بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية (التشخيص والعلاج)
بحث مقدم إلى مؤتمر
"الإسلام والتحديات المعاصرة"
المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية
في الفترة: 2-3/4/2007م
إعداد:
د. يوسف فرحات
ماجستير في الحديث الشريف
أبريل/ 2007
المقدمة:
تمثل الصحوة الإسلامية – التي أشرق نورها في العالم الإسلامي – أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن المنصرم، تلك الصحوة القائمة على الأصالة والاقتباس من منابع ديننا الحنيف، حيث اتخذت الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف نهجاً مميزاً وهدفاً سامياً، لذا كان أعظم ما يملك العالم الإسلامي ليس هو البترول أو القطن أو الذهب أو الفضة، إنما أعظم ما يملكه هو هذا الشباب – الثروة البشرية – الذي ينساب نحو الإسلام من كل حَدَب وصوب، ينضمون إلى ركب الإيمان، ينادون بالعودة إلى كتاب الله وتحكيم شرعه.
وهذه الصحوة المباركة، وإن كانت رحمة الله بهذه الأمة، إلا إنها تبقى جهداً بشرياً يصيبه ما يصيب أي جهد بشري آخر من أحوال وأطوار صحية أو مرضية، الأمر الذي يدعونا إلى مراجعة هذه الأحوال والأطوار ورصدها وتقديم العلاج الناجع والشافي. لهذا كان هذا البحث الذي يسلط الضوء على تحدٍ يواجه الصحوة الإسلامية المعاصرة يتمثل في أزمة الفهم، والذي كان له أثر كبير على أداء هذه الصحوة.
خطة البحث:
يتكون هذا البحث من مقدمة وثلاث مباحث وخاتمة وتوصيات وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: الصحوة الإسلامية: مفهومها وأسبابها وخصائصها
المطلب الأول: …مفهوم الصحوة.
المطلب الثاني: …أسباب الصحوة.
المطلب الثالث: …خصائص الصحوة
المبحث الثاني: …أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية: المفهوم والأسباب والضوابط
المطلب الأول: …مفهوم أزمة الفهم.
المطلب الثاني: …أسباب أزمة الفهم.
المطلب الثالث: …ضوابط فهم النصين: القرآن الكريم والسنة النبوية.(1/1)
المبحث الثالث: …أزمة الفهم: التشخيص والعلاج.
المطلب الأول: …مظاهر وأعراض أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية.
المطلب الثاني: …وسائل العلاج.
الخاتمة والتوصيات.
المبحث الأول
الصحوة الإسلامية: مفهومها وأسبابها وخصائصها
المطلب الأول: مفهوم الصحوة:
أولاً: الصحوة في اللغة:
مادة (صحا) في العربية تعني - إذا وُصف بها الإنسان - التنبه والإفاقة واليقظة. ويعرف ذلك من مقابلها وهو: النوم أو السكر، يقال: صحا من نومه أو من سُكره، صحواً، بمعنى: أنه استعاد وعيه بعد أن غاب عنه، نتيجة شيء طبيعي، وهو النوم، أو شيء اصطناعي، وهو السكر.
والأمم يعتريها ما يعتري الأفراد من غياب الوعي، مدداً تطول أو تقصر نتيجة نوم وغفلة من داخلها.
أو نتيجة (تنويم) مُسلط عليها من خارجها. والأمة الإسلامية يعتريها ما يعتري غيرها من الأمم فتنام أو تُنوم ثم تدركها الصحوة كما نرى اليوم. ولذا فإن صحوة الأمة تعني: عودة الوعي والانتباه لها بعد غيبة.
وقد عُبِّرَ عن هذه الظاهرة في بعض الأحيان: بعنوان (اليقظة) في مقابل (الرقود) أو (النوم) الذي أصاب الأمة الإسلامية، في عصور التخلف والركود، كما عُبِّرَ عنها أحياناً بعنوان (البعث)، وهو أيضاً يكون بعد (النوم)، كما في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام:60].(1/2)
كما يكون بعد (الموت) ولعله المُتبادر إلى ذهن المسلم: كما في قوله تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [الحج: من الآية7]. والأمة المسلمة لا تموت، ولكن النوم شبيه بالموت وخصوصاً إذا طال، وقد قيل: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، أو النوم هو الموتة الصغرى، الموت هو النومة الكبرى(1).
ثانياً: الصحوة اصطلاحاً:
بناءً على التعريف اللُغوي السابق ممكن أن نُعَرِّف الصحوة بأنها:
تلك الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي تشير إلى تنبه الأمة الإسلامية، وإفاقتها وإحرازها تقدماً مُطرداً في إحساسها بذاتها ،واعتزازها بدينها وفي تحررها من التبعية الفكرية والحياتية وفي سعيها للخروج من تخلفها، وانحدارها ولقيامها بدورها الحضاري الخيري المتميز باعتبارها خير أمة أخرجها الله لإعمار الأرض(2).
ثالثاً: مفهوم الحركة الإسلامية:
عَرَّفها الدكتور القرضاوي بأنها:
ذلك العمل الشعبي الجماعي المنظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع وتوجيه الحياة كل الحياة(3).
وعرَّفها الأستاذ توفيق الطيب بأنها: الفئة الاجتماعية التي تحمل الدعوة الإسلامية أو التيار الاجتماعي الذي يحمل الإسلام، كدين ويريد إقامة هذا الدين(4)..
رابعاً: بين الصحوة والحركة:
__________
(1) المعجم الوسيط 1/508، د. إبراهيم أنيس وزملاؤه، الطبعة الثانية د. يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص11-12.
(2) انظر تعريف محي الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر العدد 42ص5.
(3) د. يوسف القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة ص 13.
(4) مجلة المسلم المعاصر عدد 1، ص 86.(1/3)
والفرق بين الحركة والصحوة: أن الحركة تُعبِّر عن جماعة أو جماعات منظمة ذات أهداف محددة، ومناهج مرسومة، أما الصحوة: فهي تيار عام دافق، يشمل الأفراد والجماعات المنظم وغير المنظم ، فبينهما كما يقول علماء المنطق: عموم وخصوص مطلق فكل حركة صحوة، وليست كل صحوة حركة، فالصحوة إذن أوسع دائرة من الحركة وأكثر امتداداً وهكذا ينبغي أن تكون. والصحوة مدد ورافد للحركة ومُسند لها والحركة دليل وموجه للصحوة، وكل منها يؤثر ويتأثر بالآخر ويتفاعل معه، والحركة الإسلامية قبل كل شيء عمل، وعمل دائب متواصل وليس مجرد كلام يقال أو خطب ومحاضرات، أو كتب ومقالات، وإن كان كله مطلوباً ولكنه جزء من حركة وليس هو الحركة. والحركة هي عمل شعبي يقوم أساساً على الانبعاث الذاتي والاقتناع الشخصي إيماناً واحتساباً وابتغاء ما عند الله لا ما عند الناس(1).
خامساً: التنبؤ بالصحوة:
__________
(1) د. القرضاوي أولويات الحركة الإسلامية ص 8-11.(1/4)
الصحوة الإسلامية التي يشهدها العالم المعاصر لم تكن مفاجئة للعالم الغربي، وإن كانت مفاجئة للعالم الإسلامي الذي لا يقرأ التاريخ. يقول الدكتور حامد ربيع أستاذ العلوم السياسية: " إن جميع القيادات الفكرية العالمية توقعت هذه الصحوة منذ ما لا يقل عن ثلاثين عاماً بل وهناك من توقعها منذ أكثر من ستين عاماً، فالعالم الأمريكي " سميث " في جامعة مونتريال في كتاب له أسماه " الإسلام اليوم " وصدر في الخمسينات من القرن العشرين، لفت نظر المسئولين في بلاده إلى هذه الصحوة. والعالم الإنجليزي صاحب الشهرة الدولية " وات " أيضاً في تحليله للإسلام في العصور الوسطى الذي تضمنه كتابه الصادر عام 1964م، توقع هذه الصحوة ووصفها بأنها سوف تقود إلى أيديولوجية رابعة ستتحكم في العالم المعاصر في نهاية القرن الحالي. على أن أخطر وثيقة بهذا الخصوص تعود إلى عالم روسي هو" تروجانو سكي"، كتب مجموعة مؤلفات في أعقاب الثورة الشيوعية محاولاً تقييم تلك الثورة ومتسائلاً متى وأين تأتي الثورة العالمية الثالثة ؟ مشيراً بها إلى الثورتين الفرنسية والشيوعية وإلى أن كليتها قد فشلتا في ناحية معينة وأن العالم في حاجة إلى ثورة قادمة تستطيع أن تصحح من مسارات الحركة الإنسانية ويجيب " تروجانوسكي " بأن تلك الثورة لن تأتي إلا من العالم الإسلامي... كان ذلك في عام 1919م"(1).
المطلب الثاني: أسباب الصحوة الإسلامية:
هناك مجموعة عوامل وأسباب ساهمت في ظهور هذه الصحوة تمثلت في التالي:
أولاً: الهزائم المتلاحقة التي حلت بالأمة، وكان آخرها هزيمة الخامس من حزيران عام 1967م، حيث كانت كارثة على مصر، وعلى سوريا، وعلى فلسطين، وعلى الأردن، وعلى العالم العربي كله
__________
(1) انظر: مقال محي الدين عطية (أمراض الصحوة الإسلامية) المسلم المعاصر العدد 42 نقلاً عن الصحوة الإسلامية لماذا وإلى أين "حديث مع د. حامد ربيع، الأمة العدد 39.(1/5)
ومع هذا قدَّر الله تعالى أن يجعل من وراء هذه المصيبة خيرًا كثيرًا وهو الذي يقول: { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216]، ويقول: { فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19]. والعرب يقولون: "رب ضارة نافعة". والصوفية يقولون: " كم من منحة في طي محنة ".
ومن هذا الخير الذي جاءت به هذه الكارثة إيقاظ ضمير الأمة؛ لترجع إلى الله، وتقرع بابه، وتسأله التوبة، فلا يرد الناس إلى الله مثل الشدائد؛ فالإنسان تغره العافية والرخاء، فإذا تبدل رخاؤه إلى شدة، وعافيته إلى بلاء ذكر الله تعالى وأناب إليه، كما يفعل ركاب السفينة، إذا جاءتها ريح عاصف، وجاءها الموج من كل مكان، وظن ركابها أنهم أحيط بهم، هنالك يدعون الله مخلصين له الدين. فقد أحدثت النكبة يقظة دينية عامة، وتجلى أثر ذلك في المساجد وفي البيوت، وفي الجامعات، وفي الجيش، وفي غيرها.
وهكذا ولدت الصحوة الإسلامية ولادة طبيعية بلا قيصرية، ولا عملية جراحية، كما كان الحمل طبيعيًّا أيضًا، لم يحتج إلى أطفال أنابيب ولا غير ذلك. ومن هنا لا معنى للذين يزعمون أن الصحوة الإسلامية إنما نشأت بفعل فاعل، وصنع صانع، وأن الذي صنعها هو أحد الحكام الذي أرخى العنان للإسلاميين ليضرب بهم الشيوعيين(1).
__________
(1) انظر: القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ص28-29.(1/6)
ثانياً: تُعدُ الصحوة امتداداً لحركات إسلامية ومدارس فكرية قامت من قبل انقرض بعضها ولا زال بعضها قائماً بصورة أو بأخرى حتى اليوم، حركات قام عليها رجال صادقون، حاول كل منهم أن يُجدد الدين أو يُحيي الأمة، يذكر التاريخ منهم الشيخ المجدد باعث السلفية، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومؤسس الحركة السنوسية في ليبيا الشيخ المعلم المجاهد محمد بن علي السنوسي، والداعية الثائر المجاهد الذي أيقظ السودان وقاتل الاستعمار الانجليزي، وأقام دولة للإسلام في جنوب وادي النيل، الزعيم محمد المهدي، ومنهم أيضاً الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ومنهم الرجل القرآني والمعلم الرباني، الإمام الشهيد حسن البنا، وفي البلاد غير العربية، في تركيا بديع الزمان سعيد النورسي، وفي باكستان أبو الأعلى المودودي، وفي الهند أبو الحسن الندوي، ومحمد إلياس مؤسس جماعة التبليغ.... الخ(1).
ثالثاً: فشل الحلول والأفكار المستوردة، الدخيلة على أمتنا، حيث جنت على الأمة مزيداً من التخلف والتراجع والهزيمة، كل هذا جعل الأمة تدرك أنه لا خلاص لها إلا بالإسلام.
رابعاً: كما اقتضت حكمة الله وإرادته ألا تطول غفلة الأمة ونومتها، وذلك أن الله يبعث لها من يجدد لها أمر دينها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأسِ كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها)(2).
المطلب الثالث: خصائص الصحوة الإسلامية
وللصحوة جملة من الخصائص منها:
أولاً: المظهر الفكري:
للصحوة مظهر فكري، فهي صحوة عقل قبل كل شيء، فإذا نظرنا إلى مراحل عودة الوعي نجد أنه في وقت من الأوقات، كانت هناك التبعية الفكرية المطلقة، وظل هذا سائداً.
__________
(1) انظر: المصدر السابق ص 32-38.
(2) رواه أبو داود، في كتاب الفتن والملاحم: باب ما يذكر في قرن المائة، رقم 4270 والحاكم في مستدركه، في كتاب الفتن 4/522.(1/7)
لفترة من الفترات، ثم جاءت الصحوة المباركة، وهي مرحلة مواجهة الفكر العربي مواجهة الند للند، فأصبحنا قادرين على أن ننقد هذا الفكر وأن نقول: هذا خطأ وهذا صواب، وهذا يُقبل وهذا لا يقبل، فضلاً على أن الإسلام لم يعد في قفص الاتهام، حيث انتقلنا من مرحلة الدفاع ودخلنا في مرحلة جديدة هي مرحلة الدعوة أو قل: هي مرحلة الهجوم، وهكذا انتقل الفكر الإسلامي من مرحلة الضعف إلى مرحلة القوة، والمواجهة.
ثانياً: صحوة مشاعر وعواطف:
إذا كانت الصحوة الإسلامية هي صحوة عقول قبل كل شيء، فهي كذلك صحوة مشاعر، صحوة عواطف، صحوة قلوب، فالإنسان لا يُقاد بالعقل وحده، الإنسان عقل وعاطفه، فهذه الصحوة تجمع بين العقل والعاطفة، فالمشاعر الإسلامية مثل: الولاء والحب للإسلام والبغض للكفر والفسوق، هذه مشاعر حقيقية أصبحت هي التي تؤثر الآن في الحياة الإسلامية.
ثالثاً: صحوة عمل وسلوك:
وهي كذلك صحوة التزام بالإسلام عملاً وسلوكاً، فالمساجد التي كانت قبل ربع قرن تكاد أن تكون فارغة هي الآن تزدحم بالمصلين بل إنهم يوم الجمعة يُصلون على قارعة الطريق، كان الذين يحجون ويعتمرون قديماً الشيوخ والعجائز والآن الذين يحجون ويعتمرون هم الشباب.
رابعاً: صحوة المرأة المسلمة:
في الميدان النسائي حدث تغير هائل، انظر إلى ظاهرة الحجاب كيف كانت وكيف صارت في وقت من الأوقات كان الحجاب يعتبر ظاهرة نادرة بل ظاهرة شاذة، أما الآن تجد آلاف الفتيات يلتزمن الحجاب باختيارهن تديناً لا تقليداً، بل إن المرأة أخذت تنافس الرجل في جميع الميادين الدعوية.
خامساً: صحوة عالمية:
ومن ملامح وخصائص هذه الصحوة أنها صحوة عالمية، ليست صحوة في بلد دون بلد، ليست صحوة في بلاد العرب وحدها، ولا حتى في داخل العالم الإسلامي وحده، بل هي في خارج العالم الإسلامي في الجاليات الإسلامية حيث تَكُون الأقليات الإسلامية في بلاد المهجر.
سادساً: صحوة شباب:(1/8)
وهي كذلك صحوة شباب، الشباب هي عمودها الفقري، وبخاصة الشباب المثقف، شباب الجامعات والمعاهد العليا والمدارس الثانوية الذي أريد له في وقت من الأوقات أن يُعزل عن دينه وعن تراثه وعن أمته، وعملت فيه معاول الهدم الفكري عملها. هذا الشباب أصبح هو الذي يُجَسِّد هذه الصحوة الإسلامية.
سابعاً: صحوة ملتزمة بأحكام الإسلام:
من خصائص هذه الصحوة أنها ليست صحوة مقصورة على الحماس أو الكلام أو الشعارات إنما هي صحوة تقوم على الالتزام بأحكام الإسلام وآدابه حتى السنن والمستحبات منها، بل إحياء ما كان قد مات من سنن وآداب(1).
المبحث الثاني
أزمة الفهم، المفهوم والأسباب والضوابط
المطلب الأول: مفهوم الفهم
عَرَّف الُزبيدي الفهم أنه: سُرعة انتقال النفس من الأمور الخارجية إلى غيرها. وقيل: الفهم تصور المعنى من اللفظ. وقيل: هيئة للنفس يتحقق بها ما يَحسنُ(2).
__________
(1) انظر: الصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير، د. القرضاوي ص11-16. والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، له أيضاً ص13-23. والصحوة الإسلامية (رؤية نقدية من الداخل) منير شفيق ويوسف القرضاوي وراشد الغنوشي ومحمد الغزالي وحسن الترابي وفهمي هويدي ص 29، الناشر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1410هـ -1990م.
(2) محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس ج27/ص 546، دار الفكر، دراسة وتحقيق علي شبري.(1/9)
والفهم هو الفقه المشار إليه في قوله تعالى: { مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ } [هود: من الآية91]. أي: لا نفهم، وقوله تعالى: { وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: من الآية44] أي لا تفهمون. وتقول العرب: فَقهت كلامك أي فهمته وبهذا يكون الفهم مغايراً للعلم، إذ العلم مطلق الإدراك والفهم عبارة عن جودة الذهن، من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يَرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف به عالماً، كالعامي الفطن(1).
وعرَّفه ابن حجر العسقلاني بأنه: فطنة يَفهمُ بها صاحبها من الكلام ما يَقترنُ به من قول أو فعل(2).
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الفهم والمعرفة للأمور وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد والتقدير للعواقب، مناط خيرية الإنسان عند الله، فقال: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)(3).
وكان من دعائه المأثور واللافت لعبدالله بن عباس رضي الله عنها: (اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)(4). فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها وأحد منارات فقه الصحابة العظيم.
ولأهمية الفهم وفضله ترجم الإمام البخاري في صحيحه للباب الرابع عشر من كتاب العلم بعنوان (الفهم في العلم).
__________
(1) أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 1/ ص7 دار الحديث. وانظر: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الكليات ص 697، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية1413 هـ - 1993م.
(2) أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 1/ ص 219، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1418هـ - 1997م.
(3) أخرجه البخاري، في كتاب العلم، رقم (69) ومسلم، كتاب الزكاة، رقم (1719).
(4) أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم (73) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم 1274.(1/10)
" إن من المؤلم والمحزن حقاً أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تُخَرِّج حفظة وحملة فقه في الأعم الغالب ولا تُخرج فقهاء وتُخرج نقلة يُمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل ويُنمون التفكير... تُخرج من لا يستطيعون تجاوز المثال الذي أتى به الأقدمون إلى تنزيل القاعدة على واقع جديد، أو تَوليد حتى مثال معاصر غير القديم.. فالناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراه في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام يَجدُ أطناناً من الوَرق يَعْظُم كَمها ويتضاءل كيفها، لم تُحرك ساكناً ،ولم تحقق رؤية تغير من واقع الأمة وإن كانت تَرتقي بالمواقع المادية وأحياناًً الاجتماعية لأصحابها الذين أصبحوا حملة الألقاب العلمية ! هذا إن لم تكن في بعض الأحيان وسيلة توبيخ مستمرة لحملتها.. ويكفي استعراض الكثير من العناوين لهذه الرسائل التي قد تبلغ عشرات الألوف للدلالة على عقل الأمة وحالها...." (1).
__________
(1) انظر: عمر عبيد حسنه في تقديمه لكتاب الأمة العدد (72) تكوين الملكة الفقهية. أ. د محمد عثمان شبير ص 39-40.(1/11)
إن الفهم السليم هو التعامل مع النصوص انطلاقاً وانسجاماً مع المنهجيات والقواعد والأصولية التي وضعها العلماء والمتخصصون لهذا الغرض. والتعامل الصحيح مع النص هو عبارة عن حراسة مدلولات النص وحماية فهمه وتجديده بحسب الظروف والأحوال من البشر أنفسهم، بعيداً عن التأويل الفاسد، أو بعبارة أخرى الخروج بالمعنى عما وُضع له اللفظ وما عُهد عند العرب من الخطاب. وقد يكون هذا من بعض مدلولات قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته لليقظة لهذا الأمر الخطير واضحة، حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: (يحملُ هذا العلمَ من كلِ خَلَفٍ عُدُوله يَنفونَ عنه تحريفَ الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين)(1). لذلك يبقى المطلوب دائماً حراسة مدلولات النص والتنبه إلى محاولة تحريفه كحماية ألفاظه ومنهج نقله إن لم يكن أكثر وأهم.
- بين صاحب التحصيل وصاحب البصيرة:
والناس في وسيلة الإدراك صنفان: صاحب (تحصيل) وصاحب (بصيرة) الأول: صاحب عقل (مكتسب) والثاني صاحب عقل (موهوب) ذو بصيرة وفقه.
__________
(1) الحديث ذكره الإمام ابن القيم في " مفتاح دار السعادة " وقواه لتعدد طرقه (1/163) ط. دار الكتب العلمية ببيروت. وكذلك العلامة ابن الوزير الذي استظهر صحته أو حسنه، لكثرة طرقه مع ما نقل من تصحيح الإمام أحمد له، والحافظ ابن عبدالبر، وترجيح العقيلي لإسناده، مع سعة اطلاعهم وأمانتهم، فهذا يقتضي التمسك به. انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1/21-23) ط. دار المعرفة بيروت.(1/12)
والعقل المكتسب عن طريق التَجارب، أو القراءة والحفظ لا ينفع صاحبه ولا يأخذ بيده إلى مقاطع الحق، إذا لم يكن له ذلك العقل الموهوب وغير مُجدٍ معرفة النصوص، وحفظها وتحديدها بالصفحات والأرقام من غير تلك (البصيرة) ولو حَملت تلك (الذاكرة) خزائن كتب أهل الأرض، إن البصيرة هبة لَدُنيه من صفات العقل المطبوع، ولا بد منها لصحة النظر وسلامة الفهم وهي (المميز) الذي يُرجِّح إنساناً على آخر، بما تحقق من أصالة الرأي وسلامة الحكم. وقد جعل الإمام الغزالي هذه (البصيرة) من سمات علماء الآخرة الذين اعتمادهم في علومهم على بصيرتهم، وإدراكها بصفاء قلوبهم لا على الصحف والكتب.
والقراءة والحفظ من غير بصيرة فقه لا يسمى صاحبها عالماً، إنما هو وعاء، لا يسمى (عالماً) إذا لم يَطّلع ببصيرة فقهية على الحِكَم والأسرار والمقاصد.
والناس كذلك تختلف مداركهم للشريعة، فمنهم من منهجه البحث عن (النص) ومنهم من منهجه البحث عن (مقصد النص). وأصحاب المنهج النصي أقرب إلى أصحاب العقل المكتسب وأصحاب منهج القصد أقرب إلى أصحاب العقل الموهوب، لذلك كان تفاوت المنزلة بين أصحاب التحصيل وأصحاب البصيرة.
إن صاحب (النص) يقف عند اللفظ ومدلوله اللُغوي والثاني يتخطى (ظاهر اللفظ) إلى (مقصوده) من غير عدوان على اللغة، الأول كثيراُ ما يَجْبَهُكَ - في تحدٍ- ما دليلك ؟ ولا يعني (الدليل) عنده إلا (النص)، أما الثاني، صاحب المقاصد فمفهوم (الدليل) عنده أوسع مدى: إنه يجمع النص إلى النص ويبحث عن اللازم، وعن المضمون وعن المناسبات وعن العلل، عن الكلي الذي يندرج تحته كثير من الجزئيات، ويبحث عن (روح الشريعة)، وروح الشريعة هو المعني الكلي المُتولد في نفس الجامع للنصوص، الفاهم للمقاصد. وصاحب هذا المنهج هو القادر على الاجتهاد في وقائع الدهور المتجدد، إذ لا قول لصاحب النص إلا أن يقول: لم يَرد !(1/13)
إن أصحاب منهج المقاصد، الذين هم المستحقون (لمرتبة الاجتهاد) هم فقهاء الإسلام ومن دارت عليهم الفُتيا في أقوالهم، الذين خُصوا (باستنباط الأحكام) وعُنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فَهُم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء.
فرق بين علماء النص وعلماء المقاصد، علماء المقاصد هم أصحاب التدقيق الذي به يتمكن من إبراز خصائص الشريعة فيواجهون بها (الرأي الفاسد) الذي يرى أصحابه أنهم أولى بالتشريع. فرق بين النص وفقه النص، وأصحاب هذا الفقه هم العلماء حقاً(1).
- الفهم الصحيح نعمة:
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " صحة الفهم وحُسن القصد من أعظم نعمة الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطى عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منها، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليها، وبها يأمنُ العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فَسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حَسُنَت أفهامهم ومقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة. وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد، ويَمُده حسن القصد وتحرى الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب مَحْمَدة الخلق وترك التقوى"(2).
المطلب الثاني: أسباب أزمة الفهم:
لقد ساءَ فَهمُ المسلمين - بصفة عامة وشباب الصحوة بصفة خاصة - للإسلام وذلك لسببين هامين:
__________
(1) انظر: عبدالحميد صبح، العقيدة وصفات الله ص 18-27 ، دار الكلمة، الطبعة الأولى. وابن قيم الجوزية، الوابل الصيب من الكلام الطيب ص 64- 65، المكتبة التوفيقية، حققه وخرج أحاديثه عماد البارودي. وإعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم 1/196، تحقيق وتعليق عصام الدين الضبابطي، دار الحديث ، الطبعة الأولى.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/86.(1/14)
أولاً: رواسب عصور التخلف وما دخل فيها على الإسلام من شوائب ومبتدعات وسوء تصور بسبب تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، كما أدى إلى كثير من التشويه لجمال الإسلام، وتفكيك ترابطه، واختلاف التوازن بين أحكامه وتعاليمه فَقُدم ماحقه التأخير وأُخرَ ما حقه التقديم، وتَضخم ما حقه أن ينكمش وتضاءل ما حقه أن يَعْظُم، وفي هذا المناخ راج التقليد والتعصب المذهبي
ثانياً: أثار الغزو الفكري، أو الاستعمار الثقافي، الذي مُنِيَت به بلاد المسلمين في عهد الاحتلال الأجنبي الذي أَدخل في حياة المسلمين مفاهيم جديدة، وأفكاراً دخيلة، رَوَّجها وبثها عن طريق المؤسسات التربوية والتعليمية والأجهزة التثقيفية والتوجيهية. وكان أشد ما نجح فيه الاستعمار خطراً أنه رَبَّى وراءه من أبناء المسلمين جَمهرة ممن يُسمَون "المثقفين " صنعهم على عينه وغذاهم من لِبانه، وأرضعهم فلسفة حياته، ولقنهم وجهة نظره وملأ عقولهم وقلوبهم إعجاباً بحضارته، واحتراماً لنظمه، وحباً لتقاليده ولم يُعرفهم عن دينهم وحضارتهم وتراثهم إلا القليل في كميته، الضعيف في كيفيته، التافه في قيمته، المتناقض في مضمونه، الممسوخ في شكله وصورته، ولا غَروَ أن وجدنا مسلمين يعيشون في أوطانهم غُرباً عنها وجوههم وجوه المواطنين العرب المسلمين وعقولهم عقول الخواجات الأوربيين أو الأمريكيين(1).
المطلب الثالث: ضوابط فهم النصين القرآن الكريم والسنة النبوية
__________
(1) انظر: د. يوسف القرضاوي، التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا ، من 27، 28 مكتبة وهبة، الطبعة الثانية 1403هـ - 1982م.(1/15)
إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فكر، وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم النصين: القرآن الكريم والسنة النبوية والتعامل معهما، وخاصة من بعض تيارات الصحوة الإسلامية، فكثيراً ما أُوتي هؤلاء من جهة سوء فهمهم، لذا لا بد من بيان الضوابط التي يجب أن تُراعى في التعامل مع النصين: القرآن والسنة، وهذه الضوابط والنصوص:
أولاً: معالم وضوابط فهم القرآن الكريم:
لا ريب أن فهم كتاب الله تعالى الفهم السليم هو غاية كل مسلم، وهو الثمرة العملية المرجوة من تدبره، كما أن الثمرة العملية هي الالتزام بأحكامه وتوجيهاته إيماناً وعملاً ودعوة.
والذي يساعد على الفهم السوي للقرآن: هو حسن تفسيره بما يُبين مقاصده، ويُوضح معانية، ويكشف اللثام عما فيه من كنوز وأسرار، ويفتح مغاليقه للعقول والقلوب.
وهنا يعرض سؤال كبير ،عن أقوم المناهج، أو عن المنهج الأمثل الذي ينبغي توخيه واتباعه في تفسير القرآن الكريم. وجوابنا عن هذا السؤال الكبير: أن المنهج الأمثل في تفسير القرآن، يقوم على أصول راسخة، وقواعد شامخة، تتمثل في خطوات معلومة، ومعالم مرسومة، وضوابط بينة، يجب مراعاتها والالتزام بها، حتى تتضح للمفسر الغاية، ويستقيم له الطريق:
1- تفسير القرآن بالقرآن:
وثاني هذا المعالم هو: تفسير القرآن بالقرآن. وذلك أن القرآن الكريم يُصدِّق بعضه بعضاً، ويُفسر بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: من الآية82].
فما أُجمل في موضع فُضِّل في موضوع آخر، وما أبهم في مكان بُين في آخر، وما أُطلق في سورة أو آية قُيِّد في أخرى، وما جاء عاماً في سياق خُصص في سياق آخر، ولا بد من ضم الآيات والنصوص بعضها إلى بعض، حتى يتكامل الفهم، ويستبين المقصود من النص.(1/16)
وأول من سن ذلك وعَلَّمه لنا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحينما قرأ الصحابة قوله تعالى في سورة الأنعام: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام:82] قلق الصحابة رضي الله عنهم ،وخافوا على أنفسهم، فظاهر الآية أنه لا أمن ولا اهتداء لمن شاب إيمانه أي ظلم، وهو يشمل كل معصية، ولو صغيرة، لهذا قالوا: يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه ؟ ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس كما تظنون، ولكنه الشرك، أما قرأتم قول العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: من الآية13](1).
2- تفسير القرآن بصحيح السُنَّة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير:
"إن أصح طرق التفسير أن يُفسرَ القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فُسر في موضع آخر، وما اختُصر في مكان فقد بُسط في موضع آخر. فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن، ومُوضحة له، بل قال الإمام الشافعي: كل ما حكمَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [النساء:105]. وقال تعالى: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل:64].
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ،رقم 32، كتاب الإيمان، باب: ظلم دون ظلم ورقم3360، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً).(1/17)
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)(1). يعني: السنة. والسنة تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تُتلى كما يُتلى القرآن (ولهذا تُسمى الوحي غير المتلو). وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة. والغرض: أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " بِمَ تحكم " ؟ قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد " ؟ قال: بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال " فإن لم تجد " ؟ قال: أجتهد برأيي. فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره، وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يُرضى رسول الله "، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد"(2).
3- الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين:
الصحابة هم تلاميذ المدرسة المحمدية، فيها تخرجوا ،ومنها اقتبسوا، وعنها تلقوا، وعلى مائدتها تغذت عقولهم وقلوبهم، فإذا صح عن الصحابة – رضى الله عنهم – تفسير مُعين أصغينا له أسماعنا، لما امتازوا به من مشاهدة أسباب التنزيل وقرائن الأحوال، فرأوا وسمعوا ما لم ير غيرهم ولم يسمع، مع عراقة في اللغة بالسليقة والنشأة، وصفاء في الفهم ،وسلامة في الفطرة، وقوة في اليقين، ولاسيما إذا أجمعوا على هذا التفسير، فإن إجماعهم قد يدل على أن لهذا الأمر أصلاً من السنة ،وإن لم يُصرحوا به، ويكفي في الإجماع هنا: أن ينتشر الرأي بينهم، ويشتهر عن جماعة منهم، ولا يعرف له منهم مخالف.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، رقم 3988 وذكره الألباني في صحيح الجامع، رقم 2643.
(2) انظر: أصول التفسير لابن تيمية ص93-95، بتحقيق د. عدنان زرزور.(1/18)
فإذا اختلفوا، فقد أتاحوا لنا أن نتخير من بين آرائهم ما نراه أقرب إلى السداد، أو نُضيف إلى أفهامهم فهماً جديداً، لأن اختلافهم قد أعطانا دليلاً على أنهم فسروا برأيهم واجتهادهم، وهو رأي بشر غير معصوم على كل حال.
4- الجمع بين الرواية والدراية:
أول المعالم في هذا المنهج هو: الجمع بين الرواية والدراية، والجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول والتأليف بين تراث السلف ومعارف الخلف. وهذا ما سار عليه كثير من أئمة التفسير، وعلى رأسهم شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في موسوعته التفسيرية (جامع البيان في تفسير القرآن).
5- الأخذ بمطلق اللغة:
إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين فيجب أن يفسر اللفظ بحسب ما تدل عليه اللغة العربية واستعمالاتها، وما يوافق قواعدها، ويناسب بلاغة القرآن المعجز.
هذا مع أن في الألفاظ ما جاء على سبيل المجاز ،ومنها ما هو مشترك، يدل على أكثر من معنى... لخ، واختيار أحد المعنيين أو المعاني يحتاج إلى دقة وتأمل بالنسبة لكلام الله العزيز.
ومما يعين قارئ القرآن أو مفسره على حسن الفهم: أن يتتبع الكلمة القرآنية في مواردها المختلفة في القرآن، فذلك أحرى أن يتبين له حقيقة معناها، ولا يشرد عن الصواب في معرفة مدلولها.
6- مراعاة السياق:
ومن الضوابط المهمة في حسن فهم القرآن، وصحة تفسيره: مراعاة سياق الآية في موقعها من السورة، وسياق الجملة في موقعها من الآية، فيجب أن تربط الآية بالسياق الذي وردت فيه، ولا تُقطع عما قبلها وما بعدها. قال الزركشي في ذكر الأمور التي تُعين على فهم المعنى عند الإشكال:(1/19)
الرابع: دلالة السياق: فإنها تُرشد إلى تَبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم الدلالة مراد المتكلم، فمن أهمله غَلط في نظره، وغالط في مناظراته، وانظر إلى قول تعالى: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان:49] كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير(1).
إن الكلمة الواحدة قد ترد في القرآن لعدة معان مختلفة، وإنما يتحدد المعنى المراد منها في كل موقع بالسياق، ونعني بالسياق: ما قبل الكلمة وما بعدها:
انظر مثلاً: إلى كلمة (الكتاب) في القرآن، فقد وردت دالة على معان عدة، لا يُميزها إلا السياق.
فقد وردت دالة على (القرآن) ووردت دالة على (التوراة)، ووردت دالة على (التوراة والإنجيل معاً) ووردت معنى (اللوح المحفوظ).
ومن ذلك: كلمة (آية) فهي في اللغة: العلامة، وهي ترد في القرآن على عدة معان:
فهي ترد بمعنى الآية التنزيلية المتلوة، وترد معنى الآية التكوينية المشهودة، وترد معنى الآية الدالة على صدق الرسول – عند تحديه لقومه – وهي التي يعبر عنها بالمعجزة.
وكما أن اللفظ الواحد في القرآن قد يرد بعدة معان ،يحددها السياق، فإن المعنى الواحد، قد يرد كذلك في القرآن معبراً عنه بعدة ألفاظ، مثل كلمة (القرآن) يُعبر عنه بالكتاب والذكر والفرقان.
7- ملاحظة أسباب النزول:
ومن المعالم المهمة في فهم القرآن وتفسيره: ملاحظة أسباب النزول.
فمن المقرر لدى العلماء: أن القرآن نزل على قسمين: قسم نزل ابتداء، وهو معظم القرآن، كما يبدو ،وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال، وذلك خلال مدة نزول الوحي، وهي ثلاث وعشرون سنة.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي أبو عبدالله، 2/200-201 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار المعرفة - بيروت، 1391.(1/20)
وهذا القسم الأخير هو الذي يبحث عن سبب نزوله، لأن معرفة الأسباب والملابسات المحيطة بالنص، تساعد على حسن فقهه، وفهم المراد منه. يقول الإمام ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يُورث العلم بالمسبب(1).
ثانياً: ضوابط فهم السنة النبوية:
ينبغي لمن يتعامل مع السنة النبوية، لكي ينفي عنها انتحال المبطلين وتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، أن يراعىَ مبادئ أساسية في هذا المجال:
أولاً: أن يستوثق من ثبوت السنة وصحتها، وذلك وفقاً للموازين العلمية الدقيقة التي وضعها الأئمة الإثبات.
ثانياً: أن يُحسن فهم النص النبوي، وفق دلالات اللغة وفي ضوء سياق الحديث- سبب الورود – وفي ظلال النصوص القرآنية والنبوية الأخرى، وفي ضوء المقاصد الكلية للإسلام.
ثالثاً: أن يتأكد من سلامة النص من معارض أقوى منه من القرآن أو أحاديث أخرى أوفر عدداً أو أصح ثبوتاً(2)..
وبعد أن ذكرت هذه المبادئ العامة في فهم السنة لابد من التنبيه إلى جملة من المعالم والضوابط لحسن فهمها وتتخلص في الآتي:
1- فهم السنة في ضوء القرآن الكريم:
من الواجب لكي نفهم السنة النبوية فهماً صحيحاً بعيداً عن التحريف والانتحال، وسوء التأويل، أن نفهمها في ضوء القرآن الكريم، لأنه روح الوجود الإسلامي، وأساس بنيانه، والسنة شارحة له، وهى البيان النظري، والتطبيق العملي للقرآن، وما كان للبيان أن يناقض المبيَّن، ولا الفرع أن يعارض الأصل.
__________
(1) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 88.
(2) انظر: القرضاوي، المدخل لدراسة السنة النبوية ص 94-100، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة 1425هـ -2004م. وانظر: العقل والفقه في فهم الحديث النبوي، مصطفى أحمد الزرقا، ص 8، دار القلم دمشق، والدار الشاميه، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م.(1/21)
ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن، وإذا ظن بعض الناس وجود ذلك، فلا بد أن تكون السنة غير صحيحة أو يكون فهمنا لها غير صحيح، أو يكون التعارض وهمياً لا حقيقياً.
2- جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد:
من اللازم لفهم السنة فهماً صحيحاً: أن تُجمع الأحاديث الصحيحة في الموضع الواحد، بحيث يُرد المتشابهه إلى المحكم، ويُحمل المطلق على المُقيد ويُفسر العام بالخاص، وبذلك يتضح المعنى المراد منها ولا يضرب بعضها ببعض.
مثال ذلك: حديث (ما أسفلَ الكَعْبين من الإِزَار ففي النار)(1). لكن الذي يقرأ جملة الأحاديث الواردة في هذا الموضوع يتبين أن هذا محمول على من جره خُيلاء، وفي ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يَنظرُ اللهُ إلى من جَرَّ إزاره بَطَراً)(2).
3- الجمع أو الترجيح بين مختلف الحديث:
فهذا من الأمور المهمة لحسن فهم السنة: التوفيق بين الأحاديث الصحيحة التي تتعارض في ظاهر الأمر، لا في الحقيقة، والجمع بين بعضها وبعض بإزالة التعارض والتوفيق بين النصين، بحيث تأتلف، ولا تختلف، وتتكامل ولا تتعارض، والجمع هنا مقدم على الترجيح، لأن فيه إعمالاً للنصين، وهذا أولى من إهمال أحدهما.
4- فهم الحديث في ضوء سبب وروده ومقاصده:
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس، باب: ما أسفل من الكعبين فهو النار، حديث رقم 5787.
(2) أخرجه البخاري، في كتاب اللباس رقم (5788) والبطر: التكبر والطغيان.(1/22)
إذا كانت أسباب نزول القرآن لابد منها لمن يريد فهمه، فإن أسباب ورود الحديث، أشد طلباً، وذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالد وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات والتفصيلات بخلاف الحديث الشريف، لذا كان لابد لفهمه فهماً سليماً دقيقاً من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بياناً لها وعلاجاً لظروفها، حتى يَتحدّد المراد من الحديث بدقة، فهناك بعض الأحاديث بُنَى على أسباب خاصة أو ارتبط بعلة معينة، منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه أو مفهومه من الواقع الذي سبق فيه الحديث، وهذا يحتاج إلى فقه عميق ونظر دقيق ودراسة مستوعبة للنصوص وإدراك بصير لمقاصد الشريعة.
ومن ذلك حديث " الأئمة من قريش"(1). فقد فسره ابن خلدون بأنه - صلى الله عليه وسلم - راعى ما كان لقريش في عصره من القوة العصبية التي يرى ابن خلدون أن عليها تقوم الخلافة أو الملك، قال: " فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلبة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية، فرددناه إليها، وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية ،وهي وجود العصبية، فاشتراطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولى عصبية قوية على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية...." (2).
5- التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت للحديث:
__________
(1) رواه أحمد عن أنس ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/192) قال المنذري في "الترغيب والترهيب": إسناده جيد، انظر: المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب، للقرضاوي 2/131رقم1281.
(2) انظر: مقدمة ابن خلدون (2/695-696) ط. لجنة البيان العربي الثانية بتحقيق، د. علي عبدالواحد وافي.(1/23)
لابد من فهم السنة النبوية عدم الخلط بين الأهداف والمقاصد التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئة، التي وضعت من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وقد تتغير من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى أخرى، بل هي لابد متغيرة، فإذا نص الحديث على شيء منها، فإنما ذلك لبيان الواقع، لا ليقيدنا بها ويجمدنا عندها ، بل لو نص القرآن نفسه على وسيلة مناسبة لمكان معين وزمان معين، فلا يعني ذلك أن نَجْمُد عليها، ولا نفكر بغيرها، ألم يقل تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ.. } [ الأنفال: من الآية 60]. ومع هذا لم يفهم أحدٌ أن المرابطة في وجه الأعداء لا تكون إلا بالخيل، لأن خيل العصر هي الدبابات والمدرعات ونحوها من أسلحة العصر.
لذلك مما يُؤخذ على حزب التحرير الإسلامي حصرهم وسيلة إقامة الدولة (بالنصرة) واعتبروها هي الوسيلة الشرعية الوحيدة وما سواها وسائل غير شرعية.
6- إغفال التفريق بين الحقيقة والمجاز:
وإغفال التفريق بين الحقيقة والمجاز يوقع في كثير من الخطأ، كما رأينا ذلك بجلاء عند الذين يسارعون إلى الفتوى في عصرنا، فيحرِّمون ويوجبون ويبدِّعون ويُفسّقون، وربما يُكفّرون بنصوص إن سُلم بصحتها، لم يُسلم بصراحة دلالتها.
مثال ذلك: حديث: { لأَنْ يُطَعَنْ أَحَدُكم بِمخيَط من حديدٍ خيرٌ له أن يَمسَ امرأةً لا تَحلُ له } (1).
__________
(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/326وقال: رواه الطبراني عن معقل بن يسار ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/900رقم 5045.(1/24)
وإذا سلمنا بصحة الحديث أو تحسينه، إلا أن الحديث ليس نصاً في تحريم المصافحة، لأن المس في لغة القرآن والسنة لا يعني مجرد اتصال البَشرة بالبَشرة، إنما معنى المس هنا ما دل عليه قول ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما: أن المس واللمس والملامسة في القرآن كناية عن الجماع، فإن الله حيي كريم يُكنِّي عما شاء بما شاء.
المبحث الثالث
أزمة الفهم: التشخيص والعلاج
المطلب الأول: مظاهر أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية:
نستطيع أن نتعرف على حجم أزمة الفهم وخطورتها في الصحوة الإسلامية، وذلك من خلال الوقوف، على جملة من المظاهر:
أولاً: إتباع المتشابهات من الآيات وترك المحكمات:
يوصف القرآن الكريم كله بأنه محكم كما في قوله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: أية1] والمراد بالإحكام هنا: إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلال له. كما يُوصف بأنه كله متشابه كما في قوله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر: من الآية 23].
ومعنى تشابهه هنا: أنه يشبه بعضه بعضاً في صدق أخباره، وعدالة أحكامه، وسمو بلاغته وروعة نظمه ونصوع حقائقه وتصديق بعضه لبعض، فلا تناقض ولا تضارب.
ويوصف القرآن أيضاً بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه، كما في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [آل عمران: أية 7 ](1/25)
والمراد بالمحكم هنا: البيّن بنفسه، الدال على معناه بوضوح فلا يَعرضُ له شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى. والمراد بالمتشابه: ما أُشكل تفسيره، لمشابهته بغيره إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى، لذا قيل: المتشابه ما لا يُنبئ ظاهره عن مراده أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره(1). وخلاصة هذا الكلام: أن في القرآن آيات محكمات واضحات الدلالة بينات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أم الكتاب وأصله، الذي يجب أن يرد إليه ما سواه ليفهم في ضوئه. وإن أعظم أسباب الانحراف في فهم القرآن الكريم والسنة هو وضع النصوص في غير موضعها الصحيح والاستدلال بها على غير ما سيقت له ومنشأ ذلك هو إتباع النص المتشابه وترك النص المحكم وما يدفع إلى ذلك زيغ القلوب وإتباع الهوى.
ثانياً: وضع النص في غير موضعه الصحيح:
من مظاهر سوء الفهم للنص وضعه في غير موضعه الصحيح، وهذا يُعد من المزالق الخطيرة التي ينبغي التيقظ والالتفات إليها والتنبه عليها، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً لا مَطعن فيه ولا خلاف على ثبوته، فهو أية من كتاب الله، أو سنة قولية أو عملية أو تقريرية، ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين وهو لا يدل عليه لأنه سيق
__________
(1) انظر: جلال الدين السيوطي، الاتقان في علوم القرآن 2/ص3، 4، دار التراث، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.(1/26)
مساقاً آخر، وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص، وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينه ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ويقولون على الله ما لا يعلمون وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه مثل الخوارج الذين احتجوا على رفض التحكيم بقوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } فَردَّ عليهم علي - رضي الله عنه - بقوله:" كلمة حق يراد بها باطل"(1).
ثالثاً: سوء التأويل:
إن ما أشد ما تتعرض له النصوص خطراً: سوء التأويل لها، بمعنى أن تُفسر تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها، وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً(2).
والمعنى الاصطلاحي للتأويل هو: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله لدليل يُصيِّره راجحاً(3). وهذا هو التأويل الصحيح المقبول، فلا بد أن يكون الصرف إلى معنى يحتمله اللفظ، ولو كان احتمالاً مرجوحاً وإلا لم يكن تأويلاً، وإنما هو جهل وضلال أو عبث وباطل.
رابعاً: ردُ الأحاديث الصحيحة:
__________
(1) انظر: د. القرضاوي، المرجعية العليا في الإسلام للقرآن الكريم والسنة ص 277، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1414هـ ، 1993م.
(2) القرضاوي: كيف تتعامل مع القرآن الكريم ص 328.
(3) انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص 176مصطفى الحلبي.(1/27)
إن من الآفات التي تتعرض لها السنة النبوية أن يقرأ بعض الناس المُتعجلين حديثاً فَيُتوهم له معنى في نفسه هو، يفسره به، وهو معنى غير مقبول عنده فيتسرع برد الحديث، لاشتماله على هذا المعنى المرفوض. ولو تأمل وبحث لعلم أن معنى الحديث ليس كما فهم، مثل حديث أبي هريرة مرفوعاً: { إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا } (1). ففهم البعض من التجديد أنه تطوير الدين وتغييره ليُلائم العصر، فقال إن الدين لا يُجدَّد، الدين ثابت لا يتغير. وليس الأمر ما ذهب إليه هؤلاء، إنما التجديد، هو تجديد الفهم له، والإيمان والعمل به، والعوده به إلى حيث كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته ومن تبعهم بإحسان(2).
خامساً: تقديم العقل على الشرع:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الملاحم من سننه برقم 4270.
(2) انظر: القرضاوي في بحثه: تجديد الدين في ضوء السنة، وذلك من كتاب " من أجل صحوة راشدة " ص9-40.(1/28)
ومن أخطر أسباب الانحراف والضلالة: تقديس العقل البشري، واعتباره الدليل الذي، لا يُخطئ، والهادي الذي لا، يضل، وإعطاؤه حق الحكم في كل قضية، وفي كل مجال، وإن لم يكن من اختصاصه، ولا في حدود سلطانه. إن العقل نعمة عظيمة، ولا ريب، ولكن الوحي أعظم منه، وإن هداية العقل أعلى وأرسخ من هداية الحواس، ولكن هداية الوحي أعلى وأرسخ من هداية العقل. وفرق ما بين العقل والوحي هو فرق ما بين البشرية والألوهية، فرق ما بين الخالق والمخلوق، فرق ما بين العجز الذاتي والقدرة المطلقة، فرق ما بين العلم المُحدث النسبي المحدود، والعلم اليقيني المحيط بكل شئ(1). قال الشاطبي: " وقد علمت أيها الناظر أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقاً، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهباً، ويرجعون عنه غداً، ثم يصيرون بعد غدٍ إلى رأي ثالث، لو كان كل ما يقضي به حقاً لكفى في معاش الخلق ومعادهم، ولم يكن لبعثة الرسل – عليهم السلام – فائدة، ولكان – على هذا الأصل – تُعد الرسالة عبثاً لا معنى له، وهو كله باطل، فما أدى إليه مثله"(2).
سادساً: التوسع في المحرمات:
__________
(1) انظر: القرضاوي، المرجعية العليا ص 331-332.
(2) الشاطبي، الإعتصام 1/144.(1/29)
من مظاهر أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية، التوسع في المحرمات، حتى تحولت بعض فصائل الصحوة إلى ما يشبه شركات تحريم، مع أن أول مبدأ قرره الإسلام أن الأصل فيما خلق الله تعالى من أشياء ومنافع الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه. وهذه هي النظرة الصحيحة والفهم الصحيح لدين الإسلام وفقه الأحكام وأصول الدعوة. والقرآن العظيم اتخذ أسلوب الحصر والعد لإثبات قلة ما حرَّم على عباده وذلك في قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33 ](1). وهكذا نرى كيف أن القرآن الكريم يناصر الإباحة، ويقلل التحريم ويذمه وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: " إن عامة ما ذم الله به المشركين في القرآن الكريم من الدين المنهي عنه إنما هو الشرك والتحريم...وظهر أثر هذين الذنبين في المنحرفة من العلماء والعُبّاد والعامة بتحريم ما أحله الله تعالى، والأول يَكْثرُ في المتفقهه والمتورعة، والثاني يكثر في المتصوفة والمتفقرة"(2).
سابعاً: الغفلة عن سنة التدرج:
__________
(1) انظر: القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام ص 15- 39 مكتبة وهبه، الطبعة الحادية والعشرين 1413هـ - 1993م. وعبدالله الزبير عبدالرحمن، من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، كتاب الأمة العدد 56، السنة السادسة عشر.
(2) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية ج20 ص 113-115.(1/30)
إن بعض الدعاة يتعجل الأمور فيريد أن يَحمل الناس على الحق وتطبيق شرائع الإسلام جملة واحدة، مما يسبب نفوراً وإدباراً لدى الكثيرين من الناس، وهذا خلل سببه الغفلة عن سنة كونية وشرعية وهي التدرج، فالخالق سبحانه مع قدرته المطلقة في إيجاد الأشياء إلا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكذلك عندما شرع بعض الأحكام كتحريم الخمر، شرعها بالتدرج. فالحكمة قاضية بالتدرج وصولاً للمطلوب، لأن الطبائع لا تقبل التكاليف جملة واحدة، ولا تتخلى عن عادتها ومألوفها دفعة واحدة ولا تُقلع عما تَرسخَ وتوطن هكذا فوراً وإنما يروض الناس على قبول التكاليف ترويضاً، حتى يتخلوا عنها ويقلعوا.
ويذهب بعض فصائل الصحوة، إلى أنه لا مجال اليوم للتدرج، حيث أُقفل بَابُه بتشريع الأحكام، أما تطبيقها فلابد أن يكون دفعة واحدة(1). ومما لا شك فيه أن تطبيق شرائع الإسلام في المجتمع هو حُلم كل غيور على الدين، لكن ما انهدم في عدة سنين لا يمكن أن يتم بناؤه خلال أيام أو أعوام، وما غاب قرناً من الزمان، لا يمكن إعادته في أسابيع، مهما امتلاْ المرء غَيرة وحماساً، إذ لا يُفيد الحماس من لا يفقه الدعوة ويرتكز على التدرج، وقد مثل المتحمسين عبدالملك ابن الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز، الذي وصل إلى سدة الحكم في واقع فيه دخن، فأراد أن يعالج الأمور ويُصلح الأحوال بالتدرج والتؤدة، لكنَّ ولده كان متسرعاً فقال لوالده في حماس الشباب: مالك لا تُنفذَ الأمور، والله لا أبالي لو غلت بي وبك القدور في الحق، فقال له أبوه: يا بني لا تعجل، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فَيَدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة(2).
__________
(1) هذا ما يتبناه حزب التحرير الإسلامي.
(2) الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى ج2/ ص94، دار الفكر العربي.(1/31)
إن أكثرَ ما يخشى على الصحوة الإسلامية منه تيار الاستعجال، الذين يريدون أن يَقطفوا الثمرة قبل أوانها، يريدون أن يزرعوا اليوم ويحصدوا غداً، بل يريدون أن يغرسوا في الصباح ويحصدوا في المساء. إن الاستعجال قد يدفع إلى العنف – ولاسيما في الذين يستعجلون الوصول إلى السلطة – وهذا العنف يدفع إلى عنف مضاد أشد وأقسى، وكل هذا خطر على الصحوة، بل خطر على الأمة(1).
ثامناً: الخلل في فقه السنن الكونية والاجتماعية:
ونعني بالسنن الكونية، سنن الله في الخلق وهي: "مجموعة القوانين التي سنها الله عز وجل لهذا الوجود، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً، على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها"(2).
__________
(1) انظر: الصحوة الإسلامية بين الآمال والمحاذير ص39، دار الوفاء، الطبعة الثانية 1415هـ -1994م.
(2) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، الدكتور أحمد محمد كنعان، كتاب الأمة، عدد 26.(1/32)
والمتأمل في واقع المسلمين اليوم يجد قصوراً كبيراً على صعيد اكتشاف هذه السنن، فالإصابة التي لحقت بالعقل والفكر الإسلامي على صعيد اكتشاف السنن الكونية وذلك باستخدام المنهج الاستقرائي المشار إليه في قوله تعالى: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام:11 ] هذه الإصابة لا تقل في حجمها على صعيد استخدام المنهج الاستنباطي القياسي في التعامل مع الفقه التشريعي، وكلاهما يمثلان جزءاً من أزمة الفهم التي تعاني منها الصحوة الإسلامية، ويؤكد ذلك ما قاله العلامة محمد رشيد رضا " لم يُقَصِّرْ المُصنفون من المتقدمين والمتأخرين في شئ من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى في الأمم! والجمع بين النصوص التي وردت في ذلك، والحث على الاعتبار بها! ولو عُنُوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام، وقواعد الكلام، لأفادوا الأمة بما يحفظ دينها ودنياها. وهو ما لا يغني فيه التوسع في دقائق مسائل النجاسة، والطهارة والسَّلم والإجارة، فإن العلم بسنن الله تعالى في عباده لا يعلوه إلا العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، بل هو منه، أو من طُرقه ووسائله"(1).
تاسعاً: الانغلاق:
__________
(1) سر تأخر العرب والمسلمين، محمد الغزالي ص 10، دار النهضة، مصر.(1/33)
ونقصد به الانغلاق الفكري في الدرجة الأولى، ذلك المرض الذي يصيب الفكر فيقضي به إلى التجميد أو إلى الذبول. ويأتي الانغلاق في الفكر نتيجة فقدان الإرادة القادرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى، ونتيجة فقدان التميز بين ما يؤخذ منها وما يُترك، فيكون المهرب والملاذ هو إغلاق النوافذ جميعاً. وهذا الموقف ناتج عن سوء الظن بالآخرين، والذي بدوره يُنتج موقفاً قائماً على العجز والتقصير والعدوانية، وهو موقف ينطلق من ثقافة خطأ (من ليس منا فهو من خصومنا) هذه الخصومة مدخل من أخطر مداخل الانحراف في فهم الإسلام والعمل باسمه(1).
عاشراً: تقديس التراث:
إن الآفة التي لحقت بكثير من فصائل الصحوة والحركات والتجمعات الإسلامية المعاصرة، فضلاً عن كثير من علماء الأمة ومتعلميها، هي آفة تقديس كل ما هو قديم، حتى صارت صفة القدم في حد ذاتها تُضفي على العمل قداسة تَحُول بينه وبين النقد والتحليل. وقد أصبحت التراكمات العلمية والفقهية والممارسات الحياتية عبر القرون السالفة تمثل تراثاً ضخماً يختلط في أعين الناس بأصول الدين وقواعد الشرع، وبالتالي يمتنع على النقد والتدبر والتحليل، ناهياك عن الرفض والمعارضة
والإدانة(2).
لابد للصحوة أن تفرق بين النص الخالد المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – والذي هو خارج دائرة التراث – وبين اجتهادات البشر في التعامل مع النص، حيث إنها فهومات، قد تتباين من حين لآخر ومن ثم لا تأخذ صفة القدسية.
__________
(1) مجلة المسلم المعاصر العدد 42من مقال أمراض الصحوة الإسلامية، محي الدين عطية. وانظر: كتاب ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، الدكتور يوسف القرضاوي.
(2) مجلة المسلم المعاصر، العدد 42من مقال لمحي الدين عطية (أمراض الصحوة الإسلامية).(1/34)
"وموقفنا من الآباء يتحدد بآية أننا نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم. فهذا هو الانفكاك السليم من مشيمتهم بدون نزف قاتل. ويجب أن نَعذرَ الآباء فهم أبناء عصرهم ونتاج بيئتهم ويمكن رؤيتهم على صورة بشرية وليس إلهية"(1).
حادي عشر: الارتجال وقصور الدراسة والتخطيط:
فرغم أن الإسلام يدعو إلى العقل والعلم وأخذ الحذر والإعداد للغد، إلا أن الصحوة الإسلامية ضعيفة الاهتمام بهذا الجانب، وهو أمر لا يقتصر أثره الضار على ضياع الجهد في غير محله أو إنفاق المال في غير موضعه أو تقديم المهم على الأهم وإنما يتعدى أثره أبعد من ذلك، إذ أنه يعكس صورة للإسلام مشوهه، ليست من الحقيقة في شئ. وهذا المرض ليس قاصراً على العاملين في الحقل الإسلامي، بل هو آفة العالم الثالث بوجه عام. ونظراً لأننا نرتجل وخصومنا يخططون، نراهم يسرقون ثمرات كفاحنا الإسلامي ونحن غافلون(2).
ثاني عشر: الغلو والتنطع والتشدد:
ويسميه البعض التطرف، لكن آثرنا استعمال الغلو، لأنها لفظة استعملها النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)(3). والغلو أو التطرف - تجاوز حد الاعتدال – ليس مرادفاً للعنف، كما يتبادر للبعض، إذ أن التطرف موقف فكري بينما العنف سلوك، وهو أثر من آثار التطرف، والذي يعتبر آفة من آفات العمل الإسلامي في كل العصور، وليس سمة للصحوة المعاصرة وحدها بل هو ضارب في التاريخ الإسلامي منذ قديم.
__________
(1) من مقال، لخالص جلبي (السلفية بين الفكر الإصلاحي والفكر التقليدي) عن الموقع الالكتروني مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي.
(2) انظر: أين الخلل، الدكتور القرضاوي، ص 47، دارالصحوة، الطبعة الأولى 1406هـ -1985م.
(3) أخرجه ابن ماجه، في كتاب المناسك رقم 3020.(1/35)
وللتطرف أسباب أفاض فيها الكتاب والمحللون، منها ما يتحمله العلماء والمفكرون، ومنها تتسبب فيه الأنظمة الحاكمة عندما تُضيِّق الخناق على الإسلاميين فتدفعهم للعمل في الظلام، حيث المرتع الخصب، حيث ألوان الغلو والانحراف(1).
ثالث عشر: التشديد والتعسير:
ومن مظاهر أزمة الفهم، التشديد والتعسير، والذي من شأنه أن يُنفِّر الناس من الدين، وأن يَجلب على الإسلام مفاسد كثيرة، كما يُضيع عليه وعلى أمته مصالح كثيرة. ومن مظاهر هذا التشديد: إغفال الرخص مع مسيس الحاجة إليها، والتوسع في مفهوم البدعة، والتوسع في التحريم والإيجاب(2).
رابع عشر: عدم الاعتراف بالرأي الآخر:
والمقصود عدم الاعتراف بالرأي الآخر في المسائل الاجتهادية الظنية، التي من شأنها أن تختلف فيها الأفهام وتتعدد الاجتهادات وتتنوع التفسيرات، ما بين مضيق وموسع، وما بين آخذ بظاهر النص، وآخذ روحه، وفحواه، وسبب هذا التضييق، التعصب، فضلاً عن عدم الوقوف على وجهات النظر الأخرى، وربما وقفوا على بعضها.
خامس عشر: الأنانية والتشردم والتمزق:
__________
(1) انظر: ما كتبه الدكتور القرضاوي في كتابه القيم (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف).
(2) انظر: القرضاوي: الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد ص 134-172.(1/36)
هناك صنف من الدعاة وفصائل الصحوة تَغْلُبُ عليه الأنانية المُفرطة والفردية المُطلقة، لذلك تراه يحرص إذا عمل عملاً من أعمال البر أن يُنسب الفضل لشخصه، ومن ثم فهو يشعر بالضيق لو شاركه أحد في هذا العمل خشية أن يشاطره هذا الفضل. والأنانية خلق ذميم وسلوك مشين، ومرد هذا المرض ضعف الإخلاص والتجرد لله سبحانه، فضلاً عن سوء الفهم للنصوص، فقد رَسَّخ القرآن الكريم مفهوم الجماعية في الأمة فأمر سبحانه المسلمين بالتعاون عل البر والتقوى في قوله تعالى { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: من آية2] كما رسخ هذا المفهوم في سورة العصر { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر:3] فكل ما صدق أنه بر وتقوى شُرع التعاون عليه، بصرف النظر عمن كان هذا الذي نتعاون معه، فالخطاب في هذه الآية عام، بل إن ظاهر كلام بعض المفسرين أن الخطاب في هذه الآية عام لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم. فلماذا لا يتعاون الجميع على العمل للإسلام، في زمن تداعت فيه الأمم علينا. وهناك القاعدة الذهبية التي وضعها صاحب المنار محمد رشيد رضا " نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
سادس عشر: الخلل في فقه الأولويات:
ويسميه البعض: فقه مراتب الأعمال، ونعني به: وضع كل شئ في مرتبته، فلا يُؤخرُ ما حقه التقديم ولا يُقدمُ، ما حقه التأخير، ولا يُصغرُ الأمر الكبير، ولا يُكبَّرُ الأمر الصغير.
فهناك خلل واضح في فقه الأولويات، فقد تقدم النافلة على الفريضة، وقد يُقدم فرض الكفاية على فرض العين، وقد يقدم فرض العين الذي يتعلق بالفرد، على فرض العين المتعلق بالجماعة، وهكذا.
سابع عشر: الخلل في فقه الموازنات:
ونعني به جملة أمور:(1/37)
الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث دوامها وبقاؤها.. وأيها ينبغي أن يقدم ويعتبر وأيها ينبغي أن يسقط ويلغى.
الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض، من تلك الحيثيات التي ذكرناها في شأن المصالح، وأيها يجب تقديمه وأيها يجب تأخيره أو إسقاطه.
الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضا، بحيث نعرف متى نقدم درء المفسدة على جلب المصلحة، ومتى تغتفر المفسدة من أجل المصلحة(1).
ثامن عشر: الخلل في فقه الاختلاف:
ونعني بالاختلاف هنا الاختلاف العلمي، حيث وقع هذا النوع بين الصحابة رضوان الله عليهم، فلم يضرهم شيئاً، ولا غروَ في ذلك، فقد بلغوا من الإخلاص وصفاء السريرة، وعلو الأخلاق ما لم يبلغه أحد مثلهم، أما نحن في الصحوة المعاصرة، فقد جهلنا كثيراً من مفردات هذا الفقه فأصبح بعضنا يعادي بعضاً، بسبب مسائل يسيرة، وهذا كله مرده ضعف الإخلاص والتعصب. وقد أدى غياب فقه الاختلاف وأدبه وضوابطه الشرعية، في كثير من الأحيان إلى التفرق والجفاء بين فصائل الصحوة الإسلامية وصل تراشق الاتهامات، والتعصب المذموم، والذي كاد أن يصبح خلقاً شائعاً بين أبناء الصحوة الإسلامية.
وقد كتب الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني، كتاباً حول: " أدب الاختلاف في الإسلام " كما كتب العلامة الدكتور القرضاوي، كتابه القيم " الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم " وهما كتابان حريان بالقراءة.
تاسع عشر: الخلل في فقه المقاصد:
الذي لا يقف عند جزئيات الشريعة ومفرداتها، بل ينفذ منها إلى كلياتها وأهدافها في كل جوانب الحياة.
__________
(1) انظر: القرضاوي، أولويات الحركة الإسلامية ص 30.(1/38)
إن تكثيف دراسات المقاصد والأهداف والغايات وتعليل الأحكام والبحث عن الحِكمِ سوف يساعد كثيراً على إخراج العقل المسلم من تلك الوَهدةِ ويعالجه من تلك الأمراض، ويعيد إليه نقاءه وصفاءه وتألقه وقدرته على العطاء والاجتهاد وترتيب الأولويات(1).
العشرون: التطاول على مقام الفتوى:
فالمتأمل في واقع الصحوة المباركة اليوم، يلحظ حدوث تطاول متكرر على مقام الفتوى من بعض أبنائها، قد يصل بالأمر من كثرته إلى درجة المشكلة، وليس هذا مقصوراً على صغار أبناء الدعوة والصحوة، بل إن ممن خاض في ذلك شخصيات مشهورة تزعم نفسها أمام الملأ أنها من قيادات الصحوة ومن كبار دعاتها وإدارييها، وصدق فيهم قول أبي الحصين الأسدي: " إن أحدهم لَيُفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"(2).
الحادي والعشرون: التكفير والعنف:
لعل من أبرز مظاهر أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية (التكفير)، والذي مرده قلة بضاعة المتلبسين به في الفقه الإسلامي وأصوله، وعدم تعمقهم في علوم الإسلام، الذي جعلهم يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون عن القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهماً سطحياً سريعاً، مع عدم إغفال سبب آخر مهم في لجوء هؤلاء إلى التكفير، ألا وهو العنف والبطش الذي واجهت به بعض الأنظمة الصحوة الإسلامية.
__________
(1) انظر: مقدمة د. طه جابر العلواني، لكتاب: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف العالم ص7 من إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى.
(2) أبو الحجاج، جمال الدين يوسف المزي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 19/406، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1413هـ -1992.(1/39)
إن الغلو الذي انتهى ببعض شباب الصحوة المخلصين الغيورين على دينهم إلى تكفير من خالفهم من المسلمين حملهم أيضاً على استباحة دماءهم وأموالهم. وهذا كما حدث مع الخوارج قديماً حيث إنهم استحلوا دم أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -.
المطلب الثاني: وسائل العلاج:
لقد اتضح مما سبق أن أزمة الفهم في الصحوة الإسلامية متعددة الأشكال والصور، وهذا يستدعي، مشاركة الجميع في علاج هذه الأزمة، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى المفكرين والعلماء، لذا يمكن أن يكون العلاج من خلال الوسائل التالية:
أولاً: البحث عن صيغة للخروج من مأزق الصدام المستمر بين فصائل الصحوة الإسلامية والأنظمة الحاكمة، والتي تدفع له الحركة الإسلامية دائماً ثمناً باهضاً، مع العلم أن الحركة الإسلامية، كثيراً ما تستدرج لهذا الصدام.
ثانياً: إعادة النظر في ترتيب الأولويات لدى فصائل الصحوة، بحيث تحتل هموم الأمة مقدمة هذه الأولويات، كما تقف قضية الحريات العامة على رأسها، وذلك إذا علمنا أنه لا يمكن للحركة الإسلامية أن تتقدم في العمل في أجواء القمع ومصادرة الحرية والكلمة.
ثالثاً: إدراك أهمية التركيز على العمل التربوي والدعوي، والانتباه إلى أن قضية إنشاء الفرد الإسلامي ليست أقل أهمية من إقامة الحكومة المسلمة بالمفهوم السياسي العام، وأن الإسلام نظام حياة، وليس نظام حكم فقط.
رابعاً: تفعيل الحوار بين فصائل الصحوة الإسلامية، وذلك لتجاوز الخلاف بين هذه الفصائل قدر الإمكان، وإشاعة ثقافة الأخوة والحب والتعاون الدعوي.
خامساً: تجنب الوقوع في فخ الخلافات المذهبية، التي تتحرك نذرها وشواهدها في العالم العربي الآن، تلك الصراعات التي يراهن أعداء الأمة على تحريكها، خصوصاً بين السنة والشيعة.(1/40)
سادساً: مد جسور الحوار مع الطوائف غير الإسلامية التي تعيش وسط مجتمعات المسلمين، وتجاوز خطيئة بعض الفصائل التي تلغي ببساطة شديدة حضور هذه الطوائف أو تطالبهم بالجزية والعهد(1).
سابعاً: إعادة النظر في كتابات بعض المفكرين، والتي هي عبارة عن تكرار واجترار، غالباً لا تقدم جديداً، بقدر، ما هي سطحية وارتجالية تدغدغ العواطف ،وأحياناً تساهم في توسيع دائرة الفرقة بين فصائل الصحوة، لذا مطلوب أن تكون الكتابات وما ينشر أكثر واقعية، يرتقي إلى مستوى التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية، ويعالج أزمة الفهم، ويشيع أدب الاختلاف وفقه الأولويات والموازنات، والسنن الاجتماعية وبهذه المناسبة، لابد من التنويه والإشادة بـ (المعهد العالمي للفكر العالمي) والذي يبذل محاولات حثيثة للمساهمة في علاج هذه الأزمة.
ثامناً: وعلى المستوى الفردي، يكمن بعض العلاج في جيش المدرسين والمدرسات – سيما الصفوة المدركة لرسالتها- الذين يُعهد إليهم تربية الجيل، فهؤلاء لابد أن يكون على مستوى رسالتهم السامية، قدوة ثم عطاءً. كما أن بعض وسائل العلاج بين يديّ أساتذة الجامعات في عالمنا الإسلامي. فهم قادة الفكر الذين يشكلون عقول النخبة الرائدة في الأمة. إن جيل الصحوة الإسلامية، لا ينقصه الحماس والعاطفة، ولكن ينقصه الفكر المستنير، والقدوة الصالحة، والرعاية الواعية. ولن يُلتمس هذا كله إلا في أساتذته المقربين إليه المتجاوبين معه الحاملين هموم الأمة وآمالها.
__________
(1) انظر أ. فهمي هويدي، من مقال: الصحوة الإسلامية، الحاضر والمستقبل، مجلة المسلم المعاصر، العدد 51.(1/41)
تاسعاً: كما يكمن العلاج في أثرياء المسلمين الذين يستطيع واحد منهم بمفرده أن ينشئ مؤسسة تضاهي مؤسسة نوبل أو كارينجي. إن بعض العلاج في أيدي هؤلاء الأثرياء الذين يستطيع واحد منهم بمفرده أن يراعى مئات العباقرة، وأن ينقذهم من إضاعة أعمارهم يلهثون خلف لقمة العيش. إن أثرياء المسلمين يمكنهم أن يزرعوا في كل عاصمة إسلامية مركزاً لبحوث تقنين الشريعة، ومركزاً لفهرسة التراث، ومركزاً متخصصاً في كل فرع من فروع العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية. إن كرم الأثرياء ليس كافياً وإن كان مطلوباً، ولكن المطلوب الأجدى والأهم هو توجيه إنفاقهم وترشيده، وهي مهمة العلماء الرواد، فهم الذين يملكون قوة التأثير والإقناع.
عاشراً: التركيز على المبدعين والمتفوقين من الطلاب ومحاولة استيعابهم في الكليات الشرعية، فهؤلاء معول عليهم أن يبدعوا في هذا المجال أكثر من غيرهم.
حادي عشر: على المستوى الجماعي، مطلوب من قادة الجماعات الإسلامية ومنظِّريها، حيث يقودون الركب، ويؤثرون وذلك من خلال التعليمات والقرارات التنظيمية أن يكون لهم دور كبير في العلاج وذلك من خلال الرقابة، على ما يكتب وينشر في الدوائر الداخلية، فضلاً عن ربط الشباب بالمصادر الأصلية، وتحريرهم من أسر الكتابات التنظيمية الضيقة. كما يجب على هذه القيادات أن يكون لها الدور الأكبر في بناء جسور الثقة والتفاهم والتعاون الدعوي بين هذه الجماعات.
ثاني عشر: إعادة النظر في الخطاب الدعوي، بحيث يرقى إلى مستوى التحدي الذي تواجهه الأمة، بعيداً عن التشديد والتكفير والغلو، مراعياً فقه الموازنات والمقاصد والأولويات.
ثالث عشر: توجيه المواهب الشابة إلى التخصص على أعلى المستويات في كل مجالات الحياة: علمية وشرعية واقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وتربوية وإعلامية وإدارية وتخطيطية وغيرها.(1/42)
فلابد من التخصص الذي يعتبر في نظر الشريعة من فروض الكفايات الواجبة على الأمة مجتمعة، ولا يجوز أن تتكدس القدرات والكفايات في مجال، على حين يُغفل مجال آخر، يحتاج إلى من يقوم به فلا يُوجد
وقد وجّه القرآن الكريم المسلمين في عصر النبوة أن لا يتجهوا كلهم إلى الجهاد -على ماله من منزلة وفضل- غافلين عن ميدان آخر، لا يقل عنه أهمية، وهو الفقه في الدين، يقول تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة:122](1).
رابع عشر: ولابد للحركة الإسلامية أن تعمل جاهدة على إذابة حاجز العزلة، والوصول إلى قلب الجماهير، ولاسيما النخبة من المثقفين، الذين قد غزا كثيراً منهم الفكر الدخيل فأثَّر في أفكارهم ومفاهيمهم، كما أثَّر في مشاعرهم وولائهم.
خامس عشر: ولابد للحركة الإسلامية من بذل الجهود الفكرية والعملية لترشيد الصحوة الإسلامية وتسديد خطواتها على الطريق الصحيح، الذي يجنبها المزالق والعثرات، وينأى بها عن الغلو والتفريط. ويقيها السقوط في المَهاوي التي يحفرها لها الحفارون، أو تحفرها لنفسها بسوء تقديرها(2).
خاتمة البحث
بعد حمد الله وتوفيقه توصلت إلى النتائج التالية:
إن الصحوة الإسلامية دليل على حيوية هذه الأمة، فهي أمة خالدة حية متجددة.
إن الحركات والتنظيمات الإسلامية ثمرة من ثمرات الصحوة الإسلامية.
إن الهزائم المتلاحقة عامل مهم في يقظة الأمة وعودتها إلى الإسلام.
تمتاز الصحوة الإسلامية بجملة من الخصائص تمنحها القوة والثبات.
__________
(1) انظر: د. يوسف القرضاوي، أين الخلل، ص48-49، دار الصحوة الطبعة الأولى 1406هـ -1985م.
(2) انظر: المصدر السابق ص79-85. وانظر: كتاب الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد للمؤلف نفسه.(1/43)
إن أهم ما تعاني منه هذه الصحوة، هو أزمة فهم النص والتعامل معه ويتضح حجم هذه الأزمة من خلال جملة الآثار والمظاهر التي تُجسد هذه الأزمة.
لابد من مراعاة جملة من الضوابط في التعامل مع النصين القرآن والسنة.
إن مسؤولية معالجة أزمة الفهم هي مسؤولية جماعية، لابد أن يشارك فيها الجميع.
توصيات مقترحة
أوصي في ختام هذا البحث بالتالي
الاهتمام في الكليات الشرعية بعلم ضوابط الفهم والتعامل مع النصوص.
بذل جهود مضاعفة من أجل ترشيد الصحوة.
العمل على إشاعة فقه الاختلاف وتشجيع الحوار بين فصائل الصحوة الإسلامية.
احترام التخصص فلكل علم أهله، ولكل فن رجاله.
وإذا كان لكل علم أهله ورجاله، فنصيحتي لشباب الصحوة أن يأخذوا العلم الشرعي من ثقات العلماء الذين يجمعون بين سعة العلم والورع والاعتدال.
وأنصح الشباب أن يتخلى عن التشدد والغلو، ويلزموا جانب الاعتدال والتيسير.
التعامل بحسن الظن مع المدعوين حيث إن في العباد خيراً كثيراً، والأصل هو البراءة وحمل حال أهل الإسلام على الخير.(1/44)