أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام وخصائصها
( د. علي عيسى عبد الرحمن (1)
مُقَدِّمَة:
الحرب النَّفْسِيَّة اليوم هي أحد أفتك أسلحة العصر، حيث تمارس على نطاق واسع بهدف النَّيل من الخصم والتقليل من شأنه.
مورست الحرب النَّفْسِيَّة منذ قديم الزمان وتذكر لنا آي القرآن الكريم الممارسة النَّفْسِيَّة التي ضلَّل بموجبها إبليس ـ عليه اللَّعنة ـ نبي الله آدم - عليه السلام - . كما تبيِّن لنا الآيات القرآنية ما دار من قصص الأنبياء، وكيف كان الكافرون يقلّلون من شأن الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ.
يتناول هذا البحث تعريف الحرب النَّفْسِيَّة وتاريخها وأهدافها، كما يتناول أساليب الحرب النَّفْسِيَّة المستخدمة في الإسلام. وتناول المبحث الأخير من البحث خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام، والتي تميِّزها عن سائر العمليات النَّفْسِيَّة الأخرى.
تطوّرت الحرب النَّفْسِيَّة في ظل العولمة، وصارت حرب حضارات، وهذا البحث هو جهد متواضع يعكس جانباً من الفكر الإسلامي فيما يلي الاستخدامات النَّفْسِيَّة.
.. والله من وراء القصد وهو يهدي السَّبيل ..
المبحث الأول
الحرب النَّفْسِيَّة: التاريخ والأهداف
تعريف الحرب النَّفْسِيَّة:
يرى الباحثون أنَّ الحرب النَّفْسِيَّة هي: "جهود سلبية أو إيجابية ذات طبيعة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تصدر من فرد أو جماعة أو دولة أو عدة دول متحالفة، وتوجَّه ضد الفرد والجماعة أو الدَّولة الصديقة أو المعادية على حد سواء، بهدف التأثير على المعنويات، والاتجاهات، والآراء، والأفكار، والمبادئ، والمعتقدات" (2) .
__________
(1) (() أستاذ مساعد بكلية الإعلام ـ جامعة أم درمان الإسلامية (السُّودان).
(2) الحرب النَّفْسِيَّة وأساليب مواجهتها: وهيب الكبيسي، حوليّات الإعلام العسكري، العراق، 1993م.(1/1)
وتشمل الحرب النَّفْسِيَّة بمعناها الواسع استخدام علم النَّفس لخدمة الحرب بأساليب: الدِّعاية، والإشاعة، والمقاطعة الاقتصادية، والمناورة السياسية، وغسيل الدّماغ.
إنَّ الحرب النَّفْسِيَّة توجَّه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأحياناً مغلفة بغطاء التسلية أو الثقافة أو العلم أو غيرها من النواحي الاقتصادية أو الاجتماعية أو الرياضية، بهدف التأثير في سلوك الفرد أو المجتمع أو الدَّولة عن طريق العمل على تحوير أو تغيير أو محو المعلومات التي لديه، والتشبث بالاستناد إليها بوجه أرادته نحو سلوك معين أو القيام باتخاذ فعل أو قرار محدد.
وقد تهدف الحرب النَّفْسِيَّة من خلال ضخ أو توجيه معلومات جديدة أو مغايرة للحقيقة إلى تغيير معلومات صحيحة راسخة أو التشكيك فيها أو إضعافها أو محوها بغية جعل فراغ معرفي أو إدخال معارف جديدة أو مشوهة لفكر الإنسان بقصد التأثير في سلوكه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
يكمن أساس الحرب النَّفْسِيَّة في أنَّها تعمل على تغيير أو تحوير
أو إضعاف أو طرح معلومات ومعارف جديدة بغية التأثير على معلومات الطرف الآخر، ومن خلالها يتغيَّر سلوكه وفعله، ويقترن مع الهدف الذي يقصد إليه الجهة التي وجَّهت الحرب النَّفْسِيَّة (1) .
وتتميَّز الحرب النَّفْسِيَّة عن غيرها من الوسائل بأنَّها تعمل على تسيير وتوجيه الطرف المعني من خلال التأثير في إرادته بعد أنْ تكون قد غيَّرت معلوماته ومعرفته، "وعملية التأثير بوساطة الحرب النَّفْسِيَّة تتجلى في إحداث التغيير في القيم السائدة والإرادة لدى الفرد، والمجتمع، والدَّولة، وعلى مراحل يمكن تصنيفها بمرحلة الاهتمام، فالإدراك ثم التخريب، فالتبني أو الرفض.
__________
(1) الرَّأي العام والحرب النَّفْسِيَّة: د. مختار التهامي، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ، ص 102.(1/2)
ويلحظ أنَّ جزئية وشمولية التغيير تتوقَّف على ظروف المرحلة السائدة في هذا البلد أو ذاك، والعوامل الاجتماعية القطرية، والخصائص الاجتماعية والفردية المختلفة، وكذلك تغيير النسبة من حيث الزمن بين فترة قصيرة، ومتوسطة، وطويلة (1) .
وهي بلا شك تُعَدُّ أقل الأسلحة كلفة إذا ما أحسن استخدامها، كما أنَّها تؤثر تأثيراً فعَّالاً في تقليل أمد الحرب العسكرية. كما أنَّ إغفالها وعدم إدراك أهميتها يؤدي إلى التفريط بالأسلحة العادية الفعَّالة، وهي عملية مستمرة، لا يقتصر استخدامها وقت الحرب فقط؛ بل قبلها وبعدها بوقت طويل، كما وأنَّه لا يمكن معرفة النجاح أو الفشل فيها إلاَّ بعد أشهر، أو ربما سنين من شنها (2) .
تاريخ الحرب النَّفْسِيَّة:
سيدنا آدم - عليه السلام - ـ أبو الأنبياء ـ أول من مورست ضدّه الحرب النَّفْسِيَّة من قبل إبليس ـ عليه اللَّعنة ـ، وتبيِّن الآيات بوضوح العمل الذي يقوم به الشيطان في التضليل، وهو شكل من أشكال الحرب النَّفْسِيَّة، كما تتناول الآيات صوراً وأساليب مختلفة للحرب النَّفْسِيَّة.
يبيِّن القرآن أنَّ الشيطان هو الذي يوسوس ويحرِّك دوافع الشرّ والانحراف، قال تعالى: [الأعراف: 19-23].
ومعنى قوله تعالى: : "أي جراهما إلى المعصية" (3) .
__________
(1) مجلة الأمن والحياة: العدد 50، سنة 1989م، ص 18.
(2) مجلة سلسلة الثقافة الثورية: العراق، العدد 290، سنة 1994م.
(3) فتح القدير: الشوكاني، دار المعارف، بيروت، 1978م.(1/3)
إنَّ ممارسات الشيطان التضليلية ضدّ البشر بدأت منذ أنَّ دَلَّ سيدنا آدم - عليه السلام - على أكل الشجرة المحرَّمة "وكان آدم - عليه السلام - قد قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة، وعيَّن له شجرة، فلما وصفها له إبليس أنَّها شجرة الخلد، التي من أكل منها كان ملكاً مخلَّداً؛ عمد آدم - عليه السلام - فأكلها، بتأويل أنَّ النَّهي كان للنَّدب لا على التحريم، وسارعت إلى ذلك حواء، ثم نَصَّ الله تعالى على آدم أنه عصى" (1) .
إنَّ الإنسان قد تعتريه بعض التطلُّعات لتحقيق الذات، وقد يَعْبُرُ طرقاً مستقيمة لتحقيقها أو منحرفة، وما فعله آدم - عليه السلام - هو مخالفة الحقّ بعد تزيين الشيطان له وتضليله، "إنَّ الله تعالى قد هيّأ كل أسباب الرفاهية والنَّعيم لآدم - عليه السلام - في الجنَّة، إلاَّ أنَّ نزعاته البشرية، وتطلُّعاته المادية، لم تتوقّف، فما كاد الشيطان يوسوس له حتى انحرف إلى الخطيئة، وعصى أوامر الخالق" (2) .
وكما تحدّث القرآن الكريم عن عمل الشيطان في الغواية والتضليل، فقد تحدّثت السُّنَّة عن العمل ذاته، فعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: (إنَّ كلَّ مال منحت عبادي فهو لهم حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلَتُ لهم، وأَمَرَتْهُم أنْ يشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً، وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاَّ بقايا من أهل الكتاب) (3) .
__________
(1) المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية الأندلسي، مؤسسة العلوم، الدوحة 1988م، المجلد العاشر، ص 105.
(2) الدّراسة العلميّة للسُّلوك الإجرامي: د. نبيل توفيق، دار الشروق، جدة، 1983م، ص 287.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، برقم 63.(1/4)
توصَّل علماء الاجتماع إلى كون الإنسان كائن حي يتفاعل مع بيئته، فيؤثّر ويتأثّر بها، إيجابياً أو سلبياً، فمنذ القدم اعتمد الإنسان على فطنته وقدرته الذاتية لتطوير حدسه، وتمكَّن من تحليل ما يدور حوله من صراعات.
ومن خلال المعايشة الميدانية والمراقبة؛ استطاع الإنسان أنْ يتوصَّل إلى استعمال الوسائل النَّفْسِيَّة في التأثير على أعدائه، وبثّ الرُّعب والفزع لديهم، حتى أصبح لديه ـ ومن خلال التراكم الزمني ـ ما يعرف بـ (الحرب النَّفْسِيَّة).
ومنذ أقدم العصور استخدم العراقيون القدماء الحرب النَّفْسِيَّة، والمنحوتات والألواح الجدارية شاهد على ذلك. حيث استعمل الآشوريون (1) الهدايا في محاولة لكسب ودّ الأعداء، وكذلك الاستعراضات ذات الطابع العسكري، الذي يُراد به بثّ الرُّعب والخوف لدى الأعداء، وكذلك استعمال الخدع المباغتة.
وقد برع الصِّينيون في الحرب النَّفْسِيَّة منذ أقدم العصور، وقد أدركوا أهمية العلاقات الفردية في تكوين التحالفات، وأعطوا للتثقيف الذاتي أهمية كبرى (2) ، وقد أصبحوا بذلك الرواد في تقويم الأفكار وتحويل الاتجاهات.
وقد لجأت (جنكيز خان) إلى أسلوب إرسال الجواسيس في بداية القرن الحادي عشر الميلادي (3) ، لبثّ الرُّعب في نفوس الأعداء، من خلال التهويل، وإطلاق الشائعات، ومحاولة إضعاف معنويات المقاتلين.
__________
(1) تخطيط وإدارة الحرب النَّفْسِيَّة في الجيوش: جاسم محمد جاسم، مطبعة الكلية الحربية، (د. ت)، ص 16.
(2) الحرب النَّفْسِيَّة: فخرى الدباغ، دار الحُرِّيَّة، بغداد، 1979م، ص 6.
(3) دراسات في الاتصال والدِّعاية: أحمد بدر، دار غريب، القاهرة، 1977م، ص 63.(1/5)
لقد كانت كل هذه الأساليب المتبعة آنذاك عبارة عن أساليب بدائية، إلاَّ أنَّ التقدُّم العلمي والتكنولوجي، وقيام الثورة الصناعية، التي أحدثت ضجة في كل العلاقات الاجتماعية وفي عموم الحياة، واختراع الطباعة؛ كان له الأثر الكبير في تطوير الأساليب والطرق المتبّعة في الحرب النَّفْسِيَّة. فكان للصحف والمنشورات الأثر الكبير في التأثير على سلوك وعقول المجتمع، وخير مثال على ذلك ما قام به (نابليون بونابرت) أثناء حملته على مصر 1798م، من خلال المنشورات التي وزعت على المصريين، للتأثير على العقل العربي المسلم في مصر، واستمالة عطفه، وعدم مقاومته كفاتح مستعمر، وما ادّعاؤه الإسلام وبأنَّه لا يعارض النَّصرانية إلاَّ محاولة للتأثير على الفرد المصري.
وعند دراساتنا للحربين العالميتين نجد أنَّ الدُّول قد وضعت للحرب النَّفْسِيَّة المكانة الكبيرة، وذلك للاتصال الجماهيري عن طريق الدِّعاية، فكانت لـ (بريطانيا) أساليبها المعروفة كدولة، وهي التي أنشأت في وزارتها الخارجية عام 1914م مكتباً للدِّعاية، حيث نقلت تجربتها إلى ألمانيا الهتلرية، والولايات المتحدّة، وتبعها الاتحاد السوفيتي (1) .
استغلت النازية هذه التجربة أكبر استغلال، فأسَّس الدكتور/ غويلز سنة 1939م وزارة الدِّعاية، لمراقبة الشعب الألماني، وكذلك الدِّعاية النازية: (الألمان فوق الجميع)، و(الجيش الذي لا يُقْهَر)، وقد استسلمت للألمان جيوش بكاملها بدون قتال (2) .
__________
(1) الحرب النَّفْسِيَّة: صلاح نصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص 8.
(2) الحرب النَّفْسِيَّة: أكرم إسماعيل الدباغ، مطبعة الشعب، بغداد، 1979م، ص 13.(1/6)
واستخدمت الحركة الصُّهيونية في حربها ضد العرب الحرب النَّفْسِيَّة في محاولة التأثير علي العرب والمسلمين، فالحرب النَّفْسِيَّة ليست ظاهرة حديثة كما يُظُنُّ بعضهم، ولا هي ظاهرة معاصرة برزت في القرن العشرين؛ لأنَّها ـ في الواقع ـ ممارسة قديمة جداً، عرفها البشر ولجأ إليها الحُكَّام، والقادة الأذكياء، والبارعون منذ قديم العصور، إلاَّ أنَّ وجه الحداثة يكمن في التسمية فقط؛ لأنَّها استخدمت أول مرة في الحرب العالمية الثانية ـ على وجه التَّحديد ـ، ثم دخلت القواميس الحربية من عام 1955م في الولايات المتحدة الأمريكية (1) .
أهداف الحرب النَّفْسِيَّة:
تهدف الحرب النَّفْسِيَّة إلى تحقيق مكاسب دعوية أو عسكرية بأقل ما يمكن من الجهود وبأقل كلفة، كما أنَّ الهدف العام للحرب النَّفْسِيَّة هو عقل الإنسان، وفكره، ونفسيته، وليس جسمه. كما تهدف إلى إحداث التغيير في ذات الإنسان، وبالذات في أفكاره واتجاهاته، وإلى تحطيم الروح المعنوية، وتقليل أمد الحرب العسكرية، حيث تكون الحرب النَّفْسِيَّة عاملاً فعَّالاً يمارس الهجوم على الأفكار والاتجاهات.
ويمكن إجمال أهداف الحرب النَّفْسِيَّة بما يأتي:
[1] زرع عدم الثَّقة في معتقدات العدو، قال تعالى: [يونس: 81]، وقال تعالى: [طه: 79].
[2] زعزعة إيمان العدو بأهدافه ومبادئه، قال تعالى: [التوبة: 19].
[3] إظهار عجز العدو عن تحقيق طموحاته، قال تعالى: [الأنفال: 36].
[4] غرس بذور الفرقة بين العدو وحلفائه، وعرقلة أي تقارب سياسي أو عسكري، ويتضَّح ذلك من خلال نشاط نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب (2) .
__________
(1) دراسات في الحرب النَّفْسِيَّة: د. حميد تميم، دون ذكر المطبعة، 1982م، ص 3.
(2) انظر ضمن هذا البحث إلى: أسلوب الخدعة ودور نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - .(1/7)
[5] تقوية أواصر التعاون بين القوات المتحالفة، وبناء علاقات وطيدة مع الجهات الصديقة والمحايدة، والعمل على تعاون سكان المناطق المختلفة، قال تعالى: [التوبة: 4].
وكما ورد في سورة الروم حيث نرى استمالة القرآن لأهل الكتاب، كما في قوله تعالى: فيه تقارب بين أهل الكتاب والمسلمين.
[6] الحفاظ على الروح المعنوية للمجاهدين، قال تعالى: [آل عمران: 139].
المبحث الثاني
أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام
تحصين الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ضدّ العمليات النَّفْسِيَّة المضادّة:
قال تعالى: [الأنبياء: 1-5].
هناك كثير من الآيات التي تتحدّث عن العمليات النَّفْسِيَّة ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، الذي يمثِّل رمز الهداية ومحور الحق، فقد أراد الكفار النَّيل منه، والنَّيل من التوجيهات الدَّعوية التي سفَّهت معتقداتهم، فكان لا بُدَّ من التَّصدّي للرسالة الخاتمة، انتصاراً للمعتقدات.
وكما قيل: (إنَّ الحرب أولها كلام)، فلا بُدَّ أنْ تبدأ جولات الكلام المتمثلة في الحرب النَّفْسِيَّة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقد عبَّر المولى عزَّ وجلَّ عن ذلك، قال تعالى: [القمر: 2-3].
كثيراً ما يقع الجدال بين الحقّ والباطل فتتدخل السماء، فعندما استهدف المشركون الرسول في نفسه؛ تعرَّضوا له بالأذى المعنوي، فاتهموه بـ (الأبتر)؛ لأنَّه ليس لديه أبناء ذكور يخلّدون ذكره، إذ مات جميع أبنائه صغاراً، فردّ عليهم القرآن بقوله: [الكوثر: 3]، أي: إنَّ مبغضك وكارهك هو الذي سينقطع ذكره.
وقد أمرت آيات كثيرة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بألاَّ يضيق ولا يحزن فيما يوجه إليه من حرب نفسيَّة، فقال تعالى [النمل: 70]، وقال تعالى: [النحل: 127].(1/8)
هذه الآيات وغيرها بمثابة تحصين نفسي للرسول - صلى الله عليه وسلم - والدَّعوة الإسلامية، حتى لا تتداعى أمام حرب الكفار النَّفْسِيَّة في ذلك الوقت، وقد كان تشديد القرآن الكريم علي النَّبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم - بألا يضعف أمام حربهم النَّفْسِيَّة، قال تعالى: [هود: 12].
كما يزوِّد القرآن الكريم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بجرعات نفسيّة كبيرة، فيتحدّى الكفار، فيعجزوا عن مسايرة منطقه، قال تعالى: [هود: 13-14].
غسل المخ (الدّماغ):
إنَّ مصطلح (غسل الدماغ) يقع ضمن المصطلحات التي تُسْتَخدم في الحرب النَّفْسِيَّة، وأول ما أطلق بعد الحرب العالمية الثانية، من قِبَل الصَّحفي الأمريكي (إدوارد هنتر)، عن طريق ترجمته للكلمة الصينية (هي تاو)، التي معناها ـ لدى الصينيين ـ: اصطلاح الفكر، ويُراد به: تجريد العقل من ذخيرته ومعلوماته ومبادئه، وهو أيضاً تشكيل التفكير بطريقة التفجير، وتغيير الاتجاهات النَّفْسِيَّة، وهو محاولة توجيه الفكر الإنساني أو العمل الإنساني ضدّ رغبة الفرد أو ضدّ إرادته أو ضدّ ما يتفق مع أفكاره، ومعتقداته، وقيمه، فهو عملية إعادة تعليم، وهو عملية تحويل الإيمان أو العقيدة التي كفر بها، ثم الإيمان (1) .
وقد اقترنت عملية (غسيل الدماغ) بالعالِم النَّفسي الروسي (بافلوف)، حيث ركَّز في أبحاثه على نظام الإشارات لإثبات نظرية (الفعل المنعكس الشرطي)، وتعني القيام بسلوك معيَّن نتيجة لمؤثّرات خارجية، ويمكن تمييز طبيعة الفرد الذاتية من بيئته (2) .
ويمكن تلخيص طرق (غسل الدماغ) التي تتبّع حديثاً في الخطوات التالية (3) :
__________
(1) الرَّأي العام وطرق قياسه: فؤاد دياب، القاهرة، الدَّار القوميَّة، 1962م، ص 7.
(2) غسل الدّماغ: د. فخرى الدباغ، بيروت، المؤسسة اللبنانية للنشر، بدون تاريخ، ص 34.
(3) مراسلات في الإعلام والحرب النَّفْسِيَّة: فريق أيار، مطبعة الأديب البغدادية، 1973م، ص 68.(1/9)
[1] عزل الفرد اجتماعياً ومناداته برقم وليس باسم، واستغلال مؤثّرات الجو، والتَّعب، والجوع، والألم، والأساليب الأخرى مثل: الصدمات الكهربائية، واستخدام العقاقير المخدّرة، مثل: الكحول والمواد الكيميائية. وهذه كلّها تضعف قدرة الفرد على التحكُّم في إرادته، ثم إيجاد صراع وخوف أساس، بحيث تصل حالة الفرد إلى درجة أنْ يكون فيها متلهّفاً للخلاص، ويرافق ذلك نتيجة الإحساس بالذنب، وجعل حالة التشكيك لديه، وتعريضه للمرض الجسمي، والعقلي، والضغط الفسيولوجي.
[2] تستخدم مع الفرد اللين، والمهادنة، والتساهل، والدِّقة، والاعتذار عن المعاملة السابقة، وإظهار الصداقة له.
[3] يفهم الفرد بعد ذلك إذا ما اعترف، فإنَّ المعاملة له ستزداد تحسُّناً، ويمكن أن يعيش.
[4] وتأتي بعدها عملية الإقناع، وهي عملية إعادة تعليم الفرد، بحيث ينقد نفسه إلى أنْ يصل إلى الاعتراف النَّهائي.
[5] ثم يحدث تغيُّر مفهوم الذَّات لدى الفرد باستخدام أساليب مثل: التقويم الإيحائي، أو الإيحاء النَّفسي.
[6] يتم محو الأفكار المراد محوها نهائياً.
[7] تقديم الأفكار الجديدة، ويشجِّع الفرد على تعلُّم معايير سلوكية جديدة وأدوار اجتماعية جديدة، وبذلك يتم تحويله إلى فرد جديد.
ولما كان الإسلام هو دين الفطرة؛ فإنَّه لا يحتاج إلى اتّباع هذه الطرق التي تمتهن كرامة الإنسان؛ بل خاطب الإنسان خطاب الفطرة ليهتدي. وبالرجوع إلى الإسلام نجد أنَّ القرآن الكريم هو كتاب موحى إلى الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ليغسل أفكار البشرية من معتقدات محرَّفة، وأخرى وضعها الإنسان. ولعلَّ أسلوبه في الدَّعوة يعبِّر عن قوته في الإقناع، قال تعالى: [النحل: 125].
إنَّ الحكمة والموعظة الحسنة جديرة بأنْ تغسل المخ، لا الممارسات الراعنة التي تمارس ويُراد بها غسيل المخ.(1/10)
إنَّ مجاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدَّعوية على امتداد فترات الصراع بين الحقّ والباطل ما هي إلاَّ عملية محو لآثار وثنية جاهلية، لتحلّ محلّها أفكار الحق، قال تعالى: [الإسراء: 9]، وقال تعالى:
[آل عمران: 138].
الحصار الاقتصادي:
يُقْصَد بالضغوط الاقتصادية "قيام دولة أو مجموعة دول بممارسة الوسائل لحمل دولة معيَّنة على تغيير سياستها، والانصياع لمشيئتها، عن طريق ممارسة إجراءات اقتصادية ضدّها، والتضييق على مصالحها" (1) .
ويستهدف من هذا الأسلوب منع وصول الأطعمة والمواد الضرورية إلى العدو، وتجميد إمكانياته الامتيازية "البضائع المنتجة في بلاده". إنَّ هذا يؤدي إلى الجوع والحرمان الذي من شأنه أنْ يوجد أزمة نفسيّة ونقمة متزايدة، "وتمارس الضغوط الاقتصادية بطرق متعدّدة، منها: الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاقتصادية، كالتي تمارسها الدُّول العربية إزاء إسرائيل، وإيقاف تنفيذ برامج المساعدات الاقتصادية، وتزييف العملة بقصد إسقاط الموازنة بين النَّقد المتداول وذلك الموجود في البنوك، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى هبوط قيمة العملة" (2) .
من صور الضغط الاقتصادي في الإسلام ما مارسه المسلمون على اليهود بقطع نخيلهم. فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّق نخل بني النضير، وهي البويرة، فأنزل الله تعالى: [الحشر: 5] (3) .
الاستعراض السَّياسي والعسكري:
__________
(1) تخطيط وإدارة الحرب النَّفْسِيَّة في الجيوش: جاسم محمد جاسم، مطبعة كلية الحرب، العراق، بدون تاريخ، ص 36.
(2) سلسلة الثقافة الثورية، مرجع سابق، ص 18.
(3) صحيح البخاري، حديث رقم 4884، المجلد 8، أصل الخبر في السيرة النبوية للإمام الذهبي، ص 179، عن ابن عباس بسند ضعيف، وكذلك عند ابن سعد في الطبقات، 3/270 بأسانيد ضعيفة.(1/11)
أول استعراض قام به المسلمون بمكة عندما أسلم عمر - رضي الله عنه - ، وقد كان لهذا الاستعراض الأثر البالغ لمجريات الأحداث، روى مجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: سألتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ـ ثم قصَّ عليه قصة إسلامه ـ وقال في آخرها قلت ـ أي حين أسلمت ـ: يا رسول الله، ألسنا على الحق إنْ متنا أو حيينا؟ قال: (بلى والذي نفسي بيده، إنَّكم على الحقّ، وإنْ متم وإنْ حييتم) قال: قلت ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجنَّ فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر ، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إليَّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسمَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الفاروق) يومئذ (1) .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "ما زلنا أعزّة منذ أنْ أسلم عمر، كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة" (2) .
تحدَّث القرآن الكريم عن الاستعراض العسكري، قال تعالى: [الصف: 4]. حيث يظهر الاستعراض هنا وفي المواقف الحاسمة.
__________
(1) تاريخ عمر بن الخطاب: لابن الجوزي، ص 7، أصل الخبر في السيرة النبوية للإمام الذهبي، ص 179، عن ابن عباس بسند ضعيف، وكذلك عند ابن سعد في الطبقات، 3/270 بأسانيد ضعيفة.
(2) دليل الفالحين لشرح طرق رياض الصالحين: محمد بن علان، بدون مكان طباعة وبدون تاريخ، 1/39، أصل الأثر عند ابن هشام، 1/422، من رواية ابن إسحاق بإسناد ضعيف.(1/12)
ومن نماذج الاستعراض أيضاً ما قام به الصحابي أبو دجانة في غزوة أُحد حين أمسك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بسيفه فقال: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فأقبل أبو دجانة قائلاً: أنا آخذه بحقِّه، فأعطاه إيّاه، فأخرج أبو دجانة عصابة حمراء فعصب بها رأسه، ثم راح يتبختر بين الصُّفوف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّها لمشية يبغضها الله إلاَّ في مثل هذا الموطن) (1) .
ومن النَّماذج للاستعراض في الإسلام، استعراض المسلمين في عمرة القضاء، فقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء راكباً على ناقته القصواء، وتوشَّح المسلمون السيوف، محدقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبون، وخرج المشركون إلى جبل قيقعان ـ الجبل الذي في شمال مكة ـ ليروا المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنَّه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أنْ يرملوا الأشواط الثلاثة، وأنْ يمشوا ما بين الرُّكنين، ولم يمنعه أنْ يأمرهم أنْ يرملوا الأشواط كلها إلاَّ الإبقاء، وإنَّما أمرهم بذلك ليرى المشركون قوته (2) ، كما أمرهم بالاضطباع، أي أنْ يكشفوا الناكب اليمنى، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى.
ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة من الثنية التي تطلعه على "الحجون"، وقد صَفَّ المشركون ينظرون إليه، فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمحجنه، ثم طاف وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتجز متوشحاً بالسيف :
خلو بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
يا ربِّ إني مؤمنٌ بقيله ... إني رأيت الحقَّ في قبوله
بأنَّ خير القتل في سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
__________
(1) سيرة ابن هشام: مطابع دار البيان الحديثة، القاهرة، ط/1، 2001م، 3/21.
(2) صحيح البخاري، 1/218، 2/611، صحيح مسلم، 1/412.(1/13)
ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وفي حديث أنس، فقال عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - !! وفي حرم الله تقول الشِّعْر؟ فقال له النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : (خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النَّبل) (1) .
ورمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أنَّ الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا (2) .
ومن الاستعراض ما جاء في قصة سليمان - عليه السلام - مع بلقيس ملكة سبأ، كما جاءت في القرآن الكريم: [النمل: 36-44].
ونأخذ من خبر سليمان - عليه السلام - مع بلقيس الأمور الآتية (3) :
[1] حشد القوة الماديّة، والأدبيّة، والعسكريّة، والعلميّة، في استقبال العدو لأخذه، ولسلب لبّه، وتحطيم أعصابه.
[2] اختيار مكان المقابلة، ليكون حيث تبرز فيه دلائل القوة، والعزة، والثراء، من عمارة البناء والمصانع وما إلى ذلك.
[3] اختيار الأوضاع الخاصة بالجلوس، فتراعى وضعية القائد، وبروز منزلته، ومقام الجند من حوله، ومكان العدو أو رسوله، بحيث يكون الأخير في مكان تسهل على المراقبين مراقبته بدقة؛ بل ويسهل التأثير عليه بأوضاع الجالسين معه أو مستقبله أو المفاوضين له.
[4] اختيار الزمان، بحيث يكون في الوقت الذي تكون فيه أعصاب المستهدف هادئة، مستريحة، ونفسيته مهيأة للسيطرة والتسلُّط، وإرادته متمكّنة من القدرة على تسيير دفة الحديث، وفي وقت تكون فيه طبيعة العدو في درجة التهافُّت في نفسه.
[5] اختيار الأعوان والحاشية من أهل الحرب، والسَّياسة، والعلم، والصَّناعة، والاقتصاد، والبأس.
__________
(1) رواه الترمذي، أبواب الاستئذان، باب ما جاء في إنشاد الشعر، 2/107، وقال: "حديث حسن غريب".
(2) صحيح مسلم، 1/412.
(3) هذا الاستنتاج نُشِرَ بإصدارة أمانة القوات المسلحة، الإتحاد الاشتراكي السُّوداني، بلا تاريخ ومكان نشر.(1/14)
[6] اختيار مواضيع الحديث، بحيث لا تعدو النَّواحي العليا للإسلام، والنَّاحية الخاصّة التي من أجلها كان هذا الاجتماع، مع استصحاب فكرة القطع في الأمر، وسيطرة العقيدة الإسلامية، وحسم النزاع في الحال.
[7] اختيار أسلوب الحديث، بحيث يكون مقتضباً عند الإجابة، هجومياً عند السؤال، مباغتاً عند الانتقال، صريحاً عند الطلب، قضائياً عند الحكم، غليظاً عندما يحاول العدو أنْ يجد لنفسه مجالاً، رقراقاً وعاطفياً عندما يكون الحديث في الإطار الإنساني. وكل ذلك في هدوء وصدق أو ترفُّع كريم.
[8] العناية بوضع برامج الانتقالات، ومفاجأة العدو بأيّة أبعاد أخرى من آيات القوة والصناعة.
[9] استخدام العلم بمصطلحاته ووسائله للطغيان على مدارك الخصم وقواه، وحشد كل القوة لتحطيم مقاومته المعنوية، فلعلّه يسقط بهذه الحرب قبل أنْ يلجأ إلى الميدان، ويوفِّر على الإنسانية إراقة الدماء.
[10] إخفاء كل شيء يدلُّ على ضعف أو نقص أو تهاون عن عين العدو والحذر من أنْ يُرى شيءٌ من ذلك.
[11] الإيحاء للعدو في كل حال بالمبدأ، والوسيلة، والغاية الإسلامية، وتفهيمه بكل لغة من غير إلحاح، ولا سبيل إلى التفاهم على غير ذلك. وأنَّه لا رضى للمسلمين إلاَّ بما يرضي الله تعالى.
[12] إذا نجح القائم بهذا الأمر واطّمأن على نتيجة تدبيره شكر الله تعالى على ذلك، واعتبر عمله جهاداً خالصاً في سبيل الله [النمل: 40].
الخدعة:
من أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام الخدعة، حيث مارسها المسلمون في صدر الإسلام. وقد كانت نتائجها طيبة في زعزعة ثقة المشركين فيما بينهم. ومثال ذلك قصة دور نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - في غزوة الأحزاب وتخذيله بني قريظة عن الأحزاب.(1/15)
فعن ابن إسحاق قال : فبينما الناس على خوفهم، أتى نعيم بن مسعود الاشجعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن إسحاق: فحدثني رجل عن عبد الله بن كعب بن مالك. قال: جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني قد أسلمتُ، ولم يعلم بي أحد من قومي، فمُرْني أمرك.
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّما أنت فينا رجل واحد، فخذِّل عنَّا ما استطعت، فإنَّما الحرب خدعة).
فانطلق نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - ، حتى أتى بني قريظة، فقال لهم: يا معشر قريظة ـ وكان لهم نديماً في الجاهلية ـ إني لكم نديم وصديق، قد عرفتم ذلك، فقالوا: صدقت. فقال: تعلمون والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة، إنَّ البلد لبلدكم، وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنَّ قريشاً وغطفان بلادهم غيرها، وإنَّما جاءوا حتى نزلوا معكم، فإنْ رأوا فرصة انتهزوها، وإنْ رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، فلا طاقة لكم به، وإنْ هم فعلوا ذلك فلا تقاتلوا حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم، تستوثقون به منهم ألاَّ يبرحوا حتى يناجزوا محمداً.
فقالوا له: لقد أشرت برأي ونصح.
ثم ذهب إلى قريش فأتى أبا سفيان وأشراف قريش، فقال: يا معشر قريش، إنَّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم، وفراقي محمداً ودينه، وإني قد جئتكم بنصيحة، فاكتموا عليّ. فقال: نفعل، ما أنت عندنا بمتّهم. فقال: تعلمون إنَّ بني قريظة من يهود، قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، فبعثوا إليه: ألا يرضيك منَّا أنْ نأخذ لك من القوم رهناً من أشرافهم، ونرفعهم إليك فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك عليهم، حتى تخرجهم من بلادك؟ فقال: بلى، فإنْ بعثوا إليكم يسألونكم نفرًا من رجالكم فلا تعطوهم رجلاً واحداً واحذروا.(1/16)
ثم جاء غطفان، فقال: يا معشر غطفان قد علمتم أني رجل منكم، قالوا: صدقت، فقال لهم كما قال لهذا الحي من قريش.
فلما أصبح أبو سفيان، وذلك يوم السبت في شوال سنة خمس، وكان مما صنع الله به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث إليهم أبو سفيان بن حرب عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش، أنَّ أبا سفيان يقول لكم: يا معشر يهود، إنَّ الكراع والخف قد هلكا، وإنَّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمد نناجزه، فبعثوا إليه: إنَّ اليوم السبت هو يوم لا نعمل فيه شيئاً، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم، حتى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم، لا تذهبوا وتدعونا حتى نناجز محمداً. فقال أبو سفيان: قد والله حذرنا هذا نعيم.
فبعث إليهم أبو سفيان إنَّا لا نعطيكم رجلاً واحداً، فإنْ شئتم أنْ تخرجوا فتقاتلوا، وإنْ شئتم فاقعدوا. فقالت يهود: هذا والله الذي قال نعيم، والله ما أراد القوم ألاَّ يقاتلوا معهم، فإنْ أصابوا فرصة انتهزوها، وإلاَّ مضوا فذهبوا إلى بلادهم، وخلوا بيننا وبين الرجل فبعثوا إليهم، إنَّا والله لا نقاتله معكم، حتى تعطونا رهناً، فأبى أنْ يفعل، فبعث الله الريح على أبي سفيان وأصحابه وغطفان، وجنوده التي بعث، فخذلهم الله (1) .
__________
(1) سيرة ابن هشام: مطابع دار البيان الحديثة، القاهرة، 2001م، 3/140-141.(1/17)
ووردت الخدعة في الحديث الذي أخرجه البخاري أيضاً. فعن ابن إسحاق. قال: حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة. قالت: كان نعيم رجلاً نؤماً، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ يهود قد بعثت إليّ: إن كان يرضيك عنَّا أنْ تأخذ رجالاً رهناً من قريش وغطفان من أشرافهم، فندفعهم إليك، فتقتلهم، فخرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم، فأخبرهم ذلك، فلما ولّى نعيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّما الحرب خدعة) (1) .
مما سبق يتضَّح أثر الخدعة كسلاح نفسي حقَّق الانتصار في صدر الإسلام دون أنْ يتكلَّف الصحابة عناء لقاء الأعداء فتم لهم النَّصر.
الشَّائعة:
الشائعة هي إحدى أساليب الحرب النَّفْسِيَّة، وهي عبارة عن قول غير مؤكَّد بما يسنده، وهي عبارة عن تلفيق، لذلك تُعرَّف الشائعة بأنَّها: "حديث أو قول أو رواية غير مؤكَّدة تتداولها الألسن بقصد تصديقها" (2) .
لا تستخدم الشائعة كأسلوب من أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام؛ لأنَّه أسلوب غير أخلاقي، وقد استخدمت الشائعة ضدّ المسلمين، ولعل حادثة الإفك تؤكِّد ذلك، قال تعالى: [النور: 19].
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب الجهاد، برقم 157، باب الحرب خدعة، ومسلم في كتاب الجهاد برقم 18.
(2) علم النَّفس الاجتماعي: جان بيزنوف، ترجمة هالة، بيروت، منشورات عوينات، 1972م، ص 106.(1/18)
وفي غزوة أُحُد أشيع مقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، مما أثَّر على نفسيّات الصحابة. فقد جاء في سيرة ابن هشام وتفسير ابن كثير: (عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما نصر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في موطن كما نصر يوم أحد قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول في يوم أُحُد: [آل عمران: 152]. يقول ابن عباس: والحسّ: القتل، [آل عمران: 152]. وإنَّما عَنِيَ بهذا الرُّماة، وذلك أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أقامهم في موضع، ثم قال: أحموا ظهورنا، فإنْ رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإنْ رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، فلما غنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأباحوا عسكر المشركين؛ انكفأت الرُّماة جميعاً، فدخلوا في العسكر ينتهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فهم هكذا، وشبك أصابع يديه، التبسوا فلما دخل الرُّماة تلك الحلة التي كانوا فيها، دخل الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أول النَّهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول النَّاس: الغار، إنَّما كانوا تحت المهراس، وصاح الشيطان: قُتِلَ محمد، فلم نشك فيه أنَّه حَقٌّ، فما زلنا كذلك ما نشك أنَّه قد قُتِلَ حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين السَّعدين، نعرفه بتكفّئه إذا مشى، قال : ففرحنا كأنَّه لم يصبنا ما أصابنا (1) .
هدي الإسلام في مواجهة الشَّائعات
التثبُّت من الأقوال:
__________
(1) تفسير ابن كثير: الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار الفكر، بيروت، 1992م، 1/506.(1/19)
هناك الكثير من الشَّائعات والأقاويل التي تذاع بين النَّاس، وقد لا يكون لها من الحقيقة والواقع سند، وربما ترتَّب على إشاعتها وتداولها أضرار بالغة، وعواقب وخيمة، تعكِّر صفو الجماعة، وتفرِّق الأُمَّة، وتعرُّضها للأخطار.
لذلك كان منهج الإسلام في كل ما يُقال ويثار التثبُّت منه، حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، فقد ترك الإسلام للفرد والمجموعة أمر التحقُّق مما يقال، صيانة للمجتمع الإسلامي حتى لا يؤخذ بسبب ما يقال. وقد أمرنا الدِّين بأنْ نواجه الأخبار والشَّائعات التي ينشرها النَّاس بالتأكُّد منها أولاً، حتى لا يظلم أحد أو يصاب بسوء، يقول الله تعالى: [الحجرات: 16].
ويقول ابن كثير تعليقاً على هذه الآية: "يأمر الله تعالى بالتثبُّت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً" (1) .
ويقول القاسمي: " أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر، كراهة وهم بُرّاء مما قذفوا به، بغية اتهامهم بجهالة لاستحقاقهم إيّاها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم أي فتندموا على إصابتكم إيّاهم بالجناية التي تصيبونهم، وحقّ المؤمن أنْ يحترز مما يخاف منه النَّدم والعواقب" (2) .
القضاء على مصدر الفتنة:
__________
(1) تفسير ابن كثير: مرجع سابق، 4/252.
(2) تفسير القاسمي: جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط/1، 1997م، 8/522.(1/20)
من هدي الإسلام في مواجهة الحرب النَّفْسِيَّة التي توجّه إليه القضاء على مصادر هذه الحرب النَّفْسِيَّة، ولعل ما تم في مسجد الضرار شاهد على ذلك، روى ابن كثير عن سعيد بن قتادة وعروة وغيرهم أنَّه كان في المدينة رجل من الخزرج اسمه أبو عامر الراهب، وكان قد تنصَّر في الجاهلية، وله مكانة كبيرة في الخزرج، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية؛ شرق أبو عامر بريقه، وأظهر العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خرج فارّاً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ثم إنَّه لما رأى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقدُّم وارتفاع، ذهب إلى هرقل (ملك الروم) يستنصره على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوعده ومنَّاه، فأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من منافقي المدينة يعدهم بما وعد به هرقل، وأمرهم أنْ يتخذوا له معقلاً يقدم عليه فيه من يقدم من عنده لإعداد كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك.(1/21)
فشرعوا في بنا ء مسجد قريب من مسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك . وجاءوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته. ذكروا أنَّهم إنَّما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية. فعصمه الله من الصلاة فيه، وقال: (إنَّا على سفر، ولكن إذا رجعنا إنْ شاء الله)، فلما قفل - صلى الله عليه وسلم - راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلاَّ يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل - عليه السلام - بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة (1) ، ونزل قوله تعالى : [التوبة: 107-108].
الثبات في مواجهة الشَّائعات:
الثبات من الهدي الإسلامي في مواجهة الشَّائعات، لذلك كان منهج الإسلام في مواجهة الشَّائعات: الثبات. عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النَّار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا [آل عمران: 173] (2) .
أخرج ابن إسحاق في قوله أنَّ ابا سفيان رجع بقريش بعد أنْ توجّه من أُحُد فلقيه معبد الخزاعي، فأخبره أنَّه رأى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في جمع كثير، وقد اجتمع معه من كان تخلَّف عن أُحُد، وندموا فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه فرجعوا، وأرسل أبو سفيان ناساً فأخبروا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أبا سفيان وأصحابه يقصدونهم، فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) (3) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: مرجع سابق، 2/472.
(2) صحيح البخاري، حديث رقم 4563.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني، دار الريان، 1986م، ص 77.(1/22)
إنَّ أثر الثبات من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته هو الذي جعل أبا سفيان يعدل عن رأيه، ويصرف التفكير في إعادة الكرة مرة أخرى على المسلمين.
يقول القاسمي مفسِّراً لهذه الآية: " أي: الركب المستقبل لهم، أي: أبا سفيان وأصحابه،
أي: الجموع يستأصلوكم فاخشوهم ولا تأتوهم، أي: ذلك القول، ، أي: تصديقاً بالله. والمعنى أنَّهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا؛ بل ثبت به عزمهم على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأمر به وينهى عنه،
، أي: كافينا أمرهم من غير عدّة لنا ولا عدد، ، أي: الموكول إليه الأمر" (1) .
المبحث الثالث
خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام
الحكمة:
يحمل القرآن الكريم بين دفتيه أصولاً وقواعد للحرب النَّفْسِيَّة، وكل من يتدبَّر كتاب الله عزَّ وجلَّ يقف على حقيقة، مفادها أنَّ تاريخ الأنبياء والمرسلين من لدن سيدنا آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلاَّ صراع بين الحقّ والباطل، استخدمت في هذا الصراع أشكال وأساليب مختلفة من الحرب النَّفْسِيَّة، والحكمة هي محور هذه الاستخدامات النَّفْسِيَّة.
تكون الحرب النَّفْسِيَّة أحياناً في شكل حوار متبادل بين الحقّ والباطل، يكون فيه الحقّ حكيماً، حيث يظهر القول اللين وعدم الغلظة، كما قال تعالى مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السَّلام ـ: [طه: 43-44].
كما خاطب المولى عزَّ وجلَّ رسوله الخاتم محمداً - صلى الله عليه وسلم - بقوله [النحل: 125].
في المقابل نجد إفلاس الباطل ويأسه في مقارعة الحُجَّة، وتهوُّره ورجوعه إلى التشفي والانتقام في مواجهة الكلمة، قال تعالى على لسان فرعون وهو يهدِّد سيدنا موسى - عليه السلام - : [الشعراء: 29].
__________
(1) تفسير القاسمي: مرجع سابق، 2/46-461.(1/23)
إنَّ المرسلين يستخدمون وسائل وأساليب مختلفة لإيصال رسائلهم وتبليغها، فالحوار هو الصورة الأكثر استخداماً، كما أنَّ المعجزة إحدى أساليب الحرب النَّفْسِيَّة لإقناع المناوئين لينتهي الأمر بالتهديد والوعيد لأولئك الكفار، الذين ما يلبث أنْ يصبح واقعاً عملياً في شكل دمار وإهلاك المناوئين.
يلجأ المرسلون إلى خيار إهلاك وتدمير المعارضين بعد نفاذ كافة السبل، فتتدخَّل السماء لحسم الفوضى، ونستنتج من ذلك أنَّ الحرب النَّفْسِيَّة يجب أنْ تتسم بالمصداقية، سواء على صعيد المعجزات أو المقدرة على الحسم في نهاية الأمر، وتلك سُنَّة الله التي بيَّنها لنا القرآن الكريم، ليصبح التدمير أحد صور الحكمة الإلهية. قال تعالى: [نوح: 27].
الواقعية:
من واقعية الإسلام التجسيد الواقعي، وتصوير الحالة المعنوية والنَّفْسِيَّة بوضوح، سواء كان ذلك فيما يلي المسلمين أو العدو، قال تعالى: [الأحزاب: 10-11]، حيث وصفت الآية الحالة النَّفْسِيَّة للصحابة.
كذلك تناولت آيات أخرى حالة المنافقين، كما في قوله تعالى: [الأحزاب: 18-19].
واقعية الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام مستمدة من واقعية الإسلام ذاته، حيث يتعامل مع الكون والإنسان بنظرة واقعية، لذلك فالحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام يجب أنْ تنطلق من هذا الواقع، فإنْ كان المستهدفون يؤمنون بالسَّحر فلا بُدَّ أنْ يكون السحر في شكل معجزة منطلقاً للحرب النَّفْسِيَّة، ليحاربوا بذات السلاح الذي يعتقدونه، كما فعل سيدنا موسى - عليه السلام - ، قال تعالى: [الشعراء: 38-48]. وقد تغلَّب سلاح المعجزة هنا على السِّحر انطلاقاً من واقع يؤمنون به.
وإنْ كان المستهدفون برعوا في فن من الفنون؛ فلا بُدَّ أنْ تتفوَّق عليهم، كما هو الحال في التحدّي البلاغي واللُّغوي في القرآن الكريم، حيث تحدّى العرب في لغتهم.(1/24)
وإنْ لم يكن لهم فن يشتهرون به؛ كان لا بُدَّ من المعجزة التي تجعلهم يؤمنون، كما هو الحال لنبي الله إبراهيم - عليه السلام - ، الذي لم يحترق في النَّار، قال تعالى: [الصافات: 95-98].
أو نبي الله صالح - عليه السلام - الذي كانت ناقته معجزة، [الشمس: 14].
فالحرب النَّفْسِيَّة ـ من وجهة نظر الفكر الإسلامي ـ لا بُدَّ أنْ تنطلق من الواقع، وتؤثِّر على هذا الواقع لتجعله قابلاً للدِّعاية الإسلامية.
إظهار ضعف الخصم:
خصيصة إظهار ضعف الخصم تبدو من خلال الآيات البيّنات التي يذخر بها القرآن الكريم، والتي تلفت نظر الكفار إلى صور مختلفة من المعجزات الكونية، التي تؤكِّد ضعفهم وهوانهم أمامها، قال تعالى: [النمل: 60-66].
من خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام إظهار ضعف الخصم وعجزه عن أنْ يفعل شيئاً تجاه قضية محدّدة تمثِّل محور العقيدة الإسلامية، كالخلق والإبداع، كما تبيِّن الآيات السابقة عجز الخصم عن خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، فإنبات الأرض، وشق الأنهار. كما تعرَّضت الآيات إلى رحمة الخالق، ووقوفه مع المضطر إذا دعاه، وكشف السوء عن هذا المضطر.
كذلك تحدثت الآيات عن نعم الله تعالى في الهداية في ظلمات البر والبحر، وبدء الخلق والرزق.
أمام هذا التحدّي من الله الخالق المبدع لا يجد الخصم بُداً من الانهيار أمام حقيقة الخالق، كما أنَّ البرهان الذي يسوقه القرآن إلى الخصم ناصع حاسم، لا يترك مجالا سوى الانهيار، وتلك هي أهداف الحرب النَّفْسِيَّة التي ترمي إلى استسلام الخصم، ولعلَّ إظهار ضعف الخصم أقرب الطرق إلى استسلامه وهزيمته.
حتمية انتصار الحقّ:(1/25)
إنَّ خصائص العمليات النَّفْسِيَّة التي يصوِّرها القرآن الكريم والتي تدور رحاها بين معسكر الحقّ والباطل؛ تبيِّن لنا أنَّ انتصار معسكر الحقّ حتمي، وأنَّ المسألة هي مسألة وقت ليس إلاَّ. لذلك من خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام حسم المعركة مادياً أو معنوياً لصالح الحقّ، وهكذا نجد هذه الخصيصة واضحة في سورة القمر، التي تتحدَّث عن مكر الباطل وهزيمته الحتمية، في صورة بيانية واضحة، قال تعالى: [القمر: 9-45].
هذه الآيات تحكي عن رسل يمثِّلون عصوراً مختلفة، وأقواماً مختلفين، ولكن المتدبِّر للآيات يقف عند الطريقة والأسلوب الذي تنتهي به قصة كل رسول وقومه، وهو تبليغ وكفر وتدمير الكفار لينتصر الحقّ.
يتجلى من ذلك أنَّ من خصائص الحرب النَّفْسِيَّة المقدرة على إنجاز الوعيد والانتصار للحقّ، قال تعالى: [يونس: 103].
هكذا ينصر الله تعالى الرسل والمؤمنين، قال تعالى: [يوسف: 110].
الثَّبات:
ولما كانت منطلقات الحرب النَّفْسِيَّة وخصائصها مستمدة من الإسلام، والذي من خصائصه الثبات في نصوصه القطعيّة؛ فإنَّ خصيصة الثبات هنا تعني أنْ تكون مقارعة الباطل بحُجَّة ثابتة ويقينيّة، ولا مجال للغموض والإبهام، ويجب إبراز الحقّ بمظهر الثبات الذي لا يقبل جدالاً، قال تعالى: [الأعراف: 2].
فقد أمر المولى عزَّ وجلَّ نبيه بألا يكون في صدره حرج، مما يدلُّ على ثبات الجأش، وعدم التحرُّج، حتى تصل هذه الدَّعوة ما تصبو إليه، وفي ذات السياق قال تعالى: [الإسراء: 73-75].
يأتي ثبات الحقّ هنا من ثبات النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى لا يركن إلى أولئك الكفار، فيرضخ إلى ممارستهم النَّفْسِيَّة، فتتأثَّر الدِّعاية الإسلامية بذلك، ليصبح الثبات هو المطلوب لإيصال الدَّعوة الإسلامية في خضم ما يكتنفها من إرجاف، وأنَّ السماء هي التي تتدخَّل لتثبيت المؤمنين، قال تعالى: [إبراهيم: 27].(1/26)
إنَّ خصيصة الثبات في الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام تتجلى لدى ثبات الرُّسل وهم يجادلون أقوامهم، فينتصرون للحقّ، وذلك عن طريق البراهين الثابتة والحُجَج الدامغة، وأيضاً ثباتهم وهم يواجهون الأذى، قال تعالى: [التوبة: 52].
الإيجابية:
إنَّ إيجابية الحرب النَّفْسِيَّة مستمدّة من إيجابية الإسلام، فلا يعقل أنْ توجَّه حرب نفسيّة محاورها ومنطلقاتها سلبيّة، فالقرآن الكريم يحمل بين دفتيه كل ما هو إيجابي، يقول الله تعالى: [الإسراء: 9].
فهداية القرآن الكريم هي الأفضل مقابل دعاية باطلة تصدر من الكُفَّار، فإيجابية الحرب النَّفْسِيَّة هنا بحكم المصدر الذي أتت منه، وهو القرآن الكريم، فهي التي تنسف دعاوى الجاهلية ومقوِّماتها مقابل توطيد الإسلام، قال المولى عزَّ وجلَّ: [الملك: 22].
فالحرب النَّفْسِيَّة هنا تحمل كل ما هو إيجابي لفريق المسلمين، وعكس ذلك لغير المسلمين، وحتى على مستوى ممارسة التعبئة الحربية؛ فإننا نجد هذه المعاني الإيجابية للحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام، قال تعالى: [الأنفال: 36]، وقال تعالى: [آل عمران: 139].
حتى المسعى الذي يحسبه الكفار إيجابياً في حقّهم؛ فإنَّ القرآن يبيِّن لهم ضحالة ما ذهبوا إليه، وأنَّه لا يعني شيئاً، ويعكس ذلك في صورة رائعة لممارسات نفسيّة قرآنية تعلي من قيم الإسلام، مقابل التقليل من أولئك الذين يسعون للنَّيل من الإسلام والمسلمين.
كل فعل يفعله المسلم في ظل العمليات الحربية هو فعل إيجابي يثاب عليه، قال سبحانه وتعالى: [آل عمران: 120].
استمالة غير الأعداء:
من المعروف في الحرب التقليدية وغير التقليدية كثيراً ما يسعى معسكر من المعسكرات لكسب الأصدقاء أو تحييد آخرين، حتى لا ينضموا إلى معسكر العدو.(1/27)
من خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام استمالة غير الأعداء، ويتبيَّن ذلك من خلال تعاطف المسلمين عندما غلبت الروم، وهم أهل كتاب، أمام الإمبراطورية الفارسية، وهم مجوس، فبشَّر القرآن الكريم أنَّ الجولة القادمة ستكون في صالح معسكر أهل الكتاب، وفي ذلك استمالة لأهل الكتاب بضرورة بيان أنَّ أصل الدِّين واحد من عند الله تعالى، وهم بذلك أقرب إلى المسلمين ممن سواهم، قال تعالى: [الروم: 1-5].
وعلى نهج الإسلام في استمالة الأصدقاء والمحايدين؛ نجد أنَّه أيضاً عندما اشتدّت عداوة اليهود على المسلمين ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، نجده قد ميَّز بين أهل الكتاب، ففضَّل النَّصارى على اليهود والذين أشركوا، قال تعالى: [المائدة: 82].
وفي ذات السياق وضمن ممارسة الدِّعاية الإسلامية؛ فإنَّ القرآن الكريم يستميل أهل الكتاب ويدعوهم إلى ضرورة جمع الصف، قال تعالى: [آل عمران: 64].
وسعياً وراء كسب العناصر للدَّعوة نجد أنَّ القرآن الكريم يخاطب بالإضافة إلى أهل الكتاب فئات أخرى محايدة، قال تعالى: [الممتحنة: 8].
تعتمد الحرب النَّفْسِيَّة على الدِّعاية، وهي دعوة الغير لاعتناق مبدأ ما، ولما كان الإسلام في أصله دعوة؛ فإنَّ مهمة الإسلام هي استمالة الناس ودعوتهم، لتصبح هذه الخصيصة أيضاً هي الهدف الأسمى للإسلام.
خاتمة:
الحرب النَّفْسِيَّة هي سلاح العصر الذي يفتك بالخصم، ووجود هذا الفنّ في القرآن الكريم واستخدامه من لدن أبينا آدم - عليه السلام - لدليل على قِدَمِ الحرب النَّفْسِيَّة وأهميتها.
تناول البحث تاريخ وأهداف الحرب النَّفْسِيَّة، بعد أنْ عرَّفها كفن وعلم من علوم القتال، ولكنها تتميّز بعدم استخدام القوة المباشرة؛ بل ما يُعرف بـ (القوة الذكية) والعقل.(1/28)
كما تناول البحث أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام، وكيف حُصِّنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضد عمليات الكفار النَّفْسِيَّة، وجاء في أساليب الإسلام ما اصطلح عليه (غسل الدّماغ)، وذلك بإزالة القرآن للأفكار الفاسدة، والمعتقدات الباطلة.
ومن أساليب الحرب النَّفْسِيَّة في صدر الإسلام ما يُعرف الآن بـ (الحصار الاقتصادي). كما تتضمن الأساليب الاستعراض العسكري (المناورات)، إلى غير ذلك من الأساليب .
أمَّا خصائص الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام؛ فهي التي تميّزها عن غيرها، وتجعل أثرها أكبر، لاعتمادها على الحكمة، والثبات، والإيجابية، والواقعية، واستمالة غير الأعداء.. إلى غير ذلك من خصائص تميّزت بها الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام.
وفي ختام هذه الدّراسة توصَّل الباحث إلى عدد من النتائج والتوصيات، نوجزها كما يلي:
أولاً: النتائج:
[1] الحرب النَّفْسِيَّة قديمة قدم التاريخ الإنساني، حيث بدأت استخداماتها من قِبَل إبليس ـ عليه اللَّعنة ـ بتضليله لأبي البشر نبي الله آدم - عليه السلام - قبل أنْ ينزل إلى الأرض.
[2] في القرآن الكريم نماذج لأساليب ووسائل الحرب النَّفْسِيَّة تبيِّن أصول هذا الفن من خلال مواقف الأنبياء والرسل مع أقوامهم.
[3] توجد في الإسلام خصائص للحرب النَّفْسِيَّة تميّزها عن غيرها، وتبرز الإسلام بأنَّه سبَّاق في هذا المجال، الذي ولجت إليه الحضارات مؤخَّراً كسلاح لردع الخصم.
[4] تستند الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام على قيم أخلاقية، ولا تلجأ إلى الأساليب التي تمتهن كرامة الإنسان كما هو سائد اليوم في العمليات النَّفْسِيَّة المعاصرة.
[5] هناك دروس وعِبَر يمكن أنْ تؤخذ من مواقف الأنبياء والرسل
ـ عليهم السَّلام ـ وصمودهم أمام أعدائهم، فبذلك يتسلَّح الدعاة، وهم على يقين من نصر الله في نهاية الأمر، وهي خصيصة حتمية (انتصار الحقّ على الباطل).(1/29)
[6] التحصين النفسي في الإسلام من أنجع أساليب الوقاية من حرب الأعداء النَّفْسِيَّة، وقد حصّن القرآنُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - من حرب الأعداء النَّفْسِيَّة، مما مكّنه على حمل الرسالة وتبليغها.
ثانياً: التوصيات:
[1] ضرورة اعتماد أساليب ووسائل الحرب النَّفْسِيَّة التي وردت في القرآن الكريم والسَّنَّة النبوية والتاريخ الإسلامي ضمن المقررات بمراكز التدريب والمعاهد والكليات العسكرية.
[2] مواصلة البحث ودراسة الحرب النَّفْسِيَّة في الإسلام وربطها بالواقع لتحصين الأُمَّة المسلمة من أثر الحرب النَّفْسِيَّة التي تتعرض إليها هذه الأيام.
[3] مراقبة الأداء الإعلامي حتى لا يقع المسلمون في شباك وحيل الأعداء، الذين يتربصُّون بالأُمَّة المسلمة شراً، فالحرب النَّفْسِيَّة اليوم من أهم أدوات الصراع الحضاري.
[4] اعتماد مادة الحرب النَّفْسِيَّة وتعميمها على المؤسسات العلمية بالبلاد المسلمة، لكشف مخطّطات الأعداء وأساليبهم للنيل من الأُمَّة المسلمة.
[5] إنشاء مراكز لبحوث ودراسات الحرب النَّفْسِيَّة، لدراسة عمليات العدو النَّفْسِيَّة التي تهدف إلى غزو المسلمين ثقافياً وفكرياً، واستلابهم حضارياً، وتعميق بحوث ودراسات الحرب النَّفْسِيَّة بالمؤتمرات والنَّدوات العلميّة.(1/30)