محاضرة بعنوان
أسباب الثبات على طلب العلم
للشيخ صالح آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين؛
أما بعد:
هذه بداية للدروس التي سبق أن بدأناها في العام الماضي أسأل الله جلّ وعلا أن ينفعنا بما مضى وأن ينفعنا بما سيأتي وأن يثبته في قلوبنا، وأن يمنّ علينا بالعمل بما علمنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى العظيمة الجليلة وأن يمنّ علينا بالبصيرة في كلّ ما نأتي وما نذر وأن يجنبنا سلوك غير سبيل سلف هذه الأمة في كل أحوالنا إنّه جواد كريم.
وبمناسبة هذه البداية نذكر بشأن العلم وما ينبغي أن يستحضره طالب العلم وهو يعاني العلم ويعاني حمله ويسير في طريقه لأنّ العلم ليس بالطريق الهيّن وكما قيل العلم طريقه طويل قد قال بعض السلف ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)) وقد قيل للإمام أحمد وقد ظهر الشيب فيه ((إلى متى وأنت مع المحبرة)) يعني كانت معه أدوات العلم ورق ومحبرة فقال كلمة مشهورة ((مع المحبرة إلى المقبرة)) يعني أنّه مواصل في هذا لا ينقطع وسبب الانقطاع فيمن انقطع عن العلم يرجع إلى أسباب من تلك الأسباب:
1- أنّه لم يعي حقيقة معنى العلم ولماذا يطلب العلم.
2- أنّه ربما كانت النية في أصلها ضعيفة لأنه بقوة النية في طلب العلم يكون الاستمرار والحرص عليه.(1/1)
3- أن يكون المرء متعجلا يريد أن يكون طالب علم أو أن يكون عالما محصلا عارفا بأكثر المسائل في سنوات قليلة هذا لا يحصل أبدا بل العلم طريقه طويل وقد يكون السبب راجعا إلى ضعف بصيرته في شأن العلم ويظن أن العلم نفعه قليل وأن غيره من الطرق التي ربما يغشاها بعض المستقيمين أو الذين ظاهرهم الالتزام أنها أسرع في تحصيل المقصود أن بها يحصل المرء على ما يتمنى من رجوع الخلق إلى ربهم جلّ وعلا وهذا من أسباب الانقطاع عن العلم يقول ماذا فعل العلماء ماذا حصلنا من العلم ولكن هناك طرق أخرى كذا وكذا هذه بها يكون المرء أكثر تأثيرا ويكون محقا للحق ومبطلا للباطل فتنصرف نفسه عن العلم وفي الحقيقة فاته أنّ العلم كالماء الذي يثبت في الأرض فينفع الله جلّ وعلا به من يأتي بعد كما مثل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي قال فيه ((مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضا)) فالعلم الشرعي غيث وهذا الغيث نافع ومن فوائد الفروق اللغوية في التفسير أنّ أكثر ما يستعمل الغيث في الكتاب والسنة فيما ينفع من الماء والمطر، أما المطر فأكثر ما يستعمل فيما يضر مما ينزل من السماء، {فأمطرنا عليهم مطر فساء مطر المنذرين} {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} فالنّبي عليه الصلاة والسّلام مثل لنا العلم بالغيث وهذا فيه مع تتمة الحديث بأنّه أصاب أنواعا من الأرض فكانت منها أرض قبلت العلم فارتوى الناس منه وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وفيه أيضا تسميته بالغيث والغيث يغيث الأبدان ويغيث القلوب وهكذا العلم فإنه بهذه المثابة.(1/2)
من أسباب الانقطاع عن العلم التي لمسناها في الشباب في السنين الماضية ودائما تتجدد أنهم لا تكون صلتهم بالعلم وأهل العلم مستمرة بل عهدهم بالعلم وأهل العلم في الدروس فقط وما عدا ذلك فهم يصاحبون الناس من أصناف شتى فلا تكون النفس دائما متحركة بالعلم بل تكون تتحرك بالعلم في وقت قليل في وقت الدرس وما بعد ذلك فأكثر الحديث الذي يتحدث به ليس في العلم هذا يجعله غير متعلق بالعلم، والعلم يحتاج إلى أن يتعلق به طالبه دائما (نفسه معه في كل حال) قد كان بعض أهل العلم ينصرف عن ملذات الدنيا لأجل العلم الملذات المباحة من مال ومن زوجة أو من النظر المباح أو أنس من أجل العلم ولانشغاله به وقد قال بعض الشعراء في ذلك من العلماء حيث أتته جارية ولم يلتفت وقد كانت حسنة الخلق والخلق فقال فيها أبيات فقال:
فقلت ذريني واتركيني
ولي في طلاب العلم والفضل والتقى
فإنّني شغلت بتحصيل العلوم وكشفها غنى عن غناء الغانيات وعرفها
يعني أنّه مشغول بشيء أعظم غلب على نفسه وهذا متى يكون إذا كان المرء دائما مع العلم قراءة في صحبة من يتكلمون في العلم في تبليغ العلم في الكلام في العلم في رؤية العلماء في الحديث معهم في سماع كلامهم تجد النفس تنشغل به ويكون العلم طبعا له أولا يكون تطبع يأتي بشيء من الكلفة ثم يكون طبعا له حتى إذا تحدث حدّث بالعلم إذا أرشد أرشد بالعلم إذا بيّن بالعلم فيكون في ذلك الأنس له ولا شك أنّ هذا يحتاج إلى جهاد وقد قال جلّ وعلا {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين} فالجهل هو ضد العلم والجهل داء كما قال ابن القيم داء قاتل يقتل صاحبه من حيث لا يشعر يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
علم من القرآن أو من سنة
أمران في الترتيب متفقان
وطبيب ذاك العالم الرباني(1/3)
الجهل داء لا شك قاتل لعماية العبد عما يجب عليه في دينه كذلك داء قاتل لجعله العبد ليس من الأحياء فالعلماء أحياء وغيرهم أموات وسبب موتهم هو الجهل لأنّ الجهل مميت مثل ما قال هنا قاتل فكل من جهل فقد قتل وقد مات والجهل ليس بمرتبة واحدة بل الجهل أنواع كثيرة فكل من جهل شيئا فقد أصيبت مقاتله من الجهة التي جهل فيها قال والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان علم من القرآن أو من سنة هذان الأمران علم من القرآن أو من السنّة من الذي يبيّن نصوص القرآن والسنة وينزلها منازلها ويجعلها في معانيها الصحيحة قال: (وطبيب ذاك العالم الرباني): (ليس أي عالم) لكنّه عالم رباني يخشى الله ويتقيه فيما يقول وفيما يأتي وفيما يذر فنصوص الكتاب والسنة هي شفاء الجهل وكثير من الناس ينفي الجهل عن نفسه بالحرص على الكتاب والسنة لكنه لم يستضيء بكلام أهل العلم بنور أهل العلم لم يستضيء بذلك ولما لم يستضئ بذلك أصيبت مقاتله قال وطبيب ذاك العالم الرباني هذا التعبير يفهمك بأن العلم دواء فإذا أتى رجل فأخذ من الدواء ما لا يصلح له يهلك أولا يهلك؟ يهلك قد هلكت الخوارج لأنهم أخذوا نصوص الكتاب ونصوص السنة ولكن نزلوها في غير منازلها فأخذوا من نصوص الكتاب ما استدلوا به على أنّ فاعل الكبيرة كافر قال {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} قالوا: هذا يدل على أنه كافر.
أخذت المرجئة بعض النصوص نصوص الكتاب ونزلوها في غير منازلها ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) ((من كان آخر كلامهم لا إله إلا الله دخل الجنة)) ونحو ذلك من النصوص فنفت العمل وأبقت القول والاعتقاد وأرجأوا ذلك فأصيبت مقاتلهم لماذا؟(1/4)
لأنهم لم يكن طبيبهم في فهم النصوص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علماء زمانهم أخذوا من أنفسهم ولم يتابعوا أهل العلم المتحققين به فأصيبت مقاتلهم وهكذا في كل زمن الحرص على العلم مطلوب لكن لا يمكن أن تكون حريصا على العلم ومصيبا في ذلك إلا أن تستضيء بفهم أهل العلم لأن العلم في هذه الأمة موروث ليس علما مستأنفا مبتدأ في كل زمن يبتدئ الناس منه ويستأنفون علما جديدا لم يكن معروفا في من قبلهم بل علمنا في هذه الأمة علم موروث ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((العلماء ورثة الأنبياء فإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) لهذا!تنتبه إلى هذا الأصل العظيم ألا وهو الحرص على العلم ولكن ينبغي أن يكون طبيبك في ذلك الحرص -(في تلقي النصوص)- طبيبك العالم الرباني فإن لم يكن ربانيا كان عالما ذا هوى فهم له مقاصد له أغراض أيضا أصابك شيء من عدم فهم نصوص الكتاب والسنة وأصابك شيء من الجهل بقدر ما فاتك من ذلك.
إذا علمت أنّ الجهل خطير وداء قاتل ولابد أن تسعى في شفاء نفسك منه عن طريق أهل العلم بفهمهم نصوص الكتاب والسنة فاعلم أنّ العلم أنواع كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواع ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونعته
وكذلك الأسماء للديان
هذا العلم الأول الأسماء والنعوت والصفات (التوحيد جميعه توحيد العبادة توحيد الربوبية) كله من ثمرات العلم بأسماء الله وصفاته ففي اسم الله الأعظم ((الله)) الذي (مرجع الأسماء الحسنى جميعا إليه) فيه أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه ففي اسمه الرّب أنه هو ذو الربوبية في نعوت الجمال أنّه هو المستحق للعبادة وفي نعوت الجلال أنّه هو المستحق للإجلال والتعظيم وإفراده بالربوبية وهكذا...فقال:
علم بأوصاف الإله ونعته
كذلك الأسماء للديان(1/5)
هذا ثلث العلم بالتوحيد ولهذا سورة الإخلاص صارت ثلث القرآن لأن القرآن، فيه العلم كله فثلث العلم التوحيد فصارت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها فيها التوحيد كله توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات قال بعدها: (والأمر النهي الذي هو دينه) هذا هو النوع الثاني من العلم الأمر والنهي هو معرفة الحلال والحرام المأمور به يشمل الواجب والمستحب والمنهي عنه يشمل المحرم والمكروه هو علم في فقه الحلال والحرام (علم الأحكام).
والثالث: منها هو علم الجزاء يوم القيامة قال: وجزاؤه يوم المعاد الثاني، الذي يدخل في ذلك علم السلوك ما يصحح به المرء قلبه ما يصحح به سلوكه مقامات الإيمان ومقامات الزهد والعبادة ومعرفة جزاء كل عمل يوم القيامة وما يحصل يوم القيامة من أنواع الجزاءات للمؤمنين المطيعين والمقصرين والكافرين (لأنواع الناس) إذن فلنعلم هنا أنّ هذه الثلاث هي العلم فتسعى إلى العلم بالتوحيد هذا ثلث العلم إلى العلم بالحلال والحرام هذا الثلث الثاني من العلم إلى العلم بما تزكي به نفسك {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} كيف تحصل على هذا العلم؟(1/6)
بتدبر نصوص الكتاب والسنة بما يكون يوم القيامة وحال الناس يوم القيامة والنصوص التي جاءت بما يكون به الثواب يوم القيامة نصوص الزهد نصوص الثواب الأذكار ما يتعلق بذلك كلها من فروع هذا إذن أقسام العلم ثلاثة إذا كنت حريصا على هذا العلم فلتكن حريصا على هذه العلوم الثلاثة ثم لتنفي عن نفسك ما استطعت من أسباب الجهل وقد عرفت أسباب الجهل ثم احرص على تمام الحرص على أن لا تنقطع عن الطريق وتذكر قول ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث نصح المتعجلين فقال: ((من رام العلم جملة ذهب عنه جملة)) فإنما يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي قليلا قليلا ولو أنّك لم تكسب كلّ يومين إلا مسألة تضبطها تكون ثابتة واضحة بدليلها فبعد سنة ستحصل قريبا من مائة وثمانين مسألة وبعد سنتين ثلاثمائة وستين مسألة واضحة بعد عشر سنين ألف وستمائة مسألة أحسب بعد ثلاثين سنة يكون الواحد عالم راسخ في العلم تكون المسائل واضحة مبسوطة عنده بوضوح وفهم غير ملتبسة هذا إذا كان في كل يومين مسألة فكيف يكون لو كان في كل يوم مسألة لو كان في كل يوم مسألتين، خذ ما تحصل من العلم ولكن يحتاج منك إلى مواصلة؛ فالغيث إذا أصاب أرضا وكان شديدا يمشي أو يظل راكدا في الأرض بل يذهب إلى الأودية والشعاب لأنّه قوي لكن هل الأرض التي نزل عليها أول مرّة نزولا شديدا يكون انتفاعها مثل الأرض التي استقر عليها الماء؟ هذا مثال للتقريب هذا وصف بليغ فيما يناسب العلم إذا ارتويت من العلم بعد ذلك الشيء القليل الذي يأتي تحس أنه ينفع الناس وتذكره بوضوح فمثلا تجد بعض طلاب العلم قد يتكلم بالكلمات لكن ما تقنع منها النفوس وهو طالب علم لأنها لم تنتج عن رسوخ وفهم لما يتكلم فيه تلحظ في الكلام شيء من الاضطراب في شيء من عدم الوضوح ما استطاع أن يوصل لك الكلام بوضوح تام لماذا؟(1/7)
لأنّه غير راسخ في هذا المقال الذي قاله وهكذا طالب علم أو عالم يكون عنده تسعين في المائة من العلم الذي معه واضح وعشرة في المائة غير واضح تجد أنه يلتبس عليه فلا يستطيع تأدية هذا الذي يلتبس عليه (مشكل عنده) فإذا كان العلم راسخا واضحا قد طلب على مهل فإنه يثبت في القلب وبعد ذلك يمكنك أن تنفع الناس به فلا يغيبنّ عنك هذه الحقيقة وهي أنّ العلم يطلب شيئا فشيئا أما من طريقته ومنهجه التذوق فهذا ليس من العلم في قبيل، ما معنى التذوق؟
هو ما رأيناه كثيرا يحضر عند فلان من المعلمين أو من المشايخ الكبار شهر وبعد ذلك يتركه يمشي أين يذهب؟
إلى آخر يذهب إلى ثالث...فما استفاد لأنه متذوق، فتجد الإخوان يقبلون سنة شهر شهرين ثم يهبطون هذا العلم غير متصل هذا ما يستفيد سنين ثم ينقطع في الغالب ينقطع ثم يصبح كغيره من الناس أما الذي يصبر ويصابر على مرّ الزمان فإنه هذا يحصل بحسب ما كتب الله له.(1/8)
ومما هو من أسباب ثبات العلم وعدم الانقطاع عنه أن تكون مخلصا القصد فيه لابد من الإخلاص في العلم لأن العلم قد أمر به في القرآن وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كان مأمورا به فإنه عبادة لأنّ العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي فإذا كان مأمورا به فهو عبادة فإذا كان عبادة يلزم فيها الإخلاص كيف يكون اِلإخلاص في العلم؟ ما النية في العلم؟ سئل الإمام أحمد عن ذلك كيف يكون مخلصا في العلم؟ كيف يكون مخلصا في عمله في صلاته في صيامه ...إلخ كل عبادة يخلص فيها إذا أراد بها الله جلّ وعلا العلم مع إرادته الله وعدم إرادته الرياء والسمعة ولا المكابرة ولا المجاهرة في الناس بالكلام ولا التقدم والتصدر أن يريد بالعلم نفي الجهل ورفع الجهل عن نفسه قيل للإمام أحمد كيف النية في العلم؟ قال ينوي رفع الجهل عن نفسه لماذا لأنّ جهله بالله جلّ وعلا جهله بما يستحقه جلّ وعلا جهله في صفاته جهله في أسمائه جهله بأمره ونهيه جهله باليوم الآخر وما فيه من تفصيلات وجزاء كل واحد على ما يعمل هذا لا شك ما يبدأ به ذوي النفوس الحية قبل طلبهم العلم فإنّ من طلب العلم يريد به الدنيا فهو من أهل الدنيا فإذا طلب العلم لله يريد الأجر والثواب ويريد نفي الجهل عن نفسه فإنه يكون مخلصا لاحظ هذه النية إذا أتت إليك واستقرّت فهي مباركة لأنك دائما تحس أنك جاهل لا أحد ينقطع من العلم حتى من عمّر مائة عام أو أكثر وهو في العلم ما انقضى، العلم واسع سعته هذه تحتاج إلى أن تكون دائما معه بالنية أن تنوي رفع الجهل عن نفسك وستلحظ أنّ بها أشياء ما عرفته فإذا كانت النية الصالحة موجودة ستستمر على العلم لكن إذا كانت النية غير صالحة ستكتفي بالضحالة من العلم.(1/9)
والعلم بالقرآن العلم بالتفسير لا ينتهي فإذا تأملت أنّ ابن جرير رحمه الله صنف كتابه التفسير مختصرا وقد قال لهم هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: قدر كم؟ قال: قدر ثلاثين ألف ورقة قالوا هذا مما تمضي فيه الأعمار فقال الله المستعان ماتت الهمم فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة يعني قدر العشر وهو الموجود اليوم في ثلاثين جزءا فأين الباقي موجود في غيره من التفاسير أشياء لم يذكرها ابن جرير رحمه الله وإنما هو قرب علمه بالتفسير واختصر هذا القدر من العلم بالقرآن إذا وصلنا إلى آخر التفسير نسينا شيئا من أوّله هذا حاصل نمرّ على تفسير سور القرآن ثم من الآيات ما نسينا تفسيرها اشتبهت فإذا كان المرء معه دائما نية رفع الجهل عن نفسه لا ينقطع عن العلم دائما يحس أنه ضعيف جاهل يأتيه الصغير فيعلمه شيئا لم يعلمه من قبل وهو أصغر منه يقول والله اطلعت على هذه المسألة وفوق كل ذي علم عليم يفرح بها (تجد أن صاحب النية الصحيحة إذا أرشده من هو أصغر منه أفرح ما يكون) لماذا؟ لأنّه حصل علما يرفع به الجهل عن نفسه ومن لم تكن نيته صحيحة فإنّك تجد عنده استكبار في العلم: لا...ليس كذلك، لا يفرح بالعلم تأتيه بالعلم الواضح الصحيح لا يفرح به لماذا؟ لأنّ نيته مدخولة، النية الصالحة في العلم سبب عظيم من أسباب الثبات عليه.(1/10)
أيضا من أسباب الثبات: الصبر على المعلّم فإنّ المعلمين أو المشايخ ليسوا على درجة واحدة في التعامل مع الطلاب يختلفون كل واحد تجد عنده أشياء فمنهم من قد لا يهتم بالسؤال ويفصل الجواب لكلّ أحد إذا كان الطالب يستريح له المعلم فصّل له أمّا إذا كان يرى أنه ليس بأهل للتفصيل أو فيه نظر ما فصل له فيحتاج طالب العلم إلى أن يصبر، كذلك قد يكون في بعض المعلمين فيه خصال ومعلوم أنّ كلا من المعلم والمتعلم فيه عيوب أو فيه نقص أو له طبائع خاصة به لأنّهم بشر فإذا كان طالب العلم يطلب في معلّميه الكمال والسلامة من العيوب والنقص فهذا لن يحصل تجده يأتي إلى فلان وينتقده والثاني ينتقده والثالث مَنْ الكامل عنده؟ وهذا يغلب على الذواقين الذين يتنقلون اليوم عند فلان وغدا عند آخر لمَ؟ لأنّه لم يعجبه حتى إنّ بعضهم حضر عددا من الدروس المختلفة سأله أحد العلماء عما أخذ من العلم فقال: حضرت عند فلان فذكر كذا وكذا هذاوالثاني قال كذا والثالث لم يفصل جيدا والرابع أخطأ الحديث و...أخذ يعد ويعد فقال له بئس الرّجل أنت.
من أسباب عدم المواصلة في العلم أن يطلب طالب العلم معلما فيه الكمال هذا لا يوجد إلاّ في المشايخ في علية المشايخ يعني المشايخ الراسخين في العلم الكبار وهؤلاء قد لا يمكنهم أن يعلموا كل الأمة أن يعلموا كل من أراد طلب العلم ولكن خذ من المعلم ما أصاب فيه وهو الأكثر ما دام أنه مؤلف ووثق فيه الطلاب له حسن أداء للعلم وتصور له صوابه أكثر من خطئه أو خطأه يعد قليلا فخذ منه صوابه والخطأ راجعه فيه بصره حتى يبصر.(1/11)
من المهم في طلب العلم أن تكون متواضعا مع المعلمين وهذا سبب من أسباب مباركة الله جلّ وعلا في علمك لأن التواضع للمعلم سبب للاستقرار وعدم التواضع للمعلم سبب للانقطاع هذا مأخوذ من قصة موسى عليه السلام مع الخضر موسى عليه السلام ما صبر والخضر عنده علم عجيب علم من الله جلّ وعلا فموسى رأى الأول (أمر السّفينة) فاعترض مع أنّه عاهده أن لا يعترض والمسألة الثانية الغلام الذي قتله الخضر اعترض موسى عليه السلام قال {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} ثم الجدار فأخبره أنه لم يستطع معه صبرار قال {هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تسطع عليه صبرا} ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: وددنا أنّ موسى صبر لو صبر لأخذنا علم كثير لكنه لم يصبر فحرم من علم الخضر وسبب الخلاف في الاستنكار هو الاختلاف في العلم الخضر في هذه المسائل أعلم من موسى فاستنكر موسى عليه السلام وهو كليم الله جلّ وعلا ومن أولي العزم من الرّسل كان عند غيره من العلم ما ليس عنده ما سبب الخلاف؟ سببه الاعتراض واختلاف العلم لهذا قد يكون عند بعض الطلاب اعتراض عدم فهم عدم قناعة لكن السبب في عدم القناعة اختلاف العلم ولهذا قال ابن الوزير محمد بن إبراهيم اليماني أو غيره في أبيات حسنة في بيان سبب اختلاف الناس سبب اختلاف الآراء وأن سبب ذلك هو اختلاف العلوم قال:
تسلّى عن الوفاق فربنا
كذا الخضر المكرّم والو
تكدّر صفو جمعهما مرارا
ففارقه الكليم كليم قلبه
وما سبب الخلاف سوى
قد حكى بين الملائكة الخصام
جيه المكرّم إذا ألمّ به لماما
فعجل صاحب السر الصراما
وقد ثنى على الخضر الملامة
اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما
الخصام بين الملائكة في أي شيئ؟ في قصة آدم وفي حديث اختصام الملأ الأعلى كذلك الاختصام بشأن أهل النار وغير ذلك...(1/12)
قوله: (الوجيه المكلّم) هو موسى عليه السلام قوله: (تكدّر صفو جمعهما مرارا) تكدّر صفو الجمع بأي شيئ؟ باعتراض موسى عليه السلام موسى اعترض فبين له الخضر أن ليس له هذا (ليس من أدب المتعلم مع المعلم أن يعترض عليه بشيئ لا علم له به) {هل أتّبعك على أن تعلمني مما علّمت رشدا} فلما لم يفِ موسى عليه السلام بالشرط عجل صاحب السّر (الخضر) الصرامة (الفراق) ففارقه الكليم (موسى) وقد ثنى (أعاد) لاعتراض.
ما سبب الخلاف؟ اختلاف العلوم هذا الطالب مثلا يستنكر على المعلم يقول: لا ليس كذا (وهو نظر لها من جهة) سبب الاختلاف هو اختلاف العلم هذا علمه واسع وهذا علمه ضيق فصاحب العلم الضيق اعترض على صاحب العلم الواسع فصار بينهما ما سبّب الانقطاع من الاستفادة ولذلك قال:
وما سبب الخلاف سوى اختلاف
فكان من اللّوازم أن يكون الإله
فلا تجعل لها قدرا وخذها
العلوم هناك بعضا أو تماما
مخالفا فيها الأناما
شكورا للذي يحيى الأناما(1/13)
يعني (هذه في مسائل القدر) إلى آخر أبياته المقصود من ذلك أنّ صبر المتعلم على المعلم وعدم كثرة الاعتراض هذا يجعله يستمر ويستفيد لأنّ طالب العلم وهو يسمع إذا عوّد ذهنه أن يعترض، أن يستشكل لن يتابع الكلام يفهم أوله وآخره وتسلسل المعلم فأنت تسمتمع مثلا لأحد المشايخ وهو يتكلم فكلما أورد كلمة أتيت باعتراض إذا أورد لفظ حديث قلت في ذهنك: لا هذا ليس لفظ الحديث، الحديث له ألفاظ وروايات أنت حفظت واحدة فلعلّ المعلم عنده ثلاث أربع روايات فانشغلت بالاعتراض إذا انشغلت بالاعتراض حرمت ولكن إذا انشغلت بالفائدة فما كان من الفوائد فيها الصواب استفدت وما كان فيه غير الصواب خطأ (ذهب وحده) أو شيء صححته بينك وبين نفسك أو راجعته فيه هكذا يكون العلم، أما الاعتراضات النفسية هذه التي تطلب الكمال أو نفسية الناقد أي كلّما سمع شيئا من معلمه نقد ولو في نفسه، فتجده يحضر في نفسه أسئلة واعتراضات والمعلم يتكلم هذا لا يستفيد وهذا سبب من أسباب الانقطاع في العلم.(1/14)
من أسباب الانقطاع: وهذا أيضا ملاحظ أن يكون المرء يطلب شيئا كبيرا فعنده همة في أول الطلب هذه الهمة تكسّر الجبال ماذا تريد؟ أنا أريد أحفظ الكتب الستة أو يقول: الواسطية هذه مختصرة أنا أريد أحفظ التدمرية أو يقول ما أريد أحفظ بلوغ المرام بلوغ المرام هذا خفيف أريد أحفظ منتقى الأخبار فيه ستة آلاف حديث أونحو ذلك ما أريد أحفظ زاد المستقنع هذا مختصر أريد أحفظ مثلا الإجماع والخلاف الذي في المغني مرض هذه الأشياء التي ذكرتها مرّ عليها بعض الشباب ممن هم على هذه الشاكلة صحيح أول الأمر عنده هذه الهمة العظيمة ويشكر عليها لكن هذه الهمة لا تستمر وما عرف عن أحد إلا نوادر أن تستمر معهم هذه الهمة فإذن من أسباب الانقطاع عن الطلب أن تحمل نفسك في فترة الهمة والقوة ما لا تحتمله في تلك الفترة ولكل عمل شرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح قال: ((إنّ لكل عمل شرة وإنّ لكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وأنجح ومن كانت فترته إلى معصية فقد خاب وخسر)) لكل عمل شرة حتى الإقبال على العلم له شرة (عنفوان) كأنّه سيقرأ مائة مجلد وسيحفظ ويعمل...ولكن لهذه الشرة فترة لابدّ: ((إنّ لك عمل شرة)) الشرة العنفوان والقوّة ولكل شرة فترة حتى في العبادات يجد من نفسه نشاط وإقبال تجده مقبلا على العبادة وكثرة الطاعات وإقبال على التلاوة ويجد أحيانا من نفسه كسل إذن الفترة هذه لابد منها لكن المهم لا تكن فترة إلى نكوص فإذا كان كل واحد له فترة فأسأل الله أن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين ((لكل عمل شرة)) ما الذي ينبغي أنه إذا أقبلت ووجدت من نفسك الشرة خذ بما يطاق لا تأخذ بشيء لا تحتمله في الفترة مثلا إذا وجدت إقبالا احفظ القرآن احفظ مثلا من متون الأحاديث الأربعين النووية في شرة في فترة قوة أحفظ مثلا بلوغ المرام عمدة الأحكام بحسب ما يتيسر لك، وجدت عندك قوة احفظ كتاب التوحيد احفظ مثلا الواسطية ونحو ذلك.(1/15)
هذه إذا حصلتها في فترات الشرة في فترات القوة فأنت على خير عظيم والواقع أن الذين وجدوا من أنفسهم الشرة هذه والقوة والعنفوان ما استطاعوا أن يكملوا هذه الكتب إلا نوادر حتى هذه الكتب التي عند بعض الناس إنها مختصرة ما استطاعوا أن يكملوها ولهذا عليكم من العمل ما تطيقون.
من أسباب الانقطاع: أنّك تطلب شيئا بعيدا تطلب أشياء العلماء إلى الآن ما حصلوها إلا نوادر في الأمة حصلت ذلك فإذا وجدت هذا من نفسك لتكن قوتك فيما تطيق وما ينفعك وإذا تحركت رياحك فاغتنمها كما قال الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
إنّ لك لّ عاصفة سكون
من أسباب الانقطاع: عن العلم أنّ المرء لا يطالع ولا يبحث من بعض طلبة العلم يأخذ بالوصية المعروفة بالتدرج في العلم وأن يمشي شيئا فشيئا ولكن لا يبحث ولا يطالع.(1/16)
مثلا تقول لطالب العلم أولا تمشي على الواسطية وشروح كتاب التوحيد والفقه في الزاد وشروحه وغيرها من العلوم لكن لا يكون عنده مطالعات فيجد أنّ هذه المتون فيها شيء من الثقل ما فيها إفراح للنفس والنفس تحتاج إلى تنويع وتقليب فإذا لم يكن عنده مطالعات مثلا في التراجم مطالعات في التاريخ مطالعات في الأخبار مطالعات في اللغة لم يكن يبحث كان إذا مرّت عليه مسألة هذه المسألة تجمع الأقوال فيها هذه آية ما كلام المفسرين فيها إذا ما كان عنده مطالعة متنوعة ولا بحث فتجد أنه يخمد بعد فترة فإذن يحتاج طالب العلم مع التدرج إلى أن يكون له إلمام كيف يبحث؟ ويكتب ويطلع معلمه أو يطلع المشايخ على ما كتب حتى ينمون عنده هذه الموهبة ولقد قال النووي في مقدمات المجموع أو في غيرها انه من أسباب ثبات العلم وتحقيقه أن يكتب المرء ما بحثه وما حققه يبحث وينظر ويكتب لا يكتب للتصنيف مثل ما هو موجود الآن صغار مثلا ما حققوا العلم تجد أنهم ألفوا كتبا ونشروها بعض الرسائل الصغيرة التي رأيتها رسالة من أولها إلى آخرها فيها حوالي خمسة وعشرين صفحة فيها ثمانية عشر خطأ في اللغة وهي خمس وعشرين صفحة هذا مثل ما قال ابن حزم في رسالته التلخيص في وجوه التخليص: ((كيف يكون مأمونا على العلم من لا يحسن اللغة)) كيف يؤمن على العلم؟ كيف نأمنه على فهم الكتاب والسنة؟ وعلى ما نقله لنا من كلام أهل العلم وقد فهمه جيدا؟ إذا كان ما أحسن كتابة عشرين صفحة بدون أخطاء فكيف يكون مأمونا على كلام العلماء الذين ينقل عنهم إذن فانتبه إلى هذه إنه القصد من الكتابة التي أقول لك هو البحث ليس هو النشر لا بل تبحث مسألة تجعلها في نفسك فكم من مسألة كتبنا فيها وهي مطمورة إذا رأيتها عجب لكن في فترة ما كتبناها في فترة أوائل الطلب والشخص فرح بها جدا فرح أنه كتب وحقق وقد حصل لي في فترة من الفترات أن جمعت الأصول اللغوية لعلوم الحديث وكان أحد الذين كتبوا في المصطلح يتمنى أن(1/17)
تجمع الأصول اللغوية لعلوم الحديث مثلا حديث الصحيح ما معنى الصحيح في اللغة ولماذا اختار أهل الحديث هذا الاسم؟ الحسن لماذا؟ المضطرب المدبج المنقطع المقطوع المرسل المدلس الضعيف لماذا اختارو؟ من فترات الشباب أن جمعت هذا من كتب اللغة في بحث استمرّ مدّة طويلة هذه الأقوال فأخذتها وقرأتها على الشيخ الأستاذ أديب العربية محمود شاكر المعروف كان في الرياض مكثت فترة قرأت فيها عليه بعض كتب اللغة وأنا فرحان بهذا الذي كتبت وهو دقيق ينظر فيه وفيه عجب فقلت: يا شيخ أنا عندي كتابات في اللغة لعلك نعطيك فترة فلما قرأ ما قرأ قلت: يا شيخ إيش رأيك قال: ماش أنا كنت أبغاه يمدح، قال: هذا عبث شباب هي كلمة قاسية لكنها نافعة لكنها كانت خطوة في البناء اللغوي مثلا في طلب العلم لكن نشرها لم يكن مناسبا مثل ما قال هذا عبث شباب صحيح شاب فرح وجمع إلى أن حصل على الشيء وكتبه.
فالمقصود البحث ينمي عندك القوة العلمية ويجعلك مواصلا في الاطلاع على الكتب وفي النظر لكن لا تنشر ولا تستعجل خلها عندك لأنها جزء من بناءك العلمي فإذن كيف تمتع الانقطاع لمن كان متدرجا في طلب العلم برعاية المتون يكون بهذا الأمر وهو أنك تبحث وتكتب وتري المعلمين ما كتبت حتى يصححوا لك المسار تكون كتاباتك نقية ومتزنة ولكن لا تستعجل بشيء فإنما هي لغرضين لاستمرارك في العلم وعدم الانقطاع في العلم ولتكوين الملكة العلمية المناسبة.
هذه كلمات اقتضاها عدم مجيء أكثر الإخوة في هذا الدرس ولعل أن يكون فيها بعض النفع وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
محاضرة بعنوان
أدب السّؤال
للشيخ صالح آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/18)
أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر وهذه الثلاث هي عنوان السعادة من وُفّق إليها فقد أوتي خير كثيرا ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن (أدب السّؤال) والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أن يكون السؤال فيه الاعتداء أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: ((إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة)).
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم؟ وعمّا يُسألون؟ وكيف يكون السؤال؟ وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.(1/19)
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم (في أدب العلم والتعلم) وفي (أدب الطالب مع شيخه) وفي (حقوق أهل العلم بعامة) والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} قال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويقيل عثرة بعض ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الولاية والمحبة والنصرة أهل العلم لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا {شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا (رفعهم درجات) ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات فهم الخاصة وهم الصفوة لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم لأنّ النور بالعلم والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة {قد جاءكم من الله نور} من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.(1/20)
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل بيته في عمله أو نحو ذلك ويسأل المتعلم المعلم لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهل العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) قال: أهل العلم قوله كثرة مسائلهم يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المنزل ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته)) وقد قال جلّ وعلا {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها} والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلها في القرآن وقد قال جلّ وعلا: {ويسألونك عن المحيض} {وإذا سألك عبادي عني} إلى آخر هذه المسائل مجموع ما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن خارج المدينة حتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: ((إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال))(1/21)
وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثمالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم وكثرة السؤال...)) فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأن يسألوا إذا جهلوا وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا وقالوا إن الرسول يجب أن يكون ملكا قال سبحانه وتعالى في سورة النحل {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ إذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر فأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه {إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة لأنهم أحق ببيان ما نزل الله جلّ وعلا ولهذا قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين ليناس ما نزل إليهم} قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم وإنّ أعلى أنواع العلم، العلم بكتاب الله المنزّل فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسآلهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة إذن الأصل(1/22)
موجود في كتاب الله وإنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم وإذا سأل عنه أهل العلم: (أهل الكتاب والسنة الذين رسخت قدمهم في ذلك) فإنّ تبعته في ذلك تزول لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتاه ثبت فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال (الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال):(1/23)
حال من جهة السائل وحال من جهة المسئول لنعلم جميعا أنّه حتى يصل المسئول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها: أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة (يتبيّن المسألة قبل أن يسأل) والملاحظ أنّ من السائلين (المستفتين) مَنْ إذا طرأت على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة (دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة) أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له (دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة) فإذا استوضح المسئول أو العالم وسأله عن بعض التفاصيل قال والله ما أعلم هذا فلان أوصاني أن أسأل له هذا كذا قال:...فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل لأنّه يسأل عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركه أدرك الحكم والمسئول (العالم) الذي يسأل لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيئ ليس بواضح؟ ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة لا تظنّ أنّ المسئول (المفتي) طالب العلم (الذي تأهّل للجواب) لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف (في السنة) وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي (ضيق وقت المجيب على السؤال) فعليه أنْ يعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته وحتى تكون المسألة أنفع يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك بل اعلم أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة وتقبل الجواب بحسب ما أورد فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل للنبي صلى(1/24)
الله عليه وسلم دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أخبرني عن الإسلام أخبرني عن الإيمان أخبرني عن الإحسان؟ وعن أشراط الساعة وما أمارتها)) ونحو ذلك فوضوح السؤال وقلة ألفاظه واستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة لأنّ السائل لم يحسن السؤال ولم يستعد للسؤال فلوا استعدّ وجمع تفاصيل السؤال لكانت الإجابة واضحة.
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن لا يسأل السائل أهل العلم عن شيء يعرف جوابه بعض طلبة العلم أو الذي لديهم اطلاع لديهم معرفة يكون قد بحث المسألة وعرف ما فيها من الأقوال فيذهب ويسأل فإذا سأل وأجيب بجواب موافق لأحد الأقوال أتى باعتراضات يقول: هذا ما دليله؟ هذا الدليل قدح فيه بكذا... أو وجّه بكذا... قال بعض أهل العلم فيه كذا ونحو ذلك... ففرق ما بين أن تسأل لتستفيد أو لتعلم وأنت لا تعلم وما بين أن تناظر.
العالم أو المعلم ليست وظيفته المناظرة ولم يفتح لك المجال لتناظره تأتي وتقول أنا أريد أن أناظرك في المسألة الفلانية ما معنى المناظرة؟(1/25)
معناها أجادلك فيها تعرف ما عندي وأعرف ما عندك حتى نصل إلى الحق وهذا من عدم رعاية الأدب مع أهل العلم لأن في ذلك بعض التّعدي على حق أهل العلم إلا إذا افصحت له بأنك تريد أن تبحث معه هذه المسألة فإذا أذن لك بالبحث فإنه عند ذاك تخرج المسألة من كونها استفتاء وسؤال وجواب إلى مسألة بحث واستفصال وهذا أيضا يكون عند المتعلمين في مجالس العلم فإنه يكون عنده معرفة بالجواب ولكن يسأل ليختبر (بعض الأحيان) أو (ليعلم غيره بأنه سأل سؤالا جيدا) ونحو ذلك وهذا الوقت الآن تقاصر عن أن نسأل عن شيئ قد علمنا فلنسأل عن شيئ لم نعلمه ولهذا كان مما ينبغي التأدب فيه أن لا تسأل عن شيئ إلا عن شيئ لم تعلمه وذلك لأنّ الله جلّ وعلا قال {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإن كنت تعلم فلا تسأل لأنه قد جاء عندك العلم ووقت المفتي أو العالم أو طالب العلم ينبغي أن يصرف في أشياء كثيرة والواجبات الآن يتقاصر عنها وقت الكثيرين فكيف بالاستطراد ونحو ذلك.(1/26)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال ألاّ تسأل أكثر من عالم بحثا عن جواب تهواه نفسك، بعض الناس يسأل أهل العلم بالهاتف (والهاتف الآن قرّب) وأكثر الإشكالات تقع حين يسأل عالما وبعدها يسأل الثاني ويسأل الثالث والرابع فهو يضطرب في فهم إجابات أهل العلم وفي الجمع بينها ثم بعد ذلك يذهب إلى (شيئ غير) جيّد وهو أنه يذهب إلى أسهل تلك الأقوال وهذا لا ينبغي فإنه الذي ينبغي في السؤال أن تبحث عمن تثق بعلمه ودينه في ذلك كما قال أهل العلم ينبغي للمستفتي أن يسأل من يثق بعلمه ودينه فإذا وثقت بعلمه فإنك تسأله ولا تسأل غيره لأنك إذا سألت غيره فإنه قد يكون عنده من الجواب غير ما يكون عند الأول فتقع أنت في حيرة لكن لك أن تسأل غيره فيما إذا كان جوابه مشكل من جهة الدليل فإنّ له أن يسأل غيره لأنه ما اقنع بالجواب لا من جهة عدم مناسبته لحاله أو من جهة صعوبة الجواب أو أنه لا يناسب أو يريد أن يسأل عمن يخفف له لا ولكن من جهة أنه استشكل هل هذا حكم الله جلّ وعلا وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المسألة أم لا؟ لفهمه من بعض الأدلة والأحاديث خلاف ذلك، إذن من الآداب ألاّ تسأل أكثر من عالم في المسألة لأن كثرة الأسئلة هذه:
أولا: تضيق وقت العلماء والثاني: أنه يوقع ذلك السائل في اشكالات وكثير من الذين سألوا يقولون: احترنا ما ندري هذا يقول كذا وهذا يقول كذا نقول: أنت الذي أخطأت أوّلا حيث سألت أكثر من عالم، سل من تثق بعلمه ودينه وخذ بفتواه وتبرأ أمام الله جلّ وعلا لأن الله جلّ وعلا أمرك بأن تسأل أهل الذكر وقد امتثلت بسؤال أهل الذكر فلا تزد على نفسك ثقلا وحملا.(1/27)
من الآداب: أيضا أن لا تسأل حين تسأل بإلغاز السؤال مثلا هناك من يسأل ويقول فلان من الناس حصل له كذا وكذا وهو يريد أن يخرج عن مسألته بخصوصه إلى مسألة مشابهة وهو يظن هذا السائل أنه إنْ أجيب على تلك فمسألته مثل تلك المسألة فيقول مثلا لو حصل عليه كذا وكذا ومسألته في الواقع تختلف عن تلك ولكنه يظن أنّ هذه وتلك سواء وحتى لا يظن العالم أنّ السائل هو الذي وقع في المسألة (ويحتاج إلى الجواب) فيوحي بطريقته هذه أنه يسأل لغيره، سؤال أهل العلم ليس فيه عيب بل هو شرف ويدل على حرص السائل على الخير ورغبته في إبراء ذمته ويكون متخففا من التبعة حين يلقى ربه جلّ وعلا فحين تسأل لا تسأل أهل العلم بإلغاز (سل عما وقع بوضوح ولا حرج في ذلك) فقد سألت بعض الصحابيات النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت ماذا يكون حكمها؟ والحياء لا يكون في السؤال لأنّ الحياء محمود لكن فيما إذا كان الحياء يبعدك عن معرفة حكم في الدين فإن ذلك غير محمود كما جاء في الحديث.(1/28)
إذن من الآداب التي ينبغي لنا أن نراعيها أن تسأل السؤال الذي تحتاجه وأن لا تظن أنك إذا ألغزت بالسؤال وأجاب أنّ الجواب ينطبق على مسألتك لو قلت له المسألة بوضوح والسؤال أو الحادثة التي تريد أن تسأل عنها بوضوح يكون الجواب مختلفا تماما فلا تكن ملغزا في سؤال أهل العلم لا عن مسألة فقهية ولا عن أشخاص ولا عن أحوال بل ينبغي أن يكون السؤال واضحا وذلك من توقير أهل العلم ومن السعي للوصول إلى الجواب الصحيح أما أن نعمي على أهل العلم حتى نحصل منهم على جواب فإن هذا لا يوافقه ما ينبغي من توقير أهل العلم وأيضا لا تبرأ به أنت لأنك أوقعت العالم في الجواب ولو عرف السؤال على حقيقته ومرادك منه لربما أجاب بجواب آخر فأنت لا تبرأ ولهذا نرى أن كثيرا من الإشكالات التي حصلت في تضارب أقوال بعض أهل العلم في بعض المسائل إما الفقهية أو المسائل الواقعة أو الاجتماعية ونحو ذلك إنما جاء من جهة من يسأل بسؤال ملغز معمى أو يكون المراد وراءه وليس في ظاهره وهذا لا ينبغي لأنّ الله جلّ وعلا أمرنا بأمر واضح فتعدى هذا الأمر تعدى لما ينبغي من الأدب في السؤال.(1/29)
من الآداب التي ينبغي مراعاتها في السؤال أن يكون السائل يسأل لنفسه وأن لا يسأل لغيره، كثير من الأسئلة يكون فيها سائل يقول: أحد الأقارب أوصاني يسأل عن كذا وكذا أو يقول لو حصل لفلان (صديق لي في العمل) حصل معه كذا وكذا وأوصاني لأسأل له!! لم هو لا يسأل؟ يختلف الحال لأنّ المفتي أو العالم لابدّ أن يستفصل لابدّ أن يسأل ما الذي حصل؟ هل حصل كذا وكذا؟ فإذا كان السائل غير من حصلت له المسألة فإنه لا يكون ذلك معينا على الجواب إلاّ إنْ كان السّؤال مختصرا وكان المانع من سؤال السائل هيبة العالم أو الاستحياء كما فعل علي رضي الله عنه حيث كان رجلا مذاء يعني (كثير المذي) فاستحيا أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته (لأجل أنّ فاطمة رضي الله عنها زوج علي رضي الله عنه) فاستحيا أن يسأل في مثل هذا السؤال الذي له تعلق بالزوجة فأوصى المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة (كثرة المذي) فسأله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقل الجواب إلى علي رضي الله عنه إذن الأصل أن لا يسأل المرء إلا فيما يخصه لأنّ الجواب يختلف بحسب السائل وبحسب عرض السؤال والناقل ليس دائما ينقل الصورة على حقيقتها وكثيرا ما يحصل من الأجوبة ما ليس فيه دقة بسبب عرض السائل.(1/30)
من الآداب المرعية في السائل أنه إذا سأل أهل العلم في الهاتف أو في غير الهاتف فلا يسجل الجواب مكتوبا أو على جهاز التسجيل إلا بإذن العالم وقد مرّ عليّ أنْ سجل بعض الإخوة لأحد أهل العلم جوابا ليس كما ينبغي وهذا راجع إلى أنّ العالم يجيب على قدر الاستفتاء ولو أخبر العالم أنّ هذا يسجل وأن الجواب يسمعه آخرون لكان جوابه غير الجواب الأول فمن عدم توقير أهل العلم وعدم رعاية حقهم بل من الافتئات على حقهم أن تسجل جواب أهل العلم بالهاتف أو كتابة ثم تنشره دون إذنه لأنه هو الذي له الحق في أن تنشر فتواه على الملأ أو لا تنشر أو لا تسجل فالسائل سأل فيما يخصه فهل أذن العالم لك أن تسجل السؤال والجواب بالهاتف؟ فإذا أردت أن تسجل فتستأذن في البداية وتقول أحسن الله إليك أنا محتاج للجواب مسجلا على الشريط والآن أريد أن أسجله فإذا أذن تكون أنت قد أتيت بما ينبغي من الأدب (ولم تكن ممن لا يوقرون أهل العلم أو يجعلون الأمر غير واضح لهم فيستغل بعض الفرص فيسجل عليهم ما لا يرغبون في تسجيله) مرة من المرّات حصل مثل هذا ولما سئل قال: أبدا ما قلت كذا وكذا على تفاصيله، بل المسألة فيها تفصيل بنحو ما، لم قال العالم إنّ المسألة فيها تفصيل لأنّه استحضر من المسألة الآن إنه سيكون أخذ ورد معنا ذالك فيه إشكال لكنه ظن حين سأله السائل بالهاتف أنها لا يعدو عن اهتمام السائل بنفسه إذن مما ينبغي من توقير أهل العلم وقد أمرنا بتوقيرهم كما جاء في الأثر عن عدد من التابعين أمرنا بتوقير أهل العلم ومن توقيرهم أن لا تفتئت عليهم بتسجيل أو كتابة وتنشر إلا بعد اقراره حتى ما تسمعه منه في درس (في شرح مسائل) لابد من تعرضه عليه فيقر أن ينشر أو يصور أو ينسخ أو يسجل ... لابد من ذلك لأن ما يصلح للقليل قد لا يصلح للكثير لأن الكثير يعني الأمة أو الناس تختلف طبقاتهم، العالم حين يتكلم إلى الحاضرين يرعى حال الذين أمامه (عدد قليل محدودون محصورون) لكن(1/31)
لو استحضر أنه سينشر على الناس فيطلع عليه فئات من الناس وبعقول مختلفة لكان جوابه يختلف عن الجواب الأول وبهذا ترون أن بعض الأسئلة التي يسأل فيها أهل العلم بالهاتف يكون الجواب مختلفا عما لوسئلوا مثلا في برنامج نور على الدرب فيكون الجواب هناك في تفصيل وفيه دليل وفيه تعليل ونحو ذلك لأنه سينشر على الملأ لكن الجواب لك يكون على حسب الحال يصلح هذا أو لا يصلح يجوز أو لا يجوز السنة كذا (باختصار) لأن الوقت يضيق عن أن يفصل لكل أحد.
هذه من بعض الآداب المتعلقة بالسائل.(1/32)
لعلنا نضيف من الآداب المتعلقة بالسائل أن لا يسأل السائل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة ويثير السؤال أمام العامة يعني في مثل هذه المحاضرة يأتي سؤال قد لا يعلم معناه ولا يفهم جوابه إلا فئة قليلة من طلبة العلم فلم تسأل أمام الناس؟ كذلك إذا حضرت في مجلس عند بعض أهل العلم فإن المجلس يحضر فيه العامي والمتوسط المثقف المتعلم طالب العلم فلا تسأل العالم أو طالب العلم عن سؤال إنما هو للخاصة (ليس العامة) وقد قال علي رضي الله عنه: ((حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله)) وقد بوب البخاري في (كتاب العلم) من صحيحه بقوله: ((باب من خص بالعلم قوما دون آخرين كراهية أن يقصر فهمهم عنه فيقعوا في أشد منه)) مثال ذلك أن في مثل هذا الجمع المبارك يأت ويسأل عن بعض المسائل الدقيقة في العقيدة (الناس يطلب منهم المسائل العامة فيما يجب عليهم من العقيدة) لكن لا ينبغي أن تسأل عن المسائل الدقيقة أمام من لا يفهم الجواب فيما لو أجاب المسئول عن السؤال، مثلا الكلام على بعض أحاديث الصفات التي قد لا يفهمها البعض مثلا الكلام على بعض الآراء في مواقف يوم القيامة والاختلاف فيها ونحو ذلك والكلام على بعض دقائق المسائل في الفقه واختلاف أهل العلم فيها هذا يقول كذا وهذا يقول كذا العامة إنما يحتاجون قولا واحدا بدليله يمشون عليه ولكن السؤال الخاص إنما يكون لأجل هذا السائل ولمن هم في طبقته ولهذا ينبغي أن تفرق فرقا مهما بين السؤال والبحث (بين السؤال الذي تحتاج معه إلى جواب وبين بحث المسألة) فتارة يكون السائل يريد بحث المسألة في المقام ويعرضها بصيغة سؤال وهذا غير مناسب ولهذا نقول لا تسل عن أشياء لا يفهمها إلا الخاصة فمن أدب السؤال أن تسأل بما يناسب المقام وألاّ تسأل عن أشياء لا يستوعب الجواب عليها أكثر الحاضرين.(1/33)
من الآداب أيضا أنك إذا سألت فأجبت أو سمعت علما فإنك تستفصل فيه أو تسترجع فيه حتى تفهمه لأنّ بعض أهل العلم قد يكون جوابه سريعا مثلا تسأل أنت وقد أتيت بأدب السؤال وأتيت بكلمات واضحة وتأنيت فيه فأوضحت على العالم فيكون الجواب سريعا، فهنا ينبغي لك أن لا تأخذ ما علق بذهنك في هذه الحال بل إذا كان عندك اشتباه فتستفصل منه أو تسترجعه في الجواب حتى تفهمه قد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة أنه قال: ((كانت عائشة رضي الله عنها لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه)) وقد بوب عليه البخاري أيضا في (كتاب العلم) من صحيحه.
فالأدب الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم إذا سمعوا شيئا يستشكل عليهم فإنهم يراجعون حتى يفهموا حتى لا ينقلوا للناس نقلا خاطئا أو حتى لا يعمل بشيئ غير واضح فإذن هذا ينبغي للسائل إذا أجيب ولم يتضح له جواب أن لا يترك السؤال على الجواب الذي هو غير واضح فيذهب يعمل بشيئ غير واضح بل يسترجع ولا بأس أن يقول ما فهمت الجواب وليسأل مرّة ثانية هل كذا أو كذا فيستوضح حتى يكون الجواب واضحا قارا في ذهنه.
من الآداب التي ينبغي على السائل مراعاتها أن يكون لبقا مع أهل العلم متأدبا معهم وأن يكون لأهل العلم هيبة في سيرهم وتوقيرا في قلبه فإنك إذا زدت في احترام العالم وشعر بذلك منك فإنه يزيدك من العلم والجواب بأنك قد تحققت بالزيادة يعني أصبحت متأهلا للزيادة لأنّ دليل تأهّل طالب العلم للتفصيل في الجواب والاستفادة الكاملة من العالم أن يكون متأدبا معه لا يأتي مثلا ويستعمل كلمات غير جيّدة أو كلمات فيها جفاء بل يتأدب ويتحيّن الفرصة الجيّدة للعالم فيسأله.(1/34)
هنا تنتبه إلى أنّ أوقات العالم تختلف فهناك وقت قد يكون مناسبا لك لا يكون مناسبا له فيكون الجواب الذي جاءك بحسب حاله هو قد يكون مستعجلا قد يكون وراءه أمر قد يكون وقت الصلاة قرب يكون وقت نومه قد يكون عنده ما يشغله قد يكون في البيت شيئ أهمّه قد يعالج في ذهنه مسألة من المسائل التي في المجتمع أو التي يريد أن يبذل فيها بعض الشيئ فيكون ذهنه منشغلا فينبغي أن تراعي حال العالم حيث تسأله فتقول له هل هذا وقت مناسب للسؤال أو أرجئ السؤال إلى وقت آخر فإذا قال: أرجئه إلى وقت آخر فيكون هذا زيادة في أدبك وأجر لك ويكون قد راعيت وتأدبت وإذا أتى وقت آخر وسألته يكون مهيأ نفسه لأن يفصّل لك ويجيب المسألة بما ينبغي فالمتصل دائما وهذا وارد هو المرتاح وأما المتصل به فلا يدري حاله فهذا يظن أنه ينبغي له أن يقول العالم له كذا وكذا وأن يرحب به بأعظم ترحيب وأن يفصل له (لا تدري ما حال المتصل به) أحوال الناس في بيوتهم في أعمالهم مختلفة وقد يكون الذّهن منشغلا بتلك الحال فقد يكون ويكون... فينبغي أن يراعي ذلك وأن لا يظنّ أنّ المسئول أو طالب العلم إذا سُئل أنه دائما ذهنه في نفس المستوى وفي نفس التأهيل بأن يجيب دائما جوابا مفصلا بأدلته إلى آخره ولهذا لو تذهب وترى في المدوّنة مثلا التي دونت فيها أسئلة مالك وبعض أصحابه والأجوبة وكذلك أسئلة الشافعي وكذلك أسئلة أصحاب أحمد لأحمد لا تجد الأجوبة متفقة من حيث التفصيل وعدمه فتجد بعض أصحاب أحمد لو رأيت المسائل المختلفة فيكون الجواب لا يصلح هذا أكرهه وفي مسائل أخر تجد أنه يفصّل لم؟ موضع اختصر وفي موضع فصل؟(1/35)
نحن نقرأ الكتاب لا نستحضر الحال التي سئل فيها ذاك السؤال والحال التي سئل فيها السؤال مرّة أخرى واقع الحال وواقع العالم النفسي والذهني والزمني والمكاني يفرض عليه أشياء كما سيأتي أيضا ولهذا ينبغي أن يراعى ذلك في حال سؤال أهل العلم تعلم أخي الكريم أنّ ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة في القرآن يعني كثير العلم في كتاب الله عزّ وجل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم مكث زمانا طويلا تردد في نفسه مَن المقصود بالمرأتين في قول الله جلّ وعلا {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإنْ تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} من المرأتان قال ابن عباس: تردد ذلك في نفسي زمنا طويلا وهبت أن أسأل عمرا لأنّ عمر كان يحب ابن عباس وكان يقدمه في المجالس ويباهي به كبار الصحابة لما يظن ويلمح فيه من علم وتُؤدة وأدب وفهم عنده في الكتاب والسنة قال ابن عباس: هبت أن أسأل عمر عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حتى كان منصرفه مرّة من الحج فصحبته فقال لي: يا ابن عباس قرّب لي وَضوءا (يعني ماء) فلما قرّبت له الوضوء قلت له في أثنائه يا أمير المؤمنين مَن المرأتان؟ قال: فأجابني عمر فقال: عائشة وحفصة وكان ابن عباس ربما توسد بردته في يوم حار عند باب أحد الأنصار ليستفيد منه علما سمع عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتثبّت منه أو أراد أن يأخذه منه مباشرة فيأتي فيطرق الباب فيقولون قائل (يعني نائم) أو في الدّار أو مثل ما يقول أحدنا اليوم هو مشغول فانتظر حتى خرج فلما خرج قال: يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ متى وأنت هنا فقال ابن عباس: منذ كذا وكذا وكان يتوسد البردة وتسفي الريح التراب عليه تذللا في العلم واحتراما لأهل العلم فلما رآه على هذه الحال انشرح صدر المسئول أن يجيبه عما أراد وعظم في نفسه فكان ابن عباس إذا سأل أجيب غير كثير ممن هم في طبقته من(1/36)
الصحابة رضي الله عن الجميع، ولهذا قال كلمته المشهورة: ((ذللت طالبا فعززت مطلوبا)) يعني لمّا كنت طالبا كنت أذلّ لمن أستفيد منه ولكن لما أحتاج الناس إلي عززت مطلوبا لأنه صار عندي من العلم ما ليس عند غيري وقد قال ابن عباس لبعض الأنصار (كان صديقا له) اذهب بنا يا أخي إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسألهم عن العلم ونستفيد منهم فقال: ذاك الأنصاري يا ابن عباس أتظنّ النّاس سيحتاجون إليك وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبار بين ظهرانيهم قال: فتركت العلم والسؤال وذهب ابن عباس يسأل ذهب كبار الصحابة فأتى زمن ابن عباس فيه هو من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتاج الناس إلى علمه واضح بجيب الناس بما فتح الله جلّ وعلا عليه ومنّ عليه من العلم، الشاهد من ذلك أنّ السائل والمتعلم يحتاج إلى أدب وهو مراعاة أهل العلم وأن لا يضيق بالعالم إذا لم يفتح له صدره دائما هو يشر، أحيانا يكون على حال وأحيانا يكون على حال أخرى وهذا لعله من أسباب عدم إكثار الصحابة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم تأدبا معه وتوقيرا له عليه الصلاة والسلام وحتى يكون ذلك أبلغ في الأدب معه عليه الصلاة والسلام هذا من جهة أدب السائل.(1/37)
أما العالم أو طالب العلم أيضا يحتاج إلى أن يكون أدب في الجواب وأهل العلم يعلمون ذلك وهم الذين يعلمون غيرهم في ذلك فإن كان من بعض طلبة العلم أو المنتسبين إلى العلم أو أهل العلم من لم يكن للسائل حفيا أو اشتد على السائل أو وبخه فلا يغضب السائل ويأتي كما هو حاصل اليوم يذهب ويقول فلان من المشايخ سألته ونهرني وقال لي كذا وكذا لأيّ شيئ لم نستيجده لم نطلب منه شيئا ونحو ذلك هذا لا ينبغي لأنّ المسئول ينبغي لك أن تعذره لأنّنا في هذا الزمن ليس في زمن الرياض أو المملكة منذ خمسين سنة (الذين هم في الرياض كلهم خمسة آلاف أو أربعة آلاف) الواحد في اليوم يسأل سؤالا واحدا فيجاب البال مرتاح وانتهى الأمر لا معه الآن الهاتف كل لحظة يرنّ والمسجد هذا سائل والثاني والثالث والرسائل التي تحتاج إلى جواب ونحو ذلك من المشكلات العظام أيضا التي تحتاج إلى علاج وما أشبه ذلك.
فلابد أن نكون ملتمسين عذرا لأهل العلم ولطلبة العلم لابد وإذا كنا غير ملتمسين للعذر فإن هذا غير جيد في حقنا ومن ترك مراعاة الأدب أدب السؤال وأدب الجواب.أيضا العلماء يختلفون بعضهم يكون سهل الجواب وبعضهم يكون غير سهل الجواب وهذا راجع إلى طبيعتهم الطبيعية التي جعلها الله عليه فإذن السائل ينبغي له أن يلتمس العذر وأن يتأدب وأن يوقر العالم ويستفيد من علمه بقدر ما يحبه العالم وأن لا يقصيه في أموره.(1/38)
من الأدب المهم أيضا أدب السائل أن لا يحرج السائل العالم أو طالب العلم مثال ذلك مثلا أسئلة مرّت جاءني في أحد المحاضرات سؤال يقول أسألك بالله وبوجهه وأقسم عليك أن تجيب على هذا السؤال، طيب المسؤول قد يكون له نظر في أن لا تناسب إجابة هذا السؤال على العامة فأنت الآن أحرجته شرعا لأنّ من السنة إبرار المقسم فإذا أقسم عليك أحد بالله فإنه من السنة أن تجيبه (من سألكم بالله فأجيبوه) فالآن أحرجته هو يرى المصلحة الشرعية السؤال لا يعرض ولا يجيب عيه وأنت تحرجه شرعا في أن يجيبه وهذا من غاية ما يكون من عدم رعاية الأدب وعدم احترام أهل العلم وطلبة العلم لأنّك تريد أنت الإجابة لغرض في نفسك (ومثل هذا الذي يكون معه إقسام وسؤال بالله غالبا بل الأكثر والجلّ لا يكون هو الذي يريد أن ينتفع لنفسه) وإنما يريد أن يكون هذا جوابا لأشياء تتعلق بالمجتمع أو بالأمة بالرأي العام ونحو ذلك يريد أن ينتشر الجواب عن ذلك فالعالم أو طالب العلم قد يترك جواب بعض المسائل لغرض شرعي صحيح يرعاه وقد يرعى من المصالح الشرعية ما لا يستبينه السائل فإذا أحرج السائل طالب العلم في مثل هذا التحريح كان هذا في غاية ما يكون من الإساءة فإما أن يجيب عليه العالم فيجانب المصلحة الشرعية وإما أن يرتكب النهي، فبذلك يوقع العالم أو طالب العلم في الحرج في أي المفسدتين أدنى حتى يرتكبها هل يرتكب مفسدة الجواب أو مخالفة إبرار المقسم ونحو ذلك.
المسائل التي يسأل عنها تنقسم إلى مسائل في التوحيد والعقيدة ومسائل فقهية ومسائل اجتماعية.(1/39)
المسائل التي في العقيدة تارة تكون غايتها بالبحث والفائدة وتارة تكون لها مساس بموقف سيكون في الواقع، فتارة يكون البحث في مسائل التوحيد والعقيدة لغرض إفادة السائل فهو يبحث عما يريد أن يستفيده مثلا مسألة في التوحيد معنى الشهادتين في شرح باب من أبواب التوحيد أو مسألة في مسائل الصفات أو الإيمان بالقدر أو ما أشبه ذلك وهناك أسئلة يسأل لكي ينبني على هذا السؤال شيئ من التصرفات في نفسه أو في من معه سواء في داخل هذه البلاد أو في خارجها فهنا ينبغي على السائل بل يجب عليه أن يبين غرضه للعالم الذي يسأله وألا يدلس عليه فيقول هذا السؤال لشخصي أو يقول هذا السؤال أريد أن أرسله لبلد كذا وكذا لكي ينتفع منه بعض من سألنا هناك مثلا أسئلة جاءت من الجزائر يختلف الجواب عن أسئلة جاءت من مصر إذا كان السؤال تبعثه من نفسك بنفسك يختلف جوابه عما إذا كان سينبني عليه عمل أمة يترتب عليه مصلحة أو مفسدة إلى آخره لأنّ الحكم الشرعي الفرق بين العالم وطالب العلم والدارس الفرق بين المفتي والباحث أن المفتي يبني بفتواه على أشياء كثيرة يرعى النصوص ويرعى كلام أهل العلم ويرعى القواعد الشرعية ويرعى ما أمر الله جلّ وعلا به من الأصول وما نهى الله جلّ وعلا عنه فيرعى أشياء كثيرة غير المسألة الموجودة في الكتاب فقد يجد السائل المسألة موجودة في الكتاب موجودة في كتاب من الكتب ويذهب يطبقها على الواقع لا ليس الأمر كذلك ولو كان الأمر لما احتاج أهل العقول أن يطلبوا العلم على أهل العلم وإنما يقرأون ويكتفي بقراءتهم ولهذا قال بعض من تقدم لا تأخذ العلم عن صحفي ولا القرآن عن مصحفي الصحفي الذي يقرأ في الصحف والنسبة إلى الصحف صَحَفي وليس صُحُفي لأن النسبة تكون إلى الصحيفة على وزن فعيلة وليس النسبة إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى الجمع لأنّ القاعدة اللغوية أن النسبة تكون إلى المفرد لا إلى الجمع فقال: لا تأخذ العلم عن صحفي(1/40)
ولا القرآن عن مصحفي (الذي قرأ القرآن من مصحف وحفظ من المصحف) لا تأخذ عنه القرآن لابدّ أن يكون قد قرأ القرآن على شيخ أخذه عنه لأنه هناك أشياء لا يدركها بقراءته في المصحف كذلك العلم هناك أشياء لا يدركها بقراءته للكتب ولهذا عاب بعض أهل العلم بعض الفحول في مسائل لأنهم اقتصروا على ما قرأوا أخطأ ابن حزم في مسائل في الحج ما السبب أنه قرأها وما حجّ ورأى المشاعر ورأى ما فيه النفس شيخ الإسلام ابن تيمية كتب منسكا من المناسك على ما هو موجود عنده في الكتب ثم لما حجّ غيّر رأيه في مسائل كثيرة كذلك ابن القطان أحد علماء الحديث المعروفين لكنه لم يأخذ علم الحديث عن رواية وعن أهل العلم وإنما كان ذكر ذلك الذهبي كان أكثر أخذه لذلك عن طريق القراءة ووقع في أشياء كثيرة لا يقع فيها أمثاله من أهل العلم إذن هناك فرق بين أن يكون السؤال لحاله تخصك أنت أو أن يكون السؤال لحالة عامة في مسائل العقيدة والتوحيد وكذلك في مسائل الفقه إذا كان السؤال شخصي هذا له حال وإذا كان السؤال ستنشره وسيبني عليه عمل أناس كثير هذا ينبغي أن توضحه للعالم حتى يتحرى في جوابه الأنفع للأمة ولهذا بعض أهل العلم يفتي بفتاوى خاصة لفلان من الناس ويأتي هذا ويقول أفتاني الشيخ بكذا وكذا فيذهب على أن الشيخ هذه فتواه وإذا سئل العالم يقول لا هذه فتوى ما أفتيت بها يعني للعامة وإنما أفتى بها لمسألة خاصة.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إمام هذه الدعوة عجّل الله له المثوبة ورفع درجته في الجنة أفتى في بعض المسائل في مسألة معروفة في الطلاق مرة واحدة فقط مدونة موجودة وفي بقيتها يفتي على غير هذه الفتوى في تلك المرة هل نأخذها ونجعلها قاعدة لا لأنه رأى من حال السائل وحال السؤال ما يجعله يفتي بتلك الفتوى.(1/41)
فإذن العالم قد يخص في حالة معينة بفتوى لو قيل له إنها ستنتشر لا يفتي بتلك الفتوى وهذا مما ينبغي للسائل أن يرعاه فيكون الأدب في ذلك أن تخبر العالم أنّ هذا السؤال خاص بي في مسائل التوحيد والعقيدة أو أنّه سيبعث إلى بلد كذا وكذا وينتشر أو نتتدارسه نحن والإخوان وسنرتب عليه كذا وكذا في عمل في إنكار منكر... في...
فهذا يختلف وبعض السائلين وحصل مرارا، وأنا أدركت بعض هذه الأشياء مع الأسف أنه يعتقد من الذكاء أن يبهم السؤال ويستغفل العالم فيسأله حتى يقع في جواب هو ما أوضح له الصورة فيقول مثلا إذا حصل من واحد أنه قال كذا وكذا فهل يكون مرتدا أم لا؟ هل يكون مبتدعا أم لا؟ هل يكون فاسقا أم لا؟ بعض العلماء خاصة بعد ما مرت تجارب يستفصل أو قد لا يجيب على السؤال وبعضهم قد يجيب على ظاهره باعتبارها مسألة علمية عامة لو سئل عن تنزيلها في الواقع ربما اختلف جوابه فهذا من المهم أن تتبينه قبل السؤال وأن لا تلغز أو تبهم وتظن أن هذا من الذكاء أو أنك أخذت منه جوابا في الواقع أنت تأثمت بما ستنقل وتأثمت بوضع العالم وقد حصل كما رأى بعضكم كثير من الاختلاف في الفتاوى في فترة مضت هذا ينقل كذا وهذا ينقل كذا وكثير منها راجع إلى أنّ السائل ما أعطى العالم الحقيقة في ما وراء كلمات سؤاله إنما سأل سؤال عام ذلك ظنّ أنها مسألة علمية وما استفصل منه فأجاب فهذا ما راعى الآداب والتفريق بين المسألة العلمية وتطبيقها في الواقع فلهذا أخذ هذا الجواب وحصل من الاختلاف والآراء المتضاربة وحصل ما حصل لأجل هذه المسائل.
إذن إذا كانت المسألة عقدية أو كانت المسألة فقهية فلابدّ أن ترعى الأدب فيها وأن تفرق حين تسأل السؤال بين أن تكون شخصية أو عامة وأن تبين ذلك للعالم الذي تسأله.
أحوال السّؤال(1/42)
السّؤال له أحوال سؤال المسجد (بعد المحاضرة) يختلف عن سؤال المسجد بعد ما ينصرف العالم من الصلاة يختلف عن السؤال في الجامعة يختلف عن السؤال في درس يلقيه العالم يختلف عن السؤال فيما إذا كان راكبا سيارته (يسمع بسرعة ويجيب) فهذا السائل يأتي مرتاح مطمئنا والمسئول يكون مجهدا مثلا ألقى محاضرة استغرقت مدّة من الزمن ويلقي السائل سؤاله عرضا ويريد جوابا يكون على نحو ما فيأتيه الجواب فيأخذ هذا الجواب وهو صادق في أنّ العالم أجابه لكن غير صادق في أنّ العالم فهم ما أراده بإبعاده وينقله ويحدث الناس بأنّ العالم أفتاه بكذا وكذا وما وراء كلمات السؤال ولهذا ينبغي أن نفرق (رعاية للأدب وإبراء للذمة) بين أحوال السؤال سؤال المسجد بعد محاضرة له حال سؤال المسجد بعد الإمامة له حال سؤال بعد درس من الدروس في مجلس من مجالس العلم في الفقه أو في التوحيد له حال في الإجابة والاستفصال والرد إلى آخره سؤال الجامعة سؤال الهاتف له حال سؤال السيارة له حال وغير ذلك من الأحوال وقد ذكر لي بعض كبار السن أنه أراد مرة أن يسأل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله سؤالا في السيارة فأجابه الشيخ قائلا: إنّ السيارة ما فيها فتاوى إذا عدنا إلى البيت فادخل أو إذا كنا في المسجد ادخل واسألني فيه لماذا؟ لأنه راكب معه في السيارة فيعرض له أشياء هذا مار وهذا يسلّم وهذا... والمفتي ينقل عن الله جلّ وعلا وموقع عن رب العالمين حينما يجيب يقول هذه فتوى الله جلّ وعلا في المسألة {يستفتونك قل الله يفتيكم} هذا كلام الله جلّ وعلا هذا حكم الشرع فالمسألة عظيمة ولهذا كثير من السلف هاب السؤال ورد السائل وتردد وقال: (لا أدري) كثيرا، الإمام مالك رحمه الله كان يسأل ويجيب لا أدري وهو أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله أتاه سائل من مصر بعيد قال: يا أبا عبد الله أتيتك من بلد كذا وكذا من أبناء لك أو إخوان لك يحبونك وحملوني أربعين مسألة فقال مالك سل فسأل(1/43)
المسألة الأولى فقال الإمام مالك: لا أدري والثانية: لا أدري والثالثة: لا أدري أجاب عن سبع مسائل أو أربع مسائل وفي ثلاث وثلاثين أو ست وثلاثين مسألة قال: لا أدري لو عالم يأتي ويقول اليوم هذا لا أدري ولا أدري سيقال: هذا ما عنده خبر هذا ما عنده علم قد يكون الحال غير مناسب قد يكون يريد أن يؤدب السائل وقد وقد... فقال هذا للإمام مالك: يا أبا عبد الله أتيتك من كذا وكذا وكلهم ينتظرون جوابا أأذهب إليهم وأقول: مالك يقول في ثلاث وثلاثين مسألة لا أدري قال: قل لهم إنّ مالكا لا يدري، ما أبردها على القلب لماذا لأنه إذا أجاب يجيب عن الله جلّ وعلا هذا حكم الكتاب والسنة وهي مسألة تجلّ لها القلوب ولهذا نهينا عن كثرة المسائل، وهذا مما ينبغي لنا أن نتركه هذا سؤال عن كذا؟ وهذا سؤال لمَ كذا؟ في مكان واحد مائة سؤال مائتين سؤال وذهن المسئول يكلّ ويتعب وقد يضعف في آخره ولهذا يأتي بالمسائل الكبيرة ويضعها في آخره شيء العالم بشر فينبغي أن يراعى الحال وأن لا تكثر المسائل جاء في النصوص ونختم بهذا وحتى لا نطيل عليكم جاء النهي عن كثرة المسائل وقد قال العلماء كثرة المسائل الناس تجاه على أحوال يعني على أقوال من الناس وهو قول طائفة من المنتسبين لأهل الحديث من لم يسأله وقالوا يكفينا ما عندنا من النصوص ولا نحتاج أن نسأل لأنه نهينا عن السؤال ويأخذون بعموم ما ورد في النهي عن المسألة والنهي عن كثرة المسائل وإياكم والمسائل والأغلوطات ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث، فأخذوا به على ظاهره فلم يسألوا وهؤلاء أدى بهم ذلك إلى ألاّ يكونوا فقهاء وأن يكون فهمهم للشريعة قاصرا أو على غير السداد كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله تعالى هذا صنف قالوا لا تسل عندك النصوص عندك الكتب ما يحتاج لأنّ السؤال منهي عنه وكثرة المسائل معيبة فعندك إذا احتجت دور من الكتب وإذا لم تحتاج فلا تسل وهذا الحال أو الفعل (غير صواب) والفعل الثاني أو الحال(1/44)
الثاني: حال أهل الرأي الذين شققوا المسائل وسألوا عن أشياء لم تقع وافترضوا أحوال لم تقع في زمانهم منها أشياء لم تقع ولن تقع أبدا لأنها خيال أو لا يمكن أن تتصور إلا في الذهن أما في الواقع لا تتصور ومنها أشياء تخيلوها ووقعت ووقوع البعض لا يعني أنّ ما شققوه أنه مأذون به (بالمثال يتضح الحال) بعض فقهاء أهل الرأي من الحنفية وغيرهم لهم كتب فيها الطريقة التالية أرأيت إن كان كذا فمثلا يبدأ الكتاب الوقف هو كذا أرأيت إن كان كذا فالجواب كذا يعني أنه يسأل العالم مائة سؤال مائتين ثلاثمائة سؤال كلها تشقيق للمسائل في أشياء واقعة في أشياء غير واقعة وبإيراد الحيل في هذه المسائل وابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجل يسمع حديثه فقال ابن عمر من السنة تقبيل الحجر الأسود قال الرجل: أرأيت إن غلبت عنه؟ قال: من السنة تقبيل الحجر الأسود؛ قال: أرأيت إن لم يمكني تقبيله قال: دع أرأيت في اليمن وهو كان من أهل اليمن من السنة تقبيل الحجر الأسود (فإذا تمكنت من تطبيق السنة فطبق ما تمكنت لا تكثر من أرأيت إن حصل كذا أرأيت إن حصل كذا) وهذا يحرمه كثيرون يظنون العلم كثرة السؤال يسأل عن أشياء لا يعلم عن حكمها يسأل ويسأل لا العلم بالتعلم وإنما السؤال كاشف للعلم وليس أساسا في العلم لأنّ الله جلّ وعلا يقول: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فإذا استشكلت فاسأل إذا كنت لا تعلم فسل وأما كل شيئ تسأل عنه في موقع واحد تسأل عشرين ثلاثين سؤال هذا غير محمود فإذن هذا القسم وهو السؤال عن أشياء لم تقع وكثرة المسائل داخل في النهي عنه فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم سؤال عن أشياء لم تقع.(1/45)
القسم الثالث: وهو حال فقهاء الأمة فقهاء أهل الحديث ومن تابعوا حال السلف في ذلك وهم الذين يسألون عن معاني الكتاب والسنة وعما يدخل في دلالاتها من الفقه هذا السؤال المحمود الذي من بحث عنه فهو الذي يرضى قوله وعمله تسأل عن معنى آية تسأل عن معنى حديث استشكلته فاسأل عن ذلك فهذا لا يدخل ضمن المنهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نوقش الحساب عذب)) فقالت عائشة: يا رسول الله أليس الله جلّ وعلا يقول: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذلك العرض عليه ومن نوقش الحساب عذّب)) تعرض عليه أعماله عملت كذا وكذا وسترتها عليك وعملت كذا وكذا وأثيبك عليها وهكذا...
هذا عرض وأما المناقشة فإنّ معها العذاب لأنّ الله جلّ وعلا لا يناقش الحساب أحدا إلاّ عذبه كما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذّب، هذا القسم محمود سؤاله وهو الذي فعله أهل العلم ويفعلونه مع مشايخهم يسألون عن أشياء تخصهم في دينهم يسألون عن معاني الكتاب والسنة ويسألون لرجاء نفعهم.(1/46)
من المسائل التي ينبغي أيضا أن تراعى في أدب السؤال ما يخص الذين يسألون أهل العلم في عقب المحاضرات أو الندوات السائل الذي أرسل السؤال في الورقة طبعا يضيق المقام أن تعرض جميع الأسئلة بعد محاضرة أو ندوة لكن هو يحتاج إلى الجواب وهذا الذي يفرز الأسئلة ينبغي أن يكون متأدبا مع العالم في السؤال وأحيانا لا يرعى الأدب في ذلك بأن تحجب بعض الأسئلة ويعرض بعض الأسئلة، الأسئلة التي فيها مخالفة لرأي هذا الذي يفرز لا يعرضها والتي توافق رأيه يعرضها ولم يؤتمن على هذا!! ائتمن على أنّ المسألة التي تفيد السائل وتناسب الحال وله أن يقيم الحال حال المسجد يرعى المصلحة ويدرأ المفسدة أو ينظر لرغبة الشيخ أو العالم فيما يسأل عنه وما لا يسأل عنه هذا لابد منه، لكن أن يكون هو يختار ما يريده ويلغي ما لا يريده هذا نوع من عدم الأدب مع أهل العلم في السؤال وسبب إشكالات كثيرة يأتي هذا ويستدعي عالم أو يطلب من عالم يسأله عن أشياء هو يريدها أو تأتي الأسئلة فيبعد بعض الأسئلة التي يكون جواب العالم فيها لا يرضي جواب من يفرز الأسئلة أو لا توافق رأيه هو يعلم أنّ العالم سيجيب هذا لكن الجواب على خلاف ما يهواه فهل أنت حكم على أهل العلم في أجوبتهم؟ هذا يسبب فرقة في الأمة ويسبب أشياء من عدم رعاية وتوقير أهل العلم الذي ينببغي من الأدب للذين يسألون أهل العلم أن يسألوا الأسئلة النافعة سواء كانت توافق ما عنده أو لا توافق لأنّ العالم هو الذي سيجيب بما دلت عليه النصوص (إذا كان راسخا في العلم) والهوى بعيد عن أهل العلم وهذا بتزكية الله جلّ وعلا لهم ولهذا لا ينبغي لهذا الذي يفرز الأسئلة أن يتقي على رغبته بل يسأل ويقول للعالم قبل أن يأتي الأسئلة إذا جاءت ما الأسئلة التي تحب أن تعرض وما التي لا تحب أن تعرض فيقول له الأسئلة التي فيها كذا وكذا لا تعرضها لأنه قد لا يناسب عرضها أمام الناس في مسجد منهم من يكون خالي الذهن أصلا عن بحث هذه(1/47)
المسألة يأتي تعرض فيطلع على شيئ هو في غنية عن أن يطلّع عليه إذن هذه المسألة بحاجة أن ترعى في الندوات والمحاضرات أن يكون الذي يفرز الأسئلة يرعى ما يرغبه العالم فيما يعرض وفيما لا يعرض وألاّ يتحكم هو لأنّ تحكمه يسبب بعض عدم رعاية وتوقير أهل العلم لهذا نجد أنّ بعض المشايخ يعتذر عن بعض الندوات ويعتذر عن بعض المحاضرات لمَ؟ لأنّه يخشى أن تأتي أسئلة لا يناسب الجواب عليها أمام العامة مثل ما ذكرنا السلف ما أجابوا على كل سؤال في كل مقام وإنما يختلف الجواب بحسب اختلاف الحال يفصل في موضع لا يفصل في موضع يمتنع عن الجواب في موضع... إلخ.(1/48)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم فأتاه رجل فسأله متى الساعة فلم يجبه (عليه الصلاة والسلام) وأكمل حديثه ثم قال: متى الساعة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال: {يسألونك عن الساعة أيّان مرساها فيم أنت من ذكراها} لا يعلمها عليه الصلاة والسلام {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} جلّ وعلا فلما ألحّ في المسألة كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال: ((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) هذا الجواب غير السؤال لأنّ السؤال كان بمتى عن الزمن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بقوله إذا وسّد بعلامة من العلامات وأشراط الساعة معلومة كذلك في قول الله جلّ وعلا لها سأل النبي عليه الصلاة والسلام الناس عن الأهلّة كان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} الصحابة سألوا وقالوا لمَ يبدأ الهلال في أوّل الشهر رفيعا ثم يكبر ثم يكبر حتى يستتم؟ فسألوا سؤالا لا تستوعب الجواب عليه عقولهم فكان الجواب {قل هي مواقيت للنّاس والحج} أجيبوا بشيئ غير السؤال بما ينفعهم وهو أنّ الأهلّة هذه مواقيت لم يبدو كذا ثم يكون كذا هذا عدل عن الجواب عنه وفي هذا أصل شرعي في أنّ العالم قد يعدل عن الجواب إلى شيئ آخر ويأتي بعض الناس ويقول هذا هروب من الجواب الشيخ ما أجاب هرب من الجواب ليس هروبا من الجواب لأنّه لا يريد أن يجيب لخوفه من الجواب ونحو ذلك لا العالم مربي يربي الناس ويجيب بالأصلح لهم لما يرعى فيه المصلحة ويدرأ المفسدة هذه بعض ما يتعلق بالآداب التي ينبغي مراعاتها حين السؤال وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعني وإيّاكم بما سمعنا وأن يجعلنا من المتأدبين الذين يريدون وجه الله والدّار الآخرة وأسأله جلّ وعلا أن ينفعنا بعلمائنا وأن يجعلنا من المتعاونين معهم على البرّ والتقوى والمتأدبين معهم والذّابين عنهم قول أهل السوء أسأله سبحانه لي ولكم العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدّنيا والآخرة وأن يختم علينا هذا الشهر الكريم بقبول(1/49)
وغفران وألاّ يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يوفق ولاة أمورنا لما يحب ويرضى هذا وصلى الله وسلم وبارك على من علمنا الخير وأدبنا أحسن تأديب نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر لكم حسن هذا الاستماع وحسن الإقبال وأسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن غفر له أول ذنبه وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.(1/50)