أسس البحث فى اللغة والأدب
إعداد
د. أحمد حسن صبرة
بيانات الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لا ينتمي هذا النوع من الدرس – أسس البحث ومناهجه – إلى حقل معرفي بذاته ، فلا يمكن عده جزءا من المنطق ، وإن كان يحتوي على مفاهيم منطقية كثيرة ، لكن هذه المفاهيم ليست نتاجا لتفكير شخص معين ، بحيث يمكن أن نعزو إليه فضل السبق إلى مفهوم منطقي ما ، لم تعرفه البشرية من قبل ، مثلما يمكن أن نفعل ذلك في علوم أخرى مثل الرياضيات أو الفيزياء أو الفلك أو غيرها ، إننا نمارس في حياتنا مفاهيم الاستقراء والاستدلال والقياس دون أن نكون مضطرين إلى تعلم المنطق ، لكن فضل هؤلاء الذين كرسوا جهودهم في علم المنطق أنهم استطاعوا صياغة هذه المفاهيم صياغة علمية ، واستطاعوا كذلك أن يربطوها معا في سياق محكم ، ولا يمكن عده جزءا من نظرية المعرفة ، برغم أن مفاهيم مثل المعرفة والعلم تعد تصورات أساسية فيه .
هذا الدرس – في حقيقته – يعد إطارا أشمل تنضوي تحته كل أنواع العلوم المختلفة ، وهو نتاج جهود مضنية عبر مئات السنين لآلاف من الباحثين ، استطاعوا من خلال بحوثهم أن يضعوا أسس هذا الدرس ، وجاء آخرون ليلملموا أشتات أفكار الباحثين الجزئية ، وممارساتهم التطبيقية في سياق كيفية البحث ، ليصنعوا منها جميعا ما عرف بعد ذلك بعلم المناهج الذي يبدو كيانا متعاليا على كل العلوم .
جاءت مرحلة بعد ذلك حاول فيها بعض الباحثين أن يربطوا هذا العلم بحقلهم المعرفي الخاص ، فألفت كتب كثيرة في مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ، وعلم النفس ، والإدارة ، والعلوم الطبيعية ، والعلوم السياسية ، وحاولت كتب أخرى أن تستقرئ مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ، مثلما فعل فرانتز روزنتال ، أو سامي النشار .(1/1)
في مجال اللغة العربية وآدابها هناك عدد محدود من الكتب يناقش منهجية البحث وإجراءاته ، بدءا من كتاب شوقي ضيف ( البحث الأدبي : طبيعته – مناهجه – أصوله – مناهجه ) الذي يقدم مادة جيدة لقارئ على إلمام بأسس البحث ، فهو يبني على أشياء يفترض أنها موجودة لدى القارئ ، لذلك لا يساعد هذا الكتاب الطالب الذي يبدأ أولى خطواته في قسم اللغة العربية ، بل يساعد الطالب الذي يعد دراسات عليا في الأدب دون غيره من فروع الدرس في قسم اللغة العربية ، هناك أيضا كتاب ( منهج البحث الأدبي ) للدكتور علي جواد الطاهر ، وفي هذا الكتاب يقدم خبرته في البحث العلمي من واقع دراساته الكثيرة ، لكنه أيضا يغفل عن مفاهيم كثيرة يجب أن تجلى للطالب قبل أن يبدأ البحث في فروع اللغة العربية المختلفة ،وبرغم ذلك فهو كتاب جيد استفاد هذا الكتاب من بعض أجزائه ، وبخاصة في حديثه عن موضوع بطاقات البحث ، هناك كذلك كتاب ( منهج البحث وتحقيق النصوص ) للدكتور يحيى وهيب الجبوري ، ويعرض فيه لخبرته البحثية ، لكن عرضه لموضوعاته يتسم بالاختصار الشديد ، وهناك أيضا كتاب ( كيف تكتب بحثا جامعيا للدكتورين عبد العزيز شرف ، ومحمد عبد المنعم خفاجي ، وهو كتاب مختصر أيضا يعرض للموضوعات المهمة في سياق البحث الأدبي واللغوي دون تفصيل .(1/2)
لكن هذه الكتب لا تفي تماما حاجة الطالب المبتدئ في قسم اللغة العربية ، فهذا الطالب في حاجة إلى أن تجلى له مفاهيم مثل المعرفة والعلم والفرق بينهما ، ومفاهيم مثل الاستقراء والاستنباط والاستدلال والقياس والفرض العلمي والمغالطات ، وكذلك يجب أن يتعرف على مناهج البحث الأولية مثل المنهج الاستنباطي والاستقرائي والوصفي والإحصائي ، وأن يتم ربط كل هذه المفاهيم بأمثلة واضحة من موضوعات اللغة والأدب ، في حاجة أيضا إلى أن يتعرف على كيفية اختيار مشكلة للبحث والسير فيها حتى يصل إلى إجابة منطقية لهذه المشكلة ، ثم عليه أن يتدرب أيضا على البحث منذ الخطوة الأولى حتى النهاية ، حتى يتخرج بعد ذلك طالبا قادرا على التفكير المنطقي ، والبحث المنهجي المنظم .
في ضوء هذه الحاجات لا يوجد كتاب شامل للموضوعات المختلفة التي طرحت سابقا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدرس اللغوي والأدبي ، بل ما يوجد من هذه الكتب في المكتبة العربية يرتبط بعلوم أخرى مثل الإدارة أو العلوم السياسية أو علم النفس أو الاجتماع ، وقد كان هدف هذا الكتاب الأساسي أن يجمع الموضوعات السابقة والمفاهيم من سياقاتها المختلفة ليضعها في سياق آخر يخدم الدرس اللغوي والأدبي ، لذلك كان تركيزه الأساسي على استبدال أمثلة من موضوعات اللغة العربية المختلفة بأمثلة العلوم الأخرى التي وضعت كتب مناهج البحث خدمة لها .
والحقيقة أن المفاهيم التي طرحتها هذه الكتب لا يمكن أن ننسبها إلى مؤلف بعينه ، إنها مفاهيم ملك للبشرية ، وهي جماع الخبرة الإنسانية في البحث العلمي والتفكير المنطقي ، لا يمكن مثلا أن ننسب إلى أرسطو أنه اكتشف لنا مفهوم الاستقراء أو الاستنباط أو القياس ، فهذه مفاهيم يستخدمها كثير من البشر دون وعي بمصطلحاتها ، لكن فضل أرسطو أنه صاغ هذه المفاهيم صياغات علمية دقيقة مكنت الباحثين من أن يبنوا عليها قضايا مهمة .(1/3)
في ظل هذا التصور نجد المفاهيم السابقة وغيرها تتردد في كثير من كتب البحث العلمي ومناهجه ، دون أن يدعي مؤلف أنه صاحبها ، وهي تعرض برغم ذلك لأنها مفاهيم لا يمكن الاستغناء عنها في سياق البحث العلمي ، ولا يختلف هذا الكتاب في تأكيده على أهمية هذه المفاهيم ، وعرضها خدمة لأغراض البحث في اللغة والأدب ، لكنه ألزم نفسه بأن يأخذ الصياغات اللغوية لهذه المفاهيم من كتب المنطق مباشرة ، وهي الأكثر اتصالا ودقة ، وحاول أن يربطها دائما بدرس الأدب واللغة ، وقد تنوعت أساليب الأخذ على ما هو واضح في هامش الكتاب ، لكنه في كل مرة يرد الصياغة إلى المصدر الذي نقل عنه ، وقد يشير في بعض الأحيان إلى مصادر أخرى مفيدة في الموضوع ، وقد اعتمد الكتاب بشكل أساسي على جملة من الكتب التي تناولت مناهج البحث وأسسه ، وأشار إليها في مواضعها ، كما أشار إلى المواضع التي نقل عنها من هذه الكتب .
وبالله التوفيق
أحمد صبرة
المعرفة والعلم
الفرق بين المعرفة والعلم :(1/4)
هناك فارق أساسي بين المعرفة والعلم هو المنهج ، فبينما لا يكتسب العلم سماته الجوهرية إلا باستخدام منهج ما ، فإن المعرفة لا تشترط ذلك . إن المنهج هو الوسيلة الأكثر انضباطا كي يحقق العلم نتائج إيجابية ومفيدة ، وبدون المنهج يتحول العلم إلى جملة من المعارف التي لا تترابط فيما بينها ، وللحديث عن المنهج وضوابطه موضع آخر ، أما هنا فإننا نحاول ضبط التمييزات الأساسية بين المعرفة والعلم ، وبجانب المنهج فإنه يمكن عد كل علم معرفة ، ولكن لا يمكن القول إن كل معرفة تعد علما ، وإذن فالعلاقة بينهما هي علاقة كل هو المعرفة بجزء مهم هو العلم ، والمعرفة غريزية في الإنسان ، بينما العلم مكتسب بأدواته ومناهجه ، وإذا تحولت المعرفة من الغريزية إلى الاكتساب ، فإنها حينئذ تكون معرفة علمية ، والمعرفة الغريزية يمكن ملاحظتها في سلوك الأطفال الصغار بحثا عن الطعام والأمان ، أو في سلوك بعض الحيوانات والطيور بحثا عن الأماكن الأكثر دفئا في الشتاء : طيور السمان على سبيل المثال التي تهاجر من شمال أوربا إلى الشواطئ الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط في ميعاد لا يتغير كل عام ، وغير ذلك من سلوكيات للحيوانات والطيور تنبئ عن طبيعة المعرفة الغريزية التي تولد مع الكائن الحي دون أن يكون للمجتمع الخارجي دور ما في اكتساب هذه المعرفة ، أما المعرفة المكتسبة ، فإنها تؤخذ من طرق عدة هي :
1 – التلقي :(1/5)
وهو أكثر هذه الطرق أهمية ، فجزء كبير من المعرفة التي يستفيد منها الإنسان وصل إليه نقلا عن مصادر أخرى ، أي لم يحصل على تلك المعرفة بحواسه هو من الواقع ، ولكن من إدراك الآخرين ، وحصل عليها بواسطتهم ، ومثال المعرفة التي مصدرها التلقي ما يصلنا عبر المطبوعات والإذاعات ، أو شبكات التلفاز ، ومع أن جزءا من المعرفة التي تصلنا عبر وسائل الإعلام السمعية والبصرية تجعلنا ندرك الصوت والصورة الأصلية ، فإنها لا تخرج عن كونها معلومات منقولة إلينا بواسطة شخص آخر ، ولم ندركها مباشرة بحواسنا ، فالصوت أو الصورة الذي يصل إلى إدراكنا عبر هذه الوسائل لم تدركه حواسنا من الواقع مباشرة ، ولكن ينقله إلينا آخرون أدركوه من الواقع مباشرة بحواسهم .
2 – الملاحظة :
هي الطريقة التي يكتسب بها الإنسان المعرفة من خلال حواسه مباشرة دون وسائط خارجية ، ولا يستطيع الإنسان السيطرة تماما على هذه الوسيلة في المعرفة دون أن يعزل نفسه عن المجتمع ، فالأذن تتلقى مئات المعلومات كل يوم ، والعين ترى عشرات المشاهد ، والحواس الأخرى تفعل نفس الشيء دون أن يستطيع الإنسان السيطرة على هذه المعلومات التي تتدفق عليه ، أو أن يحد منها تماما .
3 – التجربة :
هي وسيلة لا يستهان بها في اكتشاف السنن الكونية ، فالتجربة هي عملية ملاحظة ، ولكن لظاهرة أسهم الملاحظ لها في صنعها ، وقد تكون هذه المساهمة عن قصد ، أو بالصدفة ، فالتجربة إذن مصدر من مصادر المعرفة التي وصلت إلى إدراك الإنسان بصفته عنصرا من العناصر التي أدت إلى حدوث تلك الظاهرة التي أدركتها حواسه .
4 – الاستنتاج :(1/6)
لا يتميز الإنسان فقط بقدرته على تنمية معرفته بواسطة حواسه ، فهناك مخلوقات أخرى تستطيع ذلك ، وإنما يتميز بقدرته على تنمية معرفة إضافية من المعرفة التي يحصل عليها ، فالطرق الثلاثة السابقة ، والاستنتاج عملة ذات وجهين هما : الاستقراء ، والاستنباط ، ولهذين الوجهين مجال آخر للحديث المفصل عنهما . ( 1 )
والعلم في التراث الإسلامي يرادف المعرفة ، وفي القرآن الكريم " وقل رب زدني علما " أي معرفة ، أما العلم في الغرب ، فإن قاموس ويبستر يعطي تعريفين للعلم :
- العلم هو المعرفة المنسقة التي تنشأ عن الملاحظة والدراسة والتجريب ، والتي تتم بغرض تحديد طبيعة أو أسس أو أصول ما تتم دراسته .
- العلم هو فرع من فروع المعرفة أو الدراسة ، خصوصا ذلك الفرع المتعلق بتنسيق وترسيخ الحقائق والمبادئ والمناهج بواسطة التجارب والفروض .( 2 )
ونلاحظ في التعريفين تركيز على المنهج وأدواته ، وهو ما يميز العلم عن المعرفة كما قلت سابقا ، ولا يعني هذا أن العرب لم يعرفوا منهجية العلم ، فالواقع أنهم عرفوه ، وكان لديهم كما بين فرانز روزنتال منهج علمي واضح راسخ الأصول قائم على احترام الرواية والدقة في النقل والنقد الداخلي والخارجي للنصوص ، وقد شرح روزنتال شرحا مستفيضا الأساليب النقدية التي كانوا يتبعونها ، وحدود ذلك النقد ، وتبيان لطبيعة البحث العلمي ، وتردده بين التخصص والتبسط ، وقيام جانب منه على التجربة ، ومدى تطوره وتقدم أساليبه على مر العصور .( 3 )
لكن القضية هنا قضية مصطلح ، فالعرب – على الرغم من منهجيتهم التي اتسموا بها في كثير من المعارف التي عرضوا لها ، فهم لم يقدموا مصطلحا جامعا لهذا النوع من المعرفة المنظمة المنسقة التي يحتويها لفظ العلم في معناه الغربي .
إن المعرفة العلمية لها ملامح رئيسية كما يقول كارل بوبر ( 4 ) ، ومن ملامحها :(1/7)
1 – أنها تبدأ بمشاكل عملية ونظرية أيضا ، فهناك مثلا صراع العلوم الطبية ضد الآلام التي يمكن تجنبها ، وهذا مثال للمشاكل العملية ، وأما المشاكل النظرية، ففي دراسة الأدب مثلا محاولة تفسير بعض الظواهر التي يمكن أن نقابها في شعر بعض الشعراء ، واستخدام أسماء الإشارة بكثرة في شعر المتنبي ، مفردات الصورة ومصادرها في شعر كل من بشار بن برد وأبي العلاء المعري ، هل كان للترجمة عن اللغات الأجنبية تأثير على البنية الأسلوبية للغة العربية ؟ وإن كان هناك تأثير ما فما مداه ؟ وغير ذلك من المشكلات التي يمكن طرحها في سياق البحث اللغوي أو الأدبي كفرضيات ، وهنا نحن إزاء معرفة علمية .(1/8)
2 – تتضمن المعرفة العلمية البحث عن الحقيقة ، البحث عن نظريات تفسيرية صحيحة موضوعيا ، إذن هناك هدف ما وراء المعرفة العلمية ، وهذا الهدف هو الذي يلملم أشتات المعلومات المبعثرة ، ويضع لها نسقا ملائما يمكن من خلاله أن ينجز هذا الهدف في صورة مثلى ، مع التسليم بأننا لا نستطيع الوصول إلى اليقين المطلق في مثل هذه المعرفة العلمية النظرية ، فالمعرفة البشرية كلها كما يقول كارل بوبر ليست معصومة من الخطأ ، وإذن لا يقين هنا ، وفي مجال دراسة اللغة والأدب فإن الحقيقة لها وجوه كثيرة ، وقد تتعدد التفسيرات لمشكلة ما ، وكل التفسيرات يكون صحيحا ، ويكون هذا بحسب المنهج الذي يستخدمه المفسر للوصول إلى النتيجة النهائية ، فالغموض في شعر أبي تمام مثلا يمكن تفسيره نفسيا انطلاقا من الذات الشاعرة ، ورغبتها في التفرد والبحث عن غير المألوف ، وقد يمكن تفسيره حضاريا ، فأبو تمام جاء في عصر تفاعلت فيه الحضارات والثقافات ، وأصبحت اللغة العربية بوتقة انصهرت فيها حكمة الفرس مع قصص الهند مع فلسفة اليونان مع التراث العربي والإسلامي ، وقد يفسر شعريا بالنظر إلى مسيرة الشعر العربي قبل أبي تمام ، ومدى استنفاد التقاليد الشعرية للأغراض التي تشكلت من أجلها ، وبحث الشعراء عن تقاليد جديدة للشعر العربي ، وإذن نحن أمام ظاهرة واحدة هي الغموض ، وأمام تفسيرات عدة لها ، وقد تكون هناك تفسيرات أخرى محتملة وصحيحة أيضا ، وقد تستبعد بعض التفسيرات التي لا تتسق منهجيا مقدماتها بنتائجها ، وفي كل الأحوال فإننا أمام وجوه كثيرة لحقيقة واحدة .
وللتفكير العلمي سمات يحددها د. فؤاد زكريا فيما يلي :
1 – التراكمية :(1/9)
العلم معرفة تراكمية ، ولفظ تراكمية هذا يصف الطريقة التي يتطور بها العلم ، والتي يعلو بها صرحه ، فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقا فوق طابق ، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء ينتقلون دوما إلى الطابق الأعلى ، أي أنهم كلما شيدوا طابقا جديدا انتقلوا إليه ، وتركوا الطوابق السفلى لتكون مجرد أساس يرتكز عليه البناء . هذا الانتقال لا يتم إلا باكتشاف مناهج جديدة في البحث ، أو طرح أسئلة جديدة على الظواهر نفسها التي بحثت قبل ذلك ، ولا يتأتى ذلك إلا بعد أن يشعر الباحثون أن مناهجهم قد استنفدت أهدافها ، ولم تعد تستطيع الإجابة عن أسئلة كثيرة مطروحة ، أو أن هناك جوانب غامضة في الظواهر لا تستطيع المناهج المستخدمة الإجابة عنها بإقناع ، وبدا هذا في النقد الأدبي الحديث حين استنفد النقد الرومانسي أغراضه ، وكذلك الواقعي ، فلم يستطيعا الإجابة عن كثير من الأسئلة المطروحة في تحليل النص الإبداعي ، ولذلك كانت البنيوية ، وما تلاها محاولة أكثر تقدما في هذا السياق ، أي أننا هنا انتقلنا من طابق نقدي إلى طابق يعلوه .
2 – التنظيم :
من أهم سمات التفكير العلمي التنظيم ، أي أننا لا نترك أفكارنا تسير حرة طليقة ، وإنما نرتبها بطريقة محددة ، وننظمها عن وعي ، ونبذل جهدا مقصودا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها ، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة ، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية ، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه ، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص ، وتصقلها الممارسة المستمرة .(1/10)
ولكن إذا كان العلم تنظيما لطريقة تفكيرنا ، أو لأسلوب ممارستنا العقلية ، فإنه في الوقت ذاته تنظيم للعالم الخارجي – ويقصد هنا الموضوع المطروح للبحث – أي أننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب ، بل ننظم العالم المحيط بنا أيضا ، ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة ، وعلينا في العلم أن نستخلص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تهمنا في ميداننا الخاص ، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة ، ولا تحتل جزءا منفصلا من العالم ، بل إن مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن ننتقي من ذلك الكل المعقد ما يهمنا في ميداننا الخاص .
3 – البحث عن الأسباب :
لا يكون النشاط العقلي للإنسان علما بالمعنى الصحيح ،إلا إذا استهدف فهم الظواهر ، وتعليلها ، ولا تكون الظاهرة مفهومة بالمعنى العلمي لهذه الكلمة ، إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها ، وهذا البحث عن الأسباب له هدفان :
أ – إرضاء الميل النظري لدى الإنسان ، أو ذلك النزوع الذي يدفعه إلى البحث عن تعليل لكل شيء .
ب – ومعرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو أفضل ، ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة ، على الرغم من أن بعض الناس يعتقد أن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي ، وهو اعتقاد واهم .
وتظهر الطبيعة على أنها سلسلة متشابكة من الحوادث التي يؤثر كل منها في الأخريات ، ويتأثر بها ، وترتبط فيما بينها برابطة سببية ، وأصبح هدف العلم هو أن يكشف بأساليب مقنعة للعقل عن الأسباب المتحكمة في الظواهر من أجل السيطرة عليها عقليا بالفهم والتعليل ، وعمليا بالتشكيل والتحوير .
4 – الشمولية واليقين :(1/11)
المعرفة العلمية معرفة شاملة ، بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم ، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية ، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التجربة اليومية المألوفة مثل سقوط جسم ثقيل على الأرض ، فإنها لا تكتفي بتقرير هذه الواقعة على النحو الذي نشاهده عليها ، وإنما تعرضها من خلال مفاهيم ذات طابع أعم مثل فكرة الجاذبية والكتلة والسرعة والزمن ، الخ .. بحيث لا تعود القضية العلمية تتحدث عن سقوط هذا الجسم بالذات ، أو حتى عن مجموعة الأجسام المتماثلة له ، بل عن سقوط الجسم عموما ، وبذلك تتحول التجربة الفردية الخاصة على يد العلم إلى قضية عامة ، أو قانون شامل .
واليقين في العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بطابع الشمول ، إذ إن كل عقل لا بد أن يكون على يقين من تلك الحقيقة التي تفرض نفسها عليه بأدلة وبراهين لا يمكن تفنيدها ، على أن كلمة ( اليقين ) ذاتها بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى ، يمكن أن تستخدم في الواقع بمعنيين متضادين ، ينبغي أن نميز بينهما بوضوح حتى نتبين طبيعة اليقين العلمي :(1/12)
أ – هناك نوع من اليقين نستطيع أن نطلق عليه اسم اليقين الذاتي ، وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما ، هذا النوع من اليقين كثيرا ما يكون مضللا ، إذ إن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا ، أو اتجاهاتنا الذاتية .. وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها عن ( يقين ) ، وازداد استخدامه لألفاظ مثل ( من المحتمل ) و ( ومن المرجح ) و ( أغلب الظن ) بل إننا نجد بعض العلماء يسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حد لا نكاد نجد معه تعبيرا حازما ، أو يقينا واحدا في كل ما يكتبون ، إذ ممارستهم الطويلة للعمل العلمي ، وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغير مستمر ، وأن ما كان بالأمس أمرا مؤكدا قد أصبح أمرا مشكوكا فيه ، وقد يصبح غدا أمرا باطلا ، كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تعبر عن يقين نهائي .(1/13)
ب – على أن العلم لا يمكن أن يرتكز على هذا النوع من اليقين النفسي الذي يختلف من فرد إلى آخر ، والذي تتحكم فيه الظروف والمصالح والعوامل الذاتية ، وإنما يكون اليقين فيه ( موضوعيا ) بمعنى أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل ، ولا بد للوصول إلى هذا اليقين الموضوعي من هدم كل أنواع اليقين الذاتية الأخرى ، فلا بد أن يزعزع العالم – كخطوة أولى في بحثه – ما رسخ في عقول الناس من أوهام وتحيزات عملت على تثبيتها عوامل غير موضوعية .. ولكن إذا كان اليقين العلمي يعتمد على براهين وأدلة منطقية ، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يقين ثابت أو نهائي ، فالعلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تسري على كل زمان ومكان ، بل يعمل حسابا للتغير والتطور المستمر ، أي أن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة لا يعني أن الحقائق تعلو على التغير ، بل إن المقصود من ذلك أن البرهان العلمي يقنع كل من يستطيع فهم هذا البرهان في ضوء حالة العلم في عصر معين ، أما أن تتحول القضية العلمية إلى حقيقة تفرض نفسها على الناس في جميع العصور ، فهو شيء يتنافى مع طبيعة العلم ذاتها .
5 – الدقة والتجريد :(1/14)
في حياتنا المعتادة نستخدم في أحيان كثيرة عبارات تتسم بالغموض ، وتبتعد عن الدقة ، كأن يقول شخص ( قلبي يحدثني بأنه سيحدث كذا وكذا ) وأمثال هذه التعبيرات ليست مرفوضة في الأحاديث اليومية المألوفة ، بل إنها قد تؤدي فيها وظيفة هامة هي الإيحاء بشيء معين دون تحديد دقيق له ، أما في العلم فمن غير المقبول أن تترك عبارة واحدة دون تحديد دقيق ، أو تستخدم قضية يشوبها الغموض أو الالتباس ، بل إنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يجزم بشيء ما على نحو قاطع ، وإنما يظل هذا الشيء ( احتماليا ) في ضوء أحدث معرفة وصل إليها العلم ، وحتى في هذه الحالات يعبر العلم عن هذا الاحتمال بدقة أي بنسبة رياضية محددة ، وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة ، إذا جاز أن نستخدم تعبيرا فيه مثل هذه المفارقة .(1/15)
والتجريد صفة ملازمة للعلم : سواء تم ذلك عن طريق الرياضة ( وهو الأغلب ) ، أو عن طريق أي نوع آخر من الرموز والأشكال ، فحين يتحدث عالم الفلك مثلا عن المدار البيضاوي لكوكب معين ، لا يعني بذلك أن هذا الكوكب يرسم وراءه مدارا محددا في السماء ، وإنما يعني ذلك الخط الذي نتصور – بناء على تتبع حركة الكواكب – أنه يسير فيه ، وحين يتحدث عالم الجغرافيا عن خط الاستواء ، أو خط جرينتش لا يقصد خطا عرضيا أو طوليا مرسوما على صفحة الكرة الأرضية ، بل يقصد خطا تخيليا يرمز به إلى الأماكن والمواقع على سطح الأرض ... .. ، وتطور العلم نحو التجريد كان أمرا تحتمه مصلحة العلم ذاته ، وبالتالي يحتمه تقدم المعرفة ، وتقدم الإنسان . فاستخدام الرموز الرياضية أو اللغة الكمية يساعد على التعبير عن حقائق العلم بمزيد من الدقة ، إذ أن الفرق هائل من حيث الدقة بين قولنا : إن الحديد ساخن ، كما كان يقول القدماء ، بمن فيهم من العلماء حتى أوائل العصر الحديث ، وهي لغة كيفية ، وبين قولنا : إن درجة حرارة الحديد 350 درجة مئوية مثلا ( 5 ) ، وفي مجال الأدب هناك فرق كبير بين القول إن ذا الرمة يكثر من استخدام التشبيه في شعره مثلا ، وأن نقول إن ذا الرمة لديه عدد معين من التشبيهات أكثر من الأنواع البلاغية الأخرى الموجودة في شعره . والفرق بين التعبيرين هو فرق بين لغة كيفية في العبارة الأولى ، ولغة كمية في العبارة الثانية ، لذلك تبدو العبارة الثانية أقرب إلى الدقة العلمية ، على الرغم من أنه لا يوجد فارق كبير من حيث المضمون بين العبارتين .
وهناك باحثون آخرون تعرضوا لموضوع التفكير العلمي وخصائصه ، وأجملوا هذه الخصائص في نقاط لا تكاد تختلف كثيرا عما عرضناه من حديث لفؤاد زكريا هنا ، وهذه الخصائص لديهم هي :
1 – دقة الصياغة .
2 – التعميم .
3 – إمكان اختبار الصدق .
4- الثبات المطلق أو النسبي للصدق .
5 – الموضوعية .
6 – التحليل .(1/16)
7 – اتصال البحث .
8 – التسليم ببعض المبادئ .
9 – البناء النسقي .( 6 )
مفاهيم منهجية
الاستدلال :
يؤدي الاستدلال دورا مهما في تثبيت قواعد التفكير العلمي ، ولا يمكن للباحث أن يتقدم خطوة في بحثه دون أن يمارس الاستدلال في كثير من جزئيات بحثه ، والاستدلال يرتبط ارتباطا وثيق بالمنطق ، بل إن أشهر التعريفات للمنطق أنه علم الاستدلال ، وهذا ما أشار إليه أيضا المسلمون( 7 ) ، والاستدلال المنطقي مألوف بالنسبة لنا في الواقع الفعلي ، فحين نحاول حل أية مشكلة نظرية أو عملية أو أن ندخل في جدل أو مناقشة ، فإننا نمارس – في الواقع بدرجات متفاوتة – نشاطا ذهنيا يمكن أن نسميه بالتفكير المنطقي ، فالأنشطة السيكولوجية مثل الوعي الحسي والإدراك والتصور العقلي تعد مقدمات لعملية أكثر تعقيدا تشتمل على حكم أو استدلال ، حقيقة أن معظم معارفنا تتم بشكل مباشر ، أو بدون واسطة ، أي أنها من ذلك النوع الذي يمكن التحقق منه بالملاحظة المباشرة ، أي أن الاستدلال المنطقي يذهب بنا إلى ما هو أبعد من الملاحظة البسيطة ، ويتم بشكل غير مباشر خلال شيء نعرفه مسبقا ، أو نسلم به .( 8 )
في مجال البحث العلمي فإن عملية الاستدلال تأخذ أشكالا أكثر تعقيدا ، ويعرف الاستدلال بأنه الانتقال من مقدمة أو مقدمات إلى نتيجة أو برهنة على قضية بواسطة قضية أخرى أو أكثر ، وينقسم الاستدلال إلى : استنباط واستقراء وتمثيل .
1 – الاستنباط :
أما الاستنباط فهو الانتقال الضروري من مقدمة أو أكثر إلى نتيجة ، أو البرهنة على نتيجة بواسطة مقدمة أو أكثر برهنة تنطوي على يقين ، وهو ينقسم إلى :
أ – استنباط مباشر
وهو انتقال ضروري من مقدمة واحدة إلى نتيجة ، أو البرهنة اليقينية على نتيجة بواسطة مقدمة واحدة بدون الاعتماد على تصورات أو قضايا أخرى ، وهو يسمى أيضا بالاستدلال المباشر ، ومن الأمثلة عليه :
أ أكبر من ب وأيضا كل الطلبة حاضرون(1/17)
إذن ب أصغر من أ إذن لا واحد من الطلبة غير حاضر
وفي مجال الدرس اللغوي والأدبي ، من الممكن أن نقول مثلا :
كل ما وصل إلينا من نصوص أدبية موثقة عن العصر الجاهلي كان شعرا
إذن لم تصل إلينا نصوص نثرية موثقة .
وهذا النوع من الاستدلال هو أبسط أنواع الاستدلالات ، ودوره ليس خطيرا في إثراء البحث ، وفي تقدمه ، وكما رأينا في الأمثلة السابقة ، فإن النتيجة مرتبطة ارتباطا مباشرا بالمقدمة دون وسائط من تصورات أو قضايا أخرى ، في الحالة الأولى نجد النتيجة مستقاة من التناقض بين أكبر وأصغر ، وفي الحالة الثانية كذلك تناقضا بين ( كل الطلبة ) ، و ( لا واحد من الطلبة ) ، وفي الحالة الثالثة تبدو المسألة مثل سابقتيها .
2 – استنباط غير مباشر
وهو الانتقال الضروري من مقدمتين أو أكثر إلى نتيجة ، أو برهنة على قضية بواسطة مقدمتين أو أكثر برهنة يقينية بفرض صدق المقدمتين ، وأهم أشكاله هو :
القياس :
وهو استدلال استنباطي غير مباشر يتكون من ثلاث قضايا حملية تتكون من ثلاثة حدود : الأكبر والأوسط والأصغر ، وهذه القضايا الثلاث هي مقدمتان ونتيجة ، أما النتيجة فتتكون من الحد الأصغر كموضوع ، والحد الأكبر كمحمول ، وأما المقدمتان فهما المقدمة الصغرى ، وهي التي تحتوي على الحد الأكبر ، وهو النتيجة ، والمقدمة الكبرى ، وهي التي تحتوي على الحد الأكبر ، وهو محمول النتيجة ، أما الحد المشترك بين المقدمتين ، فهو الحد الأوسط ، وهو لا يظهر بالضرورة في النتيجة ، وينطوي القياس على انتقال ضروري من عام إلى خاص ، ومثاله : كل إنسان ( حد أصغر ) حيوان ( حد أوسط ) = مقدمة صغرى
وكل حيوان ( حد أوسط ) فان ( حد أكبر ) = مقدمة كبرى
_______________________________________
إذن كل إنسان ( حد أصغر ) فان ( حد أكبر )(1/18)
والصدق صفة ضرورية في المقدمة الصغرى ، وكذلك الكبرى ، لأنه سيستلزم عنهما صدق النتيجة النهائية ، وغير ذلك يؤدي إلى اختلالات في النتائج تنتج غالبا عن عدم صدق المقدمات ، ومثال ذلك ما يلي :
كل الشعراء العباسيين كتبوا شعرا عذريا .
أبو نواس شاعر عباسي .
________________
إذن أبو نواس كان شاعرا عذريا
والنتيجة الخاطئة أتت من كون إحدى المقدمتين ، وهي المقدمة الصغرى خاطئة ، على الرغم من أن المقدمة الكبرى صادقة تماما ، وهذا من باب المغالطات الذي سنتحدث عنه بالتفصيل بعد ذلك .
2 – الاستقراء :
وهو انتقال من حالات وأحكام جزئية إلى حكم عام ، فنحكم على النوع بما حكمنا به على الأفراد ، ونحكم على الجنس بما حكمنا به على الأنواع ، وهو استدلال غير مباشر يعتمد في انتقاله على وسائط ، وهو ينقسم إلى :
أ – الاستقراء العلمي الناقص
ويسمى بالاستقراء غير التام ، وهو انتقال غير يقيني من الحكم على الجزئيات إلى الحكم على الكلي ، ومن الحكم على الحالات المشاهدة إلى الحكم على كل الحالات الممكنة التي شاهدناها والتي لم نشاهدها ، وهو استدلال تعميمي غير يقيني معرض للسقوط والتغيير مهما كثرت الحالات التي شاهدناها ، ومهما كثرت حالات التأييد له ، فيكفي لسقوطه ظهور حالة واحدة معارضة ، ومن الأمثلة عليه :
الحديد يتمدد بالحرارة النحاس يتمدد بالحرارة
الذهب يتمدد بالحرارة الألمونيوم يتمدد بالحرارة
ولكن الحديد والنحاس والذهب والألمونيوم معادن
إذن جميع المعادن تتمدد بالحرارة .
وقد ظل هذا الحكم الاستقرائي صادقا قرونا عديدة إلى أن اكتشف معدن صلب لا يتأثر بالحرارة سمي إنفار INVAR اختصارا للكلمة التي يوصف بها ،أي لا يتغير ، ويستخدم هذا المعدن في صناعة زنبرك الساعات أو بندولاتها ، وهذا هو السبب في كون الساعات تبين نفس الوقت عند القطب وعند خط الاستواء .
وفي مجال الدراسات الأدبية من الممكن تبعا للاستقراء الناقص أن نقول :(1/19)
نازك الملائكة تكتب شعرا حرا صلاح عبد الصبور يكتب شعرا حرا
حجازي يكتب شعرا حرا أبو سنة يكتب شعرا حرا .
ولكن نازك وصلاح وحجازي وأبو سنة شعراء محدثون
إذن جميع الشعراء المحدثين يكتبون شعرا حرا .
وكما نرى ، فإن الاستقراء هنا أيضا غير صحيح ، لأن هناك عددا كبيرا من الشعراء المحدثين لا يكتبون الشعر الحر مثل محمد التهامي ، بل يهاجمون هذا الشعر ، وما انبثق عنه من شعر الحداثة .
ويلاحظ أن سقوط الأحكام الاستقرائية غير اليقينية هو سبب التقدم العلمي ، ومع أن هذا النوع من الاستقراء غير يقيني إلا أنه مفيد في العلم ، لأنه يسمح بالتنبؤ بالحالات الجديدة .
ب – الاستقراء الصوري الكامل :
ويسمى أيضا بالاستقراء التام ، وهو الانتقال من الحكم على الأنواع إلى الحكم على الجنس ، فنحكم على الجنس بما حكمنا به على كل نوع من الأنواع ، وهو استقراء يقيني كامل بشرط إحصاء الأنواع إحصاءا شاملا ، بحيث لا يفلت أي نوع منها من المشاهدة أو التجربة ، ومثال ذلك :
الإنسان يتنفس ، الحيوان يتنفس ، النبات يتنفس .
الإنسان والحيوان والنبات هي كل الكائنات الحية .
إذن كل الكائنات الحية تتنفس .
ومثال ذلك في الدراسات اللغوية حين تعدد الأفعال كلها ، وتلحظ أن كل فعل على حدة لا يقبل دخول حرف جر عليه ، وتستنتج من ذلك قاعدة مؤداها أن من صفات الأفعال أنها لا تقبل دخول حرف جر عليها .
ويشترط في هذا الاستقراء أن تكون الأنواع محدودة العدد ، وأن تكون معروفة حتى يمكن مشاهدتها جميعا .(1/20)
ومع أن هذا الاستقراء يقيني بفرض صدق الأحكام التي يبدأ منها ، وبفرض الإحصاء الشامل لجميع الأنواع ، لكنه غير مفيد في العلم ، فهو لا يسمح لنا بالتنبؤ بأنواع جديدة ، لأننا شاهدنا جميع الأنواع ، وقد يسمح لنا بالتنبؤ بالأفراد ، وعندئذ يؤدي دور الاستقراء الناقص ، وهو مجرد تلخيص لعدة قضايا وصلنا إليها بالاستقراء الناقص ، وبذلك فهو استقراء متطفل على الاستقراء الناقص .( 9 )
المغالطات :
------------
ترتبط المغالطات ارتباطا وثيقا بموضوع الاستدلال ، فإذا كان الاستدلال الصحيح هو الذي ينتج نتيجة صحيحة من مقدمات صحيحة ، فإن المغالطة تنشأ عن مقدمات خاطئة لتنتج نتائج غير صحيحة ، وتعرف المغالطة بأنها حجة تبدو سليمة مع أنها في الواقع ليست كذلك ، ويكتسب درس المغالطة أهمية كبرى بوصفها مثال لما يجب أن يتجنبه ، فالوعي بالأنماط الشائعة للأخطاء في التفكير الاستدلالي ، وللوسائل التي يمكن بها تلافي هذه الأخطاء أمر مفيد سواء في تصحيح هذه الأخطاء ، أو التحصن ضد مغالطات الآخرين ، وبخاصة أن كتب الأدب واللغة تمتلئ بحشد من المغالطات المنطقية التي تبدو سليمة من الناحية الصورية ، ولكن تمحيصها منطقيا يكشف عن خلل هائل في طبيعة الاستدلال المؤسسة عليه ، وسيأتي ذكر بعض نماذج المغالطات بعد قليل . وتختلف المغالطة ، أو عدم الصحة في التفكير الاستدلالي عن الكذب ، فالكذب قول من الأقوال ، أو اعتقاد من الاعتقادات يتعارض مع الواقع الفعلي ، بينما المغالطة تكون في الانتقال من مقدمة ، أو مجموعة من المقدمات إلى نتيجة معينة ،فإذا لم يكن هذا الانتقال مسوغا كانت المغالطة .
وتنقسم المغالطة إلى مجموعتين :
الأولى : المغالطات العامة وهي تلك المغالطات التي يرتبط إغراء القبول بها بعيب معين في الحجة ذاتها .
الثانية : مغالطات الظرف وهي تلك المغالطات التي تكون جاذبيتها ناشئة عن بعض ملامح السياق الذي تستخدم فيه الحجة .(1/21)
وتعتمد المغالطات في المجموعة الأولى في تأثيرها على الافتقار إلى الانتباه الكافي لصورة الحجة ، وإلى صدق المقدمات غير المصرح بها ، ومثل هذه المغالطات تضلل من تخاطبهم دون اعتبار لقائلها ، أو الظروف التي قيلت فيها ، أما المغالطات في المجموعة الثانية فتلجأ إلى الكلام المبتسر ، أو استغلال بعض الصفات التي يمكن اكتشافها لدى المستمع ، أو الظرف الخاص الذي تقال فيه .
إن كل نوع من هذين النوعين من المغالطات ينطوي على حجج غير سليمة ، ويتوقف انتماء المغالطة إلى أي من المجموعتين على الملمح الذي يجعل المغالطة خطيرة ،فإذا كانت الظروف التي قيلت فيها المغالطة تبدو نسبيا أكثر أهمية من الخروج على مبدأ من مبادئ الاستدلال الصحيح المعمول بها ، فسوف نطلق عليها " مغالطة الظرف " ، أما إذا كان عدم الانتباه إلى الصورة أو الصدق على وجه يمكن معه لأي شخص أن يقع في المغالطة الناتجة عن ذلك ، فسوف نطلق عليها المغالطة العامة .
وتنقسم المغالطات العامة إلى ثلاثة أنواع رئيسية :
1 – المغالطات الصورية : وهي تلك المغالطات التي تنشأ عن أخطاء في الصورة المنطقية .
2 – المغالطات اللغوية : وهي مغالطات تعود إلى اللبس ، أو إلى غير ذلك من ملامح اللغة المستخدمة .
3 – المغالطات المادية : وهي مغالطات تقوم على الأخطاء المتعلقة بصدق المقدمات ، أو إمكان معرفة ذلك الصدق .
المغالطات الصورية :(1/22)
للمغالطات الصورية أنماط كثيرة ، لا يتسع الحديث عنها تفصيلا في هذا المقام ، ومثالها حين نقول : إن المتنبي شاعر كبير ، لذا فإن أية قصيدة من قصائده جميلة ، والمغالطة أتت هنا من أن الحكم على مكانة المتنبي جاء من دراسة مجمل شعره ، والخلوص إلى تميزه قياسا إلى غيره من الشعراء ، لكن لا يلزم من هذا أن تكون كل قصائد المتنبي على الدرجة نفسها من الجودة ، فاستقراء قصائده يكشف عن قصائد مبكرة لا تعد جيدة إذا قيست إلى بقية شعره في المراحل التالية ، وكذلك إذا قلت مثلا " إن الشاعر الحق هو الذي يكتب على أوزان العروض ، لذلك إذا أردت أن تكون شاعرا فتعلم أوزان العروض " والمغالطة هنا جاءت من أن المقدمة ربما تحكم على الشعر المعاصر الذي تخلى عن الأوزان العروضية بأنه ليس شعرا ، وأن من يتخلى عن العروض ليس شاعرا على الرغم من احتواء كلامه على كل عناصر الشعر الأخرى ، لكن هذا لا يعني أن من يكتب على الوزن العروضي سيصبح حتما شاعرا ، لأنه يمكن أن يفتقد كل عناصر الشعر الأخرى ، لذلك يأتي كلامه نظما جافا .
المغالطات اللغوية :
وتنشأ هذه المغالطة من سوء استخدام اللغة ، وسوء فهمها ، وكلها ناتجة عن غموض اللغة ، بل تسمى أحيانا بمغالطات الغموض أو مغالطات عدم الوضوح ، وهي تنقسم إلى :
1 – مغالطة الاشتراك أو ازدواج المعنى :(1/23)
قد يحدث أن يكون للكلمة الواحدة معنيان متميزان أو أكثر ، وعادة لا تنشأ مشكلات عن هذا الأمر ، إذ أن السياق الذي ترد فيه الكلمة يكفي لتمييز المعنى المقصود ، ولكن حينما تستخدم الكلمة بمعان مختلفة في نفس السياق ، فإن الاستخدام هنا يكون استخداما مشتركا ، وإذا كان السياق الذي يرد فيه الاستخدام على هذا النحو يمثل حجة ، فإننا نكون قد وقعنا في مغالطة الاشتراك أو ازدواج المعنى ، فكلمة " نهاية " قد تعني " آخر " ما يحدث في أمر من الأمور مثل قولنا " الموت نهاية الحياة " ، وقد تعني أيضا " الهدف أو المقصود " مثل قولنا " لقد حددنا ما نريد وسنسير فيه حتى النهاية " ، فإذا استخدمنا هذه الكلمة في حجة ، وقلنا :
نهاية الشيء كماله .
والموت نهاية الحياة .
إذن الموت كمال الحياة .
لكنا قد وقعنا في مغالطة ازدواج المعنى أو الاشتراك .
2 – مغالطة اللبس :
تحدث مغالطة اللبس في إقامة الحجة من مقدمات غامضة في صياغتها بسبب بنائها النحوي ، فيكون القول ملتبسا حين يكون معناه غير واضح ، لأن الطريقة التي ارتبطت بها الألفاظ طريقة فضفاضة ، أو مربكة على صورة يمكن معها أن يكون هذا القول الملتبس صادقا في تفسير معين ، وكاذبا في تفسير آخر ، فحينما نضع هذا القول مقدمة وفق التفسير الذي يكون فيه صادقا ، ونستنتج منه نتيجة وفق التفسير الذي يكون فيه كاذبا ، نكون قد وقعنا في مغالطة اللبس .(1/24)
مثال ذلك حين تقول " إذا أردت أن تقابلني ، فقابلني عند باب المسجد الجديد . " ، والعبارة الثانية يلزم عنها معنيان ، فربما يكون المقصود منها أن تتم المقابلة عند الباب الجديد للمسجد ، وتنسحب صفة الجدة هنا على الباب دون المسجد ، أو تكون المقابلة عند المسجد الجديد أمام بابه ، وتسحب الجدة على المسجد دون الباب ، وهنا يقع اللبس الناشئ عن ارتباك في صياغة الجملة ، واللغة العربية مثل بقية اللغات تحوي كثيرا من هذه العبارات المربكة التي لا نستطيع تبيان المعنى المقصود منها من السياق اللغوي وحده .
المغالطات المادية :
تكون المغالطات المادية حين تعتمد في تأثيرها على خطأ يتعلق بصدق المقدمات ، أو إمكانية معرفة مثل هذا الصدق ، ولهذا النمط من المغالطات عدة أنواع ، أهمها ما يلي :
1 – الصياغات شديدة الإيجاز : مثل أن تقول " إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب . " ، والعبارة لا يمكن استخدامها استخداما مطلقا ، فإن ذلك يؤدي إلى الوقوع في المغالطة ، فالكلام أحيانا يكون مهما ، بل ضروريا ، والصمت في أحيان أخرى قد يقود إلى عواقب وخيمة على الرغم من الاعتراف بأن الصمت في بعض الأحيان يكون ضروريا ، وأكثر بلاغة من الكلام ، لكن وضع الجملة في هذه الصيغة الموجزة قد يوهم بأن الكلام مطلقا من فضة ، والسكوت مطلقا من ذهب ، وهذا نوع من المغالطة .
2 – مغالطة الحجة الشخصية : وتنشأ هذه المغالطة حين يحاول شخص أن يفند رأي شخص آخر ن لا بإقامة البرهان على عدم صحة هذا الرأي ، بل باللجوء إلى صفات شخصية لصاحب الرأي ، أو إلى مواقفه التي لا تتسق مع رأيه الذي يقول به .
ثانيا : مغالطات الظرف .
وتعتمد هذه المغالطات في قوتها على المخادعة على الظروف الخاصة التي تقال فيها ، أو على طبيعة الأشخاص الذين تتوجه إليهم ، حيث يكونون في حالة تتيح لهم الوقوع في شراك هذه المغالطات ، ومن أهم أنواعها :
_ اللجوء إلى القوة .
_ اللجوء إلى الشفقة .(1/25)
_ اللجوء إلى الجمهور .
_ اللجوء إلى السلطة .
وما يهمنا في هذا السياق هو النوع الأخير : اللجوء إلى السلطة ، حيث يلجأ الشخص إلى أسماء لها تقديرها واحترامها في مجالها لينسب لها أقوالا لم تقل بها ، وغرضه من ذلك هو إعطاء الحجة لهذا القول ، كأن يقول شخص " قال طه حسين إن مرحلة الشعر الجاهلي هي الفترة الأكثر ازدهارا في كل عصور الشعر العربي حتى العصر الحديث . " ، ويثبت بعد التمحيص أن طه حسين لم يقل بهذا أبدا ، لكن القائل يريد أن يعطي لهذا الرأي حجية ما بأن ينسبه لشخص يعرف أن الناس تقدر آراءه تقديرا كبيرا .( 10 )
أمثلة من المغالطات في كتب الأدب واللغة .
1 – حقا إن عجز العرب عن إتيانهم بمثل القرآن ، وعجزهم عن أن يعارضوه مع تكرار التحدي لهم ، وطول التقريع بالعجز عنه ، وهم أصحاب اللغة وأرباب الفصاحة فيها ، وفرسان بلاغتها معناه أن الحجة قامت عليهم ، وبقيامها على العرب قامت على العجم ، ولزمت الناس كلهم : العرب والعجم ، أي أن في عجز العرب أصحاب اللغة دليل على عجز غيرهم ، وأن القرآن هداية الله ومعجزته الأبدية لأنه إذا عجز العرب ، وهم الفصحاء في اللغة والأقدر عليها معناه أن غير العرب أعجز ، ولذلك لم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجا بالقرآن ، ومعنى ذلك أن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم تلزم أهل الأرض أجمعين ، " وقد أرسله ربه للناس كافة " ، " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " .(1/26)
وتأتي المغالطة من كون صاحب هذا الرأي يرى أن إعجاز القرآن هو في لغته ، وأن الإعجاز اللغوي يؤدي إلى إقامة الحجة على العرب ، ثم يترتب على إقامة الحجة على العرب أنها تقام على غيرهم أيضا ، لأنه إذا كان العرب هم أرباب الفصاحة ، فغيرهم ليسوا كذلك إلى آخر ما قاله الكاتب ، وتكمن المغالطة في المقدمة المنطقية ، وهي أن الإعجاز اللغوي هو الذي يؤدي إلى إقامة الحجة ، ولم يقل القرآن بذلك ، وإنما هي استنتاجات البشر ، ولقد كان التحدي والإعجاز عاما ، والسيوطي عدد عشرات الوجوه للإعجاز في كتابه " معترك الأقران في إعجاز القرآن ، وإذن فإن استخلاص واحد من هذه الوجوه ، وهو الإعجاز اللغوي ، وعده الوسيلة الوحيد لإقامة الحجة على العرب هو نوع من المغالطات المنطقية ، لأنه يمكن أن نسأل هنا ، وما شأن العرب غير الفصحاء في العصر الحديث ؟ هل تقام عليهم حجة القرآن لأن أجدادهم منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة لم يستطيعوا صياغة كلام يضارع صياغة القرآن اللغوية ، أم أن حجة القرآن على العرب جاءت من وجه آخر ، ثم ما شأن غير العرب الذين لم يسمعوا بعجز العرب في هذا المضمار ؟ هل تظل الحجة قائمة عليهم برغم جهلهم هذا ؟ وبخاصة أن القرآن الكريم – كما قلنا – لم ينص على أن إعجازه هو إعجاز في اللغة دون غيرها .
2 – الأمة البدائية حتما لغتها بدائية وغير مصقولة ومفتقرة إلى عديد من العبارات والألفاظ التي تؤدي المعاني الحسية والمجردة ، فهي لذلك تقتصر على التعبير عن تفكير هذه الأمة ووسائلها الثقافية المحدودة ، وكلما ازداد تفكير المجتمع اتساعا وثقافته نموا تطورت لغته ، وازدادت قدرتها على التعبير ، وإعطاء كل سمة لفظا مناسبا .(1/27)
صيغت الجملة الأولى صياغة تقريرية توحي بالمنطقية ، وبخاصة أنه استخدم فيها كلمة ( حتما ) التي لا تترك احتمالا آخر يمكن طرحه على العلاقة بين الأمة البدائية ولغتها ، ومصطلح البدائية غامض هنا سواء في ارتباطه بالأمة ، أو في ارتباطه باللغة ، إذ ما هي المظاهر والسلوكيات التي إذا توفرت في أمة نعتناها بالبدائية ، وهل بدائية الأمة تعادل بدائية اللغة ، أي هل مظاهر البدائية في الأمة هي نفسها مظاهر البدائية في اللغة ، وإذا كان مصطلح البدائية في سياق الأنثروبولوجيا أصبح مصطلحا مشكوكا فيه ، لأنه يحمل في طياته حكما بالقيمة على أمة من الأمم ، فهل يمكن أن ننعت لغة تكفي حاجة أهلها ، وتوفر لهم أداة اتصال آمنة وطيعة بالبدائية دون أن ننزلق أيضا إلى الحكم بالقيمة على هذه اللغة ، وفي كل الأحوال فإننا أمام أحكام واستدلالات لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الترابط المنطقي .
3 – يعالج الفصل الأول من الكتاب ظاهرة لغوية يمكن أن يكون موضوعها أي نص من نصوص القرآن الكريم يقابله أي نص آخر من أقوال أفصح الفصحاء في القديم ، أو الحديث على السواء ، ويوضع ( النصين ) في ميدان المفاضلة ، ليتبين القارئ في ضوء التحليل الوجوه المتعددة التي يفوق النص القرآني بها القول العربي في أعلى درجات فصاحته ، وفي أي عصر من العصور ، فإن أعداء الدين لا يعجزهم أن يثيروا شبهة في الخفاء بأن من أقوال فصحاء العرب ، ما يقف على قدم المساواة مع بعض أساليب القرآن .(1/28)
هذا النص نموذج لما ينبغي ألا تكون عليه البحوث العلمية ، فلغة " أعداء الدين ، والإثارة ، والشبهة في الخفاء " لغة خطابية ذات مدلولات انفعالية لا تستقيم مع الموضوعية التي يجب أن يتسم بها البحث العلمي ، والمنهج الذي يستخدمه الباحث منهج عقيم بالرغم من أن أبا بكر الباقلاني قد استخدمه قبل ذلك في القرن الرابع في كتابه " إعجاز القرآن " حين وازن بين آيات القرآن ، ومعلقة امرئ القيس بوصفها درة الشعر العربي ، كما يرى الباقلاني ليخرج بنتيجة مؤداها تفوق التعبير القرآني على تعبيرات امرئ القيس ، وقياسا على ذلك فإن لغة القرآن تفوق لغة البشر لأن امرأ القيس – في رأي الباقلاني – في الطبقة الأولى من الشعراء ، وفساد منهج الباقلاني ، أو ما نجده في هذه الفقرة راجع إلى أن الموازنة بين شيئين تتطلب بدءا أن يتحلى الشخص بالحياد ، فهل يمكن لأي باحث مسلم أن يكون محايدا إزاء النص القرآني ، وهل يمكن أن يخرج برأي في النص القرآني غير ما نتوقعه من باحث مسلم دون أن يثير هذا الرأي الآخر شبهات حول عقيدة الباحث نفسه ، وإذن نخرج من نطاق البحث العلمي إلى نطاق الأخلاق والعقائد والنوايا ، إضافة إلى ذلك فإن الموازنة يجب أن تتم بين متماثلين : قصيدة وقصيدة ، رواية ورواية ، أما أن تتم الموازنة بين قصيدة وسورة من القرآن الكريم ، فإن هذه يجعلها موازنة عقيمة لا تثمر شيئا ، ولا تقدم نتائج ذات أهمية .
وقد أنتج فساد المنهج في الفقرة السابقة فسادا في الاستدلال ، على الرغم من أن النتيجة النهائية صادقة ، وهي تفوق النص القرآني ، لكن الطريق المؤدي إلى هذه النتيجة فاسد .
التعريف ( 11 ) :(1/29)
يؤدي التعريف دورا مهما في البحث العلمي ، إذ أن إزالة الغموض عن الألفاظ الأساسية في البحث هو من المهام التي يجب على أي باحث أن يضطلع بها ، وينطوي أي تعريف على جزأين : أولهما اللفظ ، أو الشيء الذي نريد تعريفه ويسمى المعرف ، وثانيهما التعريف الذي نقدمه للمعرف ( وغالبا ما يكون مشتملا على أكثر من لفظ ) ، ويسمى ( التعريف ) .
وأغراض التعريف متعددة ، منها :
0 إزالة اللبس في المعاني .
0 توضيح المعنى .
0 ازدياد حصيلة الفرد اللغوية .
0 الشرح بطريقة نظرية .
ولكي يكون التعريف دقيقا يجب أن يتعامل مع الكليات الخمس : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام .
الجنس :
حد يطلق على عدة أنواع تشترك في خصائص أساسية واحدة ، فالجنس إذن فئة كبيرة تضم فئات أصغر ، كل فئة من هذه الفئات الصغرى هو نوع .
النوع :
هو حد يطلق على مجموعة من الأفراد تشترك في صفات واحدة ، أو هو لفظ يطلق على كثيرين مختلفين بالعدد ، مثل لفظ " إنسان " الذي يطلق على ملايين الناس لاشتراكهم في صفات أساسية واحدة .
ونلاحظ هنا أن الجنس والنوع لفظان متضايفان ، فلا يكون للجنس معنى بدون نوعين أو أكثر من الأنواع التي تندرج تحته ، ولا يكون للنوع معنى بدون الجنس الذي يشمله ، فضلا عن أن تقسيم الحدود إلى أنواع وأجناس أمر نسبي ، فقد يكون الجنس جنسا ونوعا في آن واحد ، فقد يكون جنسا لما يندرج تحته من أنواع ، ونوعا بالنسبة للجنس الأعم منه ، وعلى سبيل المثال ، فإن الحيوان جنس للإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ، إلا أنه في الوقت نفسه نوع من أنواع الكائنات الحية ، وكذلك في مجال الأدب ، فإن الشعر جنس لأنواعه الغنائية والملحمية والدرامية ، وهو نوع من أنواع الأدب .
الفصل :(1/30)
وهو الصفة أو الصفات الجوهرية التي تميز نوعا معينا عن بقية الأنواع التي تشترك في نفس الجنس ، فصفة عاقل هي الصفة الأساسية التي تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوانات الأخرى ، وعلى ذلك فإن ذكر الجنس والفصل يعني تحديد نوع بعينه ، وبعبارة أخرى :
الجنس + الفصل = النوع
الخاصة :
وهي الصفة أو الصفات التي يختص بها أفراد نوع بعينه ، ولا يتصف بها أي نوع آخر ، إلا أنها ليست جزءا من ماهية النوع ، أعني ليست صفة من صفاته الجوهرية ، مثل الكتابة في الإنسان .
العرض العام :
وهي صفة أو صفات ليست بالجوهرية في أفراد النوع ، ولا هي خاصة من خواصهم ، بل يمكن أن توجد في بقية الأنواع الأخرى مثل البياض بالنسبة للإنسان أو الثلج ، ومثل المشي بالنسبة للإنسان .
وهناك أمر له أهمية خاصة في التعريف ، فالجنس شرط ضروري لكمال التعريف ، كما أن الفصل والخاصة شرطان ضروريان لقيام التعريف ، ومعنى ذلك أن ما لا جنس له لا يمكن أن يكون له تعريف دقيق ، وما لا فصل له ولا خاصة لا يمكن أن يقوم له تعريف على الإطلاق ، وعلى ذلك فإن جنس الأجناس لا تعريف له لعدم وجود جنس أعم من يمكن أن يندرج تحته ، إلا أن الأهم من ذلك أن الأفراد الجزئية ليس لها تعريفات ، لأننا لا نستطيع أن نحصر ما يقال عنه من صفات ، أو أن نفرز صفة أو بعض صفات لتكون هي الصفات الجوهرية له ، وليس لها وجود عند أي فرد آخر ،مثلا يمكن أن نعرف الشعر بوصفه جنسا لأنواع مختلفة ، ويمكن أن نعرفه بوصفه نوعا من أنواع الكلام ، ونعرف القصيدة بوصفها جنسا لأنواع مختلفة ، ونوعا من أنواع الشعر ، لكنا لا نستطيع أن نعرف قصيدة معينة ، ونعطيها من الصفات التي لا نجد لها مثيلا في غيرها من القصائد الأخرى سواء أكانت للمتنبي ، أو لامرئ القيس ، أو لأحمد شوقي .
وهناك قواعد للتعريف تحددت في قواعد أربع هي :
1- يجب أن يكون التعريف ملائما للغرض الذي وضع من أجله .(1/31)
2- يجب أن يكون التعريف معقولا بالنسبة للشخص الذي نقدم له التعريف ، ويعني ذلك أنه :
أ – لا ينبغي أن يشتمل التعريف على أي لفظ لا يكون مفهوما للقارئ .
ب – لا ينبغي أن يشتمل على أي جزء من المعرف ، وإلا لكان في التعريف دور .
3 – يجب أن يكون التعريف مساويا للمعرف ، بحيث يجب أن يستخدم أحدهما مكان الآخر في أي سياق ، وهذا يعني :
أ – أن التعريف لا يجب أن يكون أوسع من المعرف .
ب – لا يجب أن يكون التعريف أضيق مجالا من المعرف .
ج – لا يجب التعبير عن المعرف بلغة استعارية أو مجازية .
4 – يجب أن يكون التعريف شرحا لمعنى المعرف ، وليس تقريرا عن الأشياء التي يدل عليها .
الفروض :
للفروض أهمية كبرى في البحوث العلمية ، وبخاصة البحوث التي يحاول فيها الباحث استخلاص نتائج ما ، وقضية الفرض العلمي : ماهيته ، أو مقوماته ، أو خطوات الوصول إليه ، ووظيفته ، كل ذلك مسألة مهمة في سياق البحث العلمي ، ولا يستقيم كثير من البحوث إلا بطرح فرضيات محاولة إثباتها ، أو نفيها ، وفي كلتا الحالتين ، فإن النتائج مهمة للبحث ، والباحث .
والفروض العلمية ليست مقصورة على البحوث النظرية أو المعملية ، فهي مسألة مطروحة دوما في الحياة اليومية ، حين يصاب جهاز بعطب ، فإنك تفترض مجموعة من الافتراضات الأولية ، تحاول من خلال البحث في الجهاز إثبات إحداها ، ونفي الأخرى ، وقد تبدأ بنفي بعض الفروض إلى أن تصل إلى السبب الحقيقي للعطب ، وهذا السبب الحقيقي بدأ فرضا ، ثم تطور من خلال البحث إلى أن يصل إلى حقيقة ، وهي خطوات مهمة أيضا للباحث .(1/32)
ورجل البوليس الذي يحاول أن يكتشف الحقيقة ، يحاول أن يصل إلى نظرية مقبولة حول الجريمة ، فيجمع القرائن والأدلة ، ويفسرها تفسيرا منطقيا ، ويبحث فيها عن خيط مترابط يستنبط منه استنتاجا ، أو تعميما متماسكا مدعوما بالبرهان المقنع الذي يدل على الجاني ، ويتحدى أي اعتراض أو شك ، وهو في هذا كله يستند إلى البيانات التي يجمعها حول الجريمة المرتكبة ، فهو أمام مشكلة ، أو سؤال يريد أن يصل إلى حل له ، أو إجابة علمية يتحقق من صحتها من خلال ما يجمعه من بيانات وقرائن معتمدا في ذلك على التفسير المنطقي ، والترابط بين حججه وأدلته .( 12 )
وهو هنا يطرح فروضا من أجل الوصول إلى الحقيقة كما يراها هو ، وهو هنا يشبه الباحث الذي يقوم بالعمل نفسه . إن الباحث أيضا يطرح فروضا على بحثه ، يحاول من خلالها الوصول إلى اليقين العلمي ، هذا اليقين هو النظرية العلمية التي يطرحها الباحث أمام المجتمع العلمي بعد أن تكون قد مرت بمرحلة الفرضيات .
فالفرضيات العلمية المطروحة في مجال الكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلك وغير ذلك من العلوم البحتة كانت فرضيات في بداياتها ، ثم تحولت بعد ذلك بتجمع القرائن والأدلة إلى نظريات ، ثم إلى حقائق علمية ، مثل حقيقة أن الأرض بيضاوية ، كانت فرضا في أول الأمر ، ثم تحول الفرض إلى نظرية ، ثم إلى حقيقة علمية ، لكن كيف مرت هذه المراحل في حالة بيضاوية الأرض .(1/33)
إن الأمر هنا بدأ من الشك في الزعم الآخر الذي استقر قرونا عديدة على أنه حقيقة مؤكدة ، وهو أن الأرض مسطحة ، بدأ هذا الشك يتسرب إلى نفوس الباحثين حين لاحظوا بعض الظواهر التي لا تتفق مع هذه الحقيقة المزعومة ، فبدأ البحث عن فرضية أخرى ، وهي : لماذا لا تكون الأرض كروية ، وتبعا لهذه الفرضية تم تفسير بعض الظواهر التي استقامت تماما مع هذه الفرضية ، ولما تطور علم الفلك ، واستقامت العلوم الرياضية ، أصبح هذا الفرض نظرية علمية ، ثم تحولت النظرية إلى حقيقة علمية حين صعد الإنسان إلى الفضاء ، ورأى الأرض خارجها أقرب إلى شكل البيضة ، وبذلك تأكدت الفرضية الأولى .
إن الشك الذي يبديه الباحث في آراء السابقين عليه هو نقطة البداية في الرغبة في المزيد من البحث ، والمزيد من الدلائل التي تفسر الظواهر القائمة ، وهذا ما يسمى بالشعور بالمشكلة ، ثم يلي ذلك الوصول إلى افتراضات مبنية على بيانات ومعلومات ، وقادرة على تفسير الأشياء بدرجة أكثر قبولا مما هو قائم ، وحين يتحقق الانسجام والاتساق المنطقي بين الحجج والبيانات ، فإن الفرض يتحول إلى نظرية قد تثبت مع الزمن ، وتتحول إلى حقيقة علمية مثل حقيقة كروية الأرض ، أو أن الأرض هي التي تدور حول الشمس ، وليس العكس ، وقد تظهر أدلة جديدة ، وحين تثبت الفرضية الجديدة وتتأكد ، فإن النظرية القديمة تتحول إلى حلقة من حلقات تاريخ العلم ، دون أن يكون لها تأثير ما على النظريات الجديدة .(1/34)
هذا يحدث في مجال العلوم البحتة ، أما في مجال العلوم الإنسانية ، فإن الأمر يبدو مختلفا قليلا ، فبعض الدراسات والبحوث التاريخية لا تحتاج إلى فرضيات في أثناء سيرها ، إذا كانت تقصد إلى مسح شامل لحقبة تاريخية معينة مستعينة بخطوات ومناهج ، كذلك فإن التأريخ لأديب بهذا المعنى لا يحتاج إلى فرضيات معينة ، إذا كان المقصود فقط هو عرض حياة الأديب : شاعرا أو ناثرا ، وعرض أعماله ، أما إذا انتقلنا من العرض التاريخي لمحاولة تفسير بعض المظاهر في إبداعه ، أو المناطق الغامضة في حياته ، فإن الفرض يطرح نفسه بقوة .
مثلا حين نلمح في شعر أبي نواس ولعا خاصا بالمذكر ، فإن الفرضيات كثيرة في هذا السياق ، ويمكن أن تفترض فرضا نفسيا أو اجتماعيا أو تاريخيا أو أن تشك في نسبة هذا الشعر إلى أبي نواس ، وكل ذلك نحاول التأكد منه من خلال عملية استقراء واسعة لشعر الرجل وحياته ، أو أن تطرح تساؤلا حول تأثير العمى على شعر بشار أو المعري ، هنا أيضا تطرح فرضيات كثيرة يحاول الباحث التحقق منها من خلال عملية استقراء .(1/35)
وفي مثل هذا النوع من الدراسات الذي يشتبك فيه التاريخ بالأدب بالاجتماع ، فإن نقل الفرض العلمي إلى درجة النظرية المتماسكة يصبح أمرا صعبا ، ولا يستطيع أن ينال قبولا عاما من جميع الباحثين ، لذلك فإننا نجد فروضا علمية طرحت منذ عشرات السنين ، ولم تنتقل حتى الآن إلى مرحلة النظرية المتماسكة المقبولة مثل ما طرحه طه حسين في مجال الشك في الشعر الجاهلي ، فقد حاول طه حسين أن يدلل على عدم صحة الشعر الجاهلي بكثير من الأدلة في كتابه " في الشعر الجاهلي " الذي تغير عنوانه بعد ذلك إلى " في الأدب الجاهلي " ، لكن الأدلة التي طرحها طه حسين ما تزال فرضيات لم تثبت صحتها حتى الآن ، والسبب في ذلك أنه يمس حقبة تاريخية ضاعت فيها الأدلة والبراهين اليقينية التي تؤكد شيئا أو تنفيه ، من ذلك شكه في لغة الشعر الجاهلي ، فقد رأى في هذا الشعر نوعا من الاتساق والانسجام لا يستقيم مع واقع التعدد اللهجي الذي كان موجودا في العصر الجاهلي ، وخلص من ذلك إلى أن هذا الاتساق اللغوي مبعث شك في هذا الشعر ، وأنه كتب بعد ذلك في مرحلة ما بعد الإسلام .
وقد رد عليه كثير من الباحثين مثل شوقي في كتابه " العصر الجاهلي " ، لكن فرضية طه حسين ما تزال حتى الآن في مرحلة الفرضية ، وكذلك أيضا معظم الردود عليه ، فإذا كان كلام طه حسين يبدو راحجا ، فإن الردود عليه تبدو أيضا كذلك ، وإذن فإن التحقق من أحد الفرضين يتطلب ظهور دلائل يقينية مؤكدة ، وهو ما لم يحدث حتى الآن .(1/36)
إن الفرض هو المرحلة الثانية في كل تفكير استقرائي جدير بهذا الاسم ، إذ لا تكفي الملاحظة والتجربة في إدراك العلاقات الثانية بين الأشياء المتغيرة المتحولة ، ولن يغني الباحث شيئا أن يكدس الملاحظات والتجارب على غير نسق ، وعلى غير هدى ، ولا قيمة لكل من الملاحظة والتجربة من الناحية المنهجية ، إلا إذا وجدت روح الملاحظة وروح التجربة ، أي إلا إذا وجد الفرض ، وبديهي أن الاستقراء لو كان خلوا من عنصر الابتكار والكشف الذي يتمثل في الفرض ، لما كان خليقا بأن يسمى منهجا ، أو أن يقارن بينه ، وبين المنهج القديم ، فالظواهر الطبيعية هي المواد الأولية الضرورية لإنشاء أي علم من العلوم ، وهي شبيهة بأحجار البناء ، لا بد من تنظيمها وتنسيقها ، كما تنظم وتنسق أحجار المنزل ، إذا الفارق كبير بين الأحجار التي تستخدم في البناء ، وبين المنزل ، وقد تم بناؤه بالفعل ، وإنما ينظم الباحث الظواهر ، وينسقها بالتفكير التجريبي ، أي بالفروض التي تنشئ العلم حقيقة وتدعمه .( 13 )
معنى هذا الكلام أن الباحث لا يبدأ بحثه بطرح فرضيات مسبقة دون الولوج إلى أغوار البحث ودروبه ، إن المرحلة الأولى هي ما يسمى بمرحلة جمع المادة العلمية ، وهي التي تشبه هنا بأحجار البناء ، وأما المرحلة الثانية ، فهي طرح الفروض التي يستقيها الباحث من هذه المادة العلمية ، ومسألة طرح الفرض يسميها البحث العلمي قفزة في المجهول ، لأن الاستقراء إذا كان في أبسط تعريف له هو الجمع المنظم للبيانات والملاحظات في نطاق موضوع محدد ، فإن طرح الفرض على هذه البيانات والملاحظات خطوة تعسفية غير موجودة في الوقائع ، أو هي قفزة في المجهول كما يقول محمود قاسم في كتابه " المنطق الحديث ومناهج البحث " ولا شك أن الخيال هو المقصود هنا ، لأن جرأة التفكير هي السبب في إنتاجه .( 14 )(1/37)
فالخيال يصبح جوهريا في بناء النظرية بشرط أن يرتكز على ملاحظات دقيقة ، وتجارب صحيحة ، فلقد انتقل نيوتن من سقوط تفاحة – كما يقال – إلى قانون الجاذبية من خلال خيال علمي ، وخيال العلماء أو الخيال العلمي ، أو الحدس العقلي يختلف عن خيال الشعراء ، لأنه وليد الملاحظة والتجربة المرتجلة ، وهو يبدأ من الظواهر ، ثم يرتد إليها ليلقي عليها ضوءا ، يظهر ما عسى أن يكون قد خفي من تفاصيلها ، كذلك يختلف عن خيال الشعراء من جهة أخرى ، فخيال العلماء ليس جامحا ، أو مطلقا ، بل هو خيال مقيد أساسه الواقع بدءا ، ومرجعه إلى الواقع انتهاء ، في حين أن الشعراء يطلقون العنان لخيالهم ، وهم يطيعونه أكثر من أن يطيعهم .
في هذا الصدد يقول نيوتن " إذا كانت أبحاثي قد أدت إلى بعض النتائج المفيدة ، فذلك لأنها وليدة العمل والتفكير الوئيد ، إني أجعل موضوع البحث نصب عيني دائما ، ثم أنتظر حتى تبدو الأشعة الأولى ، وتسطع شيئا فشيئا حتى تنقلب ضوءا كاملا . ( 15 )
لكن ما الفرض العلمي : ما تعريفه ؟ لأنه يعني ببساطة فكرة يطرحها الباحث على بحثه ، يحاول من خلالها الربط بين الملاحظات والبيانات التي جمعها ، أو يفسر ما غمض من هذه الملاحظات . إذن الربط أو التفسير مهمتان أساسيتان للفرضية المطروحة ، وهذه الفرضية ليست يقينية ، أي أنها إذا كانت قفزة في المجهول ، فإنها تستند – في نهاية الأمر – على قاعدة بيانات وملاحظات ، تم جمعها في مرحلة سابقة ، وتكون الفرضية في هذه الحالة بمثابة نقطة ارتكاز يعتمد عليها الباحث كي ينطلق منها إلى مرحلة جديدة في بحثه ، ودون نقطة الارتكاز هذه يظل البحث ملاحظات مجردة ينقصها الترابط والاتساق المنطقي فيما بينها ، إن الفرضية عند نقطة ما تعطي للبحث منهجية ، وتمنحه قدرة على أن يبشر بنتائج قد تكون مهمة .(1/38)
مثلا حين يقرأ الباحث شعر الرومانسيين العرب الأوائل في بدايات القرن العشرين لا بد ستستوقفه عدة ملاحظات مهمة ، أبرزها طبيعة تشكيل الصورة عندهم : مفرداتها وموضوعها ، والروح التي تسري فيها ، وسيلاحظ أن الصورة في شعرهم تباين في كثير من الأحيان ما استقر عند العرب من تقاليد شعرية في إبداع الصورة . إذا لم يلتفت الباحث إلى هذا التباين ، فستمر عليه هذه الملاحظة المهمة مرور الكرام ، أما إذا التفت إليها ، فإنه سيطرح سؤالا مهما : من أين أتى هذا التباين ؟ وهنا يأتي دور الفرضية ، فالفرضية – في هذا الإطار – بمثابة إجابة عن سؤال محوري ، لا يستطيع الباحث أن يتجاوزه ، وهي إجابة قابلة للتعديل ، بمعنى أنه إذا كانت هناك دلائل في قاعدة البيانات ترجح الفرضية ، فإن انتقال الفرضية إلى مرحلة النظرية يحتاج إلى ملاحظات كثيرة تصب في صالحها ، أي أن تكون الفرضية قابلة للتطبيق على عدد كبير من الملاحظات ، وحين تتأكد الفرضية تتحول من كونها فرضية إلى نظرية .
إذن فالتمييز بين الفرض العلمي والنظرية يقوم على أساس كفاية البراهين المتزايدة ، ومن ثم زيادة درجة الصدق ، ويعد ذلك تمييزا نسبيا ، وبناء عليه يجب أن يدرك الباحث أن الفرض ما هو إلا تنبيه مفيد ، ولا يجب أن يعد أي نظرية أو قانون أو استنتاج توصل إليه بالطريقة العلمية حقيقة ثابتة ونهائية .
ولا يغيب عن الذهن أن أهم ما يهدف إليه أي بحث علمي ، إنما هو الوصول إلى نظرية ، أو قانون ، أو مبدأ ، أو تعميم معقول ومنطقي ، ولا يمكن عد أي حل توصل إليه الباحث أكثر من أنه تفسير لظواهر ، أو شواهد بشكل مقنع أو إلقاء ضوء بكثير من الثقة على شيء غامض .(1/39)
وقد تسمى نتائج البحث نظرية أو قانونا أو استنباطا أو استنتاجا أو تعميما ، وتكاد تعنى هذه المصطلحات نفس الشيء عند استخدامها ، كما تعنى كل ما أسفرت عنه الدراسة من نتائج ، وما يوجد بينها من فروق يرجع إلى درجة شمولها في تفسير الظواهر موضوع الدراسة ، والمفهوم ضمنا أن مصطلح " نظرية " يعني تفسير مجموع من الظواهر في إطار معين ، وقد يتضمن عدة قوانين أو تعميمات ، أما مصطلح استنتاج فقد ينسحب على نتائج البحث ، أو على نتائج إحدى خطوات البحث .
أما مصطلح فرض أو فرضية أو افتراض ( وهي جميعا بمعنى واحد ) ، فهو يعني شيئا أقل تأكدا من الحقيقة العلمية ، وكلمة أقل تأكدا في حد ذاتها تفيد بأن أي افتراض لا يتطرق إلى ذهن الباحث من فراغ أو بطريقة عشوائية ، بل يأتي نتيجة بيانات ومعلومات مؤكدة سابقة استنبط الباحث افتراضه منها ، فالفرض العلمي ليس تخمينا ، ففي الوقت الذي يبنى الفرض على المعرفة العلمية ، والدراسة ، فإن التخمين لا يتعدى مجرد أفكار مبدئية تتولد في عقل عن طريق الملاحظة العابرة ، وقد تكون عند الفرد العادي بعيدة عن الحقائق المقررة ، أو القوانين العامة ، ولا يعني ذلك أنه في بداية البحث يطرح التخمين جانبا ، بل كثيرا ما يبدأ الافتراض العلمي بعملية تخمين ، وليس من غير المألوف أن يبدأ الباحث بعدد من الفروض التي ما تزال في مستوى التخمين ، والتي يمكن عدها افتراضات تخمينية ، أو مبدئية للحلول المحتملة ، ويتخذها الباحث كمرشد للمزيد من البيانات ، وبهذا يمكنه الاستغناء عن بعضها ، أو نبذها بعد تقدمه نحو جمع بيانات يحد بها من افتراضاته التخمينية . ( 16 )
وهناك شروط لتكوين الفرض العلمي الجيد من أهمها :(1/40)
1 – أن الفرض العلمي يجب أن يتقيد بالوقائع المشاهدة أو المجربة ، ويتصل بها بصلات ، ومعنى ذلك أن الفرض العلمي ليس فكرة تعسفية محضة ، وليس خيالا هائما بحتا ، ونحن إذ نقرر أن الفرض العلمي يتقيد بالوقائع ، نعني أننا لا نستطيع أن نفرض ما شئنا دون التقيد بالوقائع الملاحظة أو المشاهدة ، و نعني في الوقت نفسه أن شيئا منطقيا ومعقولا يمكن التحقق من صدقه أو كذبه بواسطة الوقائع ذاتها .
2 – يجب أن يكون الفرض العلمي واضحا محدودا دقيقا لا لبس فيه ولا غموض ، وهذا يقتضي ألا يكون الفرض العلمي متناقضا ، والعالم يستطيع بطبيعة الحال بنوع من الاختبار الذهني أن يتبين عدم تناقض فروضه ، أو عدم وضوحها وغموضها ، وهذا الاختبار الذهني يقتضي أن يبحث العالم فرضه بأن يبدأ بنقده وتمحيصه ، فإذا تبين له خطأ ، كفى نفسه مئونة البحث التجريبي .
3 – يجب ألا يتعارض الفرض مع أي قانون طبيعي صادق ومعروف ، معنى هذا أن يكون الفرض متلائما مع بقية معارفنا التي وصلنا إليها ، وتحققنا من صدقها المرة تلو الأخرى .
4 – أن يكون الفرض قادرا على تفسير كل الوقائع التي وضع لتفسيرها ، لا لتفسير جزء منها دون آخر ، أو جانب معين غافلا عن جوانب أخرى تترابط مع الجانب الأول ارتباطا كبيرا ، ومعنى هذا الشرط أن يكون الفرض الذي وضع لتفسير وقائع ما كافيا تماما لكي يفسر كل الوقائع التي وضع من أجلها ، وإذا وجد الباحث أن بعض الظواهر يتعارض ، ولا يمكن أن يفسر بناء على فرضه ، وجب عليه تعديل هذا الفرض أو تغييره ، بدلا من التشبث به .
5 – يجب أن تكون الفروض محدودة العدد ، محصورة في أقل عدد ممكن ، حتى لا تؤدي كثرة الفروض إلى تشتت الباحث وحيرته .(1/41)
6 – يجب أن تكون للفروض العلمية خاصية أن تستنبط منها عدة استنباطات ، وهذا الشرط يتوفر تماما في الفروض العلمية التي تكون بمثابة قضايا عامة ، أو تعميمات تندرج تحتها جزئيات أو وقائع جزئية ، فلا يمكن أن يكون الفرض مرتبطا بجزئية واحدة ، أو بحالة فردية وحيدة ، فهذا يتناقض مع مفهوم التعميم . ( 17 )
ومعنى هذا الشرط الأخير أنه إذا افترضنا أن الملامح الرومانسية مثلا في شعر جماعة الديوان جاءت لهم من كثرة قراءاتهم في تراث الرومانسية الإنجليزية ، وبخاصة في كتاب الكنز الذهبي ، فلا يصح تعميم هذه الفرضية ، لتنسحب على كل الرومانسيين العرب ، فلا يمكن القول إن جماعة أبوللو ، أو جماعة المهجر ، أصبحوا رومانسيين لأنهم قرءوا في كتاب الكنز الذهبي ، فهذه فرضية خاصة بجماعة الديوان لا تنسحب على غيرهم ، وإذا أردنا أن نربط بين جماعة الديوان وغيرهم من أصحاب الشعر الرومانسي في ذلك الوقت ، فيجب أن نبحث عن فرضية عامة تصلح للتطبيق عليهم جميعا ، إذن ففرضية قراءة الكنز الذهبي ، وتأثيره تصلح فقط على جماعة الديوان ، ولا تصلح لغيرهم .
وتخدم الفروض العلمية أغراضا عدة منها : أن توقع استنتاجات محتملة تفرض على الباحث إطارا فكريا معينا يساعده في رسم الخطوات التالية للبحث ، كما يعينه على اختيار وسائله الإحصائية التي يستخدمها في تفسير وتحليل بياناته ، هذا بالإضافة إلى أن الفروض تساعد الباحث في وضع هيكل عام لتقديم نتائج بحثه بطريقة تعاون القارئ على فهمه ، أما من حيث قارئ البحث ، فإن الفروض تشير له إلى ما سيتوقعه من البحث ... ... ، وعليه فقيمة أي فروض علمية تكمن في النهاية في مدى إثبات صحتها ، أو خطئها بأحد مناهج البحث المتنوعة . ( 18 )
في نهاية الأمر ،فإن هناك ثلاثة تحفظات أساسية في موضوع الفروض هي :(1/42)
أولا : المرونة في تبني الفرض ، فالباحث الكفء يكون على استعداد لكي يعدل من فرضه ، أو يرفضه ، إذا كانت هناك دلائل لا تتفق معه ، ولكن هذا التحفظ ليس بالأمر السهل اليسير ، فعندما يؤخذ الباحث – وبخاصة المبتدئ – بأن بعض أفكاره تبدو قادرة على تفسير الكثير من الحقائق ، وتبشر بالتقدم ، فقد يعميه هذا عن أية ملاحظة لا تأتي بدلائل تتفق مع أفكاره المتسلطة عليه ، ولكن التفكير العلمي الواعي يدفعه إلى نبذ هذا الفرض غير المأسوف عليه ، أو تعديله .
ثانيا : الموضوعية في تناول الفرض ، ويستلزم هذا التحفظ اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة ، وضمان الموضوعية ، والبعد عن الهوى والتحيز والتعصب لما تبناه من أفكار ، وخير ضمان لتحقيق ذلك هو تنمية الباحث لاتجاه عقلي واع يخضع آراءه وأمانيه للأدلة الموضوعية .
ثالثا : الاختبار الواعي للفرض ، ويعد اختبار أية فكرة ، وإخضاعها للتحقيق بكل دقة قبل تناولها ، والإذعان لها حتى بوصفها فرضا مؤقتا أمرا لازما لضمان الإطراء السليم لسير البحث ، وبالتالي ينبغي ألا يتعجل الباحث باعتناق أية فكرة تطرأ على ذهنه ، إذ يصعب التفكير في بديل للآراء بعد تكوينها ، ويكمن الخطر الأكبر في الفكرة التي تبدو أنها بدهية لدرجة أنها تقبل من غير مناقشة تقريبا ، وقد يكون لكشف المغالطات الخطيرة نفس قيمة الكشوف الخلاقة بالنسبة لتقدم العلم ، وتحريره من كل ما يعوق انطلاقه .( 19 )
أمثلة للفروض الخاطئة :
في كتاب " البحث الأدبي " لشوقي ضيف حديث عن موضوعي الاستقراء والاستنباط ، وعرض شوقي ضيف في أثناء ذلك مجموعة من الفروض الخاطئة ، نجتزئ منها هنا فرضيتين :(1/43)
1 – ما ردده المستشرقون – وتبعهم فيه كثير من المعاصرين – عن الشعر في عصر صدر الإسلام ، وأنه ظل بصورته الجاهلية إلا بعض آثار طفيفة ظهرت عند حسان ومواطنيه من شعراء المدينة ، أما من عداهم من شعراء نجد وغير نجد فقد ظلوا يجترون ، ويكررون المعاني الجاهلية الموروثة ، وهو رأي يخالف طبائع الأشياء ، أن يخرج العرب وشعراؤهم من حياة الوثنية المادية إلى حياة الإسلام الروحية ، ويتلون القرآن الكريم خاشعين لما يصور من عظمة الله وجلاله ورحمته ومحبته ، ويؤمنون بكل ما جاء به من البعث والحساب والثواب الأخروي والذاب ، ويكبون على فروضه الدينية ، متبتلين ، ويترسمون هديه الخلقي ، وما حرم من الفواحش الظاهرة والباطنة ، ويستشعرون رقابة الله في كل صغيرة وكبيرة ، وقد تعمقهم قلق لا حدود له على مصيرهم يوم يعرضون على ربهم ، فإما إلى النعيم والثواب ، وإما إلى الجحيم والعقاب ، ويقال مع ذلك كله إن العرب وشعراؤهم ظل الإسلام لا يمس مشاعرهم ، مع ما حدث لهم من هذه الحياة الروحية الجديد ، حتى إن كلا منهم ليضحي بروحه في سبيل دينه الحنيف ، وبمجرد أن نشروا أضواءه في الجزيرة مضوا ينشرونها في أطباق الأرض ، وهم يرتلون القرآن ، ويدوون به دوي النحل ، ومع هذا جميعه يقول المستشرقون ومن جاراهم إن الشعراء المخضرمين لم يتأثروا تأثرا واضحا بالإسلام إلا أسرابا ضئيلة تظهر ناحلة في شعر أهل المدينة ، وهي مخالفة صريحة للمنطق ، أن يحدث هذا التطور الهائل في نفوس العرب ، ولا تنعكس منه أصداء على أشعارهم ، أصداء تعم كل أنحاء الجزيرة ، وكل شعرائهم من البدو وغير البدو ، وما هي إلا أن نتصفح كتب التاريخ والأدب والتراجم الخاصة بالصحابة مثل السيرة النبوية لابن هشام ، والإصابة لابن حجر ، وأسد الغابة لابن الأثير ، وتاريخ الطبري ، وكتاب الأغاني ، وطبقات ابن سعد ، والاستيعاب لابن عبد البر حتى يتراءى لنا في وضوح خطأ هذه الفكرة التي نشأت من التقصير(1/44)
في استقراء أشعار الصحابة ، واستقصائها في مظانها الكثيرة .
2 – يرى كثير من الباحثين أن أبا العلاء المعري كان ملحدا زنديقا بدون استقراء تام لأشعاره ، فحسبهم أن يجدوا أبياتا قد يفهم منها تمرده على الدين ، فيكتفون بها غير ناظرين إلى بقية أشعاره ، وقد تكون مما وضعه خصومه على لسانه ، كما أشار إلى ذلك في قوة مواطنه ابن العديم في رسالة خصها به منشورة في كتاب " تعريف القدماء بأي العلاء " ، ولذلك كان من الواجب على الباحث قبل اتهامه أبا العلاء بالزندقة ، والمروق من الدين أن يستقرئ أشعاره استقراء دقيقا ، حتى لا يتورط في الخطأ ، وبخاصة أن المسألة تمس دين الرجل وعقيدته ، ولا نرتاب في أنه لو تريث هؤلاء الباحثون بعض التريث ، وأعادوا النظر في أشعار أبي العلاء لعدلوا في تهمتهم ، أو على الأقل لخففوا من حدتها ، ولم يصوغوها صياغة الجزم واليقين ، من ذلك أنهم رأوه يتحدث أحيانا عن قدم المادة والزمان والأفلاك والنجوم ، فظنوا أنه يريد القدم الأزلي ، وكأنه لا يؤمن بأن الله وحده القديم الخالد ، غاب عنهم أنه إنما يريد القدم المناقض للحداثة ، لا الحدوث ، وفي ذلك يقول قولا صريحا :
وليس اعتقادي خلود النجوم ولا مذهبي قدم العالم
وواضح أنه يصرح بأنه لا يؤمن بقدم العالم ، وكل ما فيه من زمان ومكان ، كما لا يؤمن بقدم النجوم والأفلاك وخلودها ، وبذلك يسقط عنه كل ما اتهمه به هؤلاء الباحثون في هذا الجانب الاعتقادى الخطير .( 20 )
المنهج العلمي
المنهج العلمي :
يعرف المنهج بأنه الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة . ( 1 )(1/45)
وتنقسم مناهج البحث إلى ثلاثة أصناف رئيسية : المناهج الوصفية ، والمناهج الاستنباطية ، والمناهج الاستقرائية التي تتضمن التجريبية أيضا ، فالتجربة ليست سوى وسيلة لجمع المادة العلمية التي هي ظواهر يسهم الباحث في صنعها ، وهي بخلاف وسيلة الملاحظة التي يتم فيها جمع المادة العلمية بواسطة الملاحظة لظواهر لا يسهم الباحث في صناعتها أو تكوينها .( 2 )
والتداخل بين هذه المناهج قائم ومستقر ، بحيث يصعب الادعاء أن باحثا يمكن أن يلجأ إلى واحد من هذه المناهج في صورة رئيسية دون أن يستعين في أثناء ذلك بالمناهج الأخرى ، إن الاستقراء يبدأ بالجزئيات ليتوصل إلى القوانين ، والقياس ( الاستنباط ) يبدأ بالقوانين ليستنبط منها الحقائق الجزئية ، لكن العلم لا يستطيع الاستغناء عن الاستقراء بالقياس ، فبالاستقراء يتوصل العلم إلى القضايا العامة ، وعن طريق القياس يستطيع العلم أن يتحقق من صدق القوانين العامة باختبارها على حالات جزئية لم تتناولها الملاحظة من قبل . ( 3 )
وقد استقر في مناهج البحث منهجان رئيسيان : المنهج الاستنباطي ، والمنهج الاستقرائي ، والعلاقة بينهما علاقة عكسية ، فإذا كان المنهج الاستنباطي يبدأ بالفرض ليحاول إثباته من خلال الجزئيات ، فإن المنهج الاستقرائي يبدأ بالجزئيات ليصل منها عند نقطة معينة إلى فرض يحاول بعد ذلك تأكيده أو نفيه من خلال جزئيات أخرى ، وحالات لم يشملها البحث عن الجزئيات في المرحلة الأولى .
والمنهجان لهما أسس وإجراءات أوضحهما باختصار فيما يلي ( 4 ) :
أولا المنهج الاستنباطي :
هذا المنهج أكثر التصاقا بالعلوم الرياضية ، فهو قائم على مجموعة من الأسس التي لا تقبل الدليل على صدقها أو كذبه ، وهذه الأسس تشكل معا نسق المنهج الاستنباطي ، وهذه الأسس قام بعرضها بالتفصيل د.على عبد المعطي ، ود. محمد السرياقوسي في كتابهما " أساليب البحث العلمي " .(1/46)
مثل هذه الأسس التي لا تقبل الصدق أو الكذب لا يمكن تطبيقها إلا بقدر من التعسف على العلوم الإنسانية ، ومنها علوم اللغة والأدب ، فمثل هذه العلوم لا تحتوي على بديهيات أو حدود أولية يجب التسليم بها ، والقبول دون دليل أو برهان ، وحتى في التعريفات التي تتضمنها هذه العلوم لا نجد قبولا عاما لها ، على الرغم من التدليل عليها ، والبرهنة على صدقها ، لأن الحقائق التي تقدمها هذه التعريفات حقائق نسبية ، قد تقبل داخل نسق ما ، أو من زاوية ما ، لكنها قد ترفض إذا تعدل هذا النسق ، أو تغيرت الزاوية ، من ذلك نحن لا نجد تعريفا مقبولا للشعر ، فقد عرفه قدامة أول تعريف دقيق في النقد العربي ، وهو قول موزون مقفى يدل على معنى ، واستمر تأثير هذا التعريف قرونا طويلة ، تضاف إليه أحيان عناصر أخرى مثل الخيال والعاطفة ، ويحذف منه أحيانا بعض عناصره مثل القافية ، لكنه برغم ذلك لم يلق قبولا عاما ، وهناك مراجعات مستمرة لهذا التعريف ، أو لمفهوم الشعر بعامة ، حتى إننا لا نستطيع الآن أن نقدم تعريفا مقبولا للشعر ، وقل مثل ذلك على النثر الذي لم يعرف إلا استنادا إلى أنواعه المختلفة ، أو بما هو سلبي ، أي أن النثر هو كل ما ليس شعرا ، أو النثر – قديما – هو الرسائل والخطب والمواعظ والأمثال ، وحديثا هو القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقال والرسائل ، وغير ذلك مما ليس شعرا ، وحتى هذا الفصل بين ما هو شعر ، وما هو نثر لا يستطاع تحديده ، وبخاصة في ظل ما يعرف بالكتابة عبر النوعية ، أي الكتابة التي تستعير سمات وخصائص أنواع أخرى ، مثل ما يسمى بقصيدة النثر .
وما يقال عن مفهوم الشعر يقال أيضا عن النص والجملة والأسلوب والصورة الشعرية والرواية والقصيدة ، وكل هذه المصطلحات التي تزخر بها علوم اللغة والأدب ، لكنها تظل مصطلحات قابلة للجدل : القبول أو الرفض .(1/47)
من أجل ذلك يصعب تطبيق مثل هذا المنهج الاستنباطي بأكمله على دراسات اللغة والأدب ، وإنما يمكن – مع ذلك – استعارة مفاهيم داخل هذا المنهج تصلح للتطبيق مع تحويرها كي تتلاءم مع الطبيعة الخاصة لهذه العلوم الإنسانية ، مفاهيم مثل : الاستنباط والتعريف ، وقد سبق أن أوضحنا هذه المفاهيم قبل ذلك .
المنهج الاستقرائي :
يمر المنهج الاستقرائي بمراحل ثلاث ( 5 ) : الأولى هي مرحلة البحث ، الثانية هي مرحلة الكشف ، والثالثة هي مرحلة البرهان ، والحق أن الباحث إذا أراد الكشف عن القانون الذي تخضع له طائفة معينة من الظواهر بدأ دائماً بملاحظة هذه الطائفة ملاحظة دقيقة أو أجرى عليها تجاربه متى كانت طبيعتها تسمح بذلك، وفى هذه الأثناء ينتهى عادة إلى تكوين فكرة عامة عن النظام الذى تخضع له تلك الظواهر فى وجودها وتطورها وتأثيرها بعضها فى بعض، وتلك الفكرة العامة هى تلك التى أطلقنا عليها اسم الفرض، فإذا أراد الباحث ان يتحقق من صدق فكرته العامة اضطر إلى استخدام الملاحظة مرة اخرى، وهكذا يكون الفرض نقطة اتصال بين ملاحظات وتجارب سابقة وتجارب لاحقة، فالفرض العلمى إذن ينشأ عن الملاحظات والتجارب ويتحقق من صدقه بالملاحظات والتجارب أيضاً ، ولا شك أن ملاحظات وتجارب ما بعد الفرض تكون أكثر دقة وأكثر تشبعاً بالطابع العلمى من ملاحظات وتجارب ما قبل الفرض، لأن الفرض من ملاحظاتنا وتجاربنا يكون قد تحدد، كما أن هذه الملاحظات والتجارب توجه بدقة نحو ناحية محددة بغرض الوصول إلى القانون العلمى بغية العلم ومنتهاه.
أما طرق التحقق من الفروض العلمية، فهى قد وضعت فى الأصل لثبت صدقها فى ارتباطها بالواقع، ولكى يبقى الفرض الأخير الذى صمد أمام هذه الطرق أو الذى ظل صادقاً أمام كل ملاحظاتنا وتجاربنا قانوناً علمياً.(1/48)
هى مراحل متتالية إذن، تتلو الواحدة منها الأخرى، فى نظام وترتيب فلا يمكن أن نفرض بدون أن نلاحظ ونجرب، ولا يمكن أن نتحقق، قبل أن يولد فرض أو عدة فروض هى التى نتحقق من صدقها، ولا يمكن بالتالى أن نصل إلى القانون العلمى بدون أن نمر بكل ما سبق ذكره، لكن يلاحظ على تتابع هذه المراحل:
أن الملاحظة والتجربة يفرضان نفسهما علينا فى أول هذه المراحل، فهما إذن عمليتان أساسيتان يقوم عليهما المنهج التجريبى والاستقرائى كله، وبدونهما لا يمكن أن نستمر فى الانتقال إلى خطوات المنهج الاستقرائى الأخرى، وتبدو أهمية هذه المرحلة فى أنها تعطينا المادة التى تكون عنها فروضنا العلمية، ولولا وجود هذه الفروض لما تمكنا من الوصول إلى القوانين العلمية.
كما أن الملاحظة و التجربة يفرضان وجودهما ثانية بعد نزوغ الفروض العلمية وحضورهما هنا له أهمية خاصة تؤدى إلى الكشف أو الوصول إلى القوانين العلمية.
المرحلة الأولى: الملاحظة والتجربة:
الملاحظة هى المشاهدة الدقيقة للظواهر أو الوقائع الجزئية الموجودة فى العالم الخارجى أو فى الطبيعة، فهى من ثم جزء جوهرى من المنهج الاستقرائى التجريبى الذى يبدأ من الجزئيات واصلاً منها إلى الكليات أو القوانين الكلية.
وهى تعتمد على الحواس، وما يساعد على تكبير أو دقة هذه الحواس بواسطة الآلات العلمية المختلفة، ولو كانت هذه الملاحظة تتم على هذا النحو لبدا الأمر يسيراً أو هيناً، ولما احتجنا لكى نلاحظ أو نشاهد إلى أكثر من فتح عيوننا لكى نرى، أو تنبيه أذننا لكى نسمع، ولكن يبدو أن الأمر أكثر تعقيداً وصعوبة من هذا:-
ذلك لأن الملاحظة تتضمن قدراً كبيراً من التفسير والفهم، وهذا ما يحتاج إلى عنصر عقلى إلى جانب العنصر الحسى، وإلا كانت الملاحظة خاطئة.(1/49)
ونحن لا نقتصر فى ملاحظاتنا على مجرد المشاهدة، ولكننا نرتب ما لاحظناه، نصنفه فى أنواع بناء على التشابهات والاختلافات، ولولا قيامنا بعمليات التصنيف لما تمكنا من معرفة شئ، ولظللنا فى فوضى الجزئيات.
ونحن لا نلاحظ أى شئ وكل شئ بلا تمييز، فنحن كائنات عملية لها اهتمامات وأغراض، وهذا يحدد لنا ما نلاحظه أو ما سنلاحظه، نحن دائماً نرى ما تعودنا أو تدربنا على رؤيته، أو ما يثير اهتمامنا، فحينما نسأل الفلاح والفنان والجيولوجى عما يرونه وهم فوق تل فى أمسية صيفية، فإن إجاباتهم ستكون مختلفة، أو متباينة لأنهم سيختارون، والاختيار أو الانتقاء هو عنصر متضمن فى كل ملاحظاتنا،(1/50)
وهناك فارق كبير بين الملاحظة العادية والملاحظة العلمية، فالملاحظة فى صورتها الساذجة غير المقصودة هى النافذة المفتوحة أمام المعرفة الحسية المباشرة، ويؤدى هذا النوع من الملاحظات إلى تعميمات بسيطة صحيحة أحياناً، وغير صحيحة أحياناً أخرى، لكن الملاحظة العلمية المقصودة هى التى يوجه الباحث -فى صبر وأناة- حواسه وعقله إلى طائفة من الظواهر لا لمجرد مشاهدتها، بل لمعرفة صفاتها وخواصها، وليست العبرة بتسجيل الملاحظات وتكديسها، بل بالمقدرة على تنسيقها وربطها وتفسيرها تفسيراً صحيحاً، والاستفادة منها فى الكشف عن بعض الحقائق العامة، وقد يتدخل الباحث فيغير بعض الظروف المحيطة، ويلاحظ ما يحدث فى هذا الوضع الجديد، لأن ذلك يزيد من فرصته فى معرفة حقائق أكثر عن الظاهرة موضع البحث، وفى الكشف عن الأخطار العامة أو الفروض التى يفسرها، ويمكن أن ينتقل الباحث من الملاحظة إلى التجربة، فالتجربة العلمية هى ملاحظة الظاهرة بعد تعديلها تعديلاً كبيراً أو قليلاً عن طريق بعض الظروف المصطنعة (أى أن التجربة هى ملاحظة محكومة). وهناك مواقف لا يقوم الباحث بها بالتجربة مباشرة، ولكنه ينتظر حدوثها، ثم يلاحظها ويسجل، وهذه هى التجربة غير المباشرة، وتعتمد عليها بعض البحوث الاجتماعية والنفسية اعتماداً كبيراً على أساس المقارنة بين الظواهر المألوفة فى المجتمع أو الفرد، وما تقابلها من الحالات الشاذة فى كليهما، ومن الممكن أن تعتبر التجربة غير المباشرة حالة وسطاً بين الملاحظة والتجربة الحقيقية، وعلى كل حال فإن نجاح الملاحظة والتجربة تقتضى الدقة التامة فى رصد الظاهرة، والتحرر من كل فكرة سابقة، والبعد عن التحيز بأشكاله المختلفة واستعراض جميع الظروف المحيطة بالظاهرة، وتوفر الحد الأدنى من الصفات العقلية الخاصة، كالحذر وروح النقد، وحضور البديهة والقدرة على ربط الأشياء بنظائرها.(6)
المرحلة الثانية: الفرض
... وقد تحدثنا عنها قبل ذلك.(1/51)
المرحلة الثالثة: اختبار الفرض:
المنهج الوصفى:
... يلجأ الباحث إلى استخدام هذا الأسلوب حين يكون على علم بأبعاد أو جوانب الظاهرة التى يريد دراستها نظراً لتوفر المعرفة بها من خلال بحوث استطلاعية أو وصفية سبق أن أجريت عن هذه الظاهرة، ولكنه يريد التوصل إلى معرفة دقيقة وتفصيلية عن عناصر الظاهرة موضوع البحث تفيد فى تحقيق فهم أفضل لها، أو فى وضع سياسات أو إجراءات مستقبلية خاصة بها، فالبحوث الوصفية كرصد حالة أى شئ، سواء أكان هذا الشئ وضعاً فيزيقياً أو خصائص مادية أو معنوية لأفراد (الرأى العام) أو مجموعات أو نشاطاً إنسانياً (العمل أو الدراسة مثلاً) أو مؤسسات (المصانع أو الأبنية مثلاً) أو حتى أنماطاً من التفاعل بين البشر (كالتنافس أو التعاون أو الصراع).
... وقد يكون هذا الرصد أو الوصف كيفياً أو يعبر عنه رقمياً أو كمياً، كما أنه قد يتركز على وضع قائم فى وقت معين، أو يكون تتبعياً، أى يستمر لفترات طويلة، أو يجرى على مرات متعددة، كما أنه قد يكون لخصائص ظاهرة أو سطحية، أو يكون متعمقاً، وقد يكون الشئ واحد (قرية مثلاً) أو الشيئين بغرض المقارنة بينهما (قريتين).
... وقد يكون الهدف من الوصف مجرد الرصد من أجل الفهم، وقد يكون الهدف منه تقويم أوضاع قائمة، أو يكون لأغراض عملية مباشرة (مثل التعرف على أعداد المدمنين للمخدرات لتحديد عدد المؤسسات العلاجية اللازمة لهم).
... وتصنف البحوث الوصفية وفقاً لهذه الأهداف، أو وفقاً لما ترتكز عليه، فيقال بحوث وصفية تشخيصية، وبحوث تقويمية، وبحوث عملية، كما تصنف إلى بحوث وصفية آنية أو تتبعية، أو مقارنة، وإلى بحوث مسحية ودراسة للحالة، ويلاحظ هنا بالطبع تداخل أسس التصنيف.
تعريف المنهج الوصفى:-(1/52)
... حين يريد الباحث أن يدرس ظاهرة ما فإن أول خطوة يقوم بها هى وصف الظاهرة التى يريد دراستها، وجمع أوصاف أو معلومات دقيقة عنها، والمنهج الوصفى يعتمد على دراسة الواقع أو الظاهرة كما توجد فى الواقع، ويهتم بوصفها وصفاً دقيقاً. ويعبر عنها تعبيراً كيفياً أو تعبيراً كمياً، فالتعبير الكيفى يصف لنا الظاهرة ويوضح خصائصها، أما التعبير الكمى فيعطينا وصفاً رقمياً يوضح مقدار هذه الظاهرة أو حجمها ودرجات ارتباطها مع الظواهر المختلفة الأخرى.
... والمنهج الوصفى مرتبط منذ نشأته بدراسة المشكلات المتعلقة بالمجالات الإنسانية، وما يزال هو الأكثر استخداماً فى الدراسات الإنسانية حتى الآن، وذلك نتيجة لصعوبة استخدام الأسلوب التجريبى فى المجالات الإنسانية.
أهداف المنهج الوصفى:
... يهدف المنهج الوصفى إلى:
- جمع معلومات حقيقية ومفصلة لظاهرة موجودة.
- تحديد المشاكل الموجودة أو توضيح بعض الظواهر.
- إجراء مقارنة وتقويم لبعض الظواهر.
ويرى الكثير من المهتمين بمناهج البحث أن البحوث الوصفية لابد أن ترتكز على خمسة أسس تتمثل فى الآتى:-
إمكانية الاستعانة بمختلف الأدوات المستخدمة للحصول على البيانات كالمقابلة والملاحظة واستمارة البحث وتحليل الوثائق والسجلات سواء بصورة منفردة تستخدم خلالها كل أداة على حدة، أو بصورة مجتمعة يمكن خلالها الجمع بين أكثر من أداة.
هناك اختلاف فى عمق الدراسات الوصفية. فبعضها يكتفى بوصف الظاهرة المبحوثة كمياً أو كيفياً بغير دراسة الأسباب التى أدت إلى ما هو حادث فعلاً ، بينما يسعى البعض الآخر إلى التعرف إلى الأسباب المؤدية للظاهرة ، علاوة على ما يمكن عمله أو تغييره حتى يؤدى إلى إجراء تعديل فى الموقف المبحوث.
تعتمد الدراسات الوصفية غالباً على اختيار عينات ممثلة للمجتمع الذى تؤخذ منه، وذلك توفيراً للجهد والوقت ولغيرها من تكاليف البحث.(1/53)
لابد من اصطناع التجريد خلال البحوث الوصفية، حتى يمكن تمييز خصائص أو سمات الظاهرة المبحوثة، وخاصة أن الظواهر فى مجال العلوم الإنسانية تتسم بالتداخل والتعقيد الشديدين، الأمر الذى لا يمكن الباحثين من مشاهدة كل تلك الظواهر فى مختلف حالاتها.
لما كان التعميم مطلباً أساسياً للدراسات الوصفية حتى يمكن من خلالها استخلاص أحكام تعتمد على مختلف الفئات المكونة للظاهرة المبحوثة، كان لابد من تصنيف الأشياء أو الوقائع أو الكائنات أو الظواهر محل الدراسة على أساس معيار مميز، لأن ذلك هو السبيل الوحيد إلى استخلاص الأقوم، ومن ثم التعميم.
وتنقسم مراحل البحث الوصفى إلى مرحلتين هما مرحلة الاستكشاف والصياغة، ثم مرحلة التشخيص والوصف المتعمق، والمرحلتان مرتبطتان تسلم إحداهما إلى الأخرى.
خطوات المنهج الوصفى:
... الأسلوب الوصفى هو أحد أساليب البحث العلمى أو الطريقة العلمية فى البحث، ولذلك يسير الباحث وفق هذا الأسلوب على خطوات الطريقة العلمية نفسها التى تبدأ بتحديد المشكلة، ثم فرض الفروض واختبار صحة الفروض، وحتى الوصول إلى النتائج والتعميمات، ولكن طبيعة الدراسة الوصفية تتطلب مزيداً من الخطوات المفصلة لخطوات الطريقة العلمية، ويمكن عرضها فيما يلى:-
- الشعور بمشكلة البحث وجمع معلومات وبيانات تساعد على تحديدها.
- تحديد المشكلة التى يريد الباحث دراستها وصياغتها بشكل سؤال محدد، أو أكثر من سؤال.
- وضع فرض أو مجموعة من الفروض كحلول مبدئية للمشكلة يتجه بموجبها الباحث للوصول إلى الحل المطلوب.
- وضع الافتراضات أو المسلمات التى سيبنى عليها الباحث دراسته.
- اختيار العينة التى ستجرى عليها الدراسة مع توضيح حجم هذه العينة وأسلوب اختيارها.(1/54)
يختار الباحث أدوات البحث التى سيستخدمها فى الحصول على المعلومات كالاستبيان أو المقابلة أو الاختبار أو الملاحظة، وذلك وفقاً لطبيعة مشكلة البحث وفروضه، ثم يقوم بتقنين هذه الأدوات وحساب صدقها وثباتها.
القيام بجمع المعلومات المطلوبة بطريقة دقيقة ومنظمة.
الوصول إلى النتائج وتنظيمها وتصنيفها.
1- تحليل النتائج وتفسيرها واستخلاص التعميمات والاستنتاجات منها.
تقويم البحث الوصفى:-
... يتميز الأسلوب الوصفى بعدة خصائص نذكر منها على سبيل المثال:-
- أنه يقدم معلومات وحقائق عن واقع الظاهرة الحالى.
- يوضح العلاقة بين الظواهر المختلفة والعلاقة فى الظاهرة نفسها كتوضيح العلاقة بين الأسباب والنتائج.
- يقدم تفسيراً للظواهر والعوامل التى تؤثر فيها مما يساعد على فهم الظاهرة نفسها.
- يساعد فى التنبؤ بمستقبل الظاهرة نفسها.
- يعد الأسلوب الأكثر شيوعاً واستخداماً فى العلوم الإنسانية.(7)
وتنقسم المناهج الوصفية إلى قسمين رئيسيين: المناهج التوثيقية أو مناهج التحقيق فى أحداث الماضى، ومناهج وصف ما بين أيدينا فى الوقت الحاضر.
المناهج التوثيقية:
... ويعنينا فى هذه الدراسات الوصول إلى وصف ما حدث كما وقع بالفعل بما يتوفر لدينا من آثار الماضى، وتشمل هذه الآثار الأشياء المادية مثل الأدوات والمؤلفات والوثائق والرسوم والنفوس، أو المعنوية مثل المرويات غير المكتوبة كالتعاليم والحكم والقصص والأمثال والقصائد.
... فهدف المناهج التوثيقية هو التأكد من صحة نسبة هذه الأشياء إلى ظروف تاريخية وأفراد وأشياء محددة، والتأكد من صدق مضموناتها، والوصول إلى صورها المكتملة لإعادة إخراجها فى هيئتها الأصلية، ومثال ذلك ما يقوم به عالم الآثار بالنسبة للقطع الأثرية والمحققة للنصوص، وقد يضاف إلى ذلك خدمة تلك الآثار التاريخية والنصوص بالتوثيق لمعلوماتها إرجاعها إلى أصولها والترجمة لأشخاصها والتعليق عليها وتفسيرها.
مناهج الأشياء الحاضرة:-(1/55)
... وتركز هذه المناهج على وصف ما هو موجود كما هو، وذلك بوصفه واقعاً ماثلاً بين أيدينا كما هو، سواء أكان من إنتاج الماضى أو الحاضر، ويجب فيه التمييز -على الأقل- بين ثلاثة مناهج: منهج تشخيص علمى، لا تقويم معه، ومنهج وصفى تقويمى (نقدى)، ومنهج وصفى تفسيرى (التفاسير والشروحات) ويلاحظ أن الوصف فى حالة الأشياء الحاضرة يركز على الشئ كما هو موجود بين أيدينا دون محاولة للتأكد من مصداقية ماهيتها.
المنهج التشخيصى:-
... وهذا المنهج يفيد فى تشخيص الواقع والتعرف عليه حتى يسهل التخطيط له والتعامل معه، ومعالجة سلبياته، وتسخير إيجابياته، ويتم بها إجراء كثير من الدراسات الجغرافية والاجتماعية والإعلامية واللغوية التى تركز على التجميع للمعلومات التى يحصل عليها الباحث بالإدراك الحسى أو منقولة إليه رواية.
... مثال ذلك أن يقول أحدهم، وهو يصف كتاباً بين يديه أن عدد صفحات الكتاب ثلاثمائة صفحة، وأن طول صفحته 24 سنتيمتراً وعرضها 16 سنتيمتراً، وان ورقه أبيض.. ونقلاً عن أشخاص قرؤوه أنه تضمن رواية تاريخية، وتضمن من الفصول كذا وكذا ...
... ويندرج تحت هذا الصنف عدد كبير من الأبحاث العلمية فى مجال العلوم الطبيعية التى أسهمت فى رفاهية الحياة على الكرة الأرضية، ويستند هذا النوع من الوصف على المعلومات التى تلقاها الإنسان أو حصل عليها بالملاحظة الشخصية الدقيقة أو التجربة المقننة.
المنهج التفسيرى:
... ويهتم هذا المنهج بإضافة معلومات وشروحات على النصوص الموجودة، ويركز على بيان خلفيات الفقرات الرئيسة ومصادرها ومدلولاتها.. ومثال ذلك تفسير معانى الآيات القرآنية، وبيان أسباب نزولها ومدلولاتها. ويمثل لهذا أيضاً بقول الباحث فى الرواية التاريخية المحددة أن أحداثها مستقاة من وقائع الحياة فى العصر العباسى، وأن الشخصية الرئيسية تمثل المعتصم فى غيرته على الإسلام والمسلمين، وأن المعركة وما جرى فيها تمثل أحداث فتح عمورية.(1/56)
... ويلاحظ أن هذا المنهج يكثر استثماره فى دراسة النصوص المقدسة التى لا تخضع كغيرها للمنهج الوصفى التقويمى.
المنهج التقويمى أو النقدى:-
... يكثر استعمال هذا المنهج فى الدراسات الأدبية وما يتصل بالإنتاج الفنى بخاصة، وهذا النوع من المناهج لا يقتصر على الوصف، أو قد يتجاوز الوصف التفصيلى إلى التقويم، وبعبارة أخرى يكون تركيزه على إبراز الإيجابيات والسلبيات، وإصدار حكم على العمل موضوع التقويم، وما لم يهدف الباحث إلى تعميم ذلك الحكم، فإن مثل هذا البحث لا يندرج تحت المنهج الاستقرائى، ويلاحظ أيضاً أن الدراسة التشخيصية تصف الواقع أيضاً كما هو بإيجابياته وسلبياته، ولكن بدون إصدار حكم أو تقويم، فالفرق بين الاقتصار على الإشارة إلى السلبيات والإيجابيات، وبين الإشارة إليهما مع إصدار حكم، ومثال الفرق بينهما هو الفرق بين الجملتين التاليتين:-
- كتب المتنبى عدداً من القصائد فى بداية حياته، ثم ارتبط بسيف الدولة وكتب فيه قصائد كثيرة.
- كتب المتنبى عدداً من القصائد المتوسطة فى بداية حياته، ثم ارتبط بسيف الدولة وكتب فيه قصائد كثيرة جيدة.
ويمثل لهذا المنهج بقولنا عن رواية تاريخية أنها رواية توفرت لها كثير من عناصر الرواية الناضجة حسب المدرسة الرومانسية أو المدرسة الرمزية، وكان تصوير شخصياتها دقيقاً واختيار مناظرها موفقاً، وان الكاتب قصر فى حبكة الرواية، وظهر ضعيفاً فى بعض الحوارات.
... ومع هذا فربما كان من الأفضل تصنيف المنهج الوصفى التقويمى ضمن الدراسات الاستنباطية، وذلك لأن الناقد أو المقوم إنما ينطلق من معايير أو قواعد متواضع عليها، وهو يحكم بجودة أو رداءة جانب من جوانب العمل المنقود، أو فقرة من فقراته فى ضوء تلك القواعد، ولكن يلاحظ على هذه القواعد أنها تتعدد بتعدد المدارس الفنية، ومتجددة لا يمكن اعتبارها حقائق عامة.(1/57)
... وربما يكون أيضاً من الأنسب جعل الدراسات الوصفية التقويمية ضمن المنهج الاستقرائى، لأن الناقد إنما يستنتج سمات عامة من النصوص التى بين يديه، ولكن ليست كل الدراسات النقدية تهدف إلى معرفة السمة العامة لعدد من المؤلفات الخاصة بالكتب الواحد ، أو لعدد من المؤلفين للتعرف على السمة العامة لمدرسة محددة، أما إذا كان الهدف هو التعرف على السمة العامة لعدد من الأعمال أو لعدد من المؤلفين فلا شك أن هذه الدراسة تلقائياً تصنف ضمن الدراسات الاستقرائية.
... بيد أنه يغلب على الدراسات النقدية أو التقويمية أنها لا تبحث عن السمة العامة ولكن تسعى للكشف عن جوانب القوة والضعف، وإبراز الجوانب الفنية الفردية فى العمل المنقود.
... لهذا تم ترجيح تصنيفها ضمن الدراسات الوصفية، والقاعدة فى كون الدراسة التقويمية هى دراسة وصفية أو استقرائية هى طريقة تحديد مشكلة الدراسة، والمنهج المتبع لمعالجة المشكلة.(8)
المنهج الاحصائى:-
... يمكن أن يعرف الإحصاء بأنه ذلك الفرع من الدراسات الذى يهتم بالأساليب الرياضية أو العمليات اللازمة لتجميع ووصف وتنظيم وتجهيز وتحليل وتفسير البيانات الرقمية، ولما كانت البحوث بطبيعتها كثيراً ما تنتج مثل هذه البيانات الرقمية الكمية، فإن الإحصاء يعد أداة أساسية للقياس والبحث. هذا ويهتم البحث فى المجالات الاجتماعية والإنسانية والسلوكية بصفة عامة بنوعين من التطبيقات الإحصائية للبيانات وهى:-
- التحليل الإحصائى الوصفى.
- التحليل الوصفى الاستدلالى.
ويهتم التحليل الإحصائى الوصفى، بالوصف الرقمى لمجتمع معين، وفى هذه الحالة فليست هناك نتائج يمكن أن تنسحب على جماعة أخرى عن تلك التى تركز عليها الوصف فقط، أما بالنسبة للتحليل الاحصائى الاستدلالى فهو يتضمن عملية المعاينة Sampling. أى اختبار جماعة صغيرة تمثل المجتمع الكبير المختارة منه. على أن تكون النتائج النهائية تقريبية وداخل حدود خطأ محسوب إحصائياً.(1/58)
... ويرى بعض الإحصائيين أن الطريقة العلمية للبحوث التحليلية أو الطريقة الإحصائية تتضمن خطوات أربعاً أساسية وهى:-
1 - وضع الفروض.
2 - جمع البيانات.
3 - تجهيز البيانات وتصنيفها.
4 - تحليل البيانات بما فى ذلك عرضها بيانياً وتلخيصها، وإجراء بعض الاختبارات اللازمة لقبول الفرض أو رفضه.
فالطريقة الإحصائية إذن لا تهتم بتطويع البيانات ووصفها وتحليلها فقط، ذلك لأن التطبيق السليم لطريقة الإحصائية بجانبيها الوصفى والاستدلالى يتضمن الإجابة عن الأسئلة التالية:-
- ما هى الحقائق التى يجب تجميعها حتى تمدنا بالمعلومات اللازمة للإجابات عن الأسئلة ؟
- كيف يمكن تجميع هذه البيانات وتنظيفها وتحليلها حتى تلقى ضوءاً على المشكلة ؟
- ما هو الفرض (أو الفروض) التى تشملها الطريقة الإحصائية المستخدمة ؟
- ما هى النتائج التى يمكن أن نستخلصها منطقياً من تحليل هذه البيانات؟
مراجعة البيانات المجمعة:-
... ينبغي مراجعة البيانات التى تم تجميعها، وذلك قبل البدء فى عملية التصنيف للتأكد من أن هناك إجابات عن مختلف الأسئلة التى تتضمنها الاستبيانية مثلاً، أو على الأقل احتواء هذه الاستجابات على نسبة معقولة تسمح باستخلاص نتائج ذات دلالة.
تصنيف البيانات:-
... لا ينفصل موضوع تصنيف البيانات عن خطوات البحث العلمى الأخرى، لأن جميع خطوات البحث العلمى يترابط بعضها فى خطة متماسكة متكاملة واضحة، أى أن المقدمات فى البحث العلمى تترابط مع النتائج. ومن هنا كان التصنيف جزءاً من التخطيط العام للبحث، والذى يبدأ ببلورة المشكلة وتحديدها، ثم نوع الدراسة ومستواها ومنهجها، وأدوات تجميع البيانات وتصنيفها وتحليلها وتفسيرها، أى أن وضع الفرض نفسه من البداية أو السؤال الذى سيجيب عنه الباحث من شأنه أن يشير إلى نوع التصنيف الذى يمكن اتباعه.(1/59)
... وعلى ذلك فإن الباحث لا يرجئ عملية التصنيف هذه والتفكير فيها إلى ما بعد مرحلة تجميع البيانات، فهو منذ البداية يفكر فى طريقة تصنيف بياناته التى سيجمعها، وهل هى -على وجه التقريب- قابلة للتصنيف والتحليل والتفسير أم لا؟. وإلا كان جهده المبذول ضائعاً، أو على الأقل محدود الفائدة، ولا يؤدى إلى النتيجة المرجوة من البحث، والهدف من التصنيف هو تجميع البيانات المتشابهة مع بعضها، وترتيبها فى فئات ومفردات متشابهة.
... هناك بعض الملاحظات التى ينبغى أن يأخذها الباحث فى اعتباره، وذلك عند تصنيف البيانات الكيفية (وهى التى تتصل بالصفات التى يصعب عدها وقياسها) والبيانات الكمية المجمعة، وهذه الملاحظات يمكن اعتبارها مجرد أهداف للباحث يواجهها مختلف المشاكل مع عملية التصنيف:
1 - أن يكون لدى الباحث بيانات صالحة للتصنيف وللترميز.
2 - أن تكون المفردات المصنفة مع بعضها متجانسة ومتشابهة، بحيث لا توضع مفردة واحدة فى عدة أماكن فى نفس المجموعة.
3 - أن يتبع الباحث فى تصنيفه نظاماً منطقياً من العام إلى الخاص، أو العكس، أو أى نظام منطقى آخر، ولعل ذلك يعد من أهم أغراض وأهداف التصنيف.
4 - أن يتبع نظام التدريج فى عمليات التصنيف من الأقسام أو الفئات العريضة ، ثم تقسيمها بعد ذلك إلى فئات فرعية إذا استدعى الأمر.
5 - أن يكون نظام التصنيف شاملاً لمختلف الاستجابات الموجودة والبيانات المجمعة، أى أن يكون النظام نفسه مرناً يتسع لبعض التعديلات التى تتلاءم مع طبيعة البيانات المجمعة.
6 - أن تحدد مفاهيم ومعانى الفئات التى سيقوم الباحث بتصنيفها، وقد يبدو هذا الأمر يسيراً، ولكن واقع المر يشير إلى أننا كثيراً ما نستخدم ونفهم الفئات المختلفة بطريقة سطحية غير محددة.
7 - أن يحدد الباحث الحالات التى سيركز عليها بحثه فى المشكلة، ذلك لأن تحديد المشكلة بعناية سيضيق من المجالات التى سيقوم الباحث بوصفها والحالات التى سيلاحظها ويصنفها.(1/60)
8 - أن يكون هناك تقنين وتوحيد للأسس المتبعة فى ملاحظة المفردات، ذلك لأن هناك اهتماماً مباشراً فى بعض الأحيان بالأشياء التى يمكن ملاحظتها (سواء أكانت تلك الأشياء أحداثاً أم أشخاصاً أم مواقف معينة أو غير ذلك..) وغالباً ما تمثل هذه الأشياء التى تتم ملاحظتها الأفكار الكبرى أو المجتمع الأكبر. ومن هنا كانت أهمية التصنيف فى التعرف على الأقسام والمفاهيم العامة الكبيرة، ثم التعرف على الأشياء المحددة التى يمكن بملاحظتها التمثيل والتعبير عن المجتمع الأكبر.. وأن يتخذ فى ذلك كله وسائل مقننة موحدة.
9 - أن يختار الباحث المقاييس الدالة على الفئات المحددة المختلفة، وهذه الملاحظة مرتبطة إلى حد كبير مع الملاحظة السابقة.
عملية الترميز وتفريغ البيانات:-
... يقصد بهذه العملية استبدال الإجابات الوصفية برموز رقمية تسهل عملية تفريغ البيانات وتجميعها فى مجموعات متشابهة وجداول لفحصها بطريقة منتظمة، وينبغى أن نشير إلى أن الدليل الرمزى أو عملية الترميز لا تقتصر على البيانات غير الرقمية حيث تعطى لها أرقام، بل تستخدم عملية الترميز أيضاً مع البيانات الرقمية ذاتها، وذلك إذا أردنا الحصول على هذه البيانات فى صورة فئات معينة كالدخل أو العمر أو غير ذلك.(9)
... لا يشك أحد فى أهمية مرحلة جمع المادة العلمية التى قد تستهلك الجزء الأكبر من وقت الباحث، فدقة المعلومات ومصداقيتها، ولاسيما فى الدراسات الميدانية أو المعملية إنما يتم تحديدها فى هذه المرحلة.
... بيد أن مرحلة تحليل المادة العلمية أيضاً ذات أهمية كبيرة، وذلك لأن انعدام القواعد الواضحة الجيدة يفسح المجال أمام التحيزات الشخصية التى قد تقضى على قيمة المادة العلمية ذات المصداقية العالية.(1/61)
... ولهذا فقد اعتنى المهتمون بمناهج البحث بهذه المرحلة ضمن عنايتهم بمنهج البحث عموماً، فكان نتيجة هذه العناية جهود علماء المسلمين البارزة فى بعض مجالات البحث، ولاسيما ما يندرج تحت الأسلوب الكيفى (النوعى) وكان من ثمار جهودهم علم أصول الحديث وأصول التفسير وأصول الفقه.
... وكان لعلماء الغرب المتأخرين جهودهم البارزة أيضاً فى بعض المجالات، فكان من ثمار جهودهم التقدم الكبير فى الأسلوب الكمى، بما فى ذلك علم الإحصاء، وما يتصل به من أبحاث فى العلوم الطبيعية بصفة خاصة.
... ولعل من المناسب التذكير بأن التحليل يتكون من ثلاث عمليات مختلفة: حصر جزئيات المادة العلمية، وتصنيفها، وترتيب الأصناف بحيث تخدم مشكلة البحث.
الأقسام الرئيسة لقواعد التحليل:-
... على العموم يمكن القول بأن قواعد التحليل ووسائلها تنقسم إلى قسمين: قسم خاص بالتحليل الكمى، وآخر خاص بالتحليل الكيفى (النوعى) ولكن يلاحظ أن قواعد التحليل الكمى ووسائله موحدة لا تتأثر باختلاف موضوعات البحث إلا فى نطاق معين، أما قواعد التحليل الكيفية فهى قد تختلف اختلافاً جذرياً باختلاف موضوعات البحث، فالدراسات التى تعنى بتفسير القرآن الكريم تحتاج إلى أصول التفسير، والدراسات التى تعنى بتحقيق الأحاديث النبوية تحتاج إلى أصول الحديث، والدراسات التى تعنى بالمسائل التشريعية والفقهية تحتاج إلى قواعدها الخاصة، ومنها أصول الفقه، والدراسات التى تعنى بالأحداث التاريخية تحتاج إلى المنهج التاريخى، والدراسات التى تعنى بالنقد الأدبى أو الإنتاج الإعلامى من الناحية الفنية تحتاج إلى قواعدها الخاصة بتقويم الأعمال الفنية، وهكذا إلى آخر قواعد التحليل الكيفية.(1/62)
... وبعبارة أخرى فإنه نظراً للأثر الكبير الذى تتركه موضوعات البحث على الأسلوب الكيفى، فقد تفرعت وسائل التحليل الكيفية إلى أنواع عديدة، أما الأسلوب الكمى فقد كان أقل تأثراً بموضوعات البحث، ولغتها هى لغة الأرقام أيسر تعاملاً وأكثر قابلية للتوحيد عبر الحضارات البشرية كلها، وعبر الموضوعات المختلفة، ولهذا أحرزت تقدماً كبيراً خلال فترة وجيزة من الزمن، فأسهم فى دفع عجلة الأبحاث الميدانية والمعملية إلى الأمام، وساعد كل ذلك على إنجاز المخترعات العصرية، وبخاصة المادية التى قلبت موازين القوة على سطح الكرة الأرضية، ولاسيما فى غياب القوى الروحية عند من يستطيعون امتلاكها.
علم الإحصاء:-
... من المعلوم أن علم الإحصاء يستخدم للتحليل فى البحوث العلمية التى تستخدم الأسلوب الكمى، ومن مميزات هذا الأسلوب أنه يوفر درجة كبيرة من الحيدة عند وصف الظواهر الطبيعية والبشرية، ويساعد فى تبسيط المعلومات، وتيسير فهمها، وتصنيف المبعثر منها، دون أن تفقد المادة العلمية شيئاً يذكر من قيمتها الجوهرية.
ويعين علم الإحصاء أيضاً فى التوصل إلى استنتاجات متحررة من التحيزات الشخصية إلى حد كبير، ومن هذه الاستنتاجات معرفة نوع العلاقة الموجودة بين صنفين من الظواهر الطبيعية أو العناصر التى تتألف منها الأشياء (المتغيرات). وهذه المعرفة تساعد الباحث فى اكتشاف المجهول والتحكم فيما سخره الخالق للإنسان من سنن كونية ومخلوقات.(1/63)
... وتقول ليدى Ledy بأن قواعد الإحصاء تكشف للباحث عما إذا كانت الظاهرة قد حدثت بمحض الصدفة أو لوجود أسباب ومسببات، ولكن يلاحظ أننا عندما نقول إن هذه صدفة فى حديثنا العادى، فإننا نعنى أننا لم نخطط لها نحن، ولا ينفى هذا وجود تخطيط لها من قبل آخرين، وكذلك فى علم الإحصاء يعنى افتراض حدوث بعض الأشياء بالصدفة هو حدوثها نتيجة لقوانين مجهولة، وإلا فإن من مسلمات العلم أن كل شئ يحدث حسب قوانين، نعرف بعضها ونجهل الكثير عنها، وتجمع الأديان على أن الموجد لهذه القوانين هو الخالق لهذا الكون.
... وتتدرج الوسائل الإحصائية من القواعد البسيطة إلى المعقدة، وتندرج من العمليات التى يمكن إنجازها باستخدام القدرات العقلية العادية، أو باستخدام الحاسبات اليدوية، إلى التى تحتاج إلى الحاسبات الآلية المتطورة، وعموماً يمكن تقسيم الوسائل الإحصائية من حيث وظائفها إلى ثلاثة أقسام رئيسة:
الإحصاء الوصفى: وتقتصر مهمة الإحصاء الوصفى على وصف الظواهر الواقعية العديدة وتلخيصها وعرضها بطريقة مقبولة ميسرة الإدراك.
الإحصاء الاستنتاجى: وينبنى على الإحصاء الوصفى، غير أنه يتقدم خطوة إلى الأمام فى محاولة لاكتشاف المجهول، ففى الإحصاء الاستنتاجى نحاول وصف هذا المجهول بالاستناد إلى عينة من الواقع المحسوس.
الإحصاء التجريبى: ويتعامل مع الأبحاث التجريبية لاكتشاف المتغيرات المستقلة التى تؤثر فى متغيرات تابعة محددة، وبعبارة أخرى تبحث فى طرق السيطرة على الظواهر الطبيعية بمعرفة القوانين التى تسيرها.
ويلاحظ أن عملية التحليل هذه تتضمن ثلاث عمليات فرعية كما سبقت الإشارة، وهى: الحصر والتصنيف وترتيب الأصناف بطريقة تخدم هدف البحث، غير أن درجة التعقيد لعملية التحليل تختلف من نوع إلى آخر، وهى تبدأ من التحليل البسيط فى الإحصاء الوصفى لتنتهى إلى التحليل المعقد فى الإحصاء التجريبى.(1/64)
... ويشتمل الإحصاء على وسائل أساسية منها الوحدات القياسية وأنواعها، والجداول التكرارية والرسوم البيانية، ومقاييس النزعة المركزية، ومقاييس التشتت، ومقاييس الارتباط والتباين.(2)
مشكلة الدراسة
مشكلة الدراسة:-
تعد مشكلة الدراسة أو البحث من الخطوات الأولى التى يجب على الباحث البدء بها، والوصول إلى مشكلة للبحث أو الدراسة موضوع معقد متشعب وبخاصة للباحثين الذين يبدأون خطواتهم الأولى فى البحث العلمى ، فكثيرا ما نجد صعوبة كبيرة فى اختيار موضوع للدراسة، وبخاصة أن الاختيار الجيد لمشكلة الدراسة يحل الكثير من الصعوبات المنهجية التى قد تواجه الباحث فى أثناء سيره، إن هناك موضوعات مغلقة، بمعنى أن الباحث ما يكاد يختار واحدا من هذه البحوث حتى يواجه بسد من الصعوبات أهمها أن الموضوع لا يقدم نتائج ذات قيمة، مثل أن يختار باحث أن يدرس الغزل العذرى فى العصر مثلا مستخدما المنهج نفسه الذى درس به من قبل ، إن هذا الباحث سيجد نفسه بعد فترة وجيزة، وقد أغلق الموضوع عليه، فهو فى كل محاولة للبحث يصل إلى النتائج نفسها التى توصل إليها السابقون عليه الذين استخدموا المنهج نفسه، أو تكون مراجع البحث قليلة أو نادرة وحينئذ يجد الباحث نفسه وقد أعيته الحيلة، ولا يستطيع أن يتقدم فى بحثه قدر أنملة، وهناك موضوعات غنية كلما تقدم فيها الباحث، أعطته من نتائجها الكثير والمفيد، وعلى الباحث أن يتلمس طريقة برفق فى الخطوة الأولى ، وهى اختيار موضوع بحثه ، أو مشكلة الدراسة التى يعنى بها.
ولا شك أن اطلاع الباحث الغزير يساعده على اختيار موضوعات قابلة للبحث، وهذا الاطلاع الغزير أحد العوامل المؤثرة فى الاختيار الجيد،ودونه فإن قابلية الاختيار الذاتى لموضوع البحث تصبح محل شك.
إن على الباحث فى مجال اللغة والأدب أن يكون على دراية واسعة بمجال تخصصه وأن تكون لديه المهارات التالية:(1/65)
1 - جمع أسماء وعناوين الشخصيات البارزة فى مجال أو مجالات اهتمام الباحث.
2 - جمع وعناوين معلومات عن الهيئات العلمية التى تعمل فى مجال اهتمامات الباحث.
3 - اقتناء قدر كبير من المراجع الرئيسية فى مجال التخصص مع مراعاة حداثة طباعتها.
4 - التعرف على الدوريات المتخصصة فى مجال اهتمام الباحث، والاشتراك فى بعضها، ففى بعض التخصصات تقوم الدوريات بوظيفة لا تغنى عنها الكتب القديمة الكثيرة.
5 - التعرف على دور النشر التى تشترك مع الباحث فى مجال اهتمامه، والتعرف على الخدمات التى تقدمها.
6 - جمع مستخلصات الأبحاث والمؤلفات المتصلة بمجال اهتمام الباحث ما أمكن، أو على الأقل عناوينها.
7 - التعرف على مراكز المعلومات التى لديها قواعد للمعلومات Data Base، أو تقدم خدمة الاتصال بمراكز أخرى مماثلة، والتعرف على مراكز الأبحاث، ولا سيما المتيسرة للباحث، والتعرف على الخدمات التى تقدمها.
8 - تنظيم المعلومات التى يجمعها الباحث بطريقة تيسر له عملية الرجوع إليها، وذلك باستخدام برامج الحاسب الآلى، أو السجلات الخاصة، أو البطاقات(1).(1/66)
... وإذا اكتسب الباحث هذه المهارات فإن قدرته على اختيار مشكلة للدراسة تكون جيدة ، وإذا لم يكن كذلك فإنه يعتمد على الآخرين فى اختيار هذه المشكلات، والآخرون قد يكونون زملاء له أو أساتذة، أو اقتراحات تعرضها بعض الدراسات على الآخرين للبحث، وفى كل الأحوال فإن مشكلة الدراسة لا تنبع من الباحث نفسه ولا تؤرقه بل تكون مفروضة عليه، ولذلك فإن كثيرا من الباحثين الذين يختار لهم مشكلات الدراسة لا يستطيعون فى البداية إدراك أبعاد المشكلة، ولا يستطيعون أن يتفاعلوا معها، وربما يأتى هذا التفاعل بعد ذلك فى أثناء البحث، لكنها مغامرة غير مأمونة، والنتيجة أن البحث الذى ينتهى منه الباحث قد يفتقر شرطى الإبداع والأصالة.. بسبب أن الباحث لم يحسن اختيار مشكلة البحث من البداية، إن المشكلة النموذجية التى تقبل البحث هى المشكلة التى تؤرق الباحث نتيجة قراءاته المتنوعة، إنه فى أثناء هذه القراءات يلاحظ أشياء لم يستكمل بحثها بعد، وأنها لم تبحث أساسا، أو أن بحثها ثم من منظور منهجى قديم وهو يستطيع بمنظور الآخرين أن يقدم نتائج أكثر قيمة .
هناك حالة من الجدل بين الباحث والعلم الذى يرتبط به، وهناك تصور شامل لأبعاد هذا العلم: عناصره الأساسية وجزئياته المختلفة، ومن خلال هذا التصور تنبثق المشكلات التى يراد لها الحل. هذا إذا استخلص الباحث المشكلة بنفسه نتيجة قراءاته تكون قدرته على البحث أوفر، وتكون قابلية البحث لأن يعرض نتائج ذات احتمالات أكبر. إن حب الاستطلاع هو الدافع الأساسى الذى يدفع الباحث إلى اختيار مشكلة الدراسة، ولذلك لا يستطيع أن يكون الباحث محبا للاستطلاع، وفى الوقت نفسه يختار الآخرون له موضوعا للبحث، حب الاستطلاع هذا يدفعه إلى اكتشاف الجوانب المشكلة فى العلم وإلى البحث عن حلول أو إضاءة لها، أو البحث عن أسبابها وترابطاتها وكيفية حدوثها.(1/67)
... وإذا حدد الباحث لنفسه مجالا مبدئيا يمكن أن يبحث فيه، فعليه أن يصوغ مشكلة الدراسة فى سؤال مركزى كبير، مثلا: ما عناصر السرد الروائى التى تميز بها كاتب ما مثل نجيب محفوظ عن غيره؟.، أو ما ملامح البطل المضاد فى الرواية المصرية وتأثيره على تقنيات الرواية؟.، أو كيف أثر شيللى مثلا على شعراء الرومانسية العرب؟.، وغير ذلك من الأسئلة المركزية التى تصلح أن تكون مشكلات للدراسة قابلة للحل، ويمكن تفتيت هذا السؤال المركزى إلى مجموعة من العناصر التى تشكل مجتمعة ما يمكن تسميته بخط البحث.
ومشكلة الدراسة الجيدة القابلة للبحث يجب أن تتميز بما يلى:
1) إضافة شئ جديد للمعرفة:
فمن غير شك أن المشكلات لا تتساوى من حيث قيمتها العلمية أو التطبيقية، ولذلك يجب أن يسأل الباحث نفسه عند اختياره لمشكلة معينة، ما مدى احتمال إسهام حل تلك المشكلة فى إضافة شئ جديد للمعرفة الإنسانية؟ وما قيمة هذه الإضافة أو الإسهام؟.، فكثيرا ما يواجه المرء مشكلات ، لكن حلها لا يتطلب إجراء بحث ، وإنما قد يكون حلها فى مجرد الرجوع إلى مجموعة من الكتب والدراسات السابقة.
والبحوث مهما تعددت فإنها تهدف فى مجموعها إلى هدفين أساسيين: الهدف العلمى وهو أن يستهوى العالم موضوع بذاته ليتحقق من صحة قانون أو نظرية، أو للوصول إلى حقائق يمكن من أن تعد أساسا لنظرية جديدة.
2) جدة البحث:(1/68)
من مقومات مشكلة البحث أن تكون جديدة، ولا يقصد بذلك أن يكون ميدان البحث بالضرورة مما لم يطرقه أحدا من قبل. ففى كل ميدان معرفة الكثير من المشكلات الجديدة التى تنتظر الدراسة، ثم أن هناك نقطة تحفظ، ذلك أن بعض البحوث قد تصل إلى نتائج غير مؤكدة، وهذه تتطلب تكرار البحث من جانب باحث آخر، كما تعنى الجدة فى البحث طرق جوانب جديدة من مشكلة سبق بحثها دون هذا الجانب، ويحدد ويستر Welister معنى البحث بأن لا يكون منقولا أو تقليديا أو إعادة إخراج أو ترجمة غير مقتبس أو ثانويا جديدا، ويقصد بالجدة أحيانا أى إضافة جديد، ولو لمشكلة سبقت دراستها، حيث يعد البعض أية إضافة علمية تضيف جديدا فى البحث وأكثر ما ينطبق هذا القول على البحوث الاجتماعية حيث أن أية إعادة قد تضيف شيئا جديدا، وعلى العموم فالمهم أن لا يكون البحث مجرد تكرارا لعمل سابق ناتج عن جهل الباحث بما تم إجراؤه فى حقل تخصصه، ولتحاشى الازدواج أو الشعور بخيبة الأمل الذى يحدث عندما يعلم الباحث أنه قد يضيع وقته فى تكرار عمل قام بأدائه آخرون ، وجب أن يتأكد من أن ما سيقوم بدراسته موضوع جديد فعلا ، وليس بحثا مكررا.
2) إمكانية البحث:(1/69)
بمعنى هل المشكلة قابلة للبحث؟ فهناك بعض المشكلات التى تبدو مثيرة وشيقة، ولكن يصعب بحثها تماما لعجز الباحث عن الوصول إلى الحقائق أو المعلومات المتصلة بالمشكلة، أو لقصور وسائل البحث التى تعين على دراستها، هل يمكن أن يبرهن الفرد بأن مخلوقات حية تعيش على كوكب المريخ؟ أو أن قارة الأطلس قد وجدت على وجه الإطلاق كمركز هام للحضارة؟ وفى مجال الأدب واللغة: عن الكيفية التى نشأ بها الشعر العربى أو عن نشأة اللغة أى لغة؟ وبما أن وسائل الدراسة فى مثل هذه الموضوعات لم تقترب من الكمال بالقدر الكافى، وأن مصادر المعلومات ضئيلة إلى الدرجة التى لا يمكن من تزود الدارس بشئ أكثر من مجرد التخمين، فإنه يجب إرجاء البحث فى هذه المشكلات كمشكلات غير قابلة للبحث.
... إن الباحث المتمرس لا يجرى وراء غايات طارئة أو حماس وقتى لمشكلة من المشكلات إلا إذا تأكد من أن جميع مقومات البحث فى متناول يده سواء أكان ذلك معلومات أم أجهزة أم حتى من ناحية التحويل، وليس من شك فى أن هناك مشكلات هامة، إلا أن حلها يتطلب من الوقت والجهد والمال ما يفوق قدرة الباحث، ولو أنه فى بعض الحالات أمكن التغلب على ذلك بأن يقوم بالبحث فريق من المتخصصين، كما فى الدراسات الطولية.
3) أهمية مشكلة البحث:(1/70)
يجب أن تخرج فكرة البحث من اهتمام الباحث أصلا، ويجب أن يثير موضوع البحث الرغبة لدى الباحث فى دراستها، فالبحث الذى يقوم به الفرد دون اهتمام حقيقى عادة يسبب الضجر والملل، وبالتالى يصبح أى مجهود مبذول فيه ثقيلاً مهما كان عادياً، ليس هذا فحسب، بل يجب على الباحث عند اختيار مشكلته أن يسأل نفسه: ما قيمة هذه المشكلة، وإلى أى حد تثير الآخرين، فكثيراً ما يكون اهتمام الغير مثار حماس للباحث، وأكثر ما ينطبق هذا القول على طلبة الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه عند اختيارهم لموضوع بحثهم، ذلك أنه كثيراً ما يكلف طلاب الدراسات العليا القيام بإجراء بحوث خاصة فى مشاكل معينة لا تثير بالضرورة اهتمامهم.
5) الحق الأدبى للبحث:-(1/71)
... وهذه المشكلة، ولو أنها لا ترتبط بأسلوب الدراسة، ولا بمنهجها، مسألة أخلاقية، إذ تتطلب أخلاقيات البحث أن لكل باحث أخذ على عاتقه مهمة القيام بحل مشكلة معينة الحق الأول فيها، ومن هنا وجب أن يسأل الباحث نفسه عندما يقرر إجراء البحث، هل لشخص آخر حق سبق فى إجرائه؛ فمن المعترف به أن آداب التعامل بين العلماء والمتخصصين تحتم أن لا يتعدى شخص على حق آخر إلا إذا كان هناك اتفاق وعلم كامل من صاحب الحق الأول، وقد يتساءل البعض كيف يعرف الفرد ما إذا كان هناك حق مسبق لشخص ما، هناك كثير من التقارير الخاصة بالبحوث الجارية يمكن الحصول عليها فى فترات منتظمة عن طريق الدوريات العلمية المتخصصة فى مثل هذه المجالات. حقاً قد يحدث أن يقوم اثنان بنفس البحث يجهل كليهما بما يقوم به الآخر، ولكن من المفضل وبخاصة فى الوقت الحاضر بعد الانتشار الواسع لوسائل الاتصال العلمى أن يتأكد الباحث بقدر استطاعته من عدم قيام باحث آخر بنفس البحث الذى يقوم به، وإذا كان الباحث من طلاب الدكتوراه، أو ممن يقوم بجهد علمى شبيه بذلك، فإنه يمكن أن يعلن فى إحدى الدوريات المتخصصة فى مجاله عن رغبته فى القيام بمثل هذا البحث، فقد يكتشف باحثان أنهما يقومان بدراسة نفس المشكلة، وفى هذه الحالة يمكنهما تجميع الجهد، أو تقسيم الموضوع بينهما حتى يصلا إلى نتائج أفضل.
6) أصالة المشكلة:-(1/72)
... إن قضية الأصالة من الأمور الرئيسة التى يقوم على أساسها البحث، ومع أن أصالة مشكلة البحث أمر متفق عليه، إلا أنها مسألة تحير بال بعض الباحثين وبخاصة المبتدئين، فما الأسس التى يعتمد عليها الفرد فى حكمه على أصالة البحث ؟ إن أى شئ لا يمكن اعتباره أصيلاً ما لم يسهم فى المعرفة الإنسانية. ويجب على كل باحث أن يعتز باستقلاله الفكرى ، لأن تقديم أفكار شخص آخر على أنها أفكار المرء نفسه لا يعد تضليلاً فحسب، بل يعد دماراً لاحترام الذات. ولن يكون البحث أصيلاً إذا كان مجرد صب لأفكار وآراء الباحثين الآخرين فى قوالب جديدة، ولن يوفر تلخيص آراء الآخرين أو ما عرفوه عن مشكلة ما حلاً لها، ولكن هذا فى الحقيقة يشكل الأساس المجرد لاختيار المشكلة وتحديدها، كما لا يجب أن يجنح الباحث إلى اختيار موضوعات ذات قيمة محدودة بسبب أنها موضوعات جديدة. والحداثة أو الجدة فى حد ذاتها يجب ألا تكون هى المعيار الوحيد فى اختيار مشكلة ما، فعند تقويم الباحث لأى موضوع يحتمل دراسته، يكون من الأفضل له أن يسأل نفسه إذا ما كانت مشكلة بعينها قد ظلت دون حل لنفس السبب الوجيه الذى يرى من أجله أنها لا تستحق فعلاً الحل. والباحث المتعمق فى مجال تخصصه يمكنه إيجاد الكثير من الموضوعات ذات الأهمية المؤكدة التى تحتاج إلى حل.
... وعلى الباحث المبتدئ فى مرحلة الاختيار أن يأخذ بعين الاعتبار العوامل الآتية:-
1 - مدى وفرة المصادر لبحثه.
2 - إمكانياته العلمية.
3 - القدرة الزمنية المقرر إنجاز البحث فيها.
كذلك ينصح الباحث المبتدئ بالابتعاد عن المواضيع ذات المجال الضيق، فما يصلح لكتابة مقالة لا يصلح لكتابة بحث يحقق جودة الموضوع، كما يحذر من اختيار المواضيع المبهمة التى كثيراً ما يصعب تحديد ما يدخل فى نطاقها، وقد يستغرق الباحث وقتاً طويلاً دون الوصول إلى ما يرجوه.(1/73)
كذلك ينبغى عليه أن يعنى بتحديد معنى المصطلحات المستعملة فى صياغة المشكلة وتحديد معنى المصطلحات عملية أساسية جدا فى إجراء أى بحث، وتعريف المصطلحات المستخدمة فى دراسة ما لا يعد مفيدا، إلا إذا تم تفسيرها بطريقة تجعلها قابلة للقياس، ويوضع معناها فى الدراسة ذاتها، ولهذا يحتاج الباحث إلى تعريف دقيق لمصطلحاته، وهذه النقطة ليست هامة من أجل النتائج فحسب، بل أيضا لمصلحة الباحث نفسه، حتى لا يقع فى خطأ استخدام مصطلح بمعنيين مختلفين فى فترتين مختلفتين (1).
وعموما فإن هناك اعتبارات أساسية تطبق على كل الأبحاث العلمية هى:
1 - اتساق حجم مشكلة البحث ومنهجها، ونوع البحث مع المدة الزمنية المحددة للبحث
2 - سهولة التعرف على الدراسات السابقة أو العلمية مثل وجود كشافات لموضوعات الدوريات المختلفة التى عالجت موضوع البحث، فمثل هذه الخدمات توفر جزءا كبيرا من الوقت والمال والجهد، وتسهم فى جودة البحث، وحيث لا تتوفر هذه الخدمات، فإن البحث يتطلب وقتا أطول، فضلا عن جهد ومال أكثر.
3 - توفر المصادر الأساسية، وإمكان الحصول عليها فى ظل الظروف التى سيتم البحث فيها، فقد يختار الباحث موضوعا يحتاج فيه إلى الحصول على معلومات تعدها الجهات المالكة لها سرية أو محدودة الاطلاع، أو ممنوع الإعارة الخارجية والتصوير، أو موجود فى مكان بعيد يتطلب سفرا مكلفا.
4 - معرفة الباحث بأصول وقواعد البحث فى الموضوع الذى يقترحه، ولاسيما فى مجال الأبحاث الميدانية والاستقرائية، حيث يحتاج الباحث إلى الإلمام بطرق تصميم البحث ووسائل جمع المادة العلمية وتحليلها، ومنها أجهزة معقدة.
5 - معرفة الباحث اللغة أو اللغات التى يحتاج إليها فى بحثه، فقد يعتمد الباحث على مترجم خاص فى المعلومات الثانوية، ولكن ليس لتأمين المادة العلمية الأساسية، وذلك لأن الترجمة الخاصة ليست عملا منشورا يتحمل مترجمه مسئولية مصداقيتها.(1/74)
6 - درجة تقبل مجتمع الدراسة للمنهج الذى يحتاجه الباحث للدراسة، مثل الحصول على انطباعات وآراء صريحة حول بعض المسائل ذات الحساسية الخاصة من الناحية العقدية أو الاجتماعية أو السياسية.
7 - توفر الأجهزة اللازمة للدراسة أو إمكان تأمينها ولا سيما فى الدراسات العملية أو التجريبية.
8 – توفر خبرات مطلوبة مثل مساعدين ومساعدات باحث ، خبيرات فى شئون البحث ولا سيما فى حالة الدراسة الميدانية التى تتطلب جمع المادة العلمية بطريق المقابلة مع الإناث .
9 - توفر التكاليف اللازمة للسفر والحصول على المادة العلمية وتحليلها.
10 - أن يكون البحث فى مجال اهتمام الباحث أو فى مجال تخصصه.
11 - ألا يكون للباحث موقف متحيز مسبق بالنسبة للموضوع، أو أن يكون قادرا على كبح جماح تحيزاته الشخصية.
12 - أن يتناسب البحث مع متطلبات صنف البحث، فلكل صنف متطلباته الخاصة تقريبا، فمن الأبحاث ما هو تدريب ضمن المادة المقررة، ومنه ما هو مستقل كالماجستير والدكتوراه.
13 - عدم تعرض الموضوع مع الظروف العقدية أو الاجتماعية أو السياسية أو الإدارية التى سيتم إجراء البحث فيها حتى لا يتعرقل البحث(1).
وفى إطار البحث عن مشكلة للدراسة، وبعد الاختيار المبدئى لها، فإن تحديد عنوان مبدئى للدراسة يعد من الأساسيات، والعنوان يجب أن يتسم بالبساطة فلا نضع عناوين طويلة، أو معقدة، ويتسم بالشمول فى إطار الموضوع المراد بحثه، فيعبر العنوان عن كل جوانب الموضوع مثل أن تقول "البطل المضاد فى الرواية المصرية فى الثلث الأخير من القرن العشرين: دراسة بنيوية" ومثل هذا العنوان نجد فيه إشارة إلى منهج البحث. حيث يستخدم البحث المنهج البنيوى فى دراسة الموضوع، ويتم عملية تحديد المشكلة من مستويين:
الأول: تحديد المشكلة من حيث المضمون:
والطرق التى يلجأ إليها هى :
1 - التحديد من حيث الحيز الزمانى الذى سيعطيه البحث مثلا: دراسة الجملة الاسمية عند شعراء العصر الجاهلى.(1/75)
2 - التحديد من حيث المكان مثل دراسة عن الرواية العراقية
3 - التحديد من حيث المضمون الذى سيتم إدراجه فى البحث مثل دراسة الشعر ، وليس النثر ، وأيضا الشعر الجاهلى ، وليس أى عصر ، ثم اختيار لأحد شعراء العصر الجاهلى مثلا.
ثانياً: تحديد المشكلة من حيث الصياغة:
هناك صيغ ثلاث لتحدي المشكلة: صيغة الجمل الخبرية، وصيغة التساؤلات، وصيغة الفرضيات، وفى الوقت الذى لا تختلف الأولى عن الثانية من حيث كونها ذات سمة استكشافية، فإن الثالثة مختلفة تماماً، وتقتضى منهجاً خاصاً.
I- صيغة الجملة الخبرية: مثل "سيقوم الباحث بدرس موضوع تحليل السرد الروائى عند محمد جبريل.
II- صيغة الأسئلة أو التساؤلات: مثل "ما عناصر السرد الرائي عند محمد جبريل، وفى هذه الحالة يستحسن تصنيف التساؤلات فى فئات، يتم فى ضوئها تحديد معالم البحث وحدوده وتفريعاته، أو التقسيمات الرئيسية للقائمة
جـ-صيغة الفرضيات: وهنا يتم طرح فرضيات يحاول الباحث إثباتها أو نفيها مثل الفرضيات التالية:
- يتميز الغزل العذرى بشيوع الحزن والاكتئاب والانسحاب من الحياة.
- تكثر فى الغزل العذرى صور الحيوان.
- يركز الغزل العذرى على روح المحبوبة وليس على جسدها.
وصيغة الفرضيات مطلوبة فى الدراسات الاستقرائية التى تلتزم باتجاه محدد، تهدف إلى الوصول إلى استنتاج مدلولات عامة، وهذه الصياغة تستلزم الإجراءات اللازمة لاختبار الفرضية.( 2 )
المكتبة
المكتبة:
تعد المكتبة واحدة من أكثر الوسائل أهمية فى البحث العلمى ، وتزداد أهميتها فى مجال البحث اللغوى أو الأدبى قياساً إلى غير من مجالات البحث فى العلوم الإنسانية والطبيعة والرياضية.
والمكتبات على صنفين: مكتبات عامة ومكتبات خاصة بالأفراد والمكتبات العامة أيضاً على صنفين : مكتبات للاطلاع والإعارة، ومكتبات للشراء منها ونهتم هنا بالمكتبات العامة التى تتيح للقراء من مختلف المستويات فرصة الاطلاع والاستعارة منها.(1/76)
ومع تطور وسائل الاتصال الحديثة، ومع دخول شبكة (الإنترنت) مجال البحث العلمى، فقد أنشئ موقع للمكتبات المصرية يتيح للمتصل بالشبكة الدخول إلى عدد كبير من المكتبات العامة المنتشرة فى أنحاء مصر، والاطلاع على محتوياتها وعنوان الموقع هو :-
WWW.Library-idsc-gov.eng
ويجب أن تحتوى المكتبة العامة - أى مكتبة على ما يلى:-
1- الببلوجرافيا.
2- المراجع أو الفهارس.
3- الرسائل العلمية.
4- الدوريات.
5- الصحف.
6- القواميس والمعاجم.
7- المخطوطات.
8- الموسوعات ودوائر المعارف.
9- قوائم الناشرين.
أولاً: الببلوجرافيا:
هذه النوعية من الكتب تفتقدها المكتبة العربية كثيراً، ونعنى بها الكتب التى تضمن البيانات الكاملة عن الدراسات المختلفة التى تمت فى فروع المعرفة، ولا يستطيع كتاب واحد أن يلم بهذه الدراسات لذلك تكون هناك كتب تركز على فرع من الدراسات، وتعرض ما فيه من دراسات مثال ذلك ما قام به عفيف عبد لرحمن من جامعة اليرموك حيث جمع كثيراً من الدراسات حول الأدب الجاهلى فى كتاب أسماه "مكتبة الأدب الجاهلى ببلوغرافيا/رسائل جامعية. كتب. بحوث مقالات" وقد صدر عن دار صادر بيروت - لبنان عام 1998.
والكتاب يحتوى على مقدمة تتحدث عن جهود القدماء فى تدويرن الشعر الجاهلى، بدأها بالحديث عن أهمية العصر الجاهلى وأدبه من خلال أقوال القدماء، وعن السبب فى اختياره العصر الجاهلى ليجمع الدراسات التى كتبت عنه، وبعض هذه الأسباب هى:
1- مكانة الأدب الجاهلى التى احتلها فى عصره وفيما تلاه من عصور، وما يزال يحتلها.
2- ذلك الشطط الذى وقع فيه بعض الباحثين قديما وحديثا، فجنوا على الشعر وأهله.
3- لأن الأدب الجاهلى أكثر الآداب تأثيرا فى الأدب العربى.
4- لأن الدراسات والبحوث يكرر بعضها بعضا، بالرغم من أن كثيرا من مجالات الأدب الجاهلى مازال بكرا. لم يبحث، أو أنه يبحث بسطحية.(1/77)
5- لأن هذه الدراسة تطمح فى أن تقدم للباحثين وطلبة الدراسات العليا عونا متواضعا.
وتحدث بعد ذلك عن الصعوبات التى تواجه الباحث فى دراسة الأدب الجاهلى، كما أشار إلى العوامل التى أثرت على الأدب الجاهلى بعامة والشعر بخاصة تأثيرا سلبيا يصل إلى درجة الجناية عليه. ثم يعرض لجهود القدماء من خلال سرد مؤلفاتهم، ومنهم:
- المفضل الضبى ت180هـ جمع المفضليات التى جمعت حوالى مائة وثلاثين قصيدة معظمها جاهلى.
- هشام بن الكلبى (ت204) له كتاب الأصنام، وروى كثيرا من أخبار الجاهلية وأنسابها.
- الأصمعى (ت216هـ) جمع الأصمعيات وضمت قدرا كبيرا من الشعر الجاهلى.
- أبو تمام (231هـ) اختار أشعار الحماسة التى سميت باسمه (حماسة أبو تمام).
- ابن السكيت (244هـ) شرح بعض دواوين الشعر الجاهلى ودونها.
- الجاحظ (ت 255هـ) ضمن كتابيه الحيوان والبيان والتبيين كثيرا من الشعر والنثر الجاهليين.
- ابن سلام الجمحى (ت 310هـ) ألف كتاب "طبقات فحول الشعراء" وأورد عشر طبقات ضمت كل طبقة أربعة شعراء عدا شعراء الفرس واليهود.
- ابن الأنبارى (ت 328هـ) له شرح القصائد السبع الطوال وشرح المفضليات.
- ابن النحاس (ت 338هـ) شرح القصائد التسع المشهورات.
- الخالديان (350،380هـ) ألفا كتاب الأشباه والنظائر، ويسمى أيضا حماسة الخالدين.
- الأمدى (ت370) ألف كتاب المؤتلف والمختلف، وفيه تراجم الشعراء.
- القرشى، محمد بن أبى الخطاب (ت أوائل القرن السابع الهجرى) جمع تسعاً وأربعين قصيدة فى الجمهرة.
- ابن الشجرى (ت 542هـ) جمع مجموعة شعرية عرفت بالحماسة الشجرية، كما أن له مختارات ابن الشجرى.(1/78)
كما تحدث كثيرا عن جهود القدماء ودورهم فى رواية الأمثال وجمعها وتدوينها وتصنيفها وتبويبها، وهى جهود واكبت جمع الشعر الجاهلى وتدوينه، بل إن العلماء الذين رووا وجمعوا الشعر الجاهلى هم أنفسهم الذين جمعوا الأمثال، وإن الأسباب التى حدت بهم إلى جمع الشعر هى نفسها الأسباب التى حدت بهم إلى جمع الأمثال، وهى اللغة والثروة اللغوية. ومن هذه الكتب:
- أمثال المفضل الضبى (ت 180هـ).
- أمثال أبى فيد السدوسى (ت 198).
- أمثال أبى عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ).
- فصل المقال فى شرح أمثال أبى عبيد للبكرى (ت 487هـ).
- أمثال أبى عكرمة الضبى (ت 250هـ).
- جمهرة الأمثال للعسكرى (ت 395هـ).
- مجمع الأمثال للميدانى (ت 510هـ).
- الأمثال فى القرآن لابن الجوزية.
ثم تحدث عن المستشرقين وجهودهم فى دراسة الشعر الجاهلى، فعرف معنى الاستشراف وتاريخه، والجمعيات العلمية التى أنشئت فى أوروبا لدراسة الشرق ومنها:
- الجمعية الآسيوية بباريس 1822م.
- الجمعية الملكية الآسيوية فى بريطانيا وأيرلندا 1823م.
- الجمعية الشرقية الأمريكية 1843م.
- الجمعية الشرقية الألمانية 1845م.
وأشار إلى أهم مجلات الاستشراق ومنها:
- مجلة ينابيع الشرق أصدرها هامر برجشتال فى فيينا 1809م.
- مجلة الإسلام بباريس 1895م.
- مجلة الإسلام فى ألمانيا 1910م.
- مجلة العالم الإسلامى فى بريطانيا 1911م.
وتلك كانت البدايات، أما اليوم فإن لهم أكثر من ثلاثمائة دورية ومجلة تصدر فى مختلف جامعاتهم ومعاهدهم وجمعياتهم.
أما المجالات التى عنوا بها بحثا ودراسة فهى:
1. تحقيق الدواوين والمجموعات الشعرية.
2. دراسة قصائد مفردة وتحقيقها ونشرها وترجمتها.
3. رصد ظواهر ودراستها.
4. التوثيق والرواية وتدوين الشعر الجاهلى.
5. إصدار الموسوعات والمعاجم.
ومن أمثلة ما نشر عن الأدب الجاهلى:
1. ديوان الأسود بن يعفر: حققه رودلف غاير النمساوى، ونشر بلندن1928م.(1/79)
2. ديوان الأعشى الكبير (الصبح المنير فى شعر أبى بصير مع ديوان الأعشى): حققه غاير النمساوى، ونشر على نفقة لجنة ذكرى جب1928
3. ديوان امرئ القيس: حققه كل من البارون سلام الفرنسى مع جوزيف رينو 1837م، جوتفالو فازان 1861-1863م،فريدريك روزين الألمانى 1924م، روكهارت الألمانى الذى ترجمه إلى الألمانية 1843م.
4. ديوان أمية بن أبى الصلت: حققه كل من الأب يوبير الفرنسى1912م،شولتز الألمانى 1911م.
5. ديوان أوس بن حجر: حققه رينيه باسيه الفرنسى فى المجلة الآسيوية 1912م.، رودلف غاير النمساوى فيينا 1892م.
6. شعر تأبط شرا: حققه السير تشارلز ليال الإنجليزى فى المجلة الآسيوية 1918م.
هذا فى جانب التحقيق فقط، أما جانب الدراسات الأخرى فإن هناك مئات، وربما آلاف الدراسات التى كتبها المستشرقون حول الأدب العربى.
أما بقية الجزء العربى من الكتاب فيخصصه للحديث عن الشعر الجاهلى فى دراسات العرب المحدثين وقد قسمه إلى:
1 مصادر الشعر الجاهلى: وقد قسمها إلى:
(i) مصادر أدبية وتاريخية جمع فيها 149 مصدرا.
(ii) كتب الأمثال التراثية المنشورة: جمع فيها 29 كتابا.
(iii) كتب الأمثال المفقودة: 29 كتابا.
(iv) مجموعة أمثال حديثة وشعبية ودراسات حول الأمثال: 60دراسة.
(v) الدواوين والمجموعات الشعرية: 107 ديوان ومجموعة شعرية.
(vi) النصوص الشعرية التى درست: 49 نصا.
ويسرد بعد ذلك مجموعة من الرسائل والأطروحات الجامعية ما بين ماجستير ودكتوراه، يذكر فيها أسماء الباحثين، وعنوان البحث والبيانات الخاصة بالبحث، وقد بلغ مجموع هذه الرسائل 346 رسالة.
وأما الدراسات المكتوبة باللغة العربية، فقد قسمها إلى: كتب وبلغ مجموعها 397 كتابا، والبحوث والمقالات بلغت 286 بحثا، ثم يذكر بعد ذلك الدراسات المكتوبة باللغة الإنجليزية عن الأدب الجاهلى.(1/80)
وعلى الرغم من أن المؤلف فى هذه الببلوغرافيا عن الأدب الجاهلى جمع ما يزيد عن الألف وخمسمائة دراسة، فإن هناك دراسات كثيرة أغفلها، ولكن له عذره فى ذلك، فهذا العمل ينوء بحمله باحث واحد، ولكنه يكشف من جانب آخر عن مدى الاهتمام الذى أولاه الباحثون لفترة العصر الجاهلى، وهذه ببلوجرافيا ترشد الدارس إلى الدراسات التى كتبت عن العصر الجاهلى، وهى بذلك توفر وقتا وجهدا كبيرا ولا شك أن المكتبة العربية فى حاجة شديدة إلى مثل هذا النوع من الكتب.
ببلوجرافيا الرواية العربية:
أعدها حمدى السكوت فى قسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة،ونشرها المجلس الأعلى للثقافة عام 1998 فى خمسة أجزاء، وهى تغطى الرواية العربية فى أرجاء الوطن العربى منذ نشأته الأولى 1965 حتى عام 1995 م. أى تغطى سبعين عاما من الإبداع.
قدم الببلوجرافيا بمدخل إلى الرواية العربية الحديثة، أشار فيه إلى خطته فى الببلوجرافيا، ثم تحدث عن بدايات الرواية العربية ونشأتها فى القرن التاسع عشر، وترجمة رفاعة الطهطاوى لبعض الروايات الفرنسية وكذلك ترجمات محمد عثمان جلال، وانتقد هذه الترجمات سواء فى مضمونها أو فى لغتها.
ثم أشار إلى انتشار الترجمات العربية للرواية الأوربية التى دفعت بعض الأدباء إلى التأليف مثلما فعل حافظ إبراهيم فى ليالى سطيح، ومحمد لطفى جمعة الذى نشر ليالى الروح الحائر 1912، ثم دور المنفلوطى فى تبنى الشكل الروائى الغربى الصريح لخدمة أهداف تربوية وأخلاقية أو تاريخية أو اجتماعية حتى تنأى أعمالهم عن أن تكون كتابات تافهة لا يقصد بها إلا التسلية.(1/81)
وجاء من بعده على مبارك وأحمد شوقى وسليم البستانى وجورجى زيدان يتحدث بعد ذلك عن الرواية الفنية، فيبدأ بمصر التى يرى أن البداية الحقيقية للرواية كانت 1913م حين كان محمد حسين هيكل رواية "زينب"، أما ما قبل ذلك من حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحى، أو عذراء دنشواى لمحمود حقى، فلا يعدان من الروايات، لأن الأولى لم تقصد أن تكون رواية، والثانية ليست إلا تقريرا صحفيا.
أما زينب فإنها تحمل كل ملامح الرواية الأساسية، على الرغم من بعض الأخطاء الفنية بها، لكن ذلك يعد أمرا ثانويا إذا ما قورن بحقيقة أن المهمة قد أنجزت، وأن شكلا جديدا وأصيلا من النتاج الأدبى قد أضيف إلى الأدب العربى.
بعد هيكل كتب المازنى وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور روايات وكذلك طه حسين، وقد دفعهم إلى ذلك النجاح الكبير الذى حققته زينب فى طبعتها الثانية حتى إنها تحولت فى نفس العام إلى فيلم سينيمائى.
يتحدث بعد ذلك عن بقية الرواد مثل المازنى فى إبراهيم الكاتب، والحكيم فى عودة الروح، ويحى حقى فى قنديل أم هاشم، وطه حسين فى شجرة البؤس.
ثم يفرد حمدى السكوت حديثا عن نجيب محفوظ، فيشير إلى عدد من أعماله التى تعد من الكلاسيكيات مثل "زقاق المدق" و"بداية ونهاية" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" و"اللص والكلاب" و"الخريف" و"الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" و"ميرامار" و"ملحمة الحرافيش"، ويقول:
(( نظرة سريعة على هذه الأعمال تكشف أنها تضم الرواية الواقعية والرواية الطبيعية ورواية الأجيال والأبطال العبثيين أو الوجوديين والواقعية والسحرية وتستخدم تيار الشعور والقص بأصوات متعددة أو بطريقة الشهود، باختصار شديد، فإن أعمال نجيب محفوظ تختصر تاريخ الرواية العالمية الذى تحقق عبر نحو ثلاثة قرون، فى نحو ثلاثة عقود ))
ومع ذلك فأعمال نجيب محفوظ تمثل المذاهب العالمية المختلفة لا تقل فى مستواها عن أفضل ما كتبه أنصار تلك المذاهب فى الآداب الأخرى.(1/82)
ثم يخصص الحديث عن عملين من أعماله هما "الثلاثية" التى تمثل خير تمثيل أفضل ما كتبه نجيب محفوظ فى الأربعينات والخمسينات، و"ثرثرة فوق النيل" التى تمثل خير ما كتبه فى الستينيات.
ويتحدث عن جيل نجيب محفوظ مثل سلامة موسى وعبد الحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير وعادل كامل ومحمد عبد الحليم عبد الله، ثم بعد ذلك عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس وفتحى غانم، وبعد ذلك جيل الستينيات مثل إبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد وإدوار الخراط ومحمد جبريل وغيرهم. ويحلل اتجاهاتهم، ويعرض لبعض أعمالهم مثل "الزينى بركات" لجمال الغيطانى، و"اللجنة" لصنع الله إبراهيم، و"زهر الليمون" لعلاء الديب، و"أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم، و"خالتى صفية والدير" لبهاء طاهر.
وعلى المنوال نفسه يدرس الرواية فى المشرق العربى فى لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق والخليج واليمن والسودان والمغرب والجزائر وتونس وليبيا، وهم فى كل بلد يعرض لأهم روائييها، مع الإشارة إلى الأعمال المميزة لهم ، وبعض التعليقات السريعة التى تعطى انطباعات وافية عن حال الرواية فى هذا القطر، أو ذاك.
ثم تبدأ الببلوجرافيا بالروايات مرتبة أبجديا وما كتب حول كل رواية من نقد، وهو يعطى بياناتها الكاملة سواء حول الرواية، أو حول ما كتب عنها .
ويبلغ عدد الروايات التى جمعها حمدى السكوت فى الببلوجرافيا 4581 مع الإشارة إلى الدراسات التى كتبت عنها، وهذا العمل يستغرق جزأين من أجزاء الببلوجرافيا الخمسة، وهو يخصص الجزء الثالث للحديث عن النقد العام، فيبدأ بالنقد العام حول الروائيين.ثم يثنى بالنقد العام حول الرواية(1/83)
وتبدأ الفهارس فى النصف الثانى من الجزء الثالث، فيقدم أسماء الروايات مرتبة ترتيبا أبجديا، مع ذكر مؤلفها وتاريخ النشر ورقمها الذى أخذته قبل ذلك فى الجزأين الأول والثانى وفى الجزأين الرابع والخامس بقسم الرواية قطريا، فيخصص الجزء الرابع بأكمله لفهرسة الرواية المصرية مع الالتزام باسم الرواية ومؤلفها وتاريخ نشرها ورقمها، والجزء الخامس لبقية البلدان العربية.
والجهد الذى قام به حمدى السكوت جهد هائل استطاع من خلاله أن يقدم سجلا لكل الروايات العربية طيلة سبعين عاما، وأما إحصاؤه للدراسات النقدية حول الرواية والروائيين فقد شابه الكثير من النقص، لكن هذا لا ينفى الجهد المبذول فى الببليوجرافيا التى تعد عملا فريدا فى المكتبة العربية.
ثانيا الدوريات
تكثر الدوريات التى تعنى بالدرس اللغوى الأدبى سواء داخل الوطن العربى أو فى أوروبا حيث تكثر الجامعات التى تهتم بالاستشراق، وعلى الباحث أن يكون ملما بأهم الدوريات التى تصدر فى بلده أو فى البلدان التى يستطيع الحصول منها على ما يريد من دراسات، ولا شك أن شبكة الاتصالات العالمية (الإنترنت) توفر الآن مجالا مهما وسهلا للاطلاع على أحدث الإصدارات فى كثير من التخصصات المختلفة، وبخاصة أن كل دورية تعنى بأن يكون لها موقع على هذه الشبكة حتى يتيسر للآخرين الاطلاع عليها سواء مجانا أو من خلال أجر يتم الاتفاق عليه، وما تزال الدوريات فى مصر بعيدة عن هذا، لكن الوقت لن يمر طويلا حتى تنتبه هذه الدوريات إلى أهمية الوجود على شبكة (الإنترنت).
وفى مصر فإن أهم الدوريات التى تعنى باللغة والأدب هى:
? مجلة مجمع اللغة العربية.
? مجلات كلية الآداب.
? مجلة فصول فى النقد الأدبى.
? مجلة "إبداع".(1/84)
والمجلات الثلاث الأولى مجلات محكمة أى أن قواعد النشر بها تلزم بأن يقدم البحث المراد نشره بها إلى لجنة تحكيم، تقر البحث بالقبول أو التعديل أو الرفض، وتدفع مجلة فصول مكافأة على البحث المقدم لها، بينما تأخذ مجلات كلية الآداب مبلغا نظير النشر.
وفى خارج مصر فإن هناك مجلات الدارة السعودية، ومجلات جامعات الملك سعود، والملك عبد العزيز وجامعة الإمام، وكلها مجلات محكمة أيضا. وتصدر عن نادى جدة الأدبى مجموعة من الدوريات المتخصصة مثل:
? علامات التى تعنى بالدراسات الحديثة.
? جذور التى تعنى بالدراسات التى تتناول التراث.
? نوافذ وتهتم بالترجمة عن اللغات الأجنبية فى مجال اللغة والأدب.
وفى الكويت هناك دورية عالم الفكر، وكذلك مجلة جامعة الكويت للدراسات اللغوية والأدبية، وغير ذلك من المجلات والدوريات التى تنتشر فى أنحاء العالم العربى.
مصادر التراث الأساسية
مصادر التراث الأساسية
تنقسم مصادر التراث الأساسية إلى الفروع التالية بحسب أهميتها لدراسة اللغة والأدب:
1. مصادر أدبية وهذه تنقسم إلى
? موسوعات أدبية ومعاجم.
? كتب نقد الشعر والنثر.
? دواوين الشعراء والمجموعات الشعرية.
2. مصادر لغوية وتنقسم إلى
? معاجم لغوية عامة ومتخصصة.
? كتب النحو الأساسية- كتب قضايا اللغة والخلاف.
3. مصادر إسلامية
? كتب التفاسير.
? كتب الحديث النبوى.
? كتب التاريخ الإسلامى.
? كتب الفقه.
? كتب المذاهب الإسلامية.
1. المصادر الأدبية:
لعل أهم كتاب فى المصادر الأدبية هو كتاب الأغانى الذى يعد من أهم الموسوعات الأدبية فى تاريخ الأدب العربى، وهذا عرض موجز له:
أولاً مؤلفه:
هو أبو الفرج على بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموى الكاتب الأصبهانى.(1/85)
وقد ولد بأصبهان سنة 248 هـ، ونشأ بالكوفة وتعلم على يد شيوخها وقد كانت بيئة ماجنة لذلك تأثر بالجو فيها، ونسب إلى هؤلاء المجان الذين انتشروا هناك. درس الأدب واللغة والتاريخ، واهتم بما يجرى فى مجالس المغنيين والندماء فى قصور الخلفاء والوزراء والأمراء والأثرياء.
وعلى الرغم من أن هناك شكوكاً حول مذهبه العقائدى، فقد نسبه بعض الباحثين إلى الشيعة، لكن قياساً إلى حياته اللاهية، لا نستطيع أن نضعه فى درجة الشيعة الملتزمين بهذا المذهب، وبسب حياته العابثة، فقد تشكك بعض الباحثين أيضاً فى الطريقة التى يعرض بها رواياته فى كتاب الأغانى، فقالوا إنه يدلس فى رواياته.
ثانياً: الكتاب:-
الكتاب هو عرض للشعر والشعراء منذ العصر الجاهلى حتى القرن الرابع الهجرى، واحتوى على أغلب الشعراء المعروفين والمجهولين، وإن كان أهمل بعضهم لأسباب خاصة به، وقد بنى الأصفهانى كتابه على المائة صوت التى اختارها هارون الرشيد، وهذه الأصوات هى مجموعة الأغانى التى كان يتغنى بها إبراهيم الموصلى وغيره من المغنيين، وقد أمر باختيارها لتكون هى الدالة على حال الغناء العربى فى تلك الفترة، وهذه الأغانى هى أساساً أبيات من قصائد لشعراء عرب من العصور المختلفة. يقول أبو الفرج فى المجلد الأول من كتاب الأغانى عارضاً منهجه فى الكتاب.
ذكر المائة الصوت المختارة.
لجنة اختيار الأصوات:(1/86)
أخبرنا أبو أحمد يحيى بن على بن يحيى المنجم، قال حدثنى أبى قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلى أن أباه أخبره أن الرشيد رحمه الله عليه - أمر المغنيين، وهم يومئذ متوافرون، أن يختاروا له ثلاثة أصوات من جميع الغناء، فأجمعوا على ثلاثة أصوات أنا أذكرها بعد هذا، إن شاء الله، قال إسحاق: فجرى هذا الحديث يوماً، وأنا عند أمير المؤمنين الواثق، فأمرنى باختيار أصوات من الغناء القديم، فاخترت له من غناء أهل كل عصر ما اجتمع علماؤهم على براعته، وإحكام صنعته، ونسبته إلى من شدا به، ثم نظرت إلى ما أحدث الناس بعد ممن شاهدناه فى عصرنا، وقبيل ذلك فاجتبيت منه ما كان مشبهاً لما تقدم أو سالكاً طريقه، فذكرته ولم أنجسه ما يجب له، وإن كان قريب العهد، لأن الناس قد يتنازعون الصوت فى كل حين وزمان، وإن كان السبق للقدماء إلى كل إحسان.
وأخبرنى أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثنى هارون بن الحسن بن سهل، وأبو العنب بن حمدون وابن دقاق، وهو محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بابن دقاق، بهذا الخبر فزعم:-
أن الرشيد أمر هؤلاء المغنيين أن يختاروا له مائة صوت، فاختاروها ثم أمرهم باختيار عشرة منها، فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا منها ثلاثة ففعلوا، وذكر نحو ما ذكره يحيى بن على، ووافقه فى صوت من الثلاثة الأصوات، وخالفه فى صوتين، وذكر يحيى بن على بإسناده المذكور أن منها لحن معين فى شعر أبى قطيفة، وهو من خفيف الثقيل الأول.
- القصر فالنخل فالجماء بينهما أسهل إلى القلب من أبواب جيرون
ولحن ابن سريح فى شعر عمر بن أبى ربيعة ولحمه من الثقيل الثانى:
- تشكى الكميت الجرى لما جهرته وبين، لو يسطيع أن يتكلما
ولحن ابن مُحرز فى شعر نُصيب، وهو من الثقيل الثانى أيضاً.
- أهاج هواك المنزل المتقادم نعم، وبه فمن شجاك معالم.
وذكر جحظة عن ردى عنه أن من الثلاثة الأصوات لحن ابن محرز فى شعر المجنون وهو من الثقيل الثانى.(1/87)
- إذا ما طواك الدهر يا أم مالك فشأن المنايا القاضيات وشانيا
ولحن إبراهيم الموصلى فى شعر العربى، وهو من خفيف الثقيل الثانى.
- إلى جيداء قد بعثوا رسولاً ليحزنها فلا صُحب الرسول
ولحن ابن مُحرز فى شعر نُصيب، وهو على ما ذكر هزج.
- أهاج هواك المنزل المتقادم نعم، وبه من شجاك معالم.
وحكى عن أصحابه أن هذا الثلاثة الأصوات على هذه الطرائق لا تبقى نغمة فى الغناء إلا وهى فيها
نقد ورواية:
أخبرنى الحسن بن على الآدمى قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية، قال: حدثنا عبد الله بن أبى سعد الوراق قال حدثنى أبو توبة صالح بن محمد قال: حدثثنى محمد بن جبر المغنى قال: حدثنى إبراهيم بن المهدى:
إن الرشيد أمر المغنين أن يختاروا له أحسن صوت غنى فيه، فاختاروا له لحن ابن مُحرز فى شعر نُصيب:
أهاج هواك المنزل المتقادم.
قال: وفيه دور كبير، أى صنعة كثيرة، والذى ذكره أبو أحمد يحيى ابن على أصح عندى، ويدل على ذلك تباين ما بين الأصوات التى ذكرها، والأصوات الأخر فى جودة الصنعة وإتقانها وإحكام مباديها ومقاطعها وما فيها من العمل. وأن الأخرى ليست مثلها، ولا قريبة منها، وأخرى هى أن جحظة حكى عمن روى عنه أن فيها صوتاً لإبراهيم الموصلى، وهو أحد من كان اختار هذه الأصوات للرشيد، وكان معه فى اختيارها إسماعيل بن جامع، وفليح بن العوراء، وليس أحد منها دونه إن لم يفقه، فكيف يمكن أن يقال: إنهما ساعدا إبراهيم على اختيار لحن من صنعته فى ثلاثة أصوات اختيرت من سائر الأغانى، وفضلت عليها، ألم يكونا، لو فعلا ذلك، قد حكما لإبراهيم على أنفسهما بالتقدم والحذق والرياسة، وليس هو كذلك عندهما.(1/88)
ولقد أخبرنا يحيى بن على بن يحيى المنجم عن حماد بن إسحاق عن أبيه. أنه أتى أباه بن ميمون يوماً مسلماً، فقال له أبوه: يا بنى ما أعلم أحداً بلغ من بر ولده ما بلغته من برك أو إنى لأستغل ذلك لك، فهل من حاجة أصير فيها إلى محبتك، قلت : قد كان - جعلت فداء - كل ما ذكرت، فأطال الله لى بقاءك، ولكنى أسألك واحدة: يموت هذا الشيخ غداً، أو بعد غد ولم أسمعه، فيقول الناس لى: ماذا، وأنا أحل منك هذا المحل؟ قال لى ومن هو، قلت : ابن جامع، قال: صدقت يا بنى، أسرجوا لنا، فجئنا ابن جامع، قد دخل عليه أبى وأنا معه، فقال: يا أبا القاسم، قد جئتك فى حاجة فإن شئت فاشتمنى، وإن شئت فاقذفنى، غير أنه لابد لك من قضائها، هذا عبدك وابن أخيك إسحاق، قال لى كذا وكذا، فرحت معه أسألك أن تسعفه فيما سأل فقال: نعم، على شريطة: تقيمان عندى أطعمكما قوته وقليه، وأسقيكما من نبيذى التمرى، وأغنيكما، فإن جاءنا رسول الخليفة مضينا إليه، وإلا أقمنا يومنا، فقال أبى: السمع والطاعة، وأمر بالدواب فردت، فجاءنا ابن جامع بالمشوشة والقلية ونبيذه التمرى، فأكلنا وشربنا، ثم اندفع يغنى فنظرت إلى أبى، يقل فى عينى، ويعظم ابن جامع، حتى صار أبى فى عينى كلا شئ، فلما طربنا غاية الطرب، جاء رسول الخليفة، فركبا وركبت معهما، فلما كنا فى بعض الطريق، قال، قال لى أبى: كيف رأيت ابن جامع يا بنى؟ قلت له: أو تعفينى، جعلت فداك، قال : لست أعفيك فقل، فقلت له: رأيتك، ولا شئ أكبر عندى منك - قد صغرت عندى فى الغناء معه حتى صرت كلا شئ، ثم مضيا إلى الرشيد وانصرفت إلى منزلى، وذلك لأنى لم أكن بعد وصلت إلى الرشيد ، فلما أصبحت أرسل إلىًّ أبى، فقال: يا بنى، هذا الشتاء قد هجم عليك، وأنت تحتاج فيه إلى مؤنة، وإذا مال عظيم بين يديه، فاصرف هذا المال فى حوائجك، فقمت فقبلت يده ورأسه، وأمرت بحمل المال واتبعته، فصوت أبى، يا إسحاق أرجع، فرجعت، فقال لى: أتدرى لم وهبت لك هذا المال،(1/89)
قلت نعم، جعلت فداك، قال: لم؟ قلت: لصدقى فيك، وفى ابن جامع، قال : صدقت يا بنى، أمضى راشداً.
ولهما فى هذا الجنس أخبار كثيرة، تأتى فى غير هذا الموضع، متفرقة فى أماكن تحسن فيها، ويستغنى بما ذكرها هاهنا عنها، فإبراهيم يحل ابن جامع هذا المحل، مع ما كان بينهما من المنافسة، والمفاخرة، ثم يقدم على أن يختار فيما هو معه فيه، صوتاً لنفسه يكون مقدماً على سائر، الغناء، ويطابقه هو، وفليح عليه! هذا خطأ لا يتخيل، وعلى ما به فإنا نذكر الصوتين اللذين رويناهما عن جحظة المخالفين لرواية يحيى بن على بعد ذكرنا ما رواه يحيى، ثم نتبعهما باقى الاختيار فإن ذلك من رواية أبى الحسن على بن يحيى:
صوت
فيه لحنان
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيزون
إلى البلاط فما جازت قرائنه ... دور نزحت عن الفحشاء والهون
قد يكتم الناس أسراراً فأعلمها ... ولا ينالون، حتى الموت مكنونى.
عروضه من أول البسيط، والقصر الذى عناه ها هنا قصر سعيد بن العاصى بالعرصة، والنخل الذى عناه نخل كان لسعيد هناك بين قصره وبين الجماد، وهى أرض كانت له، فصار جميع ذلك لمعاوية بن أبى سفيان بعد وفاة سعيد، ابتاعه من ابنه عمرو باحتمال دينه عنه، وذلك خبر يذكر بعد، وأبواب جيرون بدمشق، ويروى حاذت قرائنه من المحاذاه، والقرائن: دور كانت لبنى سعيد بن العاص، متلاصقة سميت بذلك لاقترانها، وترض: بعدن، والنازح: البعيد، يقال: نزح نزوحا، والهون: الهوان.
قال الراجز:
لم يبتذل مثل كريم مكنون ... أبيض ماض كالسنان المسنون
كان يوقى نفسه من الهون
والمكنون: المستور الخفى، وهو مأخوذ من الكن، الشعر لأبى قطيفة المعيطى، والغناء لمعبد، وله فيه لحنان: أحدهما خفيف ثقيل أول بالوسطى فى مجراها من رواية إسحاق، وهو اللحن المختار، والآخر ثقيل أول بالوسطى، على مذهب إسحاق على رواية عمرو بن بانة.(1/90)
هذه هى الفقرة الاستهلالية فى كتاب الأغانى، وهى تحدد الإطار الذى سيتحرك فيه الأصفهانى فى بقية الكتاب، والفقرة لا تحدد منهجا متماسكا، ولا وجهة نظر فى أى موضوع، بل إن الأصفهانى كثيرا ما يختفى خلف سلسلة السند التى يوردها فى مقدمة كل رأى، بحيث لا نستطيع أن نحصل على رأى له فى الموضوع المطروح إلا بشق الأنفس.
لقد انطلق الأصفهانى من هذه الأصوات التى يتحدث عنها إلى ذكر الشعراء الذين أنشدوا القصائد المغناة، وبذلك كان الكتاب سجلا لتاريخ الشعر والشعراء حتى عصره، وقد توسع فيه الأصفهانى حتى تخطى هذه الأصوات المائة ليشمل أغلب الشعراء منذ العصر الجاهلى حتى القرن الرابع، وحين انتهى من كتابه أصبح الأغانى أضخم الموسوعات التى تؤرخ للشعر العربى، وأصبح كتابا يحوى تاريخ الحياة الاجتماعية العربية بدروبها وتشعباتها المختلفة، وقد استغنى به كثير من أثرياء العصر عن كتب المسامرات والحكايات التى يستمتع بها الناس، والاقتباس التالى يوضح الطريقة التى سلكها الأصفهانى فى ترجمته للشعراء، وهو اقتباس يتحدث فيه الأصفهانى عن نسب عمرو بن كلثوم وخبره، وهو من المجلد الحادى عشر:
نسب عمرو بن كلثوم وخبره
عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعيد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمى بن جلدية بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن بن عدنان. وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخى كليب، وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير.
أخبرنى محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنى العقلى بن العباس بن هشام عن أبيه عن خراش بن اسماعيل عن رجل من بنى تغلب، ثم من بنى عتاب قال: سمعت الأخذر- وكان نسابه يقول:
لما تزوج مهلهل بنت بعج بن عتبة، أهديت إليه، فولدت له ليلى بنت مهلهل، فقال مهلهل لامرأته هند: اقتليها، فأمرت خادما لها أن يغيبها عنها، فلما نام هتف به هاتف يقول:
كم من فتى يؤمل ... وسيد شمردل(1/91)
وعُدة لا تجهل ... فى بطن بنت مهلهل
واستيقظ فقال: يا هند أين بنتى؟قالت: قتلتها، قال: كلا وإله ربيعة. فكان أول من حلف بها فاصدقينى، فأخبرته، فقال: أحسنى غذاءها. فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب، فلما حملت بعمرو بن كلثوم قالت: إنه أتانى آت فى المنام فقال:
بالك ليلى من ولد ... يقدم إقدام الأسد
من جُسم فيه العدد ... أقول قيلاً لا فند
فولدت غلاما فسمته عمراً، فلما أتت عليه سنة قالت أتانى ذلك الأتى فى الليل أعرفه، فأشار إلى الصبى، وقال:
إنى زعيم لك أم عمرو ... بما جد الجد كريم النجر
أشجع من لبد هزبر ... وقاص أقران شديد الأسر
يسودهم فى خمسة وعشر
قال الأخذر: فكان كما قال ساد وهو ابن خمسة عشر، ومات وله مائة وخمسون سنة.
قصته مثله لعمرو بن هند
قال أبو عمرو حدثنى أسد بن عمر الحنفى، وكرد بن السمعى وغيرهما، وقال ابن الكلبى حدثنى أبى وشرقى بن القطامى، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة. أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمى؟ فقالوا نعم، أم عمرو بن كلثوم، قال: ولم؟، قالوا لأن أبيها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب،(1/92)
وابنها عمرو وهو سيد قومه، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن يزير أمه أمه، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة فى جماعة من تغلب، وأقبلت ليلى بنت مهلهل فى ظعن من بنى تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه، فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا فى وجوه بنى تغلب فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند فى رواقه، ودخلت ليلى وهند فى جانب من الرواق، وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر الشاعر، وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخى فاطمة بنت ربيعة التى هى أم امرئ القيس، وبينهما هذا النسب وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحى الخدم إذا دعا بالطُرف وتستخدم ليلى، فدعى عمرو بمائدة، ثم دعا بالطرف، فقالت هند ناولينى يا ليلى ذلك الطبق، فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: واذلاه، يالتغلب، فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم فى وجهه، ونظر إليه عمرو بن هند، فعرف الشر فى وجهه، فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب به رأس عمرو ابن هند ،ونادى فى بنى تغلب، فانتهبوا ما فى الرواق، وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة، ففى ذلك يقول عمر بن كلثوم:
ألا هبِّى بصحنك فاصبحينا
تعظيم تغلب لقصيدته المعلقة:-
وكان قام بها خطيبا بسوق عكاظ، وقام بها فى موسم مكة، وبنو تغلب تعظمها جدا، ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هُجوا بذلك، قال بعض شعراء بكر بن وائل:
ألهى بنى تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا ما كان أولهم ... يالرجال لشعر غير مشئوم
فخر شعراء تغلب بقتله عمرو بن هند:
وقال الفرزدق يرد على جرير فى هجائه الأخطل.
ما ضر تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمراً وهم قسطوا على النعمان
وقال أفنون صريم التغلبى يفخر بفعل عمرو بن كلثوم فى قصيدة له:(1/93)
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مسلطا ... فأمسك من ندمائه بالمخنق
وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذى شطب صافى الحديدة رونق
معجم الأدباء
والمصدر الثانى المهم فى الموسوعات الأدبية هو معجم الأدباء الذى ألفه ياقوت الحموى فى القرن السابع الهجرى، وقد جمع فيه تراجم لكثير من الكتاب الذين كانت صناعتهم النثر. وقد قام بتحقيقه ونشره المستشرق الإنجليزى دافيد صمويل مرجليوث سنة سبع وتسعمائة بعد الألف، ويقول عن أسلوب تحقيقه أنه لم يستطع تحقيق الكتاب بمفرده، فهو عمل لا يستطيع فرد وحده أن يقوم به، وقد ساعده فى ذلك ورثة المستشرق الإنجليزى هاملتون حب الذين تطوعوا بالمساعدة فى طبع الكتاب، وقد أكد مارجليوث أن الكتاب لا توجد له إلا نسخة واحدة مخطوطة هى التى اعتمد عليا فى التحقيق، وقد بين ما فى هذه النسخة من أغلاط، لكنه لم يشأ أن يتدخل بالتصحيح، فاكتفى بالتعليق على هذه الأغلاط فى هامش الكتاب، واستعان على ذلك بالنسخ المطبوعة من الكتب والمؤلفات التى نقل عنها ياقوت، وقد وعد بأن يضع فهرسا كاملا لهذه الكتب فى نهاية الكتاب، وقد أخرج مارجليوث معجم الأدباء فى عشرين جزءا، ثم أعاد طباعته مرة أخرى سنة اثنين وعشرين وتسعمائة بعد الألف.
المؤلف
هو عبد الله ياقوت بن عبد الله الروحى الجنى، الحموى المولد، البغدادى الدار الملقب بشهاب الدين.(1/94)
أسر من بلاده صغيرا، وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر بن أبى نصر إبراهيم الحموى، وجعله فى الكتاب لينتفع به فى ضبط تجارته، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط ولا يعرف شيئا سوى التجارة، وكان ساكنا ببغداد وتزوج بها، وأولد عدة أولاد، ولما كبر ياقوت قرأ شيئا من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار فى متاجره، فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحى، ويعود إلى الشام، ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة، أوجبت عتقه، فأبعده عنه، وذلك فى سنة ست وتسعين وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصل بالمطالعة فوائد، ثم إن مولاه بعد مدة ألوى عليه، وأعطاه شيئا وسفره إلى كيش، ولما عاد كان مولاه قد مات، فحصل شيئا مما كان فى يده، وأعطى أولاد زوجته ومولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها، وجعل بعض تجارته كتبا، وكان متعصبا على على بن أبى طالب - رضي الله عنه - ، وكان قد طالع شيئا من كتب الخوارج، فاشتبك فى ذهنه منه طرف قوى، وتوجه إلى دمشق سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقعد فى بعض أسواقها وناظر بعض من يتعصب لعلى - رضي الله عنه - وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره عليا - رضي الله عنه - بما لا يسوغ، فثار الناس عليه ثورة، وكادوا يقتلونه، فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزما، بعد أن بلغت القضية والى البلد، فطلبه فلم يقدر عليه، ووصل إلى حلب خائفا يترقب، وخرج عنها فى جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشر وستمائة، ثم إلى الموصل، ثم انتقل إلى إربد وسلك منها إلى خراسان وتحامى دخول بغداد لأن المناظر له كان بغداديا، وخشى أن ينقل قوله فيقتل، فلما انتهى إلى خراسان، أقام بها يتجر فى بلادها، واستوطن مدينة مرو مدة، وخرج عنها إلى نسا ومضى إلى خوارزم، وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر، وذلك فى سنة ستة عشر وستمائة، فانهزم بنفسه كبعثه يوم الحشر من رومة، وقاسى فى طريقه من المضايقة والتعب، ما كان يكل عن شرحه إذا ذكره، ووصل إلى الموصل، وقد تقطعت به(1/95)
الأسباب، وأعوزه فى المأكل وخشن الثياب، وأقام بالموصل مدة مديدة، ثم انتقل إلى سنجار، وارتحل منها إلى حلب، وأقام فى ظاهرها فى الخان إلى أن مات فى رمضان سنة ستة وعشرين وستمائة، وكانت ولادة ياقوت فى سنة أربع أو خمس وسبعين وخمسمائة ببلاد الروم.
منهج الكتاب
يبدأ ياقوت الكتاب بديباجة يحمد فيها الله ذى القدرة القاهرة والآيات الباهرة، ويصلى على خير الأولين والآخرين من النبيين والصديقين محمد النبى والرسول الأمى ذى الشرف العلى.
ثم يتحدث بعد ذلك عن سبب تأليفه الكتاب فيقول:"وبعد فمازلت منذ غذيت بغرام الأدب، والتهمت حب العلم والطلب، مشغوفا بأخبار العلماء متطلعا إلى أنباء الأدباء أسائل عن أحوالهم، وأبحث عن نكت أقوالهم بحث المغرم الصب، والمحب عن الحب، وأطوف على مصنف فيهم يشفى العليل، ويداوى لوعة الغليل، فما وجدت فى ذلك تصنيفا شافيا ولا تأليفا كافيا."
وينتقل إلى الدراسات السابقة عليه فيقول:"مع أن جماعة من الأدباء الأئمة القدماء أصحاب كتب التراجم أعطوا ذلك نصيبا من عنايتهم ، فلم يكن عن صبح الكفاية سافرا"، ويذكر من كتبوا فى الموضوع نفسه ناقدا لهم باختصار، من ذلك ما كتبه أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخى الذى يقول عنه: "أروى أنه أول من أعارهم وسود فى تبييض أخبارهم صحفه، لأنه قال فى مقدمة كتابه: وقد اجتهد أبو العباس محمد مؤيد الأزدى، وأبو العباس أحمد بن يحى الشيبانى فى مثل ما أودعناه كتابنا من أخبار النحويين، فما تعادلا طرا، هذا مع أن كتابه صغير الحجم، قليل التراجم، محشو بالنوادر التى رواها، لا يختص بأخبارهم أنفسهم، ثم ألف بعده فى هذا الأسلوب أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه كتابا لم يقع إلينا إلا أننا نظنه كذلك.(1/96)
ثم صنف فيه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزبانى كتابا ثقيلا كبيرا على عادته فى تصانيفه إلا أنه حشّاه بما رووه، وملأه بما وعوه، فينبغى أن يسمى منه النحويين، وقد وقفت على هذا الكتاب، وهو تسعة عشر مجلدا، ونقلت فوائده إلى هذا الكتاب، مع أنه أيضا قليل التراجم بالنسبة إلى كبر حجمه.
ثم ألف فيه أبو سعيد الحسن بن عبد الله المزران السيرافى القاضى كتابا صغيرا فى نحاة البصرة، نقلنا أيضا فوائده إلى هذا الكتاب.
ويستمر فى عرض الكتب السابقة التى ألفت فى موضوعه ناقدا لها باختصار ثم ينتقل إلى الحديث عن خطته فى الكتاب يقول: "وكنت مع ذلك أقول للنفس مماطلا، وللهمة مناضلا رب غيث غب البارقة ومغيث تحت الخافقة،إلى أن غلب اليأس الطمع واستولى الجد على اللعب الولع ،وعلمت أنه طريق لم يسلك، ونفيس لم يملك، فاستخرت الله الكريم واستنجدت بحوله العظيم وجمعت هذا الكتاب ما وقع إلى من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب، المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعنية ، وكل من صنف فى الأدب تصنيفا أو جمع فى فنه تأليفا، مع إيثار الوفيات تبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم، ومستحسن أخبارهم، بأنسابهم، وشئ من أ شعارهم فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد له من أخباره وحقائق أموره، ما لا أترك لك بعده تشوفا إلى شئ من أخباره، وأما من تقدم زمانه وبعد أوانه فأورد، من خبره ما أدت الاستطاعة إليه، ووقفنى النقل عليه فى تردادى إلى البلاد، ومماطلتي للعباد، وحذفت الأسانيد إلا ما قل رجاله وقرب مناله مع الاستطاعة لإثباتها سماعا وإجازة، إلا أننى قصدت صغر الحجم وكبر النفع، أثبت مواضع نقلى، ومواطن أخذى من كتب العلماء المعول فى هذا الشأن عليهم، والمرجوع فى صحة النقل إليهم.(1/97)
وكنت قد شرعت عند شروعى فى هذا الكتاب أو قبله فى جمع كتاب فى أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، ونسجتها على هذا المنوال، وسبكتها على هذا المثال فى الترتيب والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين والكبراء المتصدرين لا تخلوا قراءتهم من نظم شعر وسبك نثر. فأودعت ذلك الكتاب كل من غلب عليه الشعر فدون ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشأنه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها، وأما من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف وصحت روايته وشاعت درايته، وقل شعره وكثر نثره، فهذا الكتاب عشه ووكره، وفيه يكون ثناؤه وذكره، واجتزئ به عن التكرار هناك إلا النفر اليسير الذى دعت الضرورة إليهم، ودلتنا غايتهم بالصناعتين عليهم، ففى هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء من العلماء والشعراء، وقصدت بترك التكرار، خفة محملة فى الأسفار وحيازة ما أهواه من هذا المشوار.(1/98)
وجعلت ترتيبه على حروف المعجم أذكر أولا من أول اسمه (ألف) ثم من أول اسمه (باء)، ثم(تاء)، ثم (ثاء)، إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك فى أول حرف من الاسم وثانيه وثالثه ورابعه، فأبدأ بذكر من اسمه (آدم) ألا ترى أن أول اسمه (همزة) ثم (ألف) ثم من اسمه (إبراهيم) لأن أول اسمه (ألف) وبعد الألف (باء) ثم كذلك إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك فى الأدباء أيضا، فاعتبره، فإنك إذا أردت الاسم تجد له موضعا واحدا لا يتقدم عليه، ولا يتأخر عنه، اللهم إلا أن يتفق أسماء عدة رجال وأسماء آبائهم، فإن ذلك مما لا حصر له إلا بالوفاة فإنى أقدم من تقدمت وفاته على من تأخرت، فى آخر كل حرف مفصلا أذكر فيه من اشتهر بلقبه على ذلك الحرف، من غير أن أورد شيئا من أخباره فيه، إنما أدل على اسمه واسم أبيه لتطلبه فى موضعه، ولم أقصد أدباء قطر ولا علماء عصر، ولا إقليم معين، ولا بلد مبين، بل جمعت للبصريين والكوفيين، والخرسانيين والحجازيين، واليمنيين المصريين، والشاميين والمغربيين، وغيرهم على اختلاف البلدان، وتفاوت الأزمان حسب ما اقتضاه الترتيب وحكم بوضعه التبويب، لا على قدر أقدارهم فى القدمة والعلم والتأخير والفهم، وابتدأته بفصل يتضمن أخبار قوم من متخلفى النحويين والمتقدمين المجهولين. ويتحدث ياقوت بعد ذلك عن الأدباء فيقول عنهم "وبعد فهذه أخبار قوم عنهم أخذ علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يُعرف الحلال من الحرام.(1/99)
كما يتحدث عن شرف العلم الذى يتحلى به هؤلاء الأدباء فيقول: "وحسبك من شرف هذا العلم، أن كل علم على الإطلاق مفتقر إلى معرفته، محتاج إلى استعماله فى محاورته، و صاحبه فغير مفتقر إلى غيره. وغير محتاج إلى الاعتقاد والاعتماد على سواه، فإن العلم إنما هو باللسان، فإذا كان اللسان معوجا فمتى يستقيم ما هو به. وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن فضل الأدب وأهله، وذم الجهل وحمله من خلال عشرات الروايات التراثية. ثم يختم مقدمته بإفراد فصل فى فضيلة علم الأخبار
نماذج من ترجمة لإحدى شخصيات الأدباء
1- آدم بن أحمد بن أسد الهروى
أبو سعد النحوى اللغوى، حاذق مناظر، ذكره الحافظ أبو سعد السمعانى، فقال: "هو من أهل هراة، سكن بلخ، كان أديبا فاضلا عالما بأصول اللغة صائبا، حسن السيرة، قدم بغداد حاجا سنة عشرين وخمسمائة، ومات فى الخامس والعشرين من شوال من سنة ستة وثلاثين وخمسمائة، ولما ورد بغداد واجتمع إليه أهل العلم، قرءوا عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين الشيخ أبى منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقى ببغداد مناظرة فى شئ اختلفا فيه، فقال له الهروى: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك فإن الجواليقى نسبه إلى الجمع بلفظة لا تصح، قال: وهذا الذى ذكره الهروى نوع مغالطة، فإن لفظ الجمع إذا سمى به جاز أن ينسب إليه بلفظة كمدائنى ومعاوى وأنمارى وما أشبه ذلك.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا الاعتذار ليس بالقوى، لان الجواليق ليس باسم رجل فيصح ما ذكره، وإنما هو نسبة إلى بائع ذلك والله أعلم، فإن كان اسم رجل أو قبيلة أو موضع نسب إليه صح ما ذكره، وقال الحافظ الإمام السمعانى: "سمعت أبا القاسم الطريفى يقول: سمعت أبا سعد الهروى المؤدب يقول: سئل سفيان الثورى عن التقوى فأنشد:
إنى وجدت فلا تظنوا غيره ... هذا الثورى عند ذاك الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم أن هناك تقوى المسلم(1/100)
وكان الرشيد محمد بن عبد الجليل الملقب بالوطواط كاتب الإنشاء الخوارزم شاه من تلاميذ الشيخ أبى سعد آدم بن أحمد الهروى، وانتقل الرشيد من بلخ إلى خوارزم وأقام بها فى خدمة خوارزم شاه أشهرا، وكان يكاتب الشيخ أبا سعد ويخضع له ويقر بفضله. فمما كتب إليه رسالة نسختها.
كتابى وفى الأحشاء وجد على وجد ... إلى الصدر مولانا الأجل أبى سعد
أشم طويل الباع أصبح رافقا ... إلى قمة الأفلاك ألوية المجد
سراة بنى الإسلام عقد جواهر ... وفيهم أبو سعد كواسطة العقد
سقى الله أيامنا بالعقيق، ودهورنا باللوى، وأعوامنا بالخليصاء، وشهورنا بالحمى، فإن هذه المعانى لألفاظ المسرات كالمعانى فيها أثمار أطايب الأمانى من أشجار وصال الغوانى، لا بل سقى مواقفنا ببلخ فى المدرسة النظامية، واجتماعنا فى المجالس الأجلية الإمامية.
مجالس مولانا أبى سعد الذى ... به سعد الأيام والدين والدنيا
همام حدى يوم الفخار بنانه ... على الرغم أناف العدا قصب العليا
الإمام أبو سعد وما أدراك ما الإمام أبو سعد، سعد كله، خير قوله وفعله، صاحب جيوش الفصاحة، ومالك رقاب البلاغة، وناظم عقد المحامد، وجامع شمل المكارم، وناشر أردية الفضل والكرم، وعامر أبنية الأدب والحكم:-
لله در إمام كله أدب ... بفضله يتحلى العجم والأدب
ج
الله يعلم أنى وإن شط المزار، وشطحت الديار، لا أقطع أكثر أوقاتى، ولا أزجى أغلب ساعاتى، إلا فى مدح معاليه، وشرح أياديه، لو أنفقت جميع عمرى فى ذلك وسلكت طول دهرى تلك المسالك:-
لما كنت أقضى بعض واجب حقه ... ولا كنت أحصى من صنائعه عُشراً
وكيف لا أبالغ فى ثنائه، ولا أواظب على دعائه، وهو الذى رفع قدرى، وشرح للآداب صدرى، وسقانى كؤوس العلم وأحشائى خاوية، وكسانى حلل الفضل وعوراتى بادية، اغترفت من بحاره واقتطفت ما اقتطف من ثماره:
وأنت الذى عرفتنى طرق العلا ... وأنت الذى هديتنى كل مقصد
وأنت الذى بلغتنى كل رتبة ... مشيت إليها فوق أعناق حسدى
ج(1/101)
عن مجلسه الشريف أخى عمر -أيده الله- ورد من خرسان ذاكرا لما جرى على لسانه الكريم فى المجالس والمحافل بين أيدى الأكابر والأماثل، من مدحى وثنائى وتقريظى وإطرائى فما استبدعت ذلك من خصائص كرمه، ولا استفريته من لطائف شيمه، وكانت كلماته حامله إياى على هذا التصريع لمجلسه الرفيع ورأيه فى سحب ذيل العفو على هذا التجاسر تبليغ تحيتى إلى القارئين عليه والمختلفين إليه من أبناء جنسى، وشركاء درسى يقتضى الشرف والسلام.
2- أبان بن تغلب بن رباح الجريرى.
أبو سعيد البكرى، مولى بنى جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن على بن بكر بن وائل، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى فى مصنف الإمامية، ومات أبان فى سنة إحدى وأربعين ومائة.
قال أبو جعفر: هو ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة فى أصحابنا، لقى أبا محمد على بن الحسين، وأبا جعفر، وأبا عبد الله عليهم السلام، وروى عنهم، وكانت له عندهم حظوة، وقدم، قال له أبو جعفر: اجلس فى مسجد المدينة وأفت الناس، فإنى أحب أن أرى فى شيعتى مثلك، وقال أبو عبد الله -لما أتاه نعيه- أما والله لقد أوجع قلبى موت أبان.
قال: وكان قارئا فقيها لغويا نبيها ثبتا وسمع من العرب، وحكى عنهم، وصنف كتاب الغريب فى القرآن، وذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدى الكونى، فجمع من كتاب أمان ومحمد بن السائب الكلبى، وابن ردق عطية بن الحارث فجعله كتابا، فيما اختلفوا فيه، وما اتفقوا عليه، فتارة يجئ كتاب أبان مفردا، وتارة يجئ مشتركا، على ما عمله عبد الرحمن، والإبان أيضا كتاب الفضائل.
3- أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا.(1/102)
اللؤلؤى يعرف بالأحمر البجلى، أبو عبدس الله مولاهم، ذكره أبو جعفر الطوس فى كتاب أخبار مصنفى الإمامية، وقال أصله الكوفة، وكان يسكنها تارة، والبصرة أخرى، وقد أخذ عنه من أهل البصرة أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن سلام الجمحى، وأكثر الحكاية عنه فى أخبار الشعراء والنسب والأيام: روى عن أبى الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ والبحث المغازى، والوفاة والسقينة والردة.
5- إبراهيم بن أحمد بن الليث.
الأزدى اللغوى الكاتب، لا أعرف من حاله إلا ما قاله السلفى، أنشدنى أبو القاسم الحسن بن الفتح الهمزانى قال: أبو المظفر إبراهيم بن أحمد ابن الليث الأزدى اللغوى الكاتب -قدم علينا همذان، وقد حضر مجلسه الأدباء والنحاة لمحله من الأدب:
وقد أغدو وصاحبتى محوص ... على عذراء ناء بها الرهيص
كأن ثنى النحوص على ذراها ... حوائم ما لها عنه محيص
جامع البيان فى تفسير القرآن: لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى
ويعرف فى المصادر الإسلامية باسم مختصر هو "تفسير الطبرى" وهو يعد فى طليعة كتب التفسير التى انتهجت أسلوب التفسير بالمأثور، وقد توفى الطبرى عام 310هـ أى أنه كتب تفسيره فى فترة مبكرة من اهتمام المسلمين بالتأليف المنظم فى تفسير القرآن، ولا يسبقه فى ذلك إلا عدد محدود من كتب التفسير، مثل التفسير المنسوب إلى ابن عباس.(1/103)
وهو يبدأ تفسيره بمقدمة يعرض فيها لكثير من القضايا المتصلة بتفسير القرآن. بعد الديباجة التى يحمد فيها الله سبحانه وتعالى ويصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عن غرضه من التفسير، يقول:"اعلموا عباد الله رحمكم الله أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت فى معرفته الغاية ما كان لله فى العلم به رضا، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدى، وإن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذى لا ريب فيه، وتنزيله الذى لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر، وسنى الأجر تاليه، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونحن فى شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه منشئون إن شاء الله ذلك كتباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعاً، ومن سائر الكتب عدة فى ذلك كافياً، ومخبرون فى كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه الأمة، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك بأوجز ما أمكن من الإيجاز فى ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه".(1/104)
ثم يتحدث عن (القول فى البيان عن اتفاق معانى آى القرآن، ومعانى منطق من نزل بلسانه من وجه البيان أو الدلالة على أن ذلك من الله عز وجل هو الحكمة البالغة مع الإبانة عن فضل المعنى الذى به باين القرآن سائر الكلام) يبين أهمية البيان فيقول إن من عظيم نعم الله على عباده وجسيم مننه على خلقه ما منحهم من فضل البيان الذى به عن ضمائر صدورهم يبينون، وبه على عزائم نفوسهم يدلون، فذلل به منهم اللسان وسهل به عليهم المستصعبة فيه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون فيتعرفون ويتعاملون. ثم ينتقل إلى درجات أهل البيان، فيتحدث أولاً عن الناس أنفسهم ودرجات التفاضل بين أهل البيان وغيرهم، فيقول إن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه، فإذا كان ذلك كذلك، وكان المعنى الذى به باين الفاضل المفضول فى ذلك فصار به فاضلاً والآخر مفضولاً هو ما وصفنا من فضل إبانة ذى البيان عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الأقدار متفاوت الغايات والنهايات. فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة أبلغه فى حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه، فإن تجاوز ذلك المقدار، وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتى بمثله جميع العباد كان حجة وعلماً لرسل الواحد القهار، كما كان حجة وعلماً لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوى العمى بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين، وأرفع مراتب علاج المعالجين إلى ما يعجز عن جميع العالمين، وكالذى كان لها حجة وعلم قطع مسافة شهرين فى الليلة الواحدة بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين ولليسير منه فاعلين.(1/105)
فإن كان ما وصفنا من ذلك كالذى وصفنا مثبتين أن لا بيان أبين ولا حكمة أبلغ ولا منطق أعلى ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوماً فى زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيل الشعر والفصاحة والسجع والكهانة كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح، وكل ذى سجع وكهانة، فسفه أحلامهم وقصر عقولهم وتبرأ من دينهم ودعا جميعهم إلى اتباعه والقول فيه والتصديق به، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم، وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته، وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان والحكمة والفرقان بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معانى منطقهم، ثم أنبأهم جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة، ومن القدرة عليه نقصه، فأقر جميعهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص إلا من تجاهل منهم وتعامى واستكبر وتغاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً، ومن عى لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق والجاهل الأحمق فقال"والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً واللاقمات لقماً" ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة، فإذا كان تفاضل مراتب البيان وتباين منازل درجات الكلام بما وصفنا قبل، وكان الله تعالى ذكره، وتقدست أسماؤه أحكم الحكماء، وأحلم الحلماء، كان معلوما أن أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه، وأن قدر فضل بيانه جل ذكره على بيان جميع خلقه كفضله على جميع عباده.(1/106)
ثم ينتقل إلى (القول فى البيان عن الأحرف التى اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم، فيقول: إن سألنا سائل فقال: إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله أحدا من خلقه إلا بما يفهمه، وأن يرسل إليه رسالة إلا باللسان الذى يفقهه، فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازى قال حدثنا حكام بن سلم قال حدثنا عتبة عن أبى أسحق الأحوص عن أبى موسى، يؤتكم كفلين من رحمته قال كفلان ضعفان من الأجر بلسان الحبشة، وفيما حدثكم به ابن حميد قال حدثنا حكام عن عتبة عن أبى أسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن ناشئة الليل قال بلسان الحبشة إذا قام الرجل من الليل قالوا أنشأ، ويستمر فى عرض الألفاظ القرآنية المأخوذة عن غير لغة العرب مثل أوس وقسورة وسجيل ويقول أن هذا يدل على أن الكتاب فيه من غير لسان العرب، وعلى هذه الحجة فيقول: إن الذى قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا من أجل أنهم لم يقولوا هذه الأحرف وما أشبهها لم يكتب للعرب كاملا، ولا كان ذلك لها منطقا قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفة قبل مجئ الفرقان، فيكون ذلك قولا لقولنا خلافا، إنما قال بعضهم حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا أو حرف كذا بلسان العجم معناه كذا، ولم يستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد، فكيف بجنسين منها كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدرة والقلم والقرطاس، وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه ويمل تعداده كرهنا إطالة الكتاب بذكره مما اتفقت فيه الفارسية باللفظ والمعنى، ولعل ذلك كذلك فى سائر الألسن التى يجهل منطقها ولا يعلم كلامها.(1/107)
فلو أن قائلا قال فيما ذكرنا من الأشياء التى عددنا وأخبرنا اتفاقه فى اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية وما أشبه ذلكما سكتنا عن ذكره، ذلك كله فارسى لا عربى، أو ذلك كله عربى لا فارسى، أو قال كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال كان مخرج أصله من عند الفرس، فوقع إلى العرب فأعربته، كان مستجهلا، لأن العرب ليست بأولى أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العجم ولا العجم بأحق أن تكون كان مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، وإذا كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنى واحد موجودا فى الجنسين، وإن كان ذلك موجودا على ما وصفنا فى الجنسين، فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر، والمدعى أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر مدع أمراً لا يوصل إلى حقيقة صحته، إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشك، ويقطع العذر بصحته، بل الصواب فى ذلك عندنا أن يسمى عربيا أعجميا، أو حبشيا عربيا إذا كانت الأمتان له مستعملتين فى بيانها ومنطقها استعمال سائر منطقها وبيانها، فليس غير ذلك من كلام كل أمة منها بأولى أن يكون إليها منسوبا منه، فذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت أجناس أمم فيها ومعناها، ووجد ذلك مستعملا فى كل جنس منها سبيل سبيل ما وصفنا من الدرهم والدينار والدواة والقلم التى اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد فى أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس باجتماع واقتران.(1/108)
ويستمر الطبرى فى النقاش حول هذا الموضوع، ثم ينتقل بعد ذلك إلى (القول فى اللغة التى نزل بها القرآن من لغات العرب) يقول: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعموا أنه منه ما ليس بلسان العرب ولغتها فنقول الآن إذا كان ذلك صحيحا فى الدلالة عليه، بأى ألسن العرب أنزل، بألسن جميعها أم بألسن بعضها، وإذا كانت العرب، وإن جمع جميعها اسم أنها عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان متباينوا المنطق والكلام، وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله جل ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيا، وأنه أنزل بلسان عربى مبين، ثم كان ظاهره محتملا خصوصا وعموما، لم يكن لنا السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلا ببيان من جعل إليه القرآن، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/109)
فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه - صلى الله عليه وسلم - بما حدثنا به خلاد بن اسلم، قال حدثنا أنس بن عياض عن أبى حازم عن أبى سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء فى القرآن كفر ثلاث مرات، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه، وحدثنى عبيد بن أسباط بن محمد قائل: حدثنا أبى عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسور الله - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن على سبعة أحرف عليم حكيم غفور رحيم. ويناقش الطبرى معنى الحروف السبعة وبعض الروايات المنقولة عن الصحابة عن اختلافاتهم فى قراءة القرآن، وإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الاختلافات، ويعرض الطبرى نماذج قليلة من هذه الاختلافات، ثم ينتقل إلى توحيد القراءات عن طريق جمع القرآن فى مصحف واحد فى عهد أبى بكر وعمر، ثم عثمان بن عفان الذى أمر بحرق كل النسخ المكتوبة من القرآن الكريم ما عدا النسخة التى كتبت لديه من أجل القضاء على الاختلافات التى ظهرت، والتى كانت تؤدى إلى مشاحنات تصل فى بعض الأحيان إلى درجة التكفير.(1/110)
وبعد هذا الجدل الطويل الذى يستغرق جزءا كبيرا من مقدمة التفسير ينتقل الطبرى إلى ( القول فى الوجوه التى من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن) يقول: قد قلنا فى الدلالة على أن القرآن كله عربى، وأنه نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التى هى بين أظهرهم ببعض الألسن التى نزل بها القرآن دون جميعها، وقلنا فى البيان عما يحويه القرآن من النور والبرهان والحكمة والبيان التى أودعها الله إياه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ومحكمه ومتشابهه لطائف جمة ما فيه الكفاية عن وفق لفهمه، ونحن قائلون: فى البيان عن مطالب تأويله. ويلخص الطبرى ثلاث درجات تبين من خلالها تأويل ما أنزل الله من القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فأول هذه الدرجات ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره واجبه وندبه وإرشاده وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه، وحدوده ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من احكام آيه التى لم يدرك عملها إلا ببيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأن منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه الخبر عن آجال حادثة وأوقات آتية كوقت قيام الساعة والنفخ فى الصور ونزول عيسى بن مريم، وما أشبه ذلك فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها.(1/111)
وأن منه ما يعلم تأويله كل ذى علم باللسان الذى نزل به القرآن وذلك إقامة إعرابه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوف بصفاتها الخاصة دون سواها فإن ذلك لا يجهله أحد منهم لو سمع تاليا يتلو: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغى تركه مما هو مضرة، وأن الإصلاح هو ما ينبغى فعله مما فعله منفعة.
ثم يتحدث عن بعض الأخبار التى رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى ويذكر من هذه الأخبار. حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعى قال: حدثنا شريك عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:من قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الأعلى هو بن عامر التغلبى عن سعيد بن جبير عن بن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال فى القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار، ويعرض لكثير من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، التى تدور حول هذا المعنى، ويعلق عليها بقوله "وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحة ما قلنا من أن ما كان من تأويل آى القرآن الذى لا يدرك علمه إلا بنص بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بنصية الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل فى ذلك برأيه وإن أصاب الحق فيه فمخطئ فيما كان من فعله بقيله فيه برأيه، لأن إصابته ليست إصابة مؤمن وأنه محق، وإنما إصابة خارص وظان. والقائل فى دين الله بالظن قائل على الله ما لم يعلم، وقد حرم الله جل ثناؤه فى كتابه على عباده، فقال: "إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغى بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولا على الله ما لا تعلمون".(1/112)
ثم يذكر بعض الأخبار التى رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن، ويذكر بعض الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه التفسير، ومن كان منهم مذموما علمه بذلك، ثم ينتقل إلى القول فى تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه، فيرى أن للقرآن ثلاثة أسماء هى: القرآن والفرقان والكتاب، ويذكر المعانى المختلفة لكل كلمة. كما يذكر معنى كلمة سورة وآية.
ويبدأ بعد ذلك تفسيرا من سورة الفاتحة، فيتحدث عن القول فى تأويل أسماء فاتحة الكتاب، والاستعاذة والمعنى الشامل لكل كلمة فيها. وكذلك معنى "بسم الله الرحمن الرحيم" وهذا جزء من تفسير الطبرى لفاتحة الكتاب نتبين من خلاله منهجه فى التفسير:
القول فى تفسير الفاتحة
قال أبو جعفر معنى (الحمد لله) الشكر الخالص لله جل ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه ودون كل ما يرى من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التى لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد فى تصحيح الآلات لطاعتهن وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم فى دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود فى دار المقام فى النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وأخرا، وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكرهن وتقدست أسماؤه الحمد لله رجاء رجاء الخبر عن ابن عباس وغيره، حدثنا عثمان بن سعيد قال: حدثنا بشر بن عمارة قال: حدثنا أبو روق عن الضحاك عن بن عباس قال: قال جبريل لمحمد قل يا محمد الحمد لله قال بن عباس: الحمد لله هو الشكر والاستخذاء لله والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك.(1/113)
وحدثنى سعيد بن عمرو السكونى قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنى عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبى حبيب عن الحكم بن عمير، وكانت له صحبة قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله زادك، قال: وقد قيل إن قول القائل الحمد لله ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه، وقد روى عن كعب الأحبار أنه قال: الحمد لله ثناء على الله، ولم يبين فى الرواية عنه من أى معنى الثناء الذى ذكرنا ذلك، حدثنا يوسف بن عبد الأعلى الصرفى قال: أنبأنا وهب قال: حدثنى عمرو بن محمد عن سهيل ابن أبى صالح عن أبيه قال: أخبرنى السلولى عن كعب قال: من قال الحمد لله فذلك ثناء على الله.(1/114)
وحدثنا على بن الحسين الخراز قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الحرمى قال: حدثنا محمد بن مصعب الفرقسانى عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأسود بن الأسودين سريع أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس شئ أحب إليه الحمد من الله تعالى، لذلك أثنى على نفسه فقال الحمد لله، قال أبو جعفر ولا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل الحمد لله شكرا بالصحة، فقد تبين إذا كان ذلك عند جميعهم صحيحا أن الحمد لله قد ينطق به فى موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا، فيخرج من قول القائل الحمد لله مصدر أشكر، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه، فإن قال لنا قائل؛ وما وجه إدخال الألف واللام فى الحمد وهلا قيل حمد الله رب العالمين، قيل إن لدخول الألف واللام فى الحمد معنى لا يؤديه قول القائل حمدا بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما فى الحمد مبنى على أن معناه جميع المحامد، والشكر الكامل لله ولو أسقطتا منه ما دل إلا على أن حمد قائل ذلك لله دون المحامد كلها، وإذا كان معنى قول القائل حمد الله أو حمدا لله أحمد الله حمدا، وليس التأويل فى قول القائل الحمد لله رب العالمين تاليا سورة أم القرآن أحمد الله، بل التأويل فى ذلك ما وصفناه قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه، بما أنعم به عليهم من النعم التى لا كفاء لها فى الدين والدنيا، والعاجل والآجل، ولذلك من المعنى تتابعت قراءة القراء وعلماء الأمة على رفع الحمد من الحمد لله رب العالمين دون نصبها الذى يؤدى إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك أحمد الله حمدا، ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب لكان عندى محيلها معناه، ومستحقا لعقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله، فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله الحمد لله أحمد الله(1/115)
نفسه جل ثناؤه، فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك، كما قال: ووصف به نفسه، فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا إياك نعبد وإياك نستعين، وهو عز ذكره معبود لا عابد أم ذلك من قبل جبريل أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما، قيل: بل كله كلام الله جل ثناؤه،ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل ثم علم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته اختبارا منه لهم وابتلاء، فقال لهم: قولوا الحمد لله رب العالمين، وقولوا إياك نعبد وإياك نستعين، فقوله إياك نعبد مما علمهم جل ذكره أن يقولوه، ويدينوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله الحمد لله رب العالمين، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا، فإن قال وأين قوله قولوا، فيكون تأويل ذلك ما ادعيت، قيل قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكانة الكلمة، ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التى حذفت قولا أو تأويل قول، كما قال الشاعر:
وأعلم أننى سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم وزير
قال أبو جعفر يريد بذلك، فقال المخبرون لهم الميت وزيرا، فأسقت الميت، إذا كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك، وكذلك قول الآخر:
ورأيت زوجك فى الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا(1/116)
وقد علم أن الرمح لا يتقلد، وأنه إنما أراد، وحاملا رمحا، ولكن لما كان معناه اكتفى، بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه، وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه مصابحا معافى ويحذفون سر واخرج، إذا كان معلوما معناه، وإن أسقط ذكره، فكذلك ما حذف من قوله تعالى ذكره: "الحمد لله رب العالمين، لما علم بقوله جل وعز إياك نعبد ما أراد بقوله الحمد لله رب العالمين من معنى أمر عباده أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف، وقد روينا الخبر الذى قدمنا ذكره مبتدأ فى تنزيل قول الله الحمد لله رب العالمين عن بن عباس، أنه كان يقول: أن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد الحمد لله رب العالمين، وبيننا أن جبريل إنما علم محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أمر بتعليمه إياه وهذا الخبر ينبئ عن صحة ناقلنا فى تأويل ذلك.
الكتاب لسيبويه
المؤلف:
هو عمرو بن عثمان بن قنبر، وبعضهم يختذل نسبه فيقول: عمرو بن قنبر، وهو فارسى الأصل، وينتمى بالولاء إلى الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وأما لقبه، فقد سار مسير الشمس، وعرف به منذ قديم الزمان، لم يلقب به أحد قبله هو سيبويه، وبعض العلماء الأقدمين يزعم أن الاسم من (س) الفارسية، ومعناه ثلاثونُ (بوى) أو (بويه) أى الرائحة، ومعناها الثلاثون رائحة، أى ذو الثلاثين رائحة، وهذا الزعم سليم من الناحية اللغوية الفارسية، ولكن غير مطرد فيما نعهد من الأعلام القديمة المماثلة المختومة بويه.(1/117)
ولد سيبويه بالبيضاء، وهى أكبر مدينة فى كورة اسطخر بفارس، ويقال إن مولده ومسقط رأسه كان بالأهواز، ثم هاجر أهله إلى البصرة، فنشأ بها، وطلب العلم بها، فكان الحديث والفقه من أول ما يدرس العلماء، فأعجبه ذلك، وصحب الفقهاء وأهل الحديث، وكان يشتمل الحديث على حماد بن سلمة، قال القفطى (وكان شديد الأخذ فبينما هو يستملى قول النبى صلى الله عليه وسلم (ليس من أصحابى إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء) فقال سيبويه (ليس أبو الدرداء) وظنه اسم ليس، فقال حماد: لحنت سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت أو إنما (ليس) ها هنا استثناء فقال : لا جرم، سأطلب علما لا تلحننى فيه، فلزم الخليل فبرع، وخبراً أخر يرويه حماد بن سلمة أنه جاء إليه سيبويه مع قوم يكتبون شيئاً من الحديث، قال حماد: فكان مما أمليت ذكر الصفا، فقلت (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا،كان هو الذى يشتمل، فقال : صعدا النبى صلى الله عليه وسلم الصفاء، فقلت: يا فارسى لا تقل الصفاء، لأن الصفا اسم مقصور، فلما فرغ من مجلسه كسر القلم، وقال: لا أكتب شيئاً حتى أحكم العربية.
ولعل هاتين الحادثتين المثيرتين مع حوادث أخرى هى التى حدت بسيبويه إلى العناية الشديدة بتعلم النحو.
شيوخ سيبويه:(1/118)
من أهم شيوخه حماد بن سلمة بن دينار البصرى، ولعله أول من أخذ عنه العلم، لم يكن بالبصرة قرين له فى الفضل والدين والنسك، والقمع لأهل البدع، والأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد، أو الخطاب مولى بنى قيس ثعلبه، وكان ديناً ورعاً ثقة من أئمة اللغة والنحو، وله ألفاظ لغوية انفرد بها نقلها عن العرب، وكان قد لقى الأعراب، وأخذ عنهم، وعن أبى عمرو بن العلاء وطبقته وأخذ عنه سيبويه اللغة شيئاً من النحو، وروى عنه فى كتابه نحو 47 مرة، ويعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبى إسحاق الحضرمى البصرى القارئ، وكان أعلم الناس فى زمانه بالقراءات والعربية، وله قراءة مشهورة هى إحدى القراءات العشر.
لم يكن لسيبويه تلاميذ كثيرون، فلم يعرف التاريخ إلا ثلاثة منهم، وقلة هؤلاء التلاميذ ناجمة عما يذكرون من أنه كانت فى لسانه حبسة.
قصد سيبويه إلى بغداد فى خلافة الرشيد، وسأل يحيى أن تجمع بينه وبين الكسائى شيخ الكوفيين، فنصحه يحيى ألا يفعل، فأبى سيبويه إلا أن يفعل، واجتمع بالكسائى فلقيه قبله أصحاب الكسائى، ومنهم الأحمر وهشام والفراء، فناظروه وساءلوه قبل أن يلقى الكسائى، كأنما فعلوا ذلك ليخضدوا شوكته قبل لقائه الكسائى، ثم واجه الكسائى وناظره فى المسألة المعروفة، وهو المسألة الزنبورية (كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هى، أو فإذا هو إياها).
ويذكرون أن سيبويه أخفق فى هذه المناظرة إخفاقاً مبلغ الظن أن الكوفيين افتعلوه، إذ لم يكن إخفاقاً علمياً، وإنما هو إخفاق مظاهرة علمية ليس لها وجه من الحق أو لها وجه من الحق كوفى يخالف وجه الحق البصرى.
ومهما يكن من شئ، فإن يحيى البرمكى قد حفظ لسيبويه مقامه أخرا، كما حفظه له أولاً، فأجازه بعد تلك المناظرة بعشرة آلاف درهم من تلقاء نفسه، بإيعاز من الكسائى كما تذكر كتب التراجم.(1/119)
ولكن سيبويه مع ذلك لم تطب له الإقامة ببغداد، فرأى أن يفارقها إلى الأهواز فيقال إنه سأل عمن بذل من الملوك ويرغب فى النحو، فقيل له: طلحة بن طاهر فاعتزم الخروج إليه، فيقول بعضهم: إنه عرج على البصرة قبل الخروج إليه، ويقول آخرون: إنه مضى إليه قدما، وآخر: إنه دخل شاطئ البصرة ووجه يطلب الأخفش تلميذه، فجاءه فقص عليه ما جرى بينه وبين الكسائى، ثم استودعه الله، وسار إلى طلبه بالأهواز التى يقال إنها كانت مسقط رأسه، فمات بها، وقيل إنه مات بشيراز، وخبره به، ويختلف المؤرخون فى تاريخ وفاته اختلافاً شديداً، وأرجح الأقوال أنه توفى سنة 180 هـ.
الكتاب:
عرف كتاب سيبويه من قديم الدهر إلى يومنا هذا باسم الكتاب، أو كتاب سيبويه، ومن المقطوع به تاريخياً أن سيبويه لم يسمه باسم معين، على حين كان العلماء فى دهره، ومن قبل دهره يضعون لكتبه أسماء، ولقد سماه الناس قديماً (قرآنا النحو) ومن طريف ما يروى أن أحد نحاة الأندلس، كان يختم الكتاب لسيبويه فى كل خمسة عشر يوماً، كأنما يتلوه تلاوة القرآن، ولقد بلغ من إعجاب أبى عمر الجرمى أنه كان يقول (أنا منذ ثلاثين سنة أفتى الناس فى الفقه من كتاب سيبويه).
وقد ألفه سيبويه بعد موت الخليل (ت 160هـ) الذى انتفع بعلمه انتفاعاً ظاهراً كما انتفع بعلم شيوخه الذين سبق الكلام عليهم، وهذا يعنى أن كتاب سيبويه إنما هو لقاح جهود النجاة الذين سبقوه، إذ لا يعقل أن يبتدع سيبويه هذا العلم المتكامل دون أن يفيد من تلك الجهود الأصيلة التى رسمت كثيراً من أصول النحو ومسائله ومقاييسه وعلله.(1/120)
ولا ريب أن أسلوب الكتاب فيه كثير من الغموض، وفى ذلك يقول ان كيسان (نظرنا فى كتاب سيبويه فوجدناه فى الموضع الذى يستحققه، ووجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح، لأنه كتاب ألف فى زمان كا ن أهله يألفون مثل هذه الألفاظ، فاختصر على مذاهبهم) وأمر أخر يواجه قارئه فى عصورنا هذه، فإن مصطلحاته الجزئية وكثيراً من عبارته النحوية قد تغيرت، وأصبحت الكتب المتأخرة الموضوعة فى النحو ذات طابع أسلوبى يباين طابع سيبويه، بل من بعد سيبويه من علماء النحو بعهد طويل.
كما أن لسيبويه عباراته الخاصة التى تحتاج إلى الإلف والممارسة، فمن ذلك ما جاء فى حاشية الشهاب على تفسير البيضاوى عند الكلام على (معائش) وتخطئة النحو بين لها قال وأما قول سيبويه رحمه الله أنها غلط، فإنها عنى أنها خارجة عن القياس، أو هو كثيراً ما يستعمل الغلط فى كتابه بهذا المعنى).
كما أن عنواناته لأبواب النحو ومسائله تحتاج إلى كثير من التفهم والنظر، ولكن هذا ليس بمستعصى على الإلف والممارسة، ومن أمثلة ذلك (هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذى يفعله به) ومعناه (هذا باب التنازع) كما ترجم باب الاشتغال فيه (هذا باب ما يكون فيه الاسم متبايناً على الفعل قدم أو أخر، وما يكون الفعل فيه مبنيا عل الاسم).
والكتاب يحتوى على ألف وخمسين شاهداً شعرياً حقق الجرمى أسماء ألف من قائليها وأما الخمسون فلم يعرف أسماء قائليها، وأثبتها، وأما الخمسون فلم يعرف أسماء قائليها، لكن البغدادى يقول فى خزانة الأدب عن الشواهد المجهولة القائل إذا أوردها عالم ثقة كسيبويه، ويؤخذ من هذا أن الشاهد المجهول قائله وتتمته إن صدر من ثقة يعتمد على مثله، وإلا فلا، ولهذا كان أبيات سيبويه أصح الشواهد اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبياتاً عديدة جهل قائلوها وما عيب بها ناقلوها.(1/121)
وقد شرح الكتاب كله العديد دمن القدماء، كما شرح بعضهم مشكلاته أو نكته وأبنيته، وشرح آخرون شواهده، واختصره البعض، أو اختصروا شروحه، وألف آخرون فى الاعتراض عليه، أو ردوا على تلك الاعتراضات.
أما صاحب الفضل الأكبر فى إحياء هذا الكتاب فهو الأستاذ المستشرق الفرنسى مرتويج درنبرج أستاذ اللغة العربية الفصحى بالمدرسة الخاصة اللغات الشرقية فى باريس، وقد طبعه وكتب فى عنوان هذه الطبعة (كتاب سيبويه المشهور فى النحو واسمه الكتاب، وقد اعتنى بتصحيحه العبد الفقر إلى رحمة ربه هو تويج درنبرج طبع فى مدينة باريس المحروسة بالمطب العامى الأشرف فى سنة 1881 المسيحية.
ثم طبع مرة ثانية فى كلكتا سنة 1887، أما الطبعة الثالثة فكانت هى الترجمة الألمانية الكاملة لنص الكتاب. والطبعة الرابعة فى مطبعة بولاق (1989 - 1900) وقد أشرف على طبعها خادم التصحيح بالمطبعة الأميرية (محمود مصطفى).
أما الطبعة المحققة تحقيقا علمياً وافياً من الكتاب، فقام بها الأستاذ عبد السلام هارون ونشرت لأول مرة سنة 1966م.وهي التي نقلنا عنها المعلومات السابقة .
وهذا نموذج من كتاب سيبويه
هذا باب علم ما الكلم من العربية
فالكلم: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل.
فالاسم: رجل وفرس وحائط.
وأما الفعل: فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع.
فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومكث وحُمد، وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً: اذهب واقتل واضرب، ومخبراً: يقتل ويذهب ويضرب ويُقتل ويُضرب، وكذلك بناء ما لم ينقطع، وهو كائن إذا أخبرت.
فهذه الأمثلة التى أخذت من لفظ أحداث الأسماء، ولها أبنية كثيرة ستبين إن شاء الله.
والأحداث نحو الضرب والحمد والقتل.
وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل فنحو: ثم، وسوف، واو القسم، ولام الإضافة، ونحوها.(1/122)
ولدخول اللام، قال الله جل ثناؤه "إن ربك ليحكم بينهم" أى لحاكم. ولما لحقها من السبق وسوف، كما لحقت الاسم والألف واللام للمعرفة.
وأما الفتح والكسر والضم والوقف، فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعلها مما جاء لمعنى.
فالفتح فى الأسماء قولهم: حيثَ، وأين وكيف، والكسر فيها نحو: أولاء وحذار وبداد، والضم نحو: حيثُ وقبلُ وبعدُ، والوقف نحو: من وكم وقط وإذ والفتح من الأفعال التى لم تجر مجرى المضارعة قولهم: ضرب، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه فعل، ولم يسكنوا أخر فعل، لأن فيها بعض ما فى المضارعة، تقول: هذا رجل ضربنا، فتصف بها النكرة، وتكون فى موضع ضارب، إذا قلت: هذا رجل ضارب. وتقول: إن فعل فعلت فيكون فى معنى إن يفعل أفعل، فهى فعل كما أن المضارع فعل، وقد وقعت بوقعها فى إن، ووقعت موقع الأسماء فى الوصف كما تقع المضارعة فى الوصف، فلم يسكنوا من الأسماء ما ضارع المتمكن، ولا ما صير من المتمكن فى موضع بمنزلة غير المتمكن، فالمضارع: من علُ، حركوه لأنهم قد يقولوه من علٍ فيجرونه، وأما المتمكن الذى جُعل بمنزلة غير المتمكن فى موضع، فقولك ابدأ بهذا أولُ، ويا حَكَمُ.
والوقف قولهم: اضرب فى الأمر، لم يحركوها لأنها لا يوصف بها، ولا تقع موقع المضارعة، فبعدت من المضارعة بعد كم وإذ من المتمكنة، وكذلك كل بناء من الفعل كان معناه افعل.
والفتح فى الحروف التى ليست إلا لمعنى، وليست بأسماء ولا أفعال، قولهم، سوف، وثم، والكسر فيها قولهم فى باء الإضافة ولامها: بزيد ولزيد.
والضم فيها: منذ، منمن جرَّ بها، لأنها بمنزلة من فى الأيام.
والوقف فيها قولهم: من، وهل، وبل، وجد.
ولا ضم فى الفعل، لأنه لم يجئ ثالث سوى المضارع، وعلى هذين المعنيين بناء كل فعل بعد المضارع.(1/123)
واعلم أنك إذا ثنيت الواحد لحقته زيادتان: الأول منهما حرف المد واللين، وهو حرف الإعراب غير متحرك ولا منون، يكون فى الرفع ألفاً، ولم يكن واواً ليفصل بين التثنية والجمع الذى على حد التثنية، ويكون فى الجر ياء مفتوحاً ما قبلها، ولم يكسر ليفصل بين التثنية والجمع الذى على حد التثنية، ويكون فى النصب كذلك، ولم يلحقوا النصب ألفاً ليكون مثله فى الجمع، وكان مع ذا أن يكون تابعاً لما الجر فيه أولى، لأن الجر للاسم لا يجاوزه، والرفع قد ينتقل إلى الفعل، فكان هذا أغلب وأقوى، وتكون الزيادة الثانية نوناً كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين، وهل النون وحركتها الكسر، وذلك قولك: هما الرجلان، ورأيت الرجلين، ومررت بالرجلين. وإذا جمعت على حد التثنية لحقتها زائدتان، الأولى منهما حرف المد واللين، والثانية نون، وحال الأولى فى السكون وترك التنوين، وأنها حرف الإعراب، حال الأولى فى التثنية إلا أنها واو مضموم ما قبلها فى الرفع، وفى الجر والنصب ياء مكسور ما قبلها، وكونها مفتوحة، فرقوا بينها وبين نون الاثنين كما أن حرف اللين الذى هو حرف الأعراب مختلف منهما، وذلك قولك: المسلمون، ورأيت المسلمين ومررت بالمسلمين، ومن ثم جعلوا تاء الجمع فى الجر والنصب مكسورة، لأنهم جعلوا التاء التى هى حرف الإعراب، كالواو والياء والتنوين بمنزلة النون لأنها فى التأنيث نظيره الواو والياء فى التذكير فأجروها مجراها.(1/124)
وأعلم أن التثنية إذ لحقت الأفعال المضارعة علامة للفاعلين لحقتها ألف ونون، ولم تكن الألف حرف الإعراب، لأنك لم ترد أن تثنى بفعل. هذا البناء فتضم إليه بفعل آخر، ولكنك إنما ألحقته هذا علامة للفعالين، ولم تكن منونة، ولا تلزمها الحركة لأنها يدركها الجزم والسكون، فتكون الأولى حرف الإعراب، والثانية كما تنوين فكما كانت حالها فى الواحد غير حال الاسم، وفى التثنية لم تكن بمنزلته، فجعلوا إعرابه فى الرفع ثبات النون لتكون له فى التثنية علامة للرفع كما كان فى الواحد إذ منع حرف الإعراب.
وجعلوا النون مكسورة كحالها فى الاسم ولم يجعلوها حرف الإعراب إذ كانت متحركة لا تثبت فى الجزم، ولم يكونوا ليحذفوا الألف لأنها علامة الإضمار والتثنية فى قول من قال: أكلونى البراغيث، وبمنزلة التاء فى قتل وقالت، فأثبتوها فى الرفع، وحذفوها فى الجزم، كما حذفوا الحركة فى الواحد، ووافق النصب الجزم فى الحذف كما وافق النصب الجر فى الأسماء، لأن الجزم فى الأفعال نظير الجر فى الأسماء، والأسماء ليس لها فى الجزم نصيب، كما أنه ليس للفعل فى الجر نصيب، وذلك قولك: هما يفعلان، ولم يفعلا، ولن يفعلا.
وكذلك إذا لحقت الأفعال علامة للجمع لحقتها زائدتان، إلا أن الأولى واو مضموم ما قبلها لئلا يكون الجمع كالتثنية، ونونها مفتوحة بمنزلتها فى الأسماء، كما فعلت ذلك فى التثنية، لأنها وقعنا فى التثنية والجمع ههنا، كما أنها فى الأسماء كذلك، وهو قولك: هم يفعلون، ولم يفعلوا، ولن يفعلوا.
وكذلك إذا ألحقت التأنيث فى المخاطبة، إلا أن الأولى ياء، وتفتح النون لأن الزيادة التى قبلها بمنزلة الزيادة التى فى الجمع، وهى تكون فى الأسماء فى الجر والنصب، وذلك قولك: أنت تفعلين، ولم تفعلى، ولن تفعلى.(1/125)
وإذا أردت جمع المؤنث فى الفعل المضارع ألحقت للعلامة نوناً، وكانت علامة الإضمار والجمع فيمن قال أكلونى بالبراغيث، وأسكنت ما كان فى الواحد حرف الإعراب كما فعلت ذلك فى فعل حين قلت: فعلت وفعلن، فأسكن هذا ههنا، بنى على هذه العلاقة، كما أسكن فعل، لأنه فعل، كما أنه فعل وهو متحرك كما أنه متحرك، فليس هذا بابعد فيها - إذا كانت هى وفعل شيئاً واحداً من يفعل إذ جازلهم فيها الإعراب حين ضارعت الأسماء، وليست باسم، وذلك قولك: هن يفعلن، ولن يفعلن، ولم يفعلن، وتفتحها لأنها نون جمع، ولا تحذف لأنها علاقة إضمار وجمع فما قول من قال: أكلونى البراغيث، فالنون ههنا فى يفعلن بمنزلتها فى فعلن. وفعل للام يفعل ما فعل الام فعل لما ذكرت لك، ولأنها قد تبنى مع ذلك على النتيجة فى قولك: هل تفعلن. وألزموا لام فعل السكون، وبنوها على العلاقة وحذفوا لما زادوا، لأنها فى الواحد ليست فى آخرها حرف إعراب لما ذكرت لك. واعلم أن بعض الكلام أثقل من بعض، فالأفعال أثقل من الأسماء، لأن الأسماء هى الأولى، وهى أشد تمكنا، فمن ثم لم يلحقها تنوين ولحقها الجزم والسكون، وإنما هى من الأسماء، ألا ترى أن الفعل لا بد له من الاسم، وإلا لم يكن كلاماً، والاسم قد يستغنى عن الفعل، تقول: الله إلهنا، وعبد الله أخونا.
واعلم أن ما ضارع الفعل من الأسماء فى الكلام ووافقه فى البناء أجرى لفظه مجرى ما يستثقلون، ومنعوه ما يكون لما يسخفون، وذلك نحو أبيض وأسود وأحمر وأصفر، فهذا بناء أذهب واعلم، فيكون فى موضع الجر مفتوحاً، استثنوه حين قارب فى الكلام أو وافق فى البناء.
الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة، لأبى الحسن على بن بسام الشنترينى (542)(1/126)
يعد كتاب الذخيرة من أهم الكتب التى تناولت تاريخ الأندلس حتى بدايات القرن السادس ، وقد قام بتحقيقه د. إحسان عباس، بعد أن قامت لجنة من المحققين، ولجنة من المشرفين بتحقيق القسم الأول من الكتاب الذى ظهر فى مجلدين بين عامى 1939 - 1942م، ثم ظهر فى سنة 1945م قطعة من القسم الرابع بعد ذلك توقفت اللجنة المضطلعة بتحقيق الكتاب عن متابعة عملها. ولقد رأى ابن بسام فى الأندلس حشداً كبيراً من الكتاب والشعراء الذين هم فرسان فى البيان، وأئمة فى الكلام، لعبوا بأطراف الكلام المشتق، لعب الدجى بجنون المورق وحدوا بفنون السحر المنمق حداء الأعشى ببنات المحلق، فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى، والأصائل بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسى اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح.
بيد أن المؤرخين من أهل الأندلس لم يهتموا إلا بمتابعة أهل الشرق، يكتبون على منوالهم، ويهتمون بالموضوعات والأشخاص التى يهتم بها المشرقيون، فهذا ابن عبد ربه الأندلسى عندما ألف كتابه عن العقد الفريد، لم يورد إلا القليل من أخبار الأندلس، وكانت كل أخباره مشرقية، دفعت الصاحب بن عباد، وهو من أهل الشرق عندما أطلع على الكتاب أن يقول" هذه بضاعتنا ردت إلينا"،على حين أهمل الأندلسيون فى كتابات أهل الأندلس أنفسهم، فلم تظهر لهم أخبار، ولم يعرف لهم تاريخ مكتوب إلا القليل، ويمكن تدبير ذلك بأن عرب الأندلس، هم أصلاً من الشرق الذين جاءوا إلى هذه البلاد فاتحين، فهم دائماً مشدودون إلى أصولهم الشرقية يتنسمون أخبارهم ويتطلعون إلى محاكاتهم، ويقلدونهم فى أسلوب معيشتهم، حتى خلافاتهم وتعصباتهم العرقية والمذهبية نقلوها جميعاً إلى الأندلس.(1/127)
لكن الأندلسيين بعد عدة قرون شعروا أنهم تمايزوا عن الشرقيين، وأن لهم تاريخاً أخذاً فى التكوين، تاريخ له رجاله وكتابه وشعراؤه وطابعه المستقل، وأحداثه المنفصلة، وأن هذا التاريخ يجب أن يدون وتشتهر أخباره، وينتشر الشعر والنثر الذى قيل فى أثناءه مثلما حدث لأهل الشرق، وهذا هو ما حدا بابن بسام لتأليف هذا الكتاب، فقد أراد له أن يكون مصدراً من مصادر التاريخ الأندلسى، مصدر يجمع الحادثة التاريخية مع الشعر والنثر، يقول ابن باسم "وقد أودعت هذا الديوان الذى سميته بكتاب "الذخيرة فى محاسن أهل هذه الجزيرة" من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم، ما هو أحلى من مناجاة الأحبة بين التمنع والرغبة، وأشهى من معاطاة العقار على نغمات المثالث والأزاير الأن أهل هذه الجزيرة قد كانوا رؤساء خطابة، ورؤوس شعر وكتابه، تدفقوا فأنسوا البحور وأشرقوا فبادروا الشموس، والبدور، وذهب كلامهم بين رقة الهراء، وجزالة الصخرة الصماء. ولم يعتمد ابن بسام على مصادر قبله، يأخذ منها مادة كتابه، فكثيرا مما ذكرهم فى كتابه لم يجد له أخباراً مكتوبة ولا أشعاراً مجموعة، وإنما بحث كثيراً حتى اهتدى إلى هذه الأخبار، وحتى ضمن كتابه من أخبار أهل هذا الأفق (ما على سارى به على أسهل الشرق).
وبرغم كثرة الأشعار التى ضمنها فى كتابه، فإنه يقول "وهذا الديوان - يعنى كتابه - إنما هو لسان منظوم منثور، لا ميدان بيان وتفسير، أورد الأخبار والأشعار، لا أفك معما ها فى شئ من لفظها ولا معناها، لكن ربما ألممت بعض القول، بين ذكر أجريه، ووجه عذر أريه، لا سيما أنواع البديع ذى المحاسن الذى هو قيم، الأشعار وقوامها وبه يعرف تفاضلها وبيانها.(1/128)
ورأيه فى الشعر سيئ، فأكثره خدعة محتال وخلعه مختال، حده تمويه وتخبل معزله توليه وتضليل، وحقائق العلوم أولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم، يقول "ومع أن الشعر لم أرضه مركبا، ولا اتخذه مكسبا، ولا ألفته مثوى، ولا متقلبا إنما زرته لماما، ولمجته تهمما لا اهتماما رغبة بعز نفسى عن ذلة، وترفيعا لموطئ أخمض عن مملة، فإذا شعشعت راحة، وأبت أقداحه، لم أذقه إلا شميماً، ولا كنت إلا على الحديث نديما.
وقد قسم ابن بسام الكتاب أربعة أقسام:
الأول: لأهل حضرة قرطبة، وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس ويشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء، وأعاين الكتاب والشعراء على جماعة، ويذكر ما يزيد عن أربعين أسماً من كبار الأسماء التى استوطنت قرطبة، ووسط الأندلس وصنعت تاريخها من هذه الأسماء: المستعين بالله أبو أيوب سليمان بن الحاكم، وحربه مع المهدى ابن عمه المستظهر بالله أبو المظرف عبد الرحمن بن عبد الجبار الناصرى فقتله، الأديب أبو عمر أ؛مد بن دراج القسطلى الفقيه أبو محمد بن حزم الشافعى، الوزير أبو عامر أحمد بن الملك بن شهيد، الوزير أبو الوليد بن عبدوس" وذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون وإمارة المستكفى، وخبر ولادة. والأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء.
القسم الثانى: لأهل الجانب الغربى من الأندلس، ذكر أهل حضرة أشبيلية، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومى، وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء جملة موفورة، يذكر منهم القاضى أبو القاسم بن عباد، والمعتصم بالله بن عباد، والوزير الفقيه أبو حفص الهوزنى، والأديب أبو الوليد الملقب بالحبيب، والوزير الكاتب أبو عمرو والباجى، والفقيه الأديب أبو الحسن بن الإستجى، والوزير الخطيب الاديب أبو عمرو بن حجاج.(1/129)
القسم الثالث: ذكر فيه أهل الجانب الشرقى من الأندلس، ومن نجم من كواكب العصر فى أفق ذلك الثغر الأعلى، إلى منتهى كلمة الإسلام هناك، وفيه من القصص وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء طوائف، ويذكر منهم مجاهد ومبارك ومظفر من فتيان ابن أبى عامر، والوزير الكاتب أبو عبد الرحمن بن طاهر، وذا الوزارتين أبو عامر بن الفرج، وذا الوزارتين القائد أبو عيسى بن لبون، والوزير الكاتب أبو محمد بن عبد البر، والوزير الكاتب أبو عامر التاكرنى، أو الوزير الكاتب أبو المطرف بن الربانح، والأديب أبو الربيع بن مهران السرقطى، والأديب أبو عبد الله إدريس بن اليمانى، والوزير الكاتب أبو الأصبح بن أرقم، والوزير الكاتب أبو المطرف بن مثنى.
أما القسم الرابع: فقد أفرده لمن طرأ على هذه الجزيرة فى المدة المؤرخة من أديب شاعر، وأدى إلى ظلها من كتاب ماهر، واتسع فيها مجاله وحفظت فى ملوكها أقواله، ووصل بها ذكر طرائفه من مشهورى أهل تلك الآفاق، فمن نجم فى عصرنا بأفريقيا والشام والعراق، من هؤلاء أبو محمد بن حمد يس الصقلى الشريف المرتضى، مهيار الدليمى، أبو منصور الثعالبى وأبو إسحاق الحصرى.
منهجه:
خطة ابن بسام أن يبدأ بذكر الملوك، ثم من تعلق بسلطانهم، أو دخل فى شئ من شأنهم، أو من له من الرياسة، أو يدعو إلى تقديمه بعض السياسة، ثم يذكر الكتاب إذ هم صدور فى أهل الأدب، ثم الوزراء ثم أعيان الشعراء، ثم طوائف من المعلن منهم، وقد كان حرا فى عرضه، فلم يلتزم بنظام ثابت فى أثناء عرضه لكل شخصية، فإذا مر معنى غريب، وتعلق به خبر مشهور، وأمكثنه فيه شعر كثير، مد فيه وأطال فى عرضه وقد يذكر الشاعر الخامل والشعر الساقط لغرض يتعلق به، أو لخبر يذكره بسبب، وقد يذكر الرجل وشعره لنباهة ذكره لا لجودة شعره.(1/130)
ويغلب على أسلوب بن بسام السجع خاصة فى المقدمة التى كتبها، يقول: "وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامل الذكاء بين دهر متلون تلون الحرباء، لانتباذ من كان من شنن قاصية الغرب، فعلول الغرب مروع السرب.
نموذج من الكتاب
(فصل فى ذى الوزارتين: الكاتب بن الوليد بن زيدون
واجتلاب عيون من أخباره، وفصوص من رسائله وأشعاره)
قال أبو الحسن: كان أبو الوليد صاحب منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جرا، وفات الأنام طرا، وصرف السلطان نفعا وضرا، ووسع البيان نظما ونثرا، إلى أدب ليس للبحر فيه تدفقه، ولا للبدر تألقه، وشعر ليس للسحر بيانه ولا للنجوم الزهر اقترانه، وخطير النثر غريب المبانى، شعرى الألفاظ والمعانى.
حدثنى غير واحد من وزراء أشبيلية قال: لما خلف بن عبد البر من يد عباد خلوص الفرزذق بن زياد، لقيت حضرته من أهل هذا الشأن أعرى من ظهر الأفعوان، وأخلى من صدر الجبان، فهم يوما باستخلاف أبى عمر الباجى المشهور بأمره، الآتى فى القسم الثانى من هذا الكتاب ذكره، فكان أبا الوليد غص بذلك، وواطأ أبا محمد بن الجد على الإشارة بالاستغناء عما هنالك، فكانت الكتب تنفذ من إنشاء أبى الوليد إلى شرق الأندلس، فيقال: تأتى كتب من أشبيلية هى بالمنظوم أشبه فيها بالمنثور.
قرأت فى كتاب أبى مروان بن حيان، وقد أجرى من اصطنع ابن جهور من رجال دولته فقال: ونوه أيضا بغنى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف والرصف، أبى الوليد أحمد بن زيدون ذى الأبوة النبيهة بقرطبة، والوسامة والدراية وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة والامتنان فى المعرفة، وقدمه إلى النظر على أهل الذمة، لبعض الأمور المعترضة، وقصره بعد على مكانة من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء، فأحسن التصرف فى ذلك، وغلب على قلوب الملوك..(1/131)
قال أبو مروان: وكان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة فى أيام الجماعة والفتنة وفرع أدبه وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، فذهب به العجب كل مذهب وهون عنده كل مطلب، وكان علقه من عمر بن عبد الله بن أحمد المكوى أحد حكام قرطبة ظفر أحجن أداه إلى السجن، فألقى بنفسه يومئذ على أبى الوليد بن جهور فى حياة والده أبى الحزام، فتشفع له، وانتشله من نكبته، وصبره فى صنائعه، ولما ولى الأمر بعد والده نوه به، وأسنى خطيئته، وقدمه فى الذين اصطنعهم لدولته، وأوسع رابته، وجلله كرامة ولم تقنعه، زعموا. واتفق أن عن له مطلب بحضرة إدريس بن على الحسنى مبالغة، فأطال الثواء هنالك، واقترب من إدريس،وخف على نفسه، وأحضره مجالس أنسه، فعتب عليه بن جهور، وصرفه عن ذلك التصرف قبل قفوله، ثم عاد إلى جميل رأيه فيه، وصرفه فى السفارة بينه وبين رؤساء الأندلس فيما يجرى بينهم من التراسل والممداخلة، فاستغل بذلك لفصل ما أوتيه من اللسن والعارضة، فاكتسب الجاه والرفعة، ولم يبعد فى ذلك من التهافت فى الترقى لبعد الهمة، فهوى عما قليل إلى عباد صاحب أشبيلية، اجتذبه إلى ذلك، فهاجر عن وطنه إليه، ونزل فى كنفه، وصار من خواصه وصحابته، يجالسه فى خلواته، ويسفر له من مهم رسائله على حال من التوسعة. وكان ذهابه إلى عباد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فخلا بالحضرة مكانة، وكثر الأسف عليه، وانتهى كلام بن حيان.
قلت: فأما سعة ذرعه وتدفق طبعه، وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه، فالصبح الذى لا ينكر ولا يرد، والرمل الذى لا يحصى ولا يعد.
أخبرنى من لا أدفع خبره من وزراء أشبيلية قال: لعهدى بأبى الوليد قائما على جنازة بعض حرمه، والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع رجلا منهم بما أجاب به الآخر، لحضور جنانه، وسعة ميدانه.
جملة من نثره، مع ما ينخرط فى سلك ذلك من شعره
له من ورقة خاطب بها ابن جهور من موضع اعتقاله، يقول فيها:(1/132)
"يا مولاى وسيدى الذى ودادى له، واعتدادى به، واعتمادى عليه، أبقاك الله ماضى حد العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة، إن سلبتنى أعزك الله لباس إنعامك، وعطلتنى من حلى إيناسك، وغضضت عنى طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلى لك، وسمع الأصم ثنائى عليك، لأحس الجماد بإسنادى إليك، فلا غرو فقد يغصى بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه وإنى لأتجلد فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين عضه إكليله، ومشرفى ألصقه بالأرض صاقله، وسمهرى عرضه على النار مثقفه، والعتب محمود عواقبه والنبوة غمرة ثم تنجلى، والنكبة سحابة صيف عن قريب تنقشع، وسيدى إن أبطأ معذور
وإن يكن الفعل الذى ساء واحداً ... فأفعاله اللائى سررن ألوف
وليت شعرى ما الذنب الذى أذنبت ولم يسعه العفو؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل، أو مسيئا فأين الفضل؟ وما أرانى إلا لو أمرت بالسجود لآدم فأبيت وعكفت على العجل، واعتديت فى السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذى ابتلى به جنود طالوت، وقدت لأبرهة الفيل، وعاهدت قريشا على ما فى الصحيفة، وتأديت فى بيعة العقبة، ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلفت عن صلاتى فى بنى قريظ، وأنفت من إمارة أسامة، وزعمت أن خلافة الصديق قلتة، ورويت رممى من كتيبة خالد، وضحيت بالأشمط الذى عنوان السجود به، لكائن فيما جرى علىّ ما يحتمل أن يسمى نكالاً، ويدعما ولو على المجاز عقابا.
وحسبك من حادث بامرئ ... ترى حاسديه له راحمينا(1/133)
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق، والله ما غششتك بعد النصيحة، ولا انحرفت عنك بعد الصاغية، ولا تعبت لك بعد التشييع فيك، ففيم عبث الجفاء بأذمتى، وعاث فى مودتى، وأنى غلبنى المغلب، وفخر علىّ الضعيف، ولطمتنى غير ذات سوار، وما لك لا تمنع منى قبل أن أفترس، وتدركنى ولما أمزق، وقد زاننى اسم خدمتك، وأنلت الجميع من سماحتك، وقمت المقام المحمود على بساطك؟
ألست المولى منك نظم قصائد ... هى الأنجم اقتادت مع الليل أنجم
وهل لبس الصباح إلا بردا طرزته بمحامدك، وتقلدت الجوزاء إلا عقدا ففضلته بمآثرك، وفت المسك إلا حديثا أذعته بمفاخرك، وما يوم حليمة بسر، وحاش لله أن أُعد من العاملة الناصبة، وأكون كالزبالة المنصوبة تضئ للناس، وهى تحترق.
وفى فصل منها
ولعمرى ما جهلت أن الرأى فى أن أتحول، إذا بلغتنى الشمس، ونبانى المنزل، وأضرب من المطامع التى تقطع أعناق الرجال، ولا استوطئ العجز فيضرب بى المثل: خاوى أم عامر، وإنى مع المعرفة أن الجلاء سباء، والنقلة مثلة، لعارف أن الأدب الوطن الذى لا يخشى فراغه، والخليط الذى لا يتوقع زياله، والنسب الذى لا يجل، أينما توجه ورد أعذب منهل، وحط فى جناب قبول، وضوحك قبل إنزال حله، وأعطى قلم الصبى على أهله.
وقيل له أهلا وسهلا ومرحباً ... فهذا مبيت صالح وصديق
غير أن الوطن محبوب، والمنشأ مألوف، واللبيب يحن إلى وطنه، حنين النجيب إلى عطنه، والكريم لا يجفو أرضا بها قوابله، ولا ينسى بلدا فيه مراضعه، قال الأول:
أحب بلاد الله ما بين منهج ... إلى وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها عق الشباب تمائمى ... وأول أرض مس قلبى ترابها
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
للحافظ ابن حجر العسقلاني ت 852هـ
البخاري :
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن برد زبه ( وتعني الفلاح بالفارسية ) الجعفي ولاء البخاري مولدا ، أسلم جده المغيرة على يد اليمان الجعفي والي بخارى ، فانتمى إليه .(1/134)
كان مولد الإمام البخاري في بخارى ، وهي من أعظم مدن فارس سنة 194هـ ، وكان والده إسماعيل عالما تقيا ورعا يبتعد عن الشبهات ، وكان ذا ثروة ظاهرة من كل شبهة ، لذا كان قرير العين حتى مات .
وقد ظهرت على الإمام البخاري علامات النجابة وآيات الذكاء ، ودلائل العبقرية واضحة جلية عليه في وقت مبكر ، وكان من آيات ذلك حفظ الحديث بإتقان وهو في العاشرة من عمره ، أو أقل من ذلك ، وكان لشدة حفظه وإتقانه أن ظن البعض أنه شرب دواء للحفظ ، فقد أذهل العلماء بحفظه للحديث ، وقوة ذاكرته ونبوغه ، حتى لقد قال له وراقة محمد بن أبي خاتم : هل من دواء للحفظ ؟ فقال : لا أعلم ، ثم أقبل علي فقال : لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ، ومداومة النظر .
وقد كان من الممكن بعد أن حصل البخاري من كتب والده ، وما سمعه من شيوخ بلده ، وأئمة الحديث فيه ، أن يقتصر على ذلك ، ، ويصبح من أئمة عصره ، غير أن استعداده الفطري ونهمه العلمي الذي لا يشبع ، وحبه للعلم ، كل ذلك دفعه إلى أن يشد الرحال في الطلب ، وأن يطوف الدنيا طالبا للحديث ورجاله ، وبدأ رحلته إلى مكة المكرمة في موسم الحج ، وكان يصحب فيها أمه ، وأخاه أحمد الذي يكبره سنا ، وكان ذلك في سنة 216 هـ ، وبعد أن أتم حجه ، رجع أخوه بأمه ، وتخلف هو في طلب الحديث ، فسمع على أئمة مكة مثل : أبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي ، وإسماعيل بن سالم الصايغ ، ثم شد رحاله إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صنف ( قضايا الصحابة والتابعين ) و( التاريخ ) في المدينة عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد مكث بالمدينة سنة .(1/135)
ثم أخذ بعد ذلك يطوف الدنيا ، وينتقل من بلد إلى بلد باحثا عن الحديث ورجاله أينما كانوا ، فأقام في البصرة خمس سنين ، يصنف ويحج ، ودخل الشام ومصر والجزيرة مرتين ، وأقام بالحجاز أعواما ، ودخل الكوفة وبغداد مرات كثيرة ، وأراد أن يرحل إلى اليمن ليلتقي بعبد الرزاق صاحب المسند ، ولكنه علم أنه قد مات ، فتأخر عن التوجه إلى اليمن .
ومن شيوخه في مكة أبو الوليد أحمد بن محمد الأرزقي ، وبالمدينة إبراهيم بن المنذر الحزامي ، وبالشام محمد بن يوسف الغرياي ، وببخارى محمد بن سلام البيكندي ، وبمرو على بن الحسن بن شقيق ، وببلخ مكي بن إبراهيم ، وفي بغداد محمد بن عيسى الطباع ، وغيرهم في كثير من البلاد ، على أن هناك بعضا من شيوخه كان يقر لهم البخاري بالفضل ، ويثني عليهم ، منهم : على بن المديني ، والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام إسحاق بن راهويه ، ويحي بن معين .
وقد كان البخاري غيورا على دين الإسلام محبا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ منه القدوة الحسنة ، فأقبل على حديثه وتطبيق تعاليمه ، وظهر أثر هذا الحب والغيرة على البخاري في أخلاق نادرة كريمة ، وصفات عالية حميدة ، تنأى به عن الصغائر ، وتعلو به فوق الهامات ، فلا يضع نفسه إلا حيث الرفعة وعلو القدر ، ولا يخشى في الله لومة لائم ، ولا يفرط في التحري عن صحة الحديث ، وسلامة سنده ومتنه ، هذا مع تقوى الله ، وخضوع وخشوع لرب العالمين .
وكان كريما زاهدا ، رغم أنه ورث عن أبيه ثروة ضخمة مطهرة ، ولكنه لم يستغلها في التنعم والتلذذ بالحياة ، فكان ينفق المال في أوجه البر لوجه الله ، ويقول : كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم ، فأنفقها في الطلب ، وما عند الله خير وأبقى .(1/136)
وقد شهد له معاصروه بالفضل والتقدم ، فقد قال حاشد ين إسماعيل : كنت بالبصرة ، فسمعت بقدوم محمد بن إسماعيل ، فلما قدم قال محمد بن يسار : دخل اليوم سيد الفقهاء ، وعن محمود بن النضر أبي سهل الشافعي : دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ، وجالست علماءها ، فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم ، وقال أحمد بن حنبل : ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل ، وقال يحي بن جعفر : لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت ، فإن موتي موت رجل واحد ، وموت محمد بن إسماعيل ذهاب العلم .
وللبخاري مؤلفات كثيرة منها :
1- التاريخ الكبير : وهو كتاب ضخم استوعب فيه الرواة من الصحابة ، فمن بعدهم إلى طبقة شيوخه .
2- التاريخ الصغير مختصر من تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وطبقات التابعين .
3- كتاب الضعفاء الصغير .
4- كتاب الكنى : فيمن غلبت كنيته على اسمه .
5- كتاب الأدب الطرد : ذكر فيه جملة من الأحاديث الداعية إلى مكارم الأخلاق .
6- رفع اليدين في الصلاة .
7- التاريخ الأوسط .
وقد توفي الإمام البخارى في سن الثانية والستين في ليلة السبت ليلة الفطر لغرة شوال سنة 256هـ .
صحيح البخاري :
سمي البخاري كتابه ( الجامع الصحيح المسند ، أو الجامع المسند الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ) ، وأطلق الناس عليه اختصارا ( صحيح البخاري ) ، بل كان البخاري نفسه يطلق عليه اختصارا الصحيح .(1/137)
وقد كانت الكتب المصنفة قبل صحيح البخاري تجمع الحديث النبوي وأقوال الصحابة وكذا فتاوى التابعين ، ومنها ما هو صحيح ، ومنها غير صحيح ، لذلك كانت الحاجة ماسة إلى تصنيف يحتوي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال وتقريرات ، منقى من غيرها ، مصحح ، مستبعد منه كل منكر أو ضعيف ، ولما تميز به البخاري من مقدرة علمية ، وكمال في معرفة الحديث ، وشهادة العلماء له بالفضل والتقدم ، وجهوا إليه الدعوة للقيام بهذا العمل الضخم ، وكانت الدعوة الموجهة إليه في منزل أستاذه إسحاق بن راهويه بمحضر من العلماء ، وشرح الله صدر البخاري ، وملأ قلبه همة وإقداما برؤية النبي صلى الله عليه وسلم ضاما ، وهو يذب عنه بمروحة في يده ، وفسرت الرؤيا له بأنه يذب الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لذلك أقبل على تصنيفه ، يقول ( فأخذت في جمع الجامع الصحيح ، وصنفته لست عشرة سنة ، وخرجته من ستمائة ألف حديث ، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل ) .
وقد التزم البخاري بأن يورد في صحيحه الأحكام والفضائل والأخبار المحضة عن الأمور الماضية والآتية ، وغير ذلك من الآداب والرقاق ، والتزم أيضا بألا يورد إلا الحديث الصحيح ، وقد صرح بذلك ، فقال : ما أدخلت في الجامع الصحيح إلا ما صح ، وكذلك تخريج الأحاديث التي اتصل إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، سواء كان فعلا أو قولا أو تقريرا ، ومن شرطه أن يكون الإسناد متصلا ، وأن يكون الرواة عدولا ، وأن يتصفوا بالضبط ، وفي الرواة يشترط أن يكون الراوي كثير الصحبة لشيخه ، عارفا بحديثه ، وقد قال الحافظ أبو عبد الله الحازمي ( إن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا ، وأن يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ، ولا مختلط ، متصفا بصفات العدالة ، ضابطا متحفظا سليم الذهن ، قليل الوهم ، سليم الاعتقاد ) .(1/138)
وقال ابن حزم : ( إن البخاري غذ أنكر السماع ، لا يقول : إن فلانا لم يسمع من فلان ، بل يقول ، لم يثبت سماع فلان من فلان ، والناس لا يميزون بينهما ، فيحكون عن أنه قائل بعدم سماعه منه ، مع أنه ينكر الثبوت عنه دون السماع في نفس الأمر . )
وكان دقيقا في رواية الحديث ، حتى إنه كان يترك الرواية عن كل راو فيه نظر من المحدثين ، مهما كان عنده من حديث ، ولا يطمئن إلى توثيق الثقات لراو ، بل لا بد أن يستوثق منه بنفسه .
وقد عرف العلماء من قدماء ومحدثين فضل البخاري ، وقدروه حق قدره ، وقرظوه ، فقد قال الذهبي عنه : وأما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله تعالى ، فلو رحل الشخص لسماعه عن ألف فرسخ لما ضاعت رحلته .
الإمام ابن حجر : شارح الصحيح .
هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعي المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة ، وقد قيل إن ابن حجر لقب لبعض آبائه ، وقد ولد في سنة 773 هـ بالقاهرة ، نشأ يتيما ، فقد مات أبوه ، وهو في الرابعة ، وأمه قبل ذلك بقليل ، ولم يكن له من يكفله ، فأخذه أحد التجار الكبار بالقاهرة ، وأصبح وصيا عليه ، وقد رباه وعلمه ، وكان يستصحبه معه عند مجاورته في مكة ، وظل يرعاه إلى أن مات سنة 787هـ .
دخل الحافظ ابن حجر الكتاب ، وهو ابن خمس سنين ، وأكمل حفظ القرآن الكريم ، وله تسع سنين ، وكان العرف السائد في هذا الزمان أن من يستظهر القرآن ، عليه أن يصلي بالناس إماما في صلاة التراويح في رمضان ، ولكن ابن حجر لم تتهيأ له هذه الفرصة لصغر سنه ، فانتظر حتى بلغ الثانية عشرة ، فصلاها بالناس إماما .(1/139)
وكان سائدا آنذاك أن التلاميذ الذين يدخلون الكتاب يلزمون بحفظ مختصرات العلوم والكتب وسماع بعضها ، وكان سمعها وحفظها على يد أساتذة أكفاء بارزين ، وكان ابن حجر ذكيا بالفطرة ، فبعد أن حفظ القرآن الكريم أخذ في التحصيل حتى صار حافظ عصره ، وكان متميزا بين أقرانه بسرعة الحفظ ، فقد حفظ سورة مريم في يوم واحد .
على أنه انتابته مدة فترت فيها همته عن التحصيل الثقافي ، فقد فتر عزمه عن الاشتغال ، لأنه لم يكن له من يحثه على ذلك ، فلم يشتغل إلا بعد استكمال سبع عشرة سنة .
وتمثل سنة 793 هـ منعطفا ثقافيا في حياة ابن حجر ، فقد أحس بعد هذه الثقافة العامة الواسعة ، والاجتهاد في شتى الفنون ، أحس بميل إلى التخصص ، وحبب الله إليه علم الحديث النبوي ، فأقبل عليه .
وقد كان من مظاهر التعليم الإسلامي في عصر ابن حجر السفر والترحال في أرجاء العالم الإسلامي في طلب العلم من أفواه شيوخه ، فسافر ابن حجر في أنحاء مصر ليطلب العلم من شيوخها ، ثم توجه قاصدا الحجاز بالبحر ، وفي الطريق لقي جمعا من الفضلاء كانوا يقصدون اليمن ، فسافر معهم لتلقي العلم /، ومن اليمن قام بصحبة الموكب الذي جهزه الملك الأشرف ملك اليمن إلى مكة ، ثم عاد إلى اليمن مرة أخرى ، ومن هناك رحل إلى الشام ، وأقام في دمشق مائة يوم ، وسمع فيها نحو ألف جزء من الأجزاء الحديثية ، وهي الأحاديث المؤلفة المروية عن رجل واحد ، وكانت رحلته إلى الشام من أغنى رحلاته العلمية .(1/140)
وقد عمل ابن حجر بالتدريس في مدارس عديدة ، فدرس الفقه بالمدرسة الشيخونية ، وفي الخروبية البدرية ، والصالحية النجمية ، والصلاحية المجاورة للإمام الشافعي ، كما درس الحديث ، ودرس التفسير ، وكانت دروسه تمتاز بالحيوية والتنبيه على مشكلات فطرية ونظرية ، لذلك أقبل على دروسه العلماء فضلا عن الطلاب ، ويعزى ذلك إلى وضوح دروسه ، وتبحره ، ومكانته العلمية ، واتساع نظره ، ووفرة علمه وأدبه ، وقد تولى القضاء عدة مرات ، لكنه عول نفسه قبل وفاته بقليل في سنة 852 هـ ، وأقلع حينئذ عن المنصب ، وزهد فيه زهدا تاما من كثرة ما توالى عليه من الإنكار والمحن بسببه .
وألف كثيرا من المصنفات التي يغلب عليها الطابع الموسوعي ، هذه المصنفات تتميز بطابع موسوعي ، ويصعب حصرها ، كما أنه بجانب ذلك كان شاعرا له ديوان شعر كبير ، وآخر صغير .
وقد مرض في أخريات أيامه ، ثم توفي بعد عناء شديد في أواخر ذي الحجة سنة 852 هـ .
نموذج من الكتاب
_____________
الجزء الأول / كتاب الإيمان .
18- باب : من قال إن الإيمان هو العمل .
حديث : 26
____________________________________________
26- حدثنا أحمد بن يونس ، وموسى بن إسماعيل قالا : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي العمل أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور .
-------------------------------------------
26 – قوله ( حدثنا أحمد بن يونس ) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي ، نسب إلى جده .
قوله : ( سئل ) أبهم السائل ، وهو أبو ذر الغفاري ، وحديثه في العتق .(1/141)
قوله ( قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد ) وقع في مسند بن أبي أسامة عن إبراهيم بن سعد ،( ثم جهاد ) فواخى بين الثلاثة في التنكير ، بخلاف ما عند المصنف ، وقال الكرماني : الإيمان لا يتكرر كالحج ، والجهاد قد يتكرر ، فالتنوين للإفراد الشخصي ، والتعريف للكمال ، إذ الجهاد لو أتي به مرة مع الاحتياج إلى التكرار ، لما كان أفضل ، وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم ، وهو يعطي الكمال ، وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد ، وهو يعطي الإفراد الشخصي ، فلا يسلم الفرق .
قلت : وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة لأن مخرجه واحد ، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة ، والله الموفق .
قوله : ( حج مبرور ) أي : مقبول ، ومنه ( بر حجك ) ، وقيل : المبرور : الذي لا يخالطه إثم ، وقيل : الذي لا رياء فيه .
] فائدة [ قال النووي : ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان ، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج ، وذكر العتق ، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ، ثم البر ، ثم الجهاد ، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان ، قال العلماء : اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال ، واحتياج المخاطبين ، وذكر ما لم يعلمه السائل ، والسامعون ، وترك ما علموه ، ويمكن أن يقال إن لفظة ( من ) مرادة ، كما يقال : فلان أعقل الناس ، والمراد من أعقلهم ، ومنه حديث ( خيركم خيركم لأهله ) ، ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس .
فإن قيل : لم قدم الجهاد ، وليس بركن على الحج ، وهو ركن ، فالجواب أن نفع الحج قاصر غالبا ، ونفع الجهاد متعد غالبا ، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين ، إذ ذاك متكرر ، فكان أهم منه فقدم ، والله أعلم .
مفاهيم بحثية
مفاهيم بحثية(1/142)
لا تستوي الكتب التي يرجع إليها في البحث في أهميتها ، فهناك كتب يعتمد عليها البحث اعتمادا كليا ، وهذه تسمى مصادر البحث ، ولا يشترط أن تكون هذه المصادر قديمة حتى تكتسب هذا الاسم ، فقد يعد باحث دراسة عن شاعر معاصر مثل صلاح عبد الصبور ، وهنا تكون الدواوين الشعرية التي أصدرها عبد الصبور هي مصادر البحث الأساسية ، وقد تشترك معها أيضا كتب حديثة تتعلق بالشاعر ، وعلى الرغم من أن الباحث قد يلجأ في أجزاء من دراسته إلى الاستعانة بكتب قديمة لتوضيح بعض القضايا المتصلة بشعر عبد الصبور ، فإن هذه الكتب لا تسمى مصادر للبحث ، وإنما تسمى مراجع له ، على الرغم من أن هذه الكتب قد تكون مصادر أساسية في بحوث أخرى ، إذن فإن التفرقة بين ما يسمى مصدر أو مرجع لا يرتبط بزمن تأليف الكتاب ، أو المؤلف ، وإنما يرتبط بمدى أهمية الكتاب للبحث ، ومدى اعتماد الباحث عليه في بحثه .
وهناك وسائل مهمة للتعرف على قيمة الكتاب الذي يمكن الاعتماد عليه في البحث ، وهذه الوسائل هي :
1 – المؤلف :
في كل حقل من حقول المعرفة مؤلفون لهم باع طويل في البحث والتأليف ، وهؤلاء يجب على الباحث أن يكون ملما بإنتاجهم ، ومطلعا على أحدث ما أصدروه من أبحاث ، كما أن أسماءهم على أغلفة الكتب تعطي الباحث ثقة في الكتاب ، وفي حقل الدراسات الأدبية واللغوية هناك أسماء معاصرة مثل جابر عصفور ، عز الدين إسماعيل ، عبد القادر القط ، مصطفى ناصف ، شوقي ضيف ، محمد مصطفى هدارة ، محمد زكي العشماوي ، تمام حسان ، إحسان عباس ، ناصر الدين الأسد ، وغيرهم من الأسماء الكبيرة الموثوق في إنتاجها العلمي ، وفي منهجيتها في تناول الموضوعات المختلفة ، لكن هناك عدد من المؤلفين يمكن أن نسميهم المؤلفين الهواة ، وهؤلاء لا نستطيع أن نتعرف على قيمة كتبهم إلا بالرجوع إلى الكتاب نفسه وقراءته .
2 – فهرس الكتاب :(1/143)
قد يكشف فهرس الكتاب – وبخاصة إذا كان فهرسا مفصلا – عن محتويات الكتاب ، ويكشف أيضا عن الخطة التي اتبعها المؤلف في بحثه ، وفي بعض الأحيان يستطيع الباحث المتمرس أن يحدد مدى أصالة البحث ومنهجيته من الاطلاع على خطة البحث المدونة في الفهرس ، وفي هذه الحالة يكفيه الفهرس عناء قراءة الكتاب كله ، أو بعضه ، لكن هذا الأسلوب لا ينصح باتباعه في حالة الباحثين المبتدئين .
3 – مقدمة الكتاب :
تحتوي المقدمة دائما على عناصر أساسية يهتم بها كل باحث ، منها حديث عن أهمية البحث ، ومدى جدته ، وحديث عن سبب اختيار الباحث لهذا الموضوع دون غيره ، وتفصيل لعناصر البحث الأساسية ، وقد يطرح الباحث في المقدمة الفروض الأساسية التي يحاول البحث إثباتها ، وبفصل ذلك تفصيلا يناسب حجم المقدمة ، وهذه العناصر مفيدة جدا لمن يطلع على الكتاب للمرة الأولى ، فقراءة المقدمة قد تجعله يأخذ قرارا بالمضي في قراءة الكتاب بأكمله ، أو باختيار أجزاء منه ، أو بإهماله كلية ، وفي كل الأحوال تعد مقدمة الكتاب أحد المداخل الأساسية التي يدلف منها الباحث إلى هذا الكتاب .
4 – قائمة المصادر والمراجع :(1/144)
قد لا تكشف مقدمة الكتاب ، ولا الفهرس في بعض الأحيان عن مدى الأصالة والحداثة التي يتمتع بها البحث ، وتعطي قائمة المصادر والمراجع في هذا المقام إشارات مهمة عن مدى اطلاع الباحث على أحدث ما كتب في موضوع بحثه ، وعن عدم إغفاله للكتب المهمة في موضوعه ، دون التطرق بالطبع إلى بيان مدى إفادته من هذه الكتب ، فهناك بعض الباحثين يستخدمون مصطلحات مهمة في مقدمات بحثهم ، ويتحدثون عن قضايا كبرى ومشكلات بحثية هامة ، وهذه الأشياء تتطلب الرجوع إلى مصادر معينة سواء في اللغة العربية أو في بعض اللغات الأجنبية ، فإذا كانت قائمة المصادر والمراجع حاوية لهذه المصادر ، فإن هذه إشارة مهمة إلى الثقة في الكتاب ، أما إذا خلت القائمة من هذه المصادر ، فإن هذا يعني أحد أمرين : إما أن الباحث يستخدم مصادر وسيطة في البحث ، وهذا أمر له خطره في البحث العلمي ، فالباحث عليه دائما أن يرجع إلى المصادر الأصلية التي تتحدث عن الأفكار التي يتناولها في بحثه ، ولا يعتمد على مراجع نقلت عن هذه المصادر ، والأمر الآخر أن الباحث يستخدم هذه المصطلحات دون تأصيل لها ، أو حتى دون وعي كاف بها ، وفي كلتا الحالتين فإن هذه إشارة مهمة إلى عدم أصالة البحث .
تدوين المعلومات :
بعد أن يجمع الباحث الكتب المهمة في موضوع بحثه ، عليه بعد ذلك أن يأخذ منها ما هو أكثر التصاقا بموضوع بحثه ، وهي في هذا ثلاثة أصناف :
الأول كتب أساسية يعتمد عليها الباحث اعتمادا كاملا ، كأن يبحث الدارس مثلا في شعر العذريين في العصر الأموي ، وفي هذه الحالة تكون الدواوين التي كتبها العذريون هي الكتب الأساسية في البحث ، وهذه تسمى مصادر أساسية ، وتقترب منها في الأهمية المصادر القديمة التي أفردت مساحات واسعة للحديث عن العذريين ، مثل كتاب الأغاني ، أو طبقات فحول الشعراء ،أو بعض كتب النقد القديم .(1/145)
الثاني كتب حديثة ألفت بأكملها في موضوع البحث ، وهذه تسمى بالدراسات السابقة في موضوع البحث ، ويجب على الباحث أن يكون ملما بها كلها إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، لأنه من المحتمل أن يصل إلى نتائج في موضوع بحثه ، توصل إليها آخرون دون أن يدري ، وفي هذه الحالة يكون بحثه مضيعة للوقت .
الثالث كتب تناولت في أجزاء منها بعض الموضوعات المتصلة بالبحث ، وتشمل أيضا الدوريات التي أشرنا إلى بعض منها سابقا ، وهذه تؤدي دورا مهما الآن ، وبخاصة أن البحث العلمي ينحو الآن إلى الاختصار والتركيز ، وإذن فإن الحجم الصغير للبحث يناسب الدوريات أكثر من مناسبته للكتب ذات الحجم الكبير نسبيا .
وبعد أن يجمع الباحث المادة الأساسية لبحثه من المصادر والمراجع المختلفة – ويفضل أن يقتنيها من خلال الشراء أو التصوير – عليه أن يصنف هذه المادة وفق خطة البحث المبدئية التي وضعها بنفسه ، أو بمساعدة المشرف على بحثه ، ثم عليه أيضا أن يقوم بتدوينها في بطاقات أعدت خصيصا للبحث ، وتسمى بطاقات البحث ، وهي متوفرة في المكتبات ، كما يمكن للباحث أن يقوم بصنعها بنفسه .
نظام البطاقات :
يجب على الباحث أن يهتم بما يسمى نظام البطاقات ، وهو نظام أثبت أنه مفيد جدا في مجال البحث في العلوم الإنسانية ، فهناك كثير من الباحثين – وبخاصة المبتدءون منهم لا يعرفون هذا النظام ، ولذلك فإن طريقتهم في البحث تتعثر في بعض الأحيان ، فهم عادة ما يلجئون إلى نقل المعلومات التي تتصل ببحثه في كراسات ، أو أوراق منفصلة ، لكنهم يجدون مشقة كبيرة في استدعاء المعلومات المتماثلة في المصادر المختلفة ، وتسهل البطاقات عملية الاستدعاء ، كما تسهل تسجيل المعلومة الواحدة التي تتكرر في مصادر كثيرة .(1/146)
وتختلف أحجام البطاقات التي تستخدم في البحث ، لكن أكثر الأحجام شيوعا هو 15×11.5 ، وهو الحجم المتوسط في البطاقات ، وهناك أحجام أكبر من ذلك ، كما أن هناك أحجاما أصغر ، وقد يلتزم الباحث بحجم واحد في كل بحثه ، كما قد يخصص لكل فصل من بحثه حجما معينا ، أو يخصص لونا معينا ، فهناك أيضا بطاقات ذات ألوان متعددة ، وفي كل الأحوال فإن عملية استخدام البطاقات المختلفة الأحجام أو الألوان تعود إلى الباحث نفسه ، وإلى أسلوبه في البحث .
وحين يبدأ الباحث في استخدام البطاقات ، فإن عليه أن يضع نظاما ثابتا لمسألة التدوين على البطاقة ،و لا يجب عليه أن يحيد عنه في أثناء البحث ، حتى تتيسر عليه عملية استدعاء المعلومات المتشابهة مرة أخرى ، وضمها في سياق واحد ، فمن الممكن مثلا أن يضع اسم الكتاب الذي ينقل عنه على يسار البطاقة ، بينما يضع اسم مؤلفه على اليمين ، لكنه إذا بدأ بهذا ، فعليه أن يلتزمه حتى نهاية بحثه .
وحين يبدأ الباحث في قراءة كتاب متصل بموضوع بحثه ، فإن المتبادر إلى الذهن أن ينقل الباحث ما يقرؤوه إلى البطاقات الموجودة بجواره دائما ، لكن هناك نظاما متصلا بعملية نقل المعلومات من الكتب إلى البطاقات ، وهذا النظام يرتبط بعدة عوامل معا :
العامل الأول : مدى أهمية المعلومة للبحث .
العامل الثاني : طول المعلومة التي يراد نقلها .
العامل الثالث : هل الكتاب الذي أنقل عنه يخصني ، أم أنه معي على
سبيل الإعارة .(1/147)
وكما قلنا فإنه يفضل أن يقتني الباحث كل ما يتصل بموضوعه من دراسات ، أو يقوم بتصويره في أحسن الحالات ، وهذا أمر ميسور الآن ، فإذا تحقق هذا ، فعلى الباحث أن ينقل إلى البطاقات المعلومات التي تناسب حجم بطاقة واحدة في كل معلومة ، أي لا يجب عليه أن يوزع معلومة واحدة على أكثر من بطاقة ، إلا في حدود ضيقة ، وإذا واجه الباحث مثل هذا الموقف ، فعليه أن يختصر المعلومة التي يقرؤوها ، مع الإشارة إلى أن ما ينقله هو اختصار عن الأصل الذي يجب أن يكون بحوزته ، حتى يمكن الرجوع إليه عند الحاجة ، ويفضل دائما أن يضع عنوانا موجزا جدا لمحتوى البطاقة ، فمثلا إذا كان يبحث في شعر العذريين ، وأراد أن ينقل إلى البطاقة معلومات عن الصورة في شعر مجنون ليلى موجودة في إحدى المصادر ، وموضوع الصورة واحد من فصول بحثه ، فمن المفيد أن يضع عنوانا عاما للبطاقة ، كأن يكتب ( الصورة عند المجنون ) بلون مختلف عن اللون الذي يكتب به ، وقد يحدد أكثر بصورة الحيوان مثلا ، أو أي صورة أخرى ، لكنه في كل الأحوال عليه أن يميز موضوع البطاقة عن طريق كتابة عنوان لها بلون مختلف .
وقد تعن للباحث في أثناء قراءته ملحوظات ، أو استنتاجات مما يقرؤوه ، ولا يجب على الباحث أن يهمل هذه الاستنتاجات ، بل عليه أن يدونها مباشرة ، فإذا كان الاستنتاج متصلا بالمعلومة التي ينقلها إلى البطاقة ، فمن المفيد أن يسجلها على البطاقة نفسها بلون ثالث ، وهذا اللون الذي يستخدمه لتسجيل الاستنتاجات يظل ثابتا أيضا طوال البحث ، أما إذا كان الاستنتاج غير متصل بالمعلومة ، فعلى الباحث أن يسجله في بطاقة منفصلة ، ويدون عليها أيضا عنوانا عاما كما فعل مع المعلومة التي ينقلها من الكتاب .(1/148)
وإذا انتهى الباحث من نقل كل المعلومات المتصلة ببحثه إلى البطاقات ، عليه أن يتأكد أولا من المراجع التي نقل عنا بحوزته ، عليه أن يتأكد ثانيا من أن البيانات الخاصة بهذه المراجع قد نقلها بشكل كامل ، وهذه البيانات تشمل : - اسم المؤلف كاملا .
- اسم الكتاب كاملا .
- اسم دار النشر .
- تاريخ الطبع .
- مكان الطبع .
- الطبعة التي اعتمد عليها الباحث : الأولى أو الثانية أو غيرهما .
ومسألة تدوين البيانات الخاصة بالكتاب لها طريقان :
الأول : أن تبدأ باسم المؤلف / اسم الكتاب / دار النشر / مكان النشر / تاريخ النشر / نوع الطبعة . كما يلي :
مصطفى سويف : الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ، دار المعارف ، القاهرة ، 1981 ، ط 4 .
وقد يبدأ بعض الباحثين كتابة البيانات الخاصة بالكتاب بذكر اسم العائلة للمؤلف ، ثم يضع فاصلة بعد اسم العائلة ، وبعد ذلك يذكر الاسم الأول للمؤلف مثل ( سويف ، مصطفى ) ، وهذا النظام منقول عن الأسلوب الغربي في تدوين البيانات الذي يلتزمون به تماما في كل كتبهم ، لكن هذا النظام لا يفضل استخدامه إلا في تدوين بيانات الكتب القديمة ، حيث اشتهر المؤلفون القدماء بأسماء عائلاتهم ، أو بكناهم ، أما المؤلفون المعاصرون فإنهم يميلون إلى استخدام الاسم الأول أو الاسم كاملا دون الاقتصار على الكنية أو اسم العائلة إلا في حدود ضيقة مقلما نقول عن عباس محمود العقاد إنه العقاد ، لكنا لا نقول عن طه حسين ( حسين ) فقط ونعني به طه حسين ، ولا نقول عن جابر عصفور ( عصفور ) أو ( جابر ) فقط ، وإنما نستخدم اسمه كاملا ، وهكذا .
الثاني : أن تبدأ باسم الكتاب ، ثم تدون بقية بيانات الكتاب مثل النظام السابق .(1/149)
وكلا الطريقين معمول به في البحوث العربية ، وليست هناك أفضلية لطريق منهما عن الآخر ، أما في البحوث الغربية ، فإنها تلتزم دائما الطريق الأول الذي يبدأ بذكر اسم عائلة المؤلف ، ثم بقية اسمه ، ثم بيانات الكتاب الأخرى .
إن نظام البطاقات مفيد جدا في البحث ، وقد جمع على جواد الطاهر في كتابه ( منهج البحث الأدبي ) فوائد كثيرة لهذا النظام اختصرها فيما يلي :
1 – الدقة في النقل : ننقل الأشياء كما هي أمامنا في خط واضح ونسق جميل ، ولا نصحح خطأ ، ولا نتصرف ، وإذا رأينا ما يحسن تغييره ، نبهنا عليه في هامش البطاقة ، وإن رأينا ما يحسن أن يزاد ، نبهنا على ذلك في الهامش أيضا ، وإذا كنا على الغاية من الاطمئنان ، وأردنا أن نضمنه النص نفسه ، فقد يسمح لنا أن نفعل بذلك بعد وضعه بين معقوفين .
2 – يستحسن كثيرا أن يستعمل الباحث أكثر من لون واحد من الحبر تسهيلا للمراجعة ، وترويحا للنظر ، وتمييزا في الدلالة ، كأن يجعل اسم المؤلف والصفحة التي أخذ عنها الخبر بلون ، وأن يجعل عنوان الخبر بلون آخر ، وأما الخبر نفسه فيكتب باللون الأزرق ، ويختار لتعليقاته العابرة في الهامش أو في صلب البطاقة أي لون آخر .
3 – لا نزحم البطاقة بالكتابة ، ولا نفكر بالاقتصاد في عدد البطاقات ، إن التبذير هنا نافع جدا ، وهو ضرب من الكرم المحمود .
4 – لا نكتب على ظهر البطاقة ، لأن هذا الذي نكتبه يضيع علينا لدى المراجعة ، إننا لن ننظر إلا في وجه واحد من البطاقة .
5 – إذا كان الخبر الذي يراد نقله يتوزع عل آخر صفحة ، وأول صفحة أخرى من الكتاب ، فلا بد من أن يشار إلى ذلك على البطاقة ، بأن يوضع خط مائل بعد الكلمة التي تنتهي بها الصفحة الأولى ، ثم يزاد رقم الصفحة الثانية إلى الرقم الذي كتبناه تحت اسم المؤلف ، بعد وضع خط بين الرقمين ( 74/75 مثلا ) كما يوضع الرقم الجديد على الهامش مقابل الخط المائل .(1/150)
6 – علامات الترقيم الحديثة كثيرة ، أخذنا أغلبها عن الغرب ، وللعرب منها شيء محدود مثل النقطة ، وكانت ترسم مجوفة ، ولكن المحققين المحدثين يسمحون لأنفسهم أن يستعملوا علامات الترقيم الغربية مثل ( . ، / ؟ " : ؛ ! ) ولا بأس في ذلك ، لولا أنهم يضطربون أحيانا في الاستعمال ، ولم يرجعوا فيها إلى القواعد التي وضعها الغربيون لهذه الحال .
وعلينا أن ننقل النص كما هو أمامنا ، فإن لحظنا خطأ في العلامات نبهنا عليه بلون مختلف ، وإن كان النص خاليا من العلامات نقلناه كما هو خشية أن نضع علامة في غير مكانها ، وقد يؤدي ذلك إلى خلل في المعنى .
7 – إذا رأينا في النص الذي أمامنا خطأ في النحو ، أو في المعنى لا يعود إلى المطبعة أو المحقق ، وضعنا وراء الكلمة الخطأ كلمة ( كذا ) بين قوسين متابعة لفعل موروث ، ويحسن أن يكون هذا الذي نضعه بلون مختلف تمييزا لما يكون مرده ما وضعه المحقق بعد كلمة خطأ وجدها في النص الذي يحققه . أما إذا اضطررنا لأن نزيد حرفا أو كلمة لإقامة معنى أو إصلاح وزن ، فإننا نضعها بين خاصرتين [ ] ، ولا بد من رسمهما بلون مختلف تمييزا لهما من معقوفي المحققين .
8 – إذا كان النص الذي أمامنا طويلا ، وكنا متأكدين من أن بحثنا لا يحتاج منه إلا إلى جمل محدودة منبثة في غضون هذا النص الطويل ، فلا بأس في أن ننقل من النص الجمل التي نراها ضرورية ، ونترك الباقي بشرط أن نضع نقاطا ( ثلاثا أو أزيد ) مكان كل مقطع مهمل ، لنعرف ذلك عند استعمال البطاقات ، ولا بد من أن تكون النقاط بالحبر الأحمر تمييزا لها عما يكون في المصدر نفسه من نقاط وضعها المحقق لسبب من دواعي التحقيق ، وإذ نقول الحبر الأحمر نقصد إلى حبر يختلف اختلافا واضحا عن حبر القلم الذي ننقل به .(1/151)
9 – إذا استدعى طول الخبر أكثر من بطاقة واحدة ، ملأنا البطاقة الأولى بقسم منه محافظين على الدقة والوضوح ، واضعين تحت الموضوع الذي وضعناه على الزاوية اليمنى العليا للبطاقة رقم ( 1 ) ثم ننتقل إلى البطاقة الثانية ، أو الثالثة أو الرابعة محتفظين على هذه الزاوية بالموضوع الواحد مسلسلين أرقام البطاقات ذات الموضوع الواحد ( 2 ) ( 3 ) ...
10 – الأصل في الخبر أو النص أن ينقل كاملا على البطاقة أو البطاقات ، وهذا هو الأحسن والأنفع ، وليس من المعقول الاكتفاء بكتابة الخبر أو النص أو كتابة خلاصة مركزة لهما ، لأن ذلك لا يسد الحاجة منه ، ويؤدي إلى خلط وارتباك ، وضياع وقت في الرجوع المتكرر إلى المصدر نفسه لدى الكتابة .
ولا يسمح بالاكتفاء بعنوان المادة ، أو خلاصتها إلا في حالة واحدة هي أن تكون هذه المادة ، وأن يكون المصدر ملكا للباحث ، وفي متناول يده عند تحرير البحث فيما بعد .
11 – إذا رأينا خبرا في مصدر تال يذكرنا بوروده مصدر سابق ، فالمفضل نقل هذا الخبر كما هو ( ولاسيما إذا كان قصيرا ) ، ولكنه إذا كان طويلا ، وأردنا الاقتصاد بالوقت والورق رجعنا إلى الخبر نفسه من المصدر السابق ، فإذا كان مطابقا تمام المطابقة ، اكتفينا بالإشارة إليه في بطاقة خاصة ، وإن رأينا قليلا من الاختلاف أثبتنا الاختلاف وحده ، ومع كل هذا يبقى نقل الخبر كاملا هو المفضل ، فقد يمر علينا اختلاف خفي لا نتبينه ، لأننا لا نتمكن من أجزاء موضوعنا ، أو لأننا في مرحلة النقل تسيطر علينا الآلية أكثر من أي شيء ، أو لأنه لا يتيسر لنا دائما – في مرحلة النقل – أن تكون رواية المصدر الأول بين أيدينا .
ولا يكون الاكتفاء بالإشارة إلى ورود الخبر في المصدر الأول مقبولا إلا في حالة كون المصدر الثاني ملكنا ، وأنه في متناول يدنا لدى التحرير .(1/152)
12 – إذا كان للمؤلف الواحد أكثر من كتاب نرجع إليه في بحثنا ، فإننا في هذه الحالة نكتب إلى يسار اسمه في الزاوية العليا اليسرى للبطاقة مختصرا لعنوان الكتاب ، فإذا كان هذا المؤلف مثلا : ابن قتيبة ، ورجعنا من مؤلفاته إلى الشعر والشعراء ، وعيون الأخبار ، قلنا : ابن قتيبة / شعر ، ابن قتيبة / عيون .
إن الطريقة العالمية أن يذكر اسم المؤلف – كما رأيت – وأن تكون الإشارات في الذيل ، ويكون ترتيب فهارس المصادر على نسق المؤلفين ، ولكن من المؤلفين – وبخاصة العرب المحدثين – من يستعمل اسم الكتاب لقصد ، أو لغير قصد ، وفي هذه الحالة لا يحتاجون إلى هذا التمييز ، لأنه يكتب على الزاوية العليا اليسرى للبطاقة : شعر ، أو عيون ... الخ .
13 – من فوائد أن يكون المصدر ملك الباحث ، وفي متناول يده لدى التحرير الاقتصاد بالوقت الذي يضيع بالذهاب إلى المكتبة والإياب منها ، وفي مدة الانتظار لدى استعارته ، ومنها ضمان الحصول عليه في كل حاجة تدعو ، ومنها أن يكتفي عن النقل الكامل على البطاقة بخلاصة ، وإشارة إلى الجزء والصفحة . ومنها أنه يستطيع أن يقرؤه على مهل ، وأكثر من مرة واضعا عنوانات وملاحظات على هامشه ( بقلم رصاص ) تنفعه كثيرا في التوضيح والتأكيد والمراجعة .
14 – إذا وجدنا معلومات تتصل بالمؤلف ، سجلنا ذلك على بطاقة خاصة ، ونفعل مثل ذلك عندما نطلع على مزايا خاصة بالمصدر ، إن ذلك ينفعنا لدى دراسة المصادر في الأقل .
15 – إذا عنت لنا فكرة ما تتصل بالبحث ، أو في خطته ، فلا نتركها تفر ، وذلك بأن نقيدها على بطاقة خاصة ، ونفعل مثل ذلك إن عن لنا تعليق أو نقد لا يمكن الاستغناء عنه بإشارة عابرة ، ويمكن أن نستفيد في مثل هذه الحالات من دفترنا المساعد .(1/153)
16 – إذا عثرنا على خبر أو نص لا مجال له من الخطة المتفق عليها ، فلا نفرط به ، فقد نحتاج إليه يوما ما ، وقد نعدل الخطة من أجله ، إذا اتضح – فيما بعد – خطره . نخصص بطاقة لكل خبر يتصل بموضوعنا بغض النظر عن الخطة .
17 – لا تزيد المراجع – في الغالب – على أن تكون إيجازا أو تكرارا لما في المصادر ، وليس من المعقول أن ننقل كل ما جاء فيها ، وإذا لا ننقل إلا الضروري ، وأهم ما في هذا الضروري :
( أ ) خبر روي فيها عن مصدر قديم لم يتيسر لنا – على الرغم من طول بحثنا – وفي هذه الحالة يكون نقلنا النص القديم على مسئولية المرجع ، ولا بد من أن تبقى الإشارة إلى المرجع اعترافا بالفضل ، ودفعا للمسئولية مرة ، إن إغفال ذكر المرجع يعرض إلى مشكلات ، وقد يجر إلى الاتهام بالسرقة .
( ب ) الخطأ في أخبارها وأرقامها لننبه على الفظيع منها ، ولا سيما ما جاء لدى مؤلف حديث كبير .
( ج ) الرأي الخاص الذي أدلى به المؤلف الحديث ، فإن كان مصيبا حفظناه لصاحبه كما تقتضي الأمانة ، وأثنينا عليه إن وجدنا ضرورة ، وإن كان خطأ أشرنا إليه بشكل من الأشكال .
18 – ما قيل هنا من تعليمات وفوائد عن المصادر والمراجع يخص أولا نقل الأخبار ، أو الموقف من هذه الأخبار ، وهو مما يستوي فيه الباحث الأدبي والمؤرخ ، ولكن هذا الباحث يختلف عن المؤرخ اختلافا كبيرا في مادة خاصة بنا هي النصوص الإنشائية من شعر وخطب ورسائل وقصص وتمثيليات ... مما يأتي متناثرا في بطون الكتب مرة ، ومستقلا على شكل كتاب مرة أخرى .
ونلخص هذا الموقف في النقاط التالية ، حتى لو استدعى التكرار :
1 – تحصل على أحسن الطبعات المحققة ( للكتاب المستقل ) فإن لم يكن النص محققا علميا ، تضاعفت مهمتك ، وقد يطلب إليك أن تكون محققا ، زيادة على كونك باحثا .
2 – يستحسن – بل يجب – أن تقتني الديوان أو الكتاب الذي يؤلف محورا لبحثك .
3 – تديم النظر في النص ، وتقرؤه مرارا .(1/154)
4 – تتعقب مفرداته وتركيباته .
5 – تقف طويلا لفهم ما يصعب عليك من المفردات والمعاني ، أو ما يكون صعبا على عامة القراء .
6 – تحلل بناء النصوص ، وتبين مقاطعها وتيارها وسلسلتها والموضوعات البارزة فيها ، والمعاني السائدة ، والجيد والرديء ، والعميق والسطحي .
7 – الإشارة بوجه خاص إلى ما ينطوي منه تحت خطتك ، وما لا بد من الوقوف عنده ، أو أخذه ، أو الاستشهاد به لدى التحرير .
8 – تضع ذلك كله على الكتاب نفسه ، وعلى الهوامش منه بخاصة ، وليكن بقلم رصاص ، وفي وضوح ودقة .
9 – تكتب مفاتيح ما تحتاج إليه من هذه الوقفات على بطاقات متفرقة تشير كل واحدة منها إلى النقطة المقصودة من الخطة .
10 – إن لم يكن الكتاب ملكك ، وجب أن تنقل النصوص كاملة على البطاقات بمقتضى خطتك مصحوبة بالشروح والتعليقات . ولا شك في أن امتلاك الكتاب أنفع ، وهو إذ يوفر كثيرا من الوقت ، يهيئ لك فرصة رؤية النص كاملا كلما احتجت إليه في نقطة من نقاط الخطة ، فيحفظك ذلك – في أقل تقدير – من التناقض ، أو مجانبة القصد الأول للشاعر أو الكاتب .
إن نظام البطاقات شديد الأهمية في البحث العلمي ، لذلك أفرد له كثير من الباحثين صفحات للحديث عن تقنياته مثلما رأينا في الصفحات السابقة ، ومثلما سنرى في الصفحات التالية التي أخذناها عن كتاب ( أساسيات البحث العلمي بين النظرية والتطبيق ) ، والتي يتحدث فيها عن الاقتباس : معناه وكيفيته من خلال استخدام نظام البطاقات .
الاقتباس:(1/155)
هو عملية تعزيز وتدعيم لوجهة نظر الباحث ، وللآراء الواردة في بحثه ، والاقتباس يعني الاستشهاد ببحوث الآخرين وأفكارهم التي لها علاقة بموضوع البحث ، فالباحث لا يبدأ من الصفر ، بل يتحرى عن الخلفية العلمية للموضوع الذي يبحث فيه ، ومن هنا جاءت فكرة الاقتباس ، ليست لنقل الأفكار وعرضها ، بل ليجد الباحث من خلالها مادة علمية يمهد لبحثه بواسطتها ، أو يستقرئ فيها ، أو يقيس عليها ، أو قد يكون الهدف هو التدعيم لبعض الأفكار ، أو المقارنة أو المعارضة أو التنفيذ ، فالقراءة السليمة علم له أصوله ، ومهارة يمكن اكتسابها ، فإذا عرف الباحث كيف يقرأ سهل عليه البحث ، فلا بد للباحث من القراءة الواسعة المتخصصة العميقة ، ويجب أن يصحب هذه القراءة أخذ الملاحظات التي يسجلها في بطاقة تدوين المعلومات ، وقبل أن يبدأ الباحث بتسجيل ملاحظاته وتدوينها ، عليه أن يتأكد من استيفاء النقاط التالية :
1 – أن يتفحص بطاقات حصر المصادر والمراجع لاختيار ما يناسب موضوعه منها ، فيهمل البطاقة الزائدة ، ويتخلص منها ، ليخفف من كثرة البطاقات وعددها .
2 – أن يحتفظ الباحث ببعض بطاقات التدوين في محفظته لتكون في متناول يده ، ولا يضيع أية فرصة ، كما يجب على الباحث أيضا ألا يدون المعلومات على أغلفة الدفاتر وقصاصات الورق خشية فقدانها ، ، وهو بذلك يتعرض إلى اقتباس معلومات ناقصة .
3 – أن يتفق الباحث مع أستاذه المشرف على بحثه على الأسلوب المناسب في الاقتباس ، وهذا سنوضحه في أنواع الاقتباس .
كما يجب على الباحث أن يتجنب ما يلي :
1 – لا يقتبس أية عبارة حرفيا ، إلا إذا دعت الضرورة ، وعندئذ توضع العبارة المقتبسة بين قوسين .
2 – لا يكتب في البطاقة الواحدة أكثر من موضوع .(1/156)
3 – يجب على الباحث ألا ينسى أن يكتب على البطاقة : نسخ / تلخيص / مناقشة فكرة / إعادة صياغة / أفكار ، وحتى الترجمة عن لغة أخرى يجب أن يذكر : ترجمة حرفية / فكرة مقتبسة . هذه الدقة في التنظيم توفر للباحث الكثير من الوقت والجهد .
4 – ويجب على الباحث أن يسجل كل فكرة تخطر على باله ، وهو منهمك في قراءة كتاب ، أو تدوين ملخص لفكرة خاصة به ، على أن تدون فكرة الباحث في مكان مميز من البطاقة .
5 – كما يجب على الباحث أن يميز كلماته عن كلمات المؤلف ، كأن يضع تحتها خطا أو نقاطا أو أية إشارة توضح المعنى الذي يقصده الباحث .
6 – لا ينسى الباحث تخصيص بطاقات ذات لون معين لكل موضوع ، كأن يكون اللون الأبيض للبحوث السابقة ، واللون الأخضر للخلفية التاريخية لمشكلة البحث ، وهكذا ..
نظام الاقتباس :
لم تعن أمة بنقد المصادر كما عنيت الأمة العربية والإسلامية ، وكان أهم ما دفعها إلى ذلك عنايتها بالحديث النبوي الشريف ، فكل حديث تعرض مصادره على النقد من أجل التوثيق والتثبت .
ويبدو أن الجاحظ عرف نظام البطاقات والتدوين والاقتباس ، ففي كتابه ( الحيوان ) لا يمكن أن يصل مؤلف إلى هذا التصنيف دون استخدام البطاقات في جمع مادته ، كما عرفوا الأصول الصحيحة للاقتباس مثل قول أبي حيان التوحيدي ، وقد نقل عن الجاحظ " ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت ... ... "
كذلك " الكندي " ، ورأيه في النفس حيث جاء على حد قوله عن فلاسفة اليونان والرومان ، فكان يستخدم كلمة ( عن ) .
وإذا لخصوا الاقتباس أشاروا إلى ذلك بقول يدل على ذلك ، كما استخدموا نظام المسودات والمبيضات ، ودائما ما تلغي المبيضة المسودة .(1/157)
أما في الوقت الحاضر فقد زاد الاهتمام بالقراءة والاطلاع على البحوث والدراسات السابقة في مجال البحوث العلمية كنتيجة للتراكم العلمي وتطبيقاته التكنولوجية ، كما ساعد المنهج العلمي الحديث في البحث على زيادة سرعة الانفجار المعرفي ، وأصبح من النادر أن يكون هناك موضوع جديد لم يتطرق الباحثون إليه أو إلى جزء منه من قبل ، بالإضافة إلى تقدم علم المكتبات والخدمات المكتبية وتقنيات التوثيق ، بالإضافة إلى تقدم علم الإعلام الوثائقي في كيفية نشر المعلومات وخزنها وبثها ، كل هذا سهل من مهمة الباحث في الاطلاع على البحوث السابقة ليبدأ من حيث انتهى إليه السابقون ، بالإضافة إلى الاستفادة من أفضل الأساليب التي يمكنه أن يستخدمها في بحثه ، وتختلف الملاحظات التي يأخذها الباحث من الكتب حسب نوع الفكرة ، ومقتضيات البحث وحسن اختيار الباحث للأفكار والملاحظات والأسلوب .
ولأهمية الاقتباس في البحوث العلمية ، وشرط كتابتها في شكل صحيح ، وضعت بعض النظم والمبادئ الهامة التي يجب مراعاتها عند الاقتباس ، إذ أصبحت هذه المبادئ هي المعايير التي نركن إليها في موضوع الاقتباس ، وسنوضح بعض أنواع الاقتباس ، وما يجب اتخاذه في كل نوع :
1 – اقتباس المعلومات مباشرة : ويسمى بالاقتباس الحرفي ، ويجب أن يكون الباحث حذرا من هذا النوع من الاقتباس الذي تتطلبه الضرورة ، إما باستشهاد الباحث برأي المؤلف ، أو لتدعيم فكرة أساسية في البحث ، والاقتباس الحرفي يوضع عادة بين قوسين صغيرين " ... ... " قبل أول كلمة وآخر كلمة من الفكرة المقتبسة حرفيا ، حتى يحافظ الباحث على الأمانة العلمية ، هذا إذا كان الاقتباس في حدود أسطر ثلاثة مطبعية ، أما إذا زاد الاقتباس الحرفي عن ذلك ، وهذا غير مستحسن ، ولا يلجأ إليه الباحث إلا إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك ، وهنا يجب على الباحث أن يلتزم بما يلي :
1 – لا داع لحصر الكلام المنقول بين الأقواس .(1/158)
2 – يجب حصر الكلام المقتبس وفصله عن متن البحث ، وتمييزه
كما يلي :
أ – ترك مسافة سم عند بداية كل سطر ونهايته من يمين
الصفحة ويسارها .
ب – تضييق المسافة العمودية بين أسطر الأفكار المقتبسة
باللغة العربية إلى النصف ، أما في اللغة الإنجليزية
فتضيف المسافة إلى الثلثين .
ويمكن اتباع القاعدة السابقة نفسها عند اقتباس ثلاثة أسطر ، إذا أراد الباحث التأكيد على أهميتها ، أو استحسانها ، أو مقارنة النص المقتبس مع أفكار أخرى أوردها الباحث ، ويستحسن أن لا يزيد الاقتباس الحرفي عن عدة أسطر ، كما لا يجوز اقتباس صفحة كاملة اقتباسا مباشرا ، إذ يفضل اقتباس بعض الأفكار المهمة ، وإعادة صياغتها ، ولزيادة الاستفادة يمكن الإشارة إلى المصدر الذي نقل عنه الباحث .
وفي حالة اقتباس نصوص هي نفسها مقتبسة من المصدر الأصلي ، وتوجد فيها علامات اقتباس داخل النص المقتبس ، لا بد من استبدال القوسين الصغيرين بقوسين آخرين ، هذا بالنسبة للنصوص المقتبسة داخل النص المقتبس ، وفي حالة اقتباس نصوص هي في الأصل مقتبسة من المصدر الأصلي ، يمكن وضعها داخل أقواس كبيرة في بدايتها ونهايتها .
ومع كل هذه الضوابط يفضل الابتعاد عن الكتب التي تكثر فيها النصوص المنقولة من المصادر ، لأنها ستضعف من استقلالية الباحث ، وستضيع الكثير من جهده ، وسيظهر بحثه ، وكأنه عالة على بحوث الآخرين .
أما الباحث الذي يعتمد على نفسه ، ويناقش آراء الآخرين المنثورة عن موضوع بحثه ، فإنه حتما سيخوض التجربة بنفسه ، ويصل إلى نتائج جديدة يضيفها إلى الآراء السابقة لبحثه .
2 – التلخيص عند الاقتباس :
يحذف الباحث في بعض الأحيان التفاصيل ، ويلخص الأفكار الرئيسية لموضوع معين ، ويرى " فاندالين " أن تلخيص المعلومات يقوم على حذف ثلث النص ، أو على الأقل خمسه .(1/159)
وكقاعدة عامة في البحوث : يجوز تلخيص فكرة وإعادة صياغتها بأسلوب سليم ، ولا يجوز صياغة فكرة مصاغة بأسلوب دقيق وصحيح .
وإذا أراد الباحث أن يساعد القارئ على التعمق في الموضوع ، وزيادة الاطلاع على هذه الفكرة ، فيستحسن وضع إشارة حاشية للرجوع إلى المصدر المستخدم .
وأخيرا ، فالتلخيص الذكي للمعلومات الموجودة في موضوع معين له أهميته في توسيع مدارك الباحث ، وإثراء بحثه بشرط ألا تختلط مع البحث .
3 – نقد الملاحظات المقتبسة :
يناقش الباحث أحيانا فكرة معينة يستقيها من مصدر موضحا نقاط القوة والضعف فيها ، وهذا يتطلب من الباحث أن يقتبس الفقرات المراد تحليلها ، ويعيد تركيبها ، فيجب – والحالة هذه – أن يكتبها كما هي في الأصل بنفس صيغتها ونفس ألفاظها وحروفها ، ويضعها بين قوسين ، ثم يستطيع بعدها أن يحذف ، أو يضيف ، أو يعدل ، أو يناقش نواحي الخطأ ، ويقدم الأدلة التي يقيم عليها حجته أو برهانه .
4 – الإيجاز عن الاقتباس :
قد يقتبس الباحث بعض الفقرات ، فيختصرها ويلخصها بأسلوبه الخاص مع المحافظة على جوهر الفكرة ومعناها ، وكثيرا ما يحتاج الباحث المبتدئ إلى إعادة صياغة بعض الفقرات ، وهذا يتطلب مهارة كافية في فهم النص واستيعابه وتمثيله ، ومن ثم صياغته بأسلوبه الخاص ، وبإيجاز ووضوح يوصله إلى الاستنتاج الذي قصده المؤلف بصورة موجزة ، أي أقل من طول الفقرات الأصلية .
إذا ليس من المستحسن استخدام اقتباس طويل ، أو الإكثار من الاقتباس الذي يعتبر مؤشرا من مؤشرات عدم الأصالة في التفكير من جهة ، بالإضافة إلى تأثيره على زيادة حجم البحث ، فيفقد الكثير من قيمته العلمية ، والمطلوب من الباحث المبتدئ أن يحيط علما بأصول الإيجاز ومبادئه في الاقتباس متوخيا الوضوح والدقة والموضوعية والاختصار .
5 – الاقتباس المنوع :(1/160)
( أ ) التغيير والتبديل في النص يخرج الباحث عن سبيل الأمانة العلمية ، وبخاصة التغيير الذي يهدف إلى تحسين الأسلوب فقط ، ومع هذا يجب الإشارة إلى الأصل .
( ب ) الضبط والتعليق : هناك بعض المعارف القديمة يلاحظ عليها الغموض في الأفكار ، ويلجأ الباحث إلى توضيح هذا الغموض عن طريق إعادة صياغة الفكرة ، وضبطها ، أو التعليق عليها من دون تطويل ، ومن المستحسن الإشارة إلى الأصل ، والاعتراف بأصحاب الفضل . ويقول السيوطي في المزهر " ولذلك لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفا إلا معزوا إلى قائله من العلماء ، مبينا كتابه الذي ذكره فيه . "
كما أن الاقتباس يتعرض من قبل الباحث إلى تصحيح الأخطاء والزيادة والحذف ، وهذا كله يتطلب الإشارة إلى النص الأصلي .
6 – التلخيص والاستنتاج :
إن نقل أفكار الآخرين واقتباسها من المصادر والمراجع وعرضها كما هي عليه لا يمكن أن يكون بحثا علميا ، لآن البحث العلمي يتطلب الأصالة الفكرية للباحث ، وتتجلى في مقدرته على استقلالية تفكيره . هذه السمة تنقل الباحث من جامع معلومات متناثرة لا صلة بينها وبين ذاته إلى طالب معرفة يسعى وراء الحقيقة والدليل لدراسة فروض بحثه في القراءة والتجربة والملاحظة الخ ، كما تبدو من خلال استيعابه لآراء الآخرين ، وإعادة صياغتها في مجال أوسع وأعمق عن طريق صهرها ومزجها بأفكاره مع المحافظة على سلامة الفكرة ووضوحها والترابط والتسلسل المنطقي والتوافق مع أجزاء موضوع البحث .
وليس من الضروري أبدا نقل بعض الأفكار كما هي ، بل يكفي أن تلخص إلى بضع كلمات ، أو يمكن تركيب بعض الأفكار ، وتلخيصها ، فيظهر مضمون الفكرة واضحا دون تشويه للمعنى الذي يعنيه المؤلف .
إعداد ورقة البحث في المرحلة الجامعية الأولى
الأغراض الأساسية لورقة البحث :(1/161)
إن معظم أبحاث الطلاب في المرحلة الجامعية الأولى هي دراسات مكتبية تتضمن الفحص الدقيق للمواد المكتبية المنشورة ، وغير المنشورة ، وتتضمن هذه الدراسات كذلك نقد وتقييم وتفسير المواد التي يطلع عليها الطالب .
وإذا كانت البحوث تنقسم إلى أنواع ثلاثة هي : البحث بمعنى التنقيب عن الحقائق والحصول عليها ، والبحث بمعنى التفسير النقدي ، ثم البحث الكامل ، فإن أبحاث الطلاب في المرحلة الجامعية الأولى يقع معظمها في النوعين الأولين ، وإن كان التركيز على النوع الأول من غير شك .
ويكلف الطالب بإعداد ورقة البحث لتحقيق الأغراض الأساسية التالية :
1 – تعويد الطالب على التفكير والنقد الحر .
2 – تدريب الطالب على حسن التعبير عن أفكاره وأفكار الآخرين بطريقة منتظمة واضحة وصحيحة .
3 – إظهار كفاءة الطالب في مجالات وموضوعات لم يتناولها الأستاذ في المادة الدراسية بتوسع وتغطية شاملة .
4 – التعرف على كيفية استخدام المكتبة سواء من ناحية التصنيف أو الفهارس أو المراجع ومصادر المعلومات العامة أو المتخصصة .
5 – الإفادة من جميع مصادر المعلومات بالمكتبة – أو خارجها – في تجميع المواد المتعلقة بموضوع معين ، واكتشاف حقائق إضافية عنه .
6 – تنمية قدرات الطالب ومهاراته في اختيار الحقائق والأفكار المتعلقة بصفة مباشرة بموضوع معين ، وذلك من بين المواد المكتبية المتوفرة .
7 – تنظيم المواد المجمعة وتوثيقها وحسن صياغتها ثم تقديمها بلغة سليمة وبطريقة واضحة منطقية مؤثرة .
وكلما نمت لدى الطالب هذه الخبرات والمهارات أثناء دراسته الجامعية ، زادت فرص إسهام الطالب الإيجابية في مجتمعه بعد التخرج ، واستطاع أن يواصل دراسته العليا – إذا أراد – بغير عناء كبير .(1/162)
إن تعويد الطالب على التفكير الحر النقدي ، وعلى التنقيب عن الحقائق والحصول عليها وتحليلها ونقدها وتفسيرها وتنظيمها هي ضرورة تعليمية جامعية ، وهي إحدى الجوانب المهمة في حضارة الإنسان المعاصرة .
وسنركز هنا على كيفية إعداد الطالب لورقة البحث التي تتطلبها دراسته الجامعية الأولى ، وذلك في الخطوات التالية :
أولا : اختيار الموضوع .
ثانيا : القراءة الأولية ، ووضع خطة البحث العامة .
ثالثا : جمع المصادر وتسجيل وصف ببليوجرافي لكل مصدر .
رابعا : استكمال الملاحظات عن المصادر المجمعة .
خامسا تدوين المعلومات وتنظيمها .
سادسا : كتابة البحث .
سابعا : الشكل النهائي للبحث .
ثامنا : كتابة الهوامش .
تاسعا : إعداد الببليوجرافيا ، أو قائمة مصادر البحث .
وسنتناول كل واحدة من هذه الخطوات فيما يلي :
أولا : اختيار موضوع البحث :
تحدثنا في موضع سابق عن كيفية اختيار مشكلة البحث ، وما يمكن أن نقوله للطالب بالمرحلة الجامعية الأولى هو ضرورة اختياره لموضوع البحث الذي يتفق مع رغبته وميوله ، على أن يكون ذلك بتوجيه الأستاذ المشرف أو موافقته النهائية ، كما ينبغي على ذلك الطالب أن يتجنب الموضوعات التي تتطلب خلفية من المعلومات ليست لديه ، وأن يحدد موضوعه بحيث يمكن أن تغطي ورقة البحث ( وهي عادة من عشر إلى عشرين صفحة ) هذا الموضوع بعمق ، ذلك لأنه إذا اختار موضوعا عريضا فستكون معالجته للموضوع سطحية ، وتضييق دائرة البحث يمكن أن يتم باختيار جانب معين فقط أو فترة معينة أو حدث معين أو شخص معين أو غير ذلك ، فضلا عن ضرورة اختيار الموضوع الذي تتوفر مصادره ومراجعه ، أو أكبر قدر منها بمكتبة الجامعة ، أو يستطيع الباحث الحصول على هذه المراجع والمعلومات بطريقة سريعة .
ثانيا : القراءة الأولية ووضع خطة البحث :(1/163)
وإذا ما اختار الطالب موضوعا معينا ، فعليه أن يقوم بقراءات استطلاعية للاستقرار على الموضوع الذي اختاره ، أو اختيار أحد الموضوعات البديلة التي تتوفر لها المراجع أو الشروط الواجبة في اختيار الموضوع .
وعلى الطالب بعد ذلك أن يحدد نقاط البحث بصفة عامة ، وأن يضع هيكلا عاما أوليا لأبوابه وفصوله ، ويقرأ قراءة عامة في بعض الكتب والموسوعات . إن قراءة مقال من موسوعة أو الاطلاع على أحد الكتب المتخصصة يمكن أن يساعد الطالب في التعرف على سعة الموضوع وطريقة البحث ، بالإضافة إلى أن المقال بالموسوعة يحتوي في نهايته على ببليوجرافيا ، أو قائمة بالمصادر .
ثالثا : جمع المصادر وتسجيل ببليوجرافي لكل مصدر .
رابعا : استكمال الملاحظات عن المصادر المجمعة .
خامسا : تدوين المعلومات وتنظيمها .
وهذه العناصر الثلاثة سبق أن تحدثنا عنا في أثناء الحديث عن نظام البطاقات ، لذلك لا تدعو الحاجة هنا إلى تكرار ما قيل قبل ذلك ، لكن هناك إرشادات يجب على الطالب أن يسترشد بها في هذه العملية هي :
1 – قرأ المعلومات المدونة ، وأعد قراءتها حتى تهضمها ، وتحس بها إحساسا كاملا ، وحتى يمكن أن تصوغها أنت بأسلوبك الخاص .
2 – خطط للبحث بصفة مبدئية ، وذلك بتجميع كل ما يتصل بنقطة واحدة ، واستبعاد ما لا يتصل بالموضوع ، ثم توزيع مجموعات البطاقات على أبواب ، أو فصول البحث ، أو نقاطه مع أخذ القواعد الآتية في الاعتبار :
أ – قاعدة الدليل الكافي : وقد يستدعي ذلك مزيدا من البحث والاستقصاء .
ب – قاعدة التنظيم : الزمني / الموضوعي / المنطقي ... ... الخ .
ج – قاعدة الترابط : يجب أن تترابط المعلومات فيما بينها ، ويجب أن يكون الطالب بارعا في استخدام الحقائق والأفكار في موضعها السليم .
3 – خطط البحث بصفة نهائية ، واستخرج البطاقات ، وأعد ترتيبها طبقا لما تراه ملائما لإثبات ، أو نفي ما تريد .
سادسا : كتابة البحث .(1/164)
يمكن اتباع القواعد التالية التي نذكرها باختصار :
1 – قاعدة التنظيم :
بحيث تتبع الرسالة المخطط الذي وضعته .
2 – قاعدة التقديم المنطقي :
أ – حاول أن تبدأ كل باب أو فصل بفقرات دقيقة محددة تدل على الأفكار الأساسية التي تريدها .
ب – ضمن نهاية الباب ، أو الفصل اختصارا مركزا للمعلومات الأساسية التي أوردتها .
ج – حاول دائما ربط الحقائق والعوامل المختلفة ببعضها في صياغة معلوماتك التي تقدمها .
د – استخدم الكلمات التالية كلما أمكن :
ونتيجة لذلك ، وباختصار ، وبالمقارنة ، وغير ذلك من الكلمات التي تربط الأفكار بعضها ببعض .
3 – قاعدة الوضوح :
أ – أعلن عن رسالتك التي تدعو لها في بداية البحث ، أو ضع الأسئلة التي تدل على هذه الرسالة في بداية البحث .
ب – الاختبار الحاسم للرسالة يتم ، عندما يستطيع المثقف المتوسط متابعة أفكارك .
4 – قاعدة التحديد :
يجب أن يكون الطالب محدد الاتجاه ، رغم عرضه لمختلف وجهات النظر المتعارضة .
5 – قاعدة إعادة الكتابة والشكل النهائي :
تكتب مسودة الرسالة الأولى بحيث تترك مسافات كبيرة للتصحيحات والإضافات التي تراها عند المراجعة ، ثم تعاد الكتابة بصورة أكثر تنظيما وتماسكا ، أما كتابة الرسالة بصورتها النهائية فيجب أن تكون كاملة من حيث اللغة والأسلوب وعلامات الترقيم .. الخ ، كما يجب أن ترد كل جملة اقتبستها إلى مصدرها ، ووضعها بين علامتي تنصيص " ... ... " لتمييزها عن نص البحث ، ويكتب بالهامش المصدر والصفحات التي اقتبست منها المعلومات .
سابعا : الشكل النهائي للبحث .
من المفضل أن يتضمن البحث في صورته النهائية ، وقبل تقديمه للأستاذ المشرف بعض العناصر الضرورية ، وذلك لأن هذه العناصر تضفي عليه الكثير من سمات الأسلوب العلمي ، وخصائص البحث الجيد ، وفيما يلي هذه العناصر :
1 – العنوان :(1/165)
تشمل الورقة الأولى للبحث في الزاوية العليا من اليمين ( إذا كان البحث باللغة العربية ) ومن اليسار ( إذا كان البحث بلغة أجنبية ) ، اسم الجامعة أو المعهد المسجل به الطالب ، واسم القسم العلمي ، واسم المادة الدراسية ، ثم تترك مسافة كافية ، ويثبت في منتصف الصفحة عنوان البحث ، وتحته اسم الطالب الباحث ، كما ينبغي ذكر السنة الدراسية للطالب ، واسم الأستاذ المشرف ، وتاريخ تقديم البحث ، على أن يراعى في هذا كله حسن التوزيع على الصفحة . كما ينبغي أن نؤكد على ضرورة كتابة العنوان بالكامل ، ولا ينبغي أن يكون العنوان غامضا ، حتى لا يسبب التباسا بالنسبة للقارئ ، وبالنسبة للمكتبات والموثقين في عملية تصنيفه والتعرف على مضمونه .
2 – الشكر والامتنان للآخرين :
حيث يقدم الباحث عادة الشكر والامتنان لكل من عاونوه في القيام بالبحث أو التجربة .
3 – قائمة المحتويات :
وهذه تذكر بعد صفحة العنوان ، وإذا كان البحث مطولا ، ومقسما إلى فصول وأبواب ، فإن عناوين الفصول تدرج بنفس الترتيب الذي وردت فيه في صلب البحث ، ويتبع كل منها برقم الصفحة .
4 – المقدمة :
وهي بداية كتابة البحث ، حيث يبين فيها الباحث أسباب اختياره للموضوع ، ويمكن أن يضمن المقدمة مراجعة ، واستعراضا عاما للإنتاج الفكري المسبق ، على أن تشمل المقدمة في نهايتها بوضوح خطة البحث ، وإطاره .
5 – صميم المادة :(1/166)
وهذه تشمل عرض الموضوع الأساسي بالطريقة التي انتهجها الباحث كأن يكون منهجا تاريخيا ، أو مسحا ، أو دراسة لحالة معينة ، أو تفاصيل التجربة التي أجراها ، ويجب أن تكون المادة في مجموعها متناسقة مترابطة ، وأن تتدرج الأبواب والفصول تدرجا منطقيا ، وفي حالة التجارب يمكن استخدام رءوس موضوعات فرعية عن الأجهزة المستخدمة ، والمواد والطرق المتبعة ، كما يمكن أن تتضمن التجارب عددا من الجداول والرسوم البيانية ، وكقاعدة عامة يجب عدم إخفاء تفاصيل التجارب العملية التي أجريت .
6 – النتائج :
وهذه تعطي ما وصل إليه الباحث فعلا بعد إجرائه للتجارب التي ذكرها ، وهذه يمكن أن تقدم في شكل جداول أو رسوم حسب الضرورة .
7 – المناقشة :
وهذه تعتمد على طبيعة البحث ذاته ، وهل هو في حاجة للمناقشة من عدمه ، فإذا كانت النتائج التي وصل إليها الباحث جديدة جدا ، فإن المناقشة – عادة – غير لازمة ، ولكن في حالة تكرار البحث ، ولكن بنتائج تختلف عن النتائج السابقة ، أو اتباع منهج مختلف .. الخ ، فإن المناقشة تكون لازمة .
8 – التوصيات :
كثيرا ما يخلط الباحث بين النتائج والتوصيات ، فالنتائج تعتبر الحقائق التي توصل إليها الباحث بناء على الدراسة التي قام بها ، أما التوصيات ، فهي مجرد آراء للباحث يعرضها للتنفيذ .
9 – الملخص :
وهذا يعطي موجزا عاما للتجارب والنتائج ، ومن الصعب عمل تمييز واضح بين الملخص ، والمستخلص مثلا ، وغالبا ما يكون هذا التمييز في أسلوب الكتابة ، وحجم المحتوى المذكور في كل منهما ، كما يمكن أن يتضمن الملخص موجزا لأقسام البحث ووحداته في تتابع ، أما المستخلص فيتضمن خلاصة البحث بعد قراءته واستيعابه ككل .(1/167)
هذه العناصر السابقة هي العناصر المنهجية في كتابة أي بحث علمي ، لكن لكتابة البحث نفسه ، أو ما يسمى بالتقرير العلمي أهمية خاصة يحسن أن نفرد لها حديثا مستقلا في هذا السياق ، وقد التفت إلى أهمية هذا الموضوع د. أحمد بدر في كتابه المهم ( أساسيات البحث العلمي ومناهجه ) ، ومن هذا الكتاب نلخص الأفكار الأساسية فيه .
إعداد التقرير المكتوب :
لا ينبغي محاولة الكتابة – كقاعدة عامة – إلا بعد اكتمال الدراسة ، ويعتقد بعض الدارسين خطأ أن التقرير المكتوب هو الدراسة ، وليس ذلك صحيحا ، فالتقرير هو مجرد وسيلة يقوم الباحث بواسطتها بإعلام زملائه بالعمل الذي قام به ، والنتائج التي توصل إليها بالنسبة للمشكلة موضع الدراسة ، وبمنهجه الذي اتبعه لحل المشكلة ، والدليل الذي وجده لتأييد الفرض الذي وضعه .
ولا ينبغي أن يكتب التقرير العلمي لتسلية القارئ ، فالروايات والمقالات الخفيفة والأشعار – وغيرها كثير من المواد المتشابهة – تؤدي هذا الغرض ، ولكن تقرير البحث له وظيفة واحدة ، وهي الإعلام ، ونشر المعرفة .
وليس معنى ذلك أن ورقة البحث يجب أن تكون جافة كئيبة غير مشوقة ، أو أن الباحث يجب أن يتحلل من متطلبات الكتابة الجيدة ، ذلك لأن التقرير يمكن أم يكون مشوقا ومكتوبا بطريقة طيبة دون اللجوء إلى الأسلوب الخطابي أو الغموض والإبهام ، بل يجب أن تتوافر في التقرير الدقة والوضوح ، وأم يكون إعلاميا موضوعيا دون ادعاء أو مغالاة .
خطوات كتابة التقرير :
إن أفضل الطرق للكتابة هو الاتجاه مباشرة نحو النقاط الأساسية في البحث ، وإذا ما ابتعد الكاتب عن محاولة التأثير على القارئ ببراعته غير العادية ، وإذا ما حاول التعبير عما يريد بأقل الكلمات ، وإذا ما حاول تجنب إضافة التعليقات التي لا تتصل بموضوع الدراسة ، فإن الكاتب يكون بذلك قد تخطى الرذائل الأساسية التي يقع فيها كتاب تقارير البحوث .(1/168)
إن قيمة ورقة البحث لا ينبغي أن تقاس بكمية المكتوب ، ولكن بنوعيته ، إن الاتجاه المباشر نحو النقاط الأساسية في الدراسة هو القاعدة الأولى في الكتابة ، دون مقدمات وحواش وتعليقات بعيدة عن صلب الموضوع .
ومن المفروغ منه أن الباحث الذي انتهى من دراسته الدقيقة الناجحة ، يعرف عن موضوعه ومشكلة بحثه كل شيء تقريبا ، فعقله مليء بالمعلومات ، لقد وضع الفرض ، ووجد الدليل الذي يؤيده ، فهو يعرف بالضبط لماذا يؤمن أن هذا الفرض صحيح ، أي أن الباحث يعرف ماذا فعل في مراحل بحثه ودراسته ، وهو يعرف الدليل الذي يؤيد نتائجه ، وبالتالي فينبغي أن يكون قادرا على كتابة وتدوين ما يعرفه في كلمات ، وعلى ذلك فالقاعدة الثانية للكتابة الجيدة هي أن يعرف الكاتب على وجه الدقة الموضوع الذي يريد أن يكتب فيه .
وإذا لم يكن للكاتب إلا خبرة محدودة بالكتابة ، فإن القاعدة الثالثة هي أن يتعلم كيفية تنظيم المعلومات التي لديه عن الموضوع ، وبمعنى آخر يجب أن يكون هناك نمط منظم للأفكار ، ولعل أفضل الطرق وأسرعها هي أن يسأل الباحث نفسه عن الحيثيات التي يؤيد الفرض الذي وضعه ، والذي يعتقد أنه الفرض الصحيح ، وإذا ذكر الكاتب حيثياته واحدا بعد الآخر مع الدليل الذي يؤيده ، فسينتج عن ذلك تركيب صحيح وكامل عن تقرير البحث . وهذا التركيب يمكن أن نمثله بالمعبد اليوناني الذي يقوم سقفه ( الفرض ) على الأعمدة ( الحيثيات المؤيدة ) ، وهذه الأعمدة ترتكز على أرضية صلبة وأساس متين وهو ( الدليل ) .
أي أن أرضية هذا التركيب تمثل الدليل أو البيانات التي بنيت عليها الحيثيات ، أو الأسباب ) التي تؤيد النتائج ، أو ( الفروض ) ، وإذا ما تناول الباحث هذه البيانات بهذه الطريقة ، فإن الفرض سيتأيد بوضوح بنظام قوي يمكن أن نسميه بالبناء الفكري .(1/169)
وحتى ينظم الباحث أفكاره بفاعلية ، وحتى يظهر العلاقة المحددة الموجودة بين دليله وفرضه ، فعليه أن يعد خطة مكتوبة لدراسته ، وهذه الخطة العامة تمثل هيكل دراسته كلها ، والباحث الذي لا يستطيع إعداد خطة عامة للنقاط الرئيسية لدراسته ، ولا يستطيع تجميع بياناته في إطار حيثياته التي يناقش بها فرضه ، هذا الباحث ببساطة لا توجد في ذهنه صورة محددة للدراسة التي كان يقوم بها ، كما أن الخطة العامة هي أداة ميكانيكية تخدم في تنظيم وتقديم المراد بطريقة فعالة ، على أن يحتفظ الباحث في كتابته لمختلف فصول الدراسة بالتماسك بين أجزاء الدراسة المختلفة والعلاقة بينها .
الفرق بين المقالة وتقرير البحث :
لما كانت متطلبات المقالة تختلف جذريا عن متطلبات تقرير البحث ، فعلى الباحث ألا يخلط بينهما .
فتقرير البحث ليس شيئا أكثر من وصف للدراسة الفعلية التي أتمها الباحث ، أما المقالة ، فهي مناقشة لموضوع معين ، أو مشكلة معينة ، وعادة تشمل هذه المقالة آراء الكاتب وتفسيره ، أو وجهة نظره ، والمقالة العلمية لا تضيف بالضرورة شيئا جديدا للمعرفة الكلية ، ولكنها ببساطة يمكن أن تلخص المعرفة الموجودة فعلا ، أما تقرير البحث ، فهو دائما يعد إضافة للمعرفة .
وكاتب المقال لا يتقيد بنفس القواعد الصارمة التي تحكم تقديم المواد في تقرير البحث ، فعلى سبيل المثال ، توثيق جميع البيانات والمعلومات التي يذكرها في مقالته أمر غير محتم ، أما في تقرير البحث ، فإن المصادر الصحيحة للمعلومات يجب أن تبين بوضوح ودقة حتى يتمكن الباحثون الآخرون من الاطلاع على المواد المماثلة بالرجوع إلى هذه المصادر المذكورة في التقرير ، وبالتالي تحقيق المعلومات والنتائج التي قدمها الكاتب ، إذا أراد هؤلاء الباحثون القيام بهذا التحقيق .(1/170)
هذا ويتوقع من كاتب التقرير أن يقوم بشيء أكثر من مجرد التعبير عن آرائه بمنطقية وعرض سليم ، إن المطلوب منه هو أن يقدم نتائجه مبنية على الدليل الحقيقي السليم الذي تم تقييمه بأمانة .
ولعلنا نؤكد الفرق بين المقالة وتقرير البحث – وكلاهما كتابة علمية – بأن نقول إن تقرير البحث يجب أن يتضمن دائما مشكلة فعلية قام الباحث بدراستها وحلها ، وأن هناك حقائق جديدة قد تم اكتشافها ، أما بالنسبة للمقالة فيمكن أن يبين الكاتب ببساطة أنه قد فكر في المشكلة ، أو أن يصف ملاحظاته وتجاربه الشخصية بالنسبة للمشكلة ، كما يمكن أن يقوم كاتب المقال بتحليل وتصنيف الآراء والاكتشافات العلمية التي قام بها الآخرون بالنسبة لهذه المشكلة .
وما يقدمه كاتب المقال إذن لا يمكن اعتباره حلا دقيقا له حيثياته عن المشكلة ، ولكن مقالته يمكن أن تظهر بعد نظره ، وإدراكه العميق للمشكلة ، رغم أنه لا يقدم حلا محددا ( بالمعنى العلمي ) للمشكلة ، لأنه لم يقم بالدراسة العلمية اللازمة .
إن الباحث العلمي الذي انتهى من دراسته العلمية لمشكلة معينة لا ينقل نتائجه في ( مقالة ) ، وإنما هو يكتب بدلا منها وصفا حقيقيا ودقيقا لمصادر معلوماته ، كما يشير إلى منهج البحث الذي استخدمه في البحث عن هذه المعلومات وتحليلها ، ويشير إلى الفرض أو النتيجة التي وصل إليها ، وإلى الدليل الذي يؤيد هذا الفرض .
أما المقالة فهي تكتب بغرض التسلية ، وبغرض الإعلام عن معلومات كذلك ، ويعمد كاتب المقال إلى أن تكون مقالته مشوقة ، أما كاتب تقرير البحث فهو يتجه مباشرة نحو تقديم الحقائق على قدر المستطاع ، كما أن التقرير يجب أن يكون موضوعيا لا ذاتيا .(1/171)
هذا ويرى كثير من الباحثين أنهم يحتفظون بموضوعيتهم بدرجة كبيرة عند تحدثهم بلسان الشخص الثالث ، كما أن الباحث لا يتحدث عن نفسه بكلمة " أنا " ، ولكن بكلمة " المؤلف " أو " الكاتب الحالي " ، وبالتالي يبعد العنصر الشخصي عن تقريره على قدر المستطاع .
الخطة العامة للتقرير :
هناك بعض الملاحظات العامة التي ينبغي التقيد بها عند تقديم المواد المجمعة في الدراسة العلمية ، وأول هذه الملاحظات أن يعرف القارئ مباشرة ما هي المشكلة التي يتناولها الباحث بالدراسة ، إن أول ما يقدمه الباحث في ورقة البحث – إذن – هو بيان المشكلة ، وإذا لم يعرف القراء المشكلة موضع الدراسة ، فمن العسير عليهم متابعة التقرير .
كما أن عنوان التقرير يجب أن يصف المشكلة باختصار ، مبينا طبيعتها ومادتها الأساسية ، وهذه المعلومات يمكن أن تقدم في شكل مختصر ، في سطر واحد أو سطرين على الأكثر .
المقدمة في تقرير البحث :
يجب أن يأتي الوصف الكامل للمشكلة ( بما في ذلك أي حدود لها ) في الفقرة ، أو الفقرتين الأوليين من ورقة البحث ، وليس في العنوان ، إلا في حالات نادرة جدا ، ويجب أن يصف الباحث مشكلته موضوع الدراسة في وضوح واكتمال ، حتى لا يكون هناك أي لبس فيما يتعلق بالموضوع المحدد للدراسة ، وفيما يتعلق بالسؤال الذي تحاول الدراسة الإجابة عنه .
ويمكن أن نقول – إذن – بأن افتتاحية كل تقرير علمي يجب أن تحتوي على إيضاح دقيق للمشكلة موضع الدراسة ، على أن يتلو ذلك مباشرة بيان بالحل الذي توصل إليه الباحث ، أي الفرض النهائي للباحث .
أما بالنسبة للفروض غير المرضية ، والتي قام الباحث باختبارها ، ثم أهملها خلال دراسته ، فلا ينبغي ذكرها في ورقة البحث نهائيا ، إلا إذا رغب الباحث في ذكرها ببساطة لتفنيدها .(1/172)
إن الحل الفعلي للمشكلة يجب أن يكشف عنه قبل تقديم البيانات والمعلومات ، وهذا الأمر ضروري لمعاونة القارئ في متابعة المناقشة والدليل بشكل سليم ، فالباحث ليس ككاتب الرواية الذي يحاول البدء بالأسرار المجهولة التي تشد القارئ لمتابعة الرواية من أجل الوصول إلى نهايتها ، وحل المشكلة التي حيرت القارئ في البداية ، الباحث إذن يعمل كل ما في وسعه ليمكن قراءه من متابعة تطور أفكاره ، وحيثيات مناقشته التي يعتمد عليها في إثبات الفرض الذي وضعه .
وعلى كل حال فما يهمنا في هذا الأمر ، هو أن يفهم القارئ من البداية كلا من المشكلة والفرض ، حتى يمكن متابعة البيانات التالية بطريقة منطقية تتلاءم مع النموذج الموضوع في الدراسة .
وهناك فقرة أخرى من التقرير لا بد أن تكون واضحة ، وفي بداية التقرير أيضا ، وهي وصف ( الطريقة أو المنهج ) المستخدم في حل المشكلة ، وكلما كان المنهج ضعيفا كانت النتائج مشكوكا فيها .
إن القارئ الناقد سيتبين من غير شك ما إذا كان الباحث قد اتبع منهجا علميا معترفا به ، وما إذا كانت الطريقة أو المنهج المختار يلائم المشكلة موضع الدراسة فعلا ، وبالتالي فإن وصف الخطوات التي اتخذت لحل المشكلة يعد واحدا من أهم العناصر في الجزء التقديمي لورقة البحث .
إن الباحث الذي يجد صعوبة في وصف الأساليب المتبعة في القيام بالدراسة يمكن أن يطرح على نفسه السؤال التالي : هل اختار الباحث حقا الأساليب الملائمة ، وهل يعرف هذه الأساليب فعلا ؟ وإذا كانت أساليبه جيدة ، ويفهم ما يقوم به في الدراسة ، فلن يجد صعوبة من غير شك في إبلاغ القارئ بالمنهج المستخدم .
الحواشي والتوثيق
الحواشي أو الهوامش كلمات مترادفة يقصرها البعض على مضمونات محددة ، ويستعملها البعض الآخر لتعنى أكثر من معنى ، ونستعملها هنا لنعني بها كل ما يكتب خارج النصوص ، أو ما ينبغي أن يكون خارج النصوص .
الحواشي :(1/173)
تطلق كلمة حواشي على كل ما لا يعتبر جزءا أساسيا في المتن الأساسي للكتاب المحدد ، ولهذا نجد من المألوف في الكتب القديمة كتابا يحتوي على مضمونين لمؤلفين مستقلين ، وإن كانا يشتركان في الموضوع ، ويمثل أحدهما الجزء الأساسي من الكتاب ، والآخر يمثل الجزء الثانوي ، ويسمى الحاشية ، ويحيط بالصفحتين المتقابلتين للموضوع الأساسي من ثلاث جهات في الغالب : الحافة العليا والسفلى من الصفحة ، والحافة اليمنى للصفحة اليمنى ، والحافة اليسرى من الصفحة اليسرى ، وقد يكون الموضوعان مستقلين تماما ، وقد يكون ما في الحاشية شرحا وتعليقا على الموضوع الأساس للكتاب .
أما في العصر الحاضر فقد أصبح الاتجاه السائد هو اقتصار تسمية الحاشية على ما يرد من معلومات مساندة لما في المتن ، وما يتم إدراجه في نهايات صفحات المتن ، أو نهايات فصوله ، وبهذا لا تعد قوائم المراجع والملاحق حواش .
استعمالات الحواشي :
للحواشي استعمالات متعددة ، من أبرزها تزويد القارئ بمراجع النصوص التي اقتبس من الباحث اقتباسا مباشرا ، أو اقتباسا بالمعنى ، وإحالة القارئ إلى مواضع أخرى في البحث .
وتقوم الحواشي إضافة إلى ذلك بتزويد القارئ بتوضيحات ، أو تفسيرات ، أو تعليقات ، وتدور معظم هذه التوضيحات حول المضمونات التالية :
1 – شرح بعض المفردات ، أو المصطلحات ، وينبغي مراعاة كتابة الاصطلاح بلغته المنقول عنها ، ولا يقتصر على الترجمة ، إلا إذا كانت الترجمة قد أصبحت مشهورة .
2 – تعليق أو تصحيح أو اقتراح أثناء الاقتباس .
3 – ترجمة مختصرة لحياة مؤلف ورد اسمه في النص .
4 – تعريف بمكان أو موقع .
5 – إيراد بعض الآراء المؤيدة أو المعارضة لما في النص ، وهذه قد تكون مصحوبة بأدلتها العقلية أو النقلية .
6 – تنويه بمساعدة تلقاها الباحث في إنجاز فقرة محددة .
موقع الحاشية :(1/174)
قد تأتي الحاشية – ولا سيما إن كانت توثيقا – ضمن النصوص بين قوسين في نهاية الصفحة ، وقد تأتي في نهاية الفصل ، أو في نهاية الكتاب ، وتوضع لها أرقام متسلسلة : إما في نطاق الصفحة ( كل صفحة تبدأ برقم واحد ) ، أو في نطاق الفصل كله ، أو البحث ، أو الكتاب كله ، أي يوضع رقم مسلسل من واحد إلى آخر حاشية في الفصل ، أو البحث ، أو الكتاب ، والحالة الأخيرة : أي وضع الحواشي كلها في نهاية الكتاب نادرة .
ووضع الحاشية في آخر الصفحة ، مع الفصل بينها وبين المتن بخط قصير له فائدتان :
1 – تيسر على القارئ الرجوع إليها .
2 – تيسر على الباحث مهمة حواش جديدة ، كلما بدت الحاجة إلى ذلك ، دون أن يخشى إعادة ترقيم عدد كبير من الحواشي ، وهذا بشرط أن يبدأ من الرقم واحد في كل صفحة .
وتستخدم الحاشية في بعض الحالات لغير أغراض التوثيق ، وتوضع لها بدل الأرقام الأنجم : واحدة للحاشية الأولى ، واثنتان للثانية ... ، ولكن الأفضل توحيد العلامات التي تستخدم تيسيرا للأمر ، وفي الأرقام غنى عن العلامات الأخرى .
ويلاحظ أنه في حالة الطول المفرط للحاشية تستخدم علامة يساوي ( = ) في بداية الهامش في الصفحة التالية ، وذلك لتنبيه القارئ إلى أن هذه الحاشية هي امتداد للحاشية في الصفحة السابقة ، وتقوم بعض برامج الصف الإلكترونية بمد الخط الفاصل بين الحاشية والمتن إلى نهاية السطر دليلا على أن الحاشية متصلة من الصفحة السابقة .
وقد يكون من المناسب نقل هذه الحاشية كلها إلى الملحق ، إن كان نصا من مصدر واحد .
التوثيق :
يقصد بالتوثيق إثبات المراجع التي استفاد منها الباحث بصورة مباشرة ، أو غير مباشرة عند إعداد بحثه .(1/175)
ونسبة الأقوال إلى أصحابها مبدأ تمليه التعاليم الدينية قبل الأمانة العلمية ، فلا يجب التساهل فيه ، وخير للباحث أن يخطئ بنسبة فكرة أو قول جميل أثار إعجابه إلى غيره من أن يخطئ فينسبه إلى نفسه ، ومع أن الهدف الأول هو توثيق المصادر التي تمت الاستفادة منها ، فقد يشير المؤلف إلى بعض المراجع لفائدة القارئ .
ولا يقتصر التوثيق على ما نقله الباحث من المطبوعات ، أو من المنشورات بمعناه الواسع ، ولكن التوثيق يشمل المخطوطات والمسودات ، وما يلقيه المدرس على طلابه أثناء المحاضرات ، وأية معلومات جاهزة معلوم مصدرها عند أهل الاختصاص ، يستفيد منها الباحث في بحثه ، لا فرق في ذلك بين المعلومة التي يتلقاها بالقراءة ، أو بالسماع ، أو بالمشاهدة .
وإذا لم يستخدم السلف الصالح الطرق الحديثة للتوثيق ، فإن ذلك لا يعفينا من استخدامها . وهناك حالات قد لا يحتاج الباحث فيها إلى التوثيق مثل الأمثال الشعبية ، إلا إذا نقلت عن كتاب جامع للأمثال ، والمعلومات الشائعة ، وغير ذلك .
قواعد إعداد قائمة المصادر :
قائمة المصادر تأتي باسم آخر ، وهو قائمة المراجع ، فهل هما سواء ، أو أنهما يختلفان ؟ يميز أحمد شلبي بينهما باعتبار المصادر مساوية للمصادر الأساسية ، والمراجع مساوية للمصادر الثانوية ، وقد يميز البعض بين المصطلحين ، باعتبار المصادر أكثر شمولا ، حيث تشمل ما رجع إليه الباحث ، وما لم يرجع إليه ، ولكنها تحتوي على مادة علمية وثيقة الصلة بموضوع البحث ، لهذا يراعى ضرورة تنبيه القارئ في مقدمة البحث بأن القائمة هي لما رجع إليه ، واستفاد منه ، أو لما استفاد منه ، واطلع عليه ، أو كل ما سبق ، وما له صلة بالموضوع ، ولم يطلع عليه .
وقد تختلف المدارس الفكرية ، وتختلف الطرق ، ولكن هناك مبادئ يجب الالتزام بها ، ولا ينبغي الخروج عليها ، وهي :(1/176)
1 – الهدف الأساسي من هذه القوائم هو خدمة القارئ ، وتيسير مهمة التعرف على المصادر المحددة التي وردت في البحث .
2 – الاطراد في الطريقة التي يتبناها الكاتب .
3 – التناسق بين طريقة التوثيق في الحاشية ، وطريقة إثبات المصادر في القائمة ، أي مثلا إثبات الشهرة في الحاشية ، والترتيب بموجبها في قائمة المراجع .
وهناك مقترحات في هذا الصدد تتمثل فيما يلي :
1 – ضرورة احتواء القائمة على جميع المراجع التي وردت في الحاشية ، ولا سيما عند استعمال الحاشية المختصرة ، وهذا يشمل معلومات عن الكتاب المجمع الذي تمت الاستفادة من مقال فيه ، ويتم تسجيله كاملا بصفة مستقلة ، إضافة إلى تسجيل كل مساهمة بشكل مستقل ، وهذا يغني عن تسجيل معلومات النشر كاملة مع توثيق كل مساهمة موجودة في المجمع نفسه ، فقد يستفيد من اثنين ، أو ثلاث مساهمات من المجمع نفسه ، فتغنيه هذه الطريقة عن تكرار معلومات النشر الكاملة مرات متعددة .
2 – عند عمل قائمة المصادر يفضل وضع الكتب المقدسة في مقدمة القائمة ، أما في حالة كتب التفاسير أو التعليقات أو الترجمات فيتم ترتيبها حسب شهرة المفسر أو المعلق أو المترجم .
3 – تقسم المراجع إلى قسمين فقط في حالة وجود مصادر بالعربية ، وأخرى بالأجنبية ، وذلك لأن كثرة التقسيمات تزيد من مجهود القارئ الذي يريد التعرف على مصادر محددة .
4 – يتم ترتيب المصادر حسب حروف الهجاء بشهرة المؤلف ، أو المؤلف الأول ، أو الاسم المميز للمؤسسة ، مع تجاهل " ال " التعريف .
5 – فيما عدا المؤلف الأول ، فإن أسماء بقية المؤلفين تظهر بترتيبها الطبيعي ( الاسم الأول ، ثم الاسم الثاني ، ثم الشهرة ) .
6 – بالنسبة للمراجع الأجنبية ، فإن صياغتها تكون مطابقة لصياغة المصادر العربية .(1/177)
7 – في حالة الدوريات ، أو الكتب المجمعة ( كتاب يتألف من عدة مقالات لكتاب مختلفين ) يتم تسجيلها باسم المحرر لها بشكل مستقل ، وعند الاستفادة من مقال فيها ، تسجل المقالة باسم كاتبها ، وتضاف شهرة المحرر ، وجزء من عنوان الكتاب المجمع فقط ، وتثبت أرقام الصفحات التي تحتلها المقالة في الدورية ، أو في الكتاب المجمع .
8 – الأفضل أن تسجل المؤلفات المعلق عليها ، والمشروحة والمحققة والمترجمة بشهرة المؤلف الأصلي ، ولكن لا بأس في تسجيلها بشهرة الشارح أو المحقق أو المترجم ، في حالة اختلاف العنوان عن العنوان الأصلي ، وذلك مع مراعاة التطابق بين الحاشية ، وقائمة المراجع .
9 – في حالة وجود أكثر من مؤلف واحد ،يسجل اسم المؤلف الأول كاملا، وتضاف أسماء ثلاثة من المؤلفين الآخرين ، أما في حالة زيادة الأسماء عن أربعة ، فيسجل اسم المؤلف الأول ، وتضاف كلمة " آخرون " . ( 1 )(1/178)