلا من المصادر التي جاء بها الوحي الإلهي لكونه استقر فيها.
__________
(1) - سورة النحل - الآية 112(1/108)
ففي الماضي حين حصر المسلمون تلقيهم للشريعة الإسلامية بالمصادر الأربعة : القرآن والسنة والإجماع والقياس، إنما فعلوا ذلك بناء على أنه لا يجوز أخذ الشريعة من غير الوحي. فالقرآن، هو كتاب الله الذي أوحاه إلى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - باللفظ والمعنى. والسنة - وهي كل ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير - إنما تعبّر عن الوحي لأن الرسول لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. فالسنة هي ما أوحي إلى الرسول بالمعنى دون اللفظ.
وأمّا الإجماع - ويقصد به غالباً إجماع الصحابة - فإنه يعبر عن الوحي، لأن الصحابة الذين أثنى الله على مجموعهم في القرآن الكريم لا يمكن أن يجمعوا على شيء لم يطلعوا على دليله من رسول - صلى الله عليه وسلم -، وبالتالي كان إجماعهم دليلاً شرعياً لكونه يكشف عن دليل خفي عنا.
وأما القياس، فهو أيضاً مصدر يكشف عن الوحي. ذلك أن القياس ليس -كما يظنه بعض الناس- استنباطاً للحكم من العقل، وإنما هو استدلال على الأحكام بالعلة الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية من قرآن أو سنة، أي إن قياس حكم على آخر إنما يكون لاشتراكهما بعلة واحدة ورد بها النص الشرعي من قرآن وسنة، وبالتالي كان الاستدلال بالقياس استنباطاً من الوحي.
هكذا كان فهم المسلمين للإسلام وتشريعه في عصور النهضة الإسلامية، أما في عصور الانحطاط هذه، فقد كثرت لدى المسلمين مصادر التشريع وتعددت بحيث أصبح كثير من تلك المصادر لا علاقة له بالوحي، والاستدلال به ليس تلقياً للشريعة من الوحي، وإنما من العقل والواقع والمصالح وما شاكل ذلك، مما زاد الأمة الإسلامية انحطاطاً وتراجعاً وتقهقراً.
فعجباً لأمة تريد نصرة الإسلام - وهو الوحي الذي نُزِّل على محمد - صلى الله عليه وسلم - - بينما هي تستقي الكثير من أحكامها وتشريعها من غير الوحي، وتسعى لنصرته بما نهى عنه الوحي.
لذلك لا يسعنا أخيراً إلا أن نعود فنذكّر بقوله تعالى :(1/109)
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }(1).
براءة الحضارة الإسلامية
من سائر الحضارات
إن الناظر في مجمل الحضارات والأفكار التي سادت الشعوب عبر التاريخ، يجد ظاهرة جديرة بالاهتمام، يَحْسُنُ التوقف عندها لدراستها ملياً. وهي تأثر تلك الحضارات بعضها ببعض، أو انبثاق بعضها من بعض. وقد تكون بعض الحضارات امتداداً لتلك التي سبقتها، إلا أنها تميزت عنها بسمات جديدة ومِيزات أخرى. فكيف يمكن لنا تفسير هذه الظاهرة ؟
حين نقول إن الحضارة هي مجموع المفاهيم عن الحياة، فهذا يعني أنها مجموعة من الأفكار كبيرة الكم، تتناول مختلف نواحي الحياة والمجتمع، من حكم واقتصاد واجتماع وقانون وسياسة وفن وغير ذلك. فإذا كانت تلك الأفكار هي نتاج العقول أو الأذهان البشرية، فإننا سنصل بالتأكيد إلى حتمية تأثر الحضارات بعضها ببعض، سواء تأثراً إيجابياً أو تأثراً سلبياً.
ذلك أن العقل البشري الذي أنتج تلك الأفكار واتخذها الناس بعد ذلك مفاهيم، إنما هو محدود بقدر ما أوتي من معلومات. وحين يبدع فإنه يبدع بناء على خزين من المعلومات في الذهن. فالإنسان لا يدرك إلا بقدر ما يملك من معلومات يفسر بها الواقع المحسوس. والإبداع لا يعني أن الإنسان ينشىء أفكاراً جديدة لا صلة لها بالواقع المحسوس أو بالمعلومات السابقة، بل هو إدراك شيء جديد، أو إنتاج فكرة جديدة لم يسبق لأحد أن أنتجها، ولكن أيضاً استناداً إلى الواقع والمعلومات السابقة. وكل ما في الأمر أن المبدع قد ربط بين معطيات معينة، فأخرج فكرة جديدة لم يسبق لأحد أن أخرجها، فكان أول قائل بها، وذلك بغض النظر عن صحة تلك الفكرة أو خطئها. وبالتالي فإن المبدعين حين يبدعون الأفكار والنظريات أو ربما التخيلات، فإنهم يفعلون ذلك بقدر ما يملكون من معلومات سابقة وحسب طبيعة الربط التي تجري في أذهانهم.
__________
(1) - سورة آل عمران - الآية 31(1/110)
ومن الطبيعي أن يتأثر المفكر أو المبدع بالأفكار التي تحيط به والأوضاع التي يعيش فيها والظروف التي تلابسه وهو يفكر، فيخرج بأفكار ونظريات هي إما من جنس الأفكار التي تحيط به، وإما رد فعل عكسي إزاءها، وفي كلا الحالين هو متأثر بها. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة تأثر الحضارات بعضها ببعض. فإن تلك الحضارات - كما سبق القول- هي مجموع ما لدى شعب ما من المفاهيم عن الحياة، أي مجموع الأفكار التي اعتنقها، وتلك الأفكار هي نتاج تلك العقول والأذهان التي يتأثر بعضها ببعض ويأخذ بعضها عن البعض الآخر، وتبدع أفكاراً جديدة يتميز بها البعض عن البعض الآخر.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفسر ما يتكلم عنه المؤرخون والباحثون من تأثر الحضارتين الأشورية والبابلية وغيرهما بالحضارة السومرية مثلاً، أو تأثر الحضارة الرومانية بالحضارة اليونانية السابقة لها - بل هي كما يقولون امتداد لها- أو تأثر الحضارة اليونانية بحضارات مصر والشرق الأدنى القديم...
وعلى هذا الأساس أيضاً، نستطيع أن نفهم طبيعة العلاقة بين حضارة أوربّا في العصور الوسطى والحضارة الغربية المعاصرة "اللبرالية"، وأيضاً العلاقة بين تلك الأخيرة و"المشروع الحضاري" الشيوعي. ففي هاتين الحالتين كان التأثر سلبياً، بمعنى أنه كان عكسياً.
فإن تحكم الكنيسة وتسلط الملوك باسم التفويض الإلهي، واستفحال الظلم في ظل النظام الإقطاعي، حيث السيد والعبد، أو الإقطاعي والفلاح، ومساورة الأجواء الروحية والتدين لأوضاع الانحطاط والتخلف خلال العصور الوسطى، كل ذلك أنتج رد فعل عكسياً، تجلى في فكرة فصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة، وفي فكرة الديمقراطية وفكرة الحريات العامة من حرية شخصية وحرية تملك وحرية اعتقاد وحرية رأي، لدى المفكرين اللبراليين.(1/111)
ثم كانت أوضاع المجتمع الرأسمالي بعد ذلك، حيث معاناة العمال والموظفين من ظلم الرأسماليين ملاك المصانع والشركات والمؤسسات الخاصة وعسفهم، وحيث تركّزُ رؤوس الأموال في يد فئة قليلة من البرجوازيين، بينما لا تجد الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع إلا ما لا يكاد يسد الرمق. كل هذه الأوضاع أنتجت رد فعل عكسياً لدى المفكرين وأصحاب النظريات الاقتصادية، تجلى في النظريات الاشتراكية التي تنزع نحو توزيع الثروة الأهلية على نحو أكثر "إنصافاً" مما هو عليه في المجتمع الرأسمالي. وكان من أهم تلك النظريات وأكثرها تماسكاً الاشتراكية الماركسية، التي حاولت الثورة البلشفية تطبيقها على أرض الواقع داخل ما عرف بالاتحاد السوفياتي.
أما إذا أخذنا مثال الحضارة الإسلامية التي انتشرت مع بداية العصور الوسطى، فإننا سنجد ذلك الكلام لا ينطبق عليها. ذلك أن الناظر إلى بداية نشوئها لا يجد فيها أي تأثر أو أي ارتباط بالحضارات السابقة لها أو المعاصرة، لا تأثراً إيجابياً ولا تأثراً سلبياً، ذلك أن الإسلام أوجد نمطاً من العيش مختلفاً كل الاختلاف عن كل أنماط العيش السابقة له والمعاصرة، وأحدث انقلاباً جذرياً في المجتمع بحيث لم يترك ناحية من نواحيه إلا وطالها وأحدث فيها التغيير من أساسها، انطلاقاً من الجزيرة العربية التي اعتادت نمط عيش الجاهلية لعدة قرون خلت ومروراً وانتهاء بالبلاد المجاورة والمحيطة والبعيدة التي سادتها الحضارات الرومانية والفارسية وغيرها.(1/112)
وبينما نجد أن الحضارتين الغربية الرأسمالية والشيوعية - اللتين قامتا انقلاباً على حضارة العصور الوسطى- لم توجدا على أرض الواقع إلا بعد إرهاصات طالت عدة قرون حيث تتابع المفكرون والفلاسفة يبدعون فكرة تلو فكرة ونظرية تلو الأخرى حتى جاء مفكرون ليرمموا تلك الأفكار المتناثرة ويصوغوا منها مبدئين كاملين لم يوضعا موضع التطبيق إلا بعد قرون من المخاضات الحضارية العسيرة، أقول : بينما نجد ذلك في هاتين الحضارتين،فإننا نجد أن الحضارة الإسلامية التي أحدثت ذلك الانقلاب في الجزيرة العربية وسائر الشعوب التي دخلت حظيرتها بدأ انتشارها منذ إعلان محمد - صلى الله عليه وسلم - لها في مكة قلب الجزيرة العربية، وآتت ثمارها بعد ثلاثة عشر عاماً من ولادتها حين ارتكزت في المدينة المنورة "يثرب"، ثم انتشرت بعد ذلك بعشر سنوات في كل الجزيرة العربية، لتتابع بعد ذلك مسيرتها في سائر العالم القديم. ولم يمض قرن واحد إلا وقد أصبحت تظلل مساحة شاسعة تمتد من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً، حيث ضربت صفحاً عن كل الحضارات السابقة في تلك البلاد من فارسية وبيزنطية وهندية وغيرها إلى غير رجعة.
يقول الأستاذ محمد أسد ( ليوبولد فايس): " واضح إذن أننا مهما أوغلنا في التنقيب والبحث فيما سلف من حضارات البشر، فلن نجد توقيتاً معيناً نستطيع أن نحدده بدءاً لحضارة ما، أو تاريخاً لمولدها، ولا أن نعين حداً فاصلاً يميز بين حضارة ولت وأخرى أشرق عليها النور وتبدت للوجود.
ولكن هناك استثناء واحدا لكل ما أسلفنا من قول، استثناء تكاد لغرابته تذهل العقول وتنعقد الألسنة، فلم يذكر تاريخ البشر فيما عرفه الناس من حضارات سوى حضارة واحدة برزت للوجود من عالم الغيب دفعة واحدة، واستوت للناظرين قائمة على أصولها في فترة محدودة من تاريخ البشر، تلك ولا شك حضارة فذة من نوع فريد وإنها لحضارة الإسلام.(1/113)
فلئن قامت كل الحضارات الأخرى ونشأت رويداً رويداً من تراث الماضي بما حوى من ضروب الرأي وتيارات الفكر، واستغرقت في تبلورها إلى شكلها الخاص وكيانها المحدد آماداً طويلة من الزمن، فلقد انفردت حضارة الإسلام وحدها بانبجاسها إلى الحياة دون سابق عهد أو انتظار.
وقد جمعت هذه الحضارة، من فجر نشأتها، كل المقومات الأساسية لحضارة مكتملة شاملة. فقامت في مجتمع واضح المعالم، له نظرته الخاصة إلى الحياة، وله نظامه التشريعي الكامل وله نهجه المحدد للعلاقات بين الأفراد، بعضهم ببعض داخل هذا المجتمع.
ولم يكن قيامها ثمرة تقاليد زخر بها الماضي، ولا وليد تيارات فكرية متوارثة، ولكن هذه الحضارة، كانت وليدة حدث تاريخي فريد وهو تنزيل القرآن الكريم".(1)
إن المفكرين الغربيين - ولا سيما المستشرقين منهم- ثم العلمانيين من المثقفين في العالم الإسلامي لم يطيقوا العجز عن تطبيق نظرية تواصل الحضارات الإنسانية على الحضارة الإسلامية، فراحوا يتلمسون في التاريخ الإسلامي الظواهر والأحداث والنصوص والآثار التي يمكن امتطاؤها لادعاء أن الحضارة الإسلامية هي امتداد لسائر الحضارات السابقة والمعاصرة لها من جاهلية ورومانية وفارسية وهندية وغيرها. إلا أن الباحث النزيه يقطع بأن هذه المحاولات كانت عبثاً وأنها طَرْق لباب المستحيل، كالذي يحاول إثبات أن الوالد أصغر عمراً من ولده.
__________
(1) - الإسلام والتحدي الحضاري. ص 19 - 20(1/114)
ذلك أن الحضارة الإسلامية ليست إبداع ذهن أو عقل بشري، ولا حتى مجموعة عقول، بل هي من الوحي الإلهي الحكيم. فالحضارة الإسلامية هي مجموعة المفاهيم الإسلامية عن الحياة. وكل هذه المفاهيم إنما استقاها المسلمون من نصوص الوحي أو بنوها على نصوص الوحي أي القرآن والسنة، وهما وحي من الله القائل سبحانه : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }(1)، وهذه المفاهيم مبنية على عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، هي عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبذلك كانت الحضارة الإسلامية حضارة مبدئية تتناول كل نواحي الحياة والمجتمع والدولة...
قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }(2).
القسم الثالث
المجتمع الإسلامي
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،
ينفون عنه تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين
رواه البيهقي
المجتمع ونهضته
إن الباحث حين يستعرض التاريخ البشري ويتأمله بروية وعمق، يجد ظاهرة رئيسة تلفت انتباهه. ألا وهي تفاوت المجتمعات من حيث الرقي والانحطاط، وبعبارة أخرى تفاوتها من حيث النهوض والانخفاض.
فالنصوص التاريخية في حقيقتها هي سجل لحياة المجتمعات البشرية التي عاشت على وجه هذه البسيطة. وحين تقارن بين هذه المجتمعات فإنك تجد فرقاً واضحاً فيما بينها، سواء من حيث النوع أو المستوى، أي سواء من حيث النمط الحضاري، أو من حيث الرقي والانحطاط. بل إننا نطّلع في تلك النصوص على مجهودات بذلها المفكرون والفلاسفة والسياسيون -نظرياً وعملياً - من أجل النهوض بمجتمعاتهم والسير بها نحو الأرقى، ومنهم من أفلح في تحقيق غايته ومنهم من فشل.
__________
(1) - سورة النجم - الآية 4.
(2) - سورة النحل - الآية 89.(1/115)
ولا زال هذا الموضوع إلى اليوم يشغل كثيراً من الباحثين والمفكرين والسياسيين، على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم، وسيبقى يشغلهم. ذلك أن الإنسان هو الإنسان في الماضي والحاضر والمستقبل.
ونحن المسلمين لسنا بمعزل عن هذه القاعدة، فإننا منذ فجر تاريخنا استهدفنا الرقي وسعينا إلى إقامة مجتمع راقٍ على أساس الإسلام، وقد أفلح أسلافنا منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق هذا الهدف، ولاسيما أن الله سبحانه وتعالى قد أوجبهُ عليهم ورسم لهم سبيله من خلال ما نزل من الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: { وعدَ اللهُ الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }(1).
أما اليوم وقد أصبح مُجتمعنا بحال من الانحطاط لا يُحسد عليها ولا ينازع فيها عاقل، كان لا بد من العودة من جديد للبحث عن السبيل المؤدي إلى نهضة المجتمع، وليس أيّما نهضة، وإنما النهضة الإسلامية التي هي النهضة الوحيدة الصحيحة.
ومما لا شك فيه أن الإسلام قد رسم للمسلمين سبيل إقامة المجتمع الإسلامي. وبعبارة أخرى رسم الطريق لنهضة مجتمعهم. إلا أن هذه الطريق لا يمكن فهمها وتطبيقها قبل معرفة واقع المجتمع من حيث هو مجتمع. ذلك أن طريقة الإسلام في معالجة المشاكل وإعطاء الحلول هي على النحو التالي:
أولاً: فهم الواقع فهماً دقيقاً عميقاً للوقوف على حقيقة المشكلة التي تراد معالجتها.
ثانياً: العودة إلى النصوص التشريعية لفهم النصوص المتعلقة بذلك الواقع وتلك المشكلة فهماً تشريعياً، وتكون الغاية معرفة حكم الله في تلك المسألة، وذلك لأخذ المعالجات والحلول من الوحي الذي نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - سورة النور-الآية (55).(1/116)
ثالثاً: تطبيق هذه المعالجات الشرعية على ذلك الواقع لحل المشكلة المطروحة.
من هنا كان لابد أولاً من معرفة واقع المجتمع البشري من حيث هو مجتمع، أي لا بد من تعريف المجتمع.
إن كثيراً من الناس ينظرون إلى المجتمع نظرة سطحية عابرة، فيعّرفونه تعريفاً خاطئاً لا ينطبق على واقعه. فيقولون: إن المجتمع هو مجموعة أفراد من الناس. وتبعاً لتعريفهم هذا يضعون تصوراً لكيفية النهوض بالمجتمع أو إصلاحه فيقولون: أصلح الفرد يصلح المجتمع.
فلنحاكم ذلك التعريف. فحتى يكون التعريف صحيحاً يجب أن يكون وصفاً جامعاً مانعاً. ويكون هذا التعريف جامعاً إذا كان ينطبق على كل مجتمع، ويكون مانعاً إذا لم ينطبق على غير المجتمع.
وإذا طبقنا هذا التعريف على الواقع سنجده جامعاً إلا أنه غير مانع. فهو جامع، لأن كل مجتمع يحوي بالضرورة مجموعة أفراد. إلا أنه غير مانع، لأنه ينطبق على ما سوى المجتمع. ذلك أن مجرد مجموعة من الأفراد لا يكوّنون بالضرورة مجتمعاً. ولنضرب على ذلك مثالاً:
إن مجموعة من الناس يركبون سفينة واحدة لا يشكلون مجتمعاً مهما كثر عددهم، حتى ولو بلغ الألوف، وذلك باتفاق الجميع. أليس هؤلاء مجموعة من الأفراد.
فلماذا لم يشكلوا مجتمعاً؟ هذا يعني أن التَّعريف قاصِر، وبالتالي خاطىء.
وفيما نجد أن الألوف على ظهر الباخرة، لا يشكلون مجتمعاً، فإننا نجد أن بضع مئات من الناس في قرية صغيرة يشكلون مجتمعاً، وذلك أيضاً باتفاق الجميع.(1/117)
فالتعريف الصحيح هو ذلك التعريف الذي يلحظ الفرق الجوهري بين الناس الذين يشكلون مجتمعاً ولو كانوا بضع مئات في قرية، وبين الناس الذين اجتمعوا في وقت من الأوقات دون أن يشكلوا مجتمعاً ولو بلغوا عشرات الألوف. وهذا الفرق الجوهري يكمن في أن أهل القرية قامت بينهم علاقات دائمية حافظت على تماسكهم وجعلت منهم وحدة متماسكة وأعطت لمجموعهم - وليس لأفرادهم - شخصية متميزة بحيث أصبح لهذا المجموع هوية محددة. بينما ركاب الباخرة الذين يعدّون الألوف ليسوا أكثر من رفاق طريق ولا تربطهم أية علاقة دائمية، فهم سيتفرقون بمجرد النزول على الرصيف.
إذن، فالمجتمع هو مجموعة من الناس تؤلف بينهم علاقات دائمية، بها يقوم ذلك المجتمع وبتميّزها يتمّيز. فإن كانت هذه العلاقات راقية كان ذلك المجتمع راقياً وإن كانت منخفضة كان منخفضاً.
وهنا يبرز السؤال التالي:
كيف تكون هذه العلاقات راقية، وكيف تكون منخفضة؟ الجواب يكمن في معرفة العوامل التي تتحكم بهذه العلاقات.
إن النظرة العميقة إلى واقع المجتمع ترينا أن الذي يتحكم بعلاقات الناس فيه ثلاثة أشياء، هي المفاهيم والمشاعر والأنظمة.
أما المفاهيم، فذلك أن الإنسان يكون سلوكه تابعاً لمفاهيمه التي يحملها، فهو يفعل ما يراه صواباً، ويترك ما يراه خطأً، وحتى تقوم العلاقة بين الناس لابد أن تكون المفاهيم مشتركة، ذلك أن الناس اجتمعوا على المصلحة، ولا تقوم العلاقة بين طرفين إلا إذا توحدت المفاهيم لديهما حول المصلحة. أما إذا اختلفت المفاهيم حول المصلحة، فلن تقوم العلاقة.
وأما المشاعر، فذلك أن المفاهيم التي يحملها الناس، ترتبط بها مشاعر من جنسها، وحتى تقوم العلاقة بينهم، لابد أن تتوحد مشاعرهم تجاه المصلحة التي اجتمعوا عليها، فيفرحون جميعاً لما يرونه صواباً ويغضبون وينزعِجون جميعاً لما يرونه خطأً. وهذه الأفكار والمشاعر هي التي يتكون منها العرف العام في المجتمع.(1/118)
وأما الأنظمة، فإن كل مجتمع تقوم فيه سلطة ترعى شؤونه. وتنظم علاقاته وتفصل الخصومات فيه، كل ذلك حسب نظام تتبناه وتطبقه وتُلزم جميع أفراد المجتمع به، مما يعني أن هذا النظام سيكون له أثر كبير في علاقات المجتمع.
وهكذا يظهر لنا أن المجتمع هو أناس تربطهم أفكار ومشاعر مشتركة وأنظمة. وإن هذا المجتمع يصنَّف بحسب تلك الأفكار والمشاعر والأنظمة، فإن كانت مثلاً رأسمالية كلها كان المجتمع رأسمالياً، وإن كانت شيوعية كان المجتمع شيوعياً، وإن كانت إسلامية كان المجتمع إسلامياً.
فحتى يكون ذلك المجتمع ذا هوية معينة وشخصية متميزة يجب أن تكون تلك المجموعة من الأفكار والمشاعر والأنظمة متجانسة، بحيث لا يناقض بعضها بعضاً.
فلو فرضنا أن مجتمعاً يحمل مزيجاً من الأفكار الرأسمالية والإسلامية -كما هو الحال في كثير من البلاد الإسلامية - فإنه لن يكون لذلك المجتمع لون معين ولا هوية محددة، وبالتالي فإنه - مادام على حاله هذه - لن يعرف النهضة ولا بشكل من الأشكال.
وكذلك ما لو قام شرخ في مجتمع ما بين العرف العام فيه وبين الأنظمة بحيث طبق الحكام أنظمة تتناقض مع مفاهيم المجتمع ومشاعره - كما هو شأن معظم العالم الإسلامي اليوم - فإنه سيكون مجتمعاً مضطرباً تتّقد فيه نار العداوة بين الحاكمين والمحكومين، وبالتالي فإنه بعيد أشد البعد عن وصف الرقي أو النهضة.
ثم إن المجتمع يرقى برقيّ أفكاره ومشاعره وأنظمته وينخفض بانخفاضها. ولا يمكن أن تكون تلك الأفكار والمشاعر والأنظمة راقية إلا أن تكون مبنية على قاعدة فكرية واحدة. وهذه القاعدة الفكرية يجب أن تكون عقيدة عقلية تعطي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، حتى تصلح أن تكون مبدأ لكل الأفكار وأصلاً لكل الأنظمة.(1/119)
وخلاصة الكلام أن المجتمع، يكون مجتمعاً ناهضاً إذا كان عرفُهُ العام - وهو الأفكار والمشاعر- مبيناً على عقيدة عقليةٍ، وكانت أنظمته منبثقة عنها. وبذلك تكون هذه العقيدة هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، والقيادة الفكرية التي تأخذ بيده نحو النهضة.
فإذا أردنا إيجاد مجتمع ينعم بالنهضة الصحيحة، فإن ذلك لا يتأتى إلا بإقامة مجتمع إسلامي، أي بإيجاد مجتمع يقوم على العقيدة الإسلامية، بحيث تكون أفكاره ومشاعره وأنظمته كلها إسلامية. ذلك أن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الصحيحة وما سواها باطل.
وإذا نظرنا إلى واقع مجتمع المسلمين اليوم على ضوء ما سبق من الكلام، وجدنا أنه مجتمع يصدق عليه وصف الانحطاط. ذلك أن أفكاره وإن كان كثير منها إسلامياً إلا أن فيها قسماً كبيراً من الأفكار الدخيلة غير الإسلامية والتي ورد معظمها من الحضارة الغربية، كأفكار فصل الدين عن الحياة والحريات العامة والديمقراطية وما شابه ذلك.
أما من حيث المشاعر، فكذلك رُغْمَ من حفاظ الأمة على كثير من مشاعرها الإسلامية، تفشت في المجتمع كثير من المشاعر الزائفة، كالقومية والوطنية والقبلية وغيرها.
وأما من حيث الأنظمة، فإن أغلب الأنظمة التي تطبق في بلاد المسلمين هي أنظمة كفر استوردت من هنا وهناك من القوانين الوضعية.
وهكذا أصبح المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون، مشكّلاً من مزيج من الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية وغير الإسلامية، مما جعل منه مجتمعاً منخفضاً لا ينعم بشيء من النهضة.
كما أن ذلك يعني، أنه على الرغم من كون أغلب النا س في المجتمع مسلمين، إلا أن هذا المجتمع لا ينطبق عليه وصف المجتمع الإسلامي، أي أنه ليس مجتمعاً إسلامياً.
منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تغيير المجتمع(1/120)
لقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجتمع جاهلي، تسوده المفاهيم والمشاعر والأنظمة الجاهلية، فكانت مهمته أن يحول هذا المجتمع إلى مجتمع آخر تماماً، وذلك ليس بتغيير أفراده، وليس بإزالة أفراده والإتيان بأفراد آخرين بدلاً منهم، وإنما بتغيير مفاهيمه ومشاعره وأنظمته، أي بإزالة أفكار الكفر ومشاعره وأنظمته وإيجاد أفكار ومشاعر وأنظمة إسلامية.
فما الطريقة التي اتبعها في ذلك؟
من خلال التدقيق والاستقراء لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتداء من نزول الوحي، يتبين لنا أنها تنقسم إلى ثلاث مراحل:
أ المرحلة الأولى: مرحلة إعداد تكتل على أساس الإسلام، وتثقيفه بالثقافة الإسلامية.
ب المرحلة الثانية: مرحلة الصدع بالدعوة والتفاعل مع المجتمع.
ت المرحلة الثالثة: تطبيق الإسلام عملياً من خلال الدولة الإسلامية.
وفيما يلي التفصيل والتوسيع
المرحلة الأولى: مرحلة التثقيف(1/121)
استمرت هذه المرحلة ثلاث سنوات، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلالها بغرس العقيدة في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وكان يقوّي فيهم الإيمان عن طريق الأدلة والبراهين العقلية القاطعة، ويعلمهم أحكام الإسلام ويثقفهم بالثقافة الإسلامية الحية، ويقيم لهم الأدلة والبراهين على فساد العقائد والمفاهيم والأنظمة الجاهلية. ويحثهم على ذكر الله تعالى، وعلى التفكر في الكون من أجل مزيد من اليقين بالله ومزيد من الطاعات له، ويبعث فيهم الروحانية بالصلاة والتلاوة والتهجد. وينزع من قلوبهم مشاعر الجاهلية، كالحمية الجاهلية والعصبية القبلية، ويبعث فيهم المشاعر الإسلامية المنسجمة مع المفاهيم الإسلامية الصادقة، فيعوّدهم على الولاء لله وللرسول وللمؤمنين، ويحرم عليهم الولاء للشيطان وأوليائه، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم أو عشيرتهم، ويشحذ فيهم الهمم من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل، إلى أن يصلوا إلى حالة لا يطيقون معها أن يبقى المبدأ حبيس نفوسهم. فالعقيدة تغلي في صدورهم، والمفاهيم الصادقة تتزاحم في أذهانهم، والواقع بما يحويه من قناعات وعادات وتقاليد وأنظمة فاسدة مهترئة بالية وظلم لا يطاق وفساد لا يحتمل، وتسلط من شرار القوم وشذّاذ الآفاق، وتجبّر من الطواغيت، وظلم للمستضعفين، ووأد للبنات، وتطفيف للكيل، وافتراس للناس بالربا، وتقاتل من أجل العصبية . هذا الواقع يحفزهم ويدعوهم إلى مجابهته من أجل تقويمه.
واستمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة حتى أعد تكتلاً من الصحابة الذين نضجوا في الثقافة الإسلامية، فقد تكونت فيهم العقلية الإسلامية وأصبحت نفسيتهم نفسية إسلامية. وبذلك اطمأن عليه الصلاة والسلام إلى أنه أوجد تكتلاً من الشخصيات الإسلامية الناضجة الموصولة بالله تعالى، ولا تمتّ إلى المجتمع الجاهلي بصلة. وأيقن أن التكتل أصبح مستعداً للصدع بالدعوة مستعداً لمجابهة المجتمع القائم بكل جاهليته.(1/122)
المرحلة الثانية: مرحلة الصدع بالدعوة والتفاعل مع المجتمع
في هذه المرحلة، استمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بناء كتلته وتثقيفها وزيادة عددها، وأضاف إلى ذلك عدة أعمال كانت الأخطر والأصعب والأشد في حياة الدعوة التي عاشها تكتل الصحابة، وهذه الأعمال هي:
1- الدعوة الجماهيرية الجهرية لنشر الإسلام وإيجاد الرأي العام الإسلامي.
2- الصراع الفكري لعقائد الكفر وأنظمته وأفكاره وللعادات الفاسدة والأفكار الخاطئة والمفاهيم المغلوطة، ببيان زيفها والدعوة إلى تركها.
3- الكفاح السياسي، الذي تقصّد فيه زعماءَ قريش، لإصرارهم على الكفر وحكم الناس بأنظمة الكفر، ولوقوفهم في وجه الدعوة الإسلامية.(1/123)
في مرحلة الجهر بالدعوة هذه، حمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعوة وأظهر الكتلة التي تحمل معه الدعوة سافرة متحدية. وفوق ذلك فقد كانت هذه الدعوة بذاتها تتضمن كفاح قريش والمجتمع في مكة لأنها كانت تدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، وإلى ترك عبادة الأصنام والإقلاع عن النظام الفاسد الذي يعيشون وِفْقَه، فاصطدمت بقريش اصطداماً كلياً، فقد سفّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحلامهم وحقّر آلهتهم وندّد بحياتهم الرخيصة، ونعى على وسائل عيشهم الظالمة. ينزل عليه القرآن فيهاجمهم ويقول لهم صراحةً { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون }(1)، ثم يهاجم الربا الذي يعيشون عليه مهاجمة عنيفة من أصوله، فيقول تعالى في سورة الروم: { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله }(2)، ويتوعد الذين يطفّفون الكيل والميزان، فيقول تعالى: { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وَزَنُوهُم يُخْسِرون }(3)، ولهذا أخذوا يقفون في وجهه، ويؤذونه هو وأصحابه بالتعذيب تارة وبالمقاطعة أخرى، وبالدعاوة ضده وضد دينه، غير أنه ظل يهاجمهم، واستمر على مكافحة الآراء الخاطئة، وهدم العقائد الفاسدة، والمجاهدة في سبيل نشر الدعوة. وكان يدعو إلى الإسلام بكل صراحة، لا يكنيّ، ولا يلوّح، ولا يلين ولا يستكين، ولا يحابي ولا يداهن، رغم ما لاقاه من قريش من صنوف الأذى، ورغم ما يصيبه من مشقّات.
__________
(1) - سورة الأنبياء - الآية (98).
(2) - سورة الروم - الآية (39)
(3) - سورة المطففين - الآيات (1-3)(1/124)
ومع أنه فرد أعزل لا مُعين له ولا نصير من الناس، ولا عدة معه ولا سلاح، فإنه جاء سافراً متحدياً، يدعو لدين الله بقوة وإيمان، لا يتطرق إليه أي ضعف عن احتمال تكاليف الدعوة، والقيام بالأعباء الجسام من أجلها، فكان لذلك كله الأثر في التغلب على الصعوبات التي كانت تضعها قريش في وجهه لتحول بينه وبين الناس. وقد استطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصل إلى الناس ويبلّغهم، فأقبلوا على دين الله، وأخذت قوة الحق تعلو علىالباطل، وأخذ نور الإسلام يزداد كل يوم انتشاراً بين العرب، فأسلم الكثير من عبّاد الأصنام ومن النصارى، بل أخذ زعماء قريش يسمعون للقرآن وتهفو قلوبهم له.(1/125)
تجلى في هذه المرحلة الكفاح بين فكر وفكر، بين مسلمين وكافرين، بدأ ذلك من كتلة الصحابة حين خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه في ترتيب لم تعهده العرب من قبل، وفي كتلة واحدة. ومنذ ذلك الحين صار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينشر الدعوة على الناس كافة جهاراً نهاراً سافراً متحدياً. فيكون لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر على قريش، إذ ازداد حقدها وأحست بالخطر يقترب منها، وبدأت تتخذ الخطوات الجدية للمقاومة، بعد أن كانت بادىء الأمر لا تأبه لمحمد ولا لدعوته، فتجلّى الكفاح السياسي أكثر فأكثر، فلقد نزل القرآن الكريم يهاجم أبا لهب عم الرسول وأحد زعماء مكة، حيث قال تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب }(1)، ونزل القرآن الكريم يهاجم الوليد بن المغيرة الذي تولى المحاربة الفكرية والإعلامية للدعوة فقال تعالى: { كلا إنه كان لآياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً * إنه فَكَّر وقدر * فقُتِل كيف قَدّر * ثم قُتِل كيف قَدّر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إنْ هذا إلاّ سِحرٌ يؤثر * إن هذا إلا قولُ البشر * سأُصْلِيه سقر}(2). فازداد الأذى والاضطهاد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه.
لقد كان للدعوة الجماعية أثر نقلها إلى أفق أوسع، وإن كان نقل حَمَلتها إلى المشقة والعذاب وتحمل صنوف الأذى. وكان يزيد النار اشتعالاً في نفوس زعماء قريش، مهاجمة الرسول للظلم والقسوة والاستعباد الذي كان يسود مكة، وكشفه لأحوال الكفار وأعمالهم، فكانت هذه المرحلة من أشق المراحل، وكان هذا الدور من أعظم الأدوار.
__________
(1) - سورة اللهب - الآيات 1-3
(2) - سورة المدثر - الآيات 16-26(1/126)
منذ أن أنشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكتل الصحابة الذي صدع معه بالدعوة إلى الإسلام كان يستهدف تغيير العرف العام السائد في مكة، من عرف عام جاهلي إلى عرف عام إسلامي. ذلك أن تغيير ذلك العرف العام هو الخطوة الأهم في عملية تغيير المجتمع والانتقال به من الجاهلية إلى الإسلام، فإن ذلك العرف العام ما هو في حقيقة الأمر إلا مجموع ما لدى المجتمع من أفكار ومشاعر تكيّف سلوكه وعلاقاته ومواقفه. فإذا ما انتشر الإسلام واعتنقه الناس بغالبيتهم في مكة فإنهم يكونون قد حملوا أفكاره، واعتملت في نفوسهم مشاعره، وبذلك يكون العرف العام قد تشكل على أساس الإسلام - ولو علىنحو عمومي - مما يؤدي إلى وجود رأي عام يتلمس الإسلام في مواقفه وآرائه. عندها لن يعود بين المجتمع وبين أن يصبح إسلامياً إلا أن يوضع النظام الإسلامي موضع التطبيق من خلال السلطة والحكم، سواء أسلم أهل الحكم والسلطة وأوصلوا الإسلام إلى سدة الحكم بأنفسهم، أو أُطيحوا بالقوة بعد أن يصبح الرأي العام في مكة إسلامياً يريد أن يعيش حياة إسلامية. وبذلك يمكن لمكة أن تصبح النواة الأولى للمجتمع الإسلامي.(1/127)
إلا أن ذلك لم يتحقق للرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، فرغم أن الذين دخلوا في الإسلام من المكيّين زاد عددهم في تلك المرحلة، إلا أنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يمكن أن يقال معه إن العرف العام والرأي العام المكّي أصبح إسلامياً، فما زال العرف العام السائد هو العرف الجاهلي، والرأي العام هو رأي الجاهليين. وقد وصل الأمر مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة إلى أن تجمّد المجتمع في وجهه وتحجّر بحيث لم يعد هناك أي تفاعل بين الدعوة وبين الناس بسبب الإرهاب الذي مارسه صناديد قريش تجاه الإسلام وكل من تحدثه نفسه بالدخول في الدين الجديد. مما دفع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البحث عن مجتمع جديد يحاول فيه نشر الإسلام لعله يكون بديلاً عن مكة، نقطةً لارتكاز الدعوة تنتقل فيها من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التطبيق العملي من خلال الحكم. وصار يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة، إلى أن أكرم الله تعالى أهل يثرب بأن يكونوا أهل نصرة الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم -.(1/128)
حصل ذلك حين أسلم وفد من المدينة في أحد مواسم الحج على يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعادوا إلى المدينة ليدعوا قومهم إلى الإسلام وليأتوا في الموسم التالي بمزيد من الذين انشرحت قلوبهم لهداية الإسلام، فبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عند العقبة، فأرسل معهم - صلى الله عليه وسلم - الصحابي الجليل الداعية البارع مصعب بن عمير رضي الله عنه، ليعلمهم الإسلام ويفقههم فيه ولينشر الإسلام في المدينة. ولم تمض سنة على وجود مصعب في المدينة إلا وقد تشكل العرف العام الإسلامي في المدينة بعد أن دخل زعماؤها ومعظم أهلها في الإسلام. وبذلك تكفّل العرف العام الإسلامي في المدينة بركنين من أركان المجتمع الإسلامي ألا وهما المفهوم والشعور الإسلاميان المبنيان على العقيدة الإسلامية، فلم يبق إلا أن يأتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ليضع الأنظمة المنبثقة عن تلك العقيدة موضع التطبيق من خلال السلطة والحكم، وبذلك يكون قد قام المجتمع الإسلامي الأول.
وهكذا كانت هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة تتويجاً لمسيرة تأسيس مجتمع الإسلام، حيث شرع منذ وصوله بتطبيق أنظمة الإسلام على كل الصعد، في الحكم والاقتصاد والاجتماع والتعليم والعقوبات والسياسة الداخلية والخارجية. ووصل بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى المرحلة الثالثة، مرحلة تطبيق الإسلام عملياً من خلال الحكم والسلطان، أي من خلال "الدولة".
المجتمع الإسلامي
والاحتكاك الحضاري والفكري(1/129)
حين نقول إن الحضارة الإسلامية هي مجموعة المفاهيم الإسلامية عن الحياة، فهذا يعني أن الحضارة الإسلامية هي العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أنظمة وما نتج عنها وبني عليها من أفكار. وبالتالي فإنه بقدر ما يكون المجتمع متقيداً بأوامر الله ونواهيه، سائراً وفق نظام الله تعالى، ستتجلى فيه الحضارة الإسلامية. وبقدر ما يكون الفكر الإسلامي واضحاً في أذهان المسلمين سيحسنون تطبيقه، وبقدر ما يكون نقياً وصافياً ستكون حضارتهم إسلامية صرفة. ونعني بالنقاء والصفاء أن لا يداخل الفكر الإسلامي أي دخل أو فكر غريب. لأن أي فكر غير إسلامي يقحم في الفكر الإسلامي هو تلويث له وتشويه. ذلك أن الفكر الإسلامي - وهو وحي من الله - هو الحق وما سواه هو الباطل، ولا يمكن لهما أن يجتمعا. وهذا كما أسلفنا ما يميّز الحضارة الإسلامية عن غيرها، من حيث إنها لا تمتّ بصلة إلى أي حضارة أخرى. فما مدى النقاء الذي اتّسم به الفكر الإسلامي في أذهان المسلمين وحياتهم خلال التاريخ الإسلامي وإلى عصرنا هذا؟
لقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينزل الوحي بالإسلام بين قوم أميّين بعيدين أشدّ البعد عن المدنية والحضارات المعقدة والمتشابكة التي شوّشت أذهان الشعوب والأمم، { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }(1).
إذا تلمسنا الفرق بين المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية وبين سائر المجتمعات، نجد أن هناك فروقاً مهمة تجعلنا نقف عند شيء ولو يسير من الحكمة في نزول الوحي بين هؤلاء العرب.
__________
(1) - سورة الجمعة - الآية (2)(1/130)
إذا تأملنا طبيعة الحياة والأجواء التي أحاطت بالعربي في الجزيرة العربية، وجدنا البساطة هي السمة الأبرز في حياته. فالأشياء التي يراها حوله في الصحراء قليلة، وربما استطاع الإنسان أن يعدها بالرمال والجبال والمياه والنخيل في الواحة والإبل والدواب والخيام وبعض البيوت الطينية البسيطة وبعض الماشية والشمس في النهار والقمر والنجوم في الليل، والقليل من الأشياء غيرها. وها هو القرآن الكريم حين يخاطبهم يراعي في ضرب الأمثلة ما يقع عليه نظرهم فيقول: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }(1).
وكذلك إذا نظرنا إلى عقائدهم وأفكارهم سنجدها بسيطة تافهة، وهي تتلخص في عبادة الأوثان وتعظيم العشيرة والتفاخر بالأموال والبنين، مع التمسك ببعض القيم والشيم كالشهامة والشجاعة والمروءة والنجدة والكرم وما شابه ذلك. وتبعاً لبساطة تلك العقائد والأفكار، كانت عاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم تتسم بالبساطة وبعيدة كل البعد عن التعقيد. وبالتالي كانت أذهانهم صافية بعيدة عن التشوش والتعقيد، ولعل ذلك كله يفسر تميّزهم بذاكرة قوية تجلت أكثر ما تجلت في حفظ الأنساب والأسماء والأشعار.
وأما سائر المجتمعات المحيطة التي انتشرت فيها الحضارات القديمة كالرومانية والفارسية والهندية والصينية، فإنها كانت مجتمعات مثقفة متمدنة، ازدحمت في أذهانها الأفكار والمعلومات التي أغدقتها الفلسفات والأديان والنظم والحضارات والثقافات والمعارف المتعددة والمختلفة والمتلونة. وكانت الحياة فيها تتسم بالتعقيد بما فيها من مدنية وعمران ووسائل مادية، مما جعل أذهان الناس فيها مشوشة تتسم بالتعقيد والتكلف.
__________
(1) - سورة الغاشية - الآيات (17 - 18 - 19 - 20)(1/131)
وهكذا كان العرب الصحراويون مؤهلين أكثر من جميع هؤلاء لتكون فيهم النبوة والرسالة من الله تعالى، ذلك أن أذهانهم كانت مهيّأة لأن تتخلى بسهولة عن العقائد والأفكار التافهة السطحية إذا ما اقتنعت بالفكر الجديد الذي نزل وحياً من عند الله تعالى، فلا يخلطون بينه وبين غيره من الموروثات الفكرية السابقة، لأن ذلك قد يؤدي إلى وجود دين جديد وحضارة جديدة ليست هي الجاهلية الأولى ولا الإسلام، وإنما هي مزيج من الاثنين لا هوية له ولا لون ولا طعم.
أما لو أردنا أن نتصور ما سيكون حال هذه الدعوة إذا انتشرت بادىء أمرها في المجتمعات الرومانية أو الفارسية أو الهندية مثلاً، فبإمكاننا أن نستحضر في ذهننا الصورة التي أحاطت بالدين النصراني حين انتشر في الإمبراطورية الرومانية حيث أصبح مزيجاً من المسيحية والوثنية والفلسفات اليونانية والهندية وغيرها. وكذلك يمكننا استحضار صورة الفِرَق المبتدعة التي انسلخت عن الإسلام بعد انتشاره خارج الجزيرة العربية والتي ما كانت بدعها في حقيقة الأمر إلا اقتباساً للأفكار الوثنية والفلسفية الغابرة ومحاولة نَسبها إلى الإسلام زوراً وبهتاناً.
وهكذا كان العرب أهلاً لأن يكونوا النواة الأولى التي تتجسد فيها الحضارة الإسلامية نقية صافية مبلورة واضحة خالية من أي لبس أو لوث أو دخل أو دخن.
فما مدى استمرار ذلك النقاء في الفكر الإسلامي من بعد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/132)
إن الناظر في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومروراً بعدة قرون من بعده، يجد أن الأمة الإسلامية حافظت على نقاء فكرها إلى حد بعيد، ولم توجد أمة انضبطت في تفكيرها وحافظت على هويتها واستقامت في سيرها وفق وجهة نظرها وقيادتها الفكرية كما كان حال الأمة الإسلامية. فالعقيدة الإسلامية كانت القاعدة الفكرية التي يبني المسلمون عليها أفكارهم. ونصوص الوحي - وهي القرآن والسنة - كانت المصدر لأنظمة الحياة والدولة. وكانت الأمة حريصة على عدم الأخذ من أي فكر أو حضارة غير الإسلام ذلك أن كل ما سوى الإسلام في نظرها هو كفر، لأنه ليس بعد الحق سوى الضلال.
إلا أن هذا الواقع لم يستمر كما يجب، فقد وصلنا إلى حالة لم يعد معها الفكر الإسلامي واضحاً في أذهان المسلمين، ولم يعد نقياً حتى في أذهان العلماء ومدرسي الشريعة وطلابها، حيث دخلت لوثات كثيرة إلى الأذهان، وأصبح كثير من الأفكار ينسب إلى الإسلام وهو منها براء. فما أسباب هذا التلوث؟ ومتى بدأ؟ وما هو الطريق للتخلص منه وإعادة النقاء إلى فهم المسلمين للإسلام؟
من البدهي أن تأثر الشعوب بعضها بأفكار بعض يكون نتيجة للاحتكاك الفكري بين تلك الشعوب. هذا الاحتكاك قد يؤدي إلى انهزام فكر وانتصار فكر، وقد يؤدي إلى تأثر فكر بالآخر، وقد يؤدي إلى تأثر الفكرين كل واحد منهما بالآخر.
والتاريخ يرينا أن الفكر الإسلامي منذ أن احتك بغيره من الأفكار، لم يصمد أمامه فكر مطلقاً، مادام قد تسنى له من يفهمه حق فهمه ويحمله بالتالي على أحسن وجه. أما حين أصبح فاقداً للحَمَلَة الواعين الفاهمين، فقد سنحت الفرصة لغيره من الأفكار بالانتصار، لا عليه، وإنما على المسلمين.(1/133)
لقد تعرض الفكر الإسلامي لكثير من الضغوط والعوامل التي من شأنها أن تؤدي إلى تلويثه وتشويهه أو ربما تحريفه لولا أن الله تعالى تكفل بحفظه وهو القائل: { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون }(1). فما هي تلك الضغوط والعوامل وما مدى تأثيرها على الثقافة الإسلامية؟
?…?…?…?
مع ظهور الإسلام وخلال المرحلة المكية، خاض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم، الصراع الفكري إلى جانب الكفاح السياسي، في الوقت الذي يعلو فيه الكفر والكفار في المجتمع. ويمكن أن توصف تلك المرحلة بحق بأنها مرحلة ملحمية حيث كانت تقع على عاتق الرسول مهمة من أصعب المهمات. فهو يقف أعزل مستضعفاً أمام صناديد الكفار، ويواجههم بدينه، ويعيب عليهم آلهتهم، ويسفه أحلامهم، ويحقّر تراث آبائهم، ويطرح دعوته متحدياً سافراً لا يداهن ولا يداجي ولا تلين له قناة. فيعمد الكفار إلى ما يملكون من قوة وأسباب ووسائل يستخدمونها إما للترهيب أو الترغيب. فتارة يعرضون عليه المال والجاه والنساء والملك، وتارة يساومونه فيعرضون عليه أن يعبدوا إلهه مقابل أن يعبد آلهتهم هو أيضاً، أو على الأقل أن يكف عن سبها وتحقيرها. فإذا فشلت أساليب الترغيب هذه عمدوا إلى وسائل الترهيب من قتل للصحابة وتعذيب لهم وتشريد ومقاطعة اقتصادية واجتماعية وسياسية وغير ذلك. فهل نجحت تلك الضغوط في التأثير على الدعوة وهل كان لها أثر في الفكر الإسلامي؟
__________
(1) - سورة الحجر - الآية (9)(1/134)
إن لنا أن نتصور - لو لم يكن رسول الله هو حامل الدعوة - أن حَمَلَة الدعوة قد يتنازلون عن بعض أفكارهم ومواقفهم ويداهنون أعداءهم ويسايرونهم حتى يخفّفوا من نقمة المجتمع والحكام، وحتى يستميلوا إليهم أتباعاً لدينهم بعد إجراء التعديلات عليه على نحو يوافق عقليات الناس وأمزجتهم، كما يفعل كثير من أصحاب الدعوات. وعلى الرغم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم لا يتصور منه ذلك، إلا أن القرآن الكريم يحذره من الوقوع في تلك الحبائل الشيطانية التي يحيكها صناديد قريش، لاسيما المداهنة والمسايرة والتملق. فيقول تعالى: { فلا تطع المكذبين * ودّوا لو تدهن فيدهنون }(1). وبعض الآيات تصرح بأن الكفار كادوا أن يصرفوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الإسلام لولا تثبيت الله تعالى له، حين قال تعالى: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضِعف الحياة وضِعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً }(2). قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: "هو قول أكابر قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونسمع منك، فهمّ بذلك حتى نهي عنه. وقال قتادة: ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخّمونه ويسوّدونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا يا سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، وأنزل الله تعالى هذه الآية... ولما نزلت هذه الأية {ولولا أن ثبتناك...} الآية، قال عليه السلام: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين... وقال ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معصوماً، ولكن هذا تعريف
__________
(1) - سورة القلم - الآيتان (8 - 9)
(2) - سورة الإسراء- الآيات (من 73 حتى 75)(1/135)
للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه".
وهكذا، فإن هذه الأجواء التي عاشها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام في مكة، جلبت الكثير من الضغوط المادية على حملة الدعوة، إلا أننا رأينا أن هذه الضغوط لم يكن لها أي تأثير على الدعوة ولا على الفكر الإسلامي، فهي حقبة النبوة، وقائد الدعوة هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنّى للكفر أن يفلح في ذلك. وقد تخطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك المرحلة وأصبح للإسلام دار ودولة تحكم بما أنزل الله تعالى. وزالت تلك الضغوط عن حملة الدعوة بعد أن تخلصوا من طغيان الكفار، وأصبحوا حكام مجتمعهم في المدينة المنورة، حيث وُضع الإسلام موضع التنفيذ والتطبيق. ولم تمض عشر سنين إلا وقد انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطبق الإسلام فيها نقياً صافياً، وعلى أحسن وجه.
?…?…?…?
بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تابع الصحابة الكرام المسيرة، فبايعوا خلفاء يحكمونهم بكتاب الله وسنة رسوله ويرعون شؤونهم بالأنظمة التي انبثقت عن العقيدة الإسلامية. وكان الخلفاء الراشدون حريصين أشد الحرص على الحفاظ على نقاء الإسلام وصفائه وبراءته من أي لوث أو دخل. حتى إن اتساع الدولة الإسلامية وترامي أطرافها لم يغرهم باقتباس الأفكار وأنظمة الحكم والاقتصاد. ففرقوا بين الحضارة والمدنية وكذلك بين الثقافة والعلوم. وفرقوا بين أنظمة الحكم والقوانين الإدارية. فرفضوا الحضارات والثقافات وأنظمة الحياة كلها ما دامت من غير الإسلام، وأخذوا ما يلزمهم من المدنية والعلوم والقوانين الإدارية، وذلك كما فعل عمر بن الخطاب حين أخذ نظام الدواوين الذي لم يكن أكثر من أسلوب إداري كالدوائر والإدارات والسجلات التي تضمن حسن تطبيق النظام الذي تبنته الدولة.(1/136)
وقد حافظ الفكر الإسلامي على نقائه طوال عهد الخلفاء الراشدين. وكذلك من بعدهم، إلا أنه خلال العهد الأموي بدأت بعض اللوثات تتسرب إلى أذهان المسلمين فيخلطونها بالإسلام.
من أوائل المحاولات لاختراق الفكر الإسلامي كانت عمليات دس الأحاديث. فقد عمد أعداء الإسلام إلى الأحاديث النبوية يدسون فيها أحاديث مكذوبة لم يقلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم زوروها وضمّنوها معاني غير إسلامية ومفاهيم تناقض الإسلام، حتى يأخذها المسلمون ويعملوا بما فيها فيبعدوا عن الإسلام. وبالفعل كذبوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة دسوها بين الأحاديث وأشاعوها بين الناس. غير أن المسلمين فطنوا لهؤلاء الزنادقة وقضوا على مؤامراتهم، فهب العلماء ورواة الحديث يجمعون الحديث ويضعون تاريخ رواته وأوصافهم ويبينون الحديث الصحيح من الضعيف من المكذوب، حتى حفظ الحديث فحصرت رواية الحديث في تابعي التابعين عن التابعين عن الصحابة، ولم تقبل بعدهم أي رواية. وحصر الرواة وعرف كل واحد منهم، وبُينت طبقات كتب الحديث، حتى أصبح بإمكان المسلم إذا تتبع الحديث أن يعرف صحته من ضعفه من كذبه، بمعرفة سنده ومتنه. وفوق ذلك فإن الدولة الإسلامية ضربت على يد هؤلاء الزنادقة بيد من حديد حتى كان جزاء الكثيرين منهم القتل جزاء على افترائهم الأحاديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك لم يكن لهذه المؤامرة على الإسلام ولا على ثقافته أثر يذكر. ولكن الخطر داهم الثقافة الإسلامية من طريق آخر.(1/137)
حدث ذلك حين بدأ الاحتكاك الفكري بالشعوب التي فتح المسلمون بلادها، من رومية نصرانية وفارسية وهندية وقبطية وغيرها. وكانت تلك الشعوب تحمل قبل الفتح الإسلامي ثقافات وأفكاراً عميقة الأثر في نفوسهم. وكان على المسلمين أن يشمروا عن سواعدهم لخوض صراع فكري مع هؤلاء حتى يوصلوا إليهم الإسلام. فالفتوح الإسلامية إنما شرعت لهذا السبب، وكان كل فتح يعقبه انتشار للعلماء والدعاة حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً. فخاض بعضهم غمار مجادلة أهل الكتاب الذين كانوا ينتشرون في بلاد الشام وشمال إفريقية وبعض العراق، وخاض بعضهم غمار مجادلة المجوس الفارسيين وبعضهم جادل الوثنيين من هنود وصينيين وغيرهم.
لقد كان البدهي أن يحقق المسلمون انتصاراً ساحقاً على كل الثقافات والحضارات والأديان التي كان يعتنقها الكفار من الشعوب المفتوحة، ولم يستغرق الأمر سنين طوالاً، بل لقد دخلت شعوب تلك البلاد الإسلام بأسرع من لمح البصر في حساب تاريخ الشعوب والأمم، وهجرت حضاراتها وثقافاتها وانصهرت في حضارة الإسلام وتثقفت بثقافته.(1/138)
إلا أن هذا الصراع الحضاري والفكري الذي انتصر فيه المسلمون على سائر الثقافات والحضارات، لم يمض دون أن يصابوا ببعض "الشظايا الفكرية" المتناثرة في ميدان المعركة، فقد كان الاصطدام الفكري جدّ عنيف. وكان أصحاب الأديان الأخرى يثيرون الشبهات ويجادلون المسلمين في العقائد، لأن أساس الدعوة مبني على العقيدة والأفكار المتعلقة بها. فكان حرص المسلمين على الدعوة الإسلامية، وحاجتهم للرد على خصومهم قد حمل الكثيرين منهم على تعلم بعض الأفكار الفلسفية لتكون بيدهم سلاحاً ضد خصومهم. فقد تسربت مسائل فلسفية لاهوتية من نصارى النساطرة وأمثالهم وعرف منطق أرسطو بين المسلمين، واطّلع بعض المسلمين على بعض كتب الفلسفة، وترجمت كتب كثيرة من اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية، ثم صارت الترجمة من اليونانية إلى العربية، فكان هذا مساعداً على وجود الأفكار الفلسفية. وكانت الأديان الأخرى وخاصة اليهودية والنصرانية قد تسلحت بالفلسفة اليونانية، وأدخلت للبلاد الأفكار الفلسفية، فكان ذلك كله موجداً أفكاراً فلسفية حملت المسلمين على دراستها.(1/139)
إلا أن تلك الدراسة لم تكن دراسة فلسفية كاملة، وإنما دراسة أفكار فلسفية للرد على النصارى واليهود، لأنه ما كان يتسنى للمسلمين الرد إلا بعد الاطلاع على أقوال الفلاسفة اليونانيين، لاسيما ما يتعلق منها بالمنطق واللاهوت. ولذلك اندفعوا إلى الإحاطة بالفرق الأجنبية وأقوالها وحججها. وبذلك أصبحت البلاد الإسلامية ساحة تعرض فيها كل الآراء وكل الديانات ويُتجادل فيها. ولاشك أن الجدل يستدعي النظر والتفكير ويثير مسائل متعددة تستدعي التأمل، وتحمل كل فريق على الأخذ بما صح عنده، فكان هذا الجدل والتفكير مؤثراً إلى حد كبير في إيجاد أشخاص ينهجون نهجاً جديداً في البحث والجدل والنقاش. وقد أثرت عليهم الأفكار الفلسفية التي تعلموها تأثيراً كبيراً في طريقة استدلالهم، وفي بعض أفكارهم، فتكوّن جراءَ ذلك "علم الكلام" وصار فناً خاصاً، ونشأت في البلاد الإسلامية بين المسلمين جماعة "المتكلمين".
صحيح أن هؤلاء المتكلمين كان تأثرهم الأساسي هو بالقرآن، وأساسهم الذي يبنون عليه بحثهم هو القرآن، إلا أنهم - وقد تعلموا الفلسفة للدفاع عن القرآن وتسلحوا بها ضد خصومهم - صار لهم منهج خاص في البحث والتفكير، يخالف منهج القرآن والحديث وأقوال الصحابة ويخالف في الوقت نفسه منهج الفلاسفة اليونانيين في بحثم وتقريرهم وتدليلهم(1).
__________
(1) - راجع: النبهاني - الشخصية الإسلامية، الجزء الأول - (ص 47 حتى 50).(1/140)
حين ظهر علم الكلام على الساحة الثقافية الإسلامية لاقى مواجهة عنيفة من علماء المسلمين وفقهائهم. إذ إنه أدخل طريقة في البحث غريبة عن الحس الإسلامي ومخالفة كما أسلفنا لمنهج القرآن والسنة في بحث العقائد. لذلك عارض معظم الفقهاء علم الكلام وكان حكمهم في المتكلمين شديداً. من ذلك ما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:" حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في علم الكلام"(1). وقال الإمام ابن عبد البر:"أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع، في جميع الأمصار في طبقات العلماء. وإنما العلماء أهل الأثر والفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم"(2).
إلا أنه مع مرور الزمن بدأ علم الكلام ينتشر بشكل واضح ويلقى قبولاً لدى معظم العلماء، حتى أصبحت عبارة "علم الكلام" مرادفة لعبارة "علم التوحيد" أو "أصول الدين"، بل إن كثيراً ممن بقوا ينكرون على المتكلمين وعلم الكلام انزلقوا إلى الخوض في مسائله ووفق منهجه دون أن يفطنوا إلى ما وقعوا فيه. وكان من أسوأ آثاره أنه اندمج مع علم أصول الفقه على نحو شوّه ذلك العلم الذي هو من أجلّ العلوم.
ولعل ظهور "علم الكلام" والمتكلمين كان باكورة التأثر الفعلي لدى المسلمين بسائر الثقافات والحضارات. وقد توالت بعد ذلك موجات التأثير التي أصابت البنيان الفكري للأمة الإسلامية.
__________
(1) - تلبيس إبليس - ص (107).
(2) - جامع بيان العلم وفضله - ج 2 - ص (95).(1/141)
فبعد ظهور علم الكلام والمتكلمين وانتشار المؤلفات الفلسفية وترجماتها، أصبح الاطّلاع على الفلسفة اليونانية وغيرها، من الأمور المتيسرة في بلاد المسلمين، مما أدى إلى ظهور من عرفوا "بالفلاسفة المسلمين" الذين لم يقتصر عملهم على الاطلاع على بعض جوانب الأبحاث الفلسفية والرد عليها، بل تخطوا ذلك إلى دراسة الفلسفة دراسة كاملة والسير على منهجها بشكل كامل. ومن أشهر هؤلاء "الكندي" المتوفى سنة 260 هـ، ثم جاء بعده "الفارابي" و"ابن سينا" و"جابر بن حيان" وغيرهم.
وقد أخطأ كثيراً من عدّ فلسفة هؤلاء "فلسفة إسلامية"، ذلك أنها لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، بل هي تتناقض مع الإسلام تناقضاً تاماً، سواء من حيث الأساس أو من حيث كثير من التفاصيل. أما من حيث الأساس فإن هذه الفلسفة تبحث في ما وراء الكون، أي في الوجود المطلق، بخلاف الإسلام فإنه إنما يبحث في الكون وفي المحسوسات فحسب، فيقول تعالى:{ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل النهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون }(1)، ويمنع البحث في ذات الله، وفيما وراء الكون، ويأمر بالتسليم به تسليماً مطلقاً، والوقوف عند حد ما يأمر بالإيمان به من دون زيادة، ودون أن يسمح للعقل في محاولة بحثه. وأما من حيث التفاصيل فإن في هذه الفلسفة أبحاثاً كثيرة يعتبرها الإسلام كفراً، ففيها أبحاث تقول بقدم العالم وأنه أزلي، وأبحاث تقول إن نعيم الجنة روحاني وليس مادياً، وأبحاث تقول إن الله يجهل الجزئيات، وغير ذلك مما هو كفر صراح قطعاً في نظر الإسلام(2).
__________
(1) - سورة البقرة - الآية (164).
(2) - راجع: النبهاني - الشخصية الإسلامية، الجزء الأول - ص (122 حتى 125).(1/142)
إلا أن الجدير ذكره، هو أن هؤلاء الفلاسفة لم يبلغوا أن يكونوا جماعات أو مذاهب، ولم يتبعهم جمهور من المسلمين، أي أنهم لم يكونوا يعبّرون عن الرأي العام الإسلامي، ولا حتى عن قسم منه. لذلك ليس من الصواب أخذ أبحاثهم بعين الاعتبار حين دراسة الثقافة السائدة في الأمة الإسلامية آنذاك. فليس كل من كتب كتاباً أو صنّف مصنفاً يشكل تياراً فكرياً في المجتمع، فإنه لا تكون له تلك الأهمية إلا أن تنتشر أفكاره لدى جمهور من الناس. بل إننا نرى هؤلاء الفلاسفة منبوذين من قبل الرأي العام الذي كان ينظر بعين الريبة، بل والسخط، إلى أبحاثهم وانحرافاتهم الفكرية، ولاسيما أن الرأي العام كان يستلهم معظم مواقفه من آراء المجتهدين والفقهاء الذين وقفوا بالمرصاد أمام تلك الانحرافات الفكرية. ويمكننا القول إن هؤلاء الفلاسفة لم يحظوا طوال التاريخ بالأهمية التي حظوا بها في التاريخ الحديث والمعاصر. وربما ذاع صيتهم في البلاد الغربية قبل الإسلامية في التاريخ المعاصر، نتيجة حركة الاستشراق التي توجهت دائماً نحو الإعلاء من شأن الفرق الضالة والمبتدعة أمثال القرامطة وغيرها من الفرق الباطنية، وكذلك الإعلاء من شأن الفلاسفة أمثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن حيان وابن رشد. وحاول هؤلاء المستشرقون دائماً إظهار هؤلاء الفلاسفة في صورة المفكرين المتنورين والعباقرة المبدعين الذين انتفضوا على جمود العصور الوسطى وتخلفها وتزمتها، والذين كانوا ضحية الفقهاء والرجعيين من رجالات الدولة وحكامها. تماماً كما كانوا يصورون مفكري عصر النهضة الأوربية أو الفلاسفة المتنورين الذين انتفضوا في وجه الاستبداد الديني والظلم والتعسف الذي مارسه رجال الدين والكنيسة المتحكمون بالمجتمع وثقافته.(1/143)
ولكن، مهما يكن شأن هؤلاء ضئيلاً في ذلك الوقت، إلا أن أبحاثهم كانت ممراً لبعض الأفكار الفلسفية التي لم يكن لها أن تنتشر وتتركز في أذهان المسلمين لولا أن أسدى لها بعض العلماء خدمة جليلة بإضفاء الصفة الشرعية عليها، وأبرز تلك الأفكار ما صنف تحت عنوان "التصوف".
?…?…?…?
حين دخلت أفكار الصوفية والتصوف بادىء الأمر إلى الميدان الثقافي في العالم الإسلامي عبر ترجمات الكتب الهندية والفارسية وغيرها واعتنقها بعض الناس وأخذوا أفكارها، عاملها المسلمون - وفي مقدمتهم العلماء والفقهاء- كما عاملوا سائر الفلسفات والفلاسفة، بل كان موقفهم إزاءها أشد قسوة وأكثر وضوحاً، وذلك لبعد الشقة بينها وبين العقيدة الإسلامية من حيث الأساس. ذلك أن الفلسفة الصوفية الوافدة من الهند والصين والتي تأثر بها النصارى قبل المسلمين، بل وحتى قبل ظهور الإسلام، حوت من الأفكار والآراء ما يخالف الإسلام، بل ويعد كفراً صريحاً بنظره. ففيها أفكار الحلول والاتحاد، وارتقاء المتصوفة إلى سدة الذات الإلهية، أو تجسد الذات الإلهية في شخص المتصوفة، وفيها الاعتقاد بحدوث المعجزات على أيدي المتصوفة وما شاكل ذلك، مما لا يمكن بشكل من الأشكال أن يلقى قبولاً أو حتى تجاهلاً من قبل المسلمين. لذلك كان "الأفراد" الذين أخذوا الأفكار الصوفية واعتنقوها مثل محي الدين بن عربي والحلاّج وغيرهما من المنبوذين المغضوب عليهم في المجتمع الإسلامي، ومعدودين في عداد الزنادقة والكفار المرتدين.(1/144)
إلى أن جاء الوقت الذي بدأت فيه الصوفية تلقى القبول، حين لقيت العناية من بعض العلماء المسلمين الذين تكفلوها بالرعاية وأخذوا على عاتقهم تهذيبها وتنقيتها مما يخالف العقيدة الإسلامية. وكان من أبرز هؤلاء الإمام "أبو حامد الغزالي" المتوفى سنة 505هـ. إلا أن هذا الأمر أدى للأسف إلى تبني الأساس الذي تقوم عليه الصوفية، فضلاً عن أن الصوفية هي جملة وتفصيلاً فكرة غريبة عن الإسلام وسابقة عليه زمناً.
فالأساس الذي تقوم عليه الصوفية، هو أن الوجود كله مكون من مادة وروح، أي أن فيه المادي المحسوس والغيبي الذي لا يُرى والذي سمّوه الروح. وكذلك الإنسان في نظرهم مكون من مادة - وهي الجسد - ومن الروح. وكانوا ينظرون إلى المادة على أنها الشر المطلق وإلى الروح على أنها الخير المطلق. وبالتالي فإن الإنسان مكون من ناحيتين متناقضتين تعمل كل منهما على أن تطغى على الأخرى. فإما أن يتغلب الجسد على الروح فينحط الإنسان إلى درك الدناءة والرذيلة والشر ووحل الأرض، وإما أن تتغلب الروح على الجسد فيرتقي إلى مصافّ الملائكة والأولياء وينسلخ عن مادة الأرض والتراب والجسد حتى يصل في ذروة ارتقائه إلى العلوم والمعرفة لا من طريق الاكتساب وتلمس الأسباب، وإنما من طريق الكشف والتجلي، وحتى تحصل المعجزات أو ا"الكرامات" على أيدي "الأولياء الصالحين".(1/145)
وهكذا، وبجهود علماء كالغزالي وغيره انتشرت فكرة الصوفية وشعائرها وطقوسها، فبدأت أفواج المتصوفين تسلك دروب "رياضة النفس والروح"، من خلال التقشف وتعذيب الجسد والبعد عن متاع الحياة الدنيا وزخرفها وهجر المجتمع وترك الأسباب واحتقار العمل والنضال السياسي والمكوث في الزوايا والتكايا. كل ذلك حتى تتغلب الروح على الجسد ويصل "الأتقياء" إلى مصافّ الملائكة والأولياء. مع أن تلك الفلسفة التي تقوم عليها "الصوفية" ليست من الإسلام في شيء، بل هي مخالفة له كل المخالفة(1). وهكذا كانت تلك الفكرة من عوامل الهبوط في المجتمع الإسلامي، فهي تدفع الإنسان إلى هجر المجتمع وازدراء الحياة إلى حد يجعل من المتصوف إنساناً عديم الغاية فاقد الهدف، فلا نشاط لديه ولا عمل يؤدي إلى عمارة الدنيا على أساسٍ من تقوى الله سبحانه وتعالى الذي استخلف الإنسان في الأرض فقال له: { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها }(2). وكان ضغثاً على إبالة أن اندمجت فكرة الصوفية تلك مع القدرية الغيبية التي تؤمن بأن الإنسان كالريشة في مهب الريح أو كالخشبة التي تتلاطمها الأمواج، فلا قيمة لإرادة الإنسان ولا لقدرته ولا جهده، فكل ما في هذه الدنيا يحصل نتيجة خطة محكمة لا يملك الإنسان التأثير في شيء منها. ولا يخفى على واعٍ ما في تلك المفاهيم من خطر مدمر على أي مجتمع من المجتمعات.
__________
(1) - راجع في هذا الكتاب: "الروح والناحية الروحية".
(2) - سورة هود - الآية (61).(1/146)
وفي تلك المرحلة التي انتشرت فيها حركة الترجمة، وهي زمن الخلافة العباسية، انتشرت في بعض البلاد الإسلامية ولدى بعض المذاهب الإسلامية فكرة جديدة لا تقل خطراً عن الأفكار السابق ذكرها. هذه المرة أتت هذه الفكرة من ثقافة الفارسيين الذين فتح المسلمون بلادهم وأسقطوا دولتهم ودخلوا في الإسلام كسائر الشعوب التي دخلت تحت راية الدولة الإسلامية. لاشك أن تلك الشعوب دخلت في الإسلام مخلصة صادقة، إلا أن بعض الحاقدين على الإسلام وأهله تستروا بلباس الإسلام وسلكوا درب النفاق من أجل أن يطعنوا الإسلام من داخله، فحملوا معهم موروثاتهم الفكرية من ثقافاتهم وأديانهم البائدة السابقة محاولين دسها في الإسلام والثقافة الإسلامية. فكان من ثمرات ذلك الدس أن انتشرت بين صفوف قسم من المسلمين فكرة "عصمة الأئمة" وفكرة الوصاية بالخلافة للأئمة المعصومين. وملخص تلك الفكرة أن الله تعالى لم يترك المسلمين بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليختاروا خليفة له ينصبونه عن طريق البيعة، إذ لا يجوز أن تُترك رعاية شؤون المسلمين ومهمة حفظ الدين لأناس يخطئون ويصيبون. وإنما عيّن سبحانه أئمة بأسمائهم هم الخلفاء الشرعيون للرسول عليه الصلاة والسلام بنص الوحي، وهم من المعصومين عن المعصية ومخالفة الشرع، ولا يجوز لأحد غيرهم أن يتولى منصب الخلافة، وكل من تولى ذلك المنصب هو معتد على الشرع ومغتصب لحق الأئمة المعصومين في الخلافة.(1/147)
والذي يُنعم النظر في التاريخ الفارسي وحضارته يدرك مدى الارتباط بين الثقافة الفارسية وفكرة "عصمة الأئمة". فلقد كان الملك الفارسي يحكم الناس بصفته ممثلاً للإرادة الإلهية، بل كان الفارسيون يعتقدون "أن قرارات الملك وأحكامه إنما يوحيها إليه الإله نفسه، وعلى هذا الأساس كان قانون المملكة مستمداً من الإرادة الإلهية وكان كل خروج على هذا القانون يعد خروجاً على إرادة الإله"(1). وليس من قبيل المصادفة على الأرجح أن فكرة عصمة الأئمة نشأت وترعرعت في بلاد فارس ولا زالت تتركز فيها إلى اليوم. وعلى كل حال، فإن فكرة الحكم بموجب التفويض الإلهي كانت منتشرة في تلك العصور، بحيث يندر أن تخلو منها دولة من الدول.
?…?…?…?
هكذا دخلت المؤثرات الحضارية والفكرية الواحدة تلو الأخرى إلى الميدان الثقافي في الأمة الإسلامية، ما أفقد المسلمين نقاء الفكر وصفاءه ووضوحه إلى حد من الحدود.
إلا أنه بأي حال من الأحوال، لم يصل الأمر إلى أن يفقد المسلمون هويتهم، أو تتغير حضارتهم وتُسلب شخصيتهم. فكل تلك المؤثرات لم تكن في يوم من الأيام لتقوى على إيمان المسلمين بعقيدتهم وثقتهم بتشريعهم ومفاهيمهم الإسلامية. فلا زالت العقيدة الإسلامية هي القاعدة الفكرية التي يبني المسلمون عليها أفكارهم، ولا زال القرآن والسنة وما أرشدا إليه مصادر التشريع لديهم. وعلماء الكلام إنما كانوا يبذلون طاقتهم وجهدهم في دراسة المنطق بغاية تثبيت العقيدة الإسلامية، وجعلوا العقيدة الإسلامية أساساً لأبحاثهم. والفلاسفة الذين ظهروا بين المسلمين بقوا أفراداً ولم يكن لهم شأن يذكر في الرأي العام.
__________
(1) - ول ديورانت - قصة الحضارة - ج2 - ص (418).(1/148)
والصوفية على خطرها وفسادها ومجانبتها للإسلام لم تكن تقوى على مزاحمة العقائد الأساسية لدى المسلمين. وفكرة "عصمة الأئمة والوصاية بالخلافة" لم تتعد أتباع بعض المذاهب التي عرفت بالإمامية، ولم تجد قبولاً لدى الغالبية العظمى من المسلمين، فضلاً عن كونها فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق، بل لقد خالفها أتباعها وحملتها أنفسهم حين مارسوا السياسة والحكم بمعزل عنها، سواء على يد البويهيين أو الفاطميين أو الصفويين أو غيرهم.
والأهم من ذلك كله أن أصحاب السهم الأكبر والأعظم في تشكيل الرأي العام والتوجيه الثقافي في العالم الإسلامي كانوا "الفقهاء". وهؤلاء كانوا بكل تأكيد بعيدين عن التأثر بالثقافات والأفكار غير الإسلامية. فلقد كانت أبحاثهم تنصبّ على دراسة اللغة العربية لغة القرآن والسنة، وعلى فهم المدلولات اللغوية والشرعية للقرآن والسنة من أجل استنباط الأحكام الشرعية وضبط سلوك المسلمين بها. فحياة المسلمين وعلاقاتهم في مجتمعهم ودولتهم كانت تسيّرها مجموعة الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة، ولم يكن لحاكم أن يفكر في استبدال أنظمة وضعية بالأنظمة الإسلامية أو أن يتجرأ على ذلك.
وأما ما حاول بعض المستشرقين وأتباعهم من المثقفين المتغربين ترويجه من أن الفقه الإسلامي قد تأثر بغيره من التشريعات، ولاسيما التشريع الروماني، فلا أساس له من الصحة، بل هو حقاً خرافة لا حظّ لها من الحقيقة.
ذلك أنه لم يرو أحد أن واحداً من المسلمين، فقهاء أو غير فقهاء، قد أشار إشارة إلى الفقه الروماني لا على سبيل النقد ولا على سبيل التأييد، ولا على سبيل الاقتباس، ولم يذكره أحد لا بالقليل ولا بالكثير، مما يدل على أنه لم يكن موضع حديث، فضلاً عن أن يكون موضع بحث. وإن بعض المسلمين ترجموا الفلسفة اليونانية، ولكن الفقه الروماني لم تترجم منه أي كلمة أو جملة فضلاً عن كتاب، مما يبعث على الجزم أنه قد ألغي وطمس من البلاد بمجرد فتحها.(1/149)
ثم إن المسلمين يعتقدون أن الله خاطب في الشريعة الإسلامية جميع البشر، وحرم عليهم وضع التشريعات حين قال: { إنِ الحُكمُ إلاّ لله }(1)، وقال سبحانه:{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء }(2)، ويرون أن كل من لا يؤمن بالشريعة الإسلامية كافر، فهم يعتقدون أن أي حكم غير حكم الإسلام، هو حكم كفر يحرم عليهم أخذه. فمن يعتقد هذا الاعتقاد ويعمل به لا يمكن أن يأخذ غير حكم الإسلام. ولاسيما في العصر الأول عصر الفتوحات وهو العصر الذي استقر فيه الفقه الإسلامي وازدهر وتبلور لدى مذاهب فقهية عظيمة الشأن إلى يومنا هذا كالمذهب الشافعي والحنفي والمالكي وغيرها. فالمسلمون يفتحون البلاد لإنقاذ أهلها من حكم الكفر، فكيف يأخذون حكم الكفر الذي جاؤوا ليزيلوه ويضعوا مكانه حكم الإسلام؟! فالحقيقة والواقع المحسوس أن الفقه الإسلامي أحكام مستنبطة مستندة إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما أرشدا إليه من أدلة. وإن الحكم إذا لم يكن مستنداً إلى دليل شرعي، لا يُعَدّ من أحكام الإسلام، ولا يُعَدّ من الفقه الإسلامي.
وهكذا كان وجود المجتهدين والفقهاء وما يُجْرونه من مناظرات ومناقشات فقهية وتنافس على درك الرأي الأصوب في المسائل الفقهية، كان كل ذلك صمام الأمان للمجتمع الإسلامي، والضمان لمعالجة أي خلل يمكن أن يطرأ على المجتمع الإسلامي. ولذلك كانت الطامة الكبرى حين انزلق المسلمون في قضية إقفال باب الاجتهاد. فقد كان ذلك يعني أن الحيوية الفكرية الأساسية لدى المسلمين والتي هي سبب ارتقائهم ونهضتهم قد حكم عليها بالإعدام. وربما كان ذلك الحكم هو أكثر الأحكام جوراً وظلماً في التاريخ الإسلامي. فقد أصبح واجباً على كل المسلمين بما في ذلك العلماء والفقهاء أن لا يخرجوا عن أطر المذاهب التي استقرت قبل إقفال باب الاجتهاد.
__________
(1) - سورة الأنعام - الآية (57).
(2) - سورة الأعراف - الآية (3).(1/150)
صحيح أنه ظهر مجموعة من المجتهدين الذين لم يأبهوا لفكرة إغلاق باب الاجتهاد وتابعوا أداء تلك الفريضة، إلا أن ذلك الإقفال لاقى من الاستجابة ما كان له أثر بالغ في جمود التفكير وشح العلم والعلماء. فإننا إذا شهدنا في عصر ازدهار الفقه ظهور مدارس فقهية عظيمة مثل الشافعية والحنفية والمالكية، فإننا لم نعد نعثر على تلك الظاهرة بعد إغلاق باب الاجتهاد، بل كان معظم الفقهاء والمجتهدين الذين ظهروا بعد ذلك ينتسبون إلى إحدى تلك المذاهب القديمة.(1/151)
من الطبيعي أن يتوقع الباحث أن إغلاق باب الاجتهاد سيؤدي إلى تغلغل مزيد من الأفكار الوافدة إلى ثقافة المسلمين وإلى مزيد من التلوث الفكري في العالم الإسلامي. إلا أن الواقع كان غير ذلك. صحيح أن البنيان الفكري لدى المسلمين قد فقد مناعته بعد إغلاق باب الاجتهاد، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتغلغل اللوثات الفكرية والثقافية إلى ذلك البنيان، ذلك أن تلك اللوثات لم يعد لها وجود آنذاك. فالحضارات التي احتك بها المسلمون في صدر التاريخ الإسلامي مع اندفاع الفتوحات الإسلامية - وعلى رأسها الحضارتان الرومانية والفارسية - لم يعد لها وجود يذكر على الساحة الدولية. فدولة فارس سقطت والإمبراطورية البيزنطية وريثة الحضارة الرومانية تلفظ أنفاسها الأخيرة. وأوربا الغربية الكاثوليكية كانت تعيش في دياجير العصور الوسطى وانحطاطها، وما من رسالة حضارية لديها تحملها إلى العالم. والمغول والتتار والتركمان الذين لم يعتنقوا الإسلام بعد، كانوا أشد منهم انحطاطاً وأكثر تخلفاً. أما حركة الترجمة والإطلاع على المعارف والثقافات السابقة فقد توقفت عند حد معّين واستنفدت أغراضها. وهكذا بقيت الأمة الإسلامية سيدة المبادرة الحضارية والثقافية فضلاً عن السياسية في الساحة الدولية، وبقيت تعيش على التراث الفقهي السابق، وانصّبت جهود الفقهاء المتتابعين على شرح المصنفات الفقهية القديمة وكتابة الشروح على المتون وربما الشروح على الشروح، أو على تلخيص تلك المصنفات وربما تلخيص شروحها.(1/152)
وخلال تلك الأجواء التي استمرت مئات السنين لم تجد الأمة الإسلامية من ينازعها فكرياً وحضارياً، وازدادت ثقتها بنفسها حين انتصرت على أعدائها عسكرياً بعد أن طردت الصليبيين والمغول والتتار، وعادت الخلافة الإسلامية في عهد العثمانيين لتوحد معظم العالم الإسلامي وتكون أقوى دولة في العالم وتملك الجيش الذي لا يقهر. فركن المسلمون إلى أوضاعهم الثقافية والفكرية والتشريعية والحضارية عموماً، إذ ما من ناقوس يدق حولهم وينبههم إلى الخطر المحدق بهم.
?…?…?…?(1/153)
ولكن التاريخ جاء فيما بعد ليثبت أن الكيان الإسلامي كان ينتظر حضارة واحدة على قدر من الرقي والنهوض، تقف بمواجهته حتى تتزعزع أركانه وينهار بنيانه. فإذا كانت الأمة الإسلامية قد تغلبت في الماضي على جميع الأمم فكرياً بسبب المبدأ العظيم الذي تحمله وتحسن فهمه وتطبيقه، وانتصرت عسكرياً بسبب قوة إيمانها وطاقتها الروحية وحبها للجهاد والشهادة في سبيل الله، فقد جاء الوقت الذي يقوم فيه كيان جديد يواجه المسلمين حضارياً وفكرياً بما يحمله من مبدأ جديد، ويواجههم عسكرياً بما يتمتع به من قوة صناعية وتكنولوجية. ألا وهو كيان الحضارة الغربية المعاصرة الذي تكاملت صورته مع بداية القرن التاسع عشر الميلادي. ولسنا هنا بصدد البحث في الصراع العسكري والمادي الذي نشب بين الدولة الإسلامية والدول الغربية، فبحثنا منصبّ على الاحتكاك الفكري والثقافي بين المسلمين وسائر الثقافات والحضارات. إلا أن ذلك الصراع العسكري والمادي يكتسب أهميته في البحث لما أسفر عنه من تفوق للغرب على الدولة الإسلامية ومن ثم انتصاره عليها، الأمر الذي أصاب المسلمين بصدمة عنيفة أفقدتهم ثقتهم بأنفسهم وحضارتهم وثقافتهم وتشريعهم، فكانت تلك أعظم صدمة وأبلغ إصابة أصيبت بها الأمة الإسلامية، ولولا أن تلك الأمة تحمل رسالة الله الخالدة إلى يوم القيامة، لحقّ للباحث المراقب أن يقول إن تلك الصدمة كانت هي الإصابة القاتلة للأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية.(1/154)
لقد واجهت الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل الكثير من الأعداء من كل حدب وصوب، إلا أن العدو اللدود الذي استمر الصراع معه منذ صدر التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا هو الدول الأوربية، سواء تمثل هذا العدو التاريخي بالإمبراطورية البيزنطية التي حاربها المسلمون حتى أسقطوها عام 1453م، أم بممالك أوربا الغربية الكاثوليكية التي اقتحم المسلمون ديارها عبر الأندلس، أم تمثلت بالدول الغربية الاستعمارية الحديثة التي قامت على أساس حضاري جديد هو الرأسمالية اللبرالية.
ولما لم يكن للدول الأوربية من رسالة حضارية تحملها إلى العالم خلال العصور الوسطى، وتواجه بها المسلمين على الأخص، كان سلاحها الوحيد هو الحروب الصليبية. لذلك لم تكن تشكل آنذاك ذلك الخطر العظيم، ولا سيما على أمة تقوم على حضارة عريقة راقية كالأمة الإسلامية، بل إن تلك الحروب ذاتها لم تكن لتلاقي النجاح لولا الظروف التي لاقتها في العالم الإسلامي من تفكك وتشرذم ونزاع داخلي وتسابق على الولايات والإمارات. لذلك ما أن عاد المسلمون إلى توحيد صفوفهم حتى عاد الصليبيون يجرّون أذيال الخيبة إلى بلادهم. إلا أن الطامة الكبرى كانت حين بدأ المجتمع الغربي يتشكل على أسس جديدة جعلت منه كياناً حضارياً جديداً يملك من الأفكار والمفاهيم والأنظمة ما يستطيع أن يواجه به العالم بأسره، ولاسيما الأمة الإسلامية التي كانت المارد المخيف لأوربا على مر السنين.(1/155)
لم تكن الحضارة الغربية المعاصرة لتنتصر يوماً من الأيام على الحضارة الإسلامية، ولم يكن الفكر الغربي ليتفوق على المبدأ الإسلامي، ذلك أن المبدأ الإسلامي هو وحده الذي يقوم على العقيدة الصحيحة دون غيرها، ونظامه هو النظام الذي أنزله الله تعالى، فهو النظام الوحيد الصالح للإنسان. فإذا انتصر الغرب في صراعه الفكري والحضاري مع الأمة الإسلامية فإنه لم ينتصر على الإسلام، فالإسلام دين الله الذي يعلو ولا يُعلى عليه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإنما انتصر الغرب على المسلمين أنفسهم، الذين لم يعودوا يأخذون الإسلام بقوة وفهم ووعي كما كان شأنهم في السابق.
مع بداية القرن التاسع عشر، ومع اندلاع ثورات التحرر في الغرب، والتي كانت فاتحتها الثورة الفرنسية عام 1789م، أخذت تتبلور معالم الحضارة الغربية المعاصرة ويتكامل بنيانها الفكري وقام المجتمع الغربي على أساس أفكار وأنظمة جديدة تتمثل في الرأسمالية اللبرالية بعد أن كانت تسوده الأنظمة الإقطاعية. وبما أن تلك الحضارة تقوم - كما أسلفنا - على أساس عقيدة عقلية سياسية تنبثق عنها أنظمة للحياة والمجتمع والدولة، فقد أحدثت في الغرب تلك النهضة التي لا نراها نحن المسلمين النهضة الصحيحة، إلا أنها كانت كافية لتقف في وجه أمة تبلد تفكيرها وتحجرت أفكارها وأساءت تطبيق نظامها وعاشت على "هامش" حضارتها العظيمة، هي الأمة الإسلامية.(1/156)
ها هو الغرب في القرن التاسع عشر تزدهر حضارته وتتكون مؤسساته السياسية على أساس قوي، ويستقر مجتمعه إلى حد كبير ويمضي مرتقياً نحو النهضة، ويقوى اقتصادياً وعسكرياً، ويبدع مدنياً وعمرانياً وتكنولوجياً، في وقت تتصدع فيه الدولة الإسلامية وتفقد ثغورها الواحد تلو الآخر، وتتفاقم فيها المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية، وتضعف عسكرياً، وتتخلف على الصعيد المدني والتكنولوجي، وتهوي بسرعة نحو الانحطاط. بعبارة مختصرة أخذت الكِفة تميل بسرعة هائلة لصالح الحضارة الغربية.
كل تلك الأوضاع، مضافاً إليها الذهول الذي أصاب الأمة الإسلامية بعدما أيقنت بتفوق عدوها عليها على هذا النحو، جعلت الأرض مفتوحة ليشن الغرب حرباً من نوع جديد على الأمة الإسلامية، يستخدم فيها سلاحاً أمضى من أسلحة الحروب الصليبية. إنها حرب حضارية سلاحها الأفكار ووجهات النظر وأنظمة الحياة، وميدانها الثقافة والمعرفة والمناظرات. ولما كان العامل المعنوي هو العامل الأهم في الحروب حتى الفكرية منها، كانت الأجواء تنذر من البداية بانتصار الغرب على المسلمين. ذلك أن المسلمين بسبب ما لمسوا من تخلفهم وتفوق عدوهم عليهم، بدأوا يفقدون الثقة بمفاهيمهم وأنظمتهم الإسلامية، ما جعل معنوياتهم ضعيفة أمام عدو يتمتع بارتفاع المعنويات ويفتخر بحضارته وأفكاره وأنظمته "العصرية الحديثة".
وهكذا تزاحمت التساؤلات في أذهان المسلمين: لماذا نهض الغرب؟ لماذا تخلفنا؟ هل أخذ الغرب بأسباب القوة وتركناها؟ هل يمكن أن تكون مفاهيمنا غير صحيحة؟ لعلنا فهمنا الإسلام على نحو خاطىء! لعل الغرب أخذ بمحاسن إسلامنا! ألا يجوز أن نأخذ من الغرب أسباب نهضته؟ ألم يأخذ هو منا أسباب النهضة بعد أن كنا روادها؟! ألا يمكن التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية؟ ألا يجوز أن نقتبس بعض الأنظمة من الغرب؟ هل الإسلام يحرّم الانتفاع بما عند الآخرين؟...(1/157)
وأثناء تلك التساؤلات التي أربكت أذهان المسلمين وشوشتها، راح الغرب يرشق سهامه الفكرية يهاجم بها الإسلام وحضارته وأحكامه ومعالجاته وأنظمته ونمط عيشه. فأدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن تكون الحضارة الغربية في حال الهجوم، والأمة الإسلامية في حال الدفاع، ويا ليته كان دفاعاً ناجحاً ذابّاً عن حمى الإسلام.
لقد هاجم الغرب نظام الخلافة وقال إنه نظام فردي دكتاتوري، وإن البديل هو النظام الديمقراطي. وهاجم الجهاد وقال إنه طغيان ونشر للإسلام بقوة السيف وحرمان للشعوب من حق تقرير المصير. هاجم تعدد الزوجات وقال إنه ظلم للمرأة وامتهان لكرامتها. وهاجم رابطة الأخوة الإسلامية وقال إنها تعصب وتزمت وإن الرابطة الصحيحة هي القومية أو الوطنية. هاجم الحكم بأحكام الدين وقال إنه رجعية فلابد من فصل الدين عن الدولة والسياسة.
فما هو الرد الدفاعي لدى المسلمين على ذلك الهجوم وتلك الاتهامات؟(1/158)
إن حالة الانسلاب التي اعترت الأمة الإسلامية جعلتها تقبل بكونها متهمة، وأنه يجب أن تدفع عن نفسها التهم، مع أن ما يهاجمه الغرب هو فضائل وليس برذائل، وهو حسن وليس قبحاً. إلا أن المسلمين لمّا كانوا قد فقدوا حيوية التفكير وألمعية الذهن نتيجة قرون مضت، وباب الاجتهاد مقفل، لم ينتبهوا إلى تلك الحقائق. فبدل أن يدافعوا عن نظام الخلافة ويقولوا إنه النظام الصحيح وأن القيادة لا يمكن إلا أن تكون فردية، وأن يقولوا إن الديمقراطية نظام كفر لأنها تجعل حق التشريع للشعب بينما هو حق لله تعالى، وأنها فكرة خادعة كاذبة، بدل ذلك قالوا إن الديمقراطية هي من الإسلام وإن الحكم في الإسلام يقوم على الشورى وهي عين الديمقراطية. وبدل أن يفتخروا بأنهم يجاهدون الدول والحكام من أجل تحطيم الحواجز التي تقف أمام حمل الإسلام رسالة إلى العالم، بينما غيرهم من الأمم والدول تقاتل وتسفك الدماء من أجل السيطرة على البلاد واستعباد أهلها وسلب ثرواتها، بدلاً من ذلك قالوا: إن الجهاد هو حرب دفاعية فقط ولا تجوز إلا لصد العدوان عن البلاد الإسلامية.
وبدل أن يثبتوا على أحكام الإسلام ويصّروا عليها فيقولوا إن السماح بتعدد الزوجات هو النظام الصحيح لأنه من عند الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلح له، وأن هذا السماح هو النظام الذي يحول دون تفشي الزنا والرذيلة وبوار النساء، بدلاً من ذلك قالوا إن الإسلام قيّد تعدد الزوجات ولم يسمح به إلا في حالات خاصة، وما شاكل ذلك.(1/159)
وهكذا مضى المسلمون في التوفيق بين الحضارة الغربية والإسلام، حتى خلطوا أحكام الإسلام وأفكاره بأحكام الغرب وأفكاره وأنظمته. وإذا كانت مئات السنين مضت ولم يتأثر المسلمون إلا بالقليل القليل من أفكار الحضارات والثقافات التي احتكوا بها، فإن عشرات من السنين شن خلالها الغرب حربه الحضارية والفكرية على المسلمين، كانت كافية لأن تجعل من ثقافتهم مزيجاً سمجاً ممقوتاً من أفكار الإسلام وأفكار الحضارة الغربية.
في الماضي حين كان المسلمون لا يزالون يحتقرون الغرب ومجتمعه وحضارته رفضوا أن يأخذوا منه أي شيء، حتى المنجزات والإبداعات المدنية والتكنولوجية المادية، وحين حاول بعض الولاة تحديث الأساليب والوسائل والأشكال في البلاد الإسلامية، جابههم الفقهاء حتى إن بعضهم حرم استخدام المطابع والهاتف. أما حين تفوق الغرب بشكل واضح وهدد الدولة الإسلامية وانبهر المسلمون بالغرب وتفوقه المدني والصناعي فإن الأمر قد اختلف. فقد شرّعت الأبواب أمام كل ما يرد من الغرب دون تفريق بين الحضارة والمدنية، ودون تفريق بين الثقافة والعلم. وبدأت أفكار الغرب تغزونا الفكرة تلو الفكرة. فغزتنا فكرة الديمقراطية وغزتنا فكرة الحريات العامة وفكرة القومية وفكرة الوطنية، كل ذلك مع التظاهر بالتمسك بالإسلام، فتنسب تلك الأفكار إلى الإسلام وهو منها بريء. فيقول المسلمون إن الديمقراطية من الإسلام، والإسلام صان الحريات العامة، والإسلام يحفظ للقوميات خصوصيتها وكرامتها، والإسلام عزز الحس الوطني حين أمر بالدفاع عن "الأوطان". وهكذا أصبحت كل فكرة تأتي من الغرب وتفرض نفسها على الرأي العام تقحم في الإسلام زوراً وبهتاناً، بواسطة قواعد "فقهية" جديدة لم نسمع بها لدى الفقهاء الأوائل، مثل قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" وقاعدة "حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله"، وبواسطة الكلام عن "مرونة الشريعة وتطورها" وما شاكل ذلك.
?…?…?…?(1/160)
إلا أن ذلك الحرص على التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية أخذ يتلاشى بعد زوال سلطان الإسلام وهدم الخلافة الإسلامية، وخضوع البلاد الإسلامية في القرن العشرين لحكومات تحكم بغير ما أنزل الله، وتقيم المؤسسات الإعلامية والتعليمية التي تروج للحضارة الغربية بوصفها غاية ما وصلت إليه البشرية حتى الآن من تطور وتقدم ورقي، وعلى أن نظامها هو النظام الإنساني الصالح لهذا العصر. مما أدى إلى قناعةٍ مفادها أن نظام الإسلام ومعالجاته وأحكامه لم تعد صالحة لزماننا هذا. فأعرض معظم المثقفين عن محاولات التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية، وحملوا أفكاراً تتعارض بكل وضوح وصراحة مع الإسلام، فأصبحت فكرة فصل الدين عن الدولة رأياً عاماً، وأصبح التحاكم إلى الأنظمة الوضعية أمراً طبيعياً، وأصبح الانسياق وراء سياسات المستعمر وشعاراته شيئاً لا غضاضة فيه. والرابطة القومية ثم الوطنية حلت محل رابطة الإسلام. وانتشرت شعارات مناوئة للإسلام ونظامه ووجهة نظره، مثل شعار " دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وشعار "الدين لله والوطن للجميع" وشعار "الإسلام أطهر من تلويثه بالسياسة". وحين ظهر عداء الدول الغربية الرأسمالية وطمعها ببلاد المسلمين اتجه كثير من المثقفين نحو الاشتراكية وفلسفتها ونظامها، حتى وصل كثير من الأفراد إلى التشدق بالإلحاد والافتخار باعتناق الديالكتيكية المادية. فلم يعد الإسلام السياسي والحضاري محل بحث، اللهم إلا تراثاً تاريخياً، ولم يعد المثقفون يكترثون إلى مدى موافقة أفكارهم للإسلام أو مخالفتها له. فالإسلام لا شأن له في نظرهم بالحياة والمجتمع والدولة والسياسة، وإنما هو علاقة بين الإنسان وخالقه فقط، ومجاله المسجد والبيت، لا الحياة والمجتمع ولا السياسة.(1/161)
إلا أن ذلك الدين الذي تكفل الله تعالى بحفظه لم يفقد ثلة من المؤمنين المخلصين الذين بقوا على تمسكهم بالإسلام ديناً ونظاماً للحياة، ولم ينجرفوا مع تيارات العلمانية والإلحاد. فجاء دورهم ليصبحوا رواد الساحة الفكرية والثقافية حين سقطت كل الطروحات والشعارات الوافدة إلى العالم الإسلامي من الغرب أو من الشرق. فقد تضافرت جهودهم مع الأوضاع والظروف السياسية المستجدة لتدفع الأمة الإسلامية منذ السبعينيات من هذا القرن نحو التمسك من جديد بالإسلام ديناً ونظاماً للحياة والمجتمع والدولة ولترفض كل التوجهات والأفكار والطروحات المعادية للإسلام والمخالفة له.
إذن، إن أهم عامل في تحويل الأمة من جديد باتجاه الإسلام كان وجود دعاة من المسلمين بقوا يجذفون بعكس التيار الجارف حتى تحول التيار على نحو مواتٍ لهم إلى حد بعيد. إلا أن هذا التحول على ما فيه من بشائر الخير والفرج، عاد ليحمل معه الخطر المدمر الذي حاق بالأمة منذ أن بدأت الحضارة الغربية بغزوها، ألا وهو اختلاط الإسلام بما ليس إسلاماً. فإن المسلمين حين بدأوا يتحولون نحو الإسلام بوصفه الحل والخلاص من الأوضاع المتردية التي يعانون منها، لم يتخلصوا من تأثير الحضارة الغربية وثقافتها وأنظمتها. كما أن الأوضاع والأجواء التي فرضتها الأنظمة الحاكمة عليهم منذ عشرات السنين ضربت حول أذهان المسلمين جداراً سميكاً يحول بينهم وبين رؤية النظام الإسلامي وطراز عيشه ومجتمعه رؤية حقيقية واضحة ونقية. فلم يعودوا يستطيعون تصور شكل نظام الإسلام ونمط المجتمع الإسلامي بمعزل عن الأنظمة القائمة بما فيها من مؤسسات وما أفرزته من علاقات.(1/162)
ومسايرة لهذا الواقع، قامت حركات وجماعات تتبنى الإسلام بوصفه نظاماً للحياة والمجتمع والدولة، إلا أنها تطرح الإسلام على نحو لا يتعارض مع الحضارة الغربية والقانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، ولا تطرح بديلاً كاملاً عن الأوضاع القائمة في البلاد الإسلامية وفي سائر بلاد العالم. وإنما تقترح بعض الإصلاحات والتعديلات، وتفهم الإسلام على نحو يؤهلها للتعايش مع الأوضاع السياسية المحلية والإقليمية والدولية، وعلى نحو يرضي الرأي العام الذي يرتبط شعورياً بالإسلام ويتأثر فكرياً بالحضارة الغربية.
والكافر المستعمر الذي بقيت عينه ساهرة للحيلولة دون تحرر المسلمين من سيطرته ونفوذه، أدرك في السنوات الأخيرة أن الإسلام سيبقى يفرض نفسه على المسلمين، ولن يأتي يوم يندرس فيه هذا الدين بوصفه نظاماً للحياة. فعمد من جديد إلى تغذية الأطروحات التي تعرض إسلاماً يوافق الحضارة الغربية والقانون المدني وشرعة الأمم المتحدة، ويتساير مع الزمن ويبدل ثوبه من يوم إلى يوم. ذلك أنه إذا كان لابد من وصول الإسلام إلى السلطة، فليصل أناس يعلنون الدولة دولة إسلامية بالقول ويطبقون ما طبقه سلفهم من الحكام العلمانيين بالفعل. فراح يفسح المجال أمام تلك الأطروحات وحركاتها ومفكريها وروادها، ويضرب طوقاً حديدياً وتعتيماً إعلامياً على من يدعون إلى الإسلام دعوة مبدئية، لأنه يعلم تمام العلم أن هذه الدعوة هي التي ستقطع دابر الكفر في بلاد المسلمين حين ينصهر المجتمع بأفكارها ويسلمها القيادة.
وهكذا تحول الصراع من صراع بين الدعوة الإسلامية والدعوات العلمانية والإلحادية، إلى صراع بين الفهم المبدئي النقي للإسلام والفهم الملّوث والمشوش، بل والمضلّل للإسلام.
دعاة التغيير
بين المبدئية والواقعية(1/163)
من المعلوم أن الدعوة المبدئية - وهي حركة سياسية - إذا نشأت في مجتمع منحط، فإن مهمتها يجب أن تكون العمل على النهوض بهذا المجتمع. وبما أن المجتمع ينحط بانحطاط العرف العام السائد فيه والأنظمة المطبقة فيه، ويرتقي برقي العرف العام والأنظمة، فإن مهمة الدعوة المبدئية تكون حينئذ العمل على تغيير المجتمع عن طريق تغيير العرف العام والأنظمة، أي عن طريق مكافحة الأفكار والقناعات والمفاهيم والمشاعر السائدة والأنظمة القائمة - وهي مخالفة للمبدأ - من أجل أن تحل محلها أفكار وقناعات ومفاهيم ومشاعر وأنظمة راقية وصحيحة.
وهذا يعني أن على الدعوة المبدئية أن تصطدم بالواقع الفاسد منذ أول يوم لأنها أتت بشيء جديد غريب عن الواقع الذي يعيشه الناس. فمن طبيعة المجتمعات أنها تتمسك بما عندها من أعراف وتقاليد وقناعات ولا تتخلى عنها بسهولة، بل يحتاج الأمر إلى سنين من العمل الدؤوب والكفاح المتواصل والصراع المرير والمصابرة الجلود من قِبَل الدعاة حتى يبدأ الناس بالتخلي عن قناعاتهم وأفكارهم وحتى تبدأ مشاعرهم تصاغ على هيئة جديدة. لذلك فإن الحركات السياسية التي تريد تغيير المجتمع والنهوض به عليها أن تتوقع منذ أول يوم مجابهة الناس لها، ووقوفهم في وجهها وخذلانها. فحملة الدعوة يتكلمون بما يخالف أمزجة الناس، ويخالفون عاداتهم وتقاليدهم، وهذا ما يعُدّه المجتمع تحدياً للعرف وخروجاً على التقاليد التي اكتسبت مع الوقت ما يشبه القداسة.(1/164)
وإذا راجعنا حوادث التاريخ، وجدنا أن كل دعوة جديدة كانت تجابه بالمحاربة والتعصب والجمود على القديم، وخاصة لدى الشعوب المنحطة. وأكثر ما تتجلى هذه الحقيقة في دعوات الرسل عليهم السلام. فلقد كانوا يبعثون غالباً إلى شعوب غارقة في ظلمات الانحطاط، فيدعونهم إلى اعتناق العقائد والأديان المبنية على العقل، أي يعملون على النهوض بهم فكرياً، فيواجهون بالاستهزاء والمحاربة والإيذاء والشتم. تأمل في قوله تعالى: { يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }(1)، وفي قوله تعالى: { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون }(2)، وانظر إلى هذه الآيات التي تعدد الشعوب والأقوام التي كذبت رسلها، فيقول تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجِر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصِر }(3)، ويقول عز من قائل: { كذبت ثمود بالنُذُر * فقالوا أبشراً منا واحداً نتّبعه إنّا إذاً لفي ضلال وسعر * أءلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كَذابٌ أَشِر * سيعلمون غداً مَن الكذابُ الأشِر }(4).
من هنا نقول، إن التفاف المجتمع حول دعوة سياسية من أول يوم تقوم به لا يدل على نجاحها، بل قد يدل على أن هذه الدعوة فاشلة مخفقة. لماذا؟
لأن من طبيعة الشعوب أن تلتف حول من يمثل أفكارها وقناعاتها وغاياتها، فعندما تلتف الشعوب المنحطة حول حركة سياسية ما من أول يوم، فهذا يعني أن هذه الحركة هي من جنس هذا المجتمع، وتحمل ما يحمل من أفكار وتصورات وقناعات، أي أنها منحطة شأنها شأن المجتمع.
__________
(1) - سورة يس - الآية (50).
(2) - سورة الذاريات - الآية - 52).
(3) - سورة القمر - الآيتان (9 - 10).
(4) - سورة القمر - الآيات (23حتى 26).(1/165)
إذا كانت مهمة الحركات السياسية في المجتمع المنحط هي النهوض به، فمن البدهي أن يكون فكرها مغايراً للعرف العام، ومشاعرها مخالفة للمشاعر الطاغية، أي أنها تتمتع بفكر لا يتمتع به المجتمع، تستطيع به تغيير هذا المجتمع، وإلا فإن وجودها لا معنى له، بل ربما كان عدم وجودها أفضل، لأن الذي يريد أن يرتقي بالناس عليه هو أولاً أن يكون راقياً، ومن البداهة أن فاقد الشيء لا يعطيه. وهذا ما يمّيز الدعوات المبدئية التي تلتزم بالمبدأ عن الدعوات الواقعية وهي التي تساير الواقع.
فالدعوات الواقعية هي الدعوات التي تشعر بفساد الواقع القائم الذي تعيشه الأمة، وتشعر بوجوب التغيير، ولكنها تنتقل من هذا الشعور فوراً إلى العمل، دون أن يسبق هذا العمل تفكير في حقيقة المشكلة التي يعاني منها المجتمع، ودون التفكير في الفكرة التي يراد النهوض بالمجتمع على أساسها، ولا في الطريقة التي ستسلكها من أجل الوصول إلى هدف محدد، فتقوم بأعمال مرتجلة عفوية غير مدروسة، وكثيراً ما تكون غير هادفة.
فيكون عملها في حقيقة الأمر مستمداً من الواقع الفاسد الذي تعيشه، أي إنها جعلت الواقع - رغم فساده - مصدر المعالجة بدل أن يكون موضع المعالجة. مما يجعل عملها تَكيّفاً مع الواقع الفاسد وتكريساً للأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع.(1/166)
وبذلك، تكون هذه الدعوات تعبيراً عما يسود المجتمع المنحط من أفكار وقناعات ومقاييس ومشاعر. وبما أن الشعوب تنقاد لمن يعبّر عن قناعاتها ومشاعرها وتوجهاتها، فإن الناس سوف تلتف حول هذه الدعوات منذ أول يوم. وبذلك تكون هذه الدعوات رجعية تساهم في تكريس الواقع الفاسد المتخلف الذي يعيشه المجتمع، وخاصة عندما تقوم بإضفاء ثوب الشرعية والعلم والفقه على الأفكار والقناعات الفاسدة، وإلصاق الأدلة الشرعية والشواهد الفقهية بها. إلا أن هذا المجتمع إذا قُدّر له أن ينهض بتأثير دعاة مبدئيين فإنه سرعان ما يتخلى عن تلك الدعوات التي لن تعود عند ذلك تمثل قناعاته وأهدافه.
أما الدعوات المبدئية، فهي التي تحس بفساد الواقع وتخلف المجتمع، فتنتقل من هذا الإحساس إلى دراسة الواقع والتعمق فيه لمعرفة حقيقة المشكلة، لأن الذي يجهل المشكلة لا يتصور منه أن يحلها. فتدرس المجتمع دراسة عميقة بما فيه من أفكار وقناعات ومقاييس ومشاعر وأنظمة دراسة عميقة تؤدي إلى معرفة الصحيح من الفاسد العقيم، وإلى معرفة ما يفتقر إليه المجتمع من أفكار ومشاعر، وما دخله من أفكار ومشاعر غريبة فاسدة، وتؤدي إلى فهم واقع الأنظمة التي ترعى بها شؤون الناس، ثم بعد ذلك تنتقل إلى مبدئها - وهو بالنسبة لنا الإسلام - لتبحث من خلاله عن العلاج الصحيح للمشكلة، وهو يتمثل في مجموعة المفاهيم والأنظمة التي على أساسها سيتم تغيير المجتمع.(1/167)
والدعوة المبدئية حين تقوم بالبحث عن العلاج الذي به تريد تغيير المجتمع، لا تتأثر بالواقع الفاسد الذي يعيشه الناس. فالمعالجة يجب أن تكون بريئة كل البراءة من كل الأوضاع الفاسدة التي تلم بالمجتمع. ففي الوقت الذي تكون فيه الحركة الواقعية ملتصقة بالواقع الفاسد تستمد تصوراتها ومعالجاتها منه ولا تملك الخروج من تأثيره، تكون الحركة المبدئية قد حلّقت فوق الأجواء والأوضاع بما فيها من ظروف وملابسات، حلّقت فوق الواقع لتدركه على حقيقته على نحو أشمل وأدقّ، ولتستشرف النهضة المنشودة والغاية المرسومة التي تريد وضع الأمة على طريقها، ثم تعود بعد ذلك إلى المجتمع لتأخذ بيده في طرق الارتقاء والنهوض.
وهكذا تبدأ الدعوة المبدئية بمواجهة المجتمع المتخلف بدعوتها، ويبدأ الصدام بين الفكر القديم البالي، والفكر الجديد الذي تحمله الدعوة المبدئية، وبين سياسة الأنظمة التي تحكم المجتمع من جهة والمعالجات التي يطرحها حَمَلَة الدعوة من جهة أخرى. الأمر الذي يجعل الحركة المبدئية تبدو لأول الأمر غريبة عن الواقع، ويُخيّل للناس وكأنها قد أتت من عالم آخر لا يمت إلى مجتمعهم بصلة. إلا أن هذا الواقع يكون في الحقيقة من البشائر التي تُطمئِن حملة الدعوة بأنهم على الطريق السوي، لأنهم يلاقون ما لاقاه حملة الدعوة دائماً عبر التاريخ حين واجهوا الشعوب المتخلفة المنحطة.(1/168)
إلا أن هذا الواقع الذي تعيشه الحركات المبدئية بادىء الأمر، لا يلبث أن يتغير ويتبدل. فالدعاة المبدئيون حين ينطلقون بدعوتهم، يعُدّون أنفسهم قد دخلوا إلى ساحة معركة فكرية يجب أن يخرجوا منها منتصرين. ساحة المعركة هي هذا المجتمع الغارق في ظلام التخلف والانحطاط، هذا الظلام الذي يستر الحقائق عن أعين الناس، فلا يُدركون زيف الباطل ولا صدق الحق، لا يستطيعون في هذا الظلام التمييز بين الصحيح والخطأ، أو بين الصالح والفاسد، أو بين الصدق والكذب. ولكن حملة الدعوة الذين يتمتعون بحدة البصر ويدركون الأمور على حقيقتها يبدأون بمصادمة الأفكار والقناعات والأنظمة البالية. فعندما يصطدم الفكر الصحيح بالفكر السقيم، والمفاهيم الراقية بالمفاهيم المنحطة، ينقدح من جراء هذا الاصطدام شرر يضيء الساحة فينكشف للناس عوار الباطل ويلمع صدق الحق { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }(1). وهكذا تتكرر المصادمات ويتكرر الشرر، إلى أن يوجد الوعي العام على المبدأ الذي حمله الدعاة، ويتحول هذا الوعي إلى رأي عام، ومن ثَمَّ إلى حركة إيجابية في المجتمع، فتحتضن الأمة دعوة المبدئيين وتحمل قضيتهم وتسير وراءهم وتلبي نداءاتهم وتدافع عنهم، حتى تصل معهم إلى إعادة بناء المجتمع الإسلامي واستئناف الحياة الإسلامية.
__________
(1) - سورة الرعد - الآية (17),(1/169)
وهذا ما حصل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فهو عندما بدأ بالجهر بالدعوة، ومعه الصحابة القلة، واجه مجابهة عنيفة من مجتمع مكة الجاهلي. وواجه الاستهزاء والإيذاء والحصار، ووصل الأمر إلى حد قتل بعض أتباعه. وعُدّ المسلمون جسماً غريباً عن المجتمع القائم. ولكن قوة الفكر الذي يحمله عليه الصلاة والسلام وشدة إيمانه به وصبره ومن معه على تحمل الأهوال من أجل نشره وإعلائه، كل ذلك أدى إلى إيجاد الرأي العام على الإسلام، وأصبحت الأجواء مواتية لإقامة الدولة الإسلامية في المدينة وتطبيق الإسلام عملياً.
إلا أن حَمَلَة الدعوة لن يحققوا التغيير المنشود إذا اتبعوا الطرق الملتوية أو حاولوا مسايرة الواقع الفاسد، أو جربوا تملق الناس أو داهنوا حملة أفكار الكفر والضلال. فمن المتوقع - عندما ينطلق الدعاة ليخوضوا غمرات الدعوة إلى فكرتهم ويبدأون بالتفاعل مع المجتمع - أن يتعرضوا للإغراءات التي تدعوهم إلى مسايرة الأوضاع، أو مداهنة السوقة، أو كسب رضا الناس، كما قد تثنيهم المصاعب والأهوال عن الاستقامة على الطريق المرسوم، وتدفعهم إلى البحث عن وسائل وأساليب قد تؤدي بالدعوة إلى الانكفاء والتقهقر. وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذه الحقيقة حين خاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضِعف الحياة وضِعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً }(1).
__________
(1) - سورة الإسراء - الآيات (73 - 75).(1/170)
فعلى الدعاة المبدئيين أن يكونوا على حذر تام من هذه الامتحانات التي يتعرضون لها، وعليهم دائماً أن يدركوا أن طبيعة الاحتكاك بين الإسلام والكفر هي التصادم الكلي، التصادم الذي يعلي الحق ويزهق الباطل { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }(1)، التصادم الذي يؤدي إلى الهزيمة الشنعاء للكفر وأهله { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون }(2). فالفرق بين الإسلام والكفر هو الفرق بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، وبين الهدى والضلال، وبين الخير والشر، وبين الجنة والنار، فلا مجال للتلاقي، ولا مجال للمساومة، ولا مجال للمفاوضة.
__________
(1) - سورة الإسراء - الآية (81).
(2) - سورة الأنبياء - الآية (18).(1/171)
فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أول يوم بدأ فيه بنشر دعوته نراه يخاطب الناس بحزم وثقة، ويواجه الكفر والكفار بقوة وجرأة وصرامة تامة، ويطرح دعوته متحدية سافرة واضحة المعالم، محددة الألفاظ والمعاني،لا تبقي أي مجال للّبس أو الشك، وليس للتردد فيها أثر ولا للخوف فيها تأثير. فبدأ القرآن ينزل مسفهاً أحلام الكفار، يعيب عليهم آلهتهم ويشين طريقة عيشهم البالية، ويستهزىء بأعرافهم وتقاليدهم. فهو حين يتناول الأصنام نراه يقول: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون }(1)، ويقول: { أفرأيتم الّلات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان * إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى }(2)، وحين يتناول تقليدهم الأعمى لآبائهم وتقديسهم لما ورثوه عنهم تراه يقول: { وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون }(3)، وحين يتناول الحكام الطغاة بالذم والنقد نراه يقول: { تبت يدا أبي لهب وتبّ * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب }(4)، ويفضح الوليد بن المغيرة ويتوعده بالعقاب حين يقول: { ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشّاء بنميم * مّناع للخير معتد أثيم * عتلّ بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم }(5)، وحين يتناول العلاقات الفاسدة نراه يتكلم عن تطفيف الكيل مثلاً فيقول: { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن
__________
(1) - سورة الأنبياء - الآية (98).
(2) - سورة النجم - الآيات (18 - 23).
(3) - سورة البقرة - الآية (8).
(4) - سورة اللهب - الآيات (1 - 3).
(5) - سورة القلم - الآيات (10 - 16).(1/172)
أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم }(1). وحين حاول الكفار مساومة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة على أن يعبدوا إلهه سنة، جاء الرد من الوحي حازماً { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دينِ }(2)، فقررت هذه الآيات المفاصلة الكاملة بين الإسلام وبين الكفر بكل أنواعه، فليس بعد الحق إلا الضلال. وحين عرضوا العروض على نبي الله عليه الصلاة والسلام من أجل أن يتخلى عن دعوته جاء الرد منه حاسماً:" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"(3).
وهذا هو منهج الأنبياء أولي العزم من قبل. أنظر إلى قوله تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده }(4)، ففي هذه الآية الكريمة يظهر بوضوح الموقف الصارم الذي يتخذه المؤمنون بالعقيدة الصحيحة إزاء كل ما يخالف قناعاتهم ومفاهيمهم التي قطعوا بصحتها ووقفوا حياتهم لأجلها. فقد أعلن سيدنا إبراهيم عليه السلام والذين معه البراءة التامة من كل عقائد قومهم ومفاهيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، وأعلنوها حرباً ضروساً بين الحق والباطل، إلى أن ينتصر الحق ويزهق الباطل.
__________
(1) - سورة المطففين - الآيات (1 - 5).
(2) - سورة الكافرون.
(3) - سيرة ابن هشام - مبادأة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، وما كان منهم.
(4) - سورة الممتحنة - الآية (4).(1/173)
إذا سلك الدعاة هذا الطريق وباعوا أنفسهم لله، ومن أجل إعلاء كلمته وتنفيذ شريعته، ولم يحيدوا عن الطريقة الشرعية التي رسمها لهم الله تعالى القائل في كتابه العزيز: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }(1)، إذا قام الدعاة بكل ذلك فإن الله سبحانه لاشك سيحقق لهم وعده وسينجز نصره، وهو القائل سبحانه: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }(2).
?…?…?…?
وبعد أن سلطنا الأضواء على طبيعة كل من الدعوتين، المبدئية والواقعية، وبعد أن رسمنا الخطوط الأساسية والصفات التي يجب أن تتوفر في الدعوة المبدئية، ننتقل إلى الواقع الذي عاشته الأمة الإسلامية في القرن الأخير، من أجل أن نقوّم إنجاز كِلا الفريقين وما حقق كل منهما على أرض الواقع.
بعد أن هدمت الخلافة الإسلامية عقب الحرب العالمية الأولى عاشت الأمة الإسلامية حالة من الضياع والانحطاط رهيبة، أحس بها جميع الناس بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم. فلقد عاشت الأمة الإسلامية تحت الاحتلال العسكري المباشر ردحاً من الزمن، وبقيت تحت سلطة المستعمر الذي يحكم بلاد المسلمين بغير ما أنزل الله، وينصّب حكاماً عملاء على الناس، وينهب خيرات البلاد، وينشر ثقافته وفكره وحضارته، ويحاول فرض نمط عيشه على الأمة، ويمضي في إفساد أخلاق الناس ليحول بينهم وبين التمسك بدينهم وشريعتهم.
__________
(1) - سورة يوسف - الآية (108).
(2) - سورة محمد - الآية (7).(1/174)
وكردّ فعل على تلك الأوضاع، نشط دعاة مسلمون، وقاموا بأعمال مرتجلة عفوية بقصد مواجهة الواقع الفاسد، فلم يكن لهؤلاء الدعاة مفهوم واضح عن النهضة، ولم تكن لديهم دراسة وافية عن الفكرة التي يعملون للنهضة على أساسها، ولا عن الطريقة التي ستسلكها، لذلك وضعوا أهدافاً صغيرة تافهة، وسلكوا طرقاً ملتوية ومرتجلة تتبدل كل يوم بتبدل الظروف. فهم في طريقة عملهم كانوا متأثرين بالواقع الفاسد إلى حد بعيد، بحيث إن هذا الواقع هو الذي حدد لهم أهدافهم وأطروحاتهم وطريقة عملهم إنهم الواقعيون.
لنأخذ مثالاً على ذلك، تعاطي هؤلاء مع الأفكار الوافدة الغريبة عن الإسلام وشريعته وأفكاره، لنرى موقفهم منها. فبدل أن يدرسوا تلك الأفكار من أجل إدراك واقعها وفهمها على حقيقتها ثم ليبيّنوا زيفها ومخالفتها للإسلام، بدل ذلك رأيناهم يتلقفونها ويحملونها ويوفقون بينها وبين الإسلام.
فالاشتراكية تشرّع نظاماً يتناقض كلياً مع نظام الإسلام، أصبحت، بنظر بعض هؤلاء،من الإسلام، لدرجة أن بعض الكتب حملت عنوان "اشتراكية الإسلام"، وحاولت أن تقول إن الإسلام هو أول من أتى بالاشتراكية.(1/175)
والديمقراطية التي تقوم على أساس عقيدة "فصل الدين عن الحياة"، والتي تجعل السيادة للشعب، أي تعطي الشعب حق تشريع الأنظمة والقوانين للحياة، هذه الديمقراطية أصبحت، لدى الكثير من هؤلاء، من الإسلام. فيصفون نظام الحكم الإسلامي بالديمقراطي، ويصفون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين بالديمقراطيين، ويعُدّون كلمة "الشورى" مرادفة لكلمة الديمقراطية، وهكذا... فمن ذلك قول أحدهم:"نحن محتاجون إلى معرفة عصرنا وما يتطلبه، ومن ذلك الديمقراطية،... إن الديمقراطية هي التعبير العصري عما نسميه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى، والحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق بها...، ونحن كمسلمين نرحب بها ونؤيدها ونرى أن الإسلام يعتبرها جزءاً منه"(1). ومما يقوله أحد العاملين المسلمين:" نحن مع الديمقراطية بكل أبعادها وبمعناها الكامل والشامل، ولا نعترض على تعدد الأحزاب، فالشعب الذي يحكم على الأفكار والأشخاص"(2).
__________
(1) - جريدة الشرق الأوسط - حلقات في 5و 6 و7 و9 شباط 1990م.
(2) - مجلة العالم - العدد 123 - 21 حزيران 1986.(1/176)
أما فكرة الحريات التي انبثقت عن عقيدة "فصل الدين عن الحياة" أيضاً، والتي تجعل الإنسان في حل من أي قيد أو ضابط وتعطيه حق التصرف كيفما شاء في حياته الشخصية وحق الارتداد عن دينه واعتناق أي عقيدة، وحق التفوه بأي كلام وحق تملك ما يريد وكيفما يريد دون قيد أو شرط، أصبحت هذه الحريات بنظر هؤلاء من أسس الشريعة ومقاصدها وأهدافها فمن الكتب التي ألّفها أحد الحركيين المسلمين كتاب يحمل عنوان "الحريات العامة في الدولة الإسلامية". يحاول فيه تفصيل الأحكام الشرعية على قياس الدولة الديمقراطية المعاصرة. من ذلك ما يقوله من أنه يجوز للمرأة أن تكون خليفة أو حاكماً استناداً إلى "أن عمومات الإسلام تؤكد المساواة بين الذكر والأنثى"(1)، مع أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضح في تحريم أن تكون المرأة ولي أمر المسلمين " لن يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة"(2). وكذلك ما قاله في شأن تقرير "حرية الاعتقاد" في الإسلام حيث نفى أن يكون القتل عقوبة للمرتد عن الإسلام، وادّعى أن قتل المرتد زمن النبي كان عقوبة تعزيرية استدعتها الظروف السياسية آنذاك(3)، رغم وضوح قوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه"(4).
هذه الأمثلة التي هي غيض من فيض تكشف لنا مدى تأثر الدعاة الواقعيين بالأفكار الفاسدة السائدة في المجتمع والتي هي في الغالب من لوثات الغزو الفكري الغربي.
أما من حيث نظرتهم إلى الشريعة وكيفية فهمهم لها فقد كانت متأثرة بمنهجهم الواقعي أيضاً إلى حد بعيد.
__________
(1) - راشد الغنوشي - الحريات العامة في الدولة الإسلامية - ص 129.
(2) - رواه البخاري - كتاب المغازي - 4163.
(3) - راشد الغنوشي - الحريات العامة في الدولة الإسلامية - ص 48-49-50.
(4) - صحيح البخاري - رقم الحديث 3017.(1/177)
فطريقة الإسلام في الدرس والتطبيق ومعالجة المشاكل هي كالتالي: أن يفهم الواقع على حقيقته فهماً عميقاً يؤدي إلى معرفة المشكلة التي يراد معالجتها والتي هي مناط الحكم، ثم بعد ذلك تفهم النصوص الشرعية والأدلة المتعلقة بهذا الواقع لأخذ الحكم الشرعي وتطبيقه علىالواقع، وبذلك تكون المشكلة قد عولجت بالشرع.
ولكن الواقعيين، لا يتبعون هذه الطريقة، وإنما يستمدون معالجتهم للواقع من الواقع نفسه، ومن ثم يعودون بعد ذلك إلى النصوص الشرعية ليبحثوا عن دليل ليلصقوه بالمعالجة الواقعية، ولو أدى ذلك إلى أن تلوى أعناق الأدلة والأحكام الشرعية لتوافق معالجاتهم. وهذا ما دفعهم إلى توسيع مجال مصادر التشريع، بحيث تشمل جميع المصادر التي تكلم بها الأصوليون على اختلافهم، دون النظر في مدى صحة تلك المصادر. وذلك حتى يكون المجال واسعاً أمامهم للعثور على دليل على أي فكرة يحملونها أو أي معالجة يتبنونها أو أي موقف يتخذونه. فبالإضافة إلى مصادر التشريع الأربعة التي اتفق عليها جمهور الأصوليين، وهي القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس، نراهم يأخذون بالمصادر غير الثابتة. فالاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا والعرف وفتوى الصحابي والعقل وسواها لم تثبت كأدلة للتشريع، بل هي مجرد شبهة، ومع ذلك سخّروها لأغراضهم.
الواقعية أيضاً هي التي دفعتهم إلى استحداث القواعد الجديدة، والتمسك بالقواعد الضعيفة، بالإضافة إلى القواعد التي حمّلوها ما لا تحتمل من معان. فقالوا بقاعدة "لا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الزمان والمكان" وقالوا إن الشريعة مرنة ومتطورة، وتمسكوا بقاعدة "حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله" فكل ما يرونه مصلحة "بنظرهم" يكون بحجة هذه القاعدة من الشرع، وعمّموا قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، هذه القاعدة التي تتناول ضرورة الهلاك ومحظورات الطعام، عمّموها لتشمل غير المطعومات، ولتشمل حتى الكماليات.(1/178)
وبذلك تسنّىلهم أن يظهروا أي معالجة واقعية بالمظهر الشرعي. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما قام به بعض "الفقهاء" حين أرادوا إباحة المشاركة في الحكم، فقد وضعوا دراسة أتوا فيها بأدلة على جواز الحكم بغير ما أنزل الله تتلخص في الاستدلال بشرع من قبلنا حيث ادعوا أن يوسف عليه السلام حكم بغير ما أنزل الله، واستدلوا بالمصالح حيث رأوا أن الحكم بغير ما أنزل الله مشاركةً مع الحكام يحقق مصلحة للمسلمين، وعطلوا الآيات القطعية في تحريم الحكم بغير ما أنزل الله. ثم ادعوا أن وجود النجاشي على رأس السلطة في الحبشة دليل على جواز الحكم بغير ما أنزل الله، ونسوا أو تناسوا أن النجاشي كان يخفي إسلامه لأنه لم يكن يجرؤ على إعلان إسلامه أمام قومه، وكانت المدة بين إسلامه وموته قصيرة جداً، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بإسلامه إلا يوم موته (عن طريق الوحي)(1). وعندما أباح بعضهم التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية، استدل بنزول الوحي منجماً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مع أن المسألة بحث في كيفية تطبيق الشرع لا في كيفية نزوله، وتطبيق الشرع من أفعال العباد ونزول الوحي من فعل الله تعالى، فكيف يقاس فعل العبد على فعل الله؟
وهكذا كان الدعاة الواقعيون مسايرين لأهواء الناس موافقين لأفكارهم ممثلين لأهدافهم وتطلعاتهم في الوقت الذي قام فيه دعاة مبدئيون يدركون قضية الأمة ويعملون على الانتقال بالناس من حالة الانحطاط والانخفاض المتمثلة في التخلف الفكري، إلى حالة النهضة والرقي عن طريق بث الثقافة الإسلامية الصحيحة النقية الصافية.
بدأت المعركة بين الدعاة المبدئيين وأفكارهم من جهة والأفكار السقيمة والأنظمة البالية من جهة أخرى، حتى لاح في الأفق انتصار الفكر الصحيح والعمل المبدئي.
__________
(1) - أنظر: أحمد المحمود - الدعوة إلى الإسلام - من ص 308 إلى ص 315.(1/179)
مع بداية هذه المعركة بدأت الجماهير تنفضّ من حول أصحاب الواقعية، وتحمل أفكار الدعاة المبدئيين، التي أخذ صدقها يظهر للعيان كل يوم أكثر فأكثر، وأصبح المبدئيون موضع آمال المسلمين، في الوقت الذي يصبح فيه أصحاب الأطروحات الواقعية محل اتهام بالرجعية ومسايرة الواقع الفاسد بما فيه من أفكار وقناعات وثقافة وأنظمة.
قام الدعاة المبدئيون بعد دراسة عميقة لواقع المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون، فدرسوا أفكاره ومشاعره وأنظمته وأوضاعه السياسية، وبعد دراسة عميقة للفكرة الإسلامية لأخذها صافية نقية مبلورة وفهم دقيق لطريقة حمل الدعوة، وهي تتمثل في طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وعزموا على خوض غمار الصراع الفكري لأجل تحقيق نهضة الأمة واستئناف الحياة الإسلامية. وخاض هؤلاء غمار التفاعل مع المجتمع من أجل أن تحمل الأمة الإسلام نظاماً للحياة والمجتمع والدولة، ولتكفر بكل ما سواه من أنظمة وأفكار ومبادىء، ومن أجل أن يصبح استئناف الحياة الإسلامية، عن طريق عودة الحكم بما أنزل الله قضية يعمل لأجلها المسلمون ويناضلون في سبيلها.
وحصل التفاعل، وواجه الرأي العام الدعاة المبدئيين بادىء الأمر مواجهة عنيفة، شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات المتخلفة التي تتعرض لمن يخالفها في تقاليدها وعاداتها وأعرافها وطريقة عيشها. إلا أن هذه المواجهة هي دليل على ترفّع الدعاة المبدئيين عن فساد الواقع بأفكاره ومشاعره وأنظمته، وهذا ما جعل الدعاة يصرون على دعوتهم ويثبتون على قناعاتهم، لأن عملهم هو أن يغيّروا المجتمع لا أن يغيّرهم المجتمع.(1/180)
قام هؤلاء الدعاة ليواجهوا كل فكر دخيل، وكل ثقافة وافدة، وكل توجّهٍ مغاير للإسلام، فهم يفهمون حق الفهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(1). ففي الوقت الذي يؤلف فيه المؤلفون الكتب لينسبوا الاشتراكية والديمقراطية والقومية والوطنية والحريات للإسلام، قام المبدئيون ليثبتوا فساد الاشتراكية وأنها كفر، وليقفوا في وجه دعاتها وليسقطوا هيبتهم من أعين الناس، وليبينّوا عفن الديمقراطية وأنها رجس وأنها تتناقض مع الإسلام من حيث الأساس والتفاصيل، وليكشفوا عوار القومية وأنها انحطاط وارتكاس ونتانة، وليظهروا تفاهة الوطنية ومصطنعيها، وليوضّحوا أن الحريات هي تفلّت من أحكام الشرع وهي من الحضارة الغربية وليس من الإسلام في شيء، وأنها عار على أمة تحمل عقيدة كالعقيدة الإسلامية، قاموا ليعلنوا البراءة الكاملة من أنظمة البشر الوضعية، والمفاصلة الشاملة بين الإسلام وغيره، وليظهروا فساد الأنظمة والقوانين التي تُرعى بها شؤون الأمة، متمثلين قوله - صلى الله عليه وسلم - : "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"(2).
__________
(1) - رواه مسلم - كتاب الأقضية - (17).
(2) - رواه البيهقي - راجع أيضاً : مشكاة المصابيح، لمحمد التبريزي، كتاب العلم، الحديث 248.(1/181)
لقد حتم المبدأ على حَمَلَة الإسلام أن يتحروا النقاء والصفاء في أفكارهم وثقافتهم التي يحملونها دعوة إلى الناس. فكان لزاماً على الدعاة المبدئيين، وهم يحملون الدعوة إلى الإسلام وأنظمته وأحكامه، أن ينقّوا عقائدهم من أي لوث أو دخل علق بها منذ قديم التاريخ الإسلامي وإلى عصرنا هذا. وكان لزاماً عليهم أن يبحثوا عن المصدر النقي الصافي للأحكام الشرعية، وهو القرآن والسنة وما أرشدا إليه "قطعاً" من أدلة التشريع. وكان لزاماً عليهم أن يعتمدوا القواعد التشريعية التي دل عليها الدليل الشرعي باستدلال صحيح، وأن يتحروا الأحكام المستندة إلى الدليل الأقوى، وأن تكون قوة الدليل هي المقياس حين المفاضلة بين اجتهاد وآخر، وبين رأي وآخر، بصرف النظر عما يوافق نظام العصر وواقع القرن العشرين وعلاقات المجتمع الرأسمالي. فليس الواقع مصدراً للمعالجات، وليست المصلحة دليلاً على الأحكام، وليست حضارة القرن العشرين "الحضارة الغربية" حكَماً على الإسلام وأحكامه. ولا يجوز على المبدأ أن يتكيف مع الواقع الفاسد والمجتمع المنحط والعلاقات الرأسمالية. بل إن على الواقع أن يتغير ليوافق المبدأ، أي ليوافق الإسلام، وعلى الدعاة تقع مسؤولية تغيير المجتمع ليصبح مجتمعاً إسلامياً، وذلك عن طريق توجيه الضربات الفكرية والإعلامية ضد علاقاته الفاسدة وما يتحكم بها من أفكار خاطئة ومشاعر زائفة وأنظمة بالية. وهذا لا يتأتى إلا بالثبات على المبدأ بعقائده وأفكاره وأحكامه ومعالجاته، دون حيد قيد شعرة عنها، ولنتذكر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ألا إن رَحَا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب"(1).
__________
(1) - رواه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبري.(1/182)
فحين يُسأل الدعاة عن نظام الحكم في الإسلام، فواجبهم أن يقولوا هو نظام الخلافة الذي توكِل فيه الأمة رعاية شؤونها عن طريق البيعة، رجلاً تفوضه السلطة الكاملة، ليحكمها بما أنزل الله، وليكون مسؤولاً أمام الله في الآخرة، وأمام الرعية في الدنيا عما يمارسه من رعاية الشؤون. وواجبهم أن يفصّلوا شكل نظام الحكم كما دلت عليه الأدلة الشرعية وكما مارسه رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون من بعده، وكما وردت أحكامه في الكتب الفقهية المعتبرة. لا أن يتوسلوا النظم المعاصرة ليبحثوا عن أقربها إلى "روح الإسلام" فيَسِموا بها الإسلام زوراً وبهتاناً، فيقولوا: نظام الحكم في الإسلام ديمقراطي أو جمهوري أو برلماني أو غير ذلك.
وعليهم حين يُسألون عن نظام الاقتصاد في الإسلام أن يجيبوا بما دلت عليه مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد والمال التي استقرت في كتب الفقه سواء أكانت من أحكام المعاملات الفردية، أم من الأحكام المنوطة بالدولة. ولا ضير في ترتيب هذه الأحكام وتبويبها على نحو يسهّل الرجوع إليها ويؤهلها لمواجهة الأنظمة الوضعية المعاصرة. ولكن لا يجوز أن يقال، حين تروج أفكار الاقتصاد الحر: إن الإسلام أقرب ما يكون في نظامه الاقتصادي إلى النظام الحر. أو أن يقال، حين تروج الدعوة إلى الأفكار الاشتراكية: إن الإسلام ينزع في تشريعه الاقتصادي نزعة اشتراكية. أو أن يقال: إن الإسلام جمع بين مزايا النظامين الحر والاشتراكي.
إن المبدأ يملي على حَمَلَته، أن يؤكدوا براءة الإسلام من كل نظام، وأن يبرهنوا على تميزه عن كل ما سواه من المبادىء والمذاهب والأنظمة، سواء من حيث الأساس الذي يقوم عليه، أو من حيث مصدره الذي نجم عنه، أو من حيث مضمونه الذي تجلى نظاماً للحياة والمجتمع والدولة.(1/183)
أما من حيث الأساس، فأساس نظام الإسلام هو العقيدة الإسلامية، عقيدة "لا إله إلا الله محمد رسول الله". بينما أساس النظام الرأسمالي عقيدة "فصل الدين عن الحياة". وأساس النظام الاشتراكي الشيوعي عقيدة "لا إله والحياة مادة". وأما من حيث المصدر، فمصدر نظام الإسلام الوحي الذي أُنزِل على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبِعها ولا تَتّبِع أهواء الذين لا يعلمون }(1)، بينما مصدر الأنظمة الوضعية عقول البشر وأهواؤهم وعبقرياتهم. وأما من حيث المضمون، فإن كتب الفقه الإسلامي وتاريخ المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، لأدلة حية دامغة على أن للإسلام كياناً حضارياً وتشريعياً ونمطاً من العيش لا يمت بصلة إلى أي حضارة من الحضارات ولا أي تشريع من التشريعات، وأنه بريء من كل ما سواه براءة لم يعرف تاريخ الحضارات لها مثيلاً.
وهكذا، على حَمَلَة الدعوة أن يأخذوا بقوة، بكل فكرة إسلامية، وبكل معالجة وكل حكم يعطيه الإسلام. فليسوا مطالبين بتبرير حكم "الجهاد"، وليسوا مجبرين على تبرير "تعدد الزوجات"، ولا حكم "الطلاق"، ولا "قطع يد السارق" ولا غيرها، بل عليهم الافتخار بأنهم يحملون أعظم نظام عرفه البشر، إنه شريعة الله المهداة رحمة للعالمين.
ولا يجوز للدعاة أن يبحثوا عما يوافق الواقع من أحكام فيأخذونها ولو كانت اجتهاداً ضعيفاً أو كانت مستندة إلى أدلة ضعيفة. ولا يجوز أن يأولوا الحكام والنصوص الشرعية لتوافق "روح العصر" الذي هو النمط الحضاري الغربي. ولا يجوز التنازل عن بعض الأحكام وتعديلها أو إخفاؤها، استرضاء للسلاطين واتقاءً لشرهم وطمعاً ببعض ما عندهم. بل الدعوة موقف ثابت، وكلمة حق ينال بها الدعاة شرف الدنيا والآخرة بإذن ربهم.
__________
(1) - سورة الجاثية - الآية 18.(1/184)
إن ثبات المبدئيين على ذلك النهج وتلك المواقف، أدى إلى اضطهادهم وظلمهم ومواجهتهم بالقتل والتشريد والسجن وقطع الأرزاق وترويج الدعاوات الإعلامية لتشويه صورتهم أمام أعين الناس، مما جعل المجتمع يتجمد في وجههم بعض الأحيان، وذلك إزاء الإرهاب المادي والإعلامي الذي يمارس ضد الدعاة ومن يلتف حولهم ويؤيدهم.
إلا أن كل ذلك لم يثن الذين يعتنقون أعظم عقيدة ويحلمون بجنات عرضها السماوات والأرض عن دعوتهم التي نذروا حياتهم لها، وتحملوا الأهوال لأجلها، ورأوا أن القضية قضية حياة أو موت واتخذوا إزاءها إجراء الحياة والموت. فهم يتذكرون دائماً قول الله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }(1).
وما أشبه ذلك بما حصل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن يؤيدهم ويحميهم. فقد حاصرت قريش آل هاشم، لأجل أنهم دافعوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وحاربت كل من يعين أو ينصر دعوة الحق أو يصغي إلى كلمة الإسلام. فتجمد المجتمع في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقف الناس موقف المراقب والمترقب الذي ينتظر ما ستؤول إليه الأمور. إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبر على دعوته ودأب يبحث عن مجال آخر للدعوة، حتى أكرمه الله سبحانه وتعالى بإيمان أهل المدينة وتحقق بذلك نصر الله تعالى لرسوله الكريم.
__________
(1) - سورة البقرة - الآية (214).(1/185)
وها هم الدعاة المبدئيون في أيامنا هذه، لما صبروا على دعوتهم رأينا أبواب التوفيق تفتّح لهم من جديد، وسرعان ما عادت الأمة لتحتضن أبناءها المخلصين الواعين الذين ثبتوا على مبدئهم ودعوتهم. وهاهم يصبحون أمل الناس في التغيير، وها هي الخلافة أصبحت على كل لسان، وها هي بشائر النصر تلوح في الأفق وتبشر بمجد جديد تكون فيه كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ويكون الإسلام الصافي النقي هو الذي يحكم حياة الناس ويعلي شأنها، حيث لا وجود بإذن الله تعالى لآثار التخلف والظلام، ولا صوت يعلو لغير المخلصين الواعين من أبناء هذه الأمة.
إن مزيداً من الجهود في طريق الدعوة، وعلى الخط الذي رسمه المبدأ من أجل استئناف الحياة الإسلامية، من شأنها أن تبشر بولادة نهضة راشدة جديدة تعيد للحضارة الإسلامية حياتها وللأمة كرامتها وعزّها وللمجتمع هويته وللأرض منارتها.
إنه نداء لكم يا خير أمة أخرجت للناس، نداء لكم يا من ناداهم الله بقوله: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }(1).
المصادر والمراجع
الواردة أسماؤها في هوامش الكتاب
الإسلام كبديل - مراد هوفمان - ترجمة د. غريب محمد غريب - الطبعة الأولى - مجلة النور الكويتية ومؤسسة بافاريا.
الإسلام على مفترق الطرق - محمد أسد - ترجمة د. عمر فروخ - 1987 - دار العلم للملايين، بيروت.
الإسلام والتحدي الحضاري - بأقلام عشرة من علماء الإسلام - دار الكاتب العربي، بيروت - 1992م 1412 هـ.
أعلام الفكر السياسي - إعداد موريس كرانستون - الطبعة الثالثة 1991 - دار النهار للنشر، بيروت.
بهجة المعرفة - موسوعة علمية مصورة - الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان.
التفسير الإسلامي للتاريخ - عماد الدين خليل - الطبعة الخامسة 1991 - دار العلم للملايين.
__________
(1) - سورة الأنفال - الآية (24).(1/186)
تلبيس إبليس - الحافظ الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي، المتوفى 597 هـ- تحقيق عصام فارس الحرستاني - المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1414 هـ - 1994م.
جامع بيان العلم وفضله - الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي المتوفى سنة 462 هـ - إدارة الطباعة الجيزية، مصر - د.ت.
الجامع لأحكام القرآن - أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي - دار الكتاب العربي، بيروت - د.ت.
الحريات العامة في الدولة الإسلامية - راشد الغنوشي - مركز دراسات الوحدة العربية بيروت - 1993.
الدعوة إلى الإسلام - أحمد المحمود - الطبعة الأولى - 1415هـ، 1995م - دار الأمة، بيروت.
الدولة الإسلامية - تقي الدين النبهاني - الطبعة الخامسة 1994 - دار الأمة، بيروت.
سنن الدارمي - الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي (ت 255 هـ).
السيرة النبوية - ابن هشام (المتوفى سنة 213 أو 218 هـ) - تعليق وتخريج: د. عمر عبد السلام تدمري - دار الكتاب العربي - الطبعة الرابعة 1993.
الشخصية الإسلامية، الجزء الأول - تقي الدين النبهاني - الطبعة الرابعة 1994 م - دار الأمة، بيروت.
صحيح البخاري - للإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ.
صحيح مسلم - للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى سنة 261 هـ.
العقد الاجتماعي - جان جاك روسّو - ترجمة ذوقان قرقوط - دار القلم، بيروت.
قصة الحضارة - ول ديورانت - ترجمة مجموعة من الكتّاب - دار الجيل، بيروت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (المتوفى سنة 807 هـ) مؤسسة المعارف، بيروت 1406 هـ - 1986م.
مختار الصحاح - محمد بن أبي بكر الرازي - مكتبة لبنان - 1992.
مسند الإمام أحمد - الإمام أحمد بن حنبل (المتوفى سنة 241 هـ) - مراجعة صدقي العطار - دار الفكر، بيروت 1994م.(1/187)
الموسوعة الفلسفية - وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، بإشراف م. روزنتال و ب. يودين - ترجمة سمير كرم - دار الطليعة، بيروت - 1987.
النظام الاقتصادي في الإسلام - تقي الدين النبهاني - الطبعة الرابعة 1990 - دار الأمة، بيروت.
نهاية التاريخ والإنسان الأخير - تأليف فرانسيس فوكوياما - مترجم بإشراف مطاع صفدي - مركز الإنماء القومي، بيروت 1993.
الوعي (مجلة) - جامعية فكرية ثقافية - تصدر عن ثلة من الشباب الجامعي المسلم في لبنان.(1/188)