|
جمع وإعداد: علي بن نايف الشحود
الناشر: دار المعمور، بهانج - ماليزيا
الطبعة: الرابعة، مُعَدَّلةٌ ومزيدةٌ، 1430 هـ - 2009 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ـ[الاستعْدادُ للموتِ]ـ
جمع وإعداد: علي بن نايف الشحود
الطبعة: الرابعة، مُعَدَّلةٌ ومزيدةٌ، 1430 هـ - 2009 م
الناشر: دار المعمور، بهانج - ماليزيا
حقوق الطبع لكل مسلم
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
طريقة عملي في هذا الكتاب كما يلي:
1 - جمع الآيات والأحاديث المقبولة في هذا الباب، وقد نافت على الثلاثمائة
2 - تخريج هذه الأحاديث باختصار من مصادرها الرئيسة
3 - الحكم على هذه الأحاديث من حيث الصحة والضعف دون تشدد أو تساهل
4 - شرح الآيات القرآنية باختصار
5 - شرح الكلمات الغريبة من مظانها
6 - شرح ما يتعلق بدلالة الحديث من خلال كتب الشروح
7 - ذكر خلاصة رأي الفقهاء في عديد من المسائل
8 - ذكر أهم المصادر في آخر الكتاب
وقد قسمته إلى ثلاثة أبواب، وتحت كل باب مباحث عديدة:
• الباب الأول مفهوم الموت في القرآن الكريم
• الباب الثاني الموت في السنَّة النبوية
• الباب الثالث الإنسان من مرضه حتى دفته
وأخيرا خاتمة
وفي هذه الطبعة زدت في شرح الآيات وزدت بعض الأحاديث وبعض التعليقات الفقهية
(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمد ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسوله، وصفيه وخليله، خيرُ نبيٍّ مرسل، وأكرم شافع مفضّل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البدور الكمَّل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
« ... فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ .... » رواه مسلم مطولا (1)
يقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (30) سورة الزمر
ويقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (185) سورة آل عمران.
إن الموت نهاية كل حيّ، ولا يتفرد بالبقاء إلا الله وحده، وفي الموت يستوي كلُّ البشر، بما فيهم الأنبياء والمرسلون، والموت ليس نهايةَ المطافِ، إنما هو حلقةٌ لها ما بعدها من حلقات النشأة المقدرة المدبَّرة، التي ليس شيء منها عبثاً ولا سدًى.
إنَّ القرآن الكريم يلمس حكمة الخوف من الموت في النفس البشرية لمسةً موحيةً تطرُدُ ذلك الخوف عن طريق الحقيقةِ الثابتةِ في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعدَ الحياة والم0وت من حكمة وتدبيرٍ، ومن ابتلاءٍ للعباد وجزاء.
ومن ثم يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (145) سورة آل عمران
__________
(1) - برقم (2042)
(1/1)
إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم، ولن تموت نفسٌ حتى تستوفيَ هذا الأجل المرسوم، فالخوف والهلع والحرص والتخلف، لا تطيلُ أجلاً، والشجاعةُ والثبات والإقدام والوفاء، لا تقصِّرُ عمراً، فلا كان الجبن، ولا نامت أعينُ الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد!
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالتكاليف والالتزامات الإيمانية، وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيمُ على الطريق الذي رسمه الله لها بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده.
والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثوابُ الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب، والذي يتطلع إلى الأفق الآخر، إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرمَّه الله تعالى، واستخلفه، وأفرده بهذا المكان، ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب.
أما طريقة عملي في هذا الكتاب فهي كما يلي:
1 - جمع الآيات والأحاديث المقبولة في هذا الباب، وقد نافت على الثلاثمائة
2 - تخريج هذه الأحاديث باختصار من مصادرها الرئيسة
3 - الحكم على هذه الأحاديث من حيث الصحة والضعف دون تشدد أو تساهل
4 - شرح الآيات القرآنية باختصار
5 - شرح الكلمات الغريبة من مظانها
6 - شرح ما يتعلق بدلالة الحديث من خلال كتب الشروح
7 - ذكر خلاصة رأي الفقهاء في عديد من المسائل
8 - ذكر أهم المصادر في آخر الكتاب
وقد قسمته إلى ثلاثة أبواب، وتحت كل باب مباحث عديدة:
الباب الأول- مفهوم الموت في القرآن الكريم, وفيه ستة عشر مبحثاً
(1/2)
الباب الثاني-الموت في السنَّة النبوية، وفيه ثمانية مباحث
(1/3)
الباب الثالث-أحوال الإنسان من مرضه حتى دفته، وهو أكبر هذه الأبواب، وفيه خمسة وأربعين باباً .. ثم خاتمة
(1/4)
وفي هذه الطبعة زدت في شرح الآيات وزدت بعض الأحاديث وبعض التعليقات الفقهية
فعلى الإنسان العاقل أن يشمِّر عن ساعد الجدِّ، ويثابرَ على طاعة الله قبل فوات الأوان، خاصة وأنَّ أجلنا مجهول، والعمر قصير، وإياك أن تكون من المسوِّفين فتندم ولات ساعة مندم.
لذا فإني أقدِّم إليك أيها القارئ العزيز ومضاتٍ من سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حول الموت ومقدماته، وعذاب القبر ونعيمه، وهي مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -، علّها تذكرني وإياكَ بحقيقة الحياة والموتِ، وتجعلنا ممن يعودُ إلى الله تعالى قبل انتهاء هذه الرحلة القصيرة، فنفوزَ بسعادة الدارين والحمد لله رب العالمين.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة الجمعة
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} سورة الحشر
وقال الشاعر:
فلو أنا إذا متنا تُركنا ... لكان الموتُ راحةَ كلِّ حيّ
ولكنا إذا متنا بُعثنا ... ونسألُ بعده عن كلِّ شيِّ
وقال آخر:
أيا عبدُ كم يراك اللهُ عاصيا ... حريصاً على الدُنيا وللموتِ ناسيا
(1/6)
أنسيتَ لقاء الله واللحد والثرى؟ ... ويوماً عبوساً تشيبُ فيهِ النواصيا
لو أن المرءُ لم يلبس ثياباً من التُقى ... تشرّد عُرياناً و لو كان كاسيا
ولو أن الدنيا تدومُ لأهلِها ... لكان رسولُ اللهِ حياً و باقيا
هذا وأسال الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره في الدارين آمين.
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 1412 هـ الموافق لـ 5/ 9/1991
وقد تمت مراجعته وتعديله بتاريخ 1 ذو الحجة 1427 هـ الموافق 21/ 12/2006م
وعدل تعديلا جذريا بتاريخ 8 شعبان 1429 هـ الموافق لـ10/ 8/2008م
وعدَّل أيضا بتاريخ 17 ربيع الآخر 1430 هـ الموافق لـ 12/ 4/2009 م
(1/7)
الباب الأول
مفهوم الموت في القرآن الكريم
المبحث الأول
لا فرار من الموت إذا حلَّ الأجلُ
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) [البقرة/243]
يَقُولُ المُفَسِّرُونَ أنَّ قَوْماً خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَاراً مِنْ وَبَاءٍ أَوْ مَرَضٍ حَلَّ بِهَا أَوْ خَوْفاً مِنْ عَدُوٍّ مُهَاجِمٍ وَهُمْ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ تَدْعُو كَثْرَتُهُمْ إلى الشَّجَاعَةِ وَالاطْمِئْنانِ إلى القُدْرَةِ عَلَى الدِّفاعِ عَنِ الأهْلِ وَالوَطَنِ وَالعِرْضِ، لا إلى الهَلَعِ وَالخَوْفِ، الذي يَحْمِلُ الخَائِفَ عَلَى الهَرَبِ لا يَلْوِي عَلَى شَيءٍ. وَقِيلَ إنَّ هَؤُلاءِ الهَارِبينَ مِنْ دِيَارِهِمْ حَذَرَ المَوْتِ نَزَلُوا وَادِياً فَأمَرَهُمُ اللهُ بِالمَوْتِ فَمَاتُوا جَمِيعاً. ثُمَّ مَرَّ نَبِيٌّ فَدَعا اللهَ أنْ يُحْييَهُمْ عَلَى يَدَيهِ، فَأحيَاهُمْ لِيَكُونُوا عِظَةً وَعِبْرَةً لِمَنْ خَلْفَهُمْ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أنَّهُ لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ. وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُرِيهِمْ مِنْ آيَاتِهِ وَحُجَجِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَقُومُونَ بِشُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ، وَأَفْضَالِهِ. (1)
وقال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) [آل عمران/166 - 168]
مَا أَصَابَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ يَوْمَ أحُدٍ، حِينَمَا التَقَيْتُمْ بِعَدوكُمْ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، وَمَا حَلَّ بِكُمْ مِنْ هَزِيمَةٍ وَقَتْلٍ، إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ، الذِي جَعَلَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 250)
(1/9)
المُسَببَاتِ نَتَائِجَ لأسْبَابِهَا، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يَعْصِي قَائِدَهُ، وَيَكْشِفُ ظَهْرَهُ لِعَدُوِّهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ بِهِ، وَأَكْثَر مِنْهُ، وَللهِ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي ذَلِكَ، لأنَّ الشَّدَائِدَ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ صَبَرُوا وَثَبَتُوا، وَلَمْ يَتَزَلْزَلُوا أَمَام العَدُوِّ، وَالشَّدَائِدُ تُظهِرُ المَُاَفِقِينَ الذِينَ تَبَطَّنُوا بِالكُفْرِ، وَأَظْهَرُوا الإِيمَانَ، مِنْ جَمَاعَةِ ابْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، الذِينَ رَجَعُوا إلَى المَدِينَةِ قَبْلَ المَعْرَكَةِ، فَلَحِقَ بِهِمْ رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَدْعُونَهُمْ لِلْعَوْدَةِ إلَى الصَّفِّ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى القِتَالِ وَمُسَاعَدَةِ المُسْلِمِينَ، وَإكْثَارِ عَدَدِهِمْ أمَامَ المُشْرِكِينَ (أو ادْفَعُوا)، فَرَدُّوا مُتَعَلِّلِينَ: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكُمْ سَتَلْقَونَ حَرْباً لاتَّبَعْنَاكُمْ، وَلَكِنَّنَا فِي قُلُوبِهِمْ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَهُ. وَهُمْ حِينَما قَالُوا هَذَا القَوْل كَانُوا فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أقرْبَ لِلْكُفْرِ مِنْهُمْ إلَى الإِيمَانِ، وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَسَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَهَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ الذِين قَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ، هُمُ الذِينَ قَالُوا عَنْ إِخْوَانِهِم الذِينَ قُتِلُوا فِي المَعْرَكَةِ: لَوْ سَمِعُوا مَشُورَتَنَا فِي القُعُودِ، وَعَدَمِ الخُرُوجِ لَمَا قُتِلُوا مَعَ مَنْ قُتِلَ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ مُسْتَنْكِراً قَوْلَهُمْ هَذَا: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ القُعُودُ يَسْلَمُ بِهِ الشَّخْصُ مِنَ القَتْلِ وَالمَوْتِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْكُمْ إلاَّ تَمُوتُوا. وَلَكِنَّ المَوْتَ آتٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِكُمْ. (1)
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) [النساء/77، 78]
كَانَ المُؤْمِنُونَ فِي بِدْءِ أَمْرِ الإِسْلاَمِ، فِي مَكَّةَ، مَأْمُورِينَ بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَبِمُواسَاةِ الفُقَرَاءِ، وَكَانُوا مَأْمُورِينَ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ المُشْرِكِينَ، وَالصَّبْرِ إلَى حِينٍ، وَكَانُوا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 459)
(1/10)
يَتَحَرَّقُونَ شَوْقاً إلَى القِتَالِ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالقِتَالِ، لِيَنْتَصِفُوا مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَيَشْفُوا غَلِيلَهُمْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنِ الحَالُ إذْ ذَاكَ مُنَاسِباً لِلْقِتَالِ لأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَمْنَهَا كَوْنُهُمْ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ، لِذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالجِهَادِ إلاَّ بَعْدَ أنْ خَرَجُوا إلى المَدِينَةِ، وَصَارَ لَهُمْ فِيها دَارُ مَنَعَةٍ وَأَنْصَارٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِمَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ (وَهُوَ القِتَالُ) جَزِعَ بَعْضُهُمْ جَزَعاً شَدِيداً، وَخَافُوا مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ فِي مَيْدَانِ الحَرْبِ، وَقَالُوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ الآنَ؟ لَوْلاَ أخَّرْتَ فَرْضَهُ إلى وَقْتٍ آخَرَ (أو لَوْ تَأخَّرْتَ فِي فَرْضِهِ عَلَيْنَا حَتَّى نَمُوتَ مَوْتاً طَبِيعِياً حَتْفَ أُنُوفِنَا)، فَإِنَّ فِيهِ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَيُتْمَ الأَوْلاَدِ، وَتَأييمَ النِّسَاءِ. . فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَتَاعُ الدُّنْيَا مَهْمَا عَظُمَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الحَيَاةِ الأُخْرَى، وَحَيَاةُ النَّاسَ فِي الدُّنْيا قَصِيرَةٌ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِينَ، لأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِي الجَنَّاتِ، يَنْعَمُونَ بِرِضْوَانِ رَبِّهِمْ. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّهُمْ سَيُوَفَّوَْن أَعْمَالَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً وَلَوْ قَلَّ، وَلَوْ كَانَ فَتِيلاً.
يَخْبِرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إلى المَوْتِ لاَ مَحَالَةَ، وَلاَ يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُقِيمِينَ فِي حُصُونٍ مَبْنِيَّةٍ، قَوِيَّةِ البُنْيَانِ وَالتَّحْصِينِ وَلِلنَّاسِ أَجَلٌ مَحْتُومٌ، وَوَقْتٌ مَعْلُومٌ، لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَنْهُ وَلاَ يَتَأَخَّرُونَ، سَواءٌ أَجَاهَدُوا وَتَعَرَّضُوا لِمَخَاطِرَ الحُرُوبِ، أَوْ قَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ، فَلاَ يُقَدِّمُ الجِهَادَ أَجَلاً. وَلاَ يُؤَخِّرُ القُعُودُ أَجَلاً فَلِمَاذَا يَكْرَهُونَ القِتَالَ، وَيَجْبُنُونَ وَيَتَمَّنْونَ البَقَاءَ، أَلَيْسَ هَذَا بِضَعْفٍ فِي العَقْلِ وَالدِّينِ؟
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى شَأناً آخَرَ مِنْ شُؤُونِهِمْ فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلى الحَمَقِ وَضَعْفِ الإِدْرَاكِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ خَيرٍ وَخِصْبٍ وَرِزْقٍ كَثِيرٍ، وَكَثْرَةِ أَمْوالٍ وَأَوْلاَدٍ. . قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَهُوَ الذِي أَكْرَمَهُمْ بِها، لأنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَإذَا أَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَقْصٌ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ أَو مَوْتِ أَوْلادٍ قَالُوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، وَبِسَبَبِ اتِّبَاعِنَا لَكَ، وَإيمَانِنَا بِمَا أتَيْتَنَا بِهِ، وَتَرْكِنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا. فَقُلْ لَهُمْ: كُلُّ مَا يُصِيبُ النَّاسَ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ، هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَبِتَقْدِيرِهِ، اخْتِبَاراً وَابْتِلاءً، فَمَا لِهَؤُلاءِ القَائِلِينَ وَكَأَنَّهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ مَا يُقَالُ لَهُمْ؟ (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 570)
(1/11)
" يعجب اللّه - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين. حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها اللّه. فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره اللّه وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل اللّه - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية اللّه القهار الجبار، الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .. «أو أشد خشية»!!
وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟» .. وهو سؤال غريب من مؤمن. وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ولوظيفة هذا الدين أيضا .. ويتبعون ذلك التساؤل، بأمنية حسيرة مسكينة! «لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ!» وأمهلتنا بعض الوقت، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف! إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عند ما يجد الجد، وتقع الواقعة .. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف. لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال. قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار .. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا .. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته ..
والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك! وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه
(1/12)
الأذى في مكة فلا يطيقه ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية عَنْهُمْ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ .. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» ..
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» ... الآيات ... ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها.
وقد كدنا نرجح هذا الرأي لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها. وصدور هذه الأعمال وهذه الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك. وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا ..
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين: (قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ... الآيات) هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم. وربما كانت كلها وصفا للمنافقين عامة وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال. والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم ..
(1/13)
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع، لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» ..
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورده عليهم: «إننا لم نؤمر بقتال» .. فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعة العقبة - في المنافقين، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات. ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى. فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف رضي اللّه عنهم جميعا.
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين، الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال .. وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم، بل في المنافقين. لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة! أو قول الطاعة وتبييت غيرها ..
وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف. لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام، ولا تدل على النفاق ..
والحق .. أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موقف لا نملك الجزم فيه بشيء. والروايات الواردة عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء .. حتى في آيات المجموعة الأولى. التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين كما ورد أنها في طائفة من المنافقين!
ومن ثم نأخذ بالأحوط في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر.
التي وردت في الآيات السابقة. (1) ومن سمة إسناد السيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة، ورد هذه وحدها إلى اللّه! ومن سمة تبييت غير الطاعة .. وإن كانت تجزئة سياق الآيات
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 712)
(1/14)
على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني، ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية!!! واللّه المعين."
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) [الجمعة/6 - 8]
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ اليَهُودِ: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى حَقٍّ وَهُدًى، وَأَنَّ مُحَمَّداً وَأَصْحَابَهُ عَلَى ضَلاَلَةٍ، فادْعُوا بِالمَوْتِ عَلَى الضَّالِ مِنَ الفِئَتَين، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِيما تَزَعُمُونَ مِنْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءَ اللهِ وأحِبَّاؤهُ.وَلاَ يَتَمَنَّى هَؤُلاَءِ اليَهُودُ المَوْتَ أَبداً لِعِلْمِهِمْ بِسُوءِ مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الكُفْرِ وَالظُلْمِ وَالفُجُورِ، ولأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَوْ أَنَّهُمْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَمَاتُوا لساعَتِهِمْ. وَلأَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ عَذَابَهُ الشَّدِيدَ - كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَسُوءِ العَمَلِ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الفِرَارَ مِنَ المَوْتِ لاَ يُجْدِيهِمْ نَفْعاً، وَإِنَّهُ سَيُلاقِيهِمْ حِينَمَا يَحِينَ أَجَلُهُمْ، لاَ يَصْرِفُهُ عَنْهُمْ صَارِفٌ، وَأَيَّامُ الحَيَاةِ مَعْدُودَةٌ، وَهِيَ سَتْنَقَضِي مَهْمَا طَالَ أَمَدُهَا، ثُمَّ تَرْجِعُونَ بَعْدَ المَوْتِ إِلَى عَالِمِ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَعَالِمِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِيهَا، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. (1)
وهي لفتة من اللفتات القرآنية الموحية للمخاطبين بها وغير المخاطبين. تقر في الأخلاد حقيقة ينساها الناس، وهي تلاحقهم أينما كانوا .. فهذه الحياة إلى انتهاء. والبعد عن اللّه فيها ينتهي للرجعة إليه، فلا ملجأ منه إلا إليه. والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة. فلا مهرب ولا فكاك. وهي صورة متحركة موحية عميقة الإيحاء .. (2)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَثَلُ الَّذِي يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الثَّعْلَبِ، تَطْلُبُهُ الْأَرْضُ بِدَيْنٍ فَجَعَلَ يَسْعَى حَتَّى إِذَا أَعْيَا وَابْتَهَرَ دَخَلَ جُحْرَهُ فَقَالَتْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 5061)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3568)
(1/15)
لَهُ الْأَرْضَ: يَا ثَعْلَبُ دَيْنِي، فَخَرَجَ وَلَهُ حُصَاصٌ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1)
وقال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) [إبراهيم/44 - 45]
خَوِّفْ أَيُّها الرَّسُولُ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشَدَّتِهِ، إِذْ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ: رَبَّنا آخِّرْنا إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَبِكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ.وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لَقَدْ كُنْتُمْ أَقْسَمْتُمْ، وَأَنْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، أَنَّهُ لاَ زَوَالَ لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأَنَّهُ لاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ وَلاَ حِسَابَ؟ فَذُوقُوا هَذَا العَذَابِ بِذَاكَ الكُفْرِ.
وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا أََنْزَلْنَاهُ مِنَ العِقَابِ الشَّدِيدِ بِالأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ التِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ بِهِمْ، وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ هَؤُلاَءِ المِكَذِّبِينَ، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا، وَلَمْ تَزْدَجِرُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالظُّلْمِ، وَالآنَ تَسْأَلُونَ التَّأخِيرَ لِلتَّوْبَةِ حِينَ نَزَلَ بِكُمُ العَذَابُ، فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَقَدْ فَاتَ الأَوَانُ. (2)
وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) [النحل/61]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ بِأَنَّهُ يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ مِنَ البَشَرِ، مَعْ ظُلْمِهِمْ، وَأَنَّهُ لاَ يُعْجِّلُ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ، وَبِمَا كَسَبُوا، وَلُوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لأَهْلَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَى ظَهْرِهَا مَخْلُوقاً يَدِبُّ عَلَيْهَا.وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَحْلُمُ عَلَى العُصَاةِ، وَيَسْتُرُ عَلَيْهِمْ عُيُوبَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالعُقُوبَةِ،وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى اليَوْمِ المُحَدَّدِ لَهُمْ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ لاَ يُمْهَلُونَ لَحْظَةً وَاحِدَةً. (3)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 363) (6779) الصواب وقفه
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 1795)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 1962)
(1/16)
وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
وَلوْ أَنَّ اللهَ تَعَالى عَاقَبَ النَّاسَ عَلَى جَميعِ ذُنُوبِهِمْ في الدُّنيا لأَهْلَكَ جَمِيعَ أَهْلِ الأَرْضِ، وَمَا يَمْلِكُونَ مِنْ أرْزَاقٍ وَدَوَابَّ، وَلَكِنَّهُ تَعَالى يَدِّخِرُ مُؤَاخَذَتَهُمْ إِلى أجَلٍ مَسَمَّى، هُوَ يَوْمُ القَيَامة، فَيُحَاسِبُهُم عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بعملهِ. وَهُوَ تَعَالى بَصِيرٌ بأَعْمَالِ العِبَادِ وَبما اكْتَسَبُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لا يَغيبُ عَنْهُ مِنْهُ شَيءٌ (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3585)
(1/17)
المبحث الثاني
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) [آل عمران/185]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ سَتَذُوقُ طَعْمَ المَوْتِ، وَتُحِسُّ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ. وَاسْتَدَّلَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أنَّ الأَرْوَاحَ لاَ تَمُوتُ بِمَوتِ البَدَنِ، لأنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ لاَ يُحِسُ بِهِ إلاَّ الحَيُّ، وَهُوَ تَعَالَى وُحْدَهُ الحَيُّ الذِي لاَ يَمُوتُ. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحْشَرُ النَّاسُ إلى الله، وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ أجُورَهَا عَمَّا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ أَعْمَالٍ، فَمِنْ جُنِّبَ النَّارَ، وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ، فَقَدْ فَازَ كُلَّ الفَوْزِ. وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إلاَّ مَتَاعاً تَافِهاً زَائِلاً، صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ، وَهُوَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ يُوشِكُ أنْ يَضْمَحِلَّ عَنْ أهْلِهِ.
" إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما .. يموت الصالحون ويموت الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت .. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .. كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة .. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر.
الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير:
«وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» .. هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان.
(1/18)
القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..
ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه، ويرسم هيئته، ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيتها، ويدخل الجنة .. فقد فاز ..
صورة قوية. بل مشهد حي. فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته. فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل .. إلا أن يدركه فضل اللّه؟ بلى!
وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل اللّه، فيزحزحه عن النار! «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .. إنها متاع. ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحو واليقظة .. إنها متاع الغرور. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا. أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله .. فهو ذاك .. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس. عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل .. " (1)
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) [الأنبياء/34، 35]
"كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه، وألوان الأذى، النفسي والمادي، فى نفسه، وفى أصحابه، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل .. فلما ضاقوا به ذرعا، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى اللّه ـ كان ممّا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 538)
(1/19)
يعزّون به أنفسهم، ويمنّونها الأمانىّ فيه، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره، وقد ذهب أكثره،ولم يبق إلا قليله، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين، وها هو ذا صلوات اللّه وسلامه عليه، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض، حتى يأتيه النون! وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30: الطور).
فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» مسفّها هذا المنطق السقيم، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم .. فالموت حكم قائم على كل نفس .. فإذا مات النبىّ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير، وإنما الناس جميعا، صائرون إلى هذا المصير .. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟
ولهذا ردّ اللّه عليهم بقوله: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» .. فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ .. «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (30: الزّمر) .. إن المعركة بين حق وباطل، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان؟ إنه الباطل، وإنه لمهزوم مخذول: «إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ»؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع.
وفى قوله تعالى: «ذائِقَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن للموت طعما، تجده النفوس حين تفارق الأجساد ..
وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس .. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده،وتستسيغ طعمه، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي، حيث تروى ظمأها، وتبرّد نار أشواقها، وتنعم فى جنات النعيم التي وعد اللّه المتقين ..
(1/20)
أما النفس الضالة الآثمة، فإنما يحضرها عند الموت، حصاد ما عملت من آثام، وما ارتكبت من منكرات، وتشهد ما يلقاها من غضب اللّه وعذابه، فتكره الموت، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» (93: الأنعام) وقوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (55: التوبة).
وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا .. فذلك كله ابتلاء لهم، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع، ومع الخير من شكر أو كفر .. فما تستقبله النفوس مما يكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء اللّه، والتسليم له .. وما تستقبله مما يحبّ، هو امتحان لها كذلك، على الشكر والحمد لما آتاها اللّه من فضله وإحسانه ..
فالنفوس المؤمنة، لا تجزع من المكروه، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب، لأن كلّا من عند اللّه، وما كان من عند اللّه فهو خير كله، محبوب جميعه .. هكذا تجده النفوس المؤمنة باللّه، العارفة لجلاله، وعظمته، وحكمته ..
أما النفوس الضالة عن اللّه، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ، جزعت، وزادت كفرا وضلالا، وإن مسّها الخير، نفرت نفار الحيوان الشرس، واتخذت من نعمة اللّه سلاحا تحارب به اللّه، وتضرب فى وجوه عباد اللّه .. وفى هذا يقول اللّه تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» (19 ـ 27: المعارج)." (1)
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. فكل حادث فهو فان. وكل ما له بدء فله نهاية. وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يموت فهل هم يخلدون؟ وإذا كانوا لا يخلدون فما لهم لا يعلمون عمل أهل الموتى؟
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (9/ 871)
(1/21)
وما لهم لا يتبصرون ولا يتدبرون؟
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ». هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة. وهذه هي السنة التي ليس لها استثناء.
فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق! إنه الموت نهاية كل حي، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض. وإلى اللّه يرجع الجميع. فأما ما يصيب الإنسان في أثناء الرحلة من خير وشر فهو فتنة له وابتلاء: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .. والابتلاء بالشر مفهوم أمره. ليتكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته .. فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان ..
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ..
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة. ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان. وما يغريان به من متاع، وما يثير انه من شهوات وأطماع!
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم. ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح. ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح!
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها. أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء!
(1/22)
وذلك شأن البشر .. إلا من عصم اللّه فكانوا ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَإِنَّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، وَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ. " (1) .. وهم قليل!
فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر. والصلة باللّه في الحالين هي وحدها الضمان .. " (2)
وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) [العنكبوت/56 - 59]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤمِنينَ بالهِجْرَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لا يَقْدِرُونَ فيهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ إِلى مَكَانٍ آخَرَ مِنْ أَرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ، يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ إِقَامَةَ شَعائِرِ دِينِهِمْ كَمَا أًَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ
وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِككُمُ المَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللهِ، وَحَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَالمَوْتُ آتٍ لا مَحَالَةَ، وَلا مَفَرَّ مِنْهُ وَلا مَهْرَبَ، ثُمّ تُرْجَعُونَ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعِنْدَهُ الحِسَابُ والجَزَاءُ.
وَالذِينَ آمَنُوا باللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَعَمِلُوا بِمَ أَمَرهُمُ اللهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فإِنّهُ تَعَالى يَعِدُهُمْ وَعْداً حَقّاً أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُمْ في الجَنَّةِ قُصُوراً، وأَمَاكِنَ مُرتَفِعَةً (غُرَفاً) تَجْرِي في أَرْضِها الأَنْهَارُ وَسَيبْقَونَ فِيها خَالدِين، أَبداً، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا.وَمَا حَصَلُوا عَلَيهِ مِنْ جَزاءٍ كَرِيمٍ هُوَ نِعْمَ الأَجْرُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحاً. وَهؤُلاءِ العََامِلُون، الذينَ فَازُوا بِغُرفاتِ الجَنَّةِ، هُمُ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ، وَعَلَى شَدَائِدِ الهِجْرَةِ، وَعَلَى الجِهَادِ في سَبِيل اللهِ، وَتًَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمُ في جَمِيعِ أَعْمَالِهِم. (3)
__________
(1) - صحيح مسلم (7692)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4/ 2377)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3278)
(1/23)
" وفي إضافة الذين آمنوا إلى اللّه سبحانه وتعالى، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا ـ فى هذا احتفاء بهم، واستضافة لهم في رحاب رحمة اللّه وفضله وإحسانه .. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم، وذلك أمر شاق على النفس، ثقيل الوطأة على المشاعر، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد ..
فكان من لطف اللّه سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم ـ أن استضافهم في رحابه، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه، بهذا الدعاء الرحيم، الذي دعاهم به سبحانه، إليه ... «يا عبادى» .. فمن استجاب منهم لهذا النداء، وأقبل على اللّه مهاجرا إليه بدينه، تلقّاه اللّه سبحانه بالفضل والإحسان، وأنزله منزلا خيرا من منزله، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.
وقد استجاب المسلمون لهذا النداء، فخرجوا مهاجرين إلى اللّه، أفرادا وجماعات، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون، فأنزلهم اللّه أكرم منزل، هناك .. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها ..
وهناك وجد المهاجرون إخوانا، شاطروهم دورهم وأموالهم، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء.
وأكثر من هذا، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين اللّه، وعزت به شريعته .. ومن هؤلاء المهاجرين، كان صحابة رسول اللّه، وخلفاء رسول اللّه .. وأكثر من هذا أيضا، فإن القرآن الكريم، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين، وأشار إلى منزلتهم العليا عند اللّه، وما أعد لهم من أجر عظيم، وثواب كريم، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين، إلا الأنصار، الذين نزل المهاجرون ديارهم، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم ...
وهكذا، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم ... «يا عبادى» فكانوا منه في نعمة سابغة، وفضل عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا.
(1/24)
وفي قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» .. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك اللّه سبحانه وتعالى، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود، الذي يعيشون فيه، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها، ويضطربون فيها .. وكلا فإن أرض اللّه واسعة، أكثر مما يتصورون ... فليخرجوا من محبسهم هذا، ولينطلقوا في فجاج الأرض، الطويلة العريضة، وسيجدون في منطلقهم هذا، سعة من ضيق، وعافية من بلاء .. واللّه سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» (100: النساء). وقوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» ... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي، لا تشركون بعبادتي أحدا ...
والفاء في قوله تعالى: «فَإِيَّايَ» تفيد السببية .. حيث كشف قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» عن إضافة هذه الأرض إلى اللّه سبحانه، كما كشف عن سعة هذه الأرض، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه، هو في ملك اللّه ... وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة، كما أفرد جل شأنه بالملك ...
هذا، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا، من كل قيد مادى، أو معنوى، يعطل حركته، أو يعوق انطلاقه، أو يكبت مشاعره، أو يصدم مشيئته، أو يقهر إرادته ... ففى أي موقع من مواقع الحياة، وعلى أي حال من أحوالها، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة ـ يكون ظالما لنفسه، معتديا على وجوده ...
وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله، وأعلى درجاته، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة، وفي هذا يقول اللّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
(1/25)
واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97: النساء) .. فلقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة، لأنهم باستخزائهم وضعفهم، قد باعوا دينهم، واسترخصوا مروءتهم، فكانوا سلعة فى يد الأقوياء، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها ... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف ..
ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان، عقلا وقلبا وروحا، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا ..
وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد نزواته، وتبيع هواه ... لا يملك من أمر وجوده شيئا ... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس، والأهواء المتسلطة عليه منها ....
قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ». هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة .. فقد يحضر كثيرا منهم ـ وهو يأخذ عدته للهجرة ـ وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم .. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر فى مثل هذا الموقف ـ فجاء قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت .. وإذ كان ذلك هو شأنها، فإنّ التعلق بها وبأهلها، وبأشيائها، هو متاع إلى حين، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا، طال الزمن أو قصر ـ فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شىء يحول بينه وبين الطريق إلى اللّه، وإلى ما عند اللّه من ثواب عظيم وأجر كريم ـ فإن هذا الشيء مهما غلا، هو عرض زائل، وظل حائل، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات، وما وعد اللّه سبحانه عليها، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم." (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11/ 456)
(1/26)
" إن خالق هذه القلوب، الخبير بمداخلها، العليم بخفاياها، العارف بما يهجس فيها، وما يستكن في حناياها ..
إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب: يا عبادي الذين آمنوا: يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها. بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها: «يا عِبادِيَ» ..
هذه هي اللمسة الأولى. واللمسة الثانية: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» أنتم عبادي. وهذه أرضي. وهي واسعة. فسيحة تسعكم. فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق، الذي تفتنون فيه عن دينكم، ولا تملكون أن تعبدوا اللّه مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم، أحرارا في عبادتكم «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ».
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة. ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين: بالنداء الحبيب القريب: «يا عِبادِيَ»
وبالسعة في الأرض: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» وما دامت كلها أرض اللّه، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة اللّه وحده دون سواه.
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها. فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة. خطر الموت الكامن في محاولة الخروج - وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة، ولا يسمحون لهم بالهجرة عند ما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين - ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة. ومن هنا تجيء اللمسة الثانية: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» .. فالموت حتم في كل مكان، فلا داعي أن يحسبوا حسابه، وهم لا يعلمون أسبابه. وإلى اللّه المرجع والمآب. فهم مهاجرون إليه، في أرضه الواسعة، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف. وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة. فمن ذا يساوره الخوف، أو يهجس في ضميره القلق، بعد هذه اللمسات؟
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده بل يكشف عما أعده لهم هناك. وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة. ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض.
(1/27)
عوض من نوعها وأعظم منها: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها».
وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على اللّه: «نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» .. وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع. ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق، بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف، وأسباب الرزق المعلومة. فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» .. لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم. فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به، ولا تعرف كيف توفره لنفسها، ولا كيف تحتفظ به معها. ومع هذا فإن اللّه يرزقها ولا يدعها تموت جوعا. وكذلك يرزق الناس. ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه. إنما يهبهم اللّه وسيلة الرزق وأسبابه. وهذه الهبة في ذاتها رزق من اللّه، لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق اللّه. فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة. فهم عباد اللّه يهاجرون إلى أرض اللّه يرزقهم اللّه حيث كانوا. كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها، ولكن اللّه يرزقها ولا يدعها.
ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم باللّه، وإشعارهم برعايته وعنايته، فهو يسمع لهم ويعلم حالهم، ولا يدعهم وحدهم: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
وتنتهي هذه الجولة القصيرة وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج. وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة، ومكان كل قلق ثقة، ومكان كل تعب راحة. وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف اللّه الرحيم المنان." (1)
ـــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 2748)
(1/28)
المبحث الثالث
الحث على التوبة قبل الموت
قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) [النساء/17، 18]
إنَّ التَوْبَةَ التِي أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ قُبُولَها بِوَعْدِهِ كَرَماً مِنْهُ وَتَفْضُّلاً، لَيْسَت إلاَّ لَِمَنْ يَجْتَرِحَ السَّيِّئَاتِ بِجَهَالةٍ تُلاَبِسُ النَّفْسَ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبٍ، أوْ تَغَلُّبِ شَهْوَةٍ، ثُمَّ لاَ يَلْبَثُ أنْ يَنْدَمَ عَلَى مَا فَرًَّطَ مِنْهُ، وَيُنِيبُ إلى رَبِّهِ، وَيَتُوبُ وَيُقْلِعَ عَنْهَا. فَأولَئِكَ الذِينَ فَعَلُوا الذُّنُوبَ بِجَهَالَةٍ وَتَابُوا بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ، يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِم، لأنَّ الذُنُوبَ لَمْ تَتَرَسَّخُ فِي نُفُوسِهِمْ وَلَم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وَاللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِضَعْفِ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُم لاَ يَسْلَمُونَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ، فَشَرَعَ بِحِكْمَتِهِ قَبولَ التَّوْبَةِ، فَفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الفَضِيلةِ، وَهَدَاهُمْ الى مَحْوِ السَّيِّئَةِ.
أمَّا الذِينَ يَفْعَلُونَ السَّيِّئَاتِ، وَيَسْتَمِرُّونَ فِي فِعْلِهَا وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَيها، وَلاَ يَتُوبُونَ حَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ حَيَاتِهِم، أيْ حَتَّى يَحْضُرُهُمْ مَلَكُ المَوْتِ، فَيَقُولُونَ: تُبْنَا الآنَ، وَالذِين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، فَهَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ يَتَوَعَّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالعَذَابِ الأَلِيمِ المُوجِعِ الذِي أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ. (وَجَعَلَ اللهُ تَوْبَةَ التَّائِبِ وَهُوَ عَلى فِرَاشِ المَوْتِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ). (1)
"إن التوبة التي يقبلها اللّه، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد .. «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 510)
(1/29)
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب .. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم .. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى اللّه قبل أن يتبين لهم الموت، ويدخلوا في سكراته، ويحسوا أنهم على عتباته. فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم، والانخلاع من الخطيئة، والنية على العمل الصالح والتكفير.
وهي إذن نشأة جديدة للنفس، ويقظة جديدة للضمير .. «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» .. «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. يتصرف عن علم وعن حكمة. ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
إن اللّه - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو - سبحانه - غني عنهم، وما تنفعه توبتهم، ولكن تنفعهم هم أنفسهم، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
«وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ». فهذه التوبة هي توبة المضطر، لجت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها اللّه، لأنها لا تنشئ صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان، ليعملوا عملا صالحا - إن قدر اللّه لهم امتداد العمر بعد المتاب - أو ليعلنوا - على الأقل - انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد ..
(1/30)
«وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» .. وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة ..
«أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».أعتدناه: أي أعددناه وهيأناه .. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار!
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد .. " (1)
" والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق .. وهو فى مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه .. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ.
والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى اللّه رجعة من قريب .. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه .. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد .. وهذا ما حمده اللّه سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هى ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (1 ـ 2: القيامة) ..
وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (135: آل عمران) فالعلم هنا مقابل للجهالة فى قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ»، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى اللّه منه.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 603)
(1/31)
وقد مدح اللّه هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه .. فقال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها».
وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم اللّه، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة .. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى اللّه، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات!
إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق .. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره .. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها .. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه .. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه اللّه سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (90 ـ 91: يونس).
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر .. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر باللّه هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان باللّه الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه .. هكذا فكر وقدّر!!
وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى اللّه، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا
(1/32)
وتابوا .. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة .. إنها توبة غير مقبولة." (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 726)
(1/33)
المبحث الرابع
إذا حضر الأجل فلا رجعة للدنيا
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [المؤمنون/99، 100]
لا يَزَالُ الكَافِرُ يَجْتَرحُ السَّيِّئَاتِ، ولا يُبَالي بِمَا يَأتِي وَما يَذَرُ مِنْ الآثامِ والأَوْزَارِ، حَتَّى إذا جَاءَهُ المَوتُ، وعَايَنَ ما هو مُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ نَدِمَ على مَا فَاتَ، وأَسِفَ على مَا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ، وقَالَ: رَبِّ ارجِعُونِ لأَعْمَلَ صَالِحاً فِيمَا قَصَّرْتُ مِنْ عِبَادَتِكَ، وحُقُوقِ عِبَادِكَ. إِنًَّ الكَافِرَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَل صَالِحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَلِيُصْلِحَ فِيمَا تَرَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رَادِعاً وَزَاجِراً: إِنَّهُ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ هَذَا (كَلاَّ). فَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لاَ مَعْنَى لَهَا، يَقُولُهَا كُلُّ ظَالِمٍ وَقْتَ الضِّيقِ والشِّدَّةِ، وَلَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ فِي الحَيَاةِ، وجَاءَتْهُ الآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُ بِهَا، وَلَمْ يَعْمَلُ صَالِحاً، وَيَقُومُ وَرَاءَهم حَاجِزٌ (بَرْزَخٌ)، يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلى الدُّنْيَا، وَيَبْقَوْنَ كَذَلِكَ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَيُنْشَرُونَ. (1)
«حَتَّى» غاية لمحذوف دل عليه السياق، والتقدير، ولكن كثيرا من الناس، لا يأخذون حذرهم من الشيطان، ولا يستعيذون باللّه منه، فيفسد عليهم دينهم، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام، ثم يظلون هكذا فى غفلتهم «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وانكشف عن عينيه الغطاء، ورأى ما قدم من منكرات «قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى دنياى، «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» ولأصلح من أمرى ما فسد، وأقيم من دينى ما اعوجّ .. ولكن هيهات .. لقد فات وقت الزرع، وهذا أوان الحصاد .. «كَلَّا .. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» أي إنها مجرد كلام يقال، لا وزن له، ولا ثمرة منه .. «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي أن هناك سدا قائما، فاصلا بين الأموات، وعالم الأحياء .. فلا سبيل لمن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 2652)
(1/34)
أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى، وذلك «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .. حيث يزول البرزخ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر، ويصبحون جميعا فى عالم الحق .. (1)
إنه مشهد الاحتضار، وإعلان التوبة عند مواجهة الموت، وطلب الرجعة إلى الحياة، لتدارك ما فات، والإصلاح فيما ترك وراءه من أهل ومال .. وكأنما المشهد معروض اللحظة للأنظار، مشهود كالعيان!
فإذا الرد على هذا الرجاء المتأخر لا يوجه إلى صاحب الرجاء، إنما يعلن على رؤوس الأشهاد: «كَلَّا. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ... » كلمة لا معنى لها، ولا مدلول وراءها، ولا تنبغي العناية بها أو بقائلها. إنها كلمة الموقف الرهيب، لا كلمة الإخلاص المنيب. كلمة تقال في لحظة الضيق، ليس لها في القلب من رصيد!
وبها ينتهي مشهد الاحتضار. وإذا الحواجز قائمة بين قائل هذه الكلمة والدنيا جميعا. فلقد قضي الأمر، وانقطعت الصلات، وأغلقت الأبواب، وأسدلت الأستار: «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .. فلا هم من أهل الدنيا، ولا هم من أهل الآخرة. إنما هم في ذلك البرزخ بين بين، إلى يوم يبعثون. (2)
قال الإمام الشافعي رحمه الله (3):
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
وَلا تَجْزَعْ لِحَادِثة الليالي فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ
وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ
تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (9/ 1176)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4/ 2480)
(3) - تراجم شعراء موقع أدب - (10/ 262)
(1/35)
ولا ترجُ السماحة ََ من بخيلٍ فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ
وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ
وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ
وأرضُ الله واسعة ً ولكن إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ
دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ فما يغني عن الموت الدواءُ
وقال المتنبي (1):
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
أبَني أبِينَا نَحْنُ أهْلُ مَنَازِلٍ أبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَقُ
وَلَقَدْ بَكَيْتُ على الشَّبابِ وَلمّتي مُسْوَدّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهي رَوْنَقُ
حَذَراً عَلَيْهِ قَبلَ يَوْمِ فِراقِهِ حتى لَكِدْتُ بمَاءِ جَفني أشرَقُ
أمّا بَنُو أوْسِ بنِ مَعْنِ بنِ الرّضَى فأعزُّ مَنْ تُحْدَى إليهِ الأيْنُقُ
__________
(1) - تراجم شعراء موقع أدب - (49/ 18)
(1/36)
كَبّرْتُ حَوْلَ دِيارِهِمْ لمّا بَدَتْ منها الشُّموسُ وَليسَ فيها المَشرِقُ
وعَجِبتُ من أرْضٍ سَحابُ أكفّهمْ من فَوْقِها وَصُخورِها لا تُورِقُ
وَتَفُوحُ من طِيبِ الثّنَاءِ رَوَائِحٌ لَهُمُ بكُلّ مكانَةٍ تُسْتَنشَقُ
مِسْكِيّةُ النّفَحاتِ إلاّ أنّهَا وَحْشِيّةٌ بِسِواهُمُ لا تَعْبَقُ
أمُريدَ مِثْلِ مُحَمّدٍ في عَصْرِنَا لا تَبْلُنَا بِطِلابِ ما لا يُلْحَقُ
لم يَخْلُقِ الرّحْم?نُ مثلَ مُحَمّدٍ أحَداً وَظَنّي أنّهُ لا يَخْلُقُ
يا ذا الذي يَهَبُ الكَثيرَ وَعِنْدَهُ أنّي عَلَيْهِ بأخْذِهِ أتَصَدّقُ
أمْطِرْ عَليّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرّةً وَانظُرْ إليّ برَحْمَةٍ لا أغْرَقُ
كَذَبَ ابنُ فاعِلَةٍ يَقُولُ بجَهْلِهِ ماتَ الكِرامُ وَأنْتَ حَيٌّ تُرْزَقُ
ــــــــــــــــ
(1/37)
المبحث الخامس
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر/42]
اللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَقْبِضُ الأَنْفُسَ حِينَ انْتِهَاءِ الآجَالِ بِالمَوْتِ، وَيَتَوفَّى الأَنْفُسَ النَّائِمَةَ التِي لَمْ يَحِنْ أَجَلُهَا، فَيَقْبِضُهَا عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الأَجْسَادِ، مَعَ بَقَاءِ الأَرْوَاحِ مُتَّصِلَةً بِهَا، فَيُمْسِكُ اللهُ الأَنْفُسَ، التِي قَضَى عَلَيْهَا بالمَوْتِ، فَلا يَرُدُّهَا إِلى الأَجْسَادِ، وَيَرُدُّ الأَنْفُسَ النَائِمَةَ إِلَى الأَجْسَادِ حِينَ اليَقَظَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى، وَهُوَ وَقْتُ المَوْتِ المُقَرَّرِ، وَفِيمَا ذُكِرَ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَدَلاَلاَتٌ كَبِيرَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، لِمَنْ يَتَفَكَّرُونَ فِي عَجَائِبِ صُنْعِ اللهِ. (1)
" فى هذه الآية بيان لمصير النفس الإنسانية، وأنها صائرة إلى اللّه، بما تحمل من هدى أو ضلال، وبما معها من نور القرآن، أو ظلام الشرك .. فقوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» أي يردها إليه، ويوفّيها حسابها، حين يجيء أجلها، وتستوفى حياتها المقدورة لها فى الدنيا .. وقوله تعالى: «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» أي ويتوفى الأنفس فى منامها .. فالجار والمجرور فى منامها متعلق بقوله تعالى: «يَتَوَفَّى» .. وعلى هذا يكون معنى الآية: «اللّه يتوفى الأنفس ويردها إليه حين يقبضها بالموت، أو بالنوم ..
وقوله تعالى: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو بيان للأنفس التي يردها اللّه سبحانه وتعالى إليه، حين يغشى النوم أصحابها .. فهذه النفوس، إن كانت قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها اللّه عنده فلا تعود إلى الجسد مرة أخرى، وإن كان قد بقي لها فى الحياة أجل، أرسلها لتعود إلى الجسد مرة أخرى، حتى ينتهى أجلها المقدور لها فى الدنيا ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3979)
(1/38)
فاللّه سبحانه وتعالى يردّ الأنفس إليه حين الموت، وحين النوم، إلا أنه فى حال الموت يمسكها عنده إلى يوم القيامة، أما فى حال النوم، فإن كانت النفس قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها اللّه عنده، وإن لم تكن قد استوفت أجلها، أرسلها لتعود إلى جسدها، حتى ينتهي أجلها فى الدنيا.
ومن هذا يرى المرء أنه يموت كل يوم، وأن نفسه التي تلبسه تردّ إلى اللّه عند النوم، ثم يبعث من جديد فى اليقظة حين تعود إليه نفسه التي فارقت بدنه ..
وهكذا تتكرر عملية الموت والبعث كل يوم فى ذات الإنسان .. ومع هذا ينكر الضالون البعث بعد الموت، وهم يرون هذه الحقيقة فى أنفسهم .. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا السفه سفه؟ «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ولكن أين من يتفكر؟ إنهم قلة قليلة فى هذا المحيط الصاخب المضطرب بالضالين السفهاء! [بين النفس. والروح .. والجسد] وهنا نود أن نقف قليلا بين يدى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى».فقد أشارت الآية الكريمة إلى أن فى الإنسان نفسا، وأن هذه النفس تردّ إلى اللّه، على حين يترك الجسد لمصيره فى التراب .. فالإنسان إذن نفس وجسد .. وهما طبيعتان مختلفان .. فالنفس من العالم العلوي، والجسد من عالم التراب، وأنهما إذ يجمع اللّه بينهما بقدرته، فيجعل منهما ـ سبحانه ـ كائنا سويّا هو الإنسان، فإنه ـ سبحانه. بقدرته كذلك يحفظ لكل منهما طبيعته، حتى إذا انتهى الأجل الذي قدره اللّه لاجتماعهما، افترقا، فلحق كل منهما بعالمه، الذي هو منه .. النفس إلى عالمها العلوىّ، والجسد إلى عالمه الترابىّ." (1)
فاللّه يستوفي الآجال للأنفس التي تموت. وهو يتوفاها كذلك في منامها - وإن لم تمت بعد - ولكنها في النوم متوفاة إلى حين. فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ. والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو. إلى أن يحل أجلها المسمى. فالأنفس في قبضته دائما في صحوها ونومها. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. إنهم هكذا في قبضة اللّه دائما.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12/ 1160)
(1/39)
وهو الوكيل عليهم. ولست عليهم بوكيل. وإنهم إن يهتدوا فلأنفسهم وإن يضلوا فعليها. وإنهم محاسبون إذن وليسوا بمتروكين .. فماذا يرجون إذن للفكاك والخلاص؟ (1)
وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وأنها مخلوقة مدبرة، يتصرف اللّه فيها في الوفاة والإمساك والإرسال، وأن أرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ، فتجتمع، فتتحادث، فيرسل اللّه أرواح الأحياء، ويمسك أرواح الأموات.
ــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 3055)
(1/40)
المبحث السادس
الله تعالى قدر الموت والحياة
قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) [الواقعة/60 - 61]
يُقَرِّرُ لَهُم اللهُ تَعَالَى: أَنَّهُ هُوَ الذِي قَسَمَ المَوْتَ بَيْنَهُمْ، وَوَقَّتَ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِيقَاتٍ مُعَيَّنٍ، لاَ يُعْجِزُهُ شَيءٌ. وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُعْجِزُهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِمْ وَبِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الخَلاَئِقِ، وَأَنْ يُنْشِئَهُمْ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ مِنَ الأَطْوَارِ والأَحْوَالِ التِي لاَ يَعْهَدُونَهَا وَلاَ يَعْرِفُونَهَا.
" أي وكما خلقناكم ابتداء، من هذه النطف، وشكلنا صوركم، من هذا المنىّ ـ نحن الذين قدرنا بينكم الموت، وحددنا لكل منكم الأجل الذي له فى هذه الدنيا .. فإلينا وحدنا تقدير أعماركم، وموتكم .. لم يسبقنا إلى ذلك سابق، ولم يشاركنا فى هذا شريك ..
قوله تعالى: «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» هو متعلق بمحذوف، يفهم من قوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا إذا كنا لم نسبق فى هذا الخلق الذي خلقناكم عليه، ولم نسبق فى تقدير الموت الذي قدرنا عليكم، وجعلناه حكما واقعا على كل حىّ ـ إذا كان هذا شأننا فيكم، أفلسنا بقادرين «على أن نبدّل أمثالكم» ونغير صوركم، ونخلقكم على صور غير تلك الصور التي أنتم عليها؟ أو لسنا بقادرين على أن نجعلكم فى صورة مخلوقات أخرى من تلك المخلوقات الكثيرة التي ترونها فى عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، أو فى صور أخرى مما لا تعلمونه من صور مخلوقاتنا فى الأرض أو فى السماء؟ فإن هذه النطف التي تتخلق منها الكائنات، الحية فى عالم الحيوان، هى ماء يشبه بعضه بعضا، ولكن الخالق المبدع يصوّر هذه النطف كيف يشاء .. «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ .. » (6: آل عمران) " (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14/ 726)
(1/41)
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي .. ما هو؟ وكيف يقع؟ وأي سلطان له لا يقاوم؟
إنه قدر اللّه .. ومن ثم لا يفلت منه أحد، ولا يسبقه فيفوته أحد .. وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل .. «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ» لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم. واللّه الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة. قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا .. فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: «وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» .. في ذلك العالم المغيب المجهول، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به اللّه. وعندئذ تبلغ النشأة تمامها، وتصل القافلة إلى مقرها. هذه هي النشأة الآخرة .. «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ!» .. فهي قريب من قريب. وليس فيها من غريب. بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة. وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه، ولا تملك أن تجادل فيه. لأنه مأخوذ من بديهياتها هي، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة. بلا تعقيد. ولا تجريد. ولا فلسفة تكد الأذهان، ولا تبلغ إلى الوجدان .. إنها طريقة اللّه. مبدع الكون، وخالق الإنسان، ومنزل القرآن .. (1)
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) [الملك/1، 2]
يُمَجِّدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَيُخْبِرُ عِبَادَهُ بِأنَّهُ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ بِمَا يَشَاءُ، لاَ مُعَقِّبَ عَلَى حُكْمِهِ، وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُوَ ذُو قُدْرَةٍ عَلَى فِعْلِ كُلِّ شَيءٍ، لاَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ. وَهُوَ الذِي أَوْجَدَ الخَلاَئِقَ مِنَ العَدَمِ، ثُمَّ خَلَقَ المَوْتَ الذِي تَنْعَدِمُ بِهِ الحَيَاةُ، لِيَقْهَرَ عِبَادَهُ، وَجَعَلَ لِكُلٍ مِنَ المَوْتِ وَالحَيَاةِ مَوَاقِيتَ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ. وَقَدْ خَلَقَ اللهُ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَخْتَبِرَكُمْ، وَلِيَعْلَمَ أَيُّكُمْ يَكُونُ أَحْسَنَ عَمَلاً، وَأَكْثَرَ وَرعاً عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَأَسْرَعَ فِي طَاعَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَاللهُ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ الشَّدِيدُ الانْتِقَامِ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَهُوَ الغَفُورُ لِذُنُوبِ مَنْ أَنَابَ إِليهِ. (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3468)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 5120
(1/42)
ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له، وآثار قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته .. أنه خلق الموت ومن ثم يجيء التعقيب: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى اللّه ويخشاه. فاللّه عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار، وحذر وتوقى، فإن له أن يطمئن إلى غفران اللّه ورحمته وأن يقر عندها ويستريح!
إن اللّه في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب، لا يطارد البشر، ولا يعنتهم، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم وأن يحققوا تكريم اللّه لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير. (1)
" وفى قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» ..
ـ فى هذا تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحياة الآخرة، وذلك إذا نظروا فرأوا أن هناك عمليتين تجريان عليهما، وهما الموت والحياة .. فهاتان صورتان تتداولان الإنسان، كما تتداولان عالم الأحياء كله .. فالكائن الحىّ، كان ميتا، أي عدما، ثم أخرجته قدرة اللّه سبحانه إلى الحياة، ثم تعيده تلك القدرة إلى الموت مرة أخرى .. ثم تردّه إلى الحياة للحساب والجزاء.
فإذا جاء من عند اللّه من يخبر بأن بعد هذا الموت حياة أخرى، وأن الموت ليس نهاية الإنسان ـ فهل يقع هذا عند العقلاء موقع الإنكار؟ وكيف والشواهد كلها تشهد بإمكانيته؟ بل وتقطع بأنه أمر لا بد منه، من حيث أن هذه الحياة التي لبسها الإنسان بعد العدم، إنما كانت ليقوم بها على خلافة اللّه فى الأرض، حيث بسط سلطانه ـ بعقله ـ على كل ما فى هذا الوجود الأرضى .. ومخلوق هذا شأنه، لا بد أن يرقى صعدا إلى أفق أعلى من هذا الأفق الأرضى ..
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3631)
(1/43)
وإن هذه الخلافة التي للإنسان على الأرض ليست خلافة جماعية، تحمل فيها الجماعة الإنسانية كلها تبعتها، وإنما هى خلافة يحمل فيها كل فرد مسئوليته، ويحاسب على ما كان منه، فيجزى بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا .. وذلك يقضى بأن يردّ الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ليحاسب، وليثاب أو يعاقب ..
والسؤال هنا، هو:إذا كان كذلك، وكان لا بد من الحساب والجزاء على ما كان من الإنسان ـ فلم لا يحاسب فى الحياة الدنيا؟ ولم الموت ثم الحياة؟ وما حكمة الموت ثم الحياة؟ أليست هذه الحياة الجديدة هى عودة بالإنسان ـ نفسا وذاتا ـ إلى حياته الأولى، ووصل لما انقطع منه بالموت؟ وهل يضيف الموت شيئا جديدا إلى الإنسان حتى يكون لموته مساغا ..
ونقول: إن هذه التصورات هى نتيجة لهذا الفهم الخاطئ للموت الذي يقع على الإنسان بعد الحياة، حيث يبدو منه أنه انقطاع لجرى حياة الإنسان، ثم إنه بعد زمن ما ـ قد يطول أو يقصر ـ يعود إلى الحياة مرة أخرى، يوم القيامة!!
ولو فهم الموت على حقيقته، وأنه ليس إلا تحوّلا من منزل إلى منزل، وانتقالا من حال إلى حال ـ لو فهم الموت على هذا، لما كان لمثل هذه التصورات أن تجد لها مكانا فى تفكير الإنسان، يوقع فى نفسه هذه العزلة الموحشة بين الموت والحياة ..
فالموت ـ فى حقيقته ـ هو حياة جديدة تلبس الإنسان خارج هذا الجسد الذي تركه الموت جثّة هامدة .. وتلك الجثة الهامدة التي يخلفّها الموت وراءه، هى التي تعطى الموت تلك الصورة المخيفة المفزعة ..
ذلك أننا نرى الإنسان فى ثوب الحياة، يموچ بالنشاط والحركة .. ثم يطرقه الموت، فإذا هو هامد همود الجمادات التي بين أيدينا، ثم هو فى لحظة يغيّب فى الثرى، ثم إذا فتّش عنه بعد زمن، رؤى وقد تحول إلى أنقاض، ثم إذا أعيد إليه النظر بعد زمن آخر لم ير لهذه الأنقاض أثر!! وعن هذا التصور، يقول المشركون الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة ـ يقولون ما يقوله سبحانه وتعالى على لسانهم: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ .. » (10: السجدة) ولكن لو جاوزنا هذا الجسد، لوجدنا أن الحياة التي
(1/44)
كانت تلبسه، قد اكتسبت بخلاصها منه بالموت، قوة لا حدود لها، حيث حرجت من هذا الحيّز الضيق الذي كان يحتوبها، وانطلقت فى هذا العالم الرحيب، تحلّق فيه بقدر ما احتفظت به من خصائصها الروحية حال تلبسها بالجسد .. وفى هذا يقول بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: " النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا " .. وهو شرح لمعنى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) ..
أما أن الميت يبقى بعد موته فى حال همود، وجمود، إلى أن يجىء يوم البعث والنشور، فهذا فهم خاطئ أيضا ..
فالإنسان إذ يموت، فإن الموت ـ كما قلنا ـ لا يقع إلا على جسده، أما روحه، فإنها تجد فى موت الجسد فرصتها للخلاص من القيد الذي قيدها به ..
وعلى هذا، فإن الإنسان إذا مات، فإنما يموت موتا ظاهريّا يرى فى هذا الجسد، وأما هو فى حقيقته، فهو حىّ فى هذا الروح الذي انطلق من الجسد محمّلا بكل ما ترك الجسد فيه من آثار طيبة، أو سيئة .. وفى هذا يقول الرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ: «من مات فقد قامت قيامته» .. وهذا يعنى أن الميت إذ يموت، يبعث فى الحال بعثا جديدا، بمعنى أنه يقوم من عالم النوم الذي كان فيه، كما يشير إلى ذلك الحديث الذي ذكرناه من قبل، وهو: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهذا يعنى أيضا أن هناك قيامتين: قيامة خاصة بكل إنسان، وهى قيامته ساعة موته، وهى ـ كما قلنا ـ قيامة من عالم النّيام، عالم الحياة الدنيا ـ ثم قيامة عامة، وهى التي يبعث فيها الناس جميعا من عالم القبور، حيث تلتقى الأرواح بأجسادها مرة أخرى، على صورة يعلمها اللّه سبحانه وتعالى .. أما هذه الحياة التي عاشها الإنسان على هذه الأرض، فهى اختبار وابتلاء له، تتكشف فيه حقيقة طبيعته التي أوجده اللّه عليها ..
إنه فى هذه الحياة أشبه بحبة بذرت فى الأرض مع ما بذر من حبوب، ثم لا تلبث كل حبة أن تكشف عن حقيقتها، وعن الثمر الذي تثمره، من جيّد أو ردىء.، فإذا آن وقت الحصاد، جمع كل زرع مع ما بشا كله ..
(1/45)
وقد يسأل سائل: ولما ذا هذا البذر والغرس؟ أليس صاحب البذر والزرع، هو اللّه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه عالم بما كمن فى هذا البذر من ثمر؟
والجواب على هذا، أن علم اللّه سبحانه بالمخلوقات قبل أن تخلق، هو علم مكنون .. وخلق المخلوقات فى صورها، وأشكالها، وأزمنتها، وأمكنتها هو إظهار لهذا العلم المكنون، وأنه لولا هذا لما قام الخلق، ولما اتصف سبحانه بصفة «الخالق» ولظلّ الوجود فى حال كمون .. يقول سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ» (24: الحشر).ويقول سبحانه أيضا: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» (1 ـ 2: العلق) ويقول جل شأنه: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62: الزمر). فكان مما اقتضته إرادة اللّه سبحانه أن يخلق هذا الذي خلق من موجودات وعوالم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. وبهذا صار لكل مخلوق ذاتيته ومكانه فى هذا الوجود. فللحياة حكمة، وللموت حكمة، وللبعث بعد الموت حكمة .. «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28. البقرة) .. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115: المؤمنون) وقضية الحياة بعد الموت هى مضلّة الضالين، وهى الغشاوة التي تحجبهم عن اللّه سبحانه وتعالى، فلا يرون ماللّه سبحانه وتعالى من قدرة، وأنه سبحانه قادر على كل شىء، وأن بعث الحياة فى تلك الأجساد الهامدة، والعظام البالية، ليس بأبعد فى مجال المنطق الإنسانى، من خلقها أول مرة، من تراب، أو من نطفة من ماء مهبن .. ولكن هل يكون للمنطق مكان عند من ختم اللّه على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة؟ «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (15/ 1046)
(1/46)
المبحث السابع
الإنسان يغفل عن الموت
قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) [ق/16 - 19]
يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالى قُدْرَتَهُ عَلَى بَعْثِ الأمْواتِ مِنَ القُبُورِ يَوْمَ القيَامَةِ، بأنَّهُ الذِي خَلَقَ الإنسَانَ، وأنْشَأهُ مِنْ عَدَمٍ، وَأنَّهُ عَالِم بِجَمِيعِ أحْوَالِهِ وَأعْمَالِهِ وَأمُورِهِ، حَتَّى إنَّه لَيَعْلَمُ مَا يَتَرَدَّدُ في نَفْسِهِ مِنْ فِكْرٍ، وَمَا تُحَدَّثُهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ عَمَلٍ، خَيْراً كَانَ أوْ شَرّاً. وَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأمَّتي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها مَا لَم تَقُلْ أوْ تَفْعَلْ " (صحيح).
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى: إنَّ الإِنسَانَ تَحْتَ سُلْطَانِ اللهِ وَقَهْرِهِ، وَإِنَّ مَلاَئِكَةَ الرَّحْمَنِ المُكَلَّفِينَ بِحِفْظِ الإِنسَانِ وَإِحْصَاءِ أعْمَالِهِ هُمْ مُلازِمُونَ لَهُ دَائماً، حَتَّى إنَّهم بِالنِّسْبَةِ إليهِ أقْرَبُ مِنَ الوَرِيدِ الذِي يَمْتَدُّ في عُنُقهِ.
إنَّ اللهَ تَعَالى عَالِمٌ بِجَمِيعِ أحْوَالِ الإِنْسَانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِهِ مَلَكِينِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ يَرْقُبَانِهِ وَيَتَرَصَّدَانِهِ، وَيُحْصِيَانِ عَليهِ كُلَّ قَوْلٍ أوْ عَمَلٍ وَيْكْتُبَانِهِ. مَلكٌ عَنِ اليَمِينِ يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَمَلكُ عَنِ الشِّمالِ يَكْتُبُ السَّيِّئاتِ. وَلاَ يَصْدُرُ عَن الإِنسَانِ لَفْظ أوْ كَلمَةٌ إلاَّ وَلَديهِ مَلكٌ حَاضِرٌ مَعَهُ، مُرَاقِبٌ لأعْمالِه يُثبتُها في صَحِيفَتِهِ.
وَإِنَّ الكُفَّارَ المُكَذِّبينَ بالبَعْثِ لِيَعْلَمُونَ صِدْقَ ذَلِكَ حِينَ المَوْتِ، وَحِينَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذا جَاءتْ سَكْرَةُ المَوتِ كَشَفَتْ للإِنسَانِ عَن اليَقينِ الذِي كَانَ يَمْتَرِي فيهِ، وَعَلِمَ أنَّ البَعْثَ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ. وَسَكْرَةُ المَوْتِ وَمَا تَكْشِفُهُ لِلإنْسَانِ مِنْ يَقِينٍ، وَحَقَائِقَ، هِيَ الحَقُّ الذِي كُنْتَ يَا أيُّها الإِنسَانُ تَفِرُّ مِنْهُ وَتَتَجَنَّبُهُ (تَحِيدُ)، وَهَا قَدْ جَاءَكَ، فَلا مَحِيدَ لَكَ عَنْهُ، وَلا مَهْرَبَ وَلاَ مَنَاصَ. (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 4525)
(1/47)
"فى هذه الآية عرض آخر لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين .. وفى إعادة هذا العرض لقدرة اللّه، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة، ليراجعوا عقولهم مرة أخرى، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه ..
فاللّه سبحانه، هو الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض، فجعل منه هذا الكائن العاقل، السميع، البصير، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر، وما يضطرب فيها من خلجات .. وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان ـ كل إنسان ـ من حبل الوريد .. وحبل الوريد: هو عرق فى صفحة العنق .. وسمّى العرق حبلا، لأنه يشبه الحبل فى امتداده واستدارته .. وسمى وريدا، لأنه يستورد الدم النقي من القلب، ويصبّه فى الأوعية الدموية التي يتغذى منها الجسم ..
قوله تعالى: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ». أي أن اللّه سبحانه مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله، ظاهرا وباطنا ـ فإنه سبحانه قد وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، فيكتبانه فى كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة ..
و «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» ـ بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان من جنود اللّه، يسجلان عليه كل ما يقول، أو يفعل .. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ». فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟
قوله تعالى: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» ـ هو بيان شارح لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله .. فهما واقفان للإنسان بالمرصاد .. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول «رقيب» أي مراقب، يسمع ما يقال، ويسجله، وهو «عتيد» أي حاضر دائما لا يغيب أبدا .. وليس رقيب وعتيد، اسمين للملكين القائمين
(1/48)
على الإنسان، الموكلان به، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما، فكل منهما رقيب يقظ، حاضر أبدا ..
قوله تعالى: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ».سكرة الموت: ما يغشى الإنسان ساعة الاحتضار، من غيبوبة أشبه بغيبوبة من يقع تحت خمار الخمر، فتنطفىء لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة، ويبدو وكأنه جثة هامدة، بلا شعور، ولا حركة، ولا وعى!.
وقوله تعالى «بِالْحَقِّ» متعلق بالفعل «جاء» أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق، الذي غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر، حيث يرى عند الاحتضار، ما لم يكن يراه من قبل، وحيث يبدو له فى تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة، التي هو آخذ طريقه إليها ..
وقوله تعالى: «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» ـ الإشارة إلى «الحق» وهو الموت، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء .. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر باليوم الآخر، منكرا له، حائدا عن الداعي إليه، المنذر به ..
وقرىء: «وجاء سكرة الحق بالموت» ويكون المعنى على هذا، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد عنه هذا الإنسان، والذي كان فى حياته غير مقدر أنه سيموت .. «يحسب أن ماله أخلده» .. فهو لهذا غافل عن الموت، كما يقول سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» .. " (1)
"إن ابتداء الآية: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» .. يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة. فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها. وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشئ مادتها، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها. فكيف بالمنشئ الموجد الخالق؟ إن الإنسان خارج من يد اللّه أصلا فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره .. «وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ» .. وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم للّه، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده!
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13/ 478)
(1/49)
«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» .. الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى اللّه عنها. بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة.
ولكن القرآن يستطرد في إحكام الرقابة. فإذا الإنسان يعيش ويتحرك وينام ويأكل ويشرب ويتحدث ويصمت ويقطع الرحلة كلها بين ملكين موكلين به، عن اليمين وعن الشمال، يتلقيان منه كل كلمة وكل حركة ويسجلانها فور وقوعها: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». أي رقيب حاضر، لا كما يتبادر إلى الأذهان أن اسمي الملكين رقيب، وعتيد! ونحن لا ندري كيف يسجلان. ولا داعي للتخيلات التي لا تقوم على أساس. فموقفنا بإزاء هذه الغيبيات أن نتلقاها كما هي، ونؤمن بمدلولها دون البحث في كيفيتها، التي لا تفيدنا معرفتها في شيء. فضلا على أنها غير داخلة في حدود تجاربنا ولا معارفنا البشرية.
ولقد عرفنا نحن - في حدود علمنا البشري الظاهر - وسائل للتسجيل لم تكن تخطر لأجدادنا على بال. وهي تسجل الحركة والنبرة كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما وأشرطة التليفزيون. وهذا كله في محيطنا نحن البشر. فلا داعي من باب أولى أن نقيد الملائكة بطريقة تسجيل معينة مستمدة من تصوراتنا البشرية المحدودة، البعيدة نهائيا عن ذلك العالم المجهول لنا، والذي لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به اللّه. بلا زيادة! وحسبنا أن نعيش في ظلال هذه الحقيقة المصورة، وأن نستشعر ونحن نهم بأية حركة وبأية كلمة أن عن يميننا وعن شمالنا من يسجل علينا الكلمة والحركة لتكون في سجل حسابنا، بين يدي اللّه الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير. حسبنا أن نعيش في ظل هذه الحقيقة الرهيبة. وهي حقيقة. ولو لم ندرك نحن كيفيتها. وهي كائنة في صورة ما من الصور، ولا مفر من وجودها، وقد أنبأنا اللّه بها لنحسب حسابها. لا لننفق الجهد عبثا في معرفة كيفيتها! والذين انتفعوا بهذا القرآن، وبتوجيهات رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - الخاصة بحقائق القرآن،
(1/50)
كان هذا سبيلهم: أن يشعروا، وأن يعملوا وفق ما شعروا .. وعن بلال بن الحارث المزني - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللّه تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتاب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتاب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» .. قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. رواه أحمد
وهكذا كان أولئك الرجال يتلقون هذه الحقيقة فيعيشون بها في يقين. تلك صفحة الحياة، ووراءها في كتاب الإنسان صفحة الاحتضار: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ. ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» .. والموت أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره. ولكن أنى له ذلك: والموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطىء الخطى، ولا يخلف الميعاد وذكر سكرة الموت كفيل برجفة تدب في الأوصال! وبينما المشهد معروض يسمع الإنسان: «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ». وإنه ليرجف لصداها وهو بعد في عالم الحياة! فكيف به حين تقال له وهو يعاني السكرات! وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان اللّه. إن للموت لسكرات» .. يقولها وهو قد اختار الرفيق الأعلى واشتاق إلى لقاء اللّه. فكيف بمن عداه؟
ويلفت النظر في التعبير ذكر كلمة الحق: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» .. وهي توحي بأن النفس البشرية ترى الحق كاملا وهي في سكرات الموت. تراه بلا حجاب، وتدرك منه ما كانت تجهل وما كانت تجحد، ولكن بعد فوات الأوان، حين لا تنفع رؤية، ولا يجدي إدراك، ولا تقبل توبة، ولا يحسب إيمان. وذلك الحق هو الذي كذبوا به فانتهوا إلى الأمر المريج! .. " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3362)
(1/51)
المبحث الثامن
وجوب تذكر المؤمن رسالته في هذه الأرض
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) [المنافقون/9 - 11]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَبِأَلاَّ يَشْغَلَهُمْ مَا لَهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِهَّمْ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ مَنِ التَهَى عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينتِهَا، فَإِنَّهُ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الإِنْفَاقِ فِي طَاعَتِهِ مِنَ المَالِ الذِي جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ فَيَقُولُ هَؤُلاَءِ الذِينَ قَصَّرُوا فِي الطَّاعَةِ، وَفِي الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ: يَا رَبِّ لَوْ أَنَّكَ أَخَّرْتَنِي مُدَّةً يَسِيرَةً، فَأْنْفِقَ فِي طَاعَتِكَ، وأَسْتَجِيبَ لأَمْرِكَ، وأَكُونَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ، الذِينَ تَرْضَى عَنْهُمْ. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ، وَيُنْفِقُوا فِي أَوْجُهِ الخَيْرِ وَالبِرِّ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ أَجَلُهُمْ، لأَنَّهُمْ إِذَا حَانَ أَجَلُهُمْ فَلاَ مَجَالَ لِلتَّأْخِيرِ وَالإِمْهَالِ، وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُهُ العِبَادُ. (1)
" هو لقاء لآيات اللّه مع المؤمنين، بعد أن استمعوا إلى ما تنزّل فى المنافقين من آيات ..
وكان من حكمة الحكيم العليم، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم، بعد أن أراهم الصورة المنكرة للإنسان الضال المنحرف، ليكون لهم فيه عبرة وعظة .. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه، التلهي والتسلية .. جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف، ولينظروا فى أنفسهم هم، وليراجعوا حسابهم مع
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 5075)
(1/52)
ذواتهم، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين، أو على شبه قريب منها، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه، إن أراد أن يكون فى المؤمنين ..
أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان، فهو أن يكون كما دعا اللّه المؤمنين إليه فى هاتين الآيتين: وهو ألا يشغل عن ذكر اللّه بالأموال والأولاد، وألا يكون ذلك همه فى الحياة الدنيا، فيستغرقه متاع هذه الحياة، ويقطعه عن ذكر اللّه، وعن النظر إلى الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء .. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه، وأوردها موارد الهلاك فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة ..
فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد، وعن الغفلة عن ذكر اللّه ـ كان طلب البذل منه للإنفاق فى وجوه الخير، أمرا مقبولا، يمكن أن يمتثله ويستجيب له، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه، الآخذ على يده، وهذا هو السر ـ واللّه أعلم ـ فى تقديم النهى على الأمر .. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور ..
إن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد، فإذا عوفى الجسد من هذا الداء، كان من الطبيعي بعد ذلك، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة .. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي، ملازم للمنكرات ..
وإن التربية الحكيمة لمثل هذا، هو أن يطبّ له من هذا الداء المتمكن منه، فإن هو أقلع عنه، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان .. ولهذا كان من مقررات الشريعة: أن دفع المضار مقدّم على جلب المصالح!! وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» ـ هو حثّ على المبادرة بطاعة اللّه، والإعداد اليوم الآخر، قبل فوات الأوان، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة اللّه، ومن فعل الخير، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا، وترك له فرصة من الوقت، يتدارك فيه ما فات، ويصلح ما أفسد .. ولكن هيهات،
(1/53)
هيهات! «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (34: الأعراف) وقوله تعالى: «فأصدق» منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية، الواقعة بعد الطلب، وهو الرجاء المفهوم من قوله تعالى: «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟ فَأَصَّدَّقَ» .. فلولا هنا بمعنى «هلا».وأصدق: أصله أتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت فى الصاد ..
وأما قوله تعالى: «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» فهو مجزوم، لأنه واقع فى حيّز جواب الشرط، المفهوم كذلك من قوله تعالى «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» فهو بمعنى «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»! ..
وهذا الأسلوب من النظم لا يكون فى غير القرآن، ونظمه المعجز، الذي يملك بسلطانه التصريف فى الكلمات، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف فى كل شىء .. فلقد تسلط أسلوب الطلب: «لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» تسلط على الفعلين: أصدق، وأكون .. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له .. والسؤال هنا: ما الحكمة من مجىء النظم فى الآية على هذا الأسلوب؟
ولما ذا لم يجىء الفعلان الواقعان فى حيز الطلب، منصوبين معا، أو مجزومين معا؟
وما سر هذه التفرقة بين الفعلين، فيكون أحدهما مسبّبا، على حين يكون الآخر جوابا؟
نقول ـ واللّه أعلم ـ: إن هذا الاختلاف بين الفعلين، هو اختلاف فى أحوال النفس، وتنقلها من حال إلى حال، فى هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات ..
فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة فى الرجوع إلى اللّه، وعمل الصالحات ـ هذا الموت المطل على هذا الإنسان، يردّه إلى صوابه، ويوقظه من غفلته، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وقد بلغت الروح الحلقوم، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ، وإلا الرجاء فيقول: «رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ!».
. إن ذلك هو أقصى أمانيه، وهو غاية مطلوبه .. ثم يخيل إليه من لهفته، وشدة حرصه على هذا المطلوب، أنه ـ وقد تمناه ـ أصبح دانيا قريبا، وأنه قد استجيب له فعلا، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل .. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا
(1/54)
. إنه الآن يستطيع أن يتصدق .. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين، الذين يفوزون برضا اللّه ورضوانه .. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ، ليدخل فى باب العرض والطلب .. إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين .. ولكن هذه الفرحة سرعان ما تختفى، وتغرب شمسها من نفسه، إذ يجىء قوله تعالى: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» فيردّه هذا إلى مواجهة الموت، الذي خيّل إليه أنه فرّ من بين يديه! إنه حلم لحظة، فى صحوة الموت أو غيبوبته، سرعان ما يذهب كما تذهب الأحلام ..
وتحرير معنى الآية ـ على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه، هو: هلّا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق .. وإن أصدق أكن من الصالحين، الناجين، من هذا الهول العظيم. الذي يطلّ بوجهه من قريب. (1)
" والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ اللّه فيه من روحه، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية. وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر اللّه والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان. ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر، ويلهه عن ذكر اللّه ليتم له هذا الاتصال «فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. وأول ما يخسرونه هو هذه السمة. سمة الإنسان. فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا. ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء. مهما يملك من مال ومن أولاد.
ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة .. «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» .. فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم. فهو من عند اللّه الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق. «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ... » .. فيترك كل شيء وراءه لغيره وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران.
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين! وأنى له هذا؟: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها»؟ وأنى له ما يتقدم به؟ «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»؟
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (14/ 966)
(1/55)
إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة. في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين.
ولو إذ المؤمنين بصف اللّه الذي يقيهم كيد المنافقين .. فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان، وألا يغفلوا عن ذكر اللّه. وهو مصدر الأمان .. وهكذا يربي اللّه المسلمين بهذا القرآن الكريم .. " (1)
ـــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 3580)
(1/56)
المبحث التاسع
من هاجر إلى الله وأدركه الموت قبل وصوله فقد وقع أجره على الله
قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء/100]
يُحَرِّضُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى الهِجْرَةِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي مُفَارَقَةِ المُشْرِكِينَ، وَيُعْلِمُهُمْ أنَّ المُؤْمِنِينَ حَيْثُمَا ذَهَبُوا وَجَدُوا أَمَاكِنَ أَمْنٍ يَلْجَؤُونَ إلَيهَا، وَيَتَحَصَّنُونَ بِها مِنَ المُشْرِكِينَ، وَيَتَحَرَّرُونَ فِيها مِنَ الأَعْدَاءِ، وَيُرَاغِمُونَهُمِ بِها، وَيَجِدُونَ سَعَةً فِي الرِّزْقِ. وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الهِجْرَةِ فَيَلْقَى حَتْفَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ عِنْدَ اللهِ، مِثْلَ ثَوابِ مَنْ هَاجَرَ.
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».صحيح البخاري (1) وصحيح مسلم (5036)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. (1)
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 113) (388) صحيح
(1/57)
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة اللّه سبحانه وتعالى ..
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها «في سبيل اللّه» .. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل اللّه - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة:
«وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» ..
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. واللّه يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل اللّه .. إنه سيجد في أرض اللّه منطلقا وسيجد فيها سعة. وسيجد اللّه في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه ..
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل اللّه .. والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة إنما هو حتم محتوم عند ما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة ... والمنهج يراعي هذا ويعالجه. فيعطي ضمانة اللّه بوقوع الأجر على اللّه منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى اللّه ورسوله: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ - فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ..
(1/58)
أجره كله. أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام .. فماذا بعد ضمان اللّه من ضمان؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب. وهذا فوق الصفقة الأولى.
«وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً».
إنها صفقة رابحة دون شك. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى اللّه ورسوله - والموت هو الموت. في موعده الذي لا يتأخر. والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة.
ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده. ولخسر الصفقة الرابحة. فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة. بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه! وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير! ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات:
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل اللّه والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد .. اللهم إلا من عذرهم اللّه من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ..
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني .. وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا. لولا ما ورد في حديث: «بني الإسلام على خمس ... » ولكن قوة التكليف بالجهاد وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.
(1/59)
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات. وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس. ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد. وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.
وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ويقود المجتمع المسلم ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى اللّه." (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 745)
(1/60)
المبحث العاشر
المنافقون يهربون من الجهاد فرارا من الموت
قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) [الأحزاب/12 - 17]
أَمَّا المُنَافِقُونَ فَظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَقَالَ مُعْتِبُ بْنُ قُشَيْرٍ مَا قَالَ، وَقَالَ ضِعَافُ الإِيمَانِ وَالذِينَ فِي أًنْفُسِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌ، لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بالإِسْلامِ - {الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}، أَيْ لَمْ يكَنْ مَا وَعَدَنا بِهِ اللهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفِرِ بِالعَدُوِّ إِلا وَعْداً يَغُرُّنَا وَيَخْدَعُنا.
وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُنَافِقينَ (كَعَبدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وأَصْحَابِه): يَا أَهْلَ المَدينةِ (يَثْرِبَ) لَيْسَ هذا المُقَامُ، الذي تُقِيمُونَهُ مُرَابِطِينَ مَعَ النَّبِيِّ، بِمُقَامٍ صَالِحٍ لَكُمْ، فَارْجِعُوا إِلى مَنَازِلِكُمْ لِتَحْمُوهَا، وَلِتُدَافِعُوا عَنْها وعَنْ عِيَالِكُمْ. واسْتَأْذَنَ فَريقٌ منْهُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَالِبينَ السَّمَاحَ لَهُمْ بِالعَوْدَةِ إِلى مَنَازِلِهِمْ (وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ)، وَقَالُوا إِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلى بُيُوتِهِمِ السُّرَّاقَ، وأَ، َّ بُيُوتَهُمْ ليسَ لَهَا مَنْ يَحْمِيها (عَوْرَةٌ).
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ قَائِلاً: إِنَّ بُيُوتِهم لَيْسَتْ عَوْرَةً، وَلاَ مُهَدَّدَةً مِنْ أَحَدٍ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَإِنَّما يُريدُونَ الفِرَارَ وَالهَرَبَ مِنَ القِتَالِ، وَعَدَمِ إِعَانَةِ المُسْلِمِينَ فِي حَرْبِهِمْ أَعْدَاءَ اللهِ.
(1/61)
وَلَوْ دَخَلَ عَلَيهِمُ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوانِبِ المَدِينَةِ، وكُلِّ قُطْرِ مِنْ أَقْطَارِها (وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بُيُوتُهُمْ) وَطَلبُوا إِليهِم الارْتِدَادَ عَنِ الإِسْلامِ، والعَوْدَةَ إِلى الشِّرْكِ، (لَو سُئِلُوا الفِتْنَةَ) لَفَعَلُوا ذَلِكَ سَرِيعاً دُونَ تَرَدُّدِ مِنْ شِدَّةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ، وَهذا دَلِِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِمْ. وَكَانَ هؤلاءِ المُسْتَأْذِنُونَ - وَهُمْ بَنُوا حَارِثَةَ - قَدْ هَرَبُوا مِنَ القِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفَرُّوا مِنْ لِقَاءِ العَدُوِّ، ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا اللهَ عَلَى أَلاَّ يَعُودُوا إِلى مِثْلِها، وَلاَ يَنْكُصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمَنْ عَاهَدَ اللهَ فإِنَّ اللهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ عَهْدِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَجْزِيهِ بِه. فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُسْتَأْذِنِينَ الهَارِبينَ مِنْ قِتَالِ العَدُوِّ وَلِقَائِهِ: إِنَّ الفرَارَ مِنَ القِتَالِ لَنْ يَنْفَعَكُمْ وَلَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ، وَإِذا نَفَعَكُمْ الفِرَارُ فَلَمْ تُقْتَلُوا فِي سَاحَةِ الحَرْبِ، فَإِنَّ بَقَاءَكُمْ فِي الدُّنيا مَحْدُودُ الأًَجْلِ، وَمَتَاعَكُمْ فِيها مَتَاعٌ قَليلٌ، وَسَيَأْتي المَوْتُ في الموعِدِ المُحَدَّدِ لاً يَتَأَخَّرُ وَلاَ يَتَقَدَّمُ.وَقُلْ لَهُمْ: لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ قَضَاءَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِليكُمْ، فَإِنْ أَرَاد اللهُ بِكُمْ شَراً فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ عَنْكُمْ، وَلاَ أَنْيَحُولَ دُونَ وَقُوعِهِ بِكُمْ: وَإِنْ أَرَادَ بِكُمْ خَيْراً وَرَحْمَةً، فَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ وَصُولِ ذلك إِلَيْكُمْ، فَالأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَلَنْ يَجِدَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَلِيّاً لَهُمْ غيرَ اللهِ، وَلاَ نَاصِراً يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ، وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيهِمْ مِنْ سُوءٍ وَبَلاَء. (1)
" إن قدر اللّه هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب. وكل موعده في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من اللّه ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون اللّه، يحميهم ويمنعهم من قدر اللّه.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3426)
(1/62)
فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع اللّه، في السراء والضراء. ورجع الأمر إليه، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل اللّه ما يشاء. " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 2839)
(1/63)
المبحث الحادي عشر
الكفار لا يتمنون الموت أبدا
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) [البقرة/94 - 96]
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ صِدْقاً أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءَ اللهِ وَأَحبَّاؤُهُ مِنْ دُونِ النَّاس، وَأَنَّ النَّارَ لَنْ تَمسَّكُمْ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ، وأنَّ لَكُمُ الجَنَّةَ وَحْدَكُمْ وَمَنْ عَدَاكُمْ مِنَ الخَلْقِ فِي النَّارِ، فَتَمَنَّوُا المَوْتَ الذِي يُوصِلُكُمْ إِلى ذلِكَ النَّعِيمِ الخَالِصِ الدَّائِمِ الذِي لا يُنَازِعُكُمْ فِيهِ أَحَدٌ، وَاطْلُبُوا المَوْتَ مِنَ اللهِ. فَإِذَا لَمْ يَتَمَنَّوْهُ كَانُوا غَيْرَ صَادِقِينَ في إِيمَانِهِمْ.
وَلَنْ يَتَمَنَّى هَؤُلاءِ الكَافِرُونَ بِكَ يا مُحَمَّدُ أنْ يَنْزِلَ بِهِم المَوتُ أبَداً، لأَنَّهُمْ مَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ، ومَا أسْلَفَتْ مِنْ سَيِّئِ الأعْمَالِ، فَهُمْ يَخَافُونَ عِقَابَ الله عَلَيها، وَاللهُ يَعْلَمُ أنَّهُمْ ظَالِمُونَ في قَوْلِهِمْ: إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ خَالِصَةٌ لَهُم مِنْ دُونِ النَّاسِ.
وَلَتَجِدَنَّ يَا مُحَمَّدُ اليَهُودَ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى البَقَاءِ فِي الحَيَاةِ، حَتَّى لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ لاَ كِتَابَ لَهُمْ، وَلاَ يَعْتَقدُونَ بِوُجُودِ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَحِسْابٍ عَلَى الأعْمَالِ، وَلِذلِكَ حَصَرُوا هَمَّهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنيَا أَمَّا اليَهُودُ فِإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ، وَيَعْلَمُونَ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَخُرُوجٍ عَنْ أَمْرِ اللهِ، وَقَتْلٍ لأَنْبِيَائِهِ، وَيَعْلَمُونَ مَا يَنْتَظِرُهُمْ فِي الآخِرَةِ مِنْ مَقْتِ اللهِ وَغَضَبِهِ وَشدِيدِ عَذَابِهِ، وَلِذلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَمَنَّونَ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَوْمِ القِيَامَةِ أمَدٌ بَعِيدٌ، وَأنْ يَعِيشُوا دَهْراً طَوِيلاً لِكَيْلا يَصِلُوا إلى العَذَابِ الذِي يَنْتَظِرُهُمْ في الآخِرَةِ.
(1/64)
ويَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: وَلَوْ عَاشَ أحَدُهُمْ ألْفَ سَنَةٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْجِيهِ مِنَ العَذَابِ، مَا دَامَ مُقِيماً عَلَى كُفْرِهِ، وَمُصِراً عَلَى الإِتْيَانِ بِالأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، وَاللهُ مُبْصِرٌ وَمُشَاهِدٌ مَا يَعْمَلُونَ. (1)
" لن يتمنوه. لأن ما قدمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب، ولا يؤمنهم من عقاب. إنه مدخر لهم هناك، واللّه عليم بالظالمين وما كانوا يعملون. وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنصح بالتحقير والمهانة: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» .. آية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة .. أي حياة! «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» ..
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. ذلك أنهم لا يرجون لقاء اللّه، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة. وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة .. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة. نعمة يفيضها الإيمان على القلب.
نعمة يهبها اللّه للفرد الفاني العاني. المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة. فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل اللّه المطلق، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق، الذي لا يعلم إلا اللّه مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار اللّه." (2)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 101)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 92)
(1/65)
المبحث الثاني عشر
وجوب التواصي بالموت على الإسلام
قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) [البقرة/130 - 134]
لَقَدْ تَجَرَّدَ إِبراهِيمُ فِي عِبَادَةِ اللهِ فَلَمْ يَدْعُ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ حَتَّى تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ، وَخَالفَ قَوْمَهُ. فَمَنْ يَتْرُكَ طَرِيقَ إِبْراهيمَ هذا وَمَسْلَكَهُ وَمِلَّتَهُ، وَيَتَّبِعْ طَرِيقَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ، فَهُوَ سَفِيهٌ، وَلاَ يَرْتَكِبُ الضَّلاَلَةَ إِلاَّ السَّفيهُ.
وَلَقَدِ اصْطَفَى اللهُ إِبراهِيمَ وَاخْتَارَهُ في الدُّنيَا، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ المُقَرَّبينَ عِنْدَ اللهِ.
أَمَرَ اللهُ إِبراهيمَ بِالإِخلاَصِ لَهُ، وَالاسْتِسْلامِ لِحُكْمِهِ، فَامْتَثَلَ لأَمْرِ رَبِّهِ، وَقَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ جَمِيعاً. وَكَانَتْ كَلِمَةُ الإِسْلامِ للهِ مُحَبَّبَةً إِلَى نَفْسِ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَأَوصَوْا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ حِينَ حَضَرَتْهُمُ الوَفَاةُ وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَأَحْسِنُوا فِي حَيَاتِكُمْ، وَالْزَمُوا ذلِكَ لِيَرزُقَكُمُ اللهُ الوَفَاةَ عَلَيهِ، لأنَّ المَرْءَ يَمُوتُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ.
يَقُولُ تَعَالَى إِنَّ اليَهُودَ الذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُجَادِلُونَهُ، وَيَجْحَدُونَ نُبُوَّتَهُ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إِنَّما يَسِيرُونَ عَلَى الدِّينِ الذِي مَاتَ عَلَيهِ يَعْقُوبَ، مَعْ أَنَّهُم لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ (شُهَدَاءَ) حِينَمَا حَانَتْ مَنِيَّةُ يَعْقُوبُ، وَجَاءَهُ المَوْتُ، وَلَكِنَّ اللهَ كَانَ شَاهِداً
(1/66)
عَلَى ذلِكَ. وَيُقَرِّرُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ يَعقُوبَ سَأَلَ بَنِيهِ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إِلهَهُ وَإِلهَ آبَائِهِ، الوَاحِدَ الأَحَدَ، الذِي لا شَرِيكَ لَهُ، وَسَيُسَلِّمُونَ أَمْرَهُمْ إِليهِ.
(هذِهِ الآيَةُ تُرشِدُ إلى أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحدٌ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ، وَرُوحُهُ التَّوحِيدُ وَالاسْتِسْلاَمُ للهِ، وَالإِذْعَانُ لِهَدْيِ الأَنْبِيَاءِ).
فَتِلْكَ الأَجْيَالُ السَّالِفَةِ كَانُوا أَمَّةً مُؤْمِنَةً، فَلا يَنْفَعُكُمُ الانتِسَابُ إِلَيهِمْ، إَذَا لَمْ تَفْعَلوا أَنْتُم خَيْراً تَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ عَلَى أَنْ لا يُجْزَى أَحَدٌ إِلاَّ بِكَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، وَلا يُسْأَلُ أَحَدٌ إِلا عَنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يُحَاسَبُ عَلَى عَمَلِهِ، وَلاَ تُسْأَلُونَ أَنْتُمْ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ هُمْ. (1)
" هذه هي ملة إبراهيم .. الإسلام الخالص الصريح .. لا يرغب عنها وينصرف إلا ظالم لنفسه، سفيه عليها، مستهتر بها .. إبراهيم الذي اصطفاه ربه في الدنيا إماما، وشهد له في الآخرة بإصلاح .. اصطفاه «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ» .. فلم يتلكأ، ولم يرتب، ولم ينحرف، واستجاب فور تلقي الأمر.
«قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. هذه هي ملة إبراهيم .. الإسلام الخالص الصريح .. ولم يكتف إبراهيم بنفسه إنما تركها في عقبه، وجعلها وصيته في ذريته، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه. ويعقوب هو إسرائيل الذي ينتسبون إليه، ثم لا يلبون وصيته، ووصية جده وجدهم إبراهيم! ولقد ذكر كل من إبراهيم ويعقوب بنيه بنعمة اللّه عليهم في اختياره الدين لهم: «يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ» ..
فهو من اختيار اللّه. فلا اختيار لهم بعده ولا اتجاه. وأقل ما توجبه رعاية اللّه لهم، وفضل اللّه عليهم، هو الشكر على نعمة اختياره واصطفائه، والحرص على ما اختاره لهم، والاجتهاد في ألا يتركوا هذه الأرض إلا وهذه الأمانة محفوظة فيهم: «فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ..
وها هي ذي الفرصة سانحة، فقد جاءهم الرسول الذي يدعوهم إلى الإسلام، وهو ثمرة الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم .. تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 137)
(1/67)
الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته، فليسمعها بنو إسرائيل:
«أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ: ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ..
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير .. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟ ..
إنها العقيدة .. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته: «ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟» ..
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث ..
«قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. إِلهاً واحِداً. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» .. إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه.
وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب. وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم «مُسْلِمُونَ». والقرآن يسأل بني إسرائيل: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ؟» .. فهذا هو الذي كان، يشهد به اللّه، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل!
وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة ..
(1/68)
حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» ..
فلكل حساب ولكل طريق ولكل عنوان ولكل صفة .. أولئك أمة من المؤمنين فلا علاقة لها بأعقابها من الفاسقين. إن هذه الأعقاب ليست امتدادا لتلك الأسلاف. هؤلاء حزب وأولئك حزب. لهؤلاء راية ولأولئك راية .. والتصور الإيماني في هذا غير التصور الجاهلي .. فالتصور الجاهلي لا يفرق بين جيل من الأمة وجيل، لأن الصلة هي صلة الجنس والنسب. أما التصور الإيماني فيفرق بين جيل مؤمن وجيل فاسق فليسا أمة واحدة، وليس بينهما صلة ولا قرابة .. إنهما أمتان مختلفتان في ميزان اللّه، فهما مختلفتان في ميزان المؤمنين. إن الأمة في التصور الإيماني هي الجماعة التي تنتسب إلى عقيدة واحدة من كل جنس ومن كل أرض وليست هي الجماعة التي تنتسب إلى جنس واحد أو أرض واحدة. وهذا هو التصور اللائق بالإنسان، الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية، لا من التصاقات الطين الأرضية! " (1)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 115)
(1/69)
المبحث الثالث عشر
الحث على الوصية قبل الموت لغير الورثة
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) [البقرة/180، 181]
فَرَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَيكُمْ يَا مَعْشَرَ المُؤْمِنينَ أَنَّهُ إذا حَضَرَتْ أَسْبَابُ المَوْتِ وَعِلَلُهُ، وَتَرَكْتُمْ مَالاً كَثِيراُ لِوَرَثَتِكُمْ أَنْ تُوصُوا لِلوَالِدَينِ وَذَوي القُرْبَى بِشَيءٍ مِنْ هذا المَالِ (لا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ إِذا لَمْ يَكُنِ المُوصَى لّهُمْ مِنَ الوَارِثِينَ فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ الوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِأَنْ يَخُصَّ بِها بَعْضَ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ مِنَ الوَرَثَةِ). وَإِذا أَسْلَمَ الكَافِرُ وَحَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، ووالدَاهُ كَافِرَانِ، فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ لَهُمَا بِشَيءٍ يَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُما. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذلِكَ الإِيصَاءَ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ. (وَقِيلَ إِنَّ هذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيةِ المَوَارِيثِ). وَإِذا صَدَرَتِ الوَصِيَّةُ عَنِ المُوصِي كَانَتْ حَقّاً وَاجِباً لاَ يُجُوزُ تَغْيِيرُهُ وَلاَ تَبْدِيلُهُ، إِلاَ إِذَا كَانَتِ الوَصِيَّةُ مُجَافِيةً لِلعَدْلِ، فَمَنْ بَدَّلَ الوَصِيَّةَ - سَواءٌ أَكَانَ وَصِيّاً أَوْ شَاهِداً - أَوْ حَرَّفَها فَغَيَّرَ فِي حُكْمِها وَزَادَ فِيها أوْ أَنْقَصَ أَوْ كَتَمَها، فَإِثْمُ التَّبدِيلِ يَقَعُ عَلَى الذِينَ يَقُومُونَ بِهِ، وَيَقَعُ أَجْرُ المَيِّتِ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ المَيِّتُ، وَعَلِمَ بِهِ وَبِمَا بَدَّلَهُ المُوصَى إِلَيهِمْ. وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوالِ المُبَدِّلِينَ وَالمُوصِينَ، وَيَعْلَمُ نِيَّاتِهِمْ، وَيُجَازِيهِمْ عَلَيهَا. فَإِذا خَافَ الوَصِيُّ خُرُوجَ المُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ عَنْ نَهْجِ الشَّرْعِ وَالعَدْلِ خَطَأً أَوْ عَمْداً، بِأَنْ زَادَ فِي حِصَّةٍ، أَوْ أَنْقَصَ فِيها. . . وَتَنَازَعَ المُوصَى لَهُمْ بِالمَالِ فِيما بَيْنَهُمْ،: أَوْ تَنَازَعُوا مَعَ الوَرَثَةِ، فَتَوسَّطَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بِذلِكَ، وَأَصْلَحَ بِتَبْدِيلِ هذا الحَيْفِ وَالجَنَفِ، فَلا إِثْمَ عَلَيهِ فِي هذا التَّبدِيلِ، لأَنَّهُ تَبْدِيلُ بَاطِلٍ بِحَقٍّ، وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، وَيُثِيبُهُ عَلَى عَمَلِهِ. (1)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 187)
(1/70)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة/106 - 108]
قِيلَ إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مَنْسُوخٌ. وَلَكِنَّ الأَكْثَرِيَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أنَّهُ مُحْكَمٌ. وَهَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ حُكْمَ مَنْ تُوُفْيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوْلِ الإِسْلاَمِ، وَالنَّاسُ كُفْارٌ، وَالأَرْضُ أَرْضَ حَرْبٍ - وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالوَصِيَّةِ، ثُمَّ نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ، وَفُرِضَتِ الفَرَائِضُ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا.
فَإِذَا ظَهَرَ أنَّ الشَّاهِدَينِ قَدْ خَانَا الأَمَانَةَ، أَوْ غَلاَّ شَيْئاً مِنَ المَالِ المُوصَى بِهِ إلَيْهِمَا، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الوَرَثَةِ المُسْتَحِقِّينَ لِلْتَّرِكَةِ، وَلْيَكُونَا مِنْ أَوْلَى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ المَالِ، فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الآخَرَيْنِ، وَإنَّ قَوْلَنَا إنَّهُمَا خَانَا أحَقُّ بِالقُبُولِ، وَأَصَحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا المُتَقَدِّمَةِ، وَمَا اعْتَدَيْنَا فِيمَا قُلْنَا فِيهِمَا مِنَ الخِيَانَةِ، وَإنْ كُنَّا كَذَبْنَا عَلَيْهِما وَافْتَرَيْنَا إذَاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ رَجُلاً تُوُفِّي وَأوْصَى بِتَرْكَتِهِ إلَى ذِمِّيَّيْنِ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ، وَلَمَّا سَلَّمَا المَالَ إلَى أَهْلِ المَيِّتِ أنْكَرَ أهْلُ المَيِّتِ، وَرَفَعُوا أمْرَهُمْ إلى أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ، فَأرَادَ أبُو مُوسَى أنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ صَلاةِ العَصْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهُمَا لاَ يُبَالِيَانِ صَلاَةَ العَصْرِ، وَلَكِنِ اسْتَحْلَفْهُمَا بَعْدَ صَلاَتِهِمَا المُقَرَّرَةٍ فِي دِينِهِمَا.
وَيَقُولُ الإِمَامُ قَبْلَ أنْ يُحَلِّفَهُمَا: (إنْ كَتَمْتُمَا أوْ حَنَثْتُمَا فَضَحْتُكُمَا فِي قَوْمِكُمَا، وَلَمْ نُجِزْ لَكُمَا شَهَادَةً، وَعَاقَبْتُكُمَا) ثُمَّ يُحَلِّفُهُمَا. فَإذَا قَالَ الإِمَامُ لَهُمَا ذَلِكَ، وَحَمَلَهُمَا عَلَى الحَلْفِ أمَامَ النَّاسِ بِالأَيْمَانِ المُغْلَّظَةِ، كَانَ ذَلِكَ أقْرَبَ السُّبُلِ إلى أنْ يُؤَدِّيا الشَّهَادَةَ
(1/71)
عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ (أدْنَى أنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا).كَمَا أنَّهُ قَدْ يَكُونُ الحَامِلَ لَهُمَا عَلَى الإِتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ، هُوَ تَعْظِيمُ الحَلْفِ بِاللهِ، وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ وَإِجْلاَلُهُ، وَالخَوْفُ مِنَ الفَضِيحَةِ بَيْنَ النَّاسِ، إنْ رُدَّتِ اليَمِينُ عَلَى الوَرَثَةِ، فَيَحْلِفُونَ وَيَسْتَحِقُّونَ مَا يَدَّعُونَ. (أَوْ يَخَافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمَانٌ بَعْدَ أيْمَانِهِمْ).ثُمَّ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ فِي جَمِيعِ أمُورِهِمْ، وَيَأمُرُهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبِأنْ لاَ يَحْلِفُوا أيْمَاناً كَاذِبَةً.وَيَقُولُ تَعَالَى: إنَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ.أدْنَى أنْ يَأتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا - أقْرَبُ إلَى قَوْلِ الحَقِّ وَالصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ. (1)
ـــــــــــــــــ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 776)
(1/72)
المبحث الرابع عشر
الملائكة تقبض أرواح الناس
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) [الأنعام/60 - 62]
يَقُولُ تَعَالَى إنَّهُ يَتَوَفَّى أَنْفُسَ العِبَادِ فِي حَالِ نَوْمِهِمْ فِي اللَّيلِ، فَيُزِيلُ إِحْسَاسَهَا، وَيَمْنَعُها مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الأَبْدَانِ (وَهُوَ التَّوَفِّي الأَصْغَرُ)، وَيَعْلَمُ مَا يَكْسِبُهُ العِبَادٌ مِنَ الأَعْمَالِ فِي النَّهَارِ، وَهَذا دَلِيْلٌ عَلَى عِلْمِهِ تَعَالَى بِكُلِّ شَيءٍ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ فِي النَّهَارِ لِكَسْبِ أقْوَاتِهِمْ، وَتَأْمِينِ مَعَاشِهِمْ، وَلِيَسْتَوفِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ أَجَلَهُ كَامِلاً، (لِيَقْضِيَ أَجَلٌ مُسَمَّى)، ثُمَّ يَرْجِعُ الخَلْقُ إلى اللهِ حِينَمَا تَنْتَهِي آجَالُهُمْ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَجْزِيهِمْ عَنْ أَعْمَالِهِم الجَزَاءَ الذِي يَسْتَحِقُونَهُ.
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الغَالِبُ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَيُرْسِلُ حَفَظَةً مِنَ المَلائِكَةِ عَلَى العِبَادِ، يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً وَنَهَاراً، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ، وَيُحْصُونَهَا، مَا دَامُوا عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ، وَلاَ يُفَرِّطُونَ فِي شَيءٍ مِنْهَا، حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ أَجَلُهُ، تَوَفَّتْهُ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ المُوكَلُونَ بِذَلِكَ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لاَ يُقَصِّرُونَ فِيمَا يُوَكَّلُ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ يُرَدُّ العِبَادُ، الذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ، إلى اللهِ جَمِيعاً، يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ تَعَالَى مَوْلاَهُمُ الحَقُّ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ، وَهُوَ يَومْئَذٍ صَاحِبُ الحُكْمِ وَالقَوْلِ الفَصْلِ، وَهُوَ تَعَالَى أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ. (1)
" فهو صاحب السلطان القاهر وهم تحت سيطرته وقهره. هم ضعاف في قبضة هذا السلطان لا قوة لهم ولا ناصر. هم عباد. والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون ..
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة .. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس - مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا، ومن العلم ليعرفوا، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 850)
(1/73)
- إن كل نفس من أنفاسهم بقدر وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان اللّه بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه. وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة! «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» ..
لا يذكر النص هنا ما نوعهم .. وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه .. أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس. ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة. فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء .. وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة .. «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» .. الظل نفسه، في صورة أخرى .. فكل نفس معدودة الأنفاس، متروكة لأجل لا تعلمه - فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه - بينما هو مرسوم محدد في علم اللّه، لا يتقدم ولا يتأخر. وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر، ولا يغفو ولا يغفل ولا يهمل - فهو حفيظ من الحفظة - وهو رسول من الملائكة - فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة - والنفس غافلة مشغولة - أدى الحفيظ مهمته، وقام الرسول برسالته .. وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ويعرف أنه في كل لحظة قد يقبض، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم.
«ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» .. مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة .. مولاهم الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء .. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط .. ثم ردهم إليه عند ما شاء ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب: «أَلا لَهُ الْحُكْمُ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ»
فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطىء في الحكم، ولا يمهل في الجزاء .. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري. فهو ليس متروكا ولو إلى مهلة في الحساب! وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد اللّه سبحانه بالحكم - في هذه الأرض - في أمر العباد ..
(1/74)
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من اللّه تعين لهم ما يحل وما يحرم، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس .. فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة اللّه فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة اللّه السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن اللّه محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم - كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم - وفق شريعة اللّه في الدنيا، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي اللّه. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا اللّه - سبحانه - إلها في الأرض ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية اللّه - أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفي المعاملات والارتباطات - واللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .. " (1)
وقال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) [السجدة/10، 11]
وَقَالَ المُشْرِكُونَ باللهِ، المُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ: هَلْ إِذا صَارَتْ لُحُومُنا وَعِظَامُنا تُراباً، وَتَفَرَّقَتْ في الأَرضِ، واخْتَلَطَتْ بِتُرابها فلم تَعُدْ تَتَمَّيزُ عَنْهُ، سَنُبْعَثُ مَرَّةً أُخْرى، ونُخْلَقُ خَلْقاً جَديداً؟ وَهؤلاءِ المُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ قُدرَةَ اللهِ عَلى الخَلْقِ، وَيَكْفُرُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ في الآخِرةِ. قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُشْرِكِينَ: إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ، الذِي وُكِّلَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ،
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 1122)
(1/75)
يَقُومُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَيَقْبِضُ الأَرْوَاحَ حِينَما تَسْتَنْفِدُ الخَلاَئِقُ آجَالَها، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُجازِي كُلَّ وَاحدٍ بِعَمَلِهِ. (1)
"الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها .. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء.
والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون ..
ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ».
. وفي قوله: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ـ لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم .. بل إن فى أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم ـ وهم في التراب ـ أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شىء من عدم! ـ وفي قوله تعالى: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» ـ إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا .. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب .. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء ... لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم .. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم .. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة .. إنهم ـ والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3394)
(1/76)
. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم .. ثم ليكن في الغد ما يكون!!
قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».توفية الشيء: استيفاؤه وأخذه كاملا وافيا، وعبّر عن الموت بالتوفى، لأنه لا يكون الموت حتى يستوفى الحىّ ما قدر اللّه له من حياة، دون زيادة أو نقصان.
وفي قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» ـ إشارة إلى أن الموت الذي يحلّ بهم، ليس أمرا يقع من تلقاء نفسه، اعتباطا، كما يظنون وكما يقول شاعرهم:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطىء يعمّر فيهرم
وكلّا، فإن الموت بيد اللّه الحكيم العليم، الذي جعل لكل نفس أجلا محدودا، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .. ثم إن الموت يقوم به رسول من رسل اللّه، مهمته هى قبض الأرواح من الأجساد، بعد أن تستوفى أجلها .. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي إليه الموت، له أيضا الحياة قبل الموت، وبعد الموت .. فمن أعطى الحياة، ثم سلبها، لا يعجز أن يعطى ما سلب! «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة)." (1)
" إنهم يستبعدون أن يخلقهم اللّه خلقا جديدا، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ اللّه خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد!
«بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» .. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء اللّه هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة. لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (11/ 612)
(1/77)
ورجعتهم، مكتفيا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة: «قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» .. هكذا في صورة الخبر اليقين .. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب اللّه، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد." (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 2811)
(1/78)
المبحث الخامس عشر
حال الكفار أثناء نزع الروح
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [الأنعام/93]
لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللهِ، فَجَعَلَ لَهُ شَرِيكاً أَوْ وَلَداً، أَوْ ادَّعَى أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ رَسُولاً إلى النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنِ اللهُ قَدْ أَرْسَلَهُ (كَالذِينَ يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ)، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْزِل مِثْلَمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الوَحْيِ وَالقُرْآنِ (كَالذِينَ قَالُوا: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
وَهَؤُلاءِ الظَّالِمُونَ وَأَمثَالُهُمْ جُرْمُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ حَالَهُمْ وَهُمْ يُعَانُونَ سَكَرَاتِ المَوْتِ، وَآلاَمَ اللَّحَظَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِم التَّعِيسَةِ، لَرَأَيْتَ مَالاَ سَبِيلَ إلَى وَصْفِهِ وَتَصْوِيرِهِ مِنْ سُوءٍ، وَقَدْ جَاءَتْهُمْ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ بَاسِطِينَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالعَذَابِ لِيَسْتَخْرِجُوا أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، بِقَسْوَةٍ وَعُنْفٍ، لِمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ، وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ، وَالانْقِيَادِ إلَى رُسُلِهِ. (1)
" حماية للرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من أن يكونوا مظنّة تهمة فى صدقهم، وصدق ما جاءوا به من عند اللّه .. إذ أن الافتراء على اللّه، والتلبيس على الناس باسمه، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات اللّه وآياته ـ كل هذا عدوان على اللّه، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة، وفى هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبّس بمنكر من هذه المنكرات .. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح، ويعرّض نفسه للفضيحة الفاضحة، والخزي المبين بين الناس! فكيف بأنبياء اللّه
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 883)
(1/79)
ورسله، وهم دعاة هدى، لا يبغون عليه من أحد أجرا ـ كيف يكون منهم الكذب على اللّه والتقوّل عليه بما لم يقل؟
وإذن فالذين يصطفيهم اللّه لحمل رسالته، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته ـ لا يختلط أمرهم على ذى عقل، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة، لما بين النبىّ والدعىّ من مفارقات بعيدة، سواء فى ذات النبىّ والدعىّ، أو فى محامل دعوة النبىّ ودعوة الدعىّ.
ففى سلوك النبىّ، استقامة، وصدق، وعفّة، وكمال، فى كل أموره، ظاهرها وباطنها جميعا، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه، فضلا عن أوليائه .. وليس كذلك الدعىّ الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزى إلّا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة، والتجرد من الحياء، وعدم المبالاة باتهام الناس له، وتشنيعهم عليه ..
وفى محامل رسالة النبي .. النور والهدى، والخير، والعدل، والإحسان .. للناس جميعا .. لا لطائفة من الطوائف، ولا لطبقة من الطبقات .. أما ما تحمل رسالة المدعى ـ إن كان له رسالة ـ فهو الملق والرياء، والاستجابة للعواطف الخسيسة فى الناس، وإباحة المنكرات لهم، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب، الذي يباركها ويبارك أهلها ..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ. تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» عرض لهؤلاء الظالمين الذي افتروا على اللّه الكذب، وقالوا بما لم يقبله اللّه. وفى هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم، حين تنتهى أيامه القصيرة فى هذه الدنيا، بحلوها ومرها، وبلهوها وعبثها، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة، وملائكة الرحمن يمدّون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد، الذي كان يمشى فى الأرض مختالا فخورا، يحسب أن ماله أخلده .. وما هى إلا لحظات، يعالج فيها سكرات الموت، حتى يكون جثة هامدة، كأنه لقى ملقى على الطريق، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفى وتتوارى عن الأنظار، وتغيّب فى باطن الأرض .. وليس هذا فحسب، بل إن
(1/80)
ذلك هو بدء لمرحلة جديدة، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها .. إنه سيبعث من جديد، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى، ولكن لا ليكون مطلق السّراح، يلهو ويعبث، بل ليلقى به فى جهنم، وليكون وقودا لجحيمها المتسعر! وفى قوله تعالى: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» إشارة إلى هذا الأمر الملزم، الذي يحمله الملائكة، لقبض أرواح الظالمين، وأن الملائكة، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم، وإعطائها لهم بأيديهم، وفى هذا تنكيل بهم، وإذلال وقهر لهم، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم .. هكذا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ».
. وهل يعطى الإنسان نفسه بيده؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا، من أن يكون هو الذي يقدّم بيديه أعزّ شىء يملكه، بل كل شىء يملكه .. " (1)
والمشهد الذي يرسمه السياق في جزاء هؤلاء الظالمين (أي المشركين) مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب. الظالمون في غمرات الموت وسكراته - ولفظ غمرات يلقي ظله المكروب - والملائكة يبسطون إليهم أيديهم بالعذاب، وهم يطلبون أرواحهم للخروج!
وهم يتابعونهم بالتأنيب: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» ..
وجزاء الاستكبار العذاب المهين، وجزاء الكذب على اللّه هذا التأنيب الفاضح .. وكله مما يضفي على المشهد ظلالا مكروبة، تأخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق! (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (4/ 239)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 1149)
(1/81)
المبحث السادس عشر
الأمم لها آجال أيضا
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) [الأعراف/34]
جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلاً وَمِيقَاتاً قَدَّرَهُ لِهَلاكِهِمْ. فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لِهَلاَكِهِمْ، وَحُلُولِ العِقَابِ بِهِمْ، أَخَذَهُمْ فَلا يَسْتَطِعُونَ إِبْطَاءً وَلاَ تَعَجُّلاً وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً.
"إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة، يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ، فلا يغرها امتداد الحياة!
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة. وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها .. وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون." (1)
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة .. البعث والحساب، والنعيم والعذاب .. عناية واضحة. فلم يعد ذلك العالم الذي وعده اللّه الناس، بعد هذا العالم الحاضر، موصوفا فحسب، بل عاد مصورا محسوسا، وحيا متحركا، وبارزا شاخصا .. وعاش المسلمون في ذلك العالم عيشة كاملة. رأوا مشاهده وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولاح لهم من بعيد لفح النار، ورفت إليهم من الجنة أنسام! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود .. والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه، كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار، ومن أرض إلى أرض، في هذه
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3/ 1285)
(1/82)
الحياة المشهودة المحسوسة .. ولم يكن ذلك العالم مستقبلا موعودا في حسهم، وإنما كان واقعا مشهودا ..
وربما كانت هذه المشاهد - المعروضة هنا - أطول مشاهد القيامة في القرآن، وأحفلها بالحركة، وبالمناظر المتتابعة، وبالحوار المتنوع، في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ، حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة! وهي تجيء في السورة - كما أسلفنا - تعقيبا على قصة آدم، وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما، وتحذير اللّه لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة، وتحذيرهم من اتباع عدوهم القديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس، وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة .. ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار، ومشاهد القيامة - وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان! - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبئ به هؤلاء الرسل، وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة، وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها. وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا اللّه، قد ردوا إلى الجنة، ونودوا من الملأ الأعلى: «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فكأنما هي أوبة المهاجرين، وعودة المغتربين، إلى دار النعيم! وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها، ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه. فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى، على مشهد من الملائكة - يوم أن خلق اللّه آدم وزوجه وأسكنهما الجنة، فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة، وأخرجهما من الجنة - وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة .. فيتصل البدء بالنهاية. ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها. وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق.
والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة:
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على اللّه الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به اللّه، والذين كذبوا بآيات اللّه التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع
(1/83)
اللّه المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها اللّه، كما نالوا نصيبهم من آيات اللّه التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ؟ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ، حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ، قالُوا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على اللّه كذبا أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار: «قالُوا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» ..
أين دعاويكم التي افتريتم على اللّه؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من اللّه على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصما من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله اللّه؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه: «قالُوا: ضَلُّوا عَنَّا»! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقرا، ولا هم يسلكون إلينا طريقا! .. فما أضيع عبادا لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان!
«وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» .. وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس اللّه في الدنيا: «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ»! فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. (1)
وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3/ 1288)
(1/84)
مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) [يونس/48 - 53]
وَيُمْعِنُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِاليَوْمِ الآخِرِ، فَيَسْتَعْجِلُونَ بِهِ سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ، وَيَقُولُونَ: مَتَى يَكُونُ هَذا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ العَذَابِ، إِنْ كُنْتَ يِا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ حَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ؟
قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ: إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، وَلاَ أَمْلِكُ إِنْزَالَ العَذَابِ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ، وَلاَ تَحْقِيقِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، يُحَقِّقُهُ مَتَى شَاءَ، وَلِكُلِّ أَمَّةٍ أَجَلٌ، فَإَذَا جَاءَ الأَجَلُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَهُ أَوْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الوَقْتِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهَا.
قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ، وَمَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ، فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ بِاللَّيْلِ، أَوْ وَقتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ وَأُمُورِ مَعَايِشِكُمْ نَهَاراً؟ وَأَيَّ عَذَابٍ يَسْتَعْجِلُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُكَذِّبُونَ؟ أَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَمْ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ؟ وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالعَذَابِ أَيّاً كَانَ فَهُو جَهَالَةٌ.وَحِينَ يَقَعُ العَذَابُ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ، وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.وَيُقَرِّعُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَسْلَكِهِمْ هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ: أآمَنْتُمْ بِهِ الآنَ حِينَمَا وَقَعَ، وَكُنْتُمْ قَبْلاً تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؟
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ رَأَوا العَذَابَ فَآمَنُوا: ذُوقُوا عَذَاباً تَخْلُدُونَ فِيهِ، وَهُوَ جَزَاءٌ وِفَاقٌ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرونَ، وَتَكْسِبُونَ مِنْ ظُلْمٍ، وَفَسَادٍ فِي الأَرْضِ.
وَيَسْتَخْبِرُكَ الكَافِرُونَ الذِينَ تَعِدُهُمْ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَأَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ مِنَ الأَمْوَاتِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، أَحَقّاً سَيَقَعُ ذَلِكَ، أَمْ أَنَّهُ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ وَالاسْتِهْزَاءِ، فَقُلْ لَهُمْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ
(1/85)
، وَلَيْسَ فِي صَيْرُورَتِكُمْ تُرَاباً مَا يُعْجِزُ اللهُ عَنْ إِعَادَتِكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ العَدَمِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ البَعْثِ مَا يُعْجِزُ اللهَ. (1)
"إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا اللّه .. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان اللّه، ولا تقدير مع تقديره ..
فالنبىّ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا .. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء اللّه وأراد له، من دفع الضرّ عنه، وجلب الخير له .. فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس، ومقادير العباد؟ «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» عند اللّه «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر: «متى هو؟». . «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» بل يمضى فيهم قدر اللّه، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور، إذ لا مبدّل لكلماته، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته .. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وفى قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» ـ فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له .. فكيف يملك الضرّ لنفسه، ويسوقه إليها؟
وهل هذا مما يكون من إنسان، فضلا عن النبي الكريم؟
والجواب ـ واللّه أعلم ـ أن ذلك للدلالة على سلطان اللّه سبحانه وتعالى فى عباده، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان اللّه القائم عليه، فى ذات نفسه، حتى لو أراد ـ متعمدا ـ أن يسوق إلى نفسه شرا، أو يوردها مورد الهلاك، فإن ذلك ليس إلى يده، وإنّما هو للّه سبحانه وتعالى ..
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا، ولا يبذل له مالا، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة .. على خلاف النفع، فإنه لا يحصّل إلا بجهد، ولا ينال إلا ببذل وعمل .. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا ـ أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه، وأنه إذا عجز عن أن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 1413)
(1/86)
يملك لنفسه ضرّا، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا .. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ».
الضمير فى قوله تعالى: «عذابه» يعود إلى «الوعد» فى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وهو يوم القيامة .. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى: متى هو؟. حتى لكأنهم قد عملوا له، واستعدّوا للقائه، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!
وفى قوله تعالى: «بَياتاً أَوْ نَهاراً» إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس، بل إنه سيأتيهم فجأة، وعلى حين غفلة .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها .. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي .. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ .. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (187: الأعراف).
وفى قوله سبحانه: «ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين .. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم .. فماذا يستعجلون من هذا الشرّ، وذلك العذاب؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ، ولكن هؤلاء المجرمين .. حمقى جهلاء، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى: «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟». «أثمّ» الهمزة للاستفهام، وثمّ حرف عطف، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف، تقديره: أتستعجلون هذا اليوم، ثم إذا ما وقع آمنتم به؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا، ولا يدفع عنكم عذاب اللّه الواقع بكم .. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت، وأنتم فى سعة من أمركم، قبل أن يلقاكم هذا اليوم، وينزل بكم فيه البلاء، ويحلّ عليكم العذاب؟
وفى قوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه، ويبالغون فى إنكاره، ويستعجلون مجيئه، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء، بقولهم: «متى هو؟».و «آلآن» أصله «الآن» أي
(1/87)
الحال والوقت، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار «أالآن» ثم صارت الهمزتان همزة مدّ، أي: آلآن تؤمنون به بعد أن وقع؟." (1)
" وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (و قد قدم ذكر الضر هنا، وإن كان مأمورا أن يتحدث عن نفسه، لأنهم هم يستعجلون الضر، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء).
«قُلْ: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً .. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ .. ».فالأمر إذن للّه يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة اللّه لا تتخلف، وأجله الذي أجله لا يستعجل: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» ..
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم، إما لفترة تعود بعدها للحياة، وإما دائما فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد .. وكل أولئك وفق سنة اللّه التي لا تتبدل، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلما ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها، والشريعة التي أنزلها، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه ..
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي، إلى موقف المهدّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار: «قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً، ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟» .. لا يجديكم في رده الصحو .. ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ وهو عذاب لا خير لهم في استعجاله على كل حال.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (6/ 1026)
(1/88)
وبينما هم في مفاجأة السؤال الذي ينقل مشاعرهم إلى تصور الخطر وتوقعه، تفجؤهم الآية التالية بوقوعه فعلا .. وهو لم يقع بعد .. ولكن التصور القرآني يرسمه واقعا، ويغمر به المشاعر، ويلمس به الوجدان: «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟!».
فكأنما قد وقع. وكأنما قد آمنوا به، وكأنما يخاطبون بهذا التبكيت في مشهد حاضر يشهدونه الآن! وتتمة المشهد الحاضر: «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ؟» ..
وهكذا نجدنا مع السياق في ساحة الحساب والعذاب، وقد كنا منذ لحظات وفقرات في الدنيا نشهد خطاب اللّه لرسوله عن هذا المصير!!
وختام هذه الجولة، هو استنباء القوم للرسول: إن كان هذا الوعيد حقا. فهم مزلزلون من الداخل تجاهه يريدون أن يستوثقوا وليس بهم من يقين. والجواب بالإيجاب حاسم مؤكد بيمين: «وَيَسْتَنْبِئُونَكَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .. «إِي وَرَبِّي» .. الذي أعرف قيمة ربوبيته فلا أقسم به حانثا، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين .. «إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .. ما أنتم بمعجزين أن يأتي بكم، وما أنتم بمعجزين أن يحاسبكم، وأن يجازيكم." (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3/ 1797)
(1/89)
الباب الثاني
الموت في السنَّة النبوية
المبحث الأول
الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ، فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا " فَتَبِعَهُ رَجُلٌ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ، فِيمَا يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ، عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا " (1)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا " فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى المُشْرِكِينَ، حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْرِعًا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: " وَمَا ذَاكَ " قَالَ: قُلْتَ لِفُلاَنٍ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ " وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ المُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لاَ يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ المَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: " إِنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " (2)
__________
(1) - صحيح البخارى (6493)
(2) - صحيح البخارى (6607)
(1/91)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ " (1)
وٍعَنْ سَهْلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ " (2)
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَمَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَمَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ تَحَوَّلَ فَعَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمَاتَ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ (3).
وعن عَبْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ» (4).
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيَقُولُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
__________
(1) - مسند أحمد (23529) صحيح
(2) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (5667) صحيح
(3) - الِاعْتِقَادُ لِلْبَيْهَقِيِّ (141) صحيح
(4) - صحيح البخارى (3332)
(1/92)
الْجَنَّةِ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ. (1)
وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَال حَسَنَهَا وَسَيِّئَهَا أَمَارَاتٌ وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ، وَأَنَّ مَصِير الْأُمُور فِي الْعَاقِبَة إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ الْقَضَاء وَجَرَى بِهِ الْقَدَر فِي الِابْتِدَاء قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ.
وَفِيهِ أَنَّ السَّعِيد قَدْ يَشْقَى وَأَنَّ الشَّقِيَّ قَدْ يَسْعَدُ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَال الظَّاهِرَة وَأَمَّا مَا فِي عِلْم اللَّه - تَعَالَى - فَلَا يَتَغَيَّرُ. وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَار بِالْخَاتِمَةِ. قَالَ اِبْنُ أَبِي جَمْرَةَ نَفَعَ اللَّه بِهِ: هَذِهِ الَّتِي قَطَعَتْ أَعْنَاق الرِّجَال مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ حُسْن الْحَال لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يُخْتَم لَهُمْ. وَفِيهِ أَنَّ عُمُوم مِثْل قَوْله تَعَالَى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُم أَجْرَهُمْ) الْآيَة مَخْصُوص بِمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ عَمِلَ السَّعَادَة وَخُتِمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ فَهُوَ فِي طُولِ عُمُره عِنْد اللَّه شَقِيٌّ وَبِالْعَكْسِ وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُخَالِفُهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَؤُولَ إِلَى هَذَا، وَقَدْ اُشْتُهِرَ الْخِلَاف فِي ذَلِكَ بَيْن الْأَشْعَرِيَّة وَالْحَنَفِيَّة وَتَمَسَّكَ الْأَشَاعِرَة بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيث وَتَمَسَّكَ الْحَنَفِيَّة بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) وَأَكْثَرَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الِاحْتِجَاجَ لِقَوْلِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَأَنَّ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه لَا يَتَغَيَّر وَلَا يَتَبَدَّل، وَأَنَّ الَّذِي يَجُوز عَلَيْهِ التَّغْيِير وَالتَّبْدِيل مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ عَمَلِ الْعَامِلِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّق ذَلِكَ بِمَا فِي عِلْم الْحَفَظَةِ وَالْمُوَكَّلِينَ بِالْآدَمِيِّ فَيَقَع فِيهِ الْمَحْو وَالْإِثْبَات كَالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُر وَالنَّقْص، وَأَمَّا مَا فِي عِلْم اللَّه فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إِثْبَاتَ وَالْعِلْم عِنْد اللَّه. وَفِيهِ الْحَثُّ الْقَوِيُّ عَلَى الْقَنَاعَة، وَالزَّجْر الشَّدِيد عَنْ الْحِرْص؛ لِأَنَّ الرِّزْق إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ تَقْدِيره لَمْ يُغْنِ التَّعَنِّي فِي طَلَبِهِ وَإِنَّمَا شُرِعَ الِاكْتِسَاب؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَة الْأَسْبَاب الَّتِي اِقْتَضَتْهَا الْحِكْمَة فِي دَارِ الدُّنْيَا. وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَال سَبَب دُخُول الْجَنَّة أَوْ النَّار،وَأَمَّا مَا قَالَ عَبْد الْحَقّ فِي " كِتَاب الْعَاقِبَة " إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ لَا يَقَع لِمَنْ اِسْتَقَامَ بَاطِنُهُ وَصَلُحَ ظَاهِرُهُ وَإِنَّمَا يَقَع لِمَنْ فِي طَوِيَّتِهِ فَسَادٌ أَوْ اِرْتِيَابٌ وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِر وَالْمُجْتَرِئِ عَلَى الْعَظَائِمِ فَيَهْجُم عَلَيْهِ الْمَوْت بَغْتَةً فَيَصْطَلِمُهُ الشَّيْطَانُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 14 / ص 48) (6174) صحيح
(1/93)
عِنْد تِلْكَ الصَّدْمَة، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ الْخَاتِمَة نَسْأَل اللَّه السَّلَامَة، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْأَقْدَار غَالِبَةٌ، وَالْعَاقِبَةُ غَائِبَةٌ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ بِظَاهِرِ الْحَال، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ الدُّعَاء بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّين وَبِحُسْنِ الْخَاتِمَة (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 437)
(1/94)
المبحث الثاني
موت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
موت آدم عليه السلام
عَنْ عُتَيٍّ، قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا بِالْمَدِينَةِ يَتَكَلَّمُ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَقَالَ: " إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَعَهُمْ أَكْفَانُهُ وَحَنُوطُهُ، وَمَعَهُمُ الْفُؤُوسُ وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ، مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ، أَوْ مَا تُرِيدُونَ وَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟، قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ فَاشْتَهَى مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، قَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ قَضَاءُ أَبِيكُمْ. فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ، فَلَاذَتْ بِآدَمَ، فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي فَإِنِّي إِنَّمَا أُوتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ مَلَائِكَةِ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَقَبَضُوهُ، وَغَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَحَنَّطُوهُ، وَحَفَرُوا لَهُ وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَصَلَّوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلُوا قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ، ثُمَّ خَرَجُوا مِنَ الْقَبْرِ، ثُمَّ حَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ " (1)
وَعنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَمَّا تُوُفِّيَ آدَمُ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمَاءِ وِتْرًا، وَلُحِدَ لَهُ، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّةُ آدَمَ وَوَلَدِهِ " (2)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ طِوَالًا مِثْلَ النَّخْلَةِ السَّحُوقِ، سِتِّينَ ذِرَاعًا. وَكَانَ طَوِيلَ الشَّعْرِ، مُوَارِيًا الْعَوْرَةَ. فَلَمَّا أَصَابَ الْخَطِيئَةَ بَدَتْ لَهُ سَوْأَتُهُ، فَخَرَجَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ، فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا آدَمُ أَفِرَارًا مِنِّي؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ حَيَاءً مِمَّا جِئْتُ بِهِ. قَالَ: فَأَهْبَطَهُ اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ , فَلَمَّا حَضَرَتْ وَفَاتُهُ، بَعَثَ اللَّهُ بِكَفَنِهِ وَحَنُوطِهِ مِنَ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا رَأَتْ حَوَّاءُ الْمَلَائِكَةَ ذَهَبَتْ لِتَدْخُلَ دُونَهُمْ، فَقَالَ: خَلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ رُسُلِ رَبِّي، فَمَا لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
__________
(1) - مسند أحمد (21841) صحيح موقوف
(2) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (8497) حسن
(1/95)
إِلَّا مِنْ قِبَلِكِ وَمَا أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِيكِ. فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ وِتْرًا، وَكَفَّنُوهُ فِي وِتْرٍ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَلْحَدُوا لَهُ، وَدَفَنُوهُ، وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ وَلَدِ آدَمَ مِنْ بَعْدِهِ " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلا مِنْهُمْ، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ فِي آخِرِ الأُمَمِ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَالَ: إِذًا يُكْتَبُ وَيُخْتَمُ وَلا يُبَدَّلُ، فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ؟ فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ. (2)
فجحد آدم أي ذلك لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجيء ملك الموت له قاله ابن حجر، فجحدت ذريته لأن الولد سر أبيه، ونسي آدم إشارة إلى أن الجحد كان نسيانا أيضا، إذ لا يجوز جحده عنادا، فأكل من الشجرة قيل نسي أن النهي عن جنس الشجرة أو الشجرة بعينها فأكل من غير المعينة،وكان النهي عن الجنس والله أعلم، فنسيت ذريته،ولذا قيل:أول الناس أول الناسي وخطأ بفتح الطاء، أي في اجتهاده من جهة التعيين والتخصيص وخطأت ذريته، والأظهر أن خطأ بمعنى عصى لقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (121) سورة طه، ولحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" (3).
__________
(1) - الرِّقَّةُ وَالْبُكَاءُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (301) فيه ضعف
(2) - سنن الترمذى (3356) و مسند أبي يعلى الموصلي (6654) صحيح
النسمة: النفس والروح = الوبيص: البريق، (فَجَحَدَ آدَمُ) أَيْ ذَلِكَ لِأَنْ كَانَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ حَالَةَ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) لِأَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ
(3) - المستدرك للحاكم (7617) صحيح
(1/96)
وفي الحديث إشارةٌ إلى حديث أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ فِيهِ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ.» (1).
وابن آدم وارد على سبيل الاستطراد وإن ابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد والنسيان والخطأ إلا من عصمه الله تعالى. (2)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح مسلم (2459) و صحيح ابن حبان - (ج 8 / ص 25) (3229) -يشب: يقوى -يهرم: يكبر فى السن
(2) - انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 1 / ص 431)
(1/97)
موسى وملك الموت عليهما السلام
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " أُرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ المَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ "، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ " (1)
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ قَالَ فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا، قَالَ فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، رَبِّ أَمِتْنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يُونُسُ: رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا، قَالَ: فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَأَتَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى، فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ - وَقَالَ يُونُسُ: لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ - فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ - أَوْ مَسْكِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: فَقَالَ مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ:
__________
(1) - صحيح البخارى (1339) و صحيح مسلم (6297)
(2) - صحيح مسلم (6298)
(1/98)
الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ، قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ، قَالَ يُونُسُ: فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ عَيْنَهُ فَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً " (1)
وَأَمَّا سُؤَاله الْإِدْنَاء مِنْ الْأَرْض الْمُقَدَّسَة فَلِشَرَفِهَا وَفَضِيلَة مَنْ فِيهَا مِنْ الْمَدْفُونِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ. قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وَإِنَّمَا سَأَلَ الْإِدْنَاء، وَلَمْ يَسْأَلْ نَفْس بَيْت الْمَقْدِس، لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون قَبْره مَشْهُورًا عِنْدهمْ فَيَفْتَتِن بِهِ النَّاس وَفِي هَذَا اِسْتِحْبَاب الدَّفْن فِي الْمَوَاضِع الْفَاضِلَة وَالْمَوَاطِن الْمُبَارَكَة، وَالْقُرْب مِنْ مَدَافِن الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْض الْمَلَاحِدَة هَذَا الْحَدِيث، وَأَنْكَرَ تَصَوُّره، قَالُوا كَيْف يَجُوزُ عَلَى مُوسَى فَقْء عَيْن مَلَك الْمَوْت؟ قَالَ: وَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُونَ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَذِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ اللَّطْمَة، وَيَكُون ذَلِكَ اِمْتِحَانًا لِلْمَلْطُومِ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى يَفْعَلُ فِي خَلْقه مَا شَاءَ، وَيَمْتَحِنُهُمْ بِمَا أَرَادَ. وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا عَلَى الْمَجَاز، وَالْمُرَاد أَنَّ مُوسَى نَاظَرَهُ وَحَاجَّهُ فَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، وَيُقَالُ: فَقَأَ فُلَان عَيْن فُلَان إِذَا غَالَبَهُ بِالْحُجَّةِ، وَيُقَالُ: عَوَرْت الشَّيْء إِذَا أَدْخَلْت فِيهِ نَقْصًا قَالَ: وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَرَدَّ اللَّه عَيْنه " فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ رَدّ حُجَّته كَانَ بَعِيدًا. وَالثَّالِث أَنَّ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَك مِنْ عِنْد اللَّه، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَدَافَعَهُ عَنْهَا، فَأَدَّتْ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ، لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَة (صَكَّهُ)، وَهَذَا جَوَاب الْإِمَام أَبِي بَكْر بْن خُزَيْمَةَ وَغَيْره مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْء عَيْنه، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ اِعْتَرَفَ مُوسَى حِين جَاءَهُ ثَانِيًا بِأَنَّهُ مَلَك الْمَوْت، فَالْجَوَاب أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَك الْمَوْت، فَاسْتَسْلَمَ بِخِلَافِ الْمَرَّة الْأُولَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَلَطَمَهُ مُوسَى فَفَقَأَ عَيْنَهُ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ: إِنْ شِئْتَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَكَ بِكُلِّ مَا
__________
(1) - مسند أحمد (11193) حسن صحيح
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 8 / ص 103)
(1/99)
غَطَّتْ يَدُكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ. قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهُ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةَ حَجَرٍ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ كُنْتُ ثَمَّتَ لَأَرَيْتُكُمْ مَوْضِعَ قَبْرِهِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ " قَالَ مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ ".
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: " إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَلِّمًا لِخَلْقِهِ فَأَنْزَلَهُ مَوْضِعَ الْإِبَانَةِ عَنْ مُرَادِهِ، فَبَلَّغَ - صلى الله عليه وسلم - رِسَالَتَهُ، وَبَيَّنَ عَنْ آيَاتِهِ بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمُفَسَّرَةٍ عَقَلَهَا عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَهَذَا الْخَبَرُ مِنَ الْأخْبَارِ الَّتِي يُدْرِكُ مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَحْرُمِ التَّوْفِيقَ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَذَاكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَرْسَلَ مَلَكَ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى رِسَالَةَ ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، أَمْرَ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ لَا أَمْرًا يُرِيدُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا إِمْضَاءَهْ كَمَا أَمَرَ خَلِيلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ بِذِبْحِ ابْنِهِ أَمْرَ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، دُونَ الْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا إِمْضَاءَهُ، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَدَاهُ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ. وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَلَائِكَةَ إِلَى رُسُلِهِ فِي صُوَرٍ لَا يَعْرِفُونَهَا كَدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَسُولِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ حَتَّى أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، وَكَمَجِيءِ جِبْرِيلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُؤَالِهِ إِيَّاهُ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى وَلَّى. فَكَانَ مَجِيءُ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي كَانَ يَعْرِفُهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى غَيُورًا فَرَأَى فِي دَارِهِ رَجُلًا لَمْ يَعْرِفْهُ، فَشَالَ يَدَهُ فَلَطَمَهُ فَأَتَتْ لَطْمَتُهُ عَلَى فَقْءِ عَيْنِهِ الَّتِي فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَتَصَوَّرُ بِهَا لَا الصُّورَةِ الَّتِي خَلْقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَ الْمُصَرَّحُ عَنْ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَيْثُ قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ "، فَذَكَرَ الْخَبَرَ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: " هَذَا وَقْتُكَ وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ ": كَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ بَعْضَ شَرَائِعِنَا قَدْ تَتَّفِقُ بِبَعْضِ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِنَا أَنَّ مَنْ فَقَأَ عَيْنَ الدَّاخِلِ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوِ النَّاظِرِ إِلَى بَيْتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جُنَاحٌ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَا حَرَجٍ عَلَى مُرْتَكِبِهِ، لِلْأَخْبَارِ الْجَمَّةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ الَّتِي أَمْلَيْنَاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِنَا: كَانَ جَائِزًا اتِّفَاقُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِشَرِيعَةِ مُوسَى، بِإِسْقَاطِ الْحَرَجِ عَمَّنْ فَقَأَ عَيْنَ الدَّاخِلِ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ مُوسَى هَذَا الْفِعْلِ مُبَاحًا لَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ، فَلَمَّا
(1/100)
رَجَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ مُوسَى فِيهِ، أَمَرَهُ ثَانِيًا بِأَمْرِ آخَرَ أَمْرَ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ. كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، إِذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنْ شِئْتَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَكَ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ يَدُكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، فَلَمَّا عَلِمَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ جَاءَهُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، طَابَتْ نَفْسُهُ بِالْمَوْتِ، وَلَمْ يَسْتَمْهِلْ، وَقَالَ: فَالْآنَ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَرَّةُ الْأُولَى عَرَفَهُ مُوسَى أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، لَاسْتَعْمَلَ مَا اسْتَعْمَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُخْرَى عِنْدَ تَيَقُّنِهِ وَعِلْمِهِ بِهِ ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، وَرُعَاةُ اللَّيْلِ يَجْمَعُونَ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَرْوُونَ مَا لَا يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُونَ بِمَا يُبْطِلُهُ الْإِسْلَامُ جَهْلًا مِنْهُ لِمَعَانِي الْأَخْبَارِ، وَتَرْكَ التَّفَقُّهِ فِي الْآثَارِ مُعْتَمِدًا مِنْهُ عَلَى رَأْيِهِ الْمَنْكُوسِ وَقِيَاسِهِ الْمَعْكُوسِ (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُكَ سَنَةً. قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ مِنْ قَرِيبٍ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ، أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ".
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: " هَذِهِ اللَّفْظَةُ " أَجِبْ رَبَّكَ " قَدْ تُوهِمُ مَنْ لَمْ يَتَبَحَّرْ فِي الْعِلْمِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي قُلْنَاهُ لِلْخَبَرِ مَدْخُولٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِ مَلَكِ الْمَوْتِ لِمُوسَى " أَجِبْ رَبَّكَ " بَيَانٌ أَنَّهُ عَرَفَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا شَالَ يَدَهُ وَلَطَمَهُ قَالَ لَهُ: " أَجِبْ رَبَّكَ " تَوَهَّمَ مُوسَى أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ دُونَ أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: " أَجِبْ رَبَّكَ " الْكَشْفَ عَنْ قَصْدِ الْبِدَايَةِ فِي نَفْسِ الِابْتِلَاءِ، وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي أُرِيدَ مِنْهُ " (2)
__________
(1) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (6329) صحيح
(2) - صَحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ (6330) صحيح
(1/101)
وعَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: حدثنا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِيَقْبِضَ نَفْسَهُ فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ قَالَ: رَبِّ أَتَيْتُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَصَنَعَ هَذَا بِعَيْنِي قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ائْتِ عَبْدِي فَخَبِّرْهُ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدِهِ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدُهُ مِنْ شَعَرٍ فَهُوَ يَعِيشُ بِهَا سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ قَالَ مُوسَى: لَا بَلِ الْآَنَ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ لَا بُدَّ، وَلَكِنْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ قَالَ: فَدُفِنَ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَلَوْ أَنِّي كُنْتُ عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ قَبْرِهِ "
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَوَتِ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَوَضَعُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَصَحَّحُوهُ، وَعَدَّلُوا رِوَايَتَهُ، وَاسْتَفْظَعْهُ قَوْمٌ فَجَحَدُوهُ، وَأَنْكَرُوهُ فَرَدُّوهُ لِضِيقِ صُدُورِهِمْ، وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَدْخَلُوهُ فِي الصِّحَاحِ حَتَّى رَضَوْا إِسْنَادَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالرِّجَالِ، وَالْحَدِيثُ إِذَا صَحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَبُولُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْآَحَادِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يُوجِبُ الْعَمَلَ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ لِشُهْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَعَدَالَةِ رُؤْيَتِهِ وَصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، وَمِمَّا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّهُ وَإِنْكَارُهُ وَدَفْعُهُ، فَإِنَّ فِي رَدِّهِ تَكْذِيبَ الْأَئِمَّةِ وَجَرْحَ عُدُولِ الْأَئِمَّةِ. وَسَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ: لِعُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ الْمُشَابَهَةِ مَذْهَبَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِهَا فَرْضٌ كَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآَنِ حِينَ يَقُولُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَقَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْمُشَابَهَةِ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: فَمِثْلُهُ الْمُتَشَابِهُ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا حُجِبَ عَنَّا عِلْمُ تَأْوِيلِهِ آَمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمَا قَالَ، وَوَكَلْنَا عِلْمَ تَأْوِيلِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (316) صحيح
(1/102)
موت النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِى، كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْىُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَرْحَبًا بِابْنَتِى». ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا، فَبَكَتْ فَقُلْتُ لَهَا لِمَ تَبْكِينَ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ فَقُلْتُ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ. فَقَالَتْ مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قُبِضَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ أَسَرَّ إِلَىَّ «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِى الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِى الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِى، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِى لَحَاقًا بِى». فَبَكَيْتُ فَقَالَ «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِى سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ». فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ (1).
وفي هذا الحديث دليل قاطع وإشارة واضحة إلى اقتراب أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة, إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختص ابنته فاطمة -رضي الله عنها- بعلم ذلك، ولم يعلم به المسلمون إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ يَقُولُ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ , فَإِنِّي لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ حَجَّةً أُخْرَى. (2)
قال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته - صلى الله عليه وسلم -، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع (3)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ». فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقُلْتُ فِى نَفْسِى مَا يُبْكِى هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. قَالَ «يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ
__________
(1) - صحيح البخارى (3623و3634)
(2) - مسند الشاميين (908) صحيح
(3) - انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 45).
(1/103)
تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِى لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِى الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِى بَكْرٍ» (1).
قال الحافظ ابن حجر: وكأن أبا بكر فهم الرمز الذي أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه؛ فلذلك بكى. (2)
وعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: رَأَيْتُ فِيَ الْمَنامِ كَأَنَّ الأَرْضَ تُنْزَعُ إِلَى السَّمَاءِ بِأَشْطَانٍ شِدَادٍ، فَقَصَصْتُ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: ذَاكَ وَفَاةُ ابْنِ أَخِيكَ. (3)
وفي هذا الحديث إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرب وفاته، وفيه صدق رؤيا المؤمن، واستشعار بعض الصحابة وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَنِ، خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَلَّا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا، وَقَبْرِي ". فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا ; لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا، وَحَيْثُ كَانُوا ". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ، وَقَالَ فِي أَحَدِهِمَا: عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنَّ مُعَاذًا، وَقَالَ وَفِيهَا: قَالَ: " لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، الْبُكَاءُ - أَوْ إِنَّ الْبُكَاءَ - مِنَ الشَّيْطَانِ ". (4)
وفي الحديث إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل باقتراب أجله، وأنه يمكن ألا يلقاه بعد عامه هذا، وفيه شدة محبة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبكاؤهم إذا ذكروا فراقه
وعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) - صحيح البخارى (466)
(2) - فتح الباري (7/ 16).
(3) - مسند البزار (1317) صحيح
(4) - أمالي ابن بشران (362) واتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 3 / ص 128) [3006/ 1] ومجمع الزوائد (14238) صحيح
(1/104)
قَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الآخِرَةُ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةُ، فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي، قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، خُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِى سِنِينَ، كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ «إِنِّى بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّى لأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِى هَذَا، وَإِنِّى لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا». قَالَ فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ "، وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ " (3)
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا (4)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب الرُّقْيَة بِالْقُرْآنِ وَبِالْأَذْكَارِ، وَإِنَّمَا رَقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ لِأَنَّهُنَّ جَامِعَات لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلّ الْمَكْرُوهَات جُمْلَة وَتَفْصِيلًا، فَفِيهَا الِاسْتِعَاذَة مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ
__________
(1) - سنن الدارمى (79) ومسند أحمد (16419) حسن
(2) - صحيح البخارى (4042)
(3) - صحيح البخارى (4586)
(4) - صحيح البخارى (5016)
(1/105)
، فَيَدْخُل فِيهِ كُلّ شَيْء، وَمِنْ شَرّ النَّفَّاثَات فِي الْعُقَد، وَمِنْ شَرّ السَّوَاحِر، وَمِنْ شَرّ الْحَاسِدِينَ، وَمِنْ شَرّ الْوَسْوَاس الْخَنَّاس. وَاللَّهُ أَعْلَم. (1).
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ لَهُ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِى الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَتَدْرِى مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ قُلْتُ لاَ. قَالَ هُوَ عَلِىٌّ. وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ «هَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ». وَأُجْلِسَ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ. (2)
وقَالَتْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِى أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِى، فَأَذِنَّ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِى الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ. فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ هَلْ تَدْرِى مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ الَّذِى لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ قُلْتُ لاَ. قَالَ هُوَ عَلِىٌّ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ «هَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّى أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ». قَالَتْ فَأَجْلَسْنَاهُ فِى مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ، حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. قَالَتْ وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ «أَجَلْ إِنِّى أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ». قُلْتُ ذَلِكَ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 332)
(2) - صحيح البخارى (198)
(3) - صحيح البخارى (5714)
(1/106)
أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ «أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» (1).
وعَنْ عَائِشَةَ، دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ " فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى ". ثَلاَثًا، ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي" (2)
وعَنْ عَائِشَةَ أنها كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: " أَنْ نَعَمْ " فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: " أَنْ نَعَمْ " فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ - يَشُكُّ عُمَرُ - فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، يَقُولُ: " لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ " ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: " فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى " حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ" (3)
وعن عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قالت: إِنَّ رَسُولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، يَشُكُّ عُمَرُ - فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِى الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ». ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ «فِى الرَّفِيقِ الأَعْلَى». حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ. (4)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - وَاكَرْبَ أَبَاهُ. فَقَالَ لَهَا «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ». فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهْ،
__________
(1) - صحيح البخارى (5648)
(2) - صحيح البخارى (4438)
(3) - صحيح البخارى (4449)
(4) - صحيح البخارى (6510)
(1/107)
أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَأْسُهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي قَالَتْ فَلَمَّا خَرَجَتْ نَفْسُهُ لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا" (2)
وعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، قَالَ: وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ تُرَابِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا" (3)
قال ابن رجب: ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية.
قال القرطبي مبينا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور:
من أعظم المصائب المصيبة في الدين .. فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن سَابِطٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُ" (4). وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب, وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (5)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رضى الله عنها -
__________
(1) - صحيح البخارى (4462)
(2) - مسند أحمد (24905) صحيح
(3) - مسند أبي يعلى الموصلي (3378) صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 299) (6579) صحيح لغيره
(5) - انظر: تفسير القرطبي (2/ 176).
(1/108)
فَتَيَمَّمَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ بِأَبِى أَنْتَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، لاَ يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَأَخْبَرَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رضى الله عنه - خَرَجَ وَعُمَرُ - رضى الله عنه - يُكَلِّمُ النَّاسَ. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَتَرَكُوا عُمَرَ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَىٌّ لاَ يَمُوتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ حَتَّى تَلاَهَا أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا. (1).
قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجراءة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي - صلى الله عليه وسلم - , فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح. (2)
فرحم الله الصديق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة! وكم من فتنة كان المخرج على يديه! وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر رضي الله عنه! فاعرفوا للصديق حقه، واقدروا له قدره، وأحبوا حبيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فحبه إيمان وبغضه نفاق
وعَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا وَاللَّهِ مَا نَدْرِى أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نُغَسِّلُهُ وَعَلَيْهِ
__________
(1) - صحيح البخارى (1241) - تيمم: قصد -المسجى: المغطى
(2) - انظر: تفسير القرطبي (4/ 222).
(1/109)
ثِيَابُهُ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وَذَقْنُهُ فِى صَدْرِهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لاَ يَدْرُونَ مَنْ هُوَ أَنِ اغْسِلُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ إِلاَّ نِسَاؤُهُ. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نُعِيَ إِلَيْنَا حَبِيبُنَا وَنَبِيُّنَا بِأَبِي هُوَ وَنَفْسِي لَهُ الْفِدَاءُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتٍّ، فَلَمَّا دَنَا الْفِرَاقَ جَمَعَنَا فِي بَيْتِ أُمِّنَا عَائِشَةَ فَنَظَرَ إِلَيْنَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: " مَرْحَبًا بِكُمْ وَحَيَّاكُمُ اللَّهُ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ، آوَاكُمُ اللَّهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ، رَفْعَكُمُ اللَّهُ، هَدَاكُمُ اللَّهُ، رِزْقَكُمُ اللَّهُ، وَفَّقَكُمُ اللَّهُ، سَلَّمَكُمُ اللَّهُ، قَبِلَكُمُ اللَّهُ، أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأُوصِي اللَّهَ بِكُمْ وَأَسْتَخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي وَلَكُمْ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ "، ثُمَّ قَالَ: " قَدْ دَنَا الْأَجَلُ وَالْمُنْقَلَبُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِلَى جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَالْكَأْسِ الْأَوْفَى وَالرَّفِيقِ الْأَعْلَى " ـ أَحْسَبُهُ ـ فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَمَنْ يُغَسِّلُكَ إِذَنْ؟ قَالَ: " رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى "، قُلْنَا: فَفِيمَا نُكَفِّنُكَ؟ قَالَ: " فِي ثِيَابِي هَذِهِ إِنْ شِئْتُمْ، أَوْ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ، أَوْ فِي بَيَاضِ مِصْرَ "، قَالَ: قُلْنَا: فَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْكَ مِنَّا؟ فَبَكَيْنَا وَبَكَى، وَقَالَ: " مَهْلًا غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيِّكُمْ خَيْرًا، إِذَا غَسَّلْتُمُونِي ثُمَّ وَضَعْتُمُونِي عَلَى سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي فَاخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيلُ، ثُمَّ مِيكَائِيلُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ إِسْرَافِيلُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ مَلَكُ الْمَوْتِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ جُنُودِهِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهَا، ثُمَّ ادْخُلُوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَلَا تُؤْذُونِي بِبَاكِيَةٍ ـ أَحْسَبُهُ قَالَ ـ: وَلَا صَارِخَةٍ وَلَا رَانَّةٍ، وَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ أَنْتُمْ بَعْدَ، وَاقْرَءُوا أَنْفُسَكُمْ مِنِّي السَّلَامَ، وَمَنْ غَابَ مِنْ إِخْوَانِي فَأَبْلِغُوهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَمَنْ دَخَلَ مَعَكُمْ فِي دِينِكُمْ بَعْدِي فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ
__________
(1) - سنن أبى داود (3143) حسن
(1/110)
أَنِّي أَقْرَأُ السَّلَامَ ـ أَحْسَبُهُ قَالَ ـ عَلَيَّ وَعَلَى كُلِّ مَنْ تَابَعَنِي عَلَى دِينِي مِنْ يَوْمِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قُلْنَا: يَا رَسُولِ اللَّهِ، - صلى الله عليه وسلم -، فَمَنْ يُدْخِلُكَ قَبْرَكَ مِنَّا؟ قَالَ: " رِجَالُ أَهْلِ بَيْتِي مَعَ مَلَائِكَةٍ كَثِيرَةٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ " (1)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الْبَحْرُ الزَّخَّارُ مُسْنَدُ الْبَزَّارِ (1790) و الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ (1121) والْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (4451) وحِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ4/ 198 (5278) والطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ2/ 197 (1981) وإتحاف السادة المتقين 10/ 286 و 290 و المجمع 9/ 25 ودلائل النبوة 7/ 232 والبداية والنهاية 5/ 253 حديث حسن لغيره
قال البزار: وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ رُوِيَ عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَأَسَانِيدُهَا، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُتَقَارِبَةٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ لَمْ يَسْمَعْ هَذَا مِنْ مُرَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْ مُرَّةَ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرُ مُرَّةَ.
ووهم الذهبي فحكم بوضعه لوجود عبد الملك بن عبد الرحمن ففاته أنه قد توبع عند طب وسعد وغيرهما
(1/111)
المبحث الثالث
من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه.
عن عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِىٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ». فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِى غُشِىَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى». فَقُلْتُ إِذًا لاَ يَخْتَارُنَا. وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ قَالَتْ فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» (1).
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» (2).
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَذَاكَ كَرَاهِيَتُنَا لِقَاءَ اللهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لاَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ فَبُشِّرَ بِمَا أَمَامَهُ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ، وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ، فَبُشِّرَ بِمَا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. (3)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ الْبُدَاءَة بِأَهْلِ الْخَيْر فِي الذِّكْر لِشَرَفِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَهْل الشَّرِّ أَكْثَرَ وَفِيهِ أَنَّ الْمُجَازَاةَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ قَابَلَ الْمَحَبَّةَ بِالْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةَ بِالْكَرَاهَةِ وَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ اللِّقَاءَ أَعَمُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ
__________
(1) - صحيح البخارى (4463)
(2) - صحيح البخارى (6507)
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 279) (3009) صحيح
(1/112)
وَيَحْتَمِل عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْله " لِقَاءَ اللَّهِ " حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لِقَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَنَحْو ذَلِكَ وَوَجْهُ الْبُعْدِ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِمُقَابِلِهِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُقَلَاءِ لَا يَكْرَهُ لِقَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ بَلْ كُلُّ مَنْ يَكْرَهُ الْمَوْتَ إِنَّمَا يَكْرَهُهُ خَشْيَةَ أَنْ لَا يَلْقَى ثَوَابَ اللَّهِ إِمَّا لِإِبْطَائِهِ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِالشُّغْلِ بِالتَّبَعَاتِ وَإِمَّا لِعَدَمِ دُخُولهَا أَصْلًا كَالْكَافِرِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُحْتَضِرَ إِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ السُّرُورِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ بُشِّرَ بِالْخَيْرِ وَكَذَا بِالْعَكْسِ. وَفِيهِ أَنَّ مَحَبَّةَ لِقَاءِ اللَّهِ لَا تَدْخُلُ فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ مَعَ عَدَم تَمَنِّي الْمَوْت كَأَنْ تَكُون الْمَحَبَّةُ حَاصِلَةً لَا يَفْتَرِقُ حَالُهُ فِيهَا بِحُصُولِ الْمَوْتِ وَلَا بِتَأَخُّرِهِ وَأَنَّ النَّهْي عَنْ تَمَنِّي الْمَوْت مَحْمُول عَلَى حَالَة الْحَيَاة الْمُسْتَمِرَّة وَأَمَّا عِنْد الِاحْتِضَار وَالْمُعَايَنَة فَلَا تَدْخُل تَحْت النَّهْي بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة. وَفِيهِ أَنَّ فِي كَرَاهَة الْمَوْت فِي حَال الصِّحَّة تَفْصِيلًا فَمَنْ كَرِهَهُ إِيثَارًا لِلْحَيَاةِ عَلَى مَا بَعْد الْمَوْت مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ كَرِهَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ كَأَنْ يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ بِالْأُهْبَةِ بِأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ التَّبِعَاتِ وَيَقُومَ بِأَمْرِ اللَّهِ كَمَا يَجِبُ فَهُوَ مَعْذُورٌ لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى أَخْذِ الْأُهْبَةِ حَتَّى إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَا يَكْرَهُهُ بَلْ يُحِبُّهُ لِمَا يَرْجُو بَعْدَهُ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِيهِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ مِنْ الْأَحْيَاء وَإِنَّمَا يَقَع ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْد الْمَوْتِ أَخْذًا مِنْ قَوْله " وَالْمَوْتُ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللِّقَاء أَعَمُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَإِذَا اِنْتَفَى اللِّقَاءُ اِنْتَفَتْ الرُّؤْيَةُ وَقَدْ وَرَدَ بِأَصْرَحَ مِنْ هَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمِ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَفِيهِ " وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا ". (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ «أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِى لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا». فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِى ثُمَّ قَالَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَاجْعَلْنِى مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى». قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى. (2)
__________
(1) -فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 348)
(2) - صحيح مسلم (5836)
(1/113)
فِيهِ اِسْتِحْبَاب مَسْح الْمَرِيض بِالْيَمِينِ، وَالدُّعَاء لَهُ، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة صَحِيحَة جَمَعْتهَا فِي كِتَاب الْأَذْكَار، وَهَذَا الْمَذْكُور هُنَا مِنْ أَحْسَنهَا. (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 331)
(1/114)
المبحث الرابع
لمثل هذا فأعدوا
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى جِنَازَةٍ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ جَثَا عَلَى الْقَبْرِ فَاسْتَدَرْتُ فَاسْتَقْبَلْتُهُ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى ثُمَّ قَالَ: «إِخْوَانِى لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا». (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ فَقَالَ «عَلاَمَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلاَءِ». قِيلَ عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ. قَالَ فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَىْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعاً حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ فَجَثَا عَلَيْهِ - قَالَ - فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لأَنْظُرَ مَا يصْنَعُ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا قَالَ «أَىْ إِخْوَانِى لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا» (2)
(أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدُّوا) أي لمثل نزول أحدكم قبره فليعدّ، وكان - صلى الله عليه وسلم - واقفاً على شفير قبر وبكى حتى بلَّ الثرى وإذا كان هذا حال ذاك الجناب الأفخم فكيف حال أمثالنا؟ والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة وأنفاسه محدودة فمطايا الليل والنهار تسرع إليه ولا يتفكر إلى أن يحمل ويسار به أعظم من سير البريد ولا يدري إلى أي الدارين ينقل فإذا نزل به الموت قلق لخراب ذاته وذهاب لذاته لما سبق من جناياته وسلف من تفريطاته حيث لم يقدم لحياته وفيه ندب تذكير الغافل خصوصاً الإخوان ومثلهم الأقارب لأن الغفلة من طبع البشر وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه ومن يحبه بالتذكير، وللّه در حسان رضي اللّه عنه حيث يقول:
تخير خليلاً من فعالك إنما * قرين الفتى في القبر ما كان يفعل
قَالَ أَبُو مُوسَى التَّمِيمِيُّ: تُوُفِّيَتِ النَّوَارُ امْرَأَةُ الْفَرَزْدَقِ، فَخَرَجَ فِي جِنَازَتِهَا وُجُوهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَ فِيهَا الْحَسَنُ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: مَا أَعْدَدْت لِهَذَا الْيَوْمِ يَا أَبَا فِرَاسٍ،
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 369) (6750) حسن
(2) - مسند أحمد (19108) حسن
(1/115)
قَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُنْذُ، ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالَ: فَلَمَّا دُفِنَتْ قَامَ عَلَى قَبْرِهَا، فَقَالَ:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إنْ لَمْ يُعَافِنِي ... أَشَدُّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلاَدِ دارم مَنْ مَشَى ... إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلاَدَةِ أَزْرَقَا (1)
وعَنْ أَبَانَ؛ قَالَ: خَرَجْنَا فِي جِنَازَةِ النَّوَّارِ بِنْتِ أَعْيُنٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْفَرَزْدَقِ، وَفِيهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّرِيقِ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! تَدْرِي مَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: فِي هَذِهِ الْجَنَازَةِ خَيْرُ النَّاسِ وَشَرُّ النَّاسِ. قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّكَ خَيْرُ النَّاسِ، وَإِنِّي شَرُّ النَّاسِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَسْتُ بِخَيْرِ النَّاسِ وَلا أَنْتَ بِشَرِّ النَّاسِ. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْجَبَّانِ تَقَدَّمَ الْحَسَنُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ؛ قَامَ الْحَسَنُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: يَا أَبَا فِرَاسٍ! مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْمَضْجَعِ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ مُذْ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. فَقَالَ الْحَسَنُ: خُذْهَا مِنْ غَيْرِ فَقِيهٍ. ثُمَّ تَنَحَّى الْحَسَنُ وَجَلَسَ وَاحْتَبَى وَأَحْدَقَ النَّاسُ بِهِ، فَجَاءَ الْفَرَزْدَقُ وَتَخَطَّى النَّاسَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحَسَنِ؛ فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا؛ فَقَالَ:
(أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي ... أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا)
(إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا)
(لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلادِ آدَمَ مَنْ مَشَى ... إِلَى النَّارِ مُحَمَّرَ الْقِلادَةِ أَزْرَقَا)
(يُسَاقُ إِلَى دَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلًا ... سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ لِبَاسًا مُحْرِقَا)
(إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا) (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ الْجَارُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ، مُطَاعًا عَظِيمًا فِي عَشِيرَتِهِ، مُطَاعَ الْأَمْرِ رَفِيعَ الْقَدْرِ، عَظِيمَ الْخَطَرِ، ظَاهِرَ الْأَدَبِ، شَامِخَ
__________
(1) -مصنف ابن أبي شيبة - (14/ 66) (36882) و فيض القدير، شرح الجامع الصغير (3020) والكشكول - (1/ 126)
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (4/ 471) (1689) أبان ضعيف
(1/116)
الْحَسَبِ، بَدِيعَ الْجَمَالِ، حَسَنَ الْفِعَالِ، ذَا مَنَعَةٍ وَمَالٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ ذَوِي الْأَخْطَارِ وَالْأَقْدَارِ، وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْفَصَاحَةِ وَالْبُرْهَانِ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ كالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، عَلَى نَاقَةٍ كَالْفَحْلِ الْفَنِيقِ قَدْ جَنَّبُوا الْجِيَادَ، وَأَعَدُّوا لِلْجِلَادِ، مُجِدِّينَ فِي سَيْرِهِمْ، حَازِمِينَ فِي أَمْرِهِمْ، يَسِيرُونَ ذَمِيلًا، وَيَقْطَعُونَ مِيلًا فَمِيلًا حَتَّى أَنَاخُوا عِنْدَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ الْجَارُودُ عَلَى قَوْمِهِ وَالْمَشَايِخِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، هَذَا مُحَمَّدٌ الْأَغَرُّ، سَيِّدُ الْعَرَبِ، وَخَيْرُ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ، وَوَقَفْتُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَحْسِنُوا عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَأَقِلُّوا عِنْدَهُ الْكَلَامَ. فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْهُمَامُ وَالْأَسَدُ الضِّرْغَامُ، لَنْ نَتَكَلَّمَ إِذَا حَضَرْتَ وَلَنْ نُجَاوِزَ إِذَا أَمَرْتَ، فَقُلْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّا سَامِعُونَ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَإِنَّا تَابِعُونَ. فَنَهَضَ الْجَارُودُ فِي كُلِّ كَمِيٍّ صِنْدِيدٍ، قَدْ دَوَّمُوا الْعَمَائِمَ، وَتَرَدُّوا بِالصَّمَائِمِ، يَجُرُّونَ أَسْيَافَهُمْ وَيَسْحَبُونَ أَذْيَالَهُمْ، يَتَنَاشَدُونَ الْأَشْعَارَ، وَيَتَذَاكَرُونَ مَنَاقِبَ الْأَخْيَارِ، لَا يَتَكَلَّمُونَ طَوِيلًا، وَلَا يَسْكُتُونَ عِيًّا، إِنْ أَمَرَهَمُ ائْتَمَرُوا، وَإِنْ زَجَرَهُمُ ازْدَجَرُوا، كَأَنَّهُمْ أُسْدُ غِيلٍ يَقْدِمُهَا ذُو لَبُؤَةٍ مَهُولٍ حَتَّى مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا دَخَلَ الْقَوْمُ الْمَسْجِدَ، وأَبْصَرَهُمْ أَهْلُ الْمَشْهَدِ، دَلَفَ الْجَارُودُ أَمَامَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحَسَرَ لِثَامَهُ وَأَحْسَنَ سَلَامَهُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ قَطَعَتْ فَدْفَدًا وَآلًا فَآلَا
وَطَوَتْ نَحْوَكَ الصَّحَاصِحَ طُرًّا لَا تَخَالُ الْكَلَالَ فِيكَ كَلَالَا
كُلُّ دَهْمَاءَ يَقْصُرُ الطَّرْفُ عَنْهَا أَرْقَلَتْهَا قِلَاصُنَا إِرْقَالَا
وَطَوَتْهَا الْجِيَادُ تَجْمَحُ فِيهَا بكُمَاةٍ كَأَنْجُمٍ تَتَلَالَا
تَبْتَغِي دَفْعَ بَأْسِ يَوْمٍ عَبُوسٍ أَوْجَلَ الْقَلْبَ ذِكْرُهُ ثُمَّ هَالَا
فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَرَفَعَ مَجْلِسَهُ وَحَبَاهُ وَأَكْرَمَهُ، وَقَالَ: " يَا جَارُودُ، لَقَدْ تَأَخَّرَ بِكَ وَبِقَوْمِكَ الْمَوْعِدُ، وَطَالَ بِكُمُ الْأَمَدُ. قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَكَ قَصْدُهُ، وَعَدِمَ رُشْدَهُ، وَتِلْكَ وَايْمُ اللَّهِ أَكْبَرُ خَيْبَةٍ، وَأَعْظَمُ حَوَبَةٍ، وَالرَّائِدُ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَلَا يَغُشُّ نَفْسَهُ. لَقَدْ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وَنَطَقْتُ بِالصِّدْقِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا واخْتَارَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِيًّا، لَقَدْ وَجَدْتُ وَصْفَكَ
(1/117)
فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَقَدْ بَشَّرَ بِكَ ابْنُ الْبَتُولِ، وَطُولُ التَّحِيَّةِ لَكَ وَالشُّكْرُ لِمَنْ أَكْرَمَكَ وَأَرْسَلَكَ، لَا أَثَرَ بَعْدَ عَيْنٍ، وَلَا شَكَّ بَعْدَ يَقِينٍ. مُدَّ يَدَكَ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَآمَنَ الْجَارُودُ، وَآمَنَ مِنْ قَوْمِهِ كُلُّ سَيِّدٍ، وَسُرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهِمْ سُرُورًا، وَابْتَهَجَ حُبُورًا، وَقَالَ: " يَا جَارُودُ، هَلْ فِي جَمَاعَةِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مَنْ يَعْرِفُ لَنْا قُسًّا؟ قَالَ: كُلُّنَا نَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا مِنْ بَيْنِ قَوْمِي كُنْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ وَأَطْلُبُ خَبَرَهُ كَانَ قُسٌّ سِبْطًا مِنْ أَسْبَاطِ الْعَرَبِ، صَحِيحَ النَّسَبِ، فَصِيحًا إِذَا خَطَبَ، ذَا شَيْبَةٍ حَسَنَةٍ عُمِّرَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، يَتَقَفَّرُ الْقِفَارَ، لَا تُكِنُّهُ دَارٌ، وَلَا يُقِرُّهُ قَرَارٌ، يَتَحَسَّى فِي تَقَفُّرِهِ بَيْضَ النَّعَامِ، وَيَأْنَسُ بِالْوَحْشِ وَالْهَوَامِّ، يَلْبَسُ الْمُسُوحَ وَيَتْبَعُ السُّيَّاحَ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ، لَا يَفْتُرُ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ، مُقِرٌّ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، تُضْرَبُ بِحِكْمَتِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُكْشَفُ بِهِ الْأَهْوَالُ، وَتَتْبَعُهُ الْأَبْدَالُ. أَدْرَكَ رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ سَمْعَانَ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَأَلَّهَ مِنَ الْعَرَبِ وَأَعْبَدُ مَنْ تَعَبَّدَ فِي الْحِقَبِ، وَأَيْقَنَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَحَذَّرَ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ وَالْمَآبِ، وَوَعَظَ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْفَوْتِ، الْحَسَنُ الْأَلْفَاظِ، الْخَاطِبُ بِسُوقِ عُكَاظَ، الْعَالِمُ بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ، وَيَابِسٍ وَرَطْبٍ، وَأُجَاجٍ وَعَذْبٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَالْعَرَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُقْسِمُ بِالرَّبِ الَّذِي هُوَ لَهُ لَيَبْلُغَنَّ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَلَيُوَفَّيَنَّ كُلُّ عَامَلٍ عَمَلَهُ , ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
هَاجَ لِلْقَلْبِ مِنْ جَوَاهُ ادِّكَارُ وَلَيَالٍ خِلَالَهُنَّ نَهَارُ
وَنُجُومٌ يَحُثُّهَا قَمَرُ اللَّيْلِ وَشَمْسٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُدَارُ
ضَوْءُهَا يَطْمِسُ الْعُيُونَ وَرِعَادٌ شَدِيدٌ فِي الْخَافِقَيْنِ مُطَارُ
وَغُلَامٌ وَأَشْمَطٌ وَرَضِيعٌ كُلُّهُمْ فِي التُّرَابِ يَوْمًا يُزَارُ
وَقُصُورٌ مُشَيَّدَةٌ حَوَتِ الْخَيْرَ وَأُخْرَى خَلَتْ فَهُنَّ قِفَارُ
وَكَثِيرٌ مِمَّا يُقَصِّرُ عَنْهُ جَوْسَةُ النَّاظِرِ الَّذِي لَا يَحَارُ
وَالَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ دَلَّ عَلَى اللَّهِ نُفُوسًا لَهَا هُدًى وَاعْتِبَارُ
فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " عَلَى رِسْلِكَ يَا جَارُودُ، فَلَسْتُ أَنْسَاهُ بِسُوقِ عُكَاظَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُونَقٍ، مَا أَظُنُّ أَنِّي أَحْفَظُهُ، فَهَلْ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ
(1/118)
وَالْأَنْصَارِ مَنْ يَحْفَظُ لَنَا مِنْهُ شَيْئًا؟ فَوَثَبَ أَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَحْفَظُهُ، وَكُنْتُ حَاضِرًا ذَلِكَ الْيَوْمَ بِسُوقِ عُكَاظٍ حِينَ خَطَبَ فَأَطْنَبَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَعُوا، فَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتْ، وَمَنْ مَاتَ فَاتْ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتْ، مَطَرٌ وَنَبَاتْ، وَأَرْزَاقٌ وَأَقْوَاتْ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتْ، وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتْ، جَمِيعٌ وَأَشْتَاتْ، وَآيَاتٌ بَعْدَ آيَاتْ. إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا، لَيْلٌ دَاجْ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجْ وَأَرْضٌ ذَاتُ رِتَاجْ وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجْ. مَالِيَ أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا؟ أَمْ تُرِكُوا هُنَاكَ فَنَامُوا؟ أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا حَقًّا لَا حَانِثًا فِيهِ وَلَا آثِمًا إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، ونَبِيًّا قَدْ حَانَ حِينُهُ، وَأَظَلَّكُمْ أَوَانُهُ، وَأَدْرَكَكُمْ إِبَّانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ فَهَدَاهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ , ثُمَّ قَالَ: تَبًّا لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ، أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ؟ وَأَيْنَ الْمَرِيضُ وَالْعُوَّادُ؟ وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ؟ أَيْنَ مَنْ بَنَى وَشَيَّدَ؟ وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ؟ وَغَرَّهُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ؟ أَيْنَ مَنْ بَغَى وَطَغَى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى أَلَمْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالًا، وَأَبْعَدَ مِنْكُمْ آمَالًا، وَأَطْوَلَ مِنْكُمْ آجَالًا؟ طَحَنَهُمُ الثَّرَى بِكَلْكَلِهِ، وَمَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ، فَتِلْكَ عِظَامُهُمْ بَالِيَةٌ، وَبُيُوتُهُمْ خَالِيَةٌ، عَمَرَتْهَا الذِّئَابُ الْعَاوِيَةُ، كَلَّا، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ، لَيْسَ بِوَالدٍ وَلَا مَوْلُودٍ , ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الذَّاهِبينَ الْأُوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِيَ نَحْوَهَا يَمْضِي الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ
لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ جَبَلٍ، ذُو هَامَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَامَةٍ جَسِيمَةٍ، قَدْ دَوَّمَ عَمَامَتَهُ، وَأَرْخَى ذُؤَابَتَهُ، مُنِيفٌ أَنُوفٌ أَحْدَقُ أَجَشُّ الصَّوْتِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ قُسٍّ عَجَبًا، وَشَهِدْتُ مِنْهُ مَرْغَبًا.
(1/119)
فَقَالَ: " وَمَا الَّذِي رَأَيْتَهُ مِنْهُ وَحَفِظْتَهُ عَنْهُ "؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي شَرَدَ مِنِّي كُنْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ وَأَطْلُبُ خَبَرَهُ فِي نَتَائِفَ حَقَائِفَ، ذَاتِ دَعَادِعَ وَزَعَازِعَ، لَيْسَ بِهَا لِلرَّكْبِ مَقِيلٌ، وَلَا لِغَيْرِ الْجِنِّ سَبِيلٌ، وَإِذَا أَنَا بِمَوْئِلٍ مَهُولٍ فِي طَوْدٍ عَظِيمٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا الْبُومُ. وَأَدْرَكَنِي اللَّيْلُ فَوَلِجْتُهُ مَذْعُورًا لَا آمَنُ فِيهِ حَتْفِي، وَلَا أَرْكَنُ إِلَى غَيْرِ سَيْفِي. فَبِتُّ بِلَيْلٍ طَوِيلٍ، كَأَنَّهُ بِلَيْلٍ مَوْصُولٌ، أَرْقُبُ الْكَوْكَبَ، وَأَرْمُقُ الْغَيْهَبَ حَتَّى إِذَا اللَّيْلُ عَسْعَسَ، وَكَادَ الصُّبْحُ أَنْ يَتَنَفَّسَ، هَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الرَّاقِدُ فِي اللَّيْلِ الْأَحَمْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْحَرَمْ
مِنْ هَاشِمٍ أَهْلِ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمْ يَجْلُو دُجُنَّاتِ الدَّيَاجِيَ وَالْبُهَمْ
قَالَ: فَأَدَرْتُ طَرْفِي فَمَا رَأَيْتُ لَهُ شَخْصًا وَلَا سَمِعْتُ لَهُ فَحْصًا، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ فِي دَاجِي الظُّلَمْ أَهْلًا وَسَهْلًا بِكَ مِنْ طَيْفٍ أَلَمْ
بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ فِي لَحْنِ الْكَلِمْ مَاذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ يُغْتَنَمْ؟
قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِنَحْنَحَةٍ، وَقَائِلٍ يَقُولُ: ظَهَرَ النُّورُ، وَبَطَلَ الزُّورُ، وَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحُبُورِ، صَاحِبَ النَّجِيبِ الْأَحْمَرِ، وَالتَّاجِ وَالْمِغْفَرِ، ذَا الْوَجْهِ الْأَزْهَرِ، وَالْحَاجِبِ الْأَقْمَرِ، وَالطَّرْفِ الْأَحْوَرِ، صَاحِبَ قَوْلِ شَهَادَةِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَذَلِكَ مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ أَهْلِ الْمَدَرِ وَالْوَبَرِ , ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ عَبَثْ لَمْ يُخْلِنَا حِينًا سُدًى مِنْ بَعْدِ عِيسَى وَاكْتَرَثْ أَرْسَلَ فِينَا أَحْمَدَ خَيْرَ نَبِيٍّ قَدْ بُعِثْ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ مَا حَجَّ لَهُ رَكْبٌ وَحَثَّ. قَالَ: فَذُهِلْتُ عَنِ الْبَعِيرِ وَاكْتَنَفَنِي السُّرُورُ، وَلَاحَ الصَّبَاحُ، وَاتَّسَعَ الْإِيضَاحُ، فَتَرَكَتُ الْمَوْرَاءَ، وَأَخَذْتُ الْجَبَلَ، فَإِذَا أَنَا بِالْفَنِيقِ يَسْتَنْشِقُ النُّوقَ، فَمَلَكْتُ خِطَامَهُ، وَعَلَوْتُ سَنَامَهُ، فَخَرَجَ طَاعَةً وَهَزَزْتُهُ سَاعَةً حَتَّى إِذَا لَغَبَ , وَذَلَّ مِنْهُ مَا صَعُبَ، وَحَمِيَتِ الْوِسَادَةُ، وَبَرَدَتِ الْمَزَادَةُ، فَإِذَا الزَّادُ قَدْ هَشَّ لَهُ الْفُؤَادُ تَرَكْتُهُ فَتُرِكَ، وَأَذِنْتُ لَهُ فَبَرَكَ، فِي رَوْضَةٍ خَضِرَةٍ , نَضِرَةٍ عَطِرَةٍ، ذَاتِ حَوْذَانَ وَقُرْبَانَ وَعُنْقُرَانَ وَعَبَيْثَرَانَ وَجُلَّى وَأَقَاحٍ وَجَثْجَاثٍ وَبَرَارٍ، وَشَقَائِقَ وَنَهَارٍ , كَأَنَّمَا قَدْ بَاتَ الْجَوُّ بِهَا مَطِيرًا، وَبَاكَرَهَا الْمُزْنُ بُكُورًا، فَخِلَالُهَا شَجَرْ، وَقَرَارُهَا نَهَرْ، فَجَعَلَ يَرْتَعُ أَبًّا، وَأَصِيدُ ضَبًّا حَتَّى إِذَا أَكَلْتُ وَأَكَلْ وَنَهَلْتُ وَنَهَلْ، وَعَلَلْتُ وَعَلْ , حَلَلْتُ عِقَالَهُ،
(1/120)
وَعَلَوْتُ جِلَالَهُ، وَأَوْسَعْتُ مَجَالَهُ، فَاغْتَنَمَ الْحَمْلَةَ وَمَرَّ كَالنَّبْلَةِ، يَسْبِقُ الرِّيحْ، وَيَقْطَعُ عَرْضَ الْفَسِيحْ حَتَّى أَشْرَفَ بِي عَلَى وَادْ وَشَجَرٍ مِنْ شَجَرِ عَادْ مُورِقَةٍ مُونِقَةٍ، قَدْ تَهَدَّلَ أَغْصَانُهَا كَأَنَّمَا بَرِيرُهَا حَبُّ فُلْفُلٍ، فَدَنَوْتُ فَإِذَا أَنَا بِقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ , بِيَدِهِ قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ بِشِعْرٍ، وَهُوَ:
يَا نَاعِيَ الْمَوْتِ وَالْمَلْحُودِ فِي جَدَثٍ عَلَيْهِمُ مِنْ بَقَايَا بَزِّهِمْ خِرَقُ
دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ بِهِمْ فَهُمْ إِذَا أُنْبِهُوَا مِنْ نَوْمِهِمْ فَرِقُوا
حَتَّى يَعُودُوا لِحَالٍ غَيْرِ حَالِهِمُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا مِنْ قَبْلِهِ خُلِقُوا
مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمُ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْمَنْهَجُ الْخَلَقُ
قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، وَإِذَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، وَمَسْجِدٍ بَيْنَ قَبْرَيْنِ، وَأَسَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَلُوذَانِ بِهِ، وَيَتَمَسَّحَانِ بِأَثْوَابِهِ، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْبِقُ صَاحِبَهُ إِلَى الْمَاءِ فَتَبِعَهُ الْآخَرُ وَطَلَبَ الْمَاءَ، فَضَرَبَهُ بِالْقَضِيبِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ حَتَّى يَشْرَبَ الَّذِي وَرَدَ قَبْلَكَ. فَرَجَعَ , ثُمَّ وَرَدَ بَعْدَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَانِ الْقَبْرَانِ؟ فَقَالَ: هَذَانِ قَبْرَا أَخَوَيْنِ لِي كَانَا يَعْبُدَانِ اللَّهَ تَعَالَى مَعِي فِي هَذَا الْمَكَانِ، لَا يُشْرِكَانِ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَأَدْرَكَهُمَا الْمَوْتُ فَقَبَرْتُهُمَا، وَهَأَنَا بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِهِمَا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدِّمُوعِ، فَانْكَبَّ عَلَيْهِمَا وَجَعَلَ يَقُولُ:
خَلِيلَيَّ هُبَّا طَالَمَا قَدْ رَقَدْتُمَا أَجَدَّكُمَا لَا تَقْضِيَانِ كَرَاكُمَا
أَلَمْ تَرَيَا أَنِّي بِسَمْعَانَ مُفْرَدٌ وَمَالِيَ فِيهَا مِنْ خَلِيلٍ سُوَاكُمَا
مُقِيمٌ عَلَى قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ بَارِحًا طَوَالَ اللَّيَالِي أَوْ يُجِيبُ صَدَاكُمَا
أُبَكِّيكُمَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا الَّذِي يَرُدُّ عَلَى ذِي عَوْلَةٍ إِنْ بَكَاكُمَا
أَمِنْ طُولِ نَوْمٍ لَا تُجِيبَانِ دَاعِيًا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعَقَارَ سَقَاكُمَا
كَأَنَّكُمَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَايَةٍ بِرُوحِي فِي قَبْرَيْكُمَا قَدْ أَتَاكُمَا
فَلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لِنَفْسٍ وِقَايَةً لَجُدْتُ بِنَفْسِي أَنْ تَكُونَ فِدَاكُمَا
(1/121)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " رَحِمَ اللَّهُ قُسًّا، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ أُمَّةً وَحْدَهُ " (1)
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (424) وفُنُونُ الْعَجَائِبِ لِأَبِي سَعِيدٍ النَّقَّاشِ (40) وقال البيهقي: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، مُنْقَطِعًا، وَرُوِيَ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِذَا رُوِيَ حَدِيثٌ مِنْ أَوْجُهٍ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا ضَعِيفًا دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
- المنعة: القوة - الجياد: جمع جواد وهو النجيب من الخيل - المناقب: الصفات، وأكثر ما تستعمل في الفضائل وما يحمد من الأفعال -العي: العجز عن التعبير اللفظي بما يفيد المعنى المقصود - حسر: كشف -القلوص: الناقة الشابة القوية - الأمد: الغاية والزمن - وايم الله: أسلوب قسم بالله تعالى وأصلها ايمُن الله - الحوبة: الخطيئة - الأثر: موضع السير - السبط: الجماعة أو الأمة أو القبيلة - الهوام: جمع هامَّة وهي كل ذات سم يقتل، وأيضا ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات - المسوح: جمع مِسْح، وهو كساء غليظ من الشعر - الفتور: الكسل والضعف - الأبدال: الأولياء والعُبَّاد، سُمُّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أُبْدِلَ بآخر - على رسلك: تمهل ولا تعجل - الحِنْث في اليمين: نَقْضُها، والنكث فيها - طوبى: اسم الجنة، وقيل هي شجرة فيها - تبا: هلاكا وخسرانا - الثرى: التراب النَّدِيٌّ، وقيل: هو التراب الذي إِذا بُلَّ يصير طينا -الهام: الرأس - الذُؤَابَة: هي الشَّعرُ المضْفُور من شَعر الرَّأسِ، وذُؤابةُ الشيء أعْلاهُ -الأجش: الذي في صَوْته جُشَّةٌ، وهي شدَّة وغلظ - شرد: نفر وذهب في الأرض وهرب - عسعس: إذا أَقبل بظلامه وإذا أَدبر، فهو من الأَضداد - الطرف: النظر - الكلم: الكلام المختصر المفيد - المزادة: الوعاء الذي يُحمل فيه الماء - الروضة: البستان -القضيب: العود - الأراك: هو شجر معروف له حَمْلٌ كعناقيد العنب، واسمه الكباث بفتح الكاف، وإذا نَضِج يسمى المرْدَ - الفرق: الخوف والفزع - الخلق: القديم البالي -الدنو: الاقتراب - لاذ: لجأ واحتمى - الثكلى: من فقدت ولدها، وثكلتك أمك: دعاء بالفقد والمراد به التعجب
(1/122)
المبحث الخامس
فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله
عَنْ عُبَادَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ، مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، أَيَّهَا شَاءَ» (1).
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِى الْمَوْتِ فَبَكَيْتُ فَقَالَ مَهْلاً لِمَ تَبْكِى فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ لأَشْهَدَنَّ لَكَ وَلَئِنْ شُفِّعْتُ لأَشْفَعَنَّ لَكَ وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ لأَنْفَعَنَّكَ ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلاَّ حَدَّثْتُكُمُوهُ إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ». (2)
وعَنِ الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ لِي: مَهْ، لِمَ تَبْكِي؟ فَوَاللَّهِ لَئِنَ اسْتُشْهِدْتُ لَأَشْهَدَنَّ لَكَ، وَلَئِنْ شُفِّعْتَ لَأَشْفَعَنَّ لَكَ، وَلَئِنِ اسْتَطَعْتُ لَأَنْفَعَنَّكَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلاَّ حَدَّثْتُكُمُوهُ، إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَوْفَ أُحَدِّثَكُمُوهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ. (3)
هَذَا حَدِيث عَظِيم الْمَوْقِع وَهُوَ أَجْمَع أَوْ مِنْ أَجْمَع الْأَحَادِيث الْمُشْتَمِلَة عَلَى الْعَقَائِد فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ فِيهِ مَا يُخْرِج عَنْ جَمِيع مِلَل الْكُفْر عَلَى اِخْتِلَاف عَقَائِدهمْ وَتَبَاعُدهمْ فَاخْتَصَرَ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الْأَحْرُف عَلَى مَا يُبَايِن بِهِ جَمِيعهمْ وَسَمَّى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَلِمَة لِأَنَّهُ كَانَ
__________
(1) - صحيح البخارى (3435) وصحيح مسلم (149)
(2) - صحيح مسلم (151)
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 432) (202) صحيح
(1/123)
بِكَلِمَةِ " كُنْ " فَحُسِبَ مِنْ غَيْر أَبٍ بِخِلَافِ غَيْره مِنْ بَنِي آدَم. قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ كَلِمَة لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ الْكَلِمَة فَسُمِّيَ بِهَا. كَمَا يُقَال لِلْمَطَرِ رَحْمَة. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَوْله تَعَالَى: {وَرُوح مِنْهُ} أَيْ رَحْمَة. قَالَ: وَقَالَ اِبْن عَرَفَة: أَيْ لَيْسَ مِنْ أَب إِنَّمَا نَفَخَ فِي أُمّه الرُّوح وَقَالَ غَيْره وَرُوح مِنْهُ أَيْ مَخْلُوقَة مِنْ عِنْده وَعَلَى هَذَا يَكُون إِضَافَتهَا إِلَيْهِ إِضَافَة تَشْرِيف كَنَاقَةِ اللَّه وَبَيْت اللَّه. وَإِلَّا فَالْعَالَم لَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى وَمِنْ عِنْده. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَل) هَذَا مَحْمُول عَلَى إِدْخَاله الْجَنَّة فِي الْجُمْلَة فَإِنْ كَانَتْ لَهُ مَعَاصٍ مِنْ الْكَبَائِر فَهُوَ فِي الْمَشِيئَة فَإِنْ عُذِّبَ خُتِمَ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي كَلَام الْقَاضِي وَغَيْره مَبْسُوطًا مَعَ بَيَان الِاخْتِلَاف فِيهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. (1)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعَافِرِيِّ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ هَذَا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ وَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتَ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتَ الْبِطَاقَةُ، قَالَ: فَلاَ يَثْقُلُ اسْمَ اللهِ شَيْءٌ. (2)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سِجِلا كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ، أَوْ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ، فَيُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 103)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 461) (225) صحيح لغيره
(1/124)
إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ، قَالَ: فَيُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَيْهِ جُبَّةُ سِيجَانٍ مَزْرُورَةٌ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَ: أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا (قَدْ وَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ ابْنَ فَارِسٍ! قَالَ): يُرِيدُ (أَنْ) يَضَعَ كُلَّ فَارِسٍ (ابْنِ فَارِسٍ) وَيَرْفَعَ كُلَّ رَاعٍ ابْنِ رَاعٍ! قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ وَقَالَ: " أَلَا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ: آمُرُكَ بِاثْنَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَيْنِ. آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتَ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ (وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إَلَّا اللَّهُ، وَلَو أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ) كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الشِّرْكُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الْكِبْرُ؟ الْكِبْرُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: " لَا ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: " سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَابِيٌّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ طَيَالِسَةٌ مَلْفُوفَةٌ بِدِيبَاجٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسَ فَقَالَ: " إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا ابْنَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي قَاصِرٌ عَلَيْكُمَا الْوَصِيَّةَ آمُرُكُمَا بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكُمَا عَنِ اثْنَتَيْنِ أَنْهَاكُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ وَآمُرُكُمَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى كَانَتْ أَرْجَحَ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (1936) صحيح لغيره
(1/125)
وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا حَلْقَةً فَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَيْهَا لَفَصَمَتْهَا أَوْ لَفَصَمَتْهَا ". رَوَاهُ كُلَّهُ أَحْمَدُ (1)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ فِي كِفَّةٍ، فَيَتَمَايَلُ بِهِ الْمِيزَانُ، فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ ". قَالَ: " فَإِذَا أَدْبَرَ بِهِ إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: لَا تُعَجِّلُوا لَا تُعَجِّلُوا فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ، فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ (2)
وعَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَأَقْبَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ , فَلَمَّا رَآهُ مُقْبِلًا قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ عُرِجَ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فَرَجَعَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى مَا رَأَى فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا , ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ. (3)
وعَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مُعَاذُ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: "بَشِّرِ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ". (4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مسند أحمد (6740) صحيح
(2) - مسند أحمد (7264) حسن
(3) - مسند الشاميين (34) صحيح
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 444) (16509) صحيح
(1/126)
المبحث السادس
الموت على عمل صالح
عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ" (1).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَالْمُنَافِقُ عَلَى نِفَاقِهِ. (2)
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ الْجُمَحِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَتَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (21) سورة الجاثية، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ " (3)
وعن أبي هاني الخولاني، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي وخالد بن أبي عمران، يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من مات على خير عمله فأرجو له خيرا، ومن مات على سيئ عمله فخافوا عليه ولا تيأسوا " (4)
قال الشاعر (5):
تزود من التقوى فإنك لا تدري ... إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها ... وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم ... وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر
وكم من سليم مات من غير علة ... وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهيًا ... وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
__________
(1) - صحيح مسلم (7413)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 16 / ص 304) (7313) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم (3688) صحيح
(4) - مسند الشهاب القضاعي (474) حسن
(5) - موسوعة الشعر الإسلامي - (383/ 1) وموسوعة خطب المنبر - (1/ 4466)
(1/127)
وكم ساكن عند الصباح بقصره ... وعند المسا قد كان من ساكني القبر
فكن مخلصًا واعمل من الخير دائمًا ... لعلك تحظى بالمثوبة والأجر
وداوم على تقوى الإله فإنها ... أمان من الأهوال فِي موقف الحشر
(1/128)
المبحث السابع
التحذير من سوء الخاتمة
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: «وَمَا ذَاكَ». قَالَ الرَّجُلُ الَّذِى ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ. فَخَرَجْتُ فِى طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِى الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». (1)
فَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ الِاغْتِرَار بِالْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ لَا يَتَّكِل عَلَيْهَا، وَلَا يَرْكَن إِلَيْهَا مَخَافَةً مِنْ اِنْقِلَاب الْحَال لِلْقَدَرِ السَّابِق. وَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاصِي أَنْ لَا يَقْنَط وَلِغَيْرِهِ أَنْ لَا يُقَنِّطهُ مِنْ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى. وَمَعْنَى قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الرَّجُل لِيَعْمَل عَمَل أَهْل الْجَنَّة وَإِنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار وَكَذَا عَكْسه أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع. (2)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (2898) - ذباب: طرف السيف الأسفل الذى يضرب به -الشاذة: الخارج عن صف الكفار
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 226)
(1/129)
المبحث الثامن
أسباب حسن الخاتمة
إقامة التوحيد لله جل وعلا
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِى الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم (1)
والمسألة في القبر هي السؤال عن الرب والدين والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالسؤال يكون عن هذه الأمور الثلاثة، فالذي يوفقه الله عز وجل يأتي بالجواب السديد، ويأتي بالجواب المنجي، فيقول: إن الله ربه، وإن الإسلام دينه، وإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيه، أو يقول: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ومن كان بخلاف ذلك وأدركه الخذلان، أو حصل له العذاب، فإنه يقول: ها ها لا أدري، فلا يجيب بالجواب الذي ينفعه، وإنما يأتي بالجواب الذي يضره. والسؤال في القبر هو لإظهار عدل الله عز وجل، وكون الإنسان ينعَّم بإحسانه وبإيمانه، ويعذب بمعصيته وعدم إيمانه، وليس ذلك ليعلم الله شيئاً كان غير معلوم له، بل هو عالم قد علم أزلاً كل شيء سبحانه وتعالى، ولكن ليظهر للإنسان عدل الله عز وجل، وأن الإنسان يثاب على إحسانه ويعاقب على إساءته، وأن الإنسان إنما يؤتى من قبل نفسه. والسؤال في القبر هو مثل مسألة الميزان، فإن ذلك يرجع إلى إظهار عدل الله عز وجل، وأن الإنسان لا يبخس في شيء، فلا ينقص من الحسنات ولا يزاد من السيئات، ولا يعاقب بذنب لم يحصل منه، ويثاب بشيءٍ قد حصل منه وبشيءٍ لم يحصل منه فضلاً من الله عز وجل (2)
__________
(1) - صحيح البخارى (4699)
(2) - شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد - (ج 27 / ص 287)
(1/130)
التقوى
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران، قال: أنْ يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. (1)
وعَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران، وَحَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلاَ يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلاَ يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلاَ يُكْفَرُ وَإِيتَاءُ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ أَنْ تُؤْتِيَهُ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْعَيْشَ وَتَخَافُ الْفَقْرَ، وَفَضْلُ صَلاَةِ اللَّيْلِ عَلَى صَلاَةِ النَّهَارِ كَفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ. (2)
وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات. ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها.
وهذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته، منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا، يجمعها فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلاَمُ اللهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَأَحْسَنَ السُّنَنِ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3159) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 297) (35695) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 7 / ص 224) (11847) صحيح لغيره
(3) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 141)
(1/131)
سُنَّةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - , وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وَخَيْرَ الأُمُورِ عَزَائِمُهَا، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ الأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْمَوْتِ قَتْلُ الشُّهَدَاءِ، وَأَغَرَّ الضَّلاَلَةِ الضَّلاَلَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اتُّبِعَ، وَشَرَّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ.
وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَنَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَمَارَةٍ لاَ تُحْصِيهَا، وَشَرَّ الْعَذِلَةِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَوْتِ، وَشَرَّ النَّدَامَةِ نَدَامَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دبريًّا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلاَّ مُهَاجِرًا، وَأَعْظَمَ الْخَطَايَا اللِّسَانُ الْكَذُوبُ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَرَأْسَ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ، وَخَيْرَ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَالرَّيْبَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالنَّوْحَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْغُلُولَ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ، وَالْكَنْزَ كَيٌّ مِنَ النَّارِ.
وَالشِّعْرَ مَزَامِيرُ إبْلِيسَ، وَالْخَمْرَ جِمَاعُ الإِثْمِ، وَالنِّسَاءَ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَالشَّبَابَ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَشَرَّ الْمَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا، وَشَرَّ الْمَآكِلِ أكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيَّ مِنْ شُقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدُكُمْ مَا قَنَعَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعة أَذْرُعٍ وَالأَمْرُ بِآخِرِهِ، وَأَمْلَكَ الْعَمَلِ بِهِ خَوَاتِمُهُ، وَشَرَّ الرِّوَايَا رِوَايَا الْكَذِبِ، وَكُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.
وَسِبَابَ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَقِتَالَهُ كُفْرٌ، وَأَكْلَ لَحْمِهِ مِنْ مَعَاصِي اللهِ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَمَنْ يَتَأَلَّى عَلَى اللهِ يُكَذِّبْهُ، وَمَنْ يَغْفِرْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمَ الْغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزَايَا يُعْقِبْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَعْرِفَ الْبَلاَءَ يَصْبِرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لاَ يَعْرِفْهُ يُنْكِرْهُ، وَمَنْ يَسْتَكْبِرْ يَضَعْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَبْتَغِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يَنْوِ الدُّنْيَا تُعْجِزْهُ، وَمَنْ يُطِعَ الشَّيْطَانَ يَعْصِ اللَّهَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يَعْذِبْهُ. (1)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 295) (35694) صحيح موقوف
(1/132)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ قِيلَ: فَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ قَالَ: الأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ. (1)
وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ وَأَبِى الدَّهْمَاءِ قَالاَ كَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ هَذَا الْبَيْتِ. قَالاَ أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِىُّ أَخَذَ بِيَدِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِى مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً اتِّقَاءَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ إِلاَّ أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهُ». (2)
التوكل على الله
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِىُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِى سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ مَا هَذَا أُمَّتِى هَذِهِ قِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِى انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِى آفَاقِ السَّمَاءِ فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاَءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلاَدُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِى الإِسْلاَمِ فَإِنَّا وُلِدْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَلَغَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ فَقَالَ هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ». فَقَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا قَالَ: «سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ». (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 224) (476) صحيح
(2) - مسند أحمد (21282) صحيح
(3) - صحيح البخارى (5705)
(1/133)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (1)
الاستقامة
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، أَرَادَ سَفَرًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: اعْبُدِ اللَّهَ وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: إِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: اسْتَقِمْ وَلْتُحَسِّنْ خُلُقَكَ" (2)
وعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ دِينِكُمُ الصَّلاَةُ وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ " (3)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عِنْدَهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ فُلانَةُ، لا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ مِنَ الْعَمَلِ، فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، قَالَتْ: وَكَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَيْهِ الَّذِي يُدَاوِمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ قَلَّ. (4)
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِىِّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِى فِى الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ , قَالَ «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ». (5)
الأمانة
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَلَّمَا خَطَبَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - أَوْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ قَالَ فِى خُطْبَتِهِ: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ». (6)
__________
(1) - صحيح البخارى (6472)
(2) - المستدرك للحاكم (179) صحيح
(3) - مسند الطيالسي (1089) صحيح
(4) - مسند أبي عوانة (1778) صحيح
(5) - صحيح مسلم (168)
(6) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 288) (13065) صحيح
(1/134)
وعَنْ عُرْوَة قَالَ: لاَ تَغُرَّنَّكُمْ صَلاةُ امْرِئٍ، وَلا صِيَامُهُ، مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ صَلَّى، أَلا لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ. (1)
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ أَبِى كِلاَبٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَقُولُ: لاَ يُعْجِبَكُمْ مِنَ الرَّجُلِ طَنْطَنَتُهُ وَلَكِنَّهُ مَنْ أَدَّى الأَمَانَةَ وَكَفَّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ. (2)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 11 / ص 13) (30962) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 288) (13070) حسن لغيره
(1/135)
الباب الثالث
الإنسان من مرضه حتى دفته
المبحثُ الأول
الترغيب في سؤال العفو والعافية
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ «سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ». ثُمَّ أَتَاهُ فِى الْيَوْمِ الثَّانِى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهُ فِى الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ «فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فِى الدُّنْيَا وَأُعْطِيتَهَا فِى الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ» .. رواه الترمذي (1)
وعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ - فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ - فِى هَذَا الْقَيْظِ عَامَ الأَوَّلِ «سَلُوا الْلَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِى الآخِرَةِ وَالأُولَى» رواه أحمد (2)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنَ - اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» أخرجه ابن ماجه (3)
وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقُولُ حِينَ أَسْأَلُ رَبِّى قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَعَافِنِى وَارْزُقْنِى». وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلاَّ الإِبْهَامَ «فَإِنَّ هَؤُلاَءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ» رواه مسلم (4)
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3854) وابن ماجه (3848) والبيهقي في السنن 7/ 50 والمجمع 10/ 175 وهو حديث حسن. فزت ونجحت.
(2) - أحمد في مسنده برقم (6) والترمذي برقم (3509) وجامع الأصول 4/ 339. وهو حديث حسن
(3) - برقم (3851) ومصباح الزجاجة (1357) وصححه والصحيحة (1138) وهو حديث صحيح.
(4) - برقم (2696) وأحمد 1/ 180 و 3/ 472 و 4/ 382
(1/138)
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: «تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى». رواه الترمذي (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى عَافَانِى مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ وَفَضَّلَنِى عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلاً لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاَءُ» رواه الترمذي (2)
مَنْ رَأَى مُبْتَلًى: مرض أو محنة أو عاهة، فشكر الله وأثنى عليه.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ رَأَى أَحَدًا بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْبَلَاءِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَيْكَ وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ "» أخرجه الطبراني في الدعاء (3)
قلت: ومع سؤال المؤمن ربه العافية، فلا بد أن يبتلى ويختبر في هذه الدار، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت/2، 3]
هَلْ ظَنَّ النَّاسُ أنْ نَتْرَكَهُمْ وشَأْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ نُطْقِهِمْ بالشَّهادَتَيْنِ، وَقَوْلِهِمْ آمنَّا باللهِ وَرَسُولِهِ، دُونَ أَنْ يَبْتَلِيَهُم اللهُ، ويَخْتَبِرَ صِدْقَ إِيمَانِهِمْ: بِالهِجْرَةِ، والتَّكَالِيفِ الدِّينْيةِ الأُخرى، والجِهَادِ، والمَصَائِبِ؟ كلاّ، فإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ، بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ إٍِيمانٍ.
وَلَقَدِ امتَحَنَ اللهُ المُؤمنينَ السَّالِفينَ، وَعَرَّضَهُمْ للفِتْنَةِ والاخْتِبَارِ، وغَايَتُهُ سُبحَانَهُ وَتَعالى مِنْ هذا الابتِلاءِ والاخْتِبارِ هيَ أَنْ يُمَحِّصَهُم فَيَعْلَمَ الذينَ صَدَقُوا في دَعوى الإِيمانِ، مِمَّنْ هُمْ كاذبون في دَعواهُم، ولِيُجَازِيَ كُلاّ بمَا يَسْتَحقُّهُ.
__________
(1) - برقم (3513) وابن ماجه (3580) وأحمد (6/ 185 و 258، والحاكم 1/ 530 وهو حديث صحيح.
(2) - برقم (3431 و 3432). والدعا طب (800) والشعب (4445) وهو حديث صحيح لغيره
(3) - برقم (731و732) والمجمع 10/ 138 (17138) والشعب (4271و10701) وهو حديث حسن.
(1/139)
" إن الإيمان بالله، ليس مجرّد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما هو عقيدة تسكن القلب، وعمل تقوم به الجوارح، وجهاد شاق متصل .. وبهذا يكون للإيمان وزنه واعتباره، ويكون للمؤمنين شأنهم ومقامهم ..
فالمؤمنون، الذين لقيتهم هذه الآيات في أول الدعوة الإسلامية ـ كانوا فى وجه محنة قاسية، حيث انخلعوا عن أهليهم، وانعزلوا عن مجتمعهم، وكانوا قلة قليلة في مواجهة عاصفة عاتية، تسوق إليهم البلاء بغير حساب، حتى هاجروا من ديارهم، وخرجوا من أموالهم .. فلما اجتمع لهم في موطنهم الجديد، شىء من القوة، وأذن الله لهم في القتال ـ كان أول لقاء لهم، مع آبائهم، وأبنائهم، وإخوتهم، فعملت سيوفهم في رقاب المشركين من أهليهم وذوى رحمهم، فما نكل أحد منهم عن أن يضرب بسيفه من كان ـ قبل الإسلام ـ يفديه بنفسه، ويلقى الموت دونه .. وقد حدّث التاريخ أن أبا بكر لقى ابنه فى معركة بدر، وقد عرفه ابنه ولم يعرفه .. فلما كان بعد زمن، ودخل ابنه فى الإسلام، قال لأبيه: لقد عرضت لى يوم بدر، فأعرضت عنك، فقال له أبو بكر، لو عرضت لى يومئذ، وأمكننى الله منك، لما رددت سيفى عنك!! ولا شك أن هذه كانت تجربة ثقيلة على نفوس المؤمنين، وقد احتملوها صابرين، وكانت آيات الله تتنزل عليهم، فتبعث في نفوسهم المضطربة، سكنا، وتسوق إلى قلوبهم الملتهبة، بردا وسلاما.
ونجد في قوله تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» تصحيحا لما يقع في بعض النفوس المؤمنة من انزعاج أو استثقال لهذا العبء الذي حملوه من الإيمان بالله .. كما نجد في الآية والآيات التي بعدها إجابات قاطعة على تلك التساؤلات التي كانت تتردد في الخواطر: لم يكون الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف؟ ولم يحملنا إيماننا بالله على هذا المركب الوعر؟ ألسنا على الهدى، وعلى الصراط المستقيم؟ وهل هذا الطريق هكذا وعر المسالك، مزدحم العقبات؟
ونعم .. إن الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف، وإن طريقه وعر المسالك جمّ العقبات!!
(1/140)
إنه الطريق إلى الجنة، وإن طريق الجنة محفوف بالمكاره! وإن هذا البلاء الذي يلقاه المؤمن على طريق إيمانه، هو ابتلاء له، وتمحيص لما عنده من صبر ومصابرة .. وهل يصفّى الذهب من الغثاء الذي علق به، إلا إذا صهر بالنار؟ «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد). «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (179: آل عمران).
وهل انكشف وجه النفاق، وعرف المنافقون إلا في بوتقة الابتلاء، وفي مقام التضحية والبذل؟
إن الناس جميعا على سواء في حال الأمن والعافية .. فإذا كانت المحن والشدائد، فهم أنماط وأشكال، وهم معادن مختلفة، بين غث وثمين! والاستفهام في الآية الكريمة، للإنكار، والنفي .. أي ليس الأمر على ما يظن الناس وما يقدرون، من أنهم إذا قالوا آمنا كانوا مؤمنين .. كلّا، إن ذلك لا يكون حتى يفتنوا، وحتى يبتلوا .. وعندئذ ينكشف ما عندهم من إيمان ..
قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» هكذا حكم الله في عباده .. فكما امتحن الله المؤمنين في الأمم السابقة، يمتحن سبحانه الذين أسلموا، بما يفتنهم، فى دينهم مما يلقاهم من شدائد ومحن ..
فمن كان صادق الإيمان، سليم العقيدة، خالص النية، أمسك إيمانه في قلبه، وثبت عليه، ومن كان على غير تلك الصفة انخلع عن دينه، وألقى به لأول مسة تمسه من بلاء، وباعه بأبخس ثمن!.
ـ وفي قوله تعالى: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» ـ بهذا الأمر المؤكد ـ إعلان للمؤمنين بأنهم في وجه ابتلاء، وفي مواجهة فتن، لا بد لهم منها .. إن لم تكن واقعة بهم فعلا، فإنها ستقع حتما .. هكذا يجب أن يتقرر في نفوسهم من أول الطريق .. فمن شاء أن يكون في المؤمنين، فليوطن نفسه على هذا، وليستعد لحمل أفدح الضربات .. وإلا فليأخذ طريقا غير هذا الطريق، وأمامه أكثر من طريق فسيح.!
(1/141)
والمؤمنون الأولون الذين دخلوا في الإسلام، ورسخت أقدامهم فيه، هم ـ كما شهد التاريخ ـ أصفى الناس جوهرا، وأكرمهم معدنا .. فقد كانوا خلاصة مجتمعهم، وثاقة عزم، وقوة يقين .. فاحتملوا من الشدائد والمحن ما تتصدع به الجبال الراسيات .. «فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا .. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» «146: آل عمران» ومن أجل هذا، فقد شهد القرآن الكريم لهذه الصفوة المتخيرة من عباد الله أكرم شهادة، وجعل ميزان الواحد منهم يعدل عشرة من غير المؤمنين، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) ..
وأنت ترى أن الصفة التي فرق بها القرآن بين هؤلاء المؤمنين، والمشركين، هى «الفقه». . وهو ليس ذلك العلم النظري، وإنما هو الحق الذي يملأ القلوب نورا، فيكشف لصاحبه من آيات الله، ودلائل قدرته، وعلمه، وحكمته، ما يصغر به كل شىء، إزاء عظمة الخالق وجلاله .. " (1)
" إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم. كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب.
هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» ..
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهو فضل من الله من جانب، وعدل من
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (10/ 400)
(1/142)
جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله. فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!.
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين.
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء.
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة. ولكنها ليست أعنف صور الفتنة. فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت أمر وأدهى.
هناك فتنة الأهل والأحياء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعا. وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك. وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة. وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا.
وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة وهو وحده موحش عريب طريد.
(1/143)
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام. فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، متحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان.
ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله! وهنا لك الفتنة الكبرى. أكبر من هذا كله وأعنف. فتنة النفس والشهوة. وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان. وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصورات أهل الزمان! فإذا طال الأمد، وابطا نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى. وكان الابتلاء أشد وأعنف. ولم يثبت إلا من عصم الله. وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان.
وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة.
فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء.
والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع. وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل. وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالا بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلّمون الراية في النهاية. مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار.
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن وبما بذلوا لها من الصبر على المحن وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذاته. ثم يصبر على الأذى والحرمان
(1/144)
يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام.
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله. وما يشك مؤمن في وعد الله. فإن أبطأ فلحكمة مقدرة، فيها الخير للإيمان وأهله. وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله. وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء: جاء في الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» .. " (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 2720)
(1/145)
المبحثُ الثاني
النهي عن تمني الموت لضر نزل به
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلِ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِى، وَتَوَفَّنِى إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِى» أخرجه الشيخان (1)
وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلاَ يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ (2)، وَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلاَّ خَيْرًا» أخرجه مسلم (3)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ (4) وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الإِنَابَةَ» أخرجه أحمد في مسنده (5)
وعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَعَبَّاسٌ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَشْتَكِي، فَتَمَنَّى عَبَّاسٌ الْمَوْتَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَمِّ، لاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُحْسِنًا، فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَزْدَدْ إِحْسَانًا إِلَى إِحْسَانِكَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤَخَّرْ فَتُسْتَعْتَبْ مِنْ إِسَاءَتِكَ خَيْرٌ لَكَ، فَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ» أخرجه الحاكم في المستدرك (6)
__________
(1) - البخاري برقم (5671 و6531و7233) ومسلم (2680).
(2) - إلا من ثلاث كما سيمر إن شاء الله. .
(3) - برقم (2682) وأحمد في مسنده برقم (8413).
(4) - ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقب الموت.
(5) - 3/ 332 (14938) والمجمع 10/ 203 وهو حديث حسن لغيره. الإنابة: الرجوع إلى اللَّه بالتَّوبة
(6) - برقم (1254) وطب (20567) وأحمد في مسنده 6/ 336 والمجمع 10/ 202 339 وهو حديث صحيح.
(1/146)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلاَ يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثِقَ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلاَّ خَيْراً» أخرجه أحمد في مسنده (1)
وعَنْ عَبِيْدَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا يُحْبَسُ أَشْقَاهَا أَنْ يَجِيءَ فَيَقْتُلُنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، فَأَرِحْنِي مِنْهُمْ وَأَرِحْهُمْ مِنِّي. أخرجه عبد الرزاق (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنًى أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةً بَطْحَاءَ ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّى وَضَعُفَتْ قُوَّتِى وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِى. فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلاَ مُفَرِّطٍ» أخرجه مالك في الموطأ (3)
أفادت هذه الأحاديث النهي عن تمني الموت، وحمله قوم على الضرِّ الدنيوي، فإن وجد الضر الأخروي بأن خشي الفتنةَ في دينه لم يدخل في النهي لحديث: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ)) (4). ولحديث «وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِى إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» رواه الترمذي (5)، وللأحاديث التي ذكرت أعلاه عن تمني بعض الصحابة الموت، وتمني مطلق الموت فيه نوع اعتراض على الله، ومراغمة للقدر المحتوم .. )) (6)
وقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَة فِي دِينه فَلَا كَرَاهَة فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث، وَقَدْ فَعَلَهُ خَلَائِق مِنَ السَّلَف بِذَلِكَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ فَلَمْ يَصْبِر
__________
(1) - (8839) والمتمنين عن الحسن مرسلا (111) وهو حديث صحيح، ولكن من يثق بعمله؟!
(2) - برقم (18671و20638) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 14 / ص 597) (38255) وابن سعد 3/ 34 صحيح موقوف.
(3) - برقم (1512) وابن سعد 3/ 334 و 335 وعب (20639و20640) وطب (15020) وإسناده صحيح.
(4) - أخرجه في الموطأ برقم (57) والبخاري برقم (7115) ومسلم برقم (157).
(5) - برقم (3541) وهو صحيح
(6) - راجع الفتح 10/ 128 - 131.
(1/147)
عَلَى الضُّرّ وَتَمَنَّى الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَلْيَقُلْ الدُّعَاء الْمَذْكُور. قُلْت: ظَاهِر الْحَدِيث الْمَنْع مُطْلَقًا وَالِاقْتِصَار عَلَى الدُّعَاء مُطْلَقًا، لَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخ لَا بَأْس بِهِ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّمَنِّي لِيَكُونَ عَوْنًا عَلَى تَرْك التَّمَنِّي. (1)
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 279)
(1/148)
المبحثُ الثالث
الترغيب في الصبر وفضل البلاء
لقد وردت آيات عديدة تحث على الصبر، وتبين أجر الصابرين، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) [البقرة/155 - 157]}
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ (بِشَيءٍ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ، وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ، وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ، وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ. . . فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ، وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ.
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا، وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ، أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ، وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.
يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ، وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ، وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ، وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ.
" فالناس جميعا مبتلون فى هذه الحياة ـ سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو أمما ـ بشىء من الخوف والجوع ـ يختلف قلة وكثرة ـ وبنقص فى الأموال والأنفس والثمرات .. فليس أحد فى هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل، متفرقة أو مجتمعة ..
والجزع فى هذه المواطن هو الذي يثقّل المصيبة، ويولّد منها مصائب، فيضاعف معها البلاء، ويعظم الألم، ويطبق اليأس، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!.
أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر، ويواجهها بالتسليم والرضا، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء الله وقدره ـ فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال، ويفتح له بابا واسعا من الأمل
(1/149)
والرجاء فيما هو خير عند الله وأبقى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فحين يذكر المؤمن أنه ـ ذاتا ومالا وأهلا وولدا ـ ملك لله، لا يملك مثقال ذرة مما فى ملك الله، وأن مصائر الأمور كلها إلى الله، ومردّها جميعا إليه ـ حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت، ولا يحزن على مفقود، وتلك هى أولى بشريات المؤمنين فى هذه الدنيا، لا ينزل الحزن ساحتهم، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ». " (1)
" فلا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها .. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه .. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها .. وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا ..
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله .. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 176)
(1/150)
هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات، وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر .. لا شيء إلا الله .. لا قوة إلا قوته .. لا حول إلا حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» .. إنا لله .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. لله .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة، وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل ..
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» .. صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون .. وكل أمر من هذه هائل عظيم ..
وبعد .. فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي. التعبئة في مواجهة المشقة والجهد، والاستشهاد والقتل، والجوع والخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات. والتعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف.
إن الله يضع هذا كله في كفة. ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا .. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون .. إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته .. لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها.
فكان من ثم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته .. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون .. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية، وهذه
(1/151)
هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها .. فأما ما يكتبه اللّه لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة اللّه التي يحملونها.
إن لهم في صلوات اللّه ورحمته وشهادته جزاء. جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات. وجزاء على الخوف والجوع والشدة. وجزاء على القتل والشهادة .. إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور ..
هذه هي التربية التي أخذ اللّه بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين." (1)
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) [آل عمران/142، 143]}
وَلاَ تَحْسَبُوا أَنَّكُمْ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَبِرَكُمُ اللهُ تَعَالَى وَيُمَحِّصَكُمْ فِي الشَّدَائِدِ وَالجِهَادِ لِيَرَى صِدْقَ إيمَانِكُمْ، وَيَرَى مَنْ يَسْتَجِيبُ للهِ، وَيُخْلِصُ فِي طَاعَتِهِ، وَقِتَالِ أًَعْدَائِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَكَارِهِ الحُرُوبِ.
يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى مَنْ شَهِدَ وَقْعَةِ أحُدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْراً، وَكَانُوا يَتَحَرَّقُونَ شَوْقاً لِلْقِتَالِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَكُونَ لَهُمْ يَومٌ كَيَوْمِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَلَحُّوا عَلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الخُرُوجِ إلَى أحُدٍ لِيُقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ. وَيَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاءِ: لَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ المَوْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ قَبْلَ أنْ تُلاَقُوا القَوْمَ فِي مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، فَهَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ فَمَا بَالُكُمْ دَهِشْتُمْ عِنْدَمَا وَقَعَ المَوْتُ فِيكُمْ؟ وَمَا بَالُكُمْ تَحْزَنُونَ وَتَضْعُفُونَ عَنْ لِقَاءِ مَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ؟ (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 145)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 435)
(1/152)
" إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا.
وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» لا يتعلق علم اللّه بجهادهم وصبرهم. فعلم اللّه واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم فى حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها .. وهذا وإن كان واقعا فى علم اللّه، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث ـ هو عزاء جميل من اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين .. ففى قوله تعالى: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» نفحة من اللّه، تنزل على النبىّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا» يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
وسبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم فى أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما فى المنزلة العليا فى هذه الحياة .. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141: النساء) وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تثبيت للمؤمنين على الإيمان ..
وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا ..
وقوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم، ولما أصيبوا به فى أهليهم ..
(1/153)
وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم فى مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون .. وهكذا الدنيا .. وتلك سنّة الحياة فيها .. لا تدوم على وجه واحد، بل هى وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى ..
وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع .. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر ـ ولو كان ذلك فى أحسن حال، وأمكن وضع ـ لماتت فى أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال.
وقوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» بيان لحكمة اللّه من هذا الابتلاء .. ففى هذا الابتلاء، وتحت وطأة القتال، ينكشف إيمان المؤمنين، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء .. فيكتب لهم ما كان فى علم اللّه، وما وقع منهم، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون! وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» إشارة إلى أن جماعة المؤمنين الذين كانوا مع النبىّ فى أحد ـ كانوا جميعا على درجة عالية من الإيمان، وأنّ أنزلهم درجة فى هذا الإيمان كان مؤهلا لأن يكون فى عداد الشهداء، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» خطابا لهم جميعا، وكان نسق النظم أن يجىء هكذا: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ»، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا فى المؤمنين، الصالحين لأن يتخذ اللّه منهم شهداء ..
وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ» إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم، ولهذا اتخذهم اللّه شهداء .. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار .. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» تحريض للمسلمين على قتال المشركين، واحتمال المكروه فى سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم، لأنهم ظالمون لأنفسهم، بصرفها عن الهدى إلى الضلال، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير .. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ومن لا يحبّه
(1/154)
اللّه فهو عدو للّه، يجب على أولياء اللّه أن يعادوه، ويخلّصوه من الذي فى يديه، يرمى به نفسه، ويصيب به الناس.
وقوله تعالى: «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص اللّه المؤمنين بهذا الابتلاء، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن، بملاقاة الشدائد والصبر عليها، كما أن فى هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين.
وقوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى اللّه به المؤمنين، فى قتال الكافرين، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الأذى فى سبيل اللّه، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويجعل لكلّ مكانه عند اللّه .. فالجنة للمجاهدين الصابرين .. والنار للمشركين المعاندين.
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».
هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال فى أحد، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين: كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة فى جانب المسلمين .. فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا ـ كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد فى معركة بدر، وتعرضهم للاستشهاد فى سبيل اللّه .. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد .. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء، ما كان فى أحد، من إقبال على الغنائم، أو فرار من المعركة ـ كان هذا العتاب الرقيق من اللّه سبحانه وتعالى لهم، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا، وهذا موقف لا يرضاه اللّه لهم، إذ يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (2 ـ 3: الصف) وفى قوله تعالى: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ»
(1/155)
تأسيف وتنديم، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد فى «أحد» وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت فى غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد! " (1)
" إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي. وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .. «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ..
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان. فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات. والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها، في الطريق المحفوف بالمكاره. طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان!
«وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» .. وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه. ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 601)
(1/156)
يواجهها في العيان. فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة. حتى يعلم اللّه منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس!
ولقد كان اللّه - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء. وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ..
ولكن المسألة ليست هي النصر .. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية .. البشرية بكل ضعفها ونقصها وبكل شهواتها ونزواتها وبكل جاهليتها وانحرافها .. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج ..
ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة. وصبر على الشدة بعد الرخاء. وطعمها يومئذ لاذع مرير! ..
وهذه التربية هي التي يأخذ اللّه بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض. وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض!
وقدر اللّه في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع .. يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع
(1/157)
والشكر للّه .. ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة. فتلجأ إلى اللّه، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج اللّه. وتجرب مرارة الهزيمة وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة .. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد .. ويمضي قدر اللّه وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد ..
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين." (1)
وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر
يَأَمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَعِظَ المُؤْمِنينَ، وَبِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، وَالثَبَاتِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَبِأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ أَنَّهُ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمُ العَمَلَ فَلَهُ الجَزَاءُ الحَسَنُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَأَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَغِّباً إِيَّاهُمْ فِي الهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ: إِنَّ أَرْضَ اللهِ وَاسِعَةٌ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا القِيَامَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فِي البَلَدِ الذِي هُمْ فِيهِ، فَعَلَيهِم الهِجْرَةُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَتَوَفَّرُ فِيهِ حُرِّيَةُ العِبَادَةِ، وَإِن الله يُوفِّي الصَّابِرِينَ عَلَى الابْتِلاَءِ، ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا شَاءَ بِغَيِرِ حِسَابٍ. (2)
" فهو نداء من رب كريم إلى عباده الذين آمنوا به، واستجابوا لرسوله، بعد أن سمعوا آيات ربّهم، وعرفوا مواقع الحق منها .. وفى هذا النداء الكريم يستدعيهم ربهم إليه بالتقوى التي تقربهم منه، وتدنبهم من رحمته وإحسانه ..
فالإيمان هو أول خطوة إلى اللّه .. والوقوف عند هذه الخطوة تقصير بالإيمان وتعطيل لمعطياته التي كان جديرا بالمؤمن أن يحصل عليها بإيمانه .. والعمل بهذا الإيمان، والغرس فى
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 483)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 3947)
(1/158)
مغارسه هو الذي يحقق للمؤمن الوصول إلى اللّه، وإلى مواقع رحمته ورضوانه .. وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) .. فالإيمان مصباح يضىء للمؤمن الطريق إلى ربه .. والعمل الصالح هو الزيت الذي يمدّ هذا المصباح بالوقود الذي تظلّ به شعلته متقدّة مضيئة أبدا .. وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» ـ إشارة إلى أن الأعمال، الحسنة، تعطى ثمرة حسنة معجلة فى هذه الدنيا إلى ما تعطيه من حسنات كثيرة فى الآخرة .. فالعمل الحسن هو حسن فى ذاته، لا يجىء منه إلا ما هو حسن .. وهذا من شأنه أن يضمن للمحسنين حياة طيبة معه فى الدنيا ـ مع صرف النظر ـ عما يكون له من آثار طيبة فيما وراء هذه الدنيا .. وبهذا.
الحساب يرى المحسنون أنهم غير مغبونين فى تعاملهم بالإحسان فى دنياهم، وأنهم ـ وبصرف النظر عن الحياة الأخرى، وبمعزل عنها ـ ينالون بإحسانهم حياة طيبة، ويجدونها فى راحة الضمير، وصفاء النفس، وإن لم يجدوها فيما يحصّلون من متاع مادى، وشهوات عاجلة لا تلبث أن تخمد، فلا يجد المرء لها أثرا ..
وفى إفراد كلمة «حسنة» وتنكيرها، إشارة إلى أن ما يجزى به المحسنون بإحسانهم فى الدنيا، هو قليل قليل بالإضافة إلى ما يجزون به فى الآخرة ..
وقوله تعالى: «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» ـ إشارة إلى أن المؤمن قد لا يجد فى مكان ما سبيلا إلى العمل، وإلى الغرس فى مغارس الإحسان، حيث تكون الأرض التي يعيش فيها أرضا خبيثة، لا تمسك ماء، ولا تنبث نباتا .. وهنا ينبغى على المؤمن أن يتحول عن هذه الأرض، إلى غيرها، مما هو طيب صالح.
فأرض اللّه واسعة، وكما أن فيها الخبيث النكد، ففيها الطيب الكريم ..
وفى هذا، دعوة للمؤمنين الذين كانوا يعيشون فى مكة قبل الهجرة، محاصرين من المشركين، لا يستطيعون أن يعطوا إيمانهم حقه، ولا أن يفجروا ينابيع الخير منه ـ فى هذا دعوة لهم أن يتحولوا عن هذا الموقع من الأرض إلى أرض أخرى، حيث تطيب فيها مغارسهم، وحيث يرفعون مصابيح الهدى التي بين أيديهم، فتملأ الدنيا من حولهم هدى
(1/159)
ونورا .. وقد كان، فهاجر المؤمنون إلى المدينة، وفى هذا المكان الطيب من الأرض سطح نور الإسلام، ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا ..
وقوله تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» ـ دعوة للمؤمنين إلى الصبر، الذي هو ملاك كل أمر يراد منه الخير الكثير الدائم الذي لا ينقطع ..
إن كل ثمرة إنما تكون قيمتها بقدر ما يبذل فيها من جهد، وما يحتمل فى سبيلها من عناء ومعاناة .. ومن طلب ثمرة بلا عمل، فقد طلب ريّا من سراب! وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ حِسابٍ» ـ إشارة إلى أن جزاء الصبر جزاء عظيم، وأن ميزان العمل الذي يجىء فى أعقاب الصبر يرجح جميع الأعمال كلها، حيث ينال الصابر جزاء صبره، ما يشاء من فضل وإحسان، بلا حساب! " (1)
"والتقوى هي تلك الحساسية في القلب، والتطلع إلى اللّه في حذر وخشية، وفي رجاء وطمع، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف .. إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد اللّه.
«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» .. وما أجزل الجزاء! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام. تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام.
ولكنه فضل اللّه على هذا الإنسان. الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده. فيكرمه ويرعاه!
«وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ».فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ولون من اتخاذ الأنداد للّه في قلب الإنسان.
وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد اللّه وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه.
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (12/ 1129)
(1/160)
واللّه خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان: ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند اللّه بلا حساب: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة. ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب .. فسبحان العليم بهذه القلوب، الخبير بمداخلها ومساربها، المطلع فيها على خفي الدبيب." (1)
وغير ذلك من الآيات كثير.
وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة منها:
عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْمُوبِقُهَا» رواه مسلم (2)
الطهور: التطهير والنظافة، تملأ أي بالثواب، نور: لأنها تمنع عن المعاصي، برهان: حجة على ايمان صاحبه، ضياء: لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب. معتقها: مبعدها عن النار، موبقها: مهلكها.
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «. مَا يَكُونُ عِنْدِى مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ،. وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري ومسلم (3)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 3043)
(2) - الطهارة برقم (1) وأحمد 5/ 342 و 343 و 344.
(3) - البخاري برقم (1469و6470) ومسلم برقم (1053) ومالك في الموطأ (1850)
(1/161)
يتصبر: يتكلف تحمل الصبر والمكاره، يعينه الله ويساعده.
وعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم (1)
فعلى المريض أن يرضى بقضاء الله، ويصبر على قدره، ويحسن الظن بربه، ذلك خير له
وعَنِ أَبِى حَلْبَسٍ يَزِيدَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَا سَمِعْتُهُ يُكَنِّيهِ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا عِيسَى إِنِّى بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمَّةً إِنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا اللَّهَ وَشَكَرُوا وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا وَلاَ حِلْمَ وَلاَ عِلْمَ. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ هَذَا لَهُمْ وَلاَ حِلْمَ وَلاَ عِلْمَ قَالَ أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِى وَعِلْمِى» رواه أحمد في مسنده (2)
احتسبوا: سلموها لله تعالى طلباً لوجه الله وثوابه، صبروا: تحملوا الآلام. لا حلم ولا علم: ليس عندهم خلقا الحلم والعلم. ولكن يمنحهم الله تعالى ذلك بمنه وكرمه
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لاَ تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلاَ يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلاَءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ لاَ تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ» رواه مسلم والترمذي (3)
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الترمذي (4) -بلاء: محناً وشدائد، الأمثل: المقارب، صلباً: قوياً، يبرح: يستمر.
__________
(1) - برقم (2999).
(2) - 6/ 450 (28310) والحاكم برقم (1289) والمجمع 10/ 67 والشعب (4306و9597) والأسماء والصفات (229) والصبر والثواب عليه (96) وهو حديث حسن. وقد ضعفه بعض أهل العلم
(3) - مسلم برقم (2809) والترمذي (2866) وأحمد برقم (8033). تفيئ: تحرك وتميل يمينا وشمالا
(4) - الترمذي (2398) وابن ماجة برقم (4023) والحاكم 1/ 41 و 4/ 207 وهو حديث صحيح.
(1/162)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَوَضَعْتُ يَدِي مِنْ فَوْقِ الْقَطِيفَةِ، فَوَجَدْتُ حَرَارَةَ الْحُمَّى، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّا كَذَلِكَ مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ، يُضَاعَفُ عَلَيْنَا الْوَجَعُ، لَيُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، حَتَّى مَا يَجِدُ إِلاَّ الْعَبَاءَ، فَيَحْوِيهَا وَيَلْبَسُهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْقُمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ الْقَمْلُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَاءِ إِلَيْكُمْ) أخرجه الحاكم (1)
موعوك: مريض، حُمّاك: حرارتك، يشدد علينا البلاء: نسر بدخول المصائب. أشد فرحاً: لزيادة الأجر بالصبر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» رواه البخاري (2)
وعن أنس رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» رواه الترمذي (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرَّجُلَ تَكُونُ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ فَلا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ (4) حَتَّى يُبْلِغَهُ ذَلِكَ» رواه الحاكم في المستدرك (5)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» رواه البخاري ومسلم (6)
__________
(1) - برقم (7847) والأدب المفرد (528) والمرض الكفارات (1) وهو صحيح على شرط مسلم.
(2) - برقم (5645) ومالك (1720)، يصب منه: أي يوجه إليه مصيبة ويصب ببلاء.
(3) - برقم (2396) والشهاب (1041) والشعب (9444) وصحيح الجامع (2110) وهو حديث حسن.
(4) - يستمر بمنحه ما يكره من الأمراض والمصائب حتى يرتقي إلى العلياء.
(5) - برقم (1274) وأبو يعلى (5961) والإحسان (2970) والمطالب (242) وهو حديث صحيح.
(6) - البخاري برقم (5640) ومسلم برقم (3572)، النَّصب: التعب،الوصب: الألم والسقم الدائم
(1/163)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الترمذي (1)
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» رواه البخاري (2)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ بِبَلاَءٍ فِى جَسَدِهِ، قَالَ اللَّهُ اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ فَإِنْ شَفَاهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ» رواه أحمد (3)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِى الْمُؤْمِنَ فَلَمْ يَشْكُنِى إِلَى عُوَّادِهِ أَطْلَقْتُهُ مِنْ إِسَارِى ثُمَّ أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْعَمَلَ» رواه البيهقي في السنن الكبرى (4)
وعَنْ عَائِشَة " أَنَّ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ الْآيَة (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فَقَالَ: إِنَّا لَنُجْزَى بِكُلِّ مَا عَمِلْنَاهُ؟ هَلَكْنَا إِذًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُصِيبَة فِي جَسَده مِمَّا يُؤْذِيه» رواه ابن حبان في صحيحه (5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صُدِعَ رَأْسُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاحْتَسَبْ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ» رواه البزار (6)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْ عَبْدِي فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ , لَمْ أَرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ» رواه االطبراني في الكبير (7)
__________
(1) - برقم (2579) والحاكم 4/ 314 (7879) والإحسان (2986) وهو حديث صحيح.
(2) - برقم (2996) وأحمد (20209) والمقصود أنه كان يعمل صالحاً قبل مرضه ومنعه المرض من ممارسته.
(3) - 3/ 258 (12839 و14063) وشرح السنة 5/ 241 والمجمع 2/ 304 وهو صحيح لغيره.
(4) - البيهقي 3/ 375 (6786) والحاكم 1/ 348 (1290) وهو حديث صحيح، يستأنف يبتدئ.
(5) - 4/ 255 برقم (2912) و (2985) والفتح 10/ 104 وهو حديث صحيح.
(6) - برقم (2437) و المجمع 2/ 302 (3800) والمطالب العالية (1881) وإسناده حسن.
(7) - برقم (12282) وأبو يعلى (2311) والضياء 4/ 316 والإحسان (2930) وهو حديث صحيح مشهور مروي عن أنس والعرياض وعائشة بنت قداحة وأبي هريرة وابن عباس وزيد بن أرقم وبريدة وابن عمر ... الكريمتان: العينان.
(1/164)
وعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» أخرجه البخاري (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِى فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» أخرجه الشيخان (2)
وعَنْ شَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابْنُ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» أخرجه البغوي في شرح السنة (3)
قلت: ويكفي الصابرين قول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) [البقرة/155 - 156]}.
وبشِّر -أيها النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة. من صفة هؤلاء الصابرين أنهم إذا أصابهم شيء يكرهونه قالوا: إنَّا عبيد مملوكون لله، مدبَّرون بأمره وتصريفه، يفعل بنا ما يشاء، وإنا إليه راجعون بالموت، ثم بالبعث للحساب والجزاء. أولئك الصابرون لهم ثناء من ربهم ورحمة عظيمة منه سبحانه، وأولئك هم المهتدون إلى الرشاد. (4)
ويكفيهم قول الله تعالى كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة
__________
(1) - برقم (3612)
(2) - (البخاري برقم (3477و6929) ومسلم برقم (1792) واللفظ له
(3) - برقم (3384) والطيالسي (1976) وغيرهما وهو صحيح
(4) - التفسير الميسر - (1/ 169)
(1/165)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنَّ خَيْرَ مَا يَسْتَعِينَُونَ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ، وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيهِمْ مِنْ مَصَائِبِ الحَيَاةِ هُوَ التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى احتِمَالِ المَكَارِهِ، وَأَدَاءِ الصَّلاَةِ وَإِقَامَتِهَا حَقَّ إِقَامَتِهَا. فَالصَّبْرِ أَشَدُّ الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَالصَّلاَةُ أَشَدُّ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ عََلَى البَدَنِ، وَاللهُ نَاصِرُ الصَّابِرِينَ، وَمُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ. (1)
" إن الإيمان بلا عمل زرع بلا ماء .. لا يزهر ولا يثمر. والصّبر هو عدة المؤمنين، وزادهم العتيد فى الطريق الشاق الذي يصحبون به الإيمان، ليصل بهم إلى التقوى، فبالصبر يغلب الإنسان شهواته، ويقهر أهواءه، ويحتمل تكاليف الشريعة، ويؤديها على الوجه الأكمل لها .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (52: البقرة) والصّبر ملاك أمره الصّدق .. الصدق فى القول والعمل .. والصدق مع النفس، ومع الناس، ومع اللّه ـ فإذا لم يكن ذلك كان الصّبر بلادة، وموانا، وموقفا سلبيا من الحياة. ولكن إذا واجه الإنسان الحياة ومعه الصبر وجد فى كل موقف شاق طريقين: طريق الكذب والهروب، وطريق الصدق والثبات .. وهنا تظهر فضيلة الصبر، ويتجلى أثره .. «الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)». والولاء للّه، والإنفاق فى سبيله، وقيام الليل واستقبال الأسحار بالتوبة والاستغفار .. كل هذه مواقف يمتحن فيها إيمان المؤمنين، وصبرهم، واستمساكهم بالحق الذي أمر اللّه به.
فبهذه المجاهدات ـ مع الإيمان ـ يبلغ الإنسان منازل المتقين، وينال رضوان اللّه، وينعم بجنات النعيم." (2)
" يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا ذلك أن اللّه سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع والذي يقتضيه القيام على دعوة اللّه في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 160)
(2) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 417)
(1/166)
ولا بد من الصبر في هذا كله .. لا بد من الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين للّه، والصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بعد الشقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض ..
وحين يطول الأمد، ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد، إذا لم يكن هناك زاد ومدد. ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد. المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع. ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والطمأنينة، والثقة، واليقين.
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى، يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة. حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة. حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب. حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق
هنا تبدو قيمة الصلاة .. إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية. إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض. إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض. إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير. إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود .. ومن هنا كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في الشدة قال: «أرحنا بها يا بلال» .. ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء باللّه.
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة. والعبادة فيه ذات أسرار. ومن أسرارها أنها زاد الطريق. وأنها مدد الروح. وأنها جلاء القلب. وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر .. إن اللّه سبحانه حينما
(1/167)
انتدب محمدا - صلى الله عليه وسلم - للدور الكبير الشاق الثقيل، قال له: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» .. فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن .. إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان. ومن ثم يوجه اللّه المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام .. إلى الصبر وإلى الصلاة ..
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» .. معهم، يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، إنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق ..
وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ». " (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 141)
(1/168)
المبحثُ الرابع
فضل طول الحياة في طاعة الله تعالى
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ». قَالَ فَأَىُّ النَّاسِ شَرٌّ قَالَ «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» أخرجه أحمد (1)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِكُمْ». قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَاراً وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالاً» أخرجه أحمد في مسنده (2)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ، فَوَجَدْنَا مَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ خَيْرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِينَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا فَعَقَلْنَا بِذَلِكَ أَنَّ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا عَمَّ بِهِ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، لَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ: مِنْ خَيْرِ النَّاسِ؟ فَعَمَّ بِذَلِكَ مَا الْمُرَادُ بَعْضُهُ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا كَثِيرًا، وَقَدْ جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ صَاحِبَةِ سُلَيْمَانَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ تُؤْتَ مِمَّا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الرِّيحِ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى خَاصٍّ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لَا عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ، فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا قَالَهُ هُوَ عَلَى بَعْضِ مَنْ ذَكَرَهُ، لَا عَلَى كُلِّهِمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ أَفْضَلُ النَّاسِ، بِمَعْنَى: مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، أَوْ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا (3)
__________
(1) - 5/ 40 و 47 (20953 و20983و21020و21021و21031و21041و21045) والترمذي (2331) و (2499و2500) والحاكم 1/ 336 (1256) وهو حديث صحيح.
(2) - أحمد 2/ 235 و 403 (7413 و9473) والبيهقي 3/ 371 (6765) وابن حبان (2465) موارد والإحسان (3043) والصحيحة (1298) والمستدرك (1255) عن جابر وهو حديث صحيح.
(3) - مشكل الآثار للطحاوي - (ج 11 / ص 354) (4529) حسن
(1/169)
وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ نَفَراً مِنْ بَنِى عُذْرَةَ ثَلاَثَةً أَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمُوا - قَالَ - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ يَكْفِنِيهِمْ». قَالَ طَلْحَةُ أَنَا. قَالَ فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ فَبَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْثاً فَخَرَجَ فِيهِ أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ - قَالَ - ثُمَّ بَعَثَ بَعْثاً فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ - قَالَ - ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ قَالَ طَلْحَةُ فَرَأَيْتُ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدِى فِى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ وَرَأَيْتُ الَّذِى اسْتُشْهِدَ أَخِيراً يَلِيهِ وَرَأَيْتُ الَّذِى اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمْ آخِرَهُمْ - قَالَ - فَدَخَلَنِى مِنْ ذَلِكَ - قَالَ - فَأَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمِّرُ فِى الإِسْلاَمِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ» أخرجه أحمد في مسنده (1)
وقد دلت هذه الأحاديث على فضل طول العمر مع حسن العمل، لأن من شأن المرء الازدياد والترقي من مقام إلى مقام، حتى ينتهي إلى مقام القرب.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ كَرَأْسِ الْمَالِ لِلتَّاجِرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّجِرَ فِيمَا يَرْبَحُ فِيهِ وَكُلَّمَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِ كَثِيرًا كَانَ الرِّبْحُ أَكْثَرَ، فَمَنْ اِنْتَفَعَ مِنْ عُمُرِهِ بِأَنْ حَسُنَ عَمَلُهُ فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ أَضَاعَ رَأْسَ مَالِهِ لَمْ يَرْبَحْ وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا اِنْتَهَى. (2)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - 1/ 163 (1417) ون (10606) والمجمع 10/ 204 والتلخيص 2/ 119 والصحيحة (654) وهو حديث حسن
(2) - راجع فيض القدير 3/ 480 والأحاديث رقم (4038 و4048و5307و7588)
(1/170)
المبحثُ الخامس
الترغيب في كلمات يقولهن من آلمه شيء من جسده
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ الثَّقَفِىِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعًا يَجِدُهُ فِى جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِى تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ. ثَلاَثًا. وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ». أخرجه مسلم (1)
أحاذر: أخاف. وَمَقْصُوده أَنَّهُ يُسْتَحَبّ وَضْع يَده عَلَى مَوْضِع الْأَلَم، وَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُور وَاللَّهُ أَعْلَم
وقال الباجي: قَوْلُ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ: وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَلِيلِ أَنْ يَصِفَ مَا بِهِ مِنْ الْأَلَمِ لِاسْتِدْعَاءِ الدَّوَاءِ، أَوْ الرُّقْيَةِ أَوْ الشِّفَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ وَقَدْ قَالَ: النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إنَّك لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا قَالَ: أَجَلٌ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّشَكِّيَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ فَقَالَ: لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَلَّا بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ فَقَالَ: النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَعَمْ إذًا وَقَوْلُهُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - امْسَحْهُ بِيَمِينِك يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَعْنَى التَّبَرُّكِ بِالتَّيَامُنِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْعَدَدَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فَقَالَ: فِي مَرَضِهِ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا وَاشْتَدَّ مَرَضُهُ هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ شِهَابٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ: فِيهِ ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي يَأْلَمُ مِنْ جَسَدِك وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ.
__________
(1) - في السلام باب 24 برقم (2202) وابن ماجة برقم (3651) وصحيح ابن حبان (3026و3029) والموطأ (1722) وأبو داود (3893) -
(1/171)
وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: وَقُلْ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ نَصٌّ عَلَى التَّعَوُّذِ فِيمَا نَزَلَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرْقَاءِ وَالدُّعَاءِ لِإِذْهَابِ الْمَرَضِ وَفِي مَعْنَاهُ التَّدَاوِي بِذَلِكَ وَيَحْتَمِلُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ مَعَ كُلِّ مَسْحَةٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنِّي مَا كَانَ بِي يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ بِهِ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ لَمَّا جَرَّبَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا وَإِذْهَابِ الْأَدْوَاءِ بِهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - (1).
وعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ؛إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، وَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ، ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا. فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَنِي، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُ بِذَلِكَ. رواه الترمذي (2)
قال المناوي رحمه الله: (إذا اشتكيت) أي مرضت (فضع يدك حيث تشتكي) على الموضع الذي يؤلمك ولعل حكمة الوضع أنه كبسط اليد للسؤال (ثم قل) ندباً (بسم الله) ظاهره أنه لا يزيد الرحمن الرحيم ويحتمل أن المراد البسملة بكمالها (أعوذ) أي أعتصم بحضور قلب وجمع همة. قال الزمخشري: والعياذ واللياذ من واد واحد (بعزة الله وقدرته من شر ما أجد) زاد في رواية لابن ماجه وأحاذر (من وجعي هذا) أي مرضي وألمي هذا تأكيد لطلب زوال الألم، وأخر التعوذ لاقتضاء المقام ذلك (ثم ارفع يدك ثم أعد ذلك) أي الوضع والتسمية والاستعاذة بهذه الكلمات (وتراً) أي ثلاثاً كما بينه في رواية مسلم وفي حديث آخر سبعاً كما يأتي إن شاء الله تعالى وفي أخرى التسمية ثلاثاً والاستعاذة سبعاً يعني فإن ذلك يزيل الألم أو يخففه بشرط قوة اليقين وصدق النية ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل أن يأتي به من يعوذه ويقول من شر ما يجد هذا ويحاذر وإطلاق اليد يتناول اليسرى فتحصل السنة بوضعها لكن الظاهر من عدة أحاديث تعين اليمنى للتيمن أي إلا لعذر. فإن قلت لم عبر بالوضع دون الألم؟ قلت: إشارة إلى ندب الذكر المذكور وإن لم يكن المرض
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 4 / ص 359) (1479)
(2) - برقم (3937) والحاكم برقم (7515) والمرض والكفارات (151) وهو صحيح لغيره
(1/172)
شديداً إذ الألم كما قال الراغب: الوجع الشديد فلو عبر به اقتضى أن الندب مقيد بما إذا اشتد الوجع وأنه بدون الشدة غير مشروع وهذا الحديث من الطب الروحاني (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - فيض القدير (448)
(1/173)
المبحثُ السادس
الترغيب في عيادة المرضى
عن أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» رواه البخاري ومسلم (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ وَيَشْهُدُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ» (2)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِى فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِى. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى». رواه مسلم (3)
قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَالْمُرَاد الْعَبْد تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى (وَجَدْتنِي عِنْده) أَيْ وَجَدْت ثَوَابِي وَكَرَامَتِي، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي تَمَام الْحَدِيث: " لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي، لَوْ أَسْقَيْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي " أَيْ ثَوَابه. وَاَللَّه أَعْلَم.
__________
(1) - البخاري 2/ 90 (1240) ومسلم (2162)
(2) - أحمد (11257) صحيح
(3) - في البر باب 13 (2569)
(1/174)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عُودُوا الْمَرْضَى وَاتَّبِعُوا الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ» رواه أحمد (1)
وعن أبي سعيد الخدري، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خمسٌ من عملهنَّ في يومٍ كتبهُ اللهُ من أهلِ الجنةِ: مَنْ عادَ مريضاً، وشهدَ جنازةً، وصامَ يوماً، وراحَ إلى الجمعةِ، وأعتقَ رقبةً». رواه ابن حبان في صحيحه (2)
وعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِى خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» رواه مسلم (3)
وعَنْ ثُوَيْرٍ هُوَ ابْنُ أَبِى فَاخِتَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخَذَ عَلِىٌّ بِيَدِى قَالَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْحَسَنِ نَعُودُهُ. فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ أَبَا مُوسَى فَقَالَ عَلِىٌّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَعَائِدًا جِئْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَمْ زَائِرًا فَقَالَ لاَ بَلْ عَائِدًا. فَقَالَ عَلِىٌّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِىَ وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِى الْجَنَّةِ» رواه الترمذي (4)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِى الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا» رواه أحمد (5)
وعَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ قَالَ لِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ» رواه ابن ماجه (6)
__________
(1) - 3/ 32و48 (11481و11756) وعب (6763) وش (10841) وهو صحيح.
(2) - 4/ 191 (2826) والمجمع 2/ 166 (3027) والصحيحة (1023) وهو صحيح.
(3) - برقم (2568) وأحمد 5/ 279 و 283 (23070و23107) والترمذي (983).الخرفة: أى اجتناء ثمر الجنة
(4) - الترمذي (985) وأحمد 1/ 118 (967) والبزار (777) وابن ماجة (1509) وعب (6768) وش (10836) والضياء 1/ 400وك (1293و1294) وصحيح الترغيب (3476) من طرق عنه وهو حديث صحيح لطرقه.
(5) - 3/ 304 (14631) والمستدرك (1295) والبيهقي في السنن (6822) والإحسان (3018) وهو حديث صحيح. اغتمس: أغدق الله بنعمه عليه وعمه برضاه
(6) - برقم (1441) و (1508) وابن السني (556) إسناد صحيح لكنه منقطع ميمون بن مهران لم يسمع من عمر. وله شاهد غير قوي الشعب (6214) وأعله ابن حجر في التهذيب بعلة خفية وهي أن كثير بن هشام رواه عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان .. وعيسى متروك وتابعه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (1004)
أقول: ما قالاه مجرد احتمال لكن سند ابن ماجه ثنا جعفر بن مسافر ثنى كثير بن هشام ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن عمر. وجعفر صدوق كما في الكاشف (811) وقد روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم وهو يرويه عن شيخه كثير بصيغة التحديث وكثير يرويه عن جعفر بصيغة التحديث ولم يوصف أحد منهم بالتدليس، كما أن كثير بن هشام مجمع على ثقته وهو من أروى الناس عن جعفر بن برقان كما في التهذيب فلم لا تكون الرواية الثانية التي فيها عيسى بن إبراهيم وهم من راويها وغلط ! ولا سيما أن جعفر بن مسافر من شيوخ ابن ماجه المباشرين. ومن هنا فإن المنذري والبوصيري والنووي وغيرهم أعلوه فقط بالانقطاع. كما أن الحافظ ابن حجر حسنه في الفتح وأعله بالانقطاع وهذا هو الراجح لأن الفتح مؤلف بعد التهذيب بكثير وهو من الكتب التي رضى عنها .. الفيض (595)
(1/175)
قَالَ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ لَمْ يَزَلْ فِي خرفة الْجَنَّةِ فَإِنَّ مَمْشَاهُ إِلَى الْمَرِيضِ لَمَّا كَانَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى كُلِّ خُطْوَةٍ كَانَ الْخُطَّا سَبَبًا إِلَى نَيْلِ الدَّرَجَاتِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، عَبَّرَ بِهَا عَنْهَا لِأَنَّهُ بِسَبَبِهَا مَجَازٌ اِنْتَهَى
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ» أخرجه أبو داود (1)
وعَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. صَدَّقَهُ رَبُّهُ فَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ. قَالَ يَقُولُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنَا وَحْدِى. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَحْدِى لاَ شَرِيكَ لِى. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا لِىَ الْمُلْكُ وَلِىَ الْحَمْدُ. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِى. وَكَانَ يَقُولُ مَنْ قَالَهَا فِى مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ» أخرجه الترمذي (2)
__________
(1) - أبو داود (3108) والحاكم 1/ 342 و 4/ 213 و 416 (1268 و1269 و8282) والضياء (10/ 368، رقم 394) وهو حديث صحيح لغيره.
(2) - برقم (3758) ون عمل (29) ون (9773 - 9777و10108) وصحيح الترغيب وهو صحيح لغيره.
(1/176)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِى اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً» رواه الترمذي (1)
فمن هذه النصوص النبوية التي سبقت يتضح لنا ما لعيادة المريض من أهمية، وما للقائم بها من الأجر العظيم، فينبغي على المسلم أن يعنى بها وأن لا يتكاسل عنها، فإذا علم بأخ له مريض فليسارع في عيادته، وتفقد حاله، وإخبار أصحابه بما حصل لأخيه، حتى يقوموا بزيارته، والدعاء له.
ولما كان أهل الحي الواحد، كالأسرة الواحدة يعرف بعضهم بعضاً في الغالب، فينبغي عليهم إذا مرض أحدهم أن يزوروه، ويتفقدوا أحواله، ويعينوه على ما يحتاج. فبهذه الزيارة يدخل الفرح إلى قلوب المرضى، ويتنفس عنهم ما يجدون من الهم والغم، ويعلمون أن لهم إخواناً يواسونهم ويعينونهم على ما يحتاجون، وكذلك يعرف المسلم عظمة هذا الدين، وما حث عليه، وأنه ما من خير إلا ودلهم عليه، وما من شر إلا وحذرهم منه.
وبما أن أصحاب الحي كثير ويتعذر زيارتهم في وقت واحد، إما لمشاغلهم أو لكثرتهم، أو لظروف أخرى، فينبغي الترتيب لهذه الزيارة، بحيث تؤدي الغرض على أكمل وجه، وذلك من خلال الترتيب فيما بينهم في كيفية الزيارة، وعدد الزائرين والتنسيق مع أهل المريض، وتقديم بعض الهدايا، حتى تكون زيارة موفقة، وتؤدي الغرض، ويحصل بها النفع.
ويستحب للزائرين أن يدعو للمريض بالشفاء والعافية، وأن يوصوه بالصبر والاحتمال، وأن يقولوا له الكلمات الطيبة التي تطيب نفسه، وتقوي روحه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على من يعود قال: (لا بأس طهور إن شاء الله) ويستحب تخفيف العيادة وتقليلها ما أمكن، حتى لا يثقل على المريض؛ إلا إذا رغب في ذلك.
وفي الموسوعة الفقهية (2)
آدَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
__________
(1) - برقم (2139) وابن ماجة (1510) وحم (7863) والإحسان (3023) وصحيح الترغيب (2578) حسن لغيره
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 31 / ص 78) فما بعد
(1/177)
مِنْ آدَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ: أَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَأْنَسَ بِهِ، وَأَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى جِسْمِهِ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، وَيُنَفِّسَ لَهُ فِي الأَْجَل بِأَنْ يَقُول مَا يُسَرُّ بِهِ، وَيُوصِيهِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَرَضِهِ، وَيَذْكُرَ لَهُ فَضْلَهُ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ. وَيَسْأَل مِنْهُ الدُّعَاءَ فَدُعَاؤُهُ مُجَابٌ كَمَا وَرَدَ.
وَمِنَ الآْدَابِ: أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ مَا يَسْتَرْوِحُ بِهِ كَرَيْحَانٍ أَوْ فَاكِهَةٍ. وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لِذَلِكَ، وَأَنْ يُرَغِّبَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالْوَصِيَّةِ إِنْ لَمْ يَتَأَذَّ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِ أَمَارَاتُ مَوْتٍ عَلَى الأَْوْجَهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّل حَال الْمَرِيضِ وَكَلِمَاتِهِ، فَإِنْ رَأَى الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَزَالَهُ عَنْهُ بِذِكْرِ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ لَهُ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَادَ الْمَرِيضَ جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ثُمَّ قَال سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ عُوفِيَ مِنْ وَجَعِهِ (1)
وَقْتُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
تُسَنُّ الْعِيَادَةُ فِي كُل وَقْتٍ قَابِلٍ لَهَا بِأَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَى الْمَرِيضِ الدُّخُول عَلَيْهِ فِيهِ، وَهِيَ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ يَمْضِي مِنَ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، وَلأَِيِّ مَرَضٍ كَانَ. وَكَرَاهَتُهَا فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ لاَ أَصْل لَهُ. وَتَكُونُ عَقِبَ الْعِلْمِ بِالْمَرَضِ وَإِنْ لَمْ تَطُل مُدَّةُ (2)
مَنْ تُشْرَعُ لَهُ زِيَارَةُ الْمَرِيضِ؟
تُشْرَعُ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ لِلْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَنْ يَعْرِفُ الْمَرِيضَ وَمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْقَرِيبُ وَالأَْجْنَبِيُّ، إِلاَّ أَنَّهَا لِلْقَرِيبِ وَمَنْ يَعْرِفُهُ آكَدُ وَأَفْضَل لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ، فَالْجَارُ هُوَ الْقَرِيبُ مِنْ مَحَلِّهِ بِحَيْثُ تَقْضِي الْعَادَةُ بِوُدِّهِ وَتَفَقُّدِهِ وَلَوْ مَرَّةً.
وَأَمَّا الْعَدُوُّ فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الْعِيَادَةَ وَعَلِمَ أَوْ ظَنَّ كَرَاهَةَ الْمَرِيضِ لِدُخُول مَحَلِّهِ وَأَنَّهُ يَحْصُل لَهُ بِرُؤْيَتِهِ ضَرَرٌ لاَ يُحْتَمَل عَادَةً حَرُمَتِ الْعِيَادَةُ أَوْ كُرِهَتْ (3)
__________
(1) - الأدب المفرد (536) صحيح
(2) - فتح الباري 10/ 113، ودليل الفالحين 3/ 372.
(3) - فتح الباري 10/ 113.
(1/178)
الدُّعَاءُ لِلْمَرِيضِ:
كَانَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَدْعُو لَهُ بِالشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ فَجَاءَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِي، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ. قَال: فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَال إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ (1)
وَقَدْ أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - كُل مَنْ يَعُودُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ مَا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُول سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَل اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عُوفِيَ. (2)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ قَال أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (3)
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ تَأْنِيسٌ لَهُ، وَتَعَرُّفٌ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ، لِيَدْعُوَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَبْدُو لَهُ مِنْهُ، وَرُبَّمَا رَقَاهُ بِيَدِهِ وَمَسَحَ عَلَى أَلَمِهِ بِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَلِيل (4)
ــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (5659)
(2) - مر تخريجه
(3) - صحيح البخارى (5675)
(4) - الطب النبوي لابن القيم ص75.
(1/179)
المبحثُ السابع
الترغيب في الوصية والعدل فيها
عَنْ عبد الله أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَىْءٌ يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلَىَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِى وَصِيَّتِى رواه البخاري ومسلم (1)
والمراد الحزم والاحتياط لأنه قد يفجؤه الموت، وهي غير واجبة، والواجب الخروج من الحقوق الواجبة للغير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِى الْوَصِيَّةِ «فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ». قَالَ وَقَرَأَ عَلَىَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ هَا هُنَا (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حَتَّى بَلَغَ (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) رواه أبو داود (2)
المضارة في الوصية: إعطائها لغير مستحقيها أو تكون في معصية.
وفي تحفة الأحوذي: (فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ) مِنْ الْمُضَارَّةِ أَيْ يُوَصِّلَانِ الضَّرَرَ إِلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ بِأَنْ يَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ كَيْ لَا يُورَثُ وَارِثٌ آخَرُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ وَفِرَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ اِبْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنْ يُوصِيَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ أَوْ يُوصِيَ بِعَدَمِ إِمْضَاءِ مَا أَوْصَى بِهِ حَقًّا بِأَنْ نَدِمَ مِنْ وَصِيَّتِهِ أَوْ يَنْقُضَ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ (فَيَجِبُ لَهُمَا النَّارُ) أَيْ فَتَثْبُتُ. وَالْمَعْنَى يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ وَلَكِنَّهُمَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ (ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، قَائِلُهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ أَيْ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ اِسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا ({مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}) مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ ({يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}) بِبِنَاءِ الْمَجْهُولِ
__________
(1) - البخاري 4/ 2 (2738) ومسلم في الوصية ج 1 و 4 (1627) ومالك (1458)
(2) - برقم (2869) والترمذي (2263) والبيهقي 6/ 271 (12961) وهو حديث حسن.
(1/180)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى حَافَ فِى وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِى وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) [النساء/13 - 15] أخرجه ابن ماجه (1)
خاف: حار وظلم سواء أكان حاكماً أو غير حاكم، فهو خائف قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} (9) سورة النساء
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْراً؟ فَقَالَ: «أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» رواه البخاري ومسلم (2)
الروح الحلقوم: أي بلغت الروح موضع خروجها، ففي هذا الوقت انتهى العمل وخرج المال من يد المورث إلى الورثة، فلا تنفع الصدقة كما لا تنفع المثوبة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الشُّحّ أَعَمّ مِنَ الْبُخْل، وَكَأَنَّ الشُّحّ جِنْس وَالْبُخْل نَوْع، وَأَكْثَر مَا يُقَال الْبُخْل فِي أَفْرَاد الْأُمُور، وَالشُّحّ عَامّ كَالْوَصْفِ اللَّازِم وَمَا هُوَ مِنْ قِبَل الطَّبْع قَالَ: فَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لِأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر. (وَتَأْمُل الْغِنَى). بِضَمِّ الْمِيم أَيْ تَطْمَع بِهِ. وَمَعْنَى (بَلَغَتْ الْحُلْقُوم): بَلَغَتْ الرُّوح، وَالْمُرَاد قَارَبَتْ بُلُوغ الْحُلْقُوم إِذْ لَوْ بَلَغَتْهُ حَقِيقَةً لَمْ تَصِحّ وَصِيَّته وَلَا صَدَقَته وَلَا
__________
(1) - ابن ماجه (2704) وأحمد 2/ 278 (7958) وطب (597) وطس (3120) حديث حسن.
(2) - البخاري 2/ 137 و 4/ 5 (1419 و2748) ومسلم في الزكاة ج 92 و 93 (1032) واللفظ له
(1/181)
شَيْء مِنْ تَصَرُّفَاته بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاء. وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ الْوَارِث، وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِهِ سَبَقَ الْقَضَاء بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ تَصَرُّفه وَكَمَال مِلْكِهِ وَاسْتِقْلَاله بِمَا شَاءَ مِنْ التَّصَرُّف فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح (1).
وعَنِ أَبِى حَبِيبَةَ الطَّائِىِّ قَالَ أَوْصَى إِلَىَّ أَخِى بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقُلْتُ إِنَّ أَخِى أَوْصَى إِلَىَّ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ فَأَيْنَ تَرَى لِى وَضْعَهُ فِى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ أَوِ الْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ لَمْ أَعْدِلْ بِالْمُجَاهِدِينَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَثَلُ الَّذِى يُعْتِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الَّذِى يُهْدِى إِذَا شَبِعَ (2)». رواه الترمذي (3)
قَوْلُهُ: (أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أَعْدِلْ بِالْمُجَاهِدِينَ) أَيْ لَمْ أُسَاوِ بِهِمْ الْفُقَرَاءَ أَوْ الْمَسَاكِينَ وَغَيْرَهُمْ. وَالْمَعْنَى لَوْ كُنْت أَنَا مُوصِيًا لَمْ أُوصِ إِلَّا لِلْمُجَاهِدِينَ (مَثَلُ الَّذِي يُعْتِقُ) وَفِي رِوَايَةٍ يَتَصَدَّقُ (عِنْدَ الْمَوْتِ) أَيْ عِنْدَ اِحْتِضَارِهِ. وَفِي الْمِشْكَاةِ: مَثَلُ الَّذِي يَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ يُعْتِقُ (كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْإِهْدَاءِ نَوْعُ اِسْتِخْفَافٍ بِالْمُهْدَى إِلَيْهِ اِنْتَهَى.وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مَرْتَبَةٌ نَاقِصَةٌ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ وَالْإِعْتَاقَ حَالَ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ، كَمَا أَنَّ السَّخَاوَةَ عِنْدَ الْمَجَاعَةِ أَكْمَلُ قَالَهُ الْقَارِي (4).
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الَّذِى يُعْتِقُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَثَلِ الَّذِى يُهْدِى إِذَا شَبِعَ» رواه أبو داود (5)
وفي عون المعبود: (إِذَا شَبِعَ): لِأَنَّ أَفْضَل الصَّدَقَة إِنَّمَا هِيَ عِنْد الطَّمَع فِي الدُّنْيَا وَالْحِرْص عَلَى الْمَال فَيَكُون مُؤْثِرًا لِآخِرَتِهِ عَلَى دُنْيَاهُ صَادِرًا فِعْلُهُ عَنْ قَلْب سَلِيم وَنِيَّة
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 482)
(2) - أي ما لا قيمة له.
(3) - في الوصية باب 3 (2868) والفتح 5/ 374 والإحسان (3403) وهو حديث حسن
(4) - تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 405)
(5) - برقم (2269) وأبو داود برقم (3970) وعب (16741) وحم (22351) وك (2846) والفتح 5/ 374 وهو حديث حسن.
(1/182)
مُخْلَصَة فَإِذَا أَخَّرَ فِعْل ذَلِكَ حَتَّى حَضَرَهُ الْمَوْت كَانَ اِسْتِيثَارًا دُون الْوَرَثَة وَتَقْدِيمًا لِنَفْسِهِ فِي وَقْت لَا يَنْتَفِع بِهِ فِي دُنْيَاهُ فَيَنْقُص حَظّه.قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي فَتْح الْقَدِير: وَالْحَدِيث صَحَّحَهُ الْحَاكِم وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيّ. وَقَالَ اِبْن حَجَر: إِسْنَاده حَسَن، وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِزِيَادَةِ الصَّدَقَة، فَقَالَ " مَثَل الَّذِي يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته أَوْ يُعْتِق كَاَلَّذِي يُهْدِي إِذَا شَبِعَ " اِنْتَهَى.قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن صَحِيح
ــــــــــــــــ
(1/183)
المبحثُ الثامن
فضل الموت
قال العلماء: الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقة وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار لدار.
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقُلُّ لِلْحِسَابِ». أخرجه أحمد (1)
وعَنِ أَبِى قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِىٍّ الأَنْصَارِىِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» أخرجه الشيخان (2)
قَالَ اِبْن التِّين. يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِالْمُؤْمِنِ التَّقِيّ خَاصَّة وَيَحْتَمِل كُلّ مُؤْمِن. وَالْفَاجِر يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهِ الْكَافِرَ وَيَحْتَمِل أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْعَاصِي. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: أَمَّا اِسْتِرَاحَةُ الْعِبَادِ فَلِمَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ فَإِنْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ آذَاهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا وَاسْتِرَاحَة الْبِلَاد مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْجَدْبُ فَيَقْتَضِي هَلَاكَ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ. وَتَعَقَّبَ الْبَاجِيّ أَوَّلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ مَنْ نَالَهُ أَذَاهُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُنْكِر بِقَلْبِهِ أَوْ يُنْكِر بِوَجْهٍ لَا يَنَالُهُ بِهِ أَذًى وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِرَاحَةِ الْعِبَادِ مِنْهُ لِمَا يَقَع لَهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ وَرَاحَةُ الْأَرْضِ مِنْهُ لِمَا يَقَع عَلَيْهَا مِنْ غَصْبِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ حَقِّهَا وَصَرْفِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَرَاحَة الدَّوَابِّ مِمَّا لَا يَجُوزُ مِنْ إِتْعَابِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (3).
__________
(1) - 5/ 427 (24343) والمجمع 10/ 257 (3904و17879) وشرح السنة (3890) والصحيحة (813) وهو حديث صحيح.
(2) - البخاري 5/ 133 و 134 (6512و6513) ومسلم (950) ونص (1942و1943) وأحمد (23199).
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 354)
(1/184)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» أخرجه أحمد (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاَّ الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ فِى الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» أخرجه مسلم (2)
قال النووي رحمه الله:هَذَا مِنْ صَرَائِح الْأَدِلَّة فِي عَظِيم فَضْل الشَّهَادَة، وَاللَّهُ الْمَحْمُود الْمَشْكُور. وَأَمَّا سَبَب تَسْمِيَته شَهِيدًا: فَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْلٍ: لِأَنَّهُ حَيّ، فَإِنَّ أَرْوَاحهمْ شَهِدَتْ وَحَضَرَتْ دَار السَّلَام وَأَرْوَاح غَيْرهمْ إِنَّمَا تَشْهَدهَا يَوْم الْقِيَامَة"
وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:"وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْ نَفْسٍ حَيَّةٍ إِلا الْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا إِنْ كَانَ بَرًّا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ" [آل عمران: 198] وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا , إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا" [آل عمران: 178] ". أخرجه الطبراني (3)
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء اللّه وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية يحسبون أن اللّه - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن اللّه - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه اللّه ينمو ويكبر ويغلب؟!
__________
(1) - برقم (7034) برقم (598) والمجمع 10/ 289 (17079) ومب (587) وشرح السنة (3930) والحاكم 4/ 315 (7882) والمقاصد الحسنة (495) وهو حديث حسن لغيره. السنة: الجدب والقحط
(2) - برقم (1877) ونص (3172) وش (19315) وأحمد 5/ 318 (12607)
(3) - برقم (8672) والقضاء والقدر للبيهقي (264) وك (3168) وهو صحيح موقوف.
(1/185)
أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم .. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!! وهذا كله وهم باطل، وظن باللّه غير الحق، والأمر ليس كذلك. وها هو ذا اللّه سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن .. إنه إذا كان اللّه لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه .. إذا كان اللّه يأخذهم بهذا الابتلاء، فإنما هي الفتنة وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد:
«وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ .. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً»! ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم اللّه من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم .. ولكنه لا يريد بهم خيرا، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم اللّه من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء! «وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .. والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من اللّه نعمة لا تصيب إلا من يريد له اللّه به الخير. فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده اللّه لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل اللّه على أوليائه المؤمنين. وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم. (1)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 524)
(1/186)
وعَنْ قَيْسِ بن حَبْتَرٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:"يَا حَبَّذَا الْمَكْرُوهَانِ: الْمَوْتُ وَالْفَقْرُ، وَأَيْمُ اللَّهِ أَلا إِنَّ الْغِنَى وَالْفَقْرَ وَمَا أُبَالِي بِأَيِّهِمَا ابْتُلِيتُ، إِنْ كَانَ الْغِنَى إِنَّ فِيهِ لَلْعَطْفِ، وَإِنْ كَانَ الْفَقْرُ إِنَّ فِيهِ لِلصَّبْرِ". أخرجه الطبراني (1)
ولا شك أن المؤمن الصادق يحب الموت، لأن فيه لقاء الله تعالى وهو أغلى أمنية عنده، ولأنه يتخلص من عذاب الدنيا وهمومها وغمومها التي لا تنقطع، ومن أسباب ضياع المسلمين اليوم هو حب الدنيا وكراهية الموت، كما ورد هذا في حديث صحيح عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». (2)
ـــــــــــــ
__________
(1) - برقم (8436) وتهذيب الآثار (2557) وهب (9617) والزهد لأحمد (854) والحلية 3/ 121 و تاريخ أصفهان 2/ 231 وتاريخ بغداد 1/ 347 والفيض 6/ 279 وهو حسن موقوف. وايم الله: أسلوب قسم بالله تعالى وأصلها ايمُن الله، الابتلاء: الاختبار والامتحان بالخير أو الشر
(2) - أخرجه أبو داود برقم (4299) صحيح
(1/187)
المبحثُ التاسع
الترهيب من كراهية الموت والترغيب بمحبته
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» رواه البخاري ومسلم (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «قَالَ اللَّهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدِى لِقَائِى أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِى كَرِهْتُ لِقَاءَهُ» رواه البخاري (2)
قَالَ اِبْن الْأَثِير فِي النِّهَايَة: الْمُرَاد بِلِقَاءِ اللَّه هُنَا الْمَصِير إِلَى الدَّار الْآخِرَة وَطَلَب مَا عِنْد اللَّه وَلَيْسَ الْغَرَض بِهِ الْمَوْت لِأَنَّ كُلًّا يَكْرَهُهُ فَمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَبْغَضَهَا أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَمَنْ آثَرَهَا وَرَكَنَ إِلَيْهَا كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ. وَقَوْل عَائِشَة وَالْمَوْت دُون لِقَاء اللَّه يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَوْت غَيْرُ اللِّقَاءِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَرِضٌ دُونَ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ فَيَجِبُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلَ مَشَاقَّهُ حَتَّى يَصِل إِلَى الْفَوْزِ بِاللِّقَاءِ.
وعَنِ فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِكَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُكَ، فَحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَقْلِلْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ وَيَشْهَدْ أَنِّي رَسُولُكَ، فَلا تُحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَلا تُسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا" رواه الطبراني (3)
__________
(1) - البخاري 8/ 133 (65076508) ومسلم (2683 - 2686) والترمذي (1087و1088) وهو حديث متواتر. انظر جامع الأصول 9/ 595 - 598.
(2) - البخاري (7504) ومسلم (2685) ومالك (573) وجامع الأصول 5/ 598
(3) - برقم (15203) وتهذيب الآثار (2536) والإحسان (208) وصحيح الجامع (1311) وهو حديث صحيح.
(1/188)
وقال المناوي (1): (اللّهم من آمن بك) أي صدق بأنك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك (وشهد أني رسولك) إلى الثقلين (فحبب إليه لقاءك وسهل عليه قضاءك) فيتلقاك بقلب سليم وخاطر منشرح ولا ينهمك في شيء من قضائك ويعلم أنه ما من شيء قدرته إلا وله وفيه خيور كثيرة دينية فيحسن ظنه بك (وأقلل له من الدنيا) أي من زهرتها وزينتها ليتجافى بالقلب عن دار الغرور ويميل به إلى دار الخلود (ومن لم يؤمن ويشهد أني رسولك فلا تحبب إليه لقاءك ولا تسهل عليه قضاءك وكثر له من الدنيا) وذلك هو غاية الشقاء فإن مواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة يورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها حتى تصير كالجنة في حقه فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يسكن إليها ولم يأنس بها فتصير كالسجن له وخروجه منها غاية اللذة كالخلاص من السجن.
وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ رواه االحاكم (2)
وفي الفتوحات: " الموت للمؤمن تحفةٌ،والنعش له محفةٌ ينقله من العدوة الدينا إلى العدوة القصوى حيث لا فتنة ولا بلوى فينزله أحسن منزل في أخصب منزل،منزلُ لذةٍ ونعيمٍ ويسقَى من عين مزاجُها من تسنيم "
" وما مات أحدٌ إلا بحلول أجله،وما قبضَ إلا دونَ أملِه،ليس بخاسرٍ ولا مغبونٍ مَن كان أملَه المنونُ، فإن فيه اللقاءَ الإلهيَّ،والبقاءَ الكيانيَّ، ومن ذلك سِرُّ الموت وما فيه منَ الفوتِ " (3)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - في فيض القدير (1500)
(2) - الحاكم 4/ 319 (7900) والمجمع 2/ 320 وهب (9535) وإتحاف الخيرة (1831) وشرح السنة (1424) وابن المبلرك في الزهد (588) والمطالب (708 و 3094) وكشف الخفاء (948) وهو حديث حسن لغيره
(3) - الفتوحات المكية - (7/ 95)
(1/189)
المبحثُ العاشر
استحباب ذكر الموت والاستعداد له
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» أخرجه الترمذي (1)
هاذم: هازم: قاطع. بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة بِمَعْنَى قَاطِعِهَا أَوْ بِالْمُهْمَلَةِ مِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ وَالْمُرَاد الْمَوْتُ وَهُوَ هَادِمُ اللَّذَّاتِ إِمَّا لِأَنَّ ذِكْرَهُ يُزْهِدُ فِيهَا أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ مَا يُبْقِي مِنْ لَذَائِذِ الدُّنْيَا شَيْئًا وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَمُ
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذاتِ، فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسَّعهُ عليه، ولا في سعةٍ إلا ضيَّقهُ عليهِ» أخرجه البزار (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا». قَالَ فَأَىُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ». أخرجه ابن ماجه (3)
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ». قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ دَانَ نَفْسَهُ». يَقُولُ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِى الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا
__________
(1) - برقم (2477) والنسائي 4/ 4 (1835) وابن ماجه (4399) والحاكم 4/ 321 (7909) وابن حبان (2559) موارد وهو حديث صحيح
(2) - المجمع 10/ 308 (18205) والأموال لابن زنجويه (740) والزهد هق (560) وصحيح الترغيب (3334) والإحسان (3055) وهو حديث صحيح لغيره.
(3) - برقم (4400) والحاكم 4/ 540 (8623) وطس (4827) وهب (7764و10154) والشاميين (1529) والحلية 1/ 313 وهو حديث حسن. الكيس: العقل والفطنة، الأكياس: من الكياسة وهي تمكن النفوس من استنباط ما هو أنفع
(1/190)
يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِى الدُّنْيَا. (1) وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ (2): لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ أَشَدَّ مِنْ مُحَاسَبَةِ الرَّجُلِ شَرِيكَهُ حَتَّى يَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ وَمَكْسَبُهُ .. أخرجه الترمذي (3)
(الْكَيِّسُ) أَيْ الْعَاقِلُ الْمُتَبَصِّرُ فِي الْأُمُورِ النَّاظِرُ فِي الْعَوَاقِبِ (مَنْ دَانَ نَفْسَهُ) أَيْ حَاسَبَهَا وَأَذَلَّهَا وَاسْتَعْبَدَهَا وَقَهَرَهَا حَتَّى صَارَتْ مُطِيعَةً مُنْقَادَةً (وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ) قَبْلَ نُزُولِهِ لِيَصِيرَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَالْمَوْتُ عَاقِبَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَالْكَيِّسُ مَنْ أَبْصَرَ الْعَاقِبَةَ (وَالْعَاجِزُ) الْمُقَصِّرُ فِي الْأُمُورِ (مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا) مِنْ الْإِتْبَاعِ أَيْ جَعَلَهَا تَابِعَةً لِهَوَاهَا فَلَمْ يَكُفَّهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا عَنْ مُقَارَنَةِ الْمُحَرَّمَاتِ (وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ فَهُوَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِ لَا يَعْتَذِرُ بَلْ يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعَاجِزُ الَّذِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَمِلَ مَا أَمَرَتْهُ بِهِ نَفْسُهُ فَصَارَ عَاجِزًا لِنَفْسِهِ فَأَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَأَعْطَاهَا مَا اِشْتَهَتْهُ، قُوبِلَ الْكَيِّسُ بِالْعَاجِزِ وَالْمُقَابِلُ الْحَقِيقِيُّ لِلْكَيِّسِ السَّفِيهُ الرَّأْيِ وَلِلْعَاجِزِ الْقَادِرُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْكَيِّسَ هُوَ الْقَادِرُ، وَالْعَاجِزَ هُوَ السَّفِيهُ وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أَيْ يُذْنِبُ وَيَتَمَنَّى الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ (4).
__________
(1) - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: حاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْل أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 270) (35600) وأخبار أصبهان (1156) وأدب النفوس للآجري (17) حسن لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 519) (36419) صحيح
(3) - برقم (2647) وهـ (4401) وأحمد 4/ 24 (17588) والحاكم 1/ 57 و 4/ 251 (191و7639) وطب (6995و6997) وهق (6749) وهو حديث حسن.
ملاحظة: أخطأ الذهبى فى رده لتصحيح الحاكم وتابعه المناوى فى الفيض 5/ 68 والألبانى فى ضعيف الجامع (4305) لظنهم أنه مما تفرد به أبو بكر بن أبى مريم الغسانى، وفاتهم أنه قد تابعه ثور بن يزيد وغالب عن مكحول عن ابن غنم عن شداد بن أوس وكذلك مكحول البيروتى ثنا إبراهيم بن بكر بن عمرو قال: سمعت أبى يحدث عن ثور وغالب به الإتحاف8/ 428 فتأمل يا رعاك الله واحذر التسرع فى تضعيف الأحاديث.
(4) - تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 251)
(1/191)
وعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاكِتٌ، فَلَمَّا سَكَتُوا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:"هَلْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الْمَوْتِ؟ " قَالُوا: لا، قَالَ:"فَهَلْ كَانَ يَدَعُ كَثِيرًا مِمَّا يَشْتَهِي؟ "قَالُوا: لا، قَالَ:"مَا بَلَغَ صَاحِبُكُمْ كَثِيرًا مِمَّا تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ"» رواه الطبراني (1)
فالإكثار من ذكر الموت يجعل الإنسان على استعداد تام له، فمن تذكر الموت لا يعصي الله خشية أن يأتيه الموت وهو متلبس بالمعصية، وإذا ذكر الموت وكان عاصياً ثاب إلى رشده قبل فوات الأوان، وإذا تذكر الموت انضبط بشكل دقيق، بحيث لا يسمح لأهوائه وشهواته أن تسيطر عليه.
إنه لا إصلاح للبشرية إلا بذكر الموت، لأنه صمام الأمان من الفساد والسقوط والتردي، فالذي يتذكر الموت، لا بد أن يتذكر ما بعد الموت، وإلى أين سيذهب، ولا بد أن يتذكر الجزاء، والوقوف بين يدي الله، لا حول له ولا طول، وليس معه إلا ما قدم من عمل.
لذا قالوا: من أكثر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة، اللهم اجعلنا ممن يتذكر الموت قبل الفوت يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (5808) المجمع 10/ 309 (18206) وقال رواه الطبراني وإسناده حسن.
(1/192)
المبحثُ الحادي عشر
تحسين الظن بالله والخوف منه
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ «لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». أخرجه مسلم (1)
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرْح الْمُهَذَّب: مَعْنَى تَحْسِين الظَّنّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَظُنّ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَرْحَمهُ وَيَرْجُو ذَلِكَ بِتَدَبُّرِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي كَرَم اللَّه تَعَالَى وَعَفْوه وَمَا وَعَدَ بِهِ أَهْل التَّوْحِيد وَمَا سَيُبَدِّلُهُمْ مِنْ الرَّحْمَة يَوْم الْقِيَامَة كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: " أَنَا عِنْد ظَنّ عَبْدِي بِي " هَذَا هُوَ الصَّوَاب فِي مَعْنَى الْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُور الْعُلَمَاء. وَشَذَّ الْخَطَّابِيُّ فَذَكَر تَأْوِيلًا آخَر أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْسِنُوا أَعْمَالكُمْ حَتَّى يَحْسُن ظَنّكُمْ بِرَبِّكُمْ، فَمَنْ حَسُن عَمَله حَسُن ظَنّه، وَمَنْ سَاءَ عَمَله سَاءَ ظَنّه، وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرّ بِهِ اِنْتَهَى
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِى الْمَوْتِ فَقَالَ «كَيْفَ تَجِدُكَ». قَالَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّى أَخَافُ ذُنُوبِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ يَجْتَمِعَانِ فِى قَلْبِ عَبْدٍ فِى مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ» أخرجه الترمذي (2)
قَوْله (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْب عَبْد) يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي وُجُود الْأَمْرَيْنِ عَلَى الدَّوَام حَتَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْلِب الرَّجَاء فِي ذَلِكَ الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْ الْخَوْف شَيْء.
__________
(1) - برقم (2877) وأحمد 1/ 325 و 330 و 3/ 293 (14489 و14855 و14909و14954و14588) وأبو داود (3115) وهـ (4306)
(2) - الترمذي (999) وابن ماجه (4402) ون (10834) والمجمع 2/ 296 و 322 والفتح 11/ 301 وك (2394) والصحيحة (1051) وهو حديث صحيح لغيره.
(1/193)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلاَ، قَالَ: وَعِزَّتِي لاَ أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أخرجه ابن حبان في صحيحه (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، إِنْ ظَنَّ بِى خَيْراً فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ». أخرجه أحمد (2)
وقال المناوي في فيض القدير: (قال اللّه تعالى أنا عند ظن عبدي بي إن ظن) بي (خيراً فله) مقتضى ظنه (وإن ظن) بي (شراً) أي أني أفعل به شراً (فله) ما ظنه فالمعاملة تدور مع الظن فإذا أحسن ظنه بربه وفى له بما أمل وظن والتطير سوء الظن باللّه وهروب عن قضائه فالعقوبة إليه سريعة والمقت له كائن، ألا ترى إلى العصابة التي فرت من الطاعون كيف أماتهم؟ قال الحكيم الترمذي: الظن ما تردد في الصدر وإنما يحدث من الوهم والظن هاجسة النفس وللنفس إحساس بالأشياء فإذا عرض أمر دبر لها الحس شأن الأمر العارض فما خرج لها من التدبير فهو هواجس النفس فالمؤمن نور التوحيد في قلبه فإذا هجست نفسه لعارض أضاء النور فاستقرت النفس فاطمن القلب فحسن ظنه لأن ذلك النور يريه من علائم التوحيد وشواهده ما تسكن النفس إليه وتعلمه أن اللّه كافيه وحسبه في كل أموره وأنه كريم رحيم عطوف به فهذا حسن الظن باللّه وأما إذا غلب شره النفس وشهواتها فيفور دخان شهواتها كدخان الحريق فيظلم القلب وتغلب الظلمة على الضوء فتحيى النفس بهواجسها وأفكارها وتضطرب ويتزعزع القلب عن مستقره وتفقد الطمأنينة وتعمى عين الفؤاد لكثرة الظلمة والدخان فذلك سوء الظن باللّه فإذا أراد اللّه بعبد خيراً أعطاه حسن الظن بأن يزيده نوراً يقذفه في قلبه ليقشع ظلمة الصدر كسحاب ينقشع عن ضوء القمر ومن لم يمنح ذلك فصدره مظلم لما أتت به النفس من داخل شهواتها والعبد
__________
(1) - برقم (2494) موارد والإحسان (642) وهب (794) وتاريخ البخاري 8/ 12 والحلية 6/ 98 والمجمع 10/ 308 (18200) والصحيحة (742) وهو حديث صحيح.
(2) - 2/ 315 (9314) والإحسان (641) والمجمع 2/ 319 (3888) وصحيح الجامع (4315) وهو حديث صحيح لغيره.
(1/194)
ملوم على تقوية الشهوات من استعمالها فإذا استعملها فقد قوّاها، ككانون: كلما ألقيت فيه حطباً ازداد لظماً ودخاناً ..
وعَنِ أَبِى عَيَّاشٍ قَالَ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ». قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِى فَيَقُولُونَ نَعَمْ يَا رَبَّنَا. فَيَقُولُ لِمَ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ. فَيَقُولُ قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِى». أخرجه أحمد (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «يَخْرُجُ أَرْبَعَةٌ مِنَ النَّارِ - قَالَ أَبُو عِمْرَانَ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ ثَابِتٌ رَجُلاَنِ - فَيُعْرَضُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَالَ فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجْتَنِى مِنْهَا أنْ لاَ تُعِيدَنِى فِيهَا. فَيُنَجِّيهِ اللَّهُ مِنْهَا عَزَّ وَجَلَّ». أخرجه أحمد (2)
ففي هذه الأحاديث تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومن حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه سيرحمه وسيعفو عنه، ففي حال الصحة غلّب الخوف، وإذا دنا الأجل غلّب الرجاء، لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال، فاستحب إحسان الظن المتعمد للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له (3)
ــــــــــــــ
__________
(1) - 5/ 238 (22723) وطب (16675) وهب (1063) وطيا (559) والمجمع 2/ 321 و 10/ 358 (3903و18439) والحلية 8/ 179 وهو حديث حسن لغيره.
(2) - برقم (14405) والإحسان برقم (634) 2/ 14 و أبو عوانة 1/ 187 (345) والتوحيد لابن خزيمة (440) صحيح.
(3) - راجع شرح مسلم للنووي 17/ 209 - 210 والفتح 13/ 385 - 386
(1/195)
المبحثُ الثاني عشر
نذير الموت
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - - فَقَالَ: «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» أخرجه البخاري (1)
قال ابن بطال رحمه الله: أى أعذر إليه غاية الإعذار، الذى لا إعذار بعده، لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله تعالى وترقب المنية ولقاء الله تعالى فهذا إعذار بعد إعذار فى عمر ابن آدم، لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المبكتة لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله تعالى على حبّ الدنيا وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين دون إعذار لهم وتنبيه، وأكبر الإعذار إلى بنى آدم بعثه الرسل إليهم (2)
ومعنى الحديث: أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ في عمري لفعلت ما أمرت به، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة الإعذار إلى الله مجازية، والمعنى أن الله تعالى لم يترك للعبد سبباً في الاعتذار يصلح لأن يتمسك به ... (3)
وقَالَ مُجَاهِدٌ: " مَا مِنْ مَرَضٍ يَمْرَضُهُ الْعَبْدُ إِلَّا رَسُولُ مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ مَرَضٍ يَمْرَضُهُ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَتَاكَ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ فَلَمْ تَعْبَأْ بِهِ، وَقَدْ أَتَاكَ رَسُولٌ يَقْطَعُ أَثَرَكَ مِنَ الدُّنْيَا " أخرجه أبو نعيم في الحلية (4)
ومعنى الحديث: أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مُدَّ في عمري لفعلت ما أمرت به، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له، فلا ينبغي له
__________
(1) - 11/ 238 (6419).
(2) - شرح ابن بطال - (ج 19 / ص 202)
(3) - راجع الفتح 11/ 240
(4) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (4243) 3/ 291 والفيض القدير (3844) وهو بلسان الحال لا المقال.
(1/196)
حينئذ إلا الاستغفار والطاعة، والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة الإعذار إلى الله مجازية، والمعنى أن الله تعالى لم يترك للعبد سبباً في الاعتذار يصلح لأن يتمسك به ... (1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - راجع الفتح 11/ 240
(1/197)
المبحثُ الثالث عشر
علامة خاتمة الخير وسوئها
إن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيمًا على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرًا وتسبيحًا وتهليلاً وعبادة وشهادة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَمَلِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ هُوَ أَمْ سَعِيدٌ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا "رواه الشيخان (1)
في هذا الحديث الشريف بشارة وتخويف، بشارة لمن تاب وأصلح عمله قبل الموت بأنه إذا ختم له بعمل أهل الجنة كان من أهلها، وتخويف للمؤمن الطائع من أن يزلَّ ويعمل بعمل أهل النار خشية أن يحضره أجله وهو على هذه الحالة فيدخلها والعياذ بالله.
والناس في خاتمتهم على أقسام:
1 - أشرفها من كان في حياته مؤمنًا صالحًا فلما قرب أجله ازداد اجتهادًا في العبادة، فمات على أكمل أحواله، وعلى رأس هؤلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ تُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي مَا تُخْطِئُ مِشْيَتَهَا مِنْ مِشْيَةِ أَبِيهَا - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " مَرْحَبًا يَا بِنْتِي "، فَأَقْعَدَهَا، عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فَقُلْنَا لَهَا: خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنَنَا لِسِرٍّ
__________
(1) - شعب الإيمان - (1/ 361) (184) وصحيح البخارى- المكنز - (3208) وصحيح مسلم- المكنز - (6893)
(1/198)
وَتَبْكِينَ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي بِمَا سَارَّكِ، قَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرَّهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ لَهَا: أَسْأَلُكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَا أَخْبَرْتِينِي، فَقَالَتْ: أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ، سَارَّنِي، فَقَالَ لِي: " إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُ عَارِضُنِي الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى ذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ اقْتِرَابِ أَجْلِي، فَاتَّقِي اللَّهَ، وَاصْبِرِي فَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ "، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ " أَوْ قَالَ: " نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ "، فَضَحِكَتُ " (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ،، وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، وَابْنِهِ نُوَيْفِعٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " رَأَيْتُ رُؤْيَا، وَمَا أَظُنُّ ذَاكَ إِلَّا عَنِ اقْتِرَابِ أَجَلِي، رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا أَحْمَرَ نَزَا فَنَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، فَاسْتَعْبَرْتُ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَتْ: يَقْتُلُكَ عَبْدٌ مِنِ هَذِهِ الْحَمْرَاءِ، فَإِنْ أَهْلِكْ قَبْلَ أَنْ أُوصِيَ فَأَمْرُكُمْ إِلَى هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَعْهَدْ " (2)
2 - من كان في حياته كافرًا أو فاسقًا فلما قرب أجله أسلم وتاب واستقام وحسن عمله، فمات على ذلك، كالرجل الذي قتل مائة نفس ثم تاب، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ " فَأَتَاهُ فَقَالَ: " إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ " فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: " قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا نَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى فَاعْبُدْ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا أَتَى نِصْفَ الطَّرِيقِ فَأَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (17659) صحيح، واصله في الصحيحين
(2) -تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1400) صحيح
(1/199)
الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضْتُهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ " قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ نَاءَ بِصَدْرِهِ" رواه البخاري ومسلم. (1)
3 - مَن كان في حياته كافرًا أو فاسقًا فازداد قبل حلول أجله فسقًا وكفرًا، فمات على أسوأ أحواله.
4 - مَن كان في حياته مؤمنًا ثم كفر أو صالحًا ثم فسق والعياذ بالله تعالى، فمات على ذلك، فهذا أعظمهم حسرة وندامة، وهذه التي خافها الصالحون. قال سفيان الثوري رحمه الله: "الذنوب أهون عليّ من هذه ـ وأشار إلى تبنة كانت في يده ـ وإنما أخاف من سوء الخاتمة، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (217) سورة البقرة.
ولكن في الحديث بشارة بإذن الله لمن عمل بعمل أهل الجنة مخلصًا إذا بدا للناس وإذا خلا بنفسه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الذين يختم لهم بالسوء وكانوا يعملون عمل أهل الجنة إنما كانوا يعملون به فيما يبدو للناس، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه أَنَّ
__________
(1) -شعب الإيمان - (9/ 284) (6664) وصحيح البخارى- المكنز - (3470) وصحيح مسلم- المكنز - (7184)
" نَاءَ بِصَدْرِهِ " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ تَبَاعَدَ عَنْ مَعَاصِيهِ وَتَكَرَّهَ عَلَيْهَا
قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا اِسْتِحْبَاب مُفَارَقَة التَّائِب الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوب، وَالْأَخْدَان الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتهمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالهمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِل بِهِمْ صُحْبَة أَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْعُلَمَاء وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَنْتَفِع بِصُحْبَتِهِمْ، وَتَتَأَكَّد بِذَلِكَ تَوْبَته. وَأَمَّا قِيَاس الْمَلَائِكَة مَا بَيْن الْقَرْيَتَيْنِ، وَحُكْم الْمَلَك الَّذِي جَعَلُوهُ بَيْنهمْ بِذَلِكَ، فَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ عِنْد اِشْتِبَاه أَمْره عَلَيْهِمْ، وَاخْتِلَافهمْ فِيهِ أَنْ يُحَكِّمُوا رَجُلًا مِمَّنْ يَمُرّ بِهِمْ، فَمَرَّ الْمَلَك فِي صُورَة رَجُل، فَحَكَمَ بِذَلِكَ. شرح النووي على مسلم - (9/ 143)
(1/200)
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ قَالَ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ «وَمَا ذَاكَ». قَالَ الرَّجُلُ الَّذِى ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ أَنَا لَكُمْ بِهِ. فَخَرَجْتُ فِى طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِى الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (1).
إن حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للبعد عمَّا يغضب ربه سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ». فَقِيلَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ». أخرجه الترمذي (2)
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَوْ
__________
(1) -صحيح البخارى- المكنز - (2898) وصحيح مسلم- المكنز - (320)
ذباب: طرف السيف الأسفل الذى يضرب به -الشاذة: الخارج عن صف الكفار
(2) - برقم (2143) و (2292) وأحمد 4/ 135 (12362و17680و22592) من طرق والآحاد والمثاني (2382) والحاكم 1/ 340 (2257) وهو حديث صحيح مشهور.
(1/201)
مَاتَ عَلَيْهِ لَدَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ لِيَعْمَلَ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟ قَالَ: " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ (1)
وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ الْجُمَعِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ». فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَا اسْتَعْمَلَهُ قَالَ «يَهْدِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَى ذَلِكَ». رواه أحمد والبزار (2)
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا غَسَلَهُ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ غَسَلَهُ؟ قَالَ: " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَقْبِضُهُ عَلَيْهِ " رواه الطبراني في الأوسط (3)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا عَسَلُهُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ جِيرَانُهُ أَوْ مَنْ حَوْلَهُ " (4)
قَالَ الطحاوي: فَطَلَبْنَا مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هُوَ فَوَجَدْنَا الْعَرَبَ تَقُولُ هَذَا رُمْحٌ فِيهِ عَسَلٌ يُرِيدُونَ فِيهِ اضْطِرَابٌ فَشَبَّهُ سُرْعَتَهُ الَّتِي هِيَ اضْطِرَابُهُ بِاضْطِرَابِ مَا سِوَاهُ مِنَ الرُّمْحِ وَمِنْ غَيْرِهِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِمَيْلِهِ إِيَّاهُ إِلَى مَا يُحِبُّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ جَنَّتَهُ وَاللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ "
__________
(1) - مسند أحمد (12214) صحيح
(2) - برقم (17680) والآحاد (2384) وأبو يعلى (3654) والشاميين (1121) ومعرفة الصحابة (4369) والضياء (1978) والمجمع 7/ 214 (11929و11930) وهو حديث صحيح
(3) - برقم (4812) والمجمع 7/ 215 (11933) وبنحوه عند أحمد 4/ 200 والحاكم 1/ 340 (1258) ومشكل الآثار (2202) وصحيح الترغيب (3358) وابن حبان (822) موارد وهو حديث صحيح.
(4) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (2202) صحيح
(1/202)
فمن وفَّقه الله لحُسنِ الخاتمةِ فقَد سعِد سعادةً لا يَشقَى بَعدَها أبدًا، ولاَ كَربَ عليه بعد ذلكَ التّوفيقِ، ومَن خُتِمَ لَه بسوءِ خاتمةٍ فقَد خسِرَ في دنياه وأُخرَاه.
وَالصّالحونَ تَعظُم عِنايَتُهم بالأعمَالِ الصالحةِ السّوابِقِ للخَاتمَة، كمَا أنَّهم يجتَهِدُونَ في طَلَبِ التَّوفِيقِ للخَاتمةِ الحَسَنَةِ، فيُحسِنون الأعمالَ، ويحسِنونَ الرَّجاءَ والظنَّ بالله تَعالى، ويُسيئُون الظنَّ بأنفسِهِم، كمَا قَالَ تَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218].
وَمَن صَدَق اللهَ في نِيّتِه وعَمِل بِسُنّةِ رَسولِ اللهِ واتَّبعَ هَديَ أَصحَابِه فقَد جَرَت سُنّةُ الله تَعالى أَن يختمَ له بخَيرٍ، وأَن يجعَلَ اللهُ عواقبَ أمورِه إلى خَيرٍ، قَالَ تَعَالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف: 30]، وقال تَعَالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا [طه: 112]، وَقَالَ تَعَالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143].
وَأَسبَابُ التَّوفِيقِ إلى حُسنِ الخاتمةِ النِّيةُ الصَّالحةُ والإخلاَصُ لله تعالى؛ لأنَّ النيةَ الصَّالحةَ والإخلاصَ شُرطُ الأعمالِ المقبولةِ عندَ الله عز وجلّ. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف.
ولحسن الخاتمة علامات، كل واحدة منها كافية بإذن الله في الاستبشار بحسن الخاتمة من غير جزم بذلك (1):
1 - النطق بالشهادة عند الموت، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " رواه الحاكم (2).
__________
(1) - انظر موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 4146) -حسن الخاتمة والتحذير من سوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
(2) - المستدرك للحاكم (1299) صحيح
وَقَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح: وَالْمُرَاد بِقَوْلِ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فِي هَذَا الْحَدِيث وَغَيْره كَلِمَتَا الشَّهَادَة، فَلَا يَرِد إِشْكَال تَرْك ذِكْر الرِّسَالَة. قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير: قَوْل لَا إِلَه إِلَّا اللَّه لَقَب جَرَى عَلَى النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرْعًا اِنْتَهَى. عون المعبود - (7/ 100)
(1/203)
وعن أبي جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ السَّاوِيَّ وَرَّاقِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، قَالَ: حَضَرَتُ أَبَا زُرْعَةَ وَهُوَ فِي السَّوْقِ، وَعِنْدَهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَذَكَرُوا حَدِيثَ التَّلْقِينِ، وَاسْتَحْيَوْا مِنْ أَبِي زُرْعَةَ أَنْ يُلَقِّنُوهُ التَّوْحِيدَ فَقَالُوا: تَعَالَوْا نَذْكُرُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: نا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ صَالِحٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ ابْنُ ابْنُ وَلَمْ يُجَاوِزْ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: نا بُنْدَارٌ، قَالَ: نا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَسَكَتَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ، وَالْبَاقُونَ سَكَتُوا، فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَهُوَ فِي السَّوْقِ: نا بُنْدَارٌ، نا أَبُو عَاصِمٍ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرِيبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ " وَتُوُفِّيَ أَبُو زُرْعَةَ رَحِمَهُ اللهُ " (1)
2 - أن يرشح جبينه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَوْتُ الْمُؤْمِنِ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» .. (2)
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَوْتُ الْمُؤْمِنِ عَرَقُ الْجَبِينِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ تَبْقَى عَلَيْهِ خَطَايَا مِنْ خَطَايَاهُ يُجَازَى بِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَيَعْرَقُ مِنْ ذَلِكَ جَبِينُهُ " (3).
3 - أن يموت يوم الجمعة أو ليلتها وهو مسلم فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» .. (4)
4 - أن يموت شهيدًا في سبيل الله أو وهو مرابط في سبيل الله أو يموت بإحدى الميتات التي صاحبها في درجة الشهيد، وهي المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والحريق والموت بذات الجنب والمرأة يقتلها ولدها أي: تموت وهي حامل أو بسبب الوضع.
__________
(1) - شعب الإيمان - (11/ 440) (8800)
(2) - سنن النسائي- المكنز - (1839) صحيح
(3) - الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ (821) صحيح
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (1095) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (2/ 612) 6582 - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (135 - 138) صحيح لغيره
(1/204)
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ." (1)
وعَنْ سَلْمَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ أُومِنَ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَنَمَا لَهُ أَجْرُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِرِجَالِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالصِّدِّيقُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يَزُورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ لا يَزُورُهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنِسَاؤُكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الْعَئُودُ عَلَى زَوْجِهَا، الَّتِي إِذَا غَضِبَ جَاءَتْ حَتَّى تَضَعَ يَدَهَا فِي يَدِ زَوْجِهَا، وَتَقُولُ: لا أَذُوقُ غَمْضًا حَتَّى تَرْضَى." (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِرِجَالِكُمْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالصِّدِّيقُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يَزُورُ أَخَاهُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ لا يَزُورُهُ إِلَّالِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: كُلُّ وَلُودٌ وَدُودٌ، إِذَا غَضِبَتْ أَوْ أُسِيءَ إِلَيْهَا أَوْ غَضِبَ، أَيْ زَوْجُهَا، قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ لا أَكْتَحِلُ بِغُمْضٍ حَتَّى تَرْضَى" (4)
وعَنِ الأَسْوَدِ بن سَرِيعٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟، قَالَ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ." (5)
وعَنْ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ جَدُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَبُو أُمِّهِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ؛أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: قَدْ غُلِبْنَا عَلَيْكَ أَبَا الرَّبِيعِ، فَصِحْنَ النِّسَاءُ وَبَكَيْنَ،
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (2/ 401) (1678) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (10/ 485) (4625) صحيح
(3) - الفوائد لتمام 414 - (2/ 204) (1311) صحيح
(4) - المعجم الصغير للطبراني - (1/ 89) (118) والصحيحة (287) وصحيح الجامع (2604) صحيح لغيره
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (1/ 358) (836) صحيح
(1/205)
فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ. قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ. قَالَتِ ابْنَتُهُ: إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا، قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنَّ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرَقِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ." (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: الشَّهِيدُ خَمْسَةٌ: الْمَبْطُونُ، وَالْمَطْعُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ. (2)
5 - أن يختم له بعمل صالح كصيام يوم أو صدقة أو ذكر، فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ، بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ " رواه الحاكم. (3)
وعَنْ حُذَيْفَةَ , قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مُزَيْنَةَ فَرَأَيْتُهُ يَهُمُّ بِالْقُعُودِ وَعَلِيُّ عِنْدَهُ يَمْتَدُّ بِهِ يَعْنِي مِنَ النُّعَاسِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى عَلِيًّا إِلَّا قَدْ سَهَّرَكَ فِي لَيْلَتِهِ هَذِهِ أَفَلَا أَدْنُو مِنْكَ؟ قَالَ: " عَلِيٌّ أَوْلَى بِذَلِكَ ". فَدَنَا مِنْهُ فَسَانَدَهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ خُتِمَ لَهُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ مُحْتَسِبًا عَلَى اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , مَنْ خُتِمَ لَهُ بِصَوْمِ يَوْمٍ مُحْتَسِبًا عَلَى اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , مَنْ خُتِمَ لَهُ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحْتَسِبًا عَلَى اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ " (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْعَصَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَيُكَفَّنُ فِى ثَوْبَيْنِ خَارِجًا رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» (5).
__________
(1) - المسند الجامع - (4/ 897) (3082) وسنن النسائي- المكنز - (1857) صحيح
(2) - المستدرك للحاكم (7872) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم (7872) صحيح
(4) - طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (1332) وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (258) حسن
(5) - سنن النسائي- المكنز - (2725) صحيح
السدر: شجر النبق واحدته سدرة -أقعصت: ضربته برجلها فمات فى مكانه
(1/206)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِجِرَاحِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُكْلَمُ كَلْمٌ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهُ لَوْنَ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ، ثُمَّ قَاَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَا الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا يُصَلِّي عَلَى الأَمْوَاتِ، وَلَمْ يُكَفِّنْهُمْ فِي غَيْرِ ثِيَابِهِمْ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِدَفْنِ الرِّجْلَيْنِ فِي حُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَقُولُ: أَيُّ هَؤُلاءِ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أَشَارُوا إِلَى الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ " (1)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا ثَقُلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - وَاكَرْبَ أَبَاهُ. فَقَالَ لَهَا «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ». فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهْ، أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلاَمُ - يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ " (2)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا تَدْعُو اللهَ؟ فَخَلُّوا فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِذَا لَقِيتُ الْعَدُوَّ فَلَقِّنِّي رَجُلًا شَدِيدًا بَأْسُهُ شَدِيدًا حَرَدُهُ أُقَاتِلُهُ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ ارْزُقْنِي عَلَيْهِ الظَّفَرَ حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ، فَأَمَّنَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ ارْزُقْنِي رَجُلًا شَدِيدًا حَرَدُهُ شَدِيدًا بَأْسُهُ، أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللهِ مَنْ جَدَعَ أَنْفَكَ وَأُذُنَكَ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ، فَتَقُولُ: صَدَقْتَ، قَالَ سَعْدٌ: يَا بُنَيَّ كَانَتْ دَعْوَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشِ خَيْرًا مِنْ دَعْوَتِي، لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِنَّ أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ لَمُعَلَّقَتَانِ فِي خَيْطٍ " (3)
__________
(1) - الآحاد والمثاني (2608) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4462)
(3) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (3/ 1607) (4047) صحيح
(1/207)
وعن ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ لَمَّا طُعِنَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ - وَكَانَ خَالَهُ - يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا، فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. (1)
وقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَالَ بِلَالٌ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: " غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّةَ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ، قَالَ: تَقُولُ امْرَأَتُهُ: وَاوَيْلَاهُ قَالَ: يَقُولُ: وَافَرْحَاهُ " (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِى سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لاَ أَدْرِى مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَكَلَّمَ فَقَالَ «إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا». فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِى ظُهْرَانِهِمْ فِى عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ «لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا». فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ». فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ «نَعَمْ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ." (3)
وعَنْ مُعَاذٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ: انْظُرُوا أَصْبَحْنَا؟ فَأُتِيَ فَقِيلَ: لَمْ تُصْبِحْ، قَالَ: انْظُرُوا أَصْبَحْنَا، فَأُتِيَ فَقِيلَ: لَمْ تُصْبِحْ حَتَّى أُتِيَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4092)
(2) - الْمُحْتَضَرِينَ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (286) وفيه انقطاع
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5024) -العين: الجاسوس
(1/208)
: قَدْ أَصْبَحْتَ، قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا إِلَى النَّارِ، مَرْحَبًا بِالْمَوْتِ، مَرْحَبًا زَائِرًا مُغَيَّبًا حَبِيبًا، جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَخَافُكَ، فَأَنَا الْيَوْمَ أَرْجُوكَ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنْيَا وَطُولَ الْبَقَاءِ فِيهَا لِكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الشَّجَرِ، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَمُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ " (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا طَعَنَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ عُمَرَ، طَعَنَهُ طَعْنَتَيْنِ، فَظَنَّ عُمَرُ أَنَّ لَهُ ذَنْبًا فِي النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ، فَدَعَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ يُحِبُّهُ، ويُدْنِيهِ، ويَسْتَمِعُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَحَبُّ أَنْ تَعْلَمَ عَنْ مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ هَذَا؟ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَهُمْ يَبْكُونَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا أَتَيْتُ عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُمْ يَبْكُونَ، كَأَنَّمَا فَقَدُوا الْيَوْمَ أبكارَ أَوْلَادِهِمْ. فَقَالَ: مَنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: أَبُو لُؤْلُؤَةَ الْمَجُوسِيُّ عَبْدُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ. فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنِي بِقَوْلِ أَحَدٍ يُحَاجُّنِي بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَمَا إِنِّي كُنْتُ قَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَجْلِبُوا إِلَيْنَا مِنَ الْعُلُوجِ أَحَدًا، فَعَصَيتُمُونِي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي إِخْوَانِي ". قَالُوا: وَمَنْ؟ قَالَ: " عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ". فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حَجْرِي، فَلَمَّا جَاءُوا، قُلْتُ: هَؤُلَاءِ قَدْ حَضَرُوا. فَقَالَ: نَعَمْ، نَظَرْتُ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدْتُكُمْ أَيُّهَا السِّتَّةُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَقَادَتَهُمْ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا فِيكُمْ مَا اسْتَقَمْتُمْ يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ، وَإِنْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ يَكُنْ فِيكُمْ، فَلَمَّا سَمِعْتُ ذِكْرَ الِاخْتِلَافِ، وَالشِّقَاقِ ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَائِنٌ، لِأَنَّهُ قَلَّ مَا قَالَ شَيْئًا إِلَّا رَأَيْتُهُ، ثُمَّ نَزَفَ الدَّمَ، فَهَمَسُوا بَيْنَهُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَيٌّ بَعْدُ، وَلَا يَكُونُ خَلِيفَتَانِ يَنْظُرُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. فَقَالَ: احْمِلُونِي، فَحَمَلْنَاهُ، فَقَالَ: تَشَاوِرُوا ثَلَاثًا. وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ صُهَيْبٌ. قَالَ: مَنْ نُشَاوِرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: شَاوِرُوا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وسَرَاةَ مَنْ هُنَا مِنَ الْأَجْنَادِ. ثُمَّ دَعَا بِشَرْبَةٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ، فَخَرَجَ بَيَاضُ اللَّبَنِ مِنَ الْجُرْحَيْنِ، فَعُرِفَ
__________
(1) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (1020) وحِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (848) فيه انقطاع
(1/209)
أَنَّهُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: الْآنَ لَوْ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَافْتَدَيْتُ بِهَا مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ، وَمَا ذَاكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِنْ أَكُونُ رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإنْ قُلْتَ ذَلِكَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَلَيْسَ قَدْ " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعِزَّ اللَّهُ بِكَ الدِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ إِذْ يَخَافُونَ بِمَكَّةَ "، فَلَمَّا أَسْلَمْتَ كَانَ إسْلَامُكَ عِزًّا، وَظَهَرَ بِكَ الْإِسْلَامُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، وَهَاجَرْتَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ هِجْرَتُكَ فَتْحًا، ثُمَّ لَمْ تَغِبْ عَنْ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ يَوْمِ كَذَا وَيَوْمِ كَذَا، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، فَوَازَرْتَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَضَرَبْتِ مَنْ أَدْبَرَ بِمَنْ أَقْبَلَ حَتَّى دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، ثُمَّ قُبِضَ الْخَلِيفَةُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ وُلِّيتَ بِخَيْرِ مَا وُلِّيَ النَّاسُ، مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ، وَجَبَى بِكَ الْأَمْوَالَ، وَنَفَى بِكَ الْعَدُوَّ، وَأَدْخَلَ اللَّهُ بِكَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ تَوَسُّعِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وتَوَسُّعِهِمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ، ثُمَّ خَتَمَ لَكَ بِالشَّهَادَةِ، فَهَنِيئًا لَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ الْمغرورَ مَنْ تَغُرُّونَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَتَشْهَدُ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَلْصِقْ خَدِّي بِالْأَرْضِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عُمَرَ فَوَضَعْتُهُ مِنْ فَخِذِي عَلَى سَاقِي. فَقَالَ: أَلْصِقْ خَدِّي بِالْأَرْضِ، فَتَرَكَ لِحْيَتَهُ وَخَدَّهُ حَتَّى وَقَعَ بِالْأَرْضِ، فَقَالَ: وَيْلَكَ وَوَيْلَ أُمِّكَ يَا عُمَرُ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَكَ. ثُمَّ قُبِضَ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَلَمَّا قُبِضَ أَرْسَلُوا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: لَا آتِيكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ مُشَاوَرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وسَرَاةِ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْأَجْنَادِ قَالَ الْحَسَنُ، وَذُكِرَ لَهُ فِعْلُ عُمَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ وخَشْيَتُهُ مِنْ رَبِّهِ، فَقَالَ: هَكَذَا الْمُؤْمِنُ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَالْمُنَافِقُ جَمَعَ إساءةً وَغِرَّةً، وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فِيمَا مَضَى وَلَا فِيمَا بَقِيَ عَبْدًا ازْدَادَ إِحْسَانًا إِلَّا ازْدَادَ مَخَافَةً وَشَفَقَةً مِنْهُ، وَلَا وَجَدْتُ فِيمَا مَضَى، وَلَا فِيمَا بَقِيَ عَبْدًا ازْدَادَ إساءةً إِلَّا ازْدَادَ غِرَّةٍ" (1)
وعَنْ عُبَيْدِ بنِ حَسَّانٍ، قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، قَالَ: اخْرُجُوا عَنِّي. فَقَعَدَ مَسْلَمَةُ وَفَاطِمَةُ عَلَى البَابِ، فَسَمِعُوْهُ يَقُوْلُ: مَرْحَباً بِهَذِهِ الوُجُوْهِ، لَيْسَتْ بِوُجُوْهِ إِنْسٍ وَلاَ
__________
(1) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ (590) حسن
(1/210)
جَانٍّ، ثُمَّ تَلاَ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا ... } الآيَةَ، ثُمَّ هَدَأَ الصَّوْتُ. فَقَالَ مَسْلَمَةُ لِفَاطِمَةَ: قَدْ قُبِضَ صَاحِبُكِ " (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِيَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ لَمْ تَسْمَعِ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا؟ أَوَّلُ يَوْمٍ يَجِيئُكَ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ إِمَّا بِرِضَى اللَّهِ وَإِمَّا بِسَخَطِهِ، وَيَوْمٌ تَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ يَأْخُذُ فِيهِ كِتَابَكَ إِمَّا بِيَمِينِكَ وَإِمَّا بِشِمَالِكَ، وَلَيْلَةٌ يَبِيتُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَبِتْ لَيْلَةً قَبْلَهَا مِثْلَهَا، وَلَيْلَةٌ صَبِيحَتُهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَعْدَهَا لَيْلَةٌ " (2)
وقَالَ المُزَنِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟
فَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلاً، وَلإِخْوَانِي مُفَارِقاً، وَلِسُوءِ عَمَلِي مُلاَقِياً، وَعَلَى اللهِ وَارِداً، مَا أَدْرِي رُوْحِي تَصِيْرُ إِلَى جَنَّةٍ فَأُهَنِّيْهَا، أَوْ إِلَى نَارٍ فَأُعَزِّيْهَا، ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُوْلُ:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي * جَعَلْتُ رَجَائِي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ * بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ * تَجُوْدُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
فَإِنْ تَنْتَقِمْ مِنِّي فَلَسْتُ بِآيِسٍ * وَلَوْ دَخَلَتْ نَفْسِي بِجِرمِي جَهَنَّمَا
وَلولاَكَ لَمْ يُغْوَى بِإِبْلِيْسَ عَابِدٌ * فَكَيْفَ وَقَدْ أَغوَى صَفِيَّكَ آدَمَا
وَإِنِّيْ لآتِي الذّنْبَ أَعْرِفُ قَدْرَهُ * وَأَعلَمُ أَنَّ اللهَ يَعْفُو تَرَحُّمَا (3)
فالأعمَالُ الصَّالحَاتُ سَبَبُ كلِّ خَيرٍ في الدّنيَا والآخِرة، وأفضلُ الأَعمَالِ وأَعظَمُها أَعمَالُ القُلوبِ كالإخلاصِ وكَالإيمَانِ والتوكُّل والخَوفِ والرَّجَاءِ والرَّغبَةِ والرَّهبةِ وَحُبِّ مَا يحِبُّ الله وبُغضِ ما يُبغِض الله وتَعلُّق القَلبِ باللهِ وَحدَه في جَلبِ كُلِّ نَفعٍ ودفعِ كلِّ ضُرٍّ كَمَا
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (5/ 142)
(2) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (10295) والزُّهْدُ أَبِي دَاوُدَ (366) صحيح موقوف
(3) - تاريخ الإسلام للإمام الذهبي - موافقة للمطبوع - (14/ 340) وسير أعلام النبلاء (10/ 76) وقال:إِسْنَادُهُ ثَابِتٌ عَنْهُ.
(1/211)
قَالَ تَعَالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17].
وَأَعمَالُ الجَوارِحِ الصّالحةُ تَابِعةٌ لأَعمالِ القُلُوبِ، فعن عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىِّ قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .. (1)
والأعمَالُ السَّيِّئة الشِّرِّيرَة سَبَبٌ لِكُلِّ شرٍّ في الدّنيَا والآخِرة، كما قَالَ تَعَالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشّورَى: 30]، وقَالَ تَعَالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وَالعَبدُ مَأمُورٌ بالطّاعاتِ وَمَنهِيٌّ عن المحرَّمَاتِ في جمِيعِ الأوقاتِ، ولكنَّه يَتَأَكَّد الأَمرُ بالعَمَلِ الصَّالحِ في آخِرِ العُمر وفي آخِرِ ساعةٍ مِنَ الأجَل، ويَتَأَكَّد النَّهيُ عَنِ الذّنوبِ في آخرِ العمرِ وفي آخر ساعةٍ من الأجَل؛ فعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ." (2).
فمَن وفَّقَه الله للعَمَلِ الصَّالحِ في آخر عمرِه وفي آخرِ ساعةٍ من الأجَل فقَد كتَب الله له حُسنَ الخاتمة، ومَن خذَله الله فَخَتَم ساعَةَ أجلِه بعَمَل شرٍّ وذَنبٍ يُغضِب الربَّ فقد خُتِمَ له بخاتمةِ سُوءٍ والعياذُ بالله.
وَقَد حثَّنَا اللهُ تَعَالى وأمَرَنَا بالحِرصِ عَلَى نَيلِ الخاتمةِ الحسَنةِ، فقَالَ تَعَالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
والسَّعيُ لحُسنِ الخَاتمَةِ غَايَةُ الصَّالحِينَ وهِمّةُ العِبادِ المتَّقِين ورَجاءُ الأبرارِ الخائفِينَ، قالَ تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة: 132]، وَقَالَ تَعَالى في وَصفِ أُولي الأَلبَابِ: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1)
(2) - صحيح ابن حبان - (2/ 52) (340) صحيح
(1/212)
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران: 193]، وَقَالَ تَعَالى عَنِ التَّائِبِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126]، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ». رواه مسلم (1)
ومِن أَسبابِ الخَاتمةِ الحَسَنَةِ المحَافَظَةُ عَلَى الصَّلواتِ جمَاعَةً، فعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى مُوسَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (2). والبردَان الفجرُ والعَصر، وصلاةُ المرءِ لهما دَليلٌ على أنه يحافَظ علَى غَيرهما مِن بابِ أولى.
وَمِن أَسبابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمةِ الإيمَانُ والإِصلاحُ، قال الله تَعَالى: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون [الأنعام: 48].
وَمِن أسبَابِِِ تَوفيق الله لحسنِِ الخاتمة تقوَى الله في السّرِّ والعَلَن بامتِثالِ أَمرِه واجتِنابِ نهيِه والدَّوامِ عَلَى ذلك، قَالَ اللهُ عز وجلّ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].
ومِن أَسبَابِ التَّوفِيقِ لحُسنِ الخَاتمَةِ اجتِنَابُ الكبائِرِ وعَظائِمِ الذّنوبِ، قال عز وجلّ: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31].
ومِن أَسبَابِ التّوفِيقِ لحسنِ الخاتمَة لُزومُ هَديِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاتِّبَاعُ طَرِيقِ المهَاجِرِينَ والأنصَارِ والتّابعينَ لهُم رَضي الله عنهم بإحسانٍ، قال اللهُ تَعَالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]، وَقَالَ تَعَالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة: 100].
ومِن أَسبَابِ التَّوفِيقِ لحسنِ الخَاتمَة البُعدُ عَن ظُلمِ النَّاسِ وعَدَمُ البَغيِ والعُدوانِ عليهم في نفسٍ أو مالٍ أو عِرضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6921)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (574) وصحيح مسلم- المكنز - (1470) - البردان: الفجر والعصر
(1/213)
قَالَ «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (1).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ «إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ». رواه البخاريّ (2)
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ ذَنْبٍ هُوَ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَتَهُ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ". (3)
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ " (4)
ومِن أسبَابِ التَّوفِيقِ لحسنِ الخَاتمةِ الإحسانُ إلى الخلقِ، قال الله تَعَالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (10)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1496) - الكرائم: جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(3) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (5237) صحيح
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَالَ قَائِلٌ: أَفَتَكُونُ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْبَغْيِ، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ أَسْرَعُ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ؟ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَا فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَا ظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَشَدُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكُفْرِ، وَلَا عُقُوبَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَ التَّوْبَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِمَا فِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُقُوبَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُ الْبَغْيُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا بِذَلِكَ، وَكَانَ مَا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ عُقُوبَةً عَلَى بَغْيِهِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَتِهَا. وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(4) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ (4319) صحيح
(1/214)
وصِفَةُ السَّخَاءِ وسمَاحَةُ النَّفسِ مَعَ الإسلاَمِ سَببٌ للتَّوفيق لحُسنِ الخاتمَةِ، َعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ. (1)
ومِن أَسبابِ حُسنِ الخاتمَة العَافِيةُ مِنَ البِدَعِ، فإنَّ ضَرَرَها كبِير وفَسادَها خَطيرٌ، والبِدعُ هي التي تفسِدُ القلوبَ وتهدِم الدّينَ وتنقُضُ الإسلامَ عُروةً عروةً، قال تَعَالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]، وَهَؤلاءِ المنعَمُ عَلَيهم مُبرَّؤونَ مِنَ البدَع كُلِّها.
ومِن أسبَابِ حُسنِ الخاتمَة الدُّعاءُ بذَلِك للنَّفسِ، قال اللهُ تَعَالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (2).
ودُعاء المسلِمِ لأخيهِ المسلِمِ بحُسنِ الخاتمةِ مُستَجَابٌ، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ، قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ، وَلَكَ بِمِثْلٍ " (3).
فلنسعى إلى تحصِيلِ أَسبابِ حُسنِ الخاتمةِ ليوفِّقَنا الله إلى ذَلِك، ولنحذر أَسبابَ سوءِ الخاتمة؛ فإنَّ الخَاتمةَ السيِّئةَ هي المصِيبةُ العظمَى والدَّاهيَةُ الكبرى والكَسرُ الَّذي لا ينجَبِر والخُسران المبين والعياذُ بالله، فقَد كانَ السَّلَفُ الصالح يخافونَ مِن سوءِ الخاتمَةِ أشدَّ الخَوفِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: " أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ، لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: أَنَا عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ " " (4)، وقال ابنُ رجب: "وكان سفيانُ الثّوريّ يَشتَدّ قلقُه منَ السَّوابِقِ والخَواتمِ، فكان يبكِي ويقولُ:
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7/ 300) (7939) حسن
(2) - المستدرك للحاكم (1813) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (3/ 269) (989) صحيح
(4) - السُّنَّةُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ (1086) صحيح
(1/215)
أخافُ أن أكونَ في أمِّ الكتاب شَقيًّا، ويَبكِي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمانَ عندَ المَوتِ" (1)
وقال بَعضُ السلَف: "ما أبكَى العُيونَ ما أبكاها الكِتابُ السّابِقُ"، وقد قيل: "إنَّ قُلوبَ الأبرارِ معلّقَةٌ بالخَواتِيم يقولون: بماذا يُختَم لنَا؟ وقلوب المقرَّبين معلّقةٌ بالسوابق يقولون: ماذا سبَق لنا؟ "، وكان مَالِك بنُ دينار رحمه الله يقوم طولَ ليلِه ويقول: "يا رَبِّ، قد عَلمتَ سَاكنَ الجنة والنار، ففي أيِّ منزلٍ مَالِكٌ؟ " (2).
أمَّا الخاتمة السيئة فهي أن تكون وفاة الإنسان وهو معرضٌ عن ربه جلَّ وعلا، مقيمٌ على ما يسخطه سبحانه، مضيعٌ لما أوجبه الله عليه، ولا ريبَ أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.
وأَسبابُ سوءِ الخاتمَة كثيرةٌ، مِنها تركُ الفرائضِ وارتِكاب المحرَّمات وتَركُ الجُمَع والجمَاعات، فإنَّ الذنوبَ ربما غلَبَت عَلَى الإنسانِ واستَولَت علَى قَلبِه بحبِّها، فَيَأتي المَوتُ وهو مُصِرٌّ على المعصيةِ، فيستَولي عليهِ الشيطانُ عند الموتِ وهو في حالةِ ضَعفٍ ودَهشَةٍ وحَيرة، فينطِق بما ألِفَه وغَلَب عَلَى حالِهِ، فيُختَم له بِسُوءِ خاتمةٍ والعياذُ بالله.
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمةِ البِدَعُ التي لم يَشرَعها الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم -، فالبِدعَة شُؤمٌ وشرٌّ عَلَى صَاحِبها، وهي أعظَمُ من الكَبائرِ، عَنْ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَىَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِى، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ».قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِى النُّعْمَانُ بْنُ أَبِى عَيَّاشٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَ وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ قَالَ «إِنَّهُمْ مِنِّى. فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِى» (3).
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (ص57).
(2) - أخرجه أحمد في الزهد (ص321)، وانظر: صفة الصفوة (3/ 285)، وجامع العلوم والحكم (ص57).
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7050 و7051) وصحيح مسلم- المكنز - (6109) -الفرط: المتقدم والمراد الشفيع
(1/216)
ومِن أسبَابِ سوءِ الخاتمةِ ظُلمُ النّاسِ والعُدوانُ عليهِم في الدّمِ أو المَالِ أو العِرضِ، وظُلمُ النفسِ بنوعٍ من أنواع الشِّركِ بالله تَعَالى، قال الله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21].
ومِن أسباب سوءِ الخاتمةِ الزّهدُ في بذلِ المعروف، وعدَمُ نفعِ المسلِمين، والزّهدُ في الدُّعَاءِ فلَم يَطلُبِ الخيرَ، قال اللهُ تَعَالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم [التوبة: 67]، وَقَالَ تَعَالى: أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب: 19].
ومِن أسبَاب سوءِ الخاتمةِ الرّكونُ إلى الدُّنيا وشَهَواتها وزُخرُفِها، وعَدمُ المبالاةِ بالآخِرَة، وتقديمُ محبّتِها على محبّة الآخِرَةِ، قالَ اللهُ تَعَالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7، 8].
ومِن أَسبَابِ سُوءِ الخَاتمَةِ أَمرَاضُ القُلُوبِ مِنَ الكِبرِ والحَسَدِ والحِقدِ والغِلِّ والعُجبِ والغِشّ واحتقارِ المسلمين والغَدرِ والخِيَانةِ والمَكرِ والخِدَاع وبُغضِ ما يحبُّ الله وحُبِّ ما يبغِض اللهُ تَعَالى، قالَ اللهُ تَعَالى: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87 - 89].
ومِن أسبابِ سُوءِ الخاتمةِ عُقُوقُ الوالدَين وقطيعةُ الأرحَامِ، قال اللهُ تَعَالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمّد: 22، 23]، عَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ» (1).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ». قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ». (2)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6685)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6674)
(1/217)
ومِن أسبابِ سوءِ الخاتمة الوصِيّةُ الظالمةُ المخالِفَةُ للشَّرع الحنيفِ. عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أَوِ الْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِى الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ». وَقَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَلَىَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ هَا هُنَا {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا} (11) سورة النساء (1)
ومن أسباب سوء الخاتمة أن يصرَّ العبدُ على المعاصي ويألفها، فإنَّ الإنسان إذا ألف شيئًا مدة حياته وأحبه وتعلق به فالغالب أنه يموت عليه، قال ابن كثير رحمه الله: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرارٌ على الكبيرة أو إقدامٌ على العظائم، فربما غلبَ ذلك عليه حتى ينزل عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله. (2)
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِيَّايَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَآكِلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ " ثُمَّ قَرَأَ: "الَّذِينَ يَأْكُلُونُ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ" [البقرة آية 275] " (3)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِى صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمْ كُلُّ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (6/ 271) (12961) وسنن الترمذى- المكنز - (2263) حسن
(2) - موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 4386) -قاتل العفة وموسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 4649) -حسن الخاتمة وسوؤها وموسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 5082) -النهاية
(3) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ (14048) فيه ضعف
(1/218)
شَىْءٍ مِنَ الصَّغَارِ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِى النَّارِ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ». (1)
وعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: يَبْعَثُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسًا فِي صُوَرِ الذَّرِّ، يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ، فَيُقَالُ: مَا هَؤُلاءِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلاءِ الْمُتَكَبِّرُونَ فِي الدُّنْيَا." (2)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ قَالَ: بَيْنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ يَوْمًا يَسِيرُ شَاذًّا مِنَ الْجَيْشِ إِذْ لَقِيَهُ رَجُلاَنِ شَاذَانِ مِنَ الْجَيْشِ، فَقَالَ: يَا هَذَانِ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَلاَثَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ إِلاَّ أُمَّرُوا عَلَيْهِمْ، فَلْيَتَأَمَّرْ أَحَدُكُمْ، قَالاَ: أَنْتَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ وَالِي ثَلاَثَةٍ إِلاَّ لَقِيَ اللَّهَ مَغْلُولَةَ يَمِينُهُ فَكَّهُ عَدْلُهُ، أَوْ غَلَّهُ جَورُهُ." (3)
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى صَدَقَاتِ هَوَازِنَ فَتَخَلَّفَ بِشْرٌ فَلَقِيَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: " أَمَا لَنَا عَلَيْكَ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ؟ فَقَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ وَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ". قَالَ: فَخَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَئِيبًا حَزِينًا فَلَقِيَهُ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا؟ قَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَكُونَ كَئِيبًا حَزِينًا وَسَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ وَلِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ". قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَا. قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ وَلِي أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُوقَفَ بِهِ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ فَإِنْ
__________
(1) - مسند الحميدي - المكنز - (626) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (2/ 631) 6677 حسن
الخبال: عصارة أهل النار -الذر: جمع الذرة وهو النمل الأحمر الصغير -الأنيار: يحتمل أن يكون معناه النيران
(2) - كشف الأستار - (4/ 155) (3429) ضعيف
(3) - صحيح ابن حبان - (10/ 384) (4525) صحيح
(1/219)
كَانَ مُحْسِنًا نَجَا وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ فَهَوَى فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَهِيَ سَوَادٌ مُظْلِمَةٌ " فَأَيُّ الْحَدِيثَيْنِ أَوْجَعَ قَلْبَكَ؟ قَالَ: كِلَيْهِمَا قَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي فَمَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَقُولُ أَبُو ذَرٍّ مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ وَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ أَمَا إِنَّا لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا وَعَسَى إِنْ وَلَّيْتُهَا مَنْ لَا يَعْدِلُ فِيهَا أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْ إِثْمِهَا " (1)
وعَنْ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ عَلَى بَعْضِ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِالْوَالِي فَيُقْذَفُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَزُولُ كُلُّ عَظْمٍ عَنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعِظَامَ فَتَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَعْطَاهُ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيًا خَرَقَ بِهِ الْجِسْرَ، فَهَوَى فِي جَهَنَّمَ مِقْدَارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا ". فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ هُنَاكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ، فَقَالَ سَلْمَانُ: إِي وَاللَّهِ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، وَمَعَ السَّبْعِينَ خَرِيفًا فِي وَادٍ مِنْ نَارٍ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا. فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ "
قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: " مَنْ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَهُ " أَيْ: قَبَّحَهُ، وَشَوَّهَ خَلْقَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ نُزِعَ أَنْفَهُ مِنْ وَجْهِهِ شُوِّهَ خَلْقُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلْتِ الْمَسْحُ وَالْإِذْهَابُ. وَمَعْنَى: " أَلْصَقَ خَدَّهُ الْأَرْضَ " أَيْ: أَذَلَّهُ، وَأَقْمَأَهُ، أَيْ: يَكُونُ آخِرُ أَمْرِهِ ذَلِكَ، وَإِلَى تِلْكَ الْحَالِ يَكُونُ مِنْ قُبْحِهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَطَأُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ ". فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ سَلْمَانَ: لَا يَأْخُذُهَا عِنْدَكَ وَأَنْتَ حَيٌّ إِلَّا مَنْ يَرْغَبُ فِيهَا طَلَبًا لِلْعُلُوِّ، وَإِرَادَةَ الرِّفْعَةِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَمَنْ أَعَادَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَفَسَادًا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَانْتِهَاءُ حَالِهِ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَ اللَّهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يُحْشَرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ "، وَيُشَوِّهُ خَلْقَهُمْ وَيُقَبِّحُ صُدُورَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ طَالِبًا
__________
(1) - الْآحَادُ وَالْمَثَانِي لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (1412) ومُسْنَدُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (588) صحيح لغيره
(1/220)
لِلْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادِ فِي الْبِلَادِ، وَالتَّرَفُّعِ عَلَى الْعِبَادِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِيهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ حَتَّى أَتَاهُ عَفْوًا، وَحَتَّى لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ، حَتَّى لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا، وَخَافَ الْفِتْنَةَ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَهْلُ الشُّورَى، وَعَلِيٌّ بَايَعُوهُ طَوْعًا، وَهُوَ يَمْتَنِعُ حَتَّى جَاءَتْ عَزْمَةً " (1)
وقد حكى الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي رحمهما الله حكايات كثيرة عن أقوام عجزوا عن قول: "لا إله إلا الله" عند موتهم، واستبدلوها بما كانوا متعلقين به في الدنيا من حرام أو مباح. (2)
وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ عَنْ هَذَا الْمَخْتُومِ لَهُ بِقَوْلِهِ شَاهَكَ مَا جَاءَ عَنْ إنْسَانٍ كَانَ يُجَالِسُ شَرَبَةَ الْخَمْرِ، فَلَمَّا اُحْتُضِرَ لُقِّنَ الشَّهَادَةَ فَقَالَ لِمَنْ يُلَقِّنُهُ اشْرَبْ وَاسْقِنِي ثُمَّ مَاتَ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ" (3)
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلَّا مُثِّلَ لَهُ جُلَسَاؤُهُ. قَالَ: فَاحْتُضِرَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: شاهك " (4)
ورجل كان يشرب الخمر، قال: اشرب واسقني، ثم مات. ورجل كان منهمكًا في التجارة جعل يقول: هذه رخيصة وهذا مشتري جيد، ثم مات. ومن الصالحين من مات وهو ساجد أو وهو يتلو القرآن أو يذكر الله تعالى، وذلك لأن الشيطان يحشد للإنسان كل همته وقوته لإضلاله في هذه اللحظة، والإنسان يكون في أضعف أحواله، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (217)
(2) - انظر موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 4146) -حسن الخاتمة والتحذير من سوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
(3) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (3/ 251) والكبائر للذهبي- (1/ 32)
(4) - الْمُحْتَضَرِينَ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (238) فيه لين
(1/221)
وأما العلامة التي يعلم بها الميت نفسُه حسن خاتمته فهي أن تبشرَه ملائكة الرحمة برضوان الله تعالى، فيفرح ويستبشر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (30) سورة فصلت
وهذه العلامة هي التي في صحيح مسلم عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَ فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا. فَقَالَتْ إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا ذَاكَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَقَالَتْ قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَيْسَ بِالَّذِى تَذْهَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ وَتَشَنَّجَتِ الأَصَابِعُ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. ". (1)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7002)
مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ الْكَرَاهَة الْمُعْتَبَرَة هِيَ الَّتِي تَكُون عِنْد النَّزْع فِي حَالَةٍ لَا تُقْبَل تَوْبَته وَلَا غَيْرهَا، فَحِينَئِذٍ يُبَشَّر كُلّ إِنْسَان بِمَا هُوَ صَائِر إِلَيْهِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُ، وَيُكْشَف لَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَهْل السَّعَادَة يُحِبُّونَ الْمَوْت وَلِقَاء اللَّه، لِيَنْتَقِلُوا إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ، وَيُحِبّ اللَّه لِقَاءَهُمْ، أَيْ: فَيُجْزِل لَهُمْ الْعَطَاء وَالْكَرَامَة، وَأَهْل الشَّقَاوَة يَكْرَهُونَ لِقَاءَهُ لِمَا عَلِمُوا مِنْ سُوء مَا يَنْتَقِلُونَ إِلَيْهِ، وَيَكْرَه اللَّه لِقَاءَهُمْ، أَيْ يُبْعِدهُمْ عَنْ رَحْمَته وَكَرَامَته، وَلَا يُرِيد ذَلِكَ بِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى كَرَاهَته سُبْحَانه لِقَاءَهُمْ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ سَبَب كَرَاهَة اللَّه تَعَالَى لِقَاءَهُمْ كَرَاهَتهمْ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّ حُبّه لِقَاء الْآخَرِينَ حُبّهمْ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ صِفَة لَهُمْ.شرح النووي على مسلم - (9/ 47)
(1/222)
بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» (1).
هل التبسم عند الموت من علامات حسن الخاتمة؟
لا نعلم نصًّا صحيحاً صريحاً بأن التبسم عند الموت من علامات حسن الخاتمة، ولكن هذا يفهم من عدة نصوص، ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ)) رواه أحمد عن البراء رضي الله عنه. (2)
فقد يبتسم المحتضرُ لذلك، ومما يدلُّ على هذا أيضاً ما رواه أحمد عَنْ عَامِرٍ قَالَ: رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَقِيلاً , فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا فُلاَنٍ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا مَا مَنَعَنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ إِلاَّ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ , سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ أَشْرَقَ لَهَا لَوْنُهُ , وَنَفَّسَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كُرْبَتَهُ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا هِيَ , قَالُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَعْظَمُ مِنْ كَلِمَةٍ أَمَرَ بِهَا عَمَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ: صَدَقْتَ , هِيَ وَاللَّهِ.". (3)
ومحل الشاهد من الحديث قوله: أشرق لها لونه. ولكن هذا مع النطق بالشهادة.
وعَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أُمِّهِ سُعْدَى الْمُرِّيَّةِ، قَالَتْ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِطَلْحَةَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا لَكَ مُكْتَئِبًا، أَسَاءَتْكَ إِمْرَةُ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ نُورًا لِصَحِيفَتِهِ، وَإِنَّ جَسَدَهُ وَرُوحَهُ لَيَجِدَانِ لَهَا رَوْحًا عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقُبِضَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6507) وصحيح مسلم- المكنز - (6998)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6/ 321) (18534) 18733 - صحيح
(3) - مسند الشاشي 335 - (1/ 18) (29) ومسند أحمد - المكنز - (1400) صحيح
(1/223)
وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ الَّتِي أَرَادَ عَلَيْهَا عَمَّهُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ شَيْئًا أَنْجَى لَهُ مِنْهَا لَأَمَرَهُ." (1)
هل خروج روح الميت بسهولة أو بشدة علامة قاطعة على سعادته أو غيرها؟ (2)
إن خروج روح الميت بسهولة أو بشدة ليس علامة قاطعة على سعادته أو غيرها, وكلُّ ذلك يحصل للمؤمن فقد تخرج روحُه بيسر وسهولة، كما في الحديث:" فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ " (3)
وقد تخرجُ روحُ المؤمن بشدة فيكون ذلك تكفيراً عن سيئاته وتمحيصاً له من خطيئاته، فعَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِى ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَقُولُ إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّىَ فِى بَيْتِى وَفِى يَوْمِى، وَبَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَىَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ - فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِى الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ». ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ «فِى الرَّفِيقِ الأَعْلَى» (4)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1/ 435) (205) صحيح
انظر موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1/ 5125) -أسباب حسن الخاتمة وسوئها و (1/ 4843) -أسباب حسن الخاتمة وسوئها و (1/ 4786) -أسباب حسن الخاتمة وسوئها و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2/ 1691) رقم الفتوى 4001 حسن الخاتمة وسوء الخاتمة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4/ 9456) -رقم الفتوى 29018 من علامات حسن الخاتمة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5/ 831) -رقم الفتوى 30723 الموت يوم الجمعة من علامات حسن الخاتمة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9/ 5613) -رقم الفتوى 66705 من علامات حسن الخاتمة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9/ 7029) -رقم الفتوى 68331 من دلائل حسن الخاتمةو فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10/ 3333) -رقم الفتوى 73790 من أمارات حسن الخاتمة وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10/ 3778) -رقم الفتوى 74341 من علامات حسن الخاتمة
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10/ 2159) -رقم الفتوى 72434
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (3/ 380) (12185) مطولا وهو صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (4449)
(1/224)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَاتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِى وَذَاقِنَتِى، فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1).
قال في تحفة الأحوذي " لَمَّا رَأَيْت شِدَّةَ وَفَاتِهِ عَلِمْت أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى سُوءِ عَاقِبَةِ الْمُتَوَفَّى، وَأَنَّ هَوْنَ الْمَوْتِ وَسُهُولَتَهُ لَيْسَ مِنَ الْمُكْرِمَاتِ. وَإِلَّا لَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ وَلَا أَغْبِطُ أَحَدًا يَمُوتُ مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ " (2).
وقال الحافظ: " وَفِي الْحَدِيث أَنَّ شِدَّة الْمَوْت لَا تَدُلّ عَلَى نَقْصٍ فِي الْمَرْتَبَةِ بَلْ هِيَ لِلْمُؤْمِنِ إِمَّا زِيَادَةٌ فِي حَسَنَاتِهِ وَإِمَّا تَكْفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِ " (3)
ولكن ينظرُ إلى حال المرء قبل وفاته ومدى استقامته والتزامه بأوامر الشرع ومدى إقباله على الطاعات وبعده عن المعاصي والمحرمات, فمن اتصف بذلك يرجى له الخيرُ وحسنُ الخاتمة.
هل الخلوُّ من أمارات حُسْن الخاتمة يدلُّ على سوئها؟
إنَّ علينا أن نحسن الظنَّ بالمسلمين، وخاصة إذا كانوا من أهل الخير والصلاح حسبما يبدو لنا، فإنَّ الظاهر مرآةُ الباطن، وقد نهانا الله عز وجل عن سوء الظن، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12].
ولهذا، فإن من السنَّة تغطيةَ وجهِ الميت، قال ابن العربي: إنما أمر بتغطية وجه الميت، لأنه ربما يتغير وجهه تغيراً وحشياً من المرض فيظنُّ من لا معرفة له ما لا يجوز من سوء الظن به.
وقد ذكر أهل العلم أمارات لحسن الخاتمة، منها: أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، ومنها: الموت يوم الجمعة وعرق الجبين، وقالوا: ليس معنى ذلك أن الخلو من
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4446) -الحاقنة: المنخفضة بين الترقوتين من الحلق -الذاقنة: الذقن
(2) - تحفة الأحوذي - (3/ 37)
(3) - فتح الباري لابن حجر - (11/ 363)
(1/225)
هذه الأمارات دليل على سوء الخاتمة. والمؤمنُ دائماً يرجى له الخيرُ ويحسن به الظنُّ، وخاصة إذا كان مستقيماً فاعلاً للخير. (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (8/ 181) -رقم الفتوى 50241 الخلو من أمارات حسن الخاتمة لا يدل على سوئها
(1/226)
المبحثُ الرابع عشر
كيفية الموت وشدته
قال تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (19) سورة ق، وجاءت شدة الموت وغَمْرته بالحق الذي لا مردَّ له ولا مناص، ذلك ما كنت منه - أيها الإنسان - تهرب وتروغ. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) سورة الأنعام
ومَن أشدُّ ظلمَّا ممَّن اختلق على الله تعالى قولا كذبًا، فادعى أنه لم يبعث رسولا من البشر، أو ادعى كذبًا أن الله أوحى إليه ولم يُوحِ إليه شيئًا، أو ادَّعى أنه قادر على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن؟ ولو أنك أبصرت -أيها الرسول- هؤلاء المتجاوزين الحدَّ وهم في أهوال الموت لرأيت أمرًا هائلا والملائكة الذين يقبضون أرواحهم باسطو أيديهم بالعذاب قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم، اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله.
وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} (83) سورة الواقعة
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع، وأنتم حضور تنظرون إليه، أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك، ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا، ولكنكم لا ترونهم.
وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (27) سورة القيامة التراقي: أعلى الصدر
حقًّا إذا وصلت الروح إلى أعالي الصدر، وقال بعض الحاضرين لبعض: هل مِن راق يَرْقيه ويَشْفيه مما هو فيه؟ وأيقن المحتضر أنَّ الذي نزل به هو فراق الدنيا؛ لمعاينته ملائكة الموت،
(1/227)
واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، إلى الله تعالى مساق العباد يوم القيامة: إما إلى الجنة وإما إلى النار.
عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِى ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّىَ فِى بَيْتِى وَفِى يَوْمِى، وَبَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِى وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَىَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ - فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِى الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ». ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ «فِى الرَّفِيقِ الأَعْلَى». حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ. أخرجه البخاري (1)
الموتُ: هو مفارقةُ الروح للجسد، ولا يحصلُ ذلك إلا بألمٍ عظيمٍ جداً، وهو أعظمُ الآلام التي تُصيب العبد في الدُّنيا، قال عمر لِكعبٍ: أخبرني عن الموت، قال يا أميرَ المؤمنين، هو مثلُ شجرةٍ كثيرةِ الشَّوك في جوف ابنِ آدم، فليس منه عِرقٌ ولا مَفْصِل إلا ورجل شديد الذراعين، فهو يعالجها ينْزعها، فبكى عمر.
ولما احتضر عمرو بنُ العاص سأله ابنُه عن صفة الموت، فقال: والله لكأنَّ جنبيَّ في تخت، ولكأنِّي أتنفَّسُ من سمِّ إبرة، وكأن غُصنَ شوكٍ يُجَرُّ به من قدمي إلى هامتي.
وقيل لرجل عندَ الموت: كيف تجدُك؟ فقال: أجدني أُجتذب اجتذاباً، وكأنَّ الخناجرَ مختلفة في جوفي، وكأنَّ جوفي تنُّور محمىًّ يلتهِبُ توقداً.
وقيل لآخر: كيف تَجِدُكَ؟ قال: أجدني كأنَّ السماوات منطبقةٌ على الأرض عليَّ، وأجد نفسي كأنَّها تخرجُ من ثقب إبرة.
__________
(1) - برقم (4449 و6510) و الفتح و 6/ 16 و 8/ 133
(1/228)
فلما كان الموت بهذه الشِّدَّةِ، والله تعالى قد حتمه على عباده كلِّهم، ولابدَّ لهم منه، وهو تعالى يكرهُ أذى المؤمن ومساءته، سمَّى تردُّداً في حقِّ المؤمن، فأمَّا الأنبياءُ عليهم السلام، فلا يُقبضون حتَّى يُخيَّروا (1).
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَاتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِى وَذَاقِنَتِى، فَلاَ أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» أخرجه الترمذي (3)
قِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ هُوَ عَلَامَةُ الْخَيْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ اِبْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يَشْتَدُّ الْمَوْتُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِحَيْثُ يَعْرَقُ جَبِينُهُ مِنْ الشِّدَّةِ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ أَوْ لِتَزِيدَ دَرَجَتُهُ
وعَنِ عَلْقَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَخْرُجُ رَشْحًا وَلاَ أُحِبُّ مَوْتًا كَمَوْتِ الْحِمَارِ». قِيلَ وَمَا مَوْتُ الْحِمَارِ قَالَ «مَوْتُ الْفَجْأَةِ». أخرجه الترمذي (4)
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:تَحَدَّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمُ الأَعَاجِيبُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ، قَالَ: خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَتَوْا مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِهِمْ، فَقَالُوا: لَوْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، فَدَعَوْنَا اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يُخْرِجُ لَنَا بَعْضَ الأَمْوَاتِ، يُخْبِرُنَا عَنِ الْمَوْتِ، قَالَ: فَفَعَلُوا، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَجُلٌ بِرَأْسِهِ مِنْ قَبْرٍ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ
__________
(1) - جامع العلوم والحكم - (ج 38 / ص 32)
(2) - برقم (4446 و 4449 و 4450و 4451 و 5217 و 6510) الحاقنة: المنخفضة بين الترقوتين من الحلق، الذاقنة: الذقن
(3) - برقم (982) و (998) ونص 4/ 6 (1840) وابن ماجه (1519) وأحمد 5/ 357 و360 (23666و23749) والمجمع 2/ 325 والحاكم 1/ 361 (1333) وهو حديث صحيح.
(4) - الترمذي (996) وعب (6773) وش (12011) وطب (9872) وطس (6064) وهب (9855) والمجمع 2/ 325 و 326 وهو حديث حسن. الرشح: العرق
(1/229)
السُّجُودِ، فَقَالَ: يَا هَؤُلاَءِ، مَا أَرَدْتُمْ إِلَيَّ؟ فَوَاللهِ، لَقَدْ مِتُّ مُنْذُ مِئَةِ سَنَةٍ، فَمَا سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ الآنَ، فَادْعُوا اللهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا كُنْتُ. أخرجه عبد بن حميد (1)
قال القرطبي: لتشديد الموت على الأنبياء فائزتان: إحداهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصاً ولا عتاباً، بل هو كما جاء أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، والثانية: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى، فلا يرى عليه حركة ولا قلقاً، ويرى سهولة خروج روحه، فيظن سهولة أمر الموت، ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقاً. (2)
ــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (1159) والجامع لأخلاق الراوي (1361) والزهد لوكيع (54) والمطالب 1/ 192 و 3/ 280 (813) وتمام (217) والفيض 3/ 377 وهو حديث صحيح.
(2) - التذكرة 1/ 14
(1/230)
المبحثُ الخامس عشر
تلقين الميت
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: - اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس أخرجه النسائي، وعند أحمد عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْبَقَرَةُ سَنَامُ الْقُرْآنِ وَذُرْوَتُهُ نَزَلَ مَعَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا ثَمَانُونَ مَلَكاً وَاسْتُخْرِجَتْ (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ) مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَوُصِلَتْ بِهَا أَوْ فَوُصِلَتْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَ (يس) قَلْبُ الْقُرْآنِ لاَ يَقْرَأُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَالدَّارَ الآخِرَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ وَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» (1)
وتستحب قراءتها لما تشتمل عليه من أحوال البعث والقيامة وبيان الخاتمة وإثبات القدر والتوحيد وأمارات الساعة ... (2)
وعَنِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ». أخرجه مسلم (3)
وقال النووي رحمه الله: وَالْأَمْر بِهَذَا التَّلْقِين أَمْر نَدْب، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى هَذَا التَّلْقِين، وَكَرِهُوا الْإِكْثَار عَلَيْهِ وَالْمُوَالَاة لِئَلَّا يَضْجَر بِضِيقِ حَاله وَشِدَّة كَرْبه فَيَكْرَه ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَيَتَكَلَّم بِمَا لَا يَلِيق. قَالُوا: وَإِذَا قَالَهُ مَرَّة لَا يُكَرِّر عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّم بَعْده بِكَلَامٍ آخَر، فَيُعَاد التَّعْرِيض بِهِ لِيَكُونَ آخِر كَلَامه، وَيَتَضَمَّن الْحَدِيث الْحُضُور عِنْد الْمُحْتَضَر لِتَذْكِيرِهِ وَتَأْنِيسه وَإِغْمَاض عَيْنَيْهِ وَالْقِيَام بِحُقُوقِهِ وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ». أخرجه أبو داود (4)
__________
(1) - النسائي برقم (10846و10847) والإحسان برقم (2991) وطب (16904و16931) وأبو داود (3121) وأحمد 5/ 26 و 27 (20836) وطب (16905) والحاكم 1/ 565 (2074) وجامع الأصول 11/ 84 والمسند الجامع (11703) وش (10853) وفيه ضعف.
(2) - الفيض 3/ 67
(3) - برقم (916) والترمذي (992) وابن ماجه (1446) وهو حديث صحيح مشهور
(4) - أبو داود (3118) وأحمد 5/ 233 (22684 و22781) وابن حبان (719) والحاكم (1299) وطب (16645) وهو حديث صحيح.
(1/231)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَا لِى أَرَاكَ قَدْ شَعِثْتَ وَاغْبَرَرْتَ مُنْذُ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَلَّكَ سَاءَكَ يَا طَلْحَةُ إِمَارَةُ ابْنِ عَمِّكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنِّى لأَجْدَرُكُمْ أَنْ لاَ أَفْعَلَ ذَلِكَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنِّى لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَوْتِ إِلاَّ وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحاً حِينَ تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ وَكَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَلَمْ أَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهَا وَلَمْ يُخْبِرْنِى بِهَا فَذَلِكَ الَّذِى دَخَلَنِى قَالَ عُمَرُ فَأَنَا أَعْلَمُهَا. قَالَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَمَا هِىَ قَالَ هِىَ الْكَلِمَةُ الَّتِى قَالَهَا لِعَمِّهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَالَ طَلْحَةُ صَدَقْتَ. أخرجه أحمد (1)
وعَنِ الأَغَرِّ أَبِى مُسْلِمٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. صَدَّقَهُ رَبُّهُ فَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ. قَالَ يَقُولُ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَأَنَا وَحْدِى. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَحْدِى لاَ شَرِيكَ لِى. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا لِىَ الْمُلْكُ وَلِىَ الْحَمْدُ. وَإِذَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. قَالَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِى. وَكَانَ يَقُولُ مَنْ قَالَهَا فِى مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ» أخرجه الترمذي (2)
وقوله: لم تطعمه النار هذا كناية من عدم دخوله إليها، ثم يحتمل أن يراد لا يدخلها دخول تخليد وتأبيد، ويحتمل أن يتسبب عنه بفضل اللّه تعالى من حسن الخاتمة ما يدخل به قائله الجنة مع الفائزين وهو المتبادر من متن الحديث.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَخَذَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِنْتاً لَهُ تَقْضِى فَاحْتَضَنَهَا فَوَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَمَاتَتْ وَهِىَ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ فَصَاحَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَقِيلَ أَتَبْكِى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَتْ أَلَسْتُ أَرَاكَ
__________
(1) - أحمد 1/ 28 و 37 (192 و258 و455و1400) و الحاكم1/ 350 (242و1298) والمجمع 2/ 324 و 325 وهو حديث صحيح.
(2) - برقم (3758) وابن ماجه (3794) وابن حبان (2325) موارد و ن عمل (30 و 31 و32) وهو حديث صحيح.
(1/232)
تَبْكِى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «لَسْتُ أَبْكِى إِنَّمَا هِىَ رَحْمَةٌ إِنَّ الْمُؤْمِنَ بِكُلِّ خَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِنَّ نَفْسَهُ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه أحمد (1)
وعَنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ وَقُولُوا خَيْراً فَإِنَّهُ يُؤَمَّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ». أخرجه أحمد (2)
(وقولوا) حال التغميض وبعده (خيراً) أي قولوا خيراً: من الدعاء للميت بنحو مغفرة وللمصاب بجبر المصيبة ولا يحملكم الجزع على الدعاء على أنفسكم وهذا كما قال القرطبي أمر ندب أو إرشاد وتعليم لما ينبغي أن يقال عند المصيبة. (فإن الملائكة) الموكلين بقبض روحه أو من حضر منهم أو أعم (تؤمن على ما يقول أهل البيت) أي بيت الميت وفي نسخ أهل الميت أي تقول آمين يعني استجب يا ربنا فلا تقولوا شراً فتؤمن الملائكة فيستجاب، ففيه إشارة إلى النهي عن نحو: واكهفاه واجسراه لا عشت بعده ونحو ذلك .. (3)
ــــــــــــــ
__________
(1) - 1/ 273 و 274 (2519) والنسائي 1/ 281 والبزار (88) والصحيحة (1632) وهو صحيح.
(2) - أحمد 4/ 125 (17600) وبز (3478) وابن ماجه (1522) وطب (7022) وطس (1027) وهو حديث صحيح.
(3) - فيض القدير (564)
(1/233)
المبحثُ السادس عشر
ما جاء في ملك الموت وأعوانه
قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (11) سورة السجدة
قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم، فيقبض أرواحكم إذا انتهت آجالكم، ولن تتأخروا لحظة واحدة، ثم تُردُّون إلى ربكم، فيجازيكم على جميع أعمالكم: إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} (61) سورة الأنعام
والله تعالى هو القاهر فوق عباده، فوقية مطلقة من كل وجه، تليق بجلاله سبحانه وتعالى. كل شيء خاضع لجلاله وعظمته، ويرسل على عباده ملائكة، يحفظون أعمالهم ويُحْصونها، حتى إذا نزل الموت بأحدهم قبض روحَه مَلكُ الموت وأعوانه، وهم لا يضيعون ما أُمروا به.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ، قَالَ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ. أخرجه ابن أبي شيبه (1)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كَانَ دَاوُدُ النَّبِىُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ - قَالَ - فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ فَأَقْبَلْتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَتْ لِمَنْ فِى الْبَيْتِ مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ الدَّارَ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ وَاللَّهِ لَتُفْتَضَحُنَّ بِدَاوُدَ. فَجَاءَ دَاوُدُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا الَّذِى لاَ أَهَابُ الْمُلُوكَ وَلاَ يَمْتَنِعُ مِنِّى شَىْءٌ فَقَالَ دَاوُدُ أَنْتَ وَاللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَمَرْحَباً بِأَمْرِ اللَّهِ. فَرَمَلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ
__________
(1) - 13/ 372 (34776) وتفسير ابن أبي حاتم (7418 - 7420) و الطبري 7/ 39 والدر 3/ 16 من طرق تقويه.
(1/234)
قُبِضَتْ رُوحُهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِهِ وَطَلعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ أَظِلِّى عَلَى دَاوُدَ. فَأَظَلَّتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ اقْبِضِى جَنَاحاً جَنَاحاً». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُرِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ أخرجه أحمد (1)
وقال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة إن كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً، و هذا المعنى منصوص في حديث البراء (2)
أما ملك الموت فواحد كما هو ظاهر حديث الصحيحين أن موسى عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أجب ربك، وكما دل عليه قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ {السجدة: 11} غير أن له أعوانا. قال الله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ {الأنعام:61}. وقال: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ {الأنعام: 37}. روى الإمام الطبري عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ يَقُولُ: " حَفَظَةٌ يَا ابْنَ آدَمَ يَحْفَظُونَ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَرِزْقَكَ وَأَجَلَكَ، إِذَا تُوفِّيتَ ذَلِكَ قُبِضْتَ إِلَى رَبِّكَ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكُمْ يَحْفَظُكُمْ بِرُسُلٍ يُعَقِّبَ بَيْنَهَا، يُرْسِلُهُمْ إِلَيْكُمْ بِحِفْظِكُمْ، وَبِحِفْظِ أَعْمَالِكُمْ إِلَى أَنْ يَحْضِرُكُمُ الْمَوْتُ وَيَنْزِلُ بِكُمْ أَمْرُ اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ أَحَدَكُمْ تَوَفَّاهُ أَمْلَاكُنَا الْمُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَرُسُلُنَا الْمُرْسَلُونَ بِهِ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ فِي ذَلِكَ فَيُضَيِّعُونَهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَوَلَيْسَ الَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَكَيْفَ قِيلَ: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا، وَالرُّسُلُ جُمْلَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ؟ قِيلَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَعَانَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِأَعْوَانٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ بِأَمْرِ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَيَكُونُ (التَّوَفِّي) مُضَافًا،
__________
(1) - 2/ 419 (9672) والمجمع 8/ 206و 207 (13796) والبداية 2/ 17 و الإتحاف10/ 264 وفيه انقطاع. المضرحيُّ: الأبيض من كل شيء
(2) - راجع تذكرة القرطبي ص 76 الشاملة 2
(1/235)
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ أَعْوَانِ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ كَانَ فِعْلُهُمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، كَمَا يُضَافُ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ أَعْوَانُ السُّلْطَانِ وَجَلْدِ مَنْ جَلَدُوهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السُّلْطَانُ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا وَلِيَهُ بِيَدِهِ. وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ " (1) اهـ.
أما كيف بقبض ملك الموت عددا من الأرواح في وقت واحد، فقد جاء في القرآن الكريم والسنة ما يدل على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة، ففي القرآن ورد قوله سبحانه: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61].
قال ابن كثير في تفسيره: قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: [إذا] (4) احتضر وحان أجله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: ملائكة موكلون بذلك. قال ابن عباس وغير واحد: لملك الموت أعوان من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم وسيأتي عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، الأحاديث المتعلقة بذلك، الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة .. (2)
ويشهد لهذا ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَمَا يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَعْرُجَ بِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحَ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، أَظُنُّهُ أَرَادَ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَلَا
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (12146)
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (3/ 267)
(1/236)
يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَنْتَهِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ." ... (1)
ـــــــــــــ
__________
(1) - إثبات عذاب القبر للبيهقي - (1/ 45) (35) صحيح و انظر فتاوى الشبكة الإسلامية رقم الفتوى (20657)
- الحميم: الماء الحار - الغساق: بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار وغسالتهم، وقيل الزمهرير
(1/237)
المبحثُ السابع عشر
من يحضر الميت من الملائكة
عن ابن مسعود وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وأبو الضحى، والسُّدي: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها، و [منهم] من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط، وهو قوله: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قاله ابن عباس. (1)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا» (2) قَالَ حَمَّادٌ فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ. قَالَ «وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ. فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ». قَالَ «وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ - قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا - وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ. قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا. أخرجه مسلم (3)
قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد بِالْأَوَّلِ: اِنْطَلِقُوا بِرُوحِ الْمُؤْمِن إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى، وَالْمُرَاد بِالثَّانِي اِنْطَلِقُوا بِرُوحِ الْكَافِر إِلَى سِجِّين، فَهِيَ مُنْتَهَى الْأَجَل، وَيُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَاد إِلَى اِنْقِضَاء أَجَل الدُّنْيَا. وآخر الأجل: سجن في جهنم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قُبِضَ أَتَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَتَقُولُ: اخْرُجِي إِلَى رَوْحِ اللهِ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إِنَّهُمْ لِيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشُمُّونَهُ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الأَرْضِ؟ وَلاَ يَأْتُونَ سَمَاءً إِلاَّ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ
__________
(1) - تفسير ابن كثير 8/ 334 و8/ 312 وهو صحيح ومثله لا يقال بالرأي
(2) - أي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ
(3) - برقم (2872) في الجنة موقوفاً، ومثله لا يقال بالرأي.
(1/238)
أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلاَنٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ، أَمَا أَمَاتَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْتِيهُ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ بِمُسْحٍ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى غَضِبِ اللهِ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ فَتَذْهَبُ بِهِ إِلَى بَابِ الأَرْضِ. أخرجه ابن حبان في صحيحه (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا: اخْرُجِى أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِى الْجَسَدِ الطَّيِّبِ اخْرُجِى حَمِيدَةً وَأَبْشِرِى بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِى الْجَسَدِ الطَّيِّبِ ادْخُلِى حَمِيدَةً وَأَبْشِرِى بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِى فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (2)،وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالَ اخْرُجِى أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِى الْجَسَدِ الْخَبِيثِ اخْرُجِى ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِى بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ. وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ. (3) فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَلاَ يُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا فَيُقَالُ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ: لاَ مَرْحَبًا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 285) (3014) وعذاب القبر برقم (45) وأحمد 2/ 364 وصحيح الترغيب (3559) ون (11926) والحاكم 1/ 352 وهو حديث صحيح. المسح: قطعة من الصوف الغليظ، الجِيفَة: جُثة الميت إذا أنْتَن
(2) - أي يظهر ويلقي حكمه 1 هـ السندي على ابن ماجه 2/ 566،وهذا من أحاديث الصفات التي يجب الإيمان بها، ولا نتعرض لها بتأويل أو تحريف، والله تعالى منزه عن المكان والحيز ... راجع الفتح الرباني شرح مسند أحمد 7/ 72 - 73
وفي مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (ج 5 / ص 341):ادخلي أي في السموات العلى أو في عبادي أي محل أرواحهم حميدة أي محمودة أو حامدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال أي هي يقال لها ذلك أي ما ذكر من الأمر بالدخول والبشارة بالصعود من سماء إلى سماء حتى تنتهي أي تصل إلى السماء التي فيها الله أي أمره وحكمه أي ظهور ملكه وهو العرش وقال الطيبي أي رحمته بمعنى الجنة وتبعه ابن حجر
(3) - أشياء سيئة جداً من هذا القبيل يعاقبون بها نفسه 7/ 73
(1/239)
بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِى الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِى ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لاَ تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَيُرْسَلُ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ».رواه ابن ماجه (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَمَا يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَعْرُجَ بِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحَ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، أَظُنُّهُ أَرَادَ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَنْتَهِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، َقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ يُغْفَرُ لَهُ بِهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ بِرَيْحَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَبِرِيطَةٍ، وَعَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَدْ جَاءَ الْيَوْمُ مِنَ الأَرْضِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، نَسَمَةٌ طَيْبَةٌ، فَلا يَمُرُّ بِبَابٍ إِلا فُتِحَ لَهُ، وَلا بِمَلَكٍ إِلا صَلَّى عَلَيْهِ، وَشَيَّعَهُ حَتَّى يُؤْتَى بِهِ الرَّحْمَنَ، فَيَسْجُدُ لَهُ قَبْلَ الْمَلائِكَةِ، وَتَسْجُدُ الْمَلائِكَةُ بَعْدَهُ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى الشُّهَدَاءِ، فَيَجِدُهُمْ فِي رِيَاضٍ خَضِرٍ، وَثِيَابٍ مِنْ حَرِيرٍ عِنْدَ ثَوْرٍ وَحُوتٍ، يُلْغَثَانِ كُلَّ يَوْمٍ لَغْثَةً، لَمْ يُلْغَثَا بِالأَمْسِ مِثْلَهَا، فَيَظَلُّ الْحُوتُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا أَمْسَى وَكَزَهُ الثَّوْرُ بِقَرْنِهِ، فَذَكَّاهُ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِ، فَوَجَدُوا فِي لَحْمِهِ طَعِمُ كُلِّ رَائِحَةٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، وَيَلْبَثُ الثَّوْرُ نَافِشًا فِي الْجَنَّةِ
__________
(1) - برقم (4403) وأحمد 2/ 344 و 345 والطبري 8/ 129 والبيهقي في عذاب القبر (44) والنسائي (11378 و11925) وتهذيب الآثار (176) وهو حديث صحيح.
(2) - إثبات عذاب القبر للبيهقي - (1/ 45) (35) صحيح
(1/240)
، فَإِذَا أَصْبَحَ غَدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْحُوتُ فَوَكَزَهُ بِذَنَبِهِ، فَذَكَّاهُ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهِ، فَوَجَدُوا فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ ثَمَرَةٍ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَإِذَا تُوُفِّي الْمُؤْمِنُ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ بِرَيْحَانٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَخِرْقَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، تُقْبَضُ فِيهَا نَفْسُهُ، وَيُقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبُّكِ عَلَيْكِ غَيْرُ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رَائِحَةٍ وَجَدَهَا أَحَدُ قَطُّ بِأَنْفِهِ، وَعَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَدْ جَاءَ الْيَوْمُ مِنَ الأَرْضِ رِيحٌ طَيْبَةٌ، وَنَسَمَةُ كَرِيمَةٌ، فَلا تَمُرُّ بِبَابٍ إِلا فُتِحَ لَهَا، وَلا بِمَلَكٍ إِلا صَلَّى عَلَيْهَا وَشَيَّعَهُ حَتَّى يُؤْتَى بِهِ الرَّحْمَنَ، فَتَسْجُدُ الْمَلائِكَةُ قَبْلَهُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ يُدْعَى مِيكَائِيلُ، فَيُقَالُ: اذْهَبْ بِهَذِهِ النَّفْسِ، فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَسْأَلَكَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ سَبْعِينَ طُولُهُ وَسَبْعِينَ عَرْضُهُ، وَيُنْبَذُ لَهُ فِيهِ رَيْحَانٌ، وَيُسْتَرُ بِحَرِيرٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، كُسِيَ نُورُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ جُعِلَ لَهُ نُورٌ مِثْلَ الشَّمْسِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْعَرُوسِ لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تُوُفِّيَ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ بِخِرْقَةٍ مِنْ بِجَادٍ أَنْتَنُ مِنْ كُلِّ نَتْنٍ، وَأَخْشَنُ مِنْ كُلِّ خَشِنٍ، فَيُقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، وَلَبِئْسَ مَا قَدَّمْتِ لِنَفْسِكِ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رَائِحَةٍ وَجَدَهَا أَحَدٌ قَطُّ بِأَنْفِهِ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ فِي قَبْرِهِ، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ، ثُمَّ يُرْسَلُ عَلَيْهِ حَيَّاتٌ، كَأَنَّهَا أَعْنَاقُ الْبُخْتِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ، وَيُقَيَّضُ لَهُ مَلائِكَةٌ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ لا يَسْمَعُونَ لَهُ صَوْتًا، وَلا يَرَوْنَهُ فَيَرْحَمُوهُ، وَلا يَمُلُّونَ إِذَا ضَرَبُوا، يَدْعُونَ اللَّهَ، بِأَنْ يُدِيمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى النَّارِ» أخرجه عبد الرزاق (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لاَ يُقْبَضُ الْمُؤْمِنُ حَتَّى يَرَى الْبُشْرَى , فَإِذَا قُبِضَ نَادَى , فَلَيْسَ فِي الدَّارِ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ، وَلاَ كَبِيرَةٌ إِلاَّ هِيَ تَسْمَعُ صَوْتَهُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنَّ وَالإِنْسَ تَعَجَّلُوا بِهِ إلَى أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ فَإِذَا وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، قَالَ: مَا أَبْطَأَ مَا تَمْشُونَ , فَإِذَا أُدْخِلَ فِي لَحْدِهِ أُقْعِدَ فَأُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ , وَمُلِئَ قَبْرُهُ مِنْ رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَمِسْكٍ، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ , قَدِّمْنِي، قَالَ: فَيُقَالَ: لَمْ يَأْنِ لَك , إنَّ لَك إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ
__________
(1) - برقم (6703) و المجمع 2/ 328 (3932) وقال: ورجاله ثقات، قلت: وفيه لين، ومثله لا يقال بالرأي
(1/241)
لَمَّا يَلْحَقُونَ , وَلَكِنْ نَمْ قَرِيرَ الْعَيْنِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , مَا نَامَ نَائِمٌ شَابٌّ طَاعِمٌ نَاعِمٌ، وَلاَ فَتَاةٌ فِي الدُّنْيَا نَوْمَةً بِأَقْصَرَ، وَلاَ أَحْلَى مِنْ نَوْمَتِهِ حَتَّى يَرْفَعَ رَأْسَهُ إلَى الْبُشْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» أخرجه ابن أبي شيبه (1)
قلت:قد ورد في القرآن الكريم أصل البشرى، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) [يونس/62 - 64] سورة يونس
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَاتَّقَوا وَأَخْلَصُوا العِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكُلَ عَلَيْهِ، لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَهْوَالِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً (أَوْلِيَاءَ اللهِ): بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ.
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ ") (رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ)، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ. وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (31) سورة فصلت
__________
(1) - 13/ 348 برقم (34694) وإسناده صحيح موقوف، ومثله لا يقال بالرأي
(1/242)
إِنَّ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ، وََأَخْلَصُوا لَهُ العِبَادَةَ، وَثَبَتُوا عَلَى الإِيمَانِ (اسْتَقَامُوا) تَتَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالبُشْرَى التِي يُرِيدُونَهَا، وَبِأَنَّهُمْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِمّا يَقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَزَوْجٍ وَوَلَدٍ، وَيَبَشِّرُونَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ اللهُ بِهَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. (وَقِيلَ إِنَّ البُشْرَى تَكُونُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ المَوْتِ، وَفِي القَبْرِ، وَحِينَ البَعْثِ والنُّشُورِ).
وَتَقُولُ المَلاَئِكَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ يُبَشِّرُونَهُمْ: نَحْنُ كُنَّا أَوْلِيَاءَكُمْ فِي الحِيَاةَ الدُّنْيَا نُسَدِّدُ خُطَاكُمْ، وَنُلْهِمُكُمْ الحَقَّ، وَنُرْشِدُكُمْ إِلَى مَا فِيهِ الخَيْرُ وَرِضا اللهِ تَعَالَى وَكَذِلِكَ نَكُونُ مَعَكُمْ فِي الآخِرَةِ، نُؤْمِّنُكُمْ عِنْدَ المَوْتِ مِنْ وَحْشَةِ القَبْرِ، وَعِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ، وَيَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَنُوصِلُكُمْ إِلَى جَنَّاتِ الخُلْدِ، وَإِنَّكُمْ وَاجِدُونَ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ مِنَ المَلَذَّاتِ والنَّعِيمِ، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَتَمَنونَ وَتَطْلُبُونَ.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد السلام بن مطهر، حدثنا جعفر بن سليمان: سمعت ثابتا قرأ سورة "حم السجدة" حتى بلغ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} فوقف فقال: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره، يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} قال: فيؤمن الله خوفه، ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين، لما هداه الله، ولما كان يعمل له في الدنيا.
وقال زيد بن أسلم: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم.
وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدا، وهو الواقع.
وقوله: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا أولياءكم، أي: قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم، ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} أي: في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي: مهما
(1/243)
طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم، أي كما اخترتم، {نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي: ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم، رحيم بكم رءوف، حيث غفر، وستر، ورحم، ولطف .. (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (7/ 177)
(1/244)
المبحثُ الثامن عشر
الحث على التوبة قبل فوات الأوان
قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} سورة النساء
إن التوبة التي يقبلها اللّه، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد .. «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. والذين يعملون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب .. وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم .. والذين يتوبون من قريب: هم الذين يثوبون إلى اللّه قبل أن يتبين لهم الموت، ويدخلوا في سكراته، ويحسوا أنهم على عتباته. فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم، والانخلاع من الخطيئة، والنية على العمل الصالح والتكفير.
وهي إذن نشأة جديدة للنفس، ويقظة جديدة للضمير .. «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» .. «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» .. يتصرف عن علم وعن حكمة. ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم.
(1/245)
إن اللّه - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو - سبحانه - غني عنهم، وما تنفعه توبتهم، ولكن تنفعهم هم أنفسهم، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
«وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ».
فهذه التوبة هي توبة المضطر، لجت به الغواية، وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب، ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها اللّه، لأنها لا تنشئ صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة، ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الآمن، فيستردون أنفسهم من تيه الضلال، وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان، ليعملوا عملا صالحا - إن قدر اللّه لهم امتداد العمر بعد المتاب - أو ليعلنوا - على الأقل - انتصار الهداية على الغواية. إن كان الأجل المحدود ينتظرهم، من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد ..
«وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» .. وهؤلاء قد قطعوا كل ما بينهم وبين التوبة من وشيجة، وضيعوا كل ما بينهم وبين المغفرة من فرصة ..
«أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً».أعتدناه: أي أعددناه وهيأناه .. فهو حاضر في الانتظار لا يحتاج إلى إعداد أو إحضار! وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة، ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة. فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد، وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد .. (1)
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي: المعاصي {بِجَهَالَةٍ} أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1/ 603)
(1/246)
بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا. وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}.
وقال هنا: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: المعاصي فيما دون الكفر. {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل (1) أن يكون معنى قوله: {مِنْ قَرِيبٍ} أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.
والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة.
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم. (1)
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 171)
(1/247)
وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم اللّه، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة .. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى اللّه، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات!
إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق .. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره .. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها .. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه .. وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فردّه اللّه سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (90 ـ 91: يونس).
إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر .. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر باللّه هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان باللّه الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه .. هكذا فكر وقدّر!!
وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى اللّه، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا .. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة .. إنها توبة غير مقبولة. (1)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (2/ 727)
(1/248)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» أخرجه الترمذي (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، قَالَ: اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ " فَقَالَ الثَّانِي: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ " فَقَالَ الثَّالِثُ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ " قَالَ الرَّابِعُ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِنَفَسِهِ " أخرجه أحمد (2)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ - أَوْ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ - مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ قَالَ «أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ». أخرجه أحمد (3)
فالتَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ أُصُول الإِْسْلاَمِ الْمُهِمَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَوَّل مَنَازِل السَّالِكِينَ،قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة النور / 31).
وَقْتُ التَّوْبَةِ:
إِذَا أَخَّرَ الْمُذْنِبُ التَّوْبَةَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ ظَل آمِلاً فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ يَائِسٍ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُهُ لاَ مَحَالَةَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ
__________
(1) - الترمذي (3880) وحم 2/ 132 (6304) وابن ماجه (4394) وهب (6799) وع (5586) والإحسان (630) وهو حديث صحيح. يغرغر: تبلغ روحه الحلقوم
(3) 3/ 425 (15898) وهو حديث ضعيف.
(2) - مسند أحمد (15898) فيه ضعف
(3) - برقم (22143و22144) والحاكم 4/ 257 (7660) وتهذيب الآثار (1950) وبز (4056) والإحسان (628و629) والمجمع (17512) وإتحاف المهرة (166) وهو حديث حسن لغيره
(1/249)
الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى، وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (1).
وَإِنْ قَطَعَ الأَْمَل مِنَ الْحَيَاةِ وَكَانَ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (مُشَاهَدَةُ دَلاَئِل الْمَوْتِ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ الأَْشَاعِرَةِ: إِنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ دَلاَئِل الْمَوْتِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء.
قَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الذُّنُوبَ وَيُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ إِلَى وَقْتِ الْغَرْغَرَةِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لأَِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ مَنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَبَيْنَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَلاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ كَمَا لاَ يُقْبَل إِيمَانُهُ. وَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْل الْغَرْغَرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ الْيَأْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ (2).
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْغَرْغَرَةِ، بِخِلاَفِ إِيمَانِ الْيَائِسِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَبْدَأُ إِيمَانًا وَعِرْفَانًا، وَالْفَاسِقُ عَارِفٌ وَحَالُهُ حَال الْبَقَاءِ، وَالْبَقَاءُ أَسْهَل مِنَ الاِبْتِدَاءِ (3) وَلإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
__________
(1) - سنن الترمذى (3880) صحيح لغيره
(2) - ابن عابدين 1/ 571، 3/ 289، والفواكه الدواني 1/ 90، وتفسير الماوردي 1/ 372، والآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 127.
(3) - المراجع السابقة.
(1/250)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ الْكَافِرِ بِإِسْلاَمِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (1) بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ حَال فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (90) سورة يونس.
مَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ وَمَنْ لاَ تُقْبَل:
تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَل التَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ الْعَاصِي بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ كَمَا وَعَدَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حَيْثُ قَال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى، لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْحَالاَتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول التَّوْبَةِ فِيهَا نَظَرًا لِلأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ:
أ - تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ:
الزِّنْدِيقُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَمَسَّكُ بِشَرِيعَةٍ وَلاَ يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ (2).
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (160) سورة البقرة.
وَالزِّنْدِيقُ لاَ يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلاَفُ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ مُسِرًّا بِالْكُفْرِ؛ وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ. لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ صَرَّحُوا بِقَبُول التَّوْبَةِ مِنَ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَهَا قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (3).
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الزِّنْدِيقَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ فَتُقْبَل تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (38) سورة الأنفال.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالزَّنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةَ بِمُخْتَلَفِ فِرَقِهِمْ (4)، كَمَا أَلْحَقَ بِهِمِ الْحَنَابِلَةُ الْحُلُولِيَّةَ وَالإِْبَاحِيَّةَ وَسَائِرَ الطَّوَائِفِ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ (5).
__________
(1) - تفسير الطبري 8/ 96، 97، وانظر أيضا تفسير الماوردي 1/ 372، 373.
(2) - ابن عابدين 3/ 296، وحاشية القليوبي 4/ 177، وكشاف القناع 6/ 176، 178.
(3) - ابن عابدين 1/ 31، و3/ 290، 296، والحطاب 6/ 282، وجواهر الإكليل 2/ 279، والقليوبي 4/ 177، والمغني 6/ 298، وكشاف القناع 6/ 177، 178.
(4) - الباطنية هم القائلون بأن للقرآن باطنا وظاهرا، والباطن هو المراد منه دون ظاهره. (قليوبي 4/ 177).
(5) - المراجع السابقة.
(1/251)
ب - تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ:
صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (137) سورة النساء. وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} (90) سورة آل عمران، وَالاِزْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا جَدِيدًا لاَ بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ إِيمَانٍ عَلَيْهِ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَال لَهُ: إِنَّهُ أُتِيَ بِك مَرَّةً فَزَعَمْتَ أَنَّك تُبْتَ وَأَرَاكَ قَدْ عُدْتَ فَقَتَلَهُ. وَلأَِنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ مِنْهُ يَدُل عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالاَتِهِ بِالدِّينِ فَيُقْتَل (1).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُقْبَل تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (38) سورة الأنفال, وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (2). لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْهُ الرِّدَّةُ إِذَا تَابَ ثَانِيًا عُزِّرَ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ وَلاَ يُقْتَل، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الإِْمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَعَل بِهِ هَكَذَا أَبَدًا مَا دَامَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ،وَقَدْ جَاءَ مِثْل هَذَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3).
__________
(1) - المغني 8/ 126، 127، وكشاف القناع 6/ 177.
(2) - صحيح البخارى (25) ومسلم (133) متواتر
(3) - ابن عابدين 3/ 286، والحطاب 6/ 282، وأسنى المطالب 4/ 122، والجمل على شرح المنهج 5/ 126.
(1/252)
ج - تَوْبَةُ السَّاحِرِ:
السِّحْرُ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُول مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهُ ابْنُ خَلْدُونٍ بِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْدَادَاتٍ تَقْتَدِرُ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ بِهَا عَلَى التَّأْثِيرَاتِ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة، فَذَمَّهُمْ عَلَى تَعْلِيمِهِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَدَّهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ السَّاحِرِ فَيَجِبُ قَتْلُهُ وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كُفْرِهِ مُطْلَقًا عَدَمُ قَتْلِهِ؛ لأَِنَّ قَتْلَهُ بِسَبَبِ سَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ ضَرَرُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ مُكَفِّرٍ يُقْتَل دَفْعًا لِشَرِّهِ كَالْخَنَّاقِ وَقَطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
وَحَدُّ السَّاحِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْل وَيَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إِبَاحَتَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ (1).
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِهِ يُقْتَل إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ فَتُقْبَل تَوْبَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (2).
وَالدَّلِيل عَلَى عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ السَّاحِرِ حَدِيثُ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ (3)، فَسَمَّاهُ حَدًّا وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) - ابن عابدين 1/ 31، المغني 8/ 154، والمقدمة 496 ط دار التراث.
(2) - الخرشي 8/ 63، والجواهر 2/ 281.
(3) - سنن الترمذى (1532) وصحح وقفه
(1/253)
بِالتَّوْبَةِ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ - هَل لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ (1)، وَلأَِنَّهُ لاَ طَرِيقَ لَنَا إِلَى إِخْلاَصِهِ فِي تَوْبَتِهِ لأَِنَّهُ يُضْمِرُ السِّحْرَ وَلاَ يَجْهَرُ بِهِ، فَيَكُونُ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ وَالتَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ الْقَتْل مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ (2).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَاعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَكْفُرْ، وَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَفَرَ؛ لأَِنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ وَيُقْتَل كَمَا يُقْتَل الْمُرْتَدُّ (3).
فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ تُقْبَل تَوْبَةُ السَّاحِرِ كَمَا تُقْبَل تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ. وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ السَّاحِرَ إِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ وَمَعْرِفَةُ السِّحْرِ لاَ تَمْنَعُ قَبُول تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِل تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ (4).
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْخِلاَفُ فِي قَبُول تَوْبَةِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِي حَقِّهِمْ، وَأَمَّا قَبُول اللَّهِ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (5)، وَقَدْ قَال فِي الْمُنَافِقِينَ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (146) سورة النساء.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - أورده المغني (8/ 153 ط مكتبة الرياض). ولم نعثر عليه في كتب الحديث التي بين أيدينا.
(2) - ابن عابدين 1/ 31، و3/ 286، وفتح القدير 4/ 408.
(3) - المهذب 2/ 225.
(4) - المغني 8/ 154.
(5) - المغني 8/ 128.
(1/254)
المبحثُ التاسع عشر
الترغيب في كلمات يقولهن من مات له ميت
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ». قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ قَالَ «قُولِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَلَهُ وَأَعْقِبْنِى مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً». قَالَتْ فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِى اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِى مِنْهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (1)
قال النووي رحمه الله: فِيهِ النَّدْب إِلَى قَوْل الْخَيْر حِينَئِذٍ مِنَ الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَطَلَب اللُّطْف بِهِ وَالتَّخْفِيف عَنْهُ وَنَحْوه، وَفِيهِ حُضُور الْمَلَائِكَة حِينَئِذٍ وَتَأْمِينهمْ.
وعَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ سَفِينَةَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِى فِى مُصِيبَتِى وَأَخْلِفْ لِى خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ فِى مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا». قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِى خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (2)
قَوْلُهُ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ هَذَا اللَّفْظُ مَوْضُوعٌ فِي أُصَلِّ كَلَامِ الْعَرَبِ لِكُلِّ مَنْ نَالَهُ شَرٌّ أَوْ خَيْرٌ وَلَكِنَّهُ مُخْتَصٌّ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ بِالرَّزَايَا وَالْمَكَارِهِ وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَمْ يُرِدْ لَفْظَ الْأَمْرِ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ الْقُرْآنُ بِتَبْشِيرِ مَنْ قَالَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى غَيْرِ الْقُرْآنِ فَيُخْبِرَ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَمْرِ الْبَارِي لَنَا بِذَلِكَ وَلِذَلِكَ وَصَلَهُ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ
__________
(1) - برقم (919) وأبو داود (3115) والترمذي (993) ونص (1836) وابن ماجة (1514) وأحمد 6/ 291 (27367) أعقب: بدل وعوض
(2) - برقم (918) وأحمد (16784) و 6/ 309 (و27480) ومالك (564)
(1/255)
اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْرًا مِنْهَا ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ يُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ وَيَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ عَلَى مُصِيبَتِهِ وَيُعْقِبُهُ مِنْهَا يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ يُعْطِيه بِعَقِبِ ذَلِكَ خَيْرًا مِمَّا أَصَابَهُ
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ تَعْلَمُ مِنْ فَضْلِ أَبِي سَلَمَةَ وَدِينِهِ وَخَيْرِهِ وَاسْتَبْعَدَتْ لِذَلِكَ أَنْ تُعَوَّضَ بِخَيْرٍ مِنْهُ وَلَمْ تَكُنْ تَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَزَوَّجُهَا وَلَوْ ظَنَّتْ ذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ. (1)
وعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِى. فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. (2)؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِى فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. (3)، فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِى بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ». رواه الترمذي (4)
(قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ) أَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ (قَبَضْتُمْ) عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (وَلَدَ عَبْدِي) أَيْ رُوحَهُ (فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ) أَيْ يَقُولُ ثَانِيًا إِظْهَارًا لِكَمَالِ الرَّحْمَةِ كَمَا أَنَّ الْوَالِدَ الْعَطُوفَ يَسْأَلُ الْفَصَّادَ هَلْ فَصَدْت وَلَدِي مَعَ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ. وَقِيلَ سَمَّى الْوَلَدَ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْأَبِ كَالثَّمَرَةِ لِلشَّجَرَةِ (وَاسْتَرْجَعَ) أَيْ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى الْحَمْدِ الَّذِي قَالَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ ذَلِكَ الْحَمْدِ، قَالَهُ الْقَارِي (5)
ــــــــــــــ
__________
(1) - المنتقى - شرح الموطأ - (ج 2 / ص 59) (498)
(2) - فلذة كبده وزهرة حياته.
(3) - أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون.
(4) - برقم (1037) وشرح السنة 5/ 456 (1514) وصحيح الترغيب (3490) والإحسان (3110) وهو حديث حسن لغيره.
(5) - تحفة الأحوذي - (ج 3 / ص 78)
(1/256)
المبحثُ العشرون
معرفة الميت بمن يغسله ويجهزه
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: «الْمَيِّتُ يَعْرِفُ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَيَحْمِلُهُ وَيُدَلِّيهِ». قَالَ فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ أَبِى سَعِيدٍ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَمَرَّ أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ لَهُ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أخرجه أحمد (1)
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُونِى. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ» أخرجه البخاري (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» أخرجه الشيخان (3)
الويل: الحزن والهلاك والعذاب وقيل وادٍ في جهنم، صعق: غشي عليه
قال ابن بطال: فيه دليل أن النساء لا يحملنها، لأنهن لا يلزمهن ما يلزم الرجال من المؤن، والقيام بالحقوق، ونصرة الملهوف، وإعانة الضعيف، وقد سقط عنهن كثير من الأحكام، عذرهن الله بضعفهن، فقال: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان} [النساء: 98] الآية، وقول بعض الناس فى قوله: «يسمعها كل شىء إلا الإنسان» إن قيل: ينبغى أن يسمعها الحيوان الصامت بدليل هذا الحديث، لأنه إنما استثنى الإنسان فقط.
قيل: هذا مما لفظه العموم، والمراد به الخصوص، وإنما معناه: يسمعها كل شىء مميز، وهم الملائكة والجن، وإنما يتكلم روح الجنازة، لأن الجنازة لا تتكلم بعد خروج الروح منها إلا
__________
(1) - أحمد 3/ 3 (11915) والمجمع 2/ 398 و 3/ 21 وفي سنده جهالة وله شاهد عند الديلمي (6098) عن أنس.
(2) - 2/ 108 و 124 (1314 و1316و1380) وأحمد 3/ 58 (11682) والإحسان (3103)
(3) - البخاري (1315) ومسلم (944)
(1/257)
أن يرده الله فيها، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن، والله أعلم، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - المعنى الذى من أجله منع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم فى الدنيا، لتعمر ويقع فيها البلوى والاختبار (1).
وعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: " الرُّوحُ بِيَدِ الْمَلِكِ وَالْجَسَدُ يُقَلَّبُ، فَإِذَا حَمَلُوهُ تَبِعَهُمْ، فَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ بَثَّهُ فِيهِ. أخرجه البيهقي (2)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الإِِْسْرَاعُ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِِذَا تُيُقِّنَ مَوْتُهُ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا عَادَ طَلْحَةُ بْنُ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنِّي لاَ أَرَى طَلْحَةَ إِلاَّ قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ، فَآذِنُونِي بِهِ، وَعَجِّلُوا، فَإِِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ (3). وَالصَّارِفُ عَنْ وُجُوبِ التَّعْجِيل: الاِحْتِيَاطُ لِلرُّوحِ؛ لاِحْتِمَالِهِ الإِِْغْمَاءَ وَنَحْوَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ (4).
وَيُنْدَبُ تَأْخِيرُ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً أَوْ غَرَقًا (5).
ــــــــــــــــ
__________
(1) - شرح ابن بطال - (ج 5 / ص 330)
(2) - إثبات عذاب القبر للبيهقي - (1/ 53) (45) صحيح موقوف، وله شواهد كثيرة تقويه ومثله لا يقال بالرأي.
(3) - أبو داود (3161) وفيه ضعف
(4) - صحيح البخارى (1315)
(5) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 12 / ص 222) وحاشية ابن عابدين 1/ 572، والفواكه الدواني 1/ 330، ومغني المحتاج 1/ 332، وشرح روض الطالب 1/ 298، 299، وكشاف القناع 2/ 84.
(1/258)
المبحثُ الواحد والعشرون
بكاء السموات والأرض على المؤمن
قال تعالى عن فرعون وقومه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} [الدخان/25 - 29]
كَم تَرَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ قَبْلَ مَهلِكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ مِنْ بَسَاتِينَ نَضِرَةٍ، وَحَدَائِقَ غَنَّاءَ، وَعُيُونِ ماءٍ جَارِيةٍ وَأنْهَارٍ. وَكَمْ تَرَكُوا مِنْ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٍ.
وَعَيْشٍ رَغِيدٍ كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ فِيهِ فَيَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا، وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا. فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالى فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، وَيُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ فإِنَّهُ يُبِيدُهُمْ وَيُورِثُ أَرْضَهُمْ قَوْماً آخرينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي شيءٍ قَرابةً ولا دِيناً.
وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ الطُّغَاةُ العُتَاةُ هَيِّنِينَ عَلَى اللهِ، وَعَلى عِبادِ اللهِ، إِذْ لَم يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَفَعُ إِلى السَّماء، وَلاَ عَمَلُ خَيرٍ مَعَ عِبَادِ اللهِ في الأَرضِ يُذكرُ لهم، فَلم تبكِ لفَقْدِهِم الأرضُ ولا السَّماءُ، وَلم يُمْهَلُوا لِتَوْبَةٍ، وَإِنَّما عَجَّلَ اللهُ لَهُمُ العَذَابَ دُونَ إِبْطَاءِ. (1)
أى: أن هؤلاء المغرقين، الذين كانوا ملء السمع والبصر، وكانوا يذلون غيرهم، وكانوا يملكون الجنات والعيون ... هؤلاء الطغاة، لم يحزن لهلاكهم أحد من أهل السموات أو أهل الأرض، ولم يؤخر عذابهم لوقت آخر في الدنيا أو في الآخرة، بل نزل بهم الغرق والدمار بدون تأخير أو تسويف
فالمقصود من الآية الكريمة بيان هوان منزلة هؤلاء المغرقين، وتفاهة شأنهم، وعدم أسف أحد على غرقهم، لأنهم كانوا ممقوتين من كل عاقل ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1/ 4322)
(1/259)
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: كان العرب إذا مات فيهم رجل خطير قالوا في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح، وأظلمت له الشمس ..
قال جرير في رثاء عمر بن العزيز (1):
نَعَى النُّعاة أميرَ المُؤْمِنينَ لَنا ... يا خَيْرَ مَن حَجَّ بيتَ اللهِ واعْتَمَرا
حُمِّلْتَ أَمْراً عَظِيماً فاصْطَبْرتُ له ... وقُمْتُ فِيه بإِذْنِ اللهِ يا عُمَرا
الشَّمْسُ طالِعَةٌ ليسَتْ بكاسِفَةٍ ... تُبْكِي عليك، نُجُوَمَ الليلِ والقَمَرا
وقالت ليلى بنت طريف الخارجية، ترثى أخاها الوليد (2):
ألاَ قاتَل اللهُ الجُثا حيثُ أَضْمَرَتْ ... فَتىً كان للمَعْرُوِفِ غيرَ عَيُوفِ
خَفِيفٌ على ظَهْرِ الجَوادِ إذا عَدا ... ولَيْسَ على أَعْدائِهِ بخَفِيفِ
أيا شَجَرَ الخابُورِ مالَكَ مُورِقاً ... كأَنَّك لمْ تَحْزَنْ على ابنِ طَرِيفِ
فتىً لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاّ مِن التُّقى ... ولا المالَ إلاّ مِن قَناً وسُيُوفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه ..
وفي الآية تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. يعنى فما بكى عليهم أهل السماء والأرض، بل كانوا بهلاكهم مسرورين .. .
وقال الإمام أبن كثير: قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ .. أى: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكى على فقدهم، ولا لهم بقاع في أرض عبدوا الله فيها ففقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا .. (3)
وقال الإِمام ابن كثير: قوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} أي: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم، وعتوهم وعنادهم. (4)
__________
(1) - الحماسة البصرية - (1/ 110)
(2) - الحماسة البصرية - (1/ 94)
(3) - التفسير الوسيط للقرآن الكريم-موافق للمطبوع - (13/ 128)
(4) - تفسير ابن كثير - (7/ 253)
(1/260)
فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء. وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه! ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على اللّه وعلى هذا الوجود كله. ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرة، وقد قطعت آصرة الإيمان. (1)
لقد أهلكهم اللّه وأخذهم بعذابه، فلم يأس عليهم أحد، ولم تبكهم عين، ولم يحزن من أجلهم قلب .. بل ذهبوا كما يذهب الوباء، يتنفس بعده الناس أنفاس العافية والرجاء ..
فليس لهؤلاء الهلكى أولياء فى السماء، ولا فى الأرض .. فهم أعداء اللّه، وأعداء ملائكته، وأعداء رسله، وأعداء الإنسانية كلها .. راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ولا تعطّلت الأعياد والجمع
وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» ـ أي لم يكونوا ممن يمهلون بالجزاء إلى يوم القيامة، بل كان عذابهم معجّلا فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم ..
وهذا يعنى أمرين:
أولهما: أنّ جرم هؤلاء المجرمين قد بلغ من الشناعة حدا بحيث لا يسعه عذاب الآخرة، فكان عذابهم فى الدنيا، وفى الآخرة جميعا ..
وثانيهما: أن هؤلاء المشركين من قريش، لن يعجّل لهم العذاب، كما عجّل لقوم فرعون، بل إنهم منظرون إلى يوم القيامة .. وفى هذا رحمة من اللّه بهم، وإكرام لرسول اللّه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ من ربه فى قومه .. فإن هذا الانتظار بهم، سيفسح لهم مجالا لإصلاح ما فسد منهم، واللحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإيمان .. وقد كان .. فدخل هؤلاء
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5/ 3214)
(1/261)
المشركون فى دين اللّه، وكانوا جندا من جنود اللّه، للجهاد فى سبيل اللّه، وإعلاء رأية دين اللّه .. (1)
عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ: أَتَى اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا رَجُل فَقَالَ يَا أَبَا الْعَبَّاس أَرَأَيْت قَوْل اللَّه تَعَالَى "فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينََ " فَهَلْ تَبْكِي السَّمَاء وَالْأَرْض عَلَى أَحَد؟ قَالَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: نَعَمْ إِنَّهُ لَيْسَ أَحَد مِنَ الْخَلَائِق إِلَّا وَلَهُ بَاب فِي السَّمَاء مِنْهُ يَنْزِل رِزْقه وَفِيهِ يَصْعَد عَمَله، فَإِذَا مَاتَ الْمُؤْمِن فَأُغْلِقَ بَابه مِنَ السَّمَاء الَّذِي كَانَ يَصْعَد فِيهِ عَمَله وَيَنْزِل مِنْهُ رِزْقه فَفَقَدَهُ بَكَى عَلَيْهِ،وَإِذَا فَقَدَهُ مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْض الَّتِي كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَيَذْكُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بَكَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ قَوْم فِرْعَوْن لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِي الْأَرْض آثَارٌ صَالِحَة وَلَمْ يَكُنْ يَصْعَد إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ خَيْر، فَلَمْ تَبْكِ عَلَيْهِمْ السَّمَاء وَالْأَرْض". أخرجه الطبري (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ الْآيَةَ قَالَ: " ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ يَمُوتُ إِلَّا بَكَى عَلَيْهِ مَا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ حِينَ يَفْقِدُهُ، وَإِلَّا بَكَى عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ الْمَوْضِعُ الَّذِي كَانَ يُرْفَعُ مِنْهُ كَلَامُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ " لِأَنَّهُمَا يَبْكِيَانِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ " (3)
وعَنِ شريح بن عبيد الحضرمي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا، ألا لا غُرْبَةَ عَلى المُؤْمِن، ما ماتَ مُؤْمِنٌ فِي غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إلا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ"، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ)، ثم قال:"إنَّهُما لا يَبْكِيانِ على الكافر". أخرجه الطبري (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: الأَرْضُ تَبْكِي عَلَى الْمُؤْمِنِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» أخرجه ابن أبي شيبة (5)
__________
(1) - التفسير القرآني للقرآن ـ موافقا للمطبوع - (13/ 200)
(2) - 22/ 36و 25/ 75 وابن كثير 7/ 254و255 من طرق تقوي بعضها.
(3) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (28719) حسن لغيره
(4) - 22/ 35 و 25/ 75 وهو حديث صحيح مرسل وله شواهد تقويه.
(5) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 13 / ص 373) (35930) حسن
(1/262)
وعن محمد بن كعب القرظي قال: " إِنَّ الْأَرْضَ لَتَبْكِي مِنْ رَجُلٍ، وَتَبْكِي عَلَى رَجُلٍ، تَبْكِي عَلَى مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَبْكِي مِمَنْ كَانَ يَعْمَلُ عَلَى ظَهْرِهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى "، ثُمَّ قَرَأَ: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ أخرجه ابن المبارك في الزهد (1)
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ تَلَا {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (29) سورة الدخان " (2)
ــــــــــــــــــــ
__________
(1) - الحاكم 2/ 449 (3679)، وش (34779) ون (11840) والشعب (3141) والزهد لوكيع (81) وابن المبارك (438) وإسناده صحيح موقوف، ومثله لا يقال بالرأي.
(2) - مُسْنَدُ ابْنِ الْجَعْدِ (1900) فيه انقطاع
(1/263)
المبحثُ الثاني والعشرون
الترغيب في حفر القبور وغسل الموتى
عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غُفِرَ لَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً، وَمَنْ كَفَّنَ مَيِّتًا كَسَاهُ اللَّهُ مِنَ السُّنْدُسِ، وَإِسْتَبْرَقِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ حَفَرَ لِمَيِّتٍ قَبْرًا فَأَجَنَّهُ فِيهِ أُجْرِيَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ مَسْكَنٍ أُسْكِنَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» رواه الحاكم (1)
والمقصود من الكتمان عدم ذكر ما يمكن أن يلاحظه الغاسل من اسوداد الوجه مثلا ونتن الرائحة، ونحو ذلك مما يوحي بأن المرء ليس من أهل الخير.
قال النووي: فيه أنه يسن إذا رأى الغاسل ما يعجبه أن يذكره وإذا رأى ما يكره لا يحدث به قال: وهكذا أطلقه أصحابنا لكن قال صاحب البيان: لو كان الميت مبتدعاً معلناً ببدعته فينبغي ذكر ما يكره منه زجراً للناس عن البدعة.
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " زُرِ الْقُبُورَ تَذَكَّرْ بِهَا الْآخِرَةَ، وَاغْسِلِ الْمَوْتَى فَإِنَّ مُعَالَجَةَ جَسَدِهِ مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَصَلِّ عَلَى الْجَنَائِزِ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُحْزِنَكَ، فَإِنَّ الْحَزِينَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَتَعَرَّضُ كُلَّ خَيْرٍ " رواه الحاكم (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظْهَا، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهَا: زُرِ الْقُبُورَ وَتَذَكَّرْ بِهَا الْآخِرَةَ ". قُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، بِاللَّيْلِ؟ قَالَ: " بِالنَّهَارِ أَحْيَانًا وَلَا تُكْثِرْ، وَاغْسِلِ الْمَوْتَى؛ فَإِنَّ مُعَالَجَةَ جَسَدٍ خَاوِيًا عِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَصَلِّ عَلَى الْجَنَائِزِ لَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُحْزِنَكَ، فَإِنَّ الْحَزِينَ فِي ظِلِّ اللَّهِ، وَيُعَوَّضُ كُلَّ خَيْرٍ، وَجَالِسِ الْمَسَاكِينَ وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ إِذَا لَقِيتَهُمْ، وَكُلْ مَعَ صَاحِبِ الْبَلَاءِ تَوَاضُعًا لِرَبِّكَ وَإِيمَانًا بِهِ، وَالْبَسِ الْخَشِنَ الضَّيِّقَ مِنَ الثِّيَابِ لَعَلَّ الْعُجْبَ وَالْكِبْرَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا فِيكَ مَسَاغٌ،
__________
(1) - الحاكم 1/ 354 و 362 (1307 و1340) والطبراني (924 و8004) وهب (8962 و8964) وصحيح الترغيب (3492) والمجمع 3/ 21 وهو حديث صحيح.
(2) - 1/ 377 و 4/ 330 (1395 و7941) وهب (8984) وفيه انقطاع. خال من الحياة، فانٍ.
(1/264)
وَتَزَيَّنْ أَحْيَانًا لِعِبَادَةِ رَبِّكَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ كَذَلِكَ يَفْعَلُ تَعَفُّفًا وَتَكَرُّمًا، وَلَا تُعَذِّبْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ بِالنَّارِ " (1)
(زر القبور تذكر بها الآخرة) لأن الإنسان إذا شاهد القبور تذكر الموت وما بعده وفيه عظة واعتبار وكان ربيع بن خيثم إذا وجد غفلة يخرج إلى القبور ويبكي ويقول: كنا وكنتم ثم يحيي الليل كله عندهم فإذا أصبح كأنه نشر من قبره قال السبكي: وهذا المعنى ثابت في جميع القبور ودلالة القبور على ذلك متساوية كما أن المساجد غير الثلاثة متساوية (واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل اللّه) أي في ظل عرشه (يوم القيامة) يوم لا ظل إلا ظله (يتعرض لكل خير) قال الغزالي: فيه ندب زيارة القبور لكن لا يمس القبر ولا يقبله فإن ذلك عادة النصارى قال: وكان ابن واسع يزور يوم الجمعة ويقول: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده. (2)
وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا وَكَفَّنَهُ وَحَنَّطَهُ وَحَمَلَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ مَا رَأَى خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». رواه ابن ماجه (3)
(وَلَمْ يُفْشِ عَلَيْهِ) مِنَ الْإِفْشَاء أَيْ لَمْ يُظْهِرْ مَا رَأَى مِنْ الْمَكْرُوه مِنْ سَوَاد الْوَجْه وَغَيْره وَإِنْ حَصَلَا سَأَلَ اللَّه الْعَفْو وَالْعَافِيَة، وَأَمَّا إِظْهَار الْمَحْبُوب إِنْ رَأَى فَخَيْر وَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّح بِالْمَكْرُوهِ لِإِغْنَاءِ كَلِمَة عَلَى عَنْهُ " (4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (470) فيه مبهم
(2) - فيض القدير:- 4554 -
(3) - برقم (1529) وأحمد 6/ 119 (28017) عن معاوية بن حديج والمجمع 3/ 21 (4070) والترغيب في فضائل الأعمال (414) والحلية 6/ 192 وهو حديث ضعيف ,
(4) - حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 3 / ص 246)
(1/265)
المبحثُ الثالث والعشرون
الترغيب في تشييع الميت وحضور دفنه
عن أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّىَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ». قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» رواه البخاري ومسلم (1)
إن الله تبارك وتعالى لطيف بعباده، ويريد أن يهيئ لهم أسباب الغفران، لاسيما عند مفارقتهم الدنيا، التي هي دار العمل، إلى دار يطوى فيها سجِلُّ أعمالهم.
ولذا فإنه حضَّ على الصلاة على الجنازة وشهودها، لأن ذلك شفاعة تكون سبباً للرحمة.
فجعل لمن صلَّى عليها قيراطا من الثواب، ولمن شهدها حتى تدفن قيراطاً آخر. وهذا مقدار من الثواب عظيم ومعلوم قدره عند الله تعالى.
فلما خَفِي على الصحابة- رَضي الله عنهم- مقداره، قرَّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أفهامهم، بأن كل قيراط مثل الجبل العظيم. (2)
وقَدْ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَة أَنَّ الْقِيرَاطَيْنِ إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِمَجْمُوعِ الصَّلَاة وَالدَّفْن، وَأَنَّ الصَّلَاة دُون الدَّفْن يَحْصُل بِهَا قِيرَاط وَاحِد، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد خِلَافًا لِمَنْ تَمَسّك بِظَاهِرِ بَعْض الرِّوَايَات فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحْصُل بِالْمَجْمُوعِ ثَلَاثَة قَرَارِيط. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» أخرجه البخاري (4)
__________
(1) - البخاري 2/ 11 (1325) ومسلم (945) وأحمد 2/ 401 (9446)،
(2) - شرح الأربعين النووية - (ج 1 / ص 259)
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 75)
(4) - برقم (47) وأحمد 2/ 43 (9798) ونص (5049)
(1/266)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه أَنَا. قَالَ «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا اجْتَمَعْنَ فِى امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ». رواه مسلم (1)
قَالَ الْقَاضِي عياض: مَعْنَاهُ دَخَلَ الْجَنَّة بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَلَا مُجَازَاة عَلَى قَبِيح الْأَعْمَال، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَان يَقْتَضِي دُخُول الْجَنَّة بِفَضْلِ اللَّه تَعَالَى.اهـ
قلت: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَشْيِيعَ الرِّجَال لِلْجِنَازَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي" صحيح ابن حبان (3040) صحيح.
وَالأَْمْرُ هُنَا لِلنَّدْبِ لاَ لِلْوُجُوبِ لِلإِْجْمَاعِ، وَقَال الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَقَال الشَّيْخُ مَرْعِي الْحَنْبَلِيُّ: اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ سُنَّةٌ، قَال الْحَنَفِيَّةُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ أَفْضَل مِنَ النَّوَافِل إِذَا كَانَ لِجِوَارٍ وَقَرَابَةٍ، أَوْ صَلاَحٍ مَشْهُورٍ، وَالأَْفْضَل لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ عَلَى مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ " لِحَدِيثِ الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلاَ تُتْبَعُ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا" (2)
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَلْفَهَا نِسَاءٌ فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَحْسَنُ، وَلَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا (بِحَيْثُ يُعَدُّ مَاشِيًا وَحْدَهُ أَوْ تَقَدَّمَ الْكُل، وَتَرَكُوهَا خَلْفَهُمْ لَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ) أَوْ رَكِبَ أَمَامَهَا كُرِهَ، وَأَمَّا الرُّكُوبُ خَلْفَهَا فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَالْمَشْيُ أَفْضَل، وَالْمَشْيُ عَنْ يَمِينِهَا أَوْ يَسَارِهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى، لأَِنَّ فِيهِ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ اتِّبَاعُهَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَمْشُونَ
__________
(1) - ومسلم (1028) ون (8053) والبيهقي 4/ 189 (8082) وابن خزيمة (1954)
(2) - سنن أبى داود (3186) ضعيف
(1/267)
أَمَامَ الْجِنَازَةِ (صحيح). وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ وَقَدْ قَال عَلِيٌّ: إِنَّ فَضْل الْمَاشِي خَلْفَهَا عَلَى الَّذِي يَمْشِي أَمَامَهَا كَفَضْل صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ. وَقَال الثَّوْرِيُّ: كُل ذَلِكَ فِي الْفَضْل سَوَاءٌ.
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُنَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْجِنَازَةِ، فَفِي الدُّرِّ يُكْرَهُ خُرُوجُهُنَّ تَحْرِيمًا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ. (فيه ضعف) وَلِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. (متفق عليه) وَلِحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَبَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، فَلَمَّا فَرَغْنَا، انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا حَاذَى بَابَهُ، وَتَوَسَّطَ الطَّرِيقَ، إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ، فَلَمَّا دَنَتْ إِذَا هِيَ فَاطِمَةُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا أَخْرَجَكِ يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِكِ؟ قَالَتْ: أَتَيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ، فَعَزَّيْنَا مَيِّتَهُمْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى؟ قَالَتْ: مُعَاذَ اللهِ، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ قَالَ: لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّكَ أَبُو أَبِيكِ. فَسَأَلْتُ رَبِيعَةَ عَنِ الْكُدَى، فَقَالَ: الْقُبُورُ. (1)
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَال النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَفَسَّرَ قَوْل أُمِّ عَطِيَّةَ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهُ نَهْيَ كَرَاهِيَةِ تَنْزِيهٍ، لاَ نَهْيَ عَزِيمَةٍ وَتَحْرِيمٍ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: جَازَ خُرُوجُ مُتَجَالَّةٍ (كَبِيرَةُ السِّنِّ) لِجِنَازَةٍ مُطْلَقًا، وَكَذَا شَابَّةٌ لاَ تُخْشَى فِتْنَتُهَا، لِجِنَازَةِ مَنْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَيْهَا، كَأَبٍ، وَأُمٍّ، وَزَوْجٍ، وَابْنٍ، وَبِنْتٍ، وَأَخٍ، وَأُخْتٍ، أَمَّا مَنْ تُخْشَى فِتْنَتُهَا فَيَحْرُمُ خُرُوجُهَا مُطْلَقًا.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُرِهَ أَنْ تَتْبَعَ الْجِنَازَةَ امْرَأَةٌ وَحَكَى الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ قَال: إِذَا أُمِنَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ وَمَا يَنْشَأُ مِنَ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ مَانِعَ مِنَ الإِْذْنِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 450) (3177) وأحمد 10/ 106 - 107 ط دار المعارف. وقال أحمد شاكر: إسناده حسن
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِفَاطِمَةَ: لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ الْعَالِيَةَ الَّتِي يَدْخُلُهَا مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ مَا نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ، لأَنَّ فَاطِمَةَ عَلِمَتِ النَّهْيَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْجَنَّةُ هِيَ جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ لاَ جُنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُشْرِكُ لاَ يَدْخُلُ جَنَّةً مِنَ الْجِنَّانِ أَصْلاً لاَ عَالِيَةً وَلاَ سَافِلَةً وَلاَ مَا بَيْنَهُمَا.
(1/268)
لَهُنَّ، ثُمَّ قَال الشَّوْكَانِيُّ: هَذَا الْكَلاَمُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِذَا كَانَ مَعَ الْجِنَازَةِ نَائِحَةٌ أَوْ صَائِحَةٌ زُجِرَتْ، فَإِنْ لَمْ تَنْزَجِرْ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ مَعَهَا؛ لأَِنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ سُنَّةٌ فَلاَ يَتْرُكُهُ لِبِدْعَةٍ مِنْ غَيْرِهِ (لَكِنْ يَمْشِي أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَمَا تَقَدَّمَ).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَرُمَ أَنْ يَتْبَعَهَا الْمُشَيِّعُ مَعَ مُنْكَرٍ، نَحْوَ صُرَاخٍ، وَنَوْحٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ إِزَالَتِهِ، وَيَلْزَمُ الْقَادِرَ إِزَالَتُهُ (1).
ــــــــــــــــ
__________
(1) - ابن عابدين 1/ 208، 304، 624، وشرح مسلم 1/ 188و 504 و الشرح الصغير طبعة دار المعارف 1/ 566، وغاية المنتهى 1/ 246، ونيل الأوطار 4/ 95 والهندية 1/ 159، والفتح 3/ 125 والغاية 1/ 240
(1/269)
المبحثُ الرابع والعشرون
الترغيب في كثرة المصلين على الجنازة
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ». رواه مسلم (1)
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ هَذِهِ الْأَحَادِيث خَرَجَتْ أَجْوِبَة لِسَائِلِينَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عَنْ سُؤَاله. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِقَبُولِ شَفَاعَة مِائَة فَأَخْبَرَ بِهِ، ثُمَّ بِقَبُولِ شَفَاعَة أَرْبَعِينَ، ثُمَّ ثَلَاثَة صُفُوف وَإِنْ قَلَّ عَدَدهمْ، فَأَخْبَرَ بِهِ، وَيَحْتَمِل أَيْضًا أَنْ يُقَال: هَذَا مَفْهُوم عَدَد، وَلَا يَحْتَجّ بِهِ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ فَلَا يَلْزَم مِنَ الْإِخْبَار عَنْ قَبُول شَفَاعَة مِائَة مَنْع قَبُول مَا دُون ذَلِكَ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعِينَ مَعَ ثَلَاثَة صُفُوف، وَحِينَئِذٍ كُلّ الْأَحَادِيث مَعْمُول بِهَا وَيَحْصُل الشَّفَاعَة بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَة صُفُوف وَأَرْبَعِينَ. (2)
وعَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» رواه مسلم (3)
(إلا شفعهم الله فيه) أي قبل شفاعتهم في حقه وفي خبر آخر ثلاثة صفوف ولا تعارض إما لأنها أخبار جرت على وفق سؤال السائلين أو لأن أقل الأعداد متأخر ومن عادة الله الزيادة في فضله الموعود وأما قول النووي مفهوم العدد غير حجة فرد بأن ذكر العدد حينئذ يصير عبثاً. (4)
__________
(1) - في الجنائز ج 58 (947) ونص4/ 75 (2003و2005) وأحمد 3/ 266 (14156و24856) أمة، جماعة
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 366)
(3) - في الجنائز برقم (948) وطس (9146) والبيهقي 3/ 381 (5829)
(4) - فيض القدير، (ج 12 / ص 279)
(1/270)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ أَوْجَبَ». قَالَ فَكَانَ مَالِكٌ إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ لِلْحَدِيثِ. رواه أبو داود (1)
قال في تحفة الأحوذي: وفي هذه الأحاديث استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز، وقد قيد ذلك بأمرين:
الأول: أن يكونوا شافعين فيه أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة.
الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئاً.
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا تُوُفِّىَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِى كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِهِ. عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِى الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ إِلاَّ فِى جَوْفِ الْمَسْجِدِ. أخرجه مسلم (2)
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَإِسْحَاق، قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: وَرَوَاهُ الْمَدَنِيُّونَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِك، وَبِهِ قَالَ اِبْن حَبِيب الْمَالِكِيّ، وَقَالَ اِبْن أَبِي ذِئْب وَأَبُو حَنِيفَة وَمَالِك عَلَى الْمَشْهُور عَنْهُ: لَا تَصِحّ الصَّلَاة عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد بِحَدِيثِ فِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ (مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ) وَدَلِيل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور حَدِيث سُهَيْل بْن بَيْضَاء، وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيث سُنَن أَبِي دَاوُدَ بِأَجْوِبَةٍ: منها ضعفه أو معارضته لما هو أقوى منه أو تأويله .. انظر كلام النووي رحمه الله (3)
__________
(1) - برقم (3168) ومشكل الآثار (228) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) وهو حديث حسن.
(2) - برقم (973) وبرقم (2297) المكنز وأبو داود (3192) والترمذي (1050)
(3) - شرح النووي على مسلم - (3/ 396)
(1/271)
المبحثُ الخامس والعشرون
الترغيب في الإسراع بالجنازة وتعجيل الدفن
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» رواه البخاري ومسلم (1)
وعَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِى جَنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ وَكُنَّا نَمْشِى مَشْيًا خَفِيفًا فَلَحِقَنَا أَبُو بَكْرَةَ فَرَفَعَ سَوْطَهُ فَقَالَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَرْمُلُ رَمَلاً. رواه أبو داود (2)
وَيُسْرَعُ بِالْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَشْيِ بِلاَ خَبَبٍ، وَحَدُّهُ أَنْ يُسْرَعَ بِهِ بِحَيْثُ لاَ يَضْطَرِبُ الْمَيِّتُ عَلَى الْجِنَازَةِ، وَيُكْرَهُ بِخَبَبٍ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ أَيْ مَا دُونَ الْخَبَبِ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، سَأَلْنَا رَسُول - صلى الله عليه وسلم - اللَّهِ عَنِ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَقَال: مَا دُونَ الْخَبَبِ قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الأَْمْرَ فِيهِ لِلاِسْتِحْبَابِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الإِْسْرَاعُ الشَّدِيدُ، فَقَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَال عِيَاضٌ إِلَى نَفْيِ الْخِلاَفِ فَقَال: مَنِ اسْتَحَبَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ، وَمَنْ كَرِهَهُ أَرَادَ الإِْفْرَاطَ فِيهِ كَالرَّمَل.
وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الإِْسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ، فَلَوْ جُهِّزَ الْمَيِّتُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يُكْرَهُ تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ، وَلَوْ خَافُوا فَوْتَ الْجُمُعَةِ
__________
(1) - البخاري 2/ 108 (1315) ومسلم في الجنائز ح50 (944)، وأبو داود (3183) ونص (1921 - 1922) وأحمد 2/ 240 (7469و7473) والترمذي (1031) وهـ (1544)
(2) - أبو داود (3184) وهق (7096) وك (5884) وإسناده صحيح، وبنحوه حديث إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلا تَحْبِسُوهُ ,وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ , وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ , وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَبْرِهِ. أخرجه الطبراني برقم (13438) وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 371) وهو حسن لغيره
(1/274)
بِسَبَبِ دَفْنِهِ يُؤَخَّرُ الدَّفْنُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا، بِالإِْسْرَاعِ بِتَجْهِيزِهِ إِلاَّ إِذَا شُكَّ فِي مَوْتِهِ، وَيُقَدَّمُ رَأْسُ الْمَيِّتِ فِي حَال الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ (1).
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 12) فما بعد ابن عابدين 1/ 623، والبحر 2/ 191، والمجموع 5/ 270، والطحطاوي على مراقي الفلاح 352، وغاية المنتهى 1/ 246. وفتح الباري 3/ 119 والشرح الصغير 1/ 226، وشرح البهجة 2/ 82، والهندية 1/ 159.
(1/275)
المبحثُ السادس والعشرون
الدفن في المكان المقدّر
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِجِنَازَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: فُلانٌ الْحَبَشِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ سِيقَ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ» رواه الحاكم (1)
وقال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فائدة هذا الباب تنبيه العبد على التيقظ للموت والاستعداد له بحسن الطاعة والخروج عن المظلمة، وقضاء الدين، وإتيان الوصية بماله أو عليه في الحضر، فضلاً عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر، فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض.
وأنشد بعضهم:
مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها
وأرزاق لنا متفرقات فمن لم تأته منا أتاها
ومن كتبت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها (2)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: مَرَّ بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَحْفِرُ قَبْرًا فَقَالَ: " مَا تَصْنَعُونَ؟ "، فَقُلْنَا: نَحْفِرُ قَبْرًا لِهَذَا الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: " جَاءَتْ بِهِ مَنِيَّتُهُ إِلَى تُرْبَتِهِ "، قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: تَدْرُونَ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لِمَ حَدَّثْتُكُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ خُلِقَا مِنْ تُرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3)
__________
(1) - 1/ 367 (1356) وهب (9542) والمجمع 3/ 42 (4226) وفضائل الصحابة (504) وهو حديث حس،.
(2) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - (ج 1 / ص 103)
(3) - برقم (5283) والمجمع (4227) وفيه ضعف
(1/276)
وعَنْ مَطَرِ بْنِ عُكَامِسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قَضَى اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً». وفي رواية عَنْ أَبِى عَزَّةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قَضَى اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَمُوتَ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً أَوْ قَالَ بِهَا حَاجَةً» أخرجهما الترمذي (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أَوْثَبَتْهُ إِلَيْهَا الْحَاجَةُ فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ قَبَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَتَقُولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِى». أخرجه ابن ماجة (2)
إن من قدَّر الله موته بأرض في وقت معين لا بد له من الوجود بذلك المكان ساعة موته ولا ينفعه حذر من ذلك ولا فرار ولا تحصن ولا خبرة دكتور ولا غير ذلك. ومن المعلوم أن من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله مكان موت العباد. فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ {لقمان: 34}
ولكنه لا يلزم من وجود الإنسان بذلك المكان موته إن لم يكن حان أجله، وأما إذا حان الأجل فلا بد من حضور الإنسان في نفس المكان حتى يموت فيه. (3)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (2297و2299) وحم (22629) وك (127) وطب (18160) وهب (9541) وبز (1889) والمقاصد (71) وهو حديث صحيح.
(2) - هـ (4404) وك1/ 42 و 367 (122و124) وطب (10249) وهب (9540) وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا
(3) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9/ 4857) -رقم الفتوى 65828 إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة
(1/277)
المبحثُ السابع والعشرون
ما يقال عند الدفن
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الْعَلاءِ بن اللَّجْلاجِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: "يَا بنيَّ، إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَلْحِدْنِي، فَإِذَا وَضَعْتَنِي فِي لَحْدِي، فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ سِنَّ عَلَيَّ الثَّرَى سِنًّا، ثُمَّ اقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِي بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ، وَخَاتِمَتِهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ" أخرجه الطبراني (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَقُولُوا: بِسْمِ اللهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. (صحيح)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ، قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ. (صحيح لغيره)
وعَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ قَبْرِهِ , اللَّهُمَّ أَسْلِمْهُ إلَيْك الْمَالَ وَالأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالذَّنْبَ الْعَظِيمَ فَاغْفِرْ لَهُ. (فيه انقطاع)
وعَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا وَضَعُوا الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ أَنْ يَقُولُوا: بِسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ , اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَعَذَابِ النَّارِ , وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ. (صحيح مقطوع)
وعَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ , اللَّهُمَّ افْسحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ , وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ , وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَأَنْتَ عَنْهُ رَاضٍ غَيْرُ غَضْبَانَ. (فيه ضعف)
وعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: إذَا وَضِعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ , وَإِلَى اللهِ , وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. (صحيح مقطوع)
__________
(1) - برقم (15833) وابن معين في تاريخه (5238و5413) والتلخيص الحبير (786) وسكت عليه والمجمع 3/ 44 (4243) وقال: ورجاله موثقون. وهو حديث حسن، فيه عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الْعَلاءِ بن اللَّجْلاجِ تابعي سكت عليه البخاري وابن معين وأبو حاتم الرازي
(1/278)
وعَنْ إبْرَاهِيمَ، قَالَ: إذَا وَضَعْت الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ فَقُلْ: بِسْمِ اللهِ , وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. (صحيح مقطوع)
وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ دَفَنَ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: اللهم جَافِ الأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ , وَافْتَحْ أَبْوَابَ الْسَمَاءِ لِرُوحِهِ , وَأَبْدِلْهُ بِدَارِهِ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ. (صحيح)
وعَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ فَلاَ تَقُلْ بِسْمِ اللهِ , وَلَكِنْ قُلْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَعَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ , اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الآخِرَةِ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فِي خَيْرٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ , اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي صَاحِبِ الْقَبْرِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}. (صحيح مقطوع)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ عِنْدَ الْمَنَامِ إذَا نَامَ بِسْمِ اللهِ وَفي سَبِيلِ اللهِ , وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُهُ إذَا أُدْخِلَ الرَّجُلَ الْقَبْرَ. (حسن) أخرجها ابن أبي شيبة (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِى الْقَبْرِ فَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» وفي رواية وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ. أخرجه أحمد في مسنده وغيره (2)
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، كَانَ يَقُولُ إِذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ اللَّحْدَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِالْيَقِينِ بِالْبَعْثِ بَعْدِ الْمَوْتِ " أخرجه عبد الرزاق (3)
وعَنْ سَعِيدِ بن عَبْدِ اللَّهِ الأَوْدِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا أُمَامَةَ وَهُوَ فِي النَّزْعِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَاصْنَعُوا بِي كَمَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نصْنَعَ بِمَوْتَانَا، أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، فَسَوَّيْتُمِ التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ وَلا يُجِيبُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ اللَّهُ، وَلَكِنْ لا
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 329) (11815 - 11826)
(2) - 20/ 59 و 69 و 128 (4916و5107) وصحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 376) (3109) والمجمع 3/ 44 والحاكم 1/ 366 (1353) وطب (570) وهق (7311) وهو حديث صحيح.
(3) - برقم (6465) وابن لأبي شيبة (29842) وهو حسن لغيره
(1/279)
تَشْعُرُونَ، فَلْيَقُلْ: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ وَاحِدٌ مِنْهُمْا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ: انْطَلِقْ بنا مَا نَقْعُدُ عِنْدَ مَنْ قَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، فَيَكُونُ اللَّهُ حَجِيجَهُ دُونَهُمَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أُمَّهُ؟ قَالَ:"فَيَنْسُبُهُ إِلَى حَوَّاءَ، يَا فُلانَ بن حَوَّاءَ» أخرجه الطبراني (1)
قال ابن المقن رحمه الله (2): " إِسْنَاده لَا أعلم بِهِ بَأْسا, وَذكره الْحَافِظ أَبُو مَنْصُور فِي «جَامع الدُّعَاء الصَّحِيح» , وَزَاد بعد قَوْله: «قد لقن حجَّته»: «وَيكون الله (حجَّته) دونهمَا». قَالَ: وَقد أرخص الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي تلقين الْمَيِّت, وَأَعْجَبهُ ذَلِك, وَقَالَ: (أهل) الشَّام يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: أَبُو مَنْصُور: وَهُوَ من العزمات والتذكير بِاللَّه, و (السماح) بذلك مأثور عَن السّلف, وَقَالَ: الْحَافِظ زَكى الدَّين فِي الْجُزْء الَّذِي خرجه فِي التَّلْقِين بعد أَن سَاقه: وَفِيه بعد الشَّهَادَتَيْنِ «وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا, وَأَن الله (يبْعَث) من فِي الْقُبُور». قَالَ: أَبُو نعيم الْحداد: هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث حَمَّاد بن زيد, مَا كتبته إِلَّا من حَدِيث سعيد (الْأَزْدِيّ) , وَقَالَ: ابْن أبي حَاتِم: سعيد (الْأَزْدِيّ) عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَوَى عَنهُ ... سَمِعت أبي يقول: ذَلِك. قَالَ: الْمُنْذِرِيّ: هَكَذَا قَالَ: (الْأَزْدِيّ) وَوَقع فِي روايتنا «الأودي» , وَهُوَ مَعْنَى الْمَجْهُول, وَقَالَ: الذَّهَبِيّ فِي «الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء»: سعيد (الْأَزْدِيّ) لم أر لَهُ ذكر فِي الضُّعَفَاء وَلَا غَيرهم.
قلت: لَكِن حَدِيثه هَذَا لَهُ شَوَاهِد يعتضد بهَا - والغريب أَن الشَّيْخ زَكي الدَّين لم يذكر فِي مُصَنَّفه الْمَذْكُور مِنْهَا غير حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ وَحده -
مِنْهَا حَدِيث: «واسألوا لَهُ (التثبيت)» وَقد سلف.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «إِذا دفنتموني فسنوا عَلّي التُّرَاب سنّا, ثمَّ أقِيمُوا حول قَبْرِي قدر مَا ينْحَر جزور وَيقسم لَحمهَا؛ حَتَّى أستأنس بكم, وَأعلم
__________
(1) - برقم (7906) و المجمع 2/ 324 (3918و4238) ودعا طب (1116) والمقاصد (346) ونيل الأوطار 4/ 89 والتلخيص الحبير 2/ 136 (797) حسن لغيره
(2) - البدر المنير - (ج 5 / ص 333) فما بعدها
(1/280)
مَاذَا أراجع رسل رَبِّي». رَوَاهُ مُسلم فِي «صَحِيحه» فِي كتاب الْإِيمَان, وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل.
«سنوا»: رُوِيَ بِالْمُعْجَمَةِ وبالمهملة, وَكِلَاهُمَا مُتَقَارب الْمَعْنى صَحِيح.
وَالْجَزُور - بِفَتْح الْجِيم - من الْإِبِل, والجزرة من غَيرهَا. ذكره عِيَاض, وَفِي كتاب «الْعين»: الجزرة من الضَّأْن والمعز خَاصَّة.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» من حَدِيث مُحَمَّد بن حمْرَان, عَن عَطِيَّة الرعاء, عَن الحكم بن الْحَارِث السّلمِيّ «أَنه غزا مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاث غزوات, قَالَ: قَالَ: لنا: إِذا دفنتموني ورششتم عَلَى قَبْرِي المَاء فَقومُوا عَلَى قَبْرِي, واستقبلوا الْقبْلَة, وَادعوا لي».
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي «علله» قَالَ: سَأَلت (أبي عَن حَدِيث) ثُمَامَة بن النَّضر بن أنس (قَالَ: (كَانَ أنس) إِذا شهد جَنَازَة الْأَخ من إخوانه وقف عَلَى قَبره بعد أَن يدْفن, فَيقول: جَاف الأَرْض عَن (جَنْبَيْهِ)». فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ عَن ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي «أكبر معاجمه» أَيْضا, من حَدِيث مُبشر بن إِسْمَاعِيل, ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن الْعَلَاء بن اللَّجْلَاج, عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ: أبي: «يَا بني, إِذا أَنا مت فألحدني, فَإِذا وَضَعتنِي فِي لحدي فَقل: باسم الله, وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله. ثمَّ سنّ عليّ التُّرَاب سنًّا, ثمَّ اقْرَأ عِنْد رَأْسِي بِفَاتِحَة الْبَقَرَة وخاتمتها, فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذَلِك». (وَعبد الرَّحْمَن هَذَا، الراوي عنه مُبشر بن إِسْمَاعِيل الْحلَبِي) , ذكره ابْن حبَان فِي «ثقاته»
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْكتاب الْمَذْكُور من حَدِيث (إِبْرَاهِيم بن بكر بن عبد الرَّحْمَن) , عَن إِدْرِيس الأودي, عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «حضرت ابْن عمر فِي جَنَازَة, فَلَمَّا وَضعهَا فِي اللَّحْد قَالَ: باسم الله, وَفِي سَبِيل الله, وَعَلَى مِلَّة رَسُول الله, فَلَمَّا أَخذ فِي اللَّبِن عَلَى اللَّحْد قَالَ: اللَّهُمَّ أجرهَا من الشَّيْطَان, وَمن عَذَاب الْقَبْر. فَلَمَّا سُوَى اللَّبن عَلَيْهَا قَامَ إِلَى جَانب الْقَبْر, ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض عَن جنبيها, وَصعد روحها, ولقها مِنْك رضواناً. فَقلت: أشيئًا سمعته من رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أم شَيْئا قلته من رَأْيك؟
(1/281)
قَالَ: إِنِّي إِذا لقادر عَلَى القَوْل, بل سَمِعت من رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -». وَإِدْرِيس هَذَا مَجْهُول. قَالَه أَبُو حَاتِم .. .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي «سنَنه» عَن رَاشد بن سعد, وضمرة بن حبيب, وَحكم بن عُمَيْر, قَالُوا: «إِذا سوي عَلَى الْمَيِّت قَبره وَانْصَرف النَّاس عَنهُ؛ كَانُوا يستحبون أَن يُقَال للْمَيت عِنْد قَبره: يَا فلَان, قل: لَا إِلَه إِلَّا الله, أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله - ثَلَاث مَرَّات - قل: رَبِّي الله, وديني الْإِسْلَام, ونبيي مُحَمَّد (ثمَّ ينْصَرف) ". فَهَذِهِ شَوَاهِد لحَدِيث أبي أُمَامَة الْمَذْكُور.
قَالَ: الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: هَذَا الحَدِيث إِسْنَاده لَيْسَ بالقائم, وَلكنه (يعتضد) بشواهد وبعمل أهل الشَّام بِهِ قَدِيما.
وَقَالَ: النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب»: "هَذَا الحَدِيث وَإِن كَانَ ضَعِيفا فيستأنس بِهِ, وَقد اتّفق عُلَمَاء الْمُحدثين وَغَيرهم عَلَى الْمُسَامحَة فِي أَحَادِيث الْفَضَائِل وَالتَّرْغِيب والترهيب, لَا سِيمَا وَقد اعتضد بشواهد, وَلم يزل أهل الشَّام عَلَى الْعَمَل بِهَذَا فِي زمن من يُقْتَدَى بِهِ وَإِلَى الْآن ".
قلت: لَكِن قَالَ: الْأَثْرَم: قلت لأبي عبد الله - يَعْنِي: ابْن حَنْبَل -: فَهَذَا الَّذِي تصنعونه إِذا دفن الْمَيِّت! يقف الرجل وَيقول: يَا فلَان ابْن فُلَانَة, اذكر مَا فَارَقت عَلَيْهِ؛ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا فعل هَذَا إِلَّا أهل الشَّام حِين مَاتَ أَبُو الْمُغيرَة, (جَاءَ إِنْسَان فَقَالَ: ذَلِك وَكَانَ أَبُو الْمُغيرَة) يرْوَى مَتنه عَن أبي بكر بن أبي مَرْيَم, عَن أَشْيَاخهم أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَهُ, وَكَانَ ابْن عَيَّاش يروي بِهِ. يُشِير بذلك إِلَى حَدِيث أبي أُمَامَة السالف. "
قلت: فإن له شواهد كثيرة، منها ثبوت سؤال الملكين كما في الصحيحين، ومنها أنه يسمع قرع نعالهم، ومنها حديث: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل، د (4221) وهق 4/ 56 حسن ومنها حديث: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، صحيح، وهو يشمل المحتضر والميت. فهذا التلقين ليس فيه جديد، لأن مفرداته ثابتة بنصوص صحيحة، والمنكر فيه ابن فلانة، والمشهور أن الإنسان ينسب لأبيه لحديث أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا
(1/282)
أَسْمَاءَكُمْ» أخرجه أبو داود وفيه انقطاع، ولحديث ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْغَادِرُ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ» أخرجه البخاري (6177)
وقال أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي: ينبغي أن يرشد الميت في قبره حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال، و يذكر بذلك فيقال له: قل الله ربي. و الإسلام ديني. ومحمد رسولي فإنه عن ذلك يسأل. كما جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله. وقد جرى العمل عندنا بقرطبة كذلك. فيقال: قل هو محمد رسول الله وذلك عند هيل التراب و لا يعارض هذا بقوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} (22) سورة فاطر. و قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (80) سورة النمل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نادى أهل القليب وأسمعهم وقال: ما أنتم بأسمع. ولكنهم لا يستطيعون جواباً، وقد قال في الميت: إنه ليسمع قرع نعالهم. وأن هذا يكون في حال دون حال و وقت دون وقت (1).
قلتُ: هذا التلقين ليس فيه جديداً, لأن مفرداته ثابتة بنصوص صحيحة, والمنكر فيه عندي هو لفظة يا ابن فلانة, لأن الثابت بالنصوص الشرعية النسبة للأب لا الأم. ولهذا استحبَّ هذا التلقين كثير من السلف والخلف.
وأمَّا ما زعمه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (599) من رده للحديث واعتباره منكراً وذلك بسبب عدم إطلاعه على بقية أسانيده وشواهده حيث قال: " وجملة القول: أن الحديث منكر عندي إن لم يكن موضوعاً. ونقل عن الصنعاني في سبل السلام: "ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة, ولا يغترَّ بكثرة من يفعله".
أقولُ:
هذا كلامٌ مردودٌ من الاثنين، فمن هم الذين أنكروا الحديث من السلف؟! ومن قال من السلف بأن العمل بهذا الحديث بدعة؟!
__________
(1) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - (ج 1 / ص 133)
(1/283)
مع أن ابن القيم رحمه الله قد ذكر في كتاب الروح أن العمل قد جرى على هذا الحديث في أمصار المسلمين فأيهما أولى بالإتباع؟!
قال الإمام النووي رحمه في شرح المهذب:" وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ وَالضَّعِيفَ وَالْمَوْقُوفَ يُتَسَامَحُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ وَهَذَا مِنْهَا" (1).
وعَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، يَبَكِي طَوِيلًا، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ، فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: " مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ " قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: " تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ " قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ " وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ، وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي ". أخرجه مسلم (2)
__________
(1) - المجموع شرح المهذب - (ج 2 / ص 94)
(2) - برقم (121) وحم (18254) وك (5906) وهق (7318) وعوانة (156) ومعرفة الصحابة (4454) وجامع الأصول مطولاً 9/ 104 و 105 - مخاصم: مسئول ومقاضَى، اللحد: الشق الذي يكون في جانب القبر موضع الميت، وقيل الذي يحفر في عرض القبر، الجَزُور: البَعِير ذكرا كان أو أنثى، إلا أنَّ اللَّفْظة مُؤنثة، تقول الجَزُورُ، وَإن أردْت ذكَرا، والجمْع جُزُرٌ وجَزَائر
(1/284)
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا وُضِعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْقَبْرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) بِسْمِ اللَّهِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ». فَلَمَّا بَنَى عَلَيْهَا لَحْدَهَا طَفِقَ يَطْرَحُ إِلَيْهِمُ الْجَبُوبَ وَيَقُولُ: «سُدُّوا خِلاَلَ اللَّبِنِ ثُمَّ قَالَ أَمَا إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَىْءٍ وَلَكِنَّهُ يُطَيِّبُ نَفْسَ الْحَىِّ» (1)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِى جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِى اللَّحْدِ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أَخَذَ فِى تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ عَلَى اللَّحْدِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ فَلَمَّا سَوَّى الْكَثِيبَ عَلَيْهَا قَامَ جَانِبَ الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ جَافِ الأَرْضَ عَنْ جُثَّتِهَا وَصَعِّدْ بِرُوحِهَا وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا فَقُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: أَشَىْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْ شَىْءٌ قُلْتَهُ مِنْ رَأْيِكَ؟ قَالَ: إِنِّى إِذًا لَقَادِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (2)
وظاهر هذه الأحاديث والآثار تدل على استحباب تلقين الميت المكلف بعد الدفن، وبه أخذ الشافعية والحنابلة.
وهذا التلقين فيه تذكير للميت، وتذكير للحي كذلك، لأنه قد جاء بالنصوص الصحيحة الصريحة أن الميت سيسأل عن هذه الأمور، فيحافظ عليها الحي قبل موته. (3)
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:" اخْتَلَفُوا فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ, فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّلْقِينَ لاَ بَأْسَ بِهِ, فَرَخَّصُوا فِيهِ, وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ, لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَقَدْ نُقِل عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ, أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ كَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ, وَصِفَتُهُ أَنْ يقول: يَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ: اذْكُرْ دِينَكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ وَقَدْ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا, وَبِالإِْسْلاَمِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيًّا.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 409) (6973) والمستدرك للحاكم (3433) ضعيف
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 55) (7312) ضعيف
(3) - راجع التفاصيل في مغني المحتاج 1/ 367 والإنصاف4/ 349وكشاف القناع 20/ 157 والفقه الإسلامي وأدلته لأستاذنا الزحيلي 2/ 536 - 537، وفقه السنة 1/ 247 ويسألونك في الدين والحياة 4/ 107
(1/285)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لاَ يُلَقَّنُ, إِذِ الْمُرَادُ بِمَوْتَاكُمْ فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ, وَفِي الْمُغْنِي مَعَ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: أَمَّا التَّلْقِينُ بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ شَيْئًا, وَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ لِلأَْئِمَّةِ قَوْلاً سِوَى مَا رَوَاهُ الأَْثْرَمُ, فَقَال: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَل هَذَا إِلاَّ أَهْل الشَّامِ حِينَ مَاتَ أَبُو الْمُغِيرَةِ, جَاءَ إِنْسَانٌ فَقَال ذَلِكَ " (1)
وسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ هَلْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ عَنْ صَحَابَتِهِ؟ وَهَلْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَجُوزُ فِعْلُهُ؟ أَمْ لَا؟.
فَأَجَابَ: هَذَا التَّلْقِينُ الْمَذْكُورِ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِهِ كَأَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ. وَرُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَكِنَّهُ مِمَّا لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلِهَذَا قَالَ: الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إنَّ هَذَا التَّلْقِينَ لَا بَأْسَ بِهِ فَرَخَّصُوا فِيهِ وَلَمْ يَأْمُرُوا بِهِ, وَاسْتَحَبَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ.وَاَلَّذِي فِي السُّنَن عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ».
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
فَتَلْقِينُ الْمُحْتَضِرِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْبُورَ يُسْأَلُ وَيُمْتَحَنُ وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ لَهُ؛ فَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ التَّلْقِينَ يَنْفَعُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه- عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ, وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَنِعَالِهِمْ, أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيقول: اَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيقول: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ, أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ - قَالَ: النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - وَأَمَّا
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية (ج 13 / ص 296) والمغني والشرح الكبير 2/ 385، والفتاوى الهندية 1/ 157، ومغني المحتاج 1/ 330، والزيلعي 1/ 134، وانظر: الفقه الإسلامي وأدلته (ج 2 / ص 677) و فتاوى الأزهر (ج 5 / ص 467) تشييع النساء للجنازة وتلقين الميت وفتاوى الأزهر (ج 5 / ص 497) ما يشترط فى تلقين الميت وفتاوى الأزهر (ج 6 / ص 3) تلقين الميت وفتاوى الأزهر (ج 8 / ص 303) تلقين الميت
(1/286)
الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ - فَيقول: لاَ أَدْرِى, كُنْتُ أَقُولُ مَا يقول: النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ, فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ".
وَأَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» وَأَنَّهُ أَمَرَنَا بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى. فَقَالَ:" مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (1)
وقال ابن القيم بعد إيراده الحديث المذكور:" فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به, وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمةً طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكملُ الأمم عقولاً وأوفرُها معارفَ تطيقُ على مخاطبةِ مَنْ لا يسمعُ ولا يعقلُ وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكرٌ, بل سنَّه الأولُ للآخر ويقتدي فيه الآخرُ بالأولِ, فلولا أنَّ المخاطَبَ يسمعُ لكان ذلك بمنزلة الخطابِ للترابِ والخشب والحجر والمعدوم, وهذا وإن استحسنهُ واحدٌ فالعلماءُ قاطبةٌ على استقباحه واستهجانه. وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ».
فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسألُ فإنه يسمع التلقين, وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتُوُلِّىَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ - قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا - وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ - فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية (ج 24 / ص 296) وانظر (ص 497) ففيه نحوه
(1/287)
النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ» اهـ (1)
وهنا مسألة لا بد من التعرض لها وهي:
حكم قراءة القرآن على القبر بعد الدفن
ففي كتاب "الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقُبُورِ" لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ:
أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ الْحَلَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ اللَّجْلَاجِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " إِنِّي إِذَا أَنَا مُتُّ، فَضَعْنِي فِي اللَّحْدِ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَسُنَّ عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، وَاقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِي بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأَوَّلِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ الدُّورِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قُلْتُ: تَحْفَظُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقُبُورِ شَيْئًا، فَقَالَ: لَا. وَسَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، فَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ ((وهذا إسناد حسن))
وعن عَطَاءَ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ الْمَكِّيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَقُولُ: " إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَجْلِسُوا، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَتِهَا فِي قَبْرِهِ " ((وهو حديث حسن))
وقال عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْحَدَّادُ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَكَانَ ابْنُ حَمَّادٍ الْمُقْرِئُ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَنِي قَالَ: " كُنْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيِّ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا دُفِنَ الْمَيِّتُ جَلَسَ رَجُلٌ ضَرِيرٌ يَقْرَأُ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: يَا هَذَا،" إِنَّ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِدْعَةٌ فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْمَقَابِرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي مُبَشِّرٍ الْحَلَبِيِّ؟ قَالَ: ثِقَةٌ، قَالَ: كَتَبْتَ عَنْهُ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مُبَشِّرٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ اللَّجْلَاجِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَوْصَى إِذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُوصِي بِذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ:
__________
(1) - الروح لابن القيم (ج 1 / ص 5) وانظر التفاصيل في كتابي (الخلاصة في أحكام الحديث الضعيف) المثال الثالث -تلقينُ الميت
(1/288)
فَارْجِعْ، فَقُلْ لِلرَّجُلِ يَقْرَأْ " وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيَّ، قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي جِنَازَةٍ وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: فَلَمَّا قُبِرَ الْمَيِّتُ، جَعَلَ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ عِنْدَهُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِرَجُلٍ: تَمُرُّ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يَقْرَأُ، فَقُلْ لَهُ: لَا يَفْعَلْ، فَلَمَّا مَضَى، قَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ: مُبَشِّرٌ الْحَلَبِيُّ، كَيْفَ هُوَ؟ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِعَيْنِهَا " ((وهو حديث حسن))
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ، قَالَ: " أَتَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ عَفَّانَ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرٍ فِي الْمُصْحَفِ، فَقَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ " ((صحيح))
وقال الْحَسَنُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَزَّازُ: " رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ رَجُلٍ ضَرِيرٍ يَقْرَأُ عَلَى الْقُبُورِ " ((صحيح))
وقَالَ الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيَّ: " سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ" ((حديث حسن))
وعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: " كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا مَاتَ لَهُمُ الْمَيِّتُ اخْتَلَفُوا إِلَى قَبْرِهِ يَقْرَءُونَ عِنْدَهُ الْقُرْآنَ " ((حديث حسن))
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: " لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَقَابِرِ " ((صحيح))
وقَالَ أَبُو يَحْيَى النَّاقِدُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْحُرِّ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَرَرْتُ عَلَى قَبْرِ أُخْتٍ لِي، فَقَرَأْتُ عِنْدَهَا تَبَارَكَ لِمَا يُذْكَرُ فِيهَا، فَجَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أُخْتَكَ فِي الْمَنَامِ تَقُولُ: جَزَى اللَّهُ أَبَا عَلِيٍّ خَيْرًا، فَقَدِ انْتَفَعْتُ بِمَا قَرَأَ " ((صحيح))
وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْهَيْثَمِ،: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْأَطْرُوشِ ابْنَ بِنْتِ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ، يَقُولُ: " كَانَ رَجُلٌ يَجِيءُ إِلَى قَبْرِ أُمِّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَقْرَأُ سُورَةَ يس، فَجَاءَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ يس، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَسَمْتَ لِهَذِهِ السُّورَةِ ثَوَابًا فَاجْعَلْهَا فِي أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَابِرِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِنَّ بِنْتًا لِي مَاتَتْ، فَرَأَيْتُهَا فِي النَّوْمِ جَالِسَةً عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهَا، فَقُلْتُ: مَا أَجْلَسَكِ هَاهُنَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ جَاءَ إِلَى قَبْرِ أُمِّهِ فَقَرَأَ سُورَةَ يس، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ، فَأَصَابَنَا مِنْ رَوْحِ ذَلِكَ، أَوْ غُفِرَ لَنَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ " ((قوي))
(1/289)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ الرَّعْد" ((حديث حسن)) (1)
وجاء في الموسوعة الفقهية: "قَال الطَّحْطَاوِيُّ: إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ (الْمُكْثُ) عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ، (فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَال: إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُل رَبِّي) يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لِلْمَيِّتِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا. (2) (3)
حكمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ وَالْقَبْرِ:
"ذهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَدْبِ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ، لِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَءُوا (يس) عَلَى مَوْتَاكُمْ».أَيْ مَنْ حَضَرَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ،لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا حَسَنَاتٌ (4)،وَلِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إِذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ وَعَلَى الْقَبْرِ (5)
__________
(1) - القراءة على القبور للخلال (1 - 13) ومثله في الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهِيُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْخَلَّالِ رقم (243 - 253)
(2) 14) الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 42) و انظر المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 108) (15833) والقراءة على القبور (1) وهو حسن موقوف، ورفعه الطبراني
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 42) و انظر المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 108) (15833) والقراءة على القبور (1) وهو حسن موقوف، ورفعه الطبراني
(4) - قلت: هذا الحديث موضوع فلا يحتج به
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 33 / ص 59) وحاشية ابن عابدين 1/ 605، 607، والقليوبي وعميرة 1/ 351، وكشاف القناع 2/ 147 وحاشية الدسوقي 1/ 423، والشرح الصغير 1/ 228.
(1/290)
وفيها أيضاً: " اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ بَل تُسْتَحَبُّ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ مَرْفُوعًا قَال: مَنْ دَخَل الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ فِيهَا يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِهِمْ حَسَنَاتٌ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. لَكِنْ رَجَّحَ الدُّسُوقِيُّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا، وقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَمِمَّا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الإِْخْلاَصِ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً وَأَهْدَى ثَوَابَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ غُفِرَ لَهُ ذُنُوبٌ بِعَدَدِ الْمَوْتَى فِيهَا.
وَرَوَى السَّلَفُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْطَى لَهُ مِنَ الأَْجْرِ بِعَدَدِ الأَْمْوَاتِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ اللُّبَابِ: وَيَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّل الْبَقَرَةِ إلَى الْمُفْلِحُونَ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآمَنَ الرَّسُول، وَسُورَةِ يس، وَتَبَارَكَ الْمُلْكِ، وَسُورَةِ التَّكَاثُرِ وَالإِْخْلاَصِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً أَوْ إحْدَى عَشْرَةَ أَوْ سَبْعًا أَوْ ثَلاَثًا.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: قَال السَّامِرِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَتِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إجْلاَسُ الْقَارِئِينَ عِنْدَ الْقَبْرِ، قَال: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَبْرِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَل السَّلَفِ، قَال الدَّرْدِيرُ: الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل ثَوَابِهِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.لَكِنْ رَجَّحَ الدُّسُوقِيُّ الْكَرَاهَةَ مُطْلَقًا ". (1)
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية:
" وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن، قال عبد الحق يروَى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وقال: ويدلُّ على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً، وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمعُ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (32/ 256) وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/ 605، 607، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 423، والقليوبي وعميرة على شرح المحلي 1/ 351، وكشاف القناع 2/ 147.
(1/291)
ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة، وكان عبثاً. وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتجَّ عليه بالعمل." (1)
وقال القرافي:" وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَدْ نَصَّ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْأَجْوِبَةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِي التَّذْكِرَةِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ قُرِئَتْ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي بِلَادٍ إلَى بِلَادٍ وَوُهِبَ الثَّوَابُ اهـ مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ مَنْ أَرَادَ وُصُولَ قِرَاءَتِهِ بِلَا خِلَافٍ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ دُعَاءً بِأَنْ يَقُولَ:اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا أَقْرَأُ إلَى فُلَانٍ اهـ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ وَكَنُونٍ .. " (2).
قلتُ: فثبت بهذه الأدلة والأقوال الناصعة أن الراجح الجواز وليس العكس، كما قال الشيخ ناصر رحمه الله ومن وافقه من المعاصرين!!. (3)
ـــــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (4/ 4731) -رقم الفتوى 24738 مدى معرفة الأموات بزائريهم وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (10/ 1163) -رقم الفتوى 71344 ما يكتب في الوصية
(2) - أنوار البروق في أنواع الفروق - (6/ 105) والفروق مع هوامشه - (3/ 345) وتهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (3/ 343)
(3) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 255) وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/ 605، 607، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 423، والقليوبي وعميرة على شرح المحلي 1/ 351، وكشاف القناع 2/ 147 وفتاوى الشبكة الإسلامية (ج 4 / ص 4734) وانظر الفتوى رقم: 24019، والفتوى رقم: 15281، والفتوى رقم: 8268. و تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية - (ج 3 / ص 343) وأنوار البروق في أنواع الفروق - (ج 6 / ص 105)
وانظر للتفاصيل كتابي (الدفاع عن كتاب رياض الصالحين) باب تعجيل قضاء الدَّيْن عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة فيترك حتى يُتيقن موته 23 - (944)
(1/292)
المبحثُ الثامن والعشرون
ضمة القبر
عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِياً مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» أخرجه أحمد (1)
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قدر ضمة القبر على كل ميت، ولو كان أحد ناجياً منها لفضله عند ربه وقربه منه لكان سعد بن معاذ رضي الله عنه من الناجين من ذلك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول عند موت سعد رضي الله عنه لمكانته في الإسلام، ولبلائه في سبيل الله ونصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قال - صلى الله عليه وسلم - فيه أيضاً "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" رواه البخاري و مسلم وغيرهما عن جابر رضي الله عنه. وهناك أحاديث كثيرة في فضل هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: " قُلْتُ: هَذِهِ الضَّمَّةُ لَيْسَتْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ يَجِدُهُ المُؤْمِنُ، كَمَا يَجِدُ أَلَمَ فَقْدِ وَلَدِهِ وَحَمِيْمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَكَمَا يَجِدُ مِنْ أَلَمِ مَرَضِهِ، وَأَلَمِ خُرُوْجِ نَفْسِهِ، وَأَلَمِ سُؤَالِهِ فِي قَبْرِهِ وَامْتِحَانِهِ، وَأَلَمِ تَأَثُّرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَأَلَمِ قِيَامِهِ مِنْ قَبْرِهِ، وَأَلَمِ المَوْقِفِ وَهَوْلِهِ، وَأَلَمِ الوُرُوْدِ عَلَى النَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ الأَرَاجِيْفُ كُلُّهَا قَدْ تَنَالُ العَبْدَ، وَمَا هِيَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَلاَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّم قَطُّ، وَلَكِنَّ العَبْدَ التَّقِيَّ يَرْفُقُ اللهُ بِهِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَوْ كُلِّهِ، وَلاَ رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُوْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ. قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَأَنْذِرْهُم يَوْمَ الحَسْرَةِ}، وَقَالَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ، إِذِ القُلُوْبُ لَدَى الحَنَاجِرِ}.
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- العَفْوَ وَاللُّطْفَ الخَفِيَّ، وَمَعَ هَذِهِ الهَزَّاتِ، فَسَعْدٌ مِمَّنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَرْفَعِ الشُّهَدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
__________
(1) - 6/ 55 (25015و25400) والمجمع 3/ 46 (4255) وهب (425) الصحيحة (1695) وله شاهد عن جابر عند أحمد 3/ 360 و 377 وعن ابن عباس عبد ابن سعد 3/ 430 وهو حديث صحيح مشهور.
(1/293)
كَأَنَّكَ يَا هَذَا تَظُنُّ أَنَّ الفَائِزَ لاَ يَنَالُهُ هَوْلٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَلاَ رَوْعٌ، وَلاَ أَلَمٌ، وَلاَ خَوْفٌ، سَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَعْدٍ." (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هَذَا الَّذِى تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ». أخرجه النسائي (2)
قَالَ أَبُو الْقَاسِم السَّعْدِيّ: لَا يَنْجُو مِنْ ضَغْطَة الْقَبْر صَالِح وَلَا طَالِح، غَيْر أَنَّ الْفَرْق بَيْن الْمُسْلِم وَالْكَافِر فِيهَا دَوَام الضَّغْط لِلْكَافِرِ وَحُصُول هَذِهِ الْحَالَة لِلْمُؤْمِنِ فِي أَوَّل نُزُوله إِلَى قَبْره ثُمَّ يَعُود إِلَى الِانْفِسَاح لَهُ، قَالَ: وَالْمُرَاد بِضَغْطِ الْقَبْر اِلْتِقَاء جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَد الْمَيِّت.
وَقَالَ النَّسَفِيَّ فِي بَحْر الْكَلَام: الْمُؤْمِن الْمُطِيع لَا يَكُون لَهُ عَذَاب الْقَبْر وَيَكُون لَهُ ضَغْطَة الْقَبْر فَيَجِد هَوْل ذَلِكَ وَخَوْفه لِمَا أَنَّهُ تَنَعَّمَ بِنِعْمَةِ اللَّه وَلَمْ يَشْكُر النِّعْمَة، وَرَوَى اِبْن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مُحَمَّد التَّيْمِيِّ قَالَ: كَانَ يُقَال: إِنَّ ضَمَّة الْقَبْر إِنَّمَا أَصْلهَا أَنَّهَا أُمّهمْ وَمِنْهَا خُلِقُوا فَغَابُوا عَنْهَا الْغَيْبَة الطَّوِيلَة، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهَا أَوْلَادهَا ضَمَّتْهُمْ ضَمَّة الْوَالِدَة غَابَ عَنْهَا وَلَدهَا ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعًا ضَمَّتْهُ بِرَأْفَةٍ وَرِفْق، وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا ضَمَّتْهُ بِعُنْفٍ سَخَطًا مِنْهَا عَلَيْهِ لِرَبِّهَا (3).
وعَنِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّ صَبِيًّا دُفِنَ، فَقَالَ َ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لأَفْلَتَ هَذَا الصَّبِيُّ.» رواه الطبراني (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَاتَ صَبِيٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أَفْلَتَ أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ أَفْلَتَ هَذَا الصَّبِيُّ " (5)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (1/ 290)
(2) - نص 4/ 100 و 101 (2067) ون (2193) وطب (5195) وطس (1774) وابن سعد 3/ 430 والبيهقي في عذاب القبر (122) وهو حديث صحيح.
(3) - شرح سنن النسائي - (ج 3 / ص 292)
(4) - برقم (3765) والمجمع 3/ 47 (4259) والسنة لعبد الله عن أنس (1310) والصحيحة (2164) و الإتحاف9/ 225 و 10/ 423 وهو حديث صحيح
(5) - السَّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ (1310) صحيح
(1/294)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ صَبَيَّةٍ فَقَالَ: " لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا هَذَا الصَّبِيُّ " (1)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو أَثَرَ النَّاسِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ يَعْنِي حِسَّ الْأَرْضِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو يَحْمِلُ مِجَنَّهُ، وَعَلَى سَعْدٍ دِرْعٌ قَدْ خَرَجَ أَطْرَافُهُ مِنْهَا قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلِهِمِ. قَالَتْ: فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِهِ قَالَتْ: فَمَرَّ بِي وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
قَالَتْ: فَلَمَّا جَاوَزَنِي اقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكِ لَجَرِيئَةٌ أَمَا تَخَافِينَ أَنْ يُدْرِكَكِ بَلَاءٌ؟ قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى وَدِدْتُ لَوْ أَنَّ الْأَرْضَ لَتَنْشَقُّ فَأَدْخُلُ فِيهَا فَكَشَفَ الرَّجُلُ السَّبْغَةَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ أَيْنَ الْفِرَارُ؟ وَأَيْنَ وَأَيْنَ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، قَالَتْ: فَرُمِي سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَئذٍ رَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَكَ فِي النَّارِ فَقُطِعَ أَكْحَلُهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو: وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا لَنْ يَزَالَ يَنْبِضُ دَمًا حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ: وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تَقَرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيَهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانُوا ظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا الْآيَةَ فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَرَبَ قُبَّةً عَلَى سَعْدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ السِّلَاحَ وَوَضَعَ سِلَاحَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَضَعْتَ سِلَاحَكَ وَلَمْ تَضَعِ الْمَلَائِكَةُ أَسْلِحَتَهُمْ بَعْدُ اخْرُجْ فَقَاتِلْهُمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَأْمَتِهِ يَعْنِي الدِّرْعَ فَلَبِسَهَا ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَمَرَّ بِبَنِي غَنْمٍ فَقَالَ: مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ وَجْهُهُ يُشْبِهُ وَجْهَ جِبْرِيلَ وَلِحْيَتَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَسَعْدٌ فِي الْقُبَّةِ الَّتِي ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَاصَرُوهُمْ شَهْرًا أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ فَقِيلَ لَهُمُ: انْزِلُوا عَلَى
__________
(1) - السَّنَّةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ (1311) صحيح
(1/295)
حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشَارَ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ إِلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَّبْحُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: فَانْزِلُوا فَنَزَلُوا فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُتِيَ بِحِمَارٍ بِإِكَافٍ مِنْ لِيفٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ بَرَأَ كَلْمُهُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا مِثْلُ أَثَرِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمُ أَوْ إِلَى خَيْرِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ "، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " احْكُمْ فِيهِمْ " قَالَ: إِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرِارِيُّهُمْ، وَأَنْ تُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ " قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ وَهُوَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَوْمٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُقَاتِلَ أَوْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رُسُلَكَ فَإِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِكَ شَيْئًا فَأَبْقِنِي فِيهِمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْقُبَّةِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَإِنِّي لَفِي حُجْرَتِي فَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قَالَ عَلْقَمَةُ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنَاهُ لَا تَدْمَعَانِ عَلَى أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ تَعْنِي الْجَزَعَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَمْسَى قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ أَوْ قَالَ: مَلَكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ الْيَوْمَ فَقَدِ اسْتَبْشَرَ بِمَوْتِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَدْ أَمْسَى دَنِفًا مَا فَعَلَ سَعْدٌ؟ فَقَالُوا: قُبِضَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ فَاحْتَمَلُوهُ إِلَى دَارِهِمْ، قَالَتْ: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ فَخَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَبَتَّ مَشْيًا حَتَّى إِنَّهُ لَيَنْقَطِعُ شُسُوعُ نِعَالِهِمْ وَسَقَطَتْ أَرْدَيَتُهُمْ مِنْ عَوَاتِقِهِمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَتَتَّ فِي الْمَشْيِ فَقَالَ: " أَخْشَى أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ كَمَا سَبَقَتْنَا إِلَى حَنْظَلَةَ " فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يُغَسَّلُ قَالَ: فَحَدَّثَ الْأَشْعَثُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رُكْبَتَيْهِ يَوْمَئِذٍ فَدَخَلَ مَلَكٌ فَلَمْ يَجِدْ مَجْلِسًا فَأَوْسَعْتُ لَهُ، وَأُمُّهُ تَبْكِيهِ وَهِيَ تَقُولُ: وَيْحَ أُمِّ سَعْدٍ، سَعْدُ بَرَاعَةً وَجِدًّا بَعْدَ أَيَادٍ لَهُ وَمَجْدًا مُقَدَّمًا سَدَّ بِهِ مَسَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " كُلُّ الْبَوَاكِي تَكْذِبُ إِلَّا أُمَّ سَعْدٍ " فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ مَا
(1/296)
حَمَلْنَا نَعْشًا أَخَفَّ مِنْهُ قَطُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَدْ نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ شَهِدُواسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَا وَطِئُوا الْأَرْضَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ،قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: اقْتَبَضَ يَوْمَئِذٍ إِنْسَانٌ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَفَتَحَهَا فَإِذَا هِيَ مِسْكٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ " حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ " (1)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ مُنْذُ يَوْمِ حَدَّثْتَنِي بِصَوْتِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَيْسَ يَنْفَعُنِي شَيْءٌ قَالَ: " يَا عَائِشَةُ إِنَّ أَصْوَاتَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي أَسْمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْإِثْمِدِ فِي الْعَيْنِ وَإِنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَالْأُمِّ الشَّفِيقَةِ يَشْكُو إِلَيْهَا ابْنُهَا الصُّدَاعَ؛ فَتَغْمِزُ رَأْسَهُ غَمْزًا رَفِيقًا، وَلَكِنْ يَا عَائِشَةُ وَيْلٌ لِلشَّاكِّينَ فِي اللَّهِ، كَيْفَ يُضْغَطُونَ فِي قُبُورِهِمْ كَضَغْطَةِ الْبَيْضَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ أُمُّ عَلِيٍّ خَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَمِيصَهُ وَأَلْبَسَهَا إِيَّاهُ وَاضْطَجَعَ فِي قَبْرِهَا فَلَمَّا سَوَّى عَلَيْهَا التُّرَابَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَصْنَعْهُ بِأَحَدٍ، قَالَ: " إِنِّي أَلْبَسْتُهَا قَمِيصِي لِتَلْبِسَ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ وَاضْطَجَعْتُ مَعَهَا فِي قَبْرِهَا لِأُخَفِّفَ عَنْهَا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ، إِنَّهَا كَانَتْ أَحْسَنَ خَلْقِ اللَّهِ صَنِيعًا إِلَيَّ بَعْدَ أَبِي طَالِبٍ " (3)
قال المناوي: قال الحكيم: إنما لم يفلت منها أحد لأن المؤمن أشرق نور الإيمان بصدره لكنه باشر الشهوات وهي من الأرض والأرض مطيعة وخلق الآدمي وأخذ عليه الميثاق في العبودية فيما نقض من وفائها صارت الأرض عليه واجدة فإذا وجدته ببطنها ضمته ضمة فتدركه الرحمة وعلى قدر مجيئها يخلص فإن كان محسناً فإن رحمة اللّه قريب من المحسنين وقيل هي ضمة اشتياق لا ضمة سخط وظاهر الحديث أن الضمة لا ينجو منها أحد لكن
__________
(1) - مُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ (999 - 1000) حسن
(2) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (98) ضعيف
(3) - مَعْرِفَةُ الصِّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ (272) وتَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (340) حسن لغيره
(1/297)
استثنى الحكيم الأنبياء والأولياء فمال إلى أنهم لا يضمون ولا يسألون وأقول استثناؤه الأنبياء ظاهر وأما الأولياء فلا يكاد يصح ألا ترى إلى جلالة مقام سعد بن معاذ وقد ضمَّ. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - فيض القدير - (ج 11 / ص 447) (7426)
(1/298)
المبحثُ التاسع والعشرون
مخاطبة القبر للميت
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ , قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُصَلاَّهُ , فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ , قَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى , فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ , الْمَوْتِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ، فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ , وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ , وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ , وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ , فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ , قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً , أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ , فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ , فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ , قَالَ: فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرَهِ , وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ , وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ , أَوِ الْكَافِرُ , قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لاَ مَرْحَبًا وَلاَ أَهْلاً , أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ , فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ , فَسَتَرَى صَنِيعِي بِكَ , قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، وَتَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصَابِعِهِ , فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ , قَالَ: وَيُقَيِّضُ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا , لَوْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأَرْضِ، مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا , فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ , حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ , أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ. أخرجه الترمذي (1)
وفي فيض القدير (1598) (أما إنكم) قال ابن مالك في شرح الكافية: يجوز كسر إن بعد أما مقصوداً بها معنى ألا الاستفتاحية وإن قصد بها معنى حقاً فتحت انتهى والمعنى أيها الناس الذين جلستم عند مصلانا تكشرون أي تضحكون (لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى) من الكشر وهو ظهور الأسنان للضحك (الموت) بجره عطف بيان ورفعه خبر مبتدأ محذوف ونصبه بتقدير أعني (فأكثروا ذكر هاذم اللذات) الموت (فإنه لم
__________
(1) - برقم (2648) وهب (430و (840) والمقاصد (147) و العلل (1883) والتلخيص الحبير 2/ 101 والديلمي (213) والحاكم 4/ 321 والترغيب 4/ 237 وجامع الأصول برقم (8696) وفي سنده ضعف ولكن له شواهد تحسنه انظر الترغيب 4/ 238 والمجمع 3/ 46 والحلية 6/ 90 و الإتحاف10/ 397 والتذكرة 1/ 118 - 119
(1/299)
يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه) أي حقيقة والذي خلق الكلام في لسان الإنسان قادر على أن يخلقه في الجماد ولا يلوم من ذلك سماعنا له ويحتمل أن المراد أن يقول ذلك بلسان الحال (فيقول أنا بيت الغربة) فالذي يسكنني غريب (وأنا بيت الوحدة) فمن حل بي وحيد (وأنا بيت التراب وأنا بيت الدود) فمن سكنني أكله التراب والدود، ومن ثم قال حكيم: اجعل قبرك خزانتك احشها من كل عمل صالح ما أمكنك ليؤنسك (فإذا دفن العبد المؤمن) أي المطيع لله تعالى كما يدل عليه ذكره الفاجر والكافر في مقابلته (قال له القبر مرحباً وأهلاً) أي لقيت رحباً وأهلاً (أما) بالتخفيف (إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلى) لما أنك مطيع لربي وربك (فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ) أي انتقلت من الدنيا إليّ. قال في المصباح: صار زيد غنياً انتقل إلى حالة الغنى بعد أن لم يكن عليها وصار العصير خمراً كذلك وصار الأمر إلى كذا رجع إليه (فسترى صنيعي بك) فإني محسنه جداً وقضية السين أن الاتساع وما بعده مما يأتي يتأخر عن الإقبار (فيتسع مد بصره) أي بقدر ما يمتد إليه بصره (ويفتح له باب إلى الجنة) يعني تفتحه له الملائكة بإذن الله أو ينفتح بنفسه بأمر الله (وإذا دفن العبد الفاجر) أي المؤمن الفاسق (أو الكافر) بأي كفر كان (قال له القبر) بلسان الفال أو الحال على ما سبق (لا مرحباً ولا أهلاً) بك (أما) بالتخفيف (إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ) لما أنك عاص لربي وربك (فإذا وليتك اليوم وصرت إليّ فسترى صنيعي بك فيلتئم عليه) أي ينضم (حتى يلتقي عليه) بشدة وعنف (وتختلف أضلاعه) من شدة الضغط وقضية هذا الحديث أن الضم مخصوص بالكافر والفاسق وأن المؤمن المطيع لا ينضم عليه وصريح ما ذكر في قصة سعد بن معاذ وقوله لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا سعد خلافه ويمكن الجواب بأن المؤمن الكامل ينضم عليه ثم ينفرج عنه سريعاً والمؤمن العاصي يطول ضمه ثم يتراخى عنه بعد وأن الكافر يدوم ضمه أو يكاد أن يدوم وبذلك يحصل التوفيق بين الحديثين ويزول التعارض من البين فتدبره فإني لم أره (ويفيض له سبعون تنيناً) أي ثعباناً (لو أن واحداً منها نفخ في الأرض) أي على ظهرها بين الناس (ما أنبتت شيئاً) من النبات (ما بقيت الدنيا) أي مدة بقائها (فينهشنه) بشين معجمة وقد تهمل والنهش القبض على اللحم ونثره (ويخدشنه) أي
(1/300)
يخرجنه قال في المصباح خدشته خدشاً جرحته في ظاهر الجلد (حتى يفضي به إلى الحساب) أي حتى يصل إلى يوم القيامة والإفضاء الوصول. قال في المصباح: أفضيت إلى الشيء وصلت إليه (إنما القبر روضة من رياض الجنة) حقيقة لما يتحف المؤمن به من الريحان وأزهار الجنان أو مجازاً عن خفة السؤال على المؤمن وأمنه وراحته وسعته كما يقال فلان في الجنة إذا كان عيشه رغداً (أو حفرة من حفر النار) حقيقة أو مجازاً على ما تقرر فيما قبله والقبر واحد القبور. قال في المختار: وهو مما أكرم به بنو آدم وقال الزمخشري: تقول نقلوا من القصور إلى القبور ومن المنابر إلى المقابر والخفرة قال في الصحاح بالضم واحدة الحفر. وقال الزمخشري: حفر النهر بالمحفار واحتفره ودلوه في الحفرة والحفيرة وهو القبر <تنبيه> ظاهر هذا الخبر أن عذاب القبر غير منقطع وفي كثير من الأخبار والآثار ما يدل على انقطاعه والظاهر اختلافه باختلاف الأشخاص.
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ شَيَّعَ جَنَازَةً، فَلَمَّا انْصَرَفُوا تَأَخَّرَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ نَاحِيَةً عَنِ الْجَنَازَةِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جَنَازَةٌ أَنْتَ وَلِيُّهَا تَأَخَّرْتَ عَنْهَا فَتَرَكْتَهَا وَتَرَكْتَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، نَادَانِي الْقَبْرُ مِنْ خَلْفِي، يَا عُمَرُ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَلَا تَسْأَلُنِي مَا صَنَعْتُ بِالْأَحِبَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: خَرَّقْتُ الْأَكْفَانَ، وَمَزَّقْتُ الْأَبْدَانَ، وَمَصَصْتُ الدَّمَ، وَأَكَلْتُ اللَّحْمَ، أَلَا تَسْأَلُنِي مَا صَنَعْتُ بِالْأَوْصَالِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: نَزَعْتُ الْكَفَّيْنِ مِنَ الذِّرَاعَيْنِ، وَالذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْعَضُدَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ مِنَ الْكَتِفَيْنِ، وَالْوَرِكَيْنِ مِنَ الْفَخِذَيْنِ، وَالْفَخِذَيْنِ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ مِنَ السَّاقَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ مِنَ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيلٌ، وَغَنِيُّهَا فَقِيرٌ، وَشَبَابُهَا يَهْرَمُ، وَحَيُّهَا يَمُوتُ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ إِقْبَالُهَا مَعَ مَعْرِفَتِكُمْ بِسُرْعَةِ إِدْبَارِهَا، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا، أَيْنَ سُكَّانُهَا الَّذِينَ بَنَوْا مَدَائِنَهَا، وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا، وَغَرَسُوا أَشْجَارَهَا، وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً، غِرَّتْهُمْ بِصِحَّتِهِمْ، وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ، فَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ، إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللَّهِ فِي الدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالْأَمْوَالِ عَلَى كَثْرَةِ الْمَنْعِ عَلَيْهِ، مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ، مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ، وَالرَّمْلُ بِأَجْسَادِهِمْ، وَالدِّيدَانُ بِعِظَامِهِمْ وَأَوْصَالِهِمْ، كَانُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسِرَّةٍ مُمَهَّدَةٍ، وَفُرُشٍ مُنَضَّدَةٍ، بَيْنَ خَدَمٍ
(1/301)
يَخْدِمُونَ، وَأَهْلٍ يُكْرِمُونَ، وَجِيرَانٍ يَعْضُدُونَ، فَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا، وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لَابُدَّ دَاعِيًا، وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِمْ، وَانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمُ الَّتِي كَانَ بِهَا عَيْشُهُمْ، وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ غِنَاهُ، وَسَلْ فَقِيرَهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ فَقْرِهِ، وَسَلْهُمْ عَنِ الْأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ، وَعَنِ الْأَعْيُنِ الَّتِي كَانَتْ إِلَى اللَّذَّاتِ بِهَا يَنْظُرُونَ، وَسَلْهُمْ عَنِ الْجُلُودِ الرَّقِيقَةِ، وَالْوُجُوهِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَجْسَادِ النَّاعِمَةِ، مَا صَنَعَ بِهَا الدِّيدَانُ، مَحَتِ الْأَلْوَانَ، وَأَكَلَتِ اللُّحْمَانَ، وَعَفَرَتِ الْوجُوهَ، وَمَحَتِ الْمَحَاسِنَ، وَكَسَرَتِ الْفِقَارَ، وَأَبَانَتِ الْأَعْضَاءَ، وَمَزَّقَتِ الْأَشْلَاءَ، وَأَيْنَ حِجَالُهُمْ وَقِبَابُهُمْ، وَأَيْنَ خَدَمُهُمْ وَعَبِيدُهُمْ، وَجَمْعُهُمْ وَمَكْنُوزُهُمْ، وَاللَّهِ مَا زَوَّدُوهُمْ فِرَاشًا، وَلَا وَضَعُوا هُنَاكَ مُتَّكَأً، وَلَا غَرَسُوا لَهُمْ شَجَرًا، وَلَا أَنْزَلُوهُمْ مِنَ اللَّحْدِ قَرَارًا، أَلَيْسُوا فِي مَنَازِلِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ؟ أَلَيْسَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ؟ أَلَيْسَ هُمْ فِي مُدْلَهَمَّةٍ ظَلْمَاءَ، قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَمَلِ، وَفَارَقُوا الْأَحِبَّةَ؟ فَكَمْ مِنْ نَاعِمٍ وَنَاعِمَةٍ أَصْبَحُوا وَوُجُوهُهُمْ بَالِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ مِنْ أَعْنَاقِهِمْ نَائِيَةٌ، وَأَوْصَالُهُمْ مُمَزَّقَةٌ، قَدْ سَالَتِ الْحِدَقُ عَلَى الْوَجَنَاتِ، وَامْتَلَأَتِ الْأَفْوَاهُ دَمًا وَصَدِيدًا، وَدَبَّتْ دَوَابُّ الْأَرْضِ فِي أَجْسَادِهِمْ، فَفَرَّقَتْ أَعْضَاءَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثُوا وَاللَّهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى عَادَتِ الْعِظَامُ رَمِيمًا، قَدْ فَارَقُوا الْحَدَائِقَ، فَصَارُوا بَعْدَ السَّعَةِ إِلَى الْمَضَايِقِ، قَدْ تَزَوَّجَتْ نِسَاؤُهُمْ، وَتَرَدَّدَتْ فِي الطُّرُقِ أَبْنَاؤُهُمْ، وَتَوَزَّعَتِ الْقَرَابَاتُ دِيَارَهُمْ وَتُرَاثَهُمْ، فَمِنْهُمُ وَاللَّهِ الْمُوسَّعُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، الْغَضُّ النَّاضِرُ فِيهِ، الْمُتَنَعِّمُ بِلَذَّتِهِ، يَا سَاكِنَ الْقَبْرِ غَدًا مَا الَّذِي غَرَّكَ مِنَ الدُّنْيَا؟ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَبْقَى أَوْ تَبْقَى لَكَ؟ أَيْنَ دَارُكَ الْفَيْحَاءُ، وَنَهَرُكَ الْمُطَّرِدُ؟ وَأَيْنَ ثَمَرُكَ النَّاضِرُ يَنْعُهُ؟ وَأَيْنَ رِقَاقُ ثِيَابِكَ؟ وَأَيْنَ طِيبُكَ؟ وَأَيْنَ بُخُورُكَ؟ وَأَيْنَ كَسَوَتُكَ لِصَيْفِكَ وَشِتَائِكَ؟ أَمَا رَأَيْتَهُ قَدْ نَزَلَ بِهِ الْأَمْرُ فَمَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَجَلًا؟ وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقًا، وَيَتَلَمَّظُ عَطَشًا، يَتَقَلَّبُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَغَمَرَاتِهِ، جَاءَ الْأَمْرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَجَاءَ غَالِبُ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ، جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ وَالْأَجَلِ مَا لَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا مُغْمِضَ الْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالْوَلَدِ، وَغَاسِلَهُ يَا مُكَفِّنَ الْمَيِّتِ وَحَامِلَهُ، يَا مُخْلِيَهُ فِي الْقَبْرِ، وَرَاجِعًا عَنْهُ، لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ كُنْتَ عَلَى خُشُونَةِ الثَّرَى، يَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ
(1/302)
خَدَّيْكَ بَدَأَ الْبِلَى، يَا مُجَاوِرَ الْهَلَكَاتِ، صِرْتَ فِي مَحِلَّةِ الْمَوْتَى، لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي يَلْقَانِي بِهِ مَلَكُ الْمَوْتِ عِنْدَ خُرُوجِي مِنَ الدُّنْيَا؟ وَمَا يَأْتِينِي بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّي؟ ثُمَّ تَمَثَّلَ:
تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتُشْغَلُ بِالصِّبَا كَمَا غُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ
وَتَعْمَلُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ الْبَهَايِمُ
ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا جُمْعَةً " (1)
ـــــــــــــــــ
__________
(1) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (7384) ضعيف
(1/303)
المبحثُ الثلاثون
الترغيب في الدعاء للميت
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ (1)». رواه أبو داود (2)
أي: يسأله الملكان من ربك وما دينك وما هو دستورك ومن هو رسولك؟
-الاستغفار عبادةٌ قوليّةٌ يصحّ فعلها للميّت. وعقب الدّفن يندب أن يقف جماعةٌ يستغفرون للميّت، لأنّه حينئذٍ في سؤال منكرٍ ونكيرٍ، روى أبو داود بإسناده عن عثمان قال:» كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دفن الرّجل وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبّت فإنّه الآن يسأل «وصرّح بذلك جمهور الفقهاء.
- ومن آداب زيارة القبور عند الحنفيّة والمالكيّة، والشّافعيّة، الدّعاء بالمغفرة لأهلها عقب التّسليم عليهم، واستحسن ذلك الحنابلة.
- وهذا كلّه يخصّ المؤمن، أمّا الكافر الميّت فيحرم الاستغفار له بنصّ القرآن والإجماع.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَرُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ «وَجَبَتْ». ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ «وَجَبَتْ». ثُمَّ قَالَ «إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ شُهَدَاءُ». رواه أبو داود (3)
وَحَاصِل الْمَعْنَى أَنَّ ثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ بِالْخَيْرِ يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَفْعَاله كَانَتْ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، وَثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ بِالشَّرِّ يَدُلّ عَلَى أَفْعَاله كَانَتْ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّار
وعند النسائي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «وَجَبَتْ». ثُمَّ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ أُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «
__________
(1) يسأله الملكان من ربك وما دينك وما هو دستورك ومن هو رسولك؟
(2) - في الجنائز برقم (3223) والحاكم 1/ 370 (1372) وبز (445) وشرح السنة 5/ 418 وهو حديث صحيح.
(3) - برقم (3235) ونص (1945) والترمذي وأحمد 2/ 498 و 528 (7763 و10274وو11123) وهو حديث صحيح.
(1/304)
وَجَبَتْ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْلُكَ الأُولَى وَالأُخْرَى «وَجَبَتْ». فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «الْمَلاَئِكَةُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ» (1).
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «وَجَبَتْ». ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ «وَجَبَتْ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - مَا وَجَبَتْ قَالَ «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأَرْضِ». رواه البخاري ومسلم (2)
وفي نيل الأوطار:قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّنَاءَ بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَكَانَ ذَلِكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَلَا، وَكَذَا عَكْسُهُ.
قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ وَإِنْ مَاتَ فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ أَفْعَالُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَمْ لَا، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا الْإِلْهَامُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَعْيِينِهَا وَبِهَذَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الثَّنَاءِ انْتَهَى.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا فِي جَانِبِ الْخَيْرِ وَاضِحٌ. وَأَمَّا فِي جَانِبِ الشَّرِّ فَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَذَلِكَ، لَكِنْ إنَّمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ شَرُّهُ عَلَى خَيْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ {إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ} (3).
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَشْهَدُ لَهُ أَرْبَعَةٌ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ إِلاَّ قَالَ قَدْ قَبِلْتُ عِلْمَكُمْ فِيهِ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ». رواه أحمد (4)
والصحابة لا يثنون إلا على رجل صالح ظاهر الصلاح، لا على رجل فاسق!
__________
(1) - سنن النسائى (1945) صحيح
(2) - البخاري في الجنائز باب 86 (1367) ومسلم (949)
(3) - نيل الأوطار - (ج 6 / ص 196) فما بعد
(4) - والإحسان (3090) وأحمد 2/ 408 و 3/ 242 (9523و13889) والفتح ح (1279) والحاكم 1/ 378 (1398) وهب (9244) وهو حديث صحيح،
(1/305)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دُعِىَ لِجَنَازَةٍ سَأَلَ عَنْهَا فَإِنْ أُثْنِىَ عَلَيْهَا خَيْرٌ قَامَ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَإِنْ أُثْنِىَ عَلَيْهَا غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ لأَهْلِهَا «شَأْنُكُمْ بِهَا». وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا. رواه أحمد (1)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: تَرْكُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ وَصَفْنَا نَعَتَهُ، كَانَ ذَلِكَ قَصْدَ التَّأْدِيبِ مِنْهُ لِأُمَّتِهِ، كَيْلاَ يَرْتَكِبُوا مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لاَ أَنَّ الصَّلاَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عَلَى مَنْ أَتَى مِثْلَ مَا أَتَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم -.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ». رواه أبو داود والترمذي وابن حبان (2)
وعَنِ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا (3) إِلَى مَا قَدَّمُوا» أخرجه البخاري (4)
قَال الْعُلَمَاءُ يَحْرُمُ سَبُّ مَيِّتٍ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: لاَ تَسُبُّوا الأَْمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا، وَأَمَّا الْكَافِرُ، وَالْمُسْلِمُ الْمُعْلِنُ بِفِسْقِهِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ لِلسَّلَفِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ فِيهِ.
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: سَبُّ الأَْمْوَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْغِيبَةِ، فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَال الْمَرْءِ الْخَيْرَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْفَلْتَةُ فَالاِغْتِيَابُ لَهُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا مُعْلِنًا فَلاَ غِيبَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ. (5)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (23220) وك (1348) والطيالسي (623) والإحسان (3122) وهو حديث صحيح.
(2) - أبو داود (4902) وت (1035) وك (1421) وطب (13423و470 و845 و850) وهق (7440) والإحسان (3084) والآداب له (282) والمقاصد الحسنة (84) وهو حديث حسن لغيره.
(3) - انتهوا إلى نتيجة أعمالهم.
(4) - 2/ 129 و 8/ 132 (1393 و6516) ونص 4/ 53 (1948) وت (2210) وش (11986) وحم (18701و18702و26212) وطب (7126و 17389) والبيهقي 4/ 75 (7438) و الحاكم1/ 385 (1419) والإحسان (3085 و3086) وهو صحيح مشهور.
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 24 / ص 143) والفتاوى الحديثية ص 110 ط الميمنية، والأذكار ص 141، نيل الأوطار 4/ 123 ط مصطفى الحلبي.
(1/306)
المبحثُ الواحد والثلاثون
عذاب القبر ونعيمه
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ «نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ». قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ صَلَّى صَلاَةً إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. رواه البخاري (1)
قال النووي رحمه الله: فِيهِ إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر وَفِتْنَته، وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ.
وفي فتح الباري لابن حجر: وَأَصْرَح مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْط الْبُخَارِيّ عَنْ سَعِيد بْن عَمْرو بْن سَعِيد الْأُمَوِيّ عَنْ عَائِشَة " أَنَّ يَهُودِيَّة كَانَتْ تَخْدُمهَا، فَلَا تَصْنَع عَائِشَة إِلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوف إِلَّا قَالَتْ لَهَا الْيَهُودِيَّة: وَقَاك اللَّه عَذَاب الْقَبْر. قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه هَلْ لِلْقَبْرِ عَذَاب؟ قَالَ: كَذَبَتْ يَهُود، لَا عَذَاب دُون يَوْم الْقِيَامَة. ثُمَّ مَكَثَ بَعْد ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَمْكُث، فَخَرَجَ ذَات يَوْم نِصْف النَّهَار وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْته: أَيّهَا النَّاس اِسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَاب الْقَبْر، فَإِنَّ عَذَاب الْقَبْر حَقّ " وَفِي هَذَا كُلّه أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا عَلِمَ بِحُكْمِ عَذَاب الْقَبْر إِذْ هُوَ بِالْمَدِينَةِ فِي آخِر الْأَمْر كَمَا تَقَدَّمَ تَارِيخ صَلَاة الْكُسُوف فِي مَوْضِعه. وَقَدْ اِسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَة الْمُتَقَدِّمَة مَكِّيَّة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى (يُثَبِّت اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا) وَكَذَلِكَ الْآيَة الْأُخْرَى الْمُتَقَدِّمَة وَهِيَ قَوْله تَعَالَى (النَّار يَعْرِضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وَالْجَوَاب أَنَّ عَذَاب الْقَبْر إِنَّمَا يُؤْخَذ مِنَ الْأُولَى بِطَرِيقِ الْمَفْهُوم مِنْ حَقّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ بِالْمَنْطُوقِ فِي الْأُخْرَى فِي حَقّ آل فِرْعَوْن وَإِنِ اِلْتَحَقَ بِهِمْ مَنْ كَانَ لَهُ حُكْمهمْ مِنَ الْكُفَّار، فَاَلَّذِي أَنْكَرَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا هُوَ وُقُوع عَذَاب الْقَبْر عَلَى الْمُوَحِّدِينَ، ثُمَّ أُعْلِمَ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَع عَلَى مَنْ يَشَاء اللَّه مِنْهُمْ
__________
(1) - البخاري 2/ 123 (1049 و1055و1372و6366) ومسلم (903) ومالك (450) ونص 3/ 56 (1487) وأحمد 6/ 174 (25000و26161 و26761)
(1/307)
فَجَزَمَ بِهِ وَحَذَّرَ مِنْهُ وَبَالَغَ فِي الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ وَإِرْشَادًا، فَانْتَفَى التَّعَارُض بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى. وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ عَذَاب الْقَبْر لَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّة
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَى لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْبَهَائِمَ لَتَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ.» رواه الطبراني في الكبير (1)
وفي فيض القدير: (2132) (إن الموتى ليعذبون) أي من يستحق العذاب منهم (في قبورهم) فيه شمول للكفار ولعصاة المؤمنين (حتى إن البهائم) جمع بهيمة والمراد بها هنا ما يشمل الطير (لتسمع أصواتهم) وخصوا بذلك دوننا لأن لهم قوة يثبتون بها عند سماعه بخلاف الإنس وصياح الميت بالقبر عقوبة معروفة وقد وقعت في الأمم السالفة وقد تظاهرت الدلائل من الكتاب والسنة على ثبوت عذاب القبر وأجمع عليه أهل السنة وصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه بل سمعه آحاد من الناس قال الدماميني رجمه اللّه: وقد كثرت الأحاديث فيه حتى قال غير واحد إنها متواترة لا يصح عليها التواطؤ وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين وليس في آية {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} ما يعارضه لأنه أخبر بحياة الشهداء قبل القيامة وليست مرادة بقوله {لا يذوقون فيها} الآية فكذا حياة القبور قبل الحشر وأشكل ما في القصة أنه إذا ثبتت حياتهم لزم ثبوت موتهم بعد هذه الحياة ليجتمع الناس كلهم في الموت وينافيه قوله {لا يذوقون فيها} الآية. وجوابه أن معنى قوله {لا يذوقون فيها الموت} أي ألم الموت فيكون الموت الذي يعقب الحياة الأخروية بعد الموت الأول لا يذاق ألمه.- (طب عن ابن مسعود) قال الهيثمي سنده حسن وقال المنذري إسناده صحيح.
وعن هَانِئً مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِى وَتَبْكِى مِنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ الْقَبْرَ
__________
(1) - برقم (10307) المجمع 3/ 56 (4291) وتاريخ أصفهان 1/ 198 (704) و إسناده حسن.
(1/308)
أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ». قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» رواه الترمذي (1)
وفي تحفة الأحوذي: (وَتَبْكِي مِنْ هَذَا) أَيْ مِنَ الْقَبْرِ يَعْنِي مِنْ أَجْلِ خَوْفِهِ؟ قِيلَ إِنَّمَا كَانَ يَبْكِي عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، أَمَّا الِاحْتِمَالُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّبْشِيرِ بِالْجَنَّةِ عَدَمُ عَذَابِ الْقَبْرِ، بَلْ وَلَا عَدَمُ عَذَابِ النَّارِ مُطْلَقًا مَعَ اِحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّبْشِيرُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ مَعْلُومٍ أَوْ مُبْهَمٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَنْسَى الْبِشَارَةَ حِينَئِذٍ لِشِدَّةِ الْفَظَاعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ كَمَا يَدُلُّ حَدِيثُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كُلُّ سَعِيدٍ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ ذَكَرَهُ الْقَارِي
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».أخرجه البخاري و المسلم (2)
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا الْعَرْض عَلَى الرُّوح فَقَطْ، وَيَجُوز أَنْ يَكُون عَلَيْهِ مَعَ جُزْء مِنْ الْبَدَن. قَالَ: وَالْمُرَاد بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ وَقْتهمَا وَإِلَّا فَالْمَوْتَى لَا صَبَاح عِنْدهمْ وَلَا مَسَاء. قَالَ: وَهَذَا فِي حَقّ الْمُؤْمِن وَالْكَافِر وَاضِح، فَأَمَّا الْمُؤْمِن الْمُخَلَّط فَمُحْتَمِل فِي حَقّه أَيْضًا، لِأَنَّهُ يَدْخُل الْجَنَّة فِي الْجُمْلَة، ثُمَّ هُوَ مَخْصُوص بِغَيْرِ الشُّهَدَاء لِأَنَّهُمْ أَحْيَاء وَأَرْوَاحهمْ تَسْرَح فِي الْجَنَّة. وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال: إِنَّ فَائِدَة الْعَرْض فِي حَقّهمْ تَبْشِير أَرْوَاحهمْ بِاسْتِقْرَارِهَا فِي الْجَنَّة مُقْتَرِنَة بِأَجْسَادِهَا، فَإِنَّ فِيهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى مَا هِيَ فِيهِ الْآن
هَل الْمَوْتُ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ أَوْ لِلْبَدَنِ وَحْدَهُ؟
نَصَّ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الأَْرْوَاحَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ غَيْرُ فَانِيَةٍ إِمَّا فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ وَإِمَّا فِي عَذَابٍ أَلِيمٍ قَال فِي الإِْحْيَاءِ: الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ طُرُقُ الاِعْتِبَارِ وَتَنْطِقُ
__________
(1) - برقم (2478) وأحمد1/ 63 (463) وهـ (4408) وهق (7315) وهب (426) وإثبات عذاب القبر (27و196) وهو حديث حسن صحيح
(2) - البخاري 2/ 124 (1379 و 3240 و 6515) ومسلم (2866) ومالك (570) وأحمد 2/ 113 (6068)
(1/309)
بِهِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ أَنَّ الْمَوْتَ مَعْنَاهُ تَغَيُّرُ حَالٍ فَقَطْ وَأَنَّ الرُّوحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْجَسَدِ إِمَّا مُعَذَّبَةٌ وَإِمَّا مُنَعَّمَةٌ. قَال الزُّبَيْدِيُّ: وَهَذَا قَوْل أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَمُتَكَلِّمِي الصِّفَاتِيَّةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ بْنُ قُدَامَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِي تَدُل عَلَيْهِ الآْيَاتُ وَالأَْخْبَارُ أَنَّ الرُّوحَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقِيَةً إِمَّا مُعَذَّبَةً أَوْ مُنَعَّمَةً فَإِنَّ الرُّوحَ قَدْ تَتَأَلَّمُ بِنَفْسِهَا بِأَنْوَاعِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَتَتَنَعَّمُ بِأَنْوَاعِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهَا بِالأَْعْضَاءِ فَكُل مَا هُوَ وَصْفٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهَا يَبْقَى مَعَهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْجَسَدِ وَكُل مَا لَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْعْضَاءِ يَتَعَطَّل بِمَوْتِ الْجَسَدِ إِلَى أَنْ تُعَادَ الرُّوحُ إِلَى الْجَسَدِ.
وَاحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لاَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (سورة آل عمران / 169) حَيْثُ قَال عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ: جَعَل اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُل مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيل مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِل الْعَرْشِ (صحيح) وَبِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّارِ فَمِنْ أَهْل النَّارِ يُقَال: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى نَعِيمِ الأَْرْوَاحِ وَعَذَابِهَا بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ إِلَى أَنْ يُرْجِعَهَا اللَّهُ فِي أَجْسَادِهَا وَلَوْ مَاتَتِ الأَْرْوَاحُ لاَنْقَطَعَ عَنْهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ تَوْضِيحًا لِحَال الرُّوحِ وَحَيَاتِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْبَدَنِ فَقَال: هَذِهِ الرُّوحُ لاَ تَفْنَى الْبَتَّةَ وَلاَ تَمُوتُ بَل يَتَبَدَّل بِالْمَوْتِ حَالُهَا فَقَطْ وَيَتَبَدَّل مَنْزِلُهَا فَتَنْتَقِل مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَالْقَبْرُ فِي حَقِّهَا إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ، إِذًا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعَ الْبَدَنِ عَلاَقَةٌ سِوَى اسْتِعْمَالِهَا الْبَدَنَ وَاقْتِنَاصِهَا أَوَائِل الْمَعْرِفَةِ بِهِ بِوَاسِطَةِ شَبَكَةِ الْحَوَاسِّ فَالْبَدَنُ آلَتُهَا وَمَرْكَبُهَا وَشَبَكَتُهَا وَبُطْلاَنُ الآْلَةِ وَالْمَرْكَبِ وَالشَّبَكَةِ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الصَّائِدِ.
(1/310)
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّوحَ تَفْنَى وَتَمُوتُ بِمَوْتِ الْجَسَدِ لأَِنَّهَا نَفْسٌ وَقَدْ قَال تَعَالَى: {كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.قَال الزُّبَيْدِيُّ: وَقَدْ قَال بِهَذَا الْقَوْل جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الأَْنْدَلُسِ قَدِيمًا مِنْهُمْ عَبْدُ الأَْعْلَى بْنُ وَهْبِ بْنِ لُبَابَةَ وَمِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَالسُّهَيْلِيِّ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: "وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَال:مَوْتُ النُّفُوسِ هُوَ مُفَارَقَتُهَا لأَِجْسَادِهَا وَخُرُوجُهَا مِنْهَا فَإِنْ أُرِيدَ بِمَوْتِهَا هَذَا الْقَدْرُ فَهِيَ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنْ أُرِيدَ بِأَنَّهَا تَعْدَمُ وَتَضْمَحِل وَتَصِيرُ عَدَمًا مَحْضًا فَهِيَ لاَ تَمُوتُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ بَل هِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ خَلْقِهَا فِي نَعِيمٍ أَوْ فِي عَذَابٍ " (1)
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُسَلَّطُ عَلَى الْكَافِرِ فِى قَبْرِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيناً تَلْدَغُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَلَوْ أَنَّ تِنِّيناً مِنْهَا نَفَخَ فِى الأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ خَضِراً». رواه أحمد (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ سَبْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعُ رُءُوسٍ يِلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " رواه ابن حبان في صحيحه
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتُضِرَ حَضَرَهُ مَلَكَانِ يَقْبِضَانِ رُوحَهُ فِي حَرِيرَةٍ، فَيَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنَ الْأَرْضِ،
__________
(1) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 39 / ص 249) فما بعدها والروح لابن القيم ص 50، والفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ص 121، وإحياء علوم الدين 4/ 421و422، ومجموع فتاوى ابن تيمية 4/ 292، 296، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/ 25، وأسنى المطالب 1/ 297، وفتح الباري 3/ 233، ومغني المحتاج 1/ 329 والأربعين في أصول الدين للغزالي ص 276 وإتحاف السادة المتقين 10/ 376 - 379 و الروح ص 50 و مختصر منهاج القاصدين ص 499، 500.
(2) - 3/ 38 (11642) وابن أبي شيبة 13/ 175 (34181) ومي (2871) والمجمع 3/ 55 والإحسان (3186) وهو حديث حسن.
(1/311)
فَيَصْعَدَانِ بِهِ، فَيُقَالُ: أَبْشِرْ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى آخِرِ الْأَجَلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا يَقْبِضَانِ رُوحَهُ فِي مِسَحٍّ، ثُمَّ يَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَأْخُذُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَنْفِهَا وَيَقُولُونَ: رِيحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَيَصْعَدَانِ بِهِ فَيُقَالُ: أَبْشِرْ بِعَذَابِ اللَّهِ وَهَوَانِهِ، ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ أَوِ الْأَجَلَيْنِ " أخرجه البيهقي في عذاب القبر
وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَمَا يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَعْرُجَ بِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحَ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، أَظُنُّهُ أَرَادَ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ قَالَ: وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَنْتَهِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَتُرْسَلُ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ " إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ فَتَّانَ الْقُبُورِ فَقَالَ عُمَرُ أَتُرَدُّ إِلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ». فَقَالَ عُمَرُ بِفِيهِ الْحَجَرُ " أخرجه أحمد (2)
__________
(1) - ابن حبان برقم (3187) وأبو يعلى برقم (6506) وصحيح الترغيب (3552) وهو حديث حسن و إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (22 و23) صحيح
(2) - برقم (6762) والمجمع (4262) وصحيح الترغيب (3553) وهو حديث حسن، بِفِيهِ الْحَجَرُ أي يلقم الفتان الحجر، كأنه أفحم وأرتج عليه.
(1/312)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " تُبْتَلَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي قُبُورِهَا " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ وَأَنَا امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ قَالَ: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} (27) سورة إبراهيم رواه ابن الأعرابي (1)
يثبت الله: يديمهم عليه فيحفظون قواهم وينطقون بالشهادتين في الحياة ثابتين على الإيمان، عاملين بآداب الإسلام
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا». قَالَ قَتَادَةُ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِى قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ «وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» رواه البخاري ومسلم (2)
الثقلان: هما الإنس والجن.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي التَّذْكِرَة: جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيث سُؤَال مَلَك وَاحِد وَفِي غَيْره سُؤَال مَلَكَيْنِ وَلَا تَعَارُض فِي ذَلِكَ بَلْ كُلّ ذَلِكَ صَحِيح الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَشْخَاص فَرُبَّ شَخْص يَأْتِيَانِهِ جَمِيعًا وَيَسْأَلَانِهِ جَمِيعًا فِي حَال وَاحِد عِنْد اِنْصِرَاف النَّاس عَنْهُ لِيَكُونَ السُّؤَال أَهْوَل وَالْفِتْنَة فِي حَقّه أَشَدّ وَأَعْظَم، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا اِقْتَرَفَ مِنَ الْآثَام وَاجْتَرَحَ مِنْ سَيِّئ الْأَعْمَال، وَآخَر يَأْتِيَانِهِ قَبْل اِنْصِرَاف النَّاس عَنْهُ، وَآخَر يَأْتِيه أَحَدهمَا عَلَى
__________
(1) - في معجمه (82) و المجمع 3/ 53 وصحيح الترغيب (3554) وهو صحيح لغيره
(2) - البخاري 2/ 123 (1374) ومسلم (2870) نص 4/ 96 و 97 (2061و2062و2063) وأبو داود (3233و4754)
(1/313)
الِانْفِرَاد فَيَكُون ذَلِكَ أَخَفّ فِي السُّؤَال لِمَا عَمِلَهُ مِنْ صَالِح الْأَعْمَال، كَذَا فِي مِرْقَاة الصُّعُود.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ نَخْلاً لِبَنِى النَّجَّارِ فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ فَقَالَ: «مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاسٌ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ». قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَىْءٍ غَيْرَهَا فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِى النَّارِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ (1) وَرَحِمَكَ فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: دَعُونِى حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِى. فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ. ... وَأَمَّا الْكَافِرُ - أَوِ الْمُنَافِقُ (2) إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ (3) فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِى. فَيُقَالُ لَهُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» أخرجه أبو داود وأحمد (4)
وعَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ يَهُودِيَّةٌ فَاسْتَطْعَمَتْ عَلَى بَابِى فَقَالَتْ أَطْعِمُونِى أَعَاذَكُمُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ (5) وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَتْ فَلَمْ أَزَلْ أَحْبِسُهَا حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ قَالَ «وَمَا تَقُولُ». قُلْتُ تَقُولُ أَعَاذَكُمُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَفَعَ يَدَيْهِ
__________
(1) - أي ثبتك على الحق وأنطقك بالحكمة، اللهم ثبتنا على الحق.
(2) - المذبذب غير ثابت الإيمان، كثير العصيان. وهذه رواية البخاري وأحمد
(3) - فيزجره.
(4) - برقم (4753) و النسائي (2059) وأحمد (12605و13753) وإثبات عذاب القبر (14) وهو صحيح.
(5) - الدجال: رجل يهودي يدعي الألوهية في آخر الزمن، ويحدث فتنة شديدة في العالم الإسلامي، فيتبعه كثير من الناس ويعصم الله المؤمنين الصادقين من رجسه، ثم يحاصر المهدي في فلسطين، وأخيراً ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء فيقتله هو وأتباعه في فلسطين عند مدينة اللد، وهذا من علامات الساعة الكبرى التي ورد الخبر اليقين بها ... راجع جامع الأصول 10/ 327 - 362 وكتابي علامات الساعة الكبرى (مخطوط).
(1/314)
مَدًّا يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَمِنْ فِتْنَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ قَالَ «أَمَّا فِتْنَةُ الدَّجَّالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ إِلاَّ قَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ وَسَأُحَذِّرُكُمُوهُ تَحْذِيراً لَمْ يُحَذِّرْهُ نَبِىٌّ أُمَّتَهُ إِنَّهُ أَعْوَرُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ. فَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَبِى تُفْتَنُونَ وَعَنِّى تُسْأَلُونَ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ أُجْلِسَ فِى قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلاَ مَشْعُوفٍ (1) ثُمَّ يُقَالُ لَهُ فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ فِى الإِسْلاَمِ. فَيُقَالُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ فِيكُمْ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَدَّقْنَاهُ. فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا. وَيُقَالُ عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مِتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ أُجْلِسَ فِى قَبْرِهِ فَزِعاً مَشْعُوفاً فَيُقَالُ لَهُ فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِى. فَيُقَالُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى كَانَ فِيكُمْ فَيَقُولُ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلاً فَقُلْتُ كَمَا قَالُوا. فَتُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكَ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا كُنْتَ عَلَى الشَّكِّ وَعَلَيْهِ مِتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ يُعَذَّبُ». رواه أحمد (2)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ (3)، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ (4)، وَفِى يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِى الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِىءُ
__________
(1) - المشغوف: الفزع الذي يذهب القلب.
(2) - 6/ 136 و 140 (25831) ومشكل الآثار (4523) والمجمع (4365) والسنة لعبد الله (1322) وصحيح الترغيب (3557) وإسناده صحيح.
(3) - أي إلى الآن لم يدفن.
(4) - في هدوء وسكون كأنا نطرق لصيد الطير.
(1/315)
مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِى إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ - قَالَ - فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِى السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِى يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِى ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِى ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ - قَالَ - فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ - يَعْنِى بِهَا - عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِى كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِى الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِى تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِى فِى عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّى مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى - قَالَ - فَتُعَادُ رُوحُهُ فِى جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنَ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِىَ الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَقُولاَنِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنَادِى مُنَادٍ فِى السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِى فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ - قَالَ - فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ - قَالَ - وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِى يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِىءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِى وَمَالِى. قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِىءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِى إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ - قَالَ - فَتُفَرَّقُ فِى جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِى يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِى تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِى كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِى الدُّنْيَا
(1/316)
حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلاَ يُفْتَحُ لَهُ». ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ) «فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِى سِجِّينٍ فِى الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً». ثُمَّ قَرَأَ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِى جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِى يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِىءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ» أخرجه أحمد في مسنده
وفي رواية عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، قَالَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ: وُقَّعٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أَبُو عَوَانَةَ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَخْفِضُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَهَا مِرَارًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ وَتَسِيلُ كَمَا يَسِيلُ قَطْرُ السِّقَاءِ قَالَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَقُلْهِ أَبُو عَوَانَةَ: وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَنْزِلُ مَلاَئِكَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ أَكْفَانٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِهَا فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} قَالَ: فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ كَأَطْيَبِ رِيحٍ وُجِدَتْ فَتَعْرُجُ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ فَلاَ يَأْتُونَ عَلَى جُنْدٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ؟ فَيُقَالُ: فُلاَنٌ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى بَابِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُفْتَحُ لَهُ وَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا
(1/317)
إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فَيُكْتَبُ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى فَيُرَدُّ إِلَى الأَرْضِ وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الاِنْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الإِسْلاَمُ فَيَقُولاَنِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ فَيَقُولاَنِ وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّنَا فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قَالَ: وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَفْرِشُوهُ مِنْهَا وَأَرُوهُ مَنْزِلَهُ مِنْهَا فَيَلْبِسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُفْرَشُ مِنْهَا وَيَرَى مَنْزِلَهُ مِنْهَا وَيُفْسَحُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ، أَبْشِرْ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّاتٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ وَالأَمْرُ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلاَّ كُنْتَ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ كَيْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَكَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالُ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ أَبْشِرِي بِسَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ فَتَنْزِلُ مَلاَئِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ مُسُوحٌ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ قَامُوا فَلَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ: فَتَغْرَقُ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُهَا يَقْطَعُ مَعَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ كَالسُّفُّودِ الْكَبِيرِ الشُّعَبِ فِي الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمَلَكِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحٍ وُجِدَتْ فَلاَ تَمُرُّ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلاَنٌ بِأَسْوَإِ أَسْمَائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَلاَ تُفْتَحُ لَهُ، فَيَقُولُ: رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ إِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَيُرْمَى بِهِ مِنَ السَّمَاءِ قَالَ: فَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} الآيَةَ قَالَ: وَيُعَادُ إِلَى
(1/318)
الأَرْضِ وَتُعَادُ فِيهِ رُوحُهُ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الاِنْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي فَيَقُولاَنِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَلاَ يَهْتَدِي لاِسْمِهِ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَاكَ قَالَ: فَيُقَالَ: لاَ دَرَيْتَ فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ مُنْتِنِ الرِّيحِ قَبِيحِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابٍ مِنَ اللهِ وَسَخَطِهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلاَّ كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللهِ سَرِيعًا إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ قَالَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ زَاذَانَ عَنِ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فَيُقَيَّضُ لَهُ مَلَكٌ أَصَمُّ أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ صَارَ تُرَابًا، أَوْ قَالَ: رَمِيمًا، فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا الْخَلاَئِقُ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى. مسند الطيالسي (1).
الحنوط: ما يخلط من الطيب بأكفان الموتى، السفود: حديدة ذات شعب معقفة.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قُبِضَ أَتَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَتَقُولُ: اخْرُجِي إِلَى رَوْحِ اللهِ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إِنَّهُمْ لِيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشُمُّونَهُ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الأَرْضِ؟ وَلاَ يَأْتُونَ سَمَاءً إِلاَّ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلاَنٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ، أَمَا أَمَاتَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْتِيهُ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ بِمُسْحٍ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى
__________
(1) - 4/ 287 و 6/ 362 (19038 - 19040) وأبو داود (3214 و4755) وش (11523 و12058) والحاكم (107و113 و414) وتهذيب الآثار (171 - 174) وهب (423) والطيا (782) والترمذي (3604) والمجمع 3/ 49 و 56 (4266) وإتحاف الخيرة (1850) وإثبات عذاب القبر (18 و32) من طرق عنه و مسند الطيالسي (789) صحيح وهو حديث صحيح.
(1/319)
غَضِبِ اللهِ، فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ فَتَذْهَبُ بِهِ إِلَى بَابِ الأَرْضِ. رواه ابن حبان في صحيحه (1) - المسح: قطعة من الصوف الغليظ، الجِيفَة: جُثة الميت إذا أنْتَن
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ - أَوْ قَالَ أَحَدُكُمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ فَيَقُولاَنِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولاَنِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ نَمْ. فَيَقُولُ أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِى فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولاَنِ نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِى لاَ يُوقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ. حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ. فَيُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِى عَلَيْهِ. فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ. فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاَعُهُ فَلاَ يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» رواه الترمذي (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلاَةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ
وعَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ.
فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلاَةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ، وَقَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ وَقَدْ أُدْنِيَتْ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ
__________
(1) - الإحسان (3078) و صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 285) (3014) وصحيح الترغيب (3559) وهو حديث صحيح
(2) - برقم (1092) والإحسان (3182) وإثبات عذاب القبر (44) والسنة لابن أبي عاصم (717) والآجري (851) وهو حديث صحيح
(1/320)
عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ لِمَا بَدَأَ مِنْهُ، فَتَجْعَلُ نَسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطِّيِّبِ وَهِيَ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم] إِلَى آخِرِ الآيَةِ قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلاَ يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ عَنْ شِمَالِهِ، فَلاَ يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَلاَ يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا، فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشَهَّدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ؟ فَيُقَالُ: الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، فَلاَ يَهْتَدِي لاِسْمِهِ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ قَالُوا قَوْلاً، فَقُلْتُ كَمَا قَالَ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهِ لَوْ أَطَعْتَهُ فَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ، فَتِلْكَ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ
(1/321)
(1) الَّتِي قَالَ اللَّهُ: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه] (2) رواه ابن حبان في صحيحه (3)
وعَنِ طَاوُسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - مَرَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ - ثُمَّ قَالَ - بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ (4) وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ (5)». قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رواه البخاري ومسلم (6)
اختلف العلماء في حكم وضع الريحان والجريد وغيرهما على القبر وهل يتنفع الميت بها؟ أم لا؟
فبعضهم قال: يستحب ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ولعل هناك علاقة بين الخضرة وتخفيف عذاب القبر.
وقال آخرون: هذه خصوصية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاء منه إذ لا علاقة بين الاخضرار ورفع العذاب، ولو ساغ ذلك لأمرهم بزرع شجر دائم الخضرة فهو أفضل من المقطوع وفي الريحان إسراف وتبذير، ولا خلاف بينهم على أن التصدق عن الموتى أفضل وأحسن. (7)
__________
(1) - الضيقة الشديدة
(2) - الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى: {نَحْشُرُهُمْ * يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97]
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 380) (3113) والإحسان (3178) وإثبات عذاب القبر (54 و119) والاعتقاد للبيهقي (157) وهناد (332) وهو حديث صحيح.
(4) - السعي بالإفساد بين الناس، ولإيقاع التدابر بين المسلمين وإيجاد التخاصم والشقاق، بنقل الحديث على وجه السعاية والدس والكيد.
(5) - يقضي حاجته على الطريق، وتظهر عورته للناس.
(6) - البخاري 1/ 65 و 2/ 119 و 124 و 8/ 20 (216 و218 و1361 و 1378و6052 و 6055) ومسلم (292).
(7) - راجع فتاوى الشبكة الإسلامية (12861و 20611و 24505)
(1/322)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ». رواه ابن ماجه (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَامَ، فَقُمْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ لَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ كُمُّ قَمِيصِهِ، فَقُلْنَا: مَا لَكَ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: مَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: هَذَانِ رَجُلاَنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ، قُلْنَا: مِمَّ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ، وَكَانَ الآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ، فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قُلْنَا: وَهَلْ يَنْفَعُهُمَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَا رَطْبَتَيْنِ. رواه ابن حبان في صحيحه (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِنَازَةً، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ، فَأَقْعَدَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ بِهِ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُ، فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَلَا هُدِيتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا لَكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ بِالْمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُنَّ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ " فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَقَةٌ إِلَّا هِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ " إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (3)
__________
(1) - برقم (375) وش (1306) وك (653) والتلخيص الحبير (136) نص (1353) وحم (25056) وهو صحيح
(2) - الإحسان برقم (825) و صحيح ابن حبان - (ج 3 / ص 106) (824) وصحيح الترغيب (163و2823) وهو حديث صحيح
(3) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (20) حسن
(1/323)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ طُعِنَ فَقُلْتُ: " أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسْلَمْتَ حِينَ كَفَرَ النَّاسُ وَجَاهَدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ خَذَلَهُ النَّاسُ وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي خِلَافَتِكَ اثْنَانِ، وَقُتِلَتْ شَهِيدًا، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَوْ أَنَّ لِي مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ " (1)
وعَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ قَالَ: فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَمَنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ " قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ " (2)
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ " (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " إِنَّ أَحَدَكُمْ لِيُجْلَسُ فِي قَبْرِهِ إِجْلَاسًا، فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَيَرَى مَكَانَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُنَزَّلُ عَلَيْهِ كِسْوَةٌ يَلْبَسُهَا مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ ثلَاَثاً، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ أَوْ تَتَمَاسَّ أَضْلَاعُهُ وَيُرْسَلُ عَلَيْهِ حَيَّاتٌ مِنْ جَوَانِبِ قَبْرِهِ يَنْهَشْنَهُ وَيَأْكُلْنَهُ، فَإِذَا جَزَعَ فَصَاحَ قُمِعَ بَمَقْمَعٍ مِنْ نَارٍ مِنْ حَدِيدٍ " (4)
وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: " تَخْرُجُ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ وَهِيَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ قَالَ: فَتَصْعَدُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَهَا فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ دُونَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا مَعَكُمْ؟
__________
(1) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (195) صحيح
(2) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (196) حسن
(3) إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (197) حسن
(4) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (198) حسن
(1/324)
فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ، وَيَذْكُرُونَهُ بِأَحْسَنِ عَمَلِهِ فَيَقُولُونَ: حَيَّاكُمُ اللَّهُ وَحَيَّا مَنْ مَعَكُمْ قَالَ: فَتُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَيُشْرِقُ وَجْهُهُ قَالَ: فَيَأْتِي الرَّبُّ تَعَالَى وَوَجْهُهُ بُرْهَانٌ مِثْلُ الشَّمْسِ قَالَ: وَأَمَّا الْآخَرُ فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ وَهِيَ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ، فَتَصْعَدُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَهَا فَتَلَقَّاهُمْ مَلَائِكَةٌ دُونَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا مَعَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ، وَيَذْكُرُونَهُ بِأَسْوَإِ عَمَلِهِ قَالَ: فَيَقُولُونَ: رُدُّوهُ رُدُّوهُ، فَمَا ظَلْمَهُ اللَّهُ شَيْئًا، فَقَرَأَ أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ " (1)
وعَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ عَلَى جَنَاحِ فِرَاقِ الدُّنْيَا، فَمُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ وَأَذْكُرُكَ بِهِ، فَقَالَ: " إِنَّكَ بَيْنَ أُمَّةٍ مُعَافَاةٍ فَأَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ إِنْ كَانَ لَكَ، وَصُمْ رَمَضَانَ وَاجْتَنِبِ الْفَوَاحِشَ، ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَعَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: اجْلِسْ ثُمَّ اعْقِلْ مَا أَقُولُ لَكَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ يَوْمٍ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا عَرْضَ ذِرَاعَيْنِ فِي طُولِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ؟ أَقْبَلَ بِكَ أَهْلُكَ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُحِبُّونَ فِرَاقَكَ، وَجُلُسَاؤُكَ وَإِخْوَانُكَ فَأَتْقَنُوا عَلَيْكَ الْبُنْيَانَ، ثُمَّ أَكْثَرُوا عَلَيْكَ التُّرَابَ، ثُمَّ تَرَكُوكَ، ثُمَّ جَاءَكَ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ جَعْدَانِ، أَسْمَاؤُهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، فَأَجْلَسَاكَ ثُمَّ سَأَلَاكَ مَا أَنْتَ؟ أَمْ عَلَى مَاذَا كُنْتَ؟ أَمْ مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ قُلْتَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ قَالُوا قَوْلًا فَقُلْتُ قَوْلَ النَّاسِ، فَقَدْ وَاللَّهِ رَدِيتَ وَهَوِيتَ، فَإِنْ قُلْتَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ فَآمَنْتُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ مَعَهُ، فَقَدْ وَاللَّهِ نَجَوْتَ وَهُدِيتَ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ ذَلِكَ إِلَّا بِتَثْبِيتٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا تَرَى مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّخْوِيفِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ صَلَّى عَلَى مَنْفُوسٍ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُعِيذُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ " (3)
__________
(1) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (199) حسن
(2) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (200) حسن
(3) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (201) صحيح
(1/325)
وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنَّ الْكَافِرَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ، فَيَأْكُلُ لَحْمَهُ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى رِجْلِهِ ثُمَّ يُكْسَى اللَّحْمُ فَيَأْكُلُ مِنْ رِجْلِهِ إِلَى رَأْسِهِ، فَهَذَا مَكْرٌ لَكَ " (1)
نعيم القبر وعذابه يكون للروح والبدن جميعا، فتنعم الروح أو تعذب متصلة بالبدن فيكون النعيم والعذاب عليهما جميعا،كما أنه قد تنعم الروح أو تعذب أحيانا منفصلة عن البدن، فيكون النعيم أو العذاب للروح منفردا عن البدن. وقد دلت على هذا النصوص وعليه اتفق أهل السنة والجماعة، خلافا لمن زعم أن عذاب القبر ونعيمه يكون للروح فقط على كل حال ولا يتعلق بالبدن.
وقد دلت هذه الأحاديث على وقوع النعيم أو العذاب في القبر على الروح والجسد جميعا ففي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا وضع في القبر» دلالة ظاهرة على هذا إذ لفظ (العبد) مسمى للروح والجسد جميعا، وكذلك تصريحه بإعادة الروح إلى الجسد عند السؤال كما في حديث البراء بن عازب هذا مع ما جاء في الحديثين من الألفاظ التي هي من صفات الجسد كقوله: «يسمع قرع نعالهم» (فيقعدانه)، «ويضرب بمطارق من حديد» «فيصيح صيحة»، فإن هذا كله يفيد أن ما يحصل في القبر من النعيم أو العذاب متعلق بالروح والجسد جميعهما
هذا مع أنه قد جاء في بعض النصوص ما يفيد أن النعيم أو العذاب قد يقع على الروح منفردة في بعض الأحوال على ما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أصيب إخوانكم يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش» أخرجه أحمد والحاكم وهو صحيح.
فتلخص من هذا أن النعيم والعذاب يقع على الروح والجسد جميعا في القبر وقد تنفرد الروح بهذا أحيانا. قال بعض الأئمة المحققين في السنة في تقرير هذه المسألة: (والعذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة
__________
(1) - إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (202) صحيح موقوف
(1/326)
عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين كما يكون للروح منفردة عن البدن).
وسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية (1): - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَهُوَ بِمِصْرِ - عَنْ " عَذَابِ الْقَبْرِ ". هَلْ هُوَ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ أَوْ عَلَى النَّفْسِ؛ دُونَ الْبَدَنِ؟ وَالْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ حَيًّا أَمْ مَيِّتًا؟ وَإِنْ عَادَتِ الرُّوحُ إلَى الْجَسَدِ أَمْ لَمْ تَعُدْ فَهَلْ يَتَشَارَكَانِ فِي الْعَذَابِ وَالنَّعِيمِ؟ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ؟
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ آمِينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: بَلْ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنِ الْبَدَنِ وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمَعِينَ كَمَا يَكُونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ. وَهَلْ يَكُونُ الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ لِلْبَدَنِ بِدُونِ الرُّوحِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ،وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ؛ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الرُّوحِ؛ وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ. وَهَذَا تَقُولُهُ " الْفَلَاسِفَةُ " الْمُنْكِرُونَ لِمَعَادِ الْأَبْدَانِ؛ وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَيَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ " أَهْلِ الْكَلَامِ " مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الرُّوحَ بِمُفْرَدِهَا لَا تُنَعَّمُ وَلَا تُعَذَّبُ وَإِنَّمَا الرُّوحُ هِيَ الْحَيَاةُ وَهَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمْ؛ وَيُنْكِرُونَ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ؛ خَالَفَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجويني وَغَيْرُهُ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّهَا مُنَعَّمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ. " وَالْفَلَاسِفَةُ " الإلهيون يَقُولُونَ بِهَذَا لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَبْدَانِ وَهَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ؛ لَكِنْ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَرْوَاحِ وَنَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا بِدُونِ الْأَبْدَانِ؛ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 282) فما بعدها
(1/327)
لَكِنَّ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ أَبْعَدُ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، بَلْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْكَلَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الشَّاذُّ. قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْبَرْزَخَ لَيْسَ فِيهِ نَعِيمٌ وَلَا عَذَابٌ بَلْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ وَأَنَّ الْبَدَنَ لَا يُنَعَّمُ وَلَا يُعَذَّبُ. فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الطَّائِفَتَيْنِ ضَلَالٌ فِي أَمْرِ الْبَرْزَخِ لَكِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِالْقِيَامَةِ الْكُبْرَى.
فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْبَاطِلَةَ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ " سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا " أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ فِي نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِرُوحِهِ وَلِبَدَنِهِ وَأَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَأَنَّهَا تَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَحْيَانًا فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ. ثُمَّ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى أُعِيدَتِ الْأَرْوَاحُ إلَى أَجْسَادِهَا وَقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمَعَادُ الْأَبْدَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.
وَهَلْ يَكُونُ لِلْبَدَنِ دُونَ الرُّوحِ نَعِيمٌ أَوْ عَذَابٌ؟ أَثْبَتَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُهُمْ. وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا أَحَادِيثُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمَسْأَلَةُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فَكَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -،وذكر بعض الأحاديث الآنفة الذكر .... وقال بعد حديث البراء الطويل: فَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَى الْجَسَدِ وَبِاخْتِلَافِ أَضْلَاعِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى الرُّوحِ وَالْبَدَنِ مُجْتَمِعَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي قَبْضِ الرُّوحِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَحَدِيثُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِلْمُ: مِنْهَا: أَنَّ الرُّوحَ تَبْقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ؛ خِلَافًا لِضُلَّالِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَأَنَّهَا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ خِلَافًا لِضُلَّالِ الْفَلَاسِفَةِ؛ وَأَنَّهَا تُعَادُ إلَى الْبَدَنِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فَيُنَعَّمُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا سَأَلَ عَنْهُ أَهْلُ السُّؤَالِ وَفِيهِ أَنَّ عَمَلَهُ الصَّالِحَ أَوْ السَّيِّئَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ أَوْ قَبِيحَةٍ.
(1/328)
وقال تعليقا على حديث آخر: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ اخْتِلَافُ أَضْلَاعِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْبَدَنَ نَفْسَهُ يُعَذَّبُ.
ثم قال: " فَقَدْ أَخْبَرَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ أَنَّ الرُّوحَ تُنَعَّمُ مَعَ الْبَدَنِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ - إذَا شَاءَ اللَّهُ - وَإِنَّمَا تُنَعَّمُ فِي الْجَنَّةِ وَحْدَهَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ. وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَضِيقُ هَذَا الْوَقْتُ عَنْ اسْتِقْصَائِهِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تُنَعَّمُ وَتُعَذَّبُ - إذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كَمَا يَشَاءُ وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَمُنَعَّمَةٌ وَمُعَذَّبَةٌ. وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ {أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ».وَقَدِ انْكَشَفَ لِكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعُوا صَوْتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ وَرَأَوْهُمْ بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى الْبَدَنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلاَثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّى قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِى رَبِّى حَقًّا». فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا». ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِى قَلِيبِ بَدْرٍ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: " هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا " ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ "، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ " ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى حَتَّى قَرَأَتْ الآيَةَ.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ وَإِنْ كَانَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَأَبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا. كَمَا رَوَى البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ
(1/329)
وَعِشْرِينَ رَجُلاً مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِى طَوِىٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلاَّ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِىِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ «يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا». قَالَ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ». قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا
وَعَائِشَةُ تَأَوَّلَتْ فِيمَا ذَكَرَتْهُ كَمَا تَأَوَّلَتْ أَمْثَالَ ذَلِكَ. وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ وَالْكُفَّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ لَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهِ وَاتِّبَاعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (171) سورة البقرة. فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَلَ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ السَّمَاعِ الْمُعْتَادِ أَنْوَاعَ السَّمَاعِ كَمَا لَمْ يُنْفَ ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ؛ بَلْ قَدْ انْتَفَى عَنْهُمْ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا يُنْفَى عَنْهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فَهَذَا مُوَافِقٌ لِهَذَا فَكَيْفَ يَدْفَعُ ذَلِكَ؟. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ لَا يَسْمَعُ مَا دَامَ مَيِّتًا كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ. وَاسْتَدَلَّتْ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَمَّا إذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ كَمَا قَالَ قتادة: أَحْيَاهُمْ اللَّهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْحَيَاةُ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا كَمَا نَحْنُ لَا نَرَى الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَلَا نَعْلَمُ مَا يُحِسُّ بِهِ الْمَيِّتُ فِي مَنَامِهِ وَكَمَا لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مَا فِي قَلْبِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ" (1).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية - (4/ 299)
(1/330)
المبحثُ الثاني والثلاثون
من لا يسأل في القبر وما ينجي من عذاب القبر
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِى قُبُورِهِمْ إِلاَّ الشَّهِيدَ قَالَ «كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً». أخرجه النسائي (1)
قال المناوي في فيض القدير: (6248) (كفى ببارقة السيوف) أي بلمعانها قال الراغب: البارقة لمعان السيف (على رأسه) يعني الشهيد (فتنة) فلا يفتن في قبره ولا يسأل إذ لو كان فيه نفاق لفرَّ عند التقاء الجمعين فلما ربط نفسه للّه في سبيله ظهر صدق ما في ضميره وظاهره اختصاص ذلك بشهيد المعركة لكن أخبار الرباط تؤذن بالتعميم.
<تنبيه> قال القرطبي: إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل قدراً وأعظم أجراً فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدم في التنزيل على الشهداء {أولئك الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء} وقد جاء في المرابط الذي هو أقل رتبة من الشهيد أنه لا يفتن فكيف بمن هو أعلى منه وهو الشهيد.
وعَنِ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ». أخرجه مسلم (2)
قال النووي: هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ، لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد.
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَجْرَى عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِى كَانَ يَعْمَلُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ».أخرجه ابن ماجه (3)
__________
(1) - نص 4/ 99 (2065) ون (2191) ومعرفة الصحابة (6583) وهو حديث صحيح
(2) - برقم (1913) والمقصود بالصيام صيام التطوع.
(3) - برقم (2872) والمجمع 5/ 289 و 290 وطب (7353و7737 و15197 و1312) وعوانة (6010) والشاميين (1918) وأحمد 4/ 57 و 5/ 440 (17897) وهو صحيح لطرقه.
(1/331)
وعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ مَاتَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَأُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ فَلَمَّا رَجَعْنَا تَلَقَّانَا خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَكِلاَهُمَا قَدْ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ فَقَالاَ سَبَقْتُمُونَا بِهَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ بِهِ بَطْنٌ وَأَنَّهُمْ خَشُوا عَلَيْهِ الْحَرَّ - قَالَ - فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِى قَبْرِهِ» أخرجه ابن أحمد (1)
المراد به الاستسقاء، وقيل: الإسهال، وقيل غير ذلك.
وقال القرطبي: اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب، بل يخصصها ويبين من لا يسأل في قبره ولا يفتن فيه، ممن يجري عليه السؤال، ويقاسي تلك الأهوال وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس ولا مجال للنظر فيه. وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه و سلم.
وقد روى ابن ماجه في سننه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه ويقول: دعوني أصلي ولعلهذا ممن وقي فتنة القبر فلا تعارض والحمد لله ..... (2)
فصل: قوله عليه السلام: من مات مريضاً مات شهيداً عام في جميع الأمراض لكن قيده قوله في الحديث الآخر: من يقتله بطنه وفيه قولان:
أحدهما: أنه الذي يصيبه الذرب وهو الإسهال تقول العرب أخذه البطن إذا أصابه الداء وذرب الجرح إذا لم يقبل الدواء وذربت معدته فسدت.الثاني: أنه الاستسقاء وهو أظهر القولين فيه
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: " فِي سُورَةِ الْمُلْكِ: " هِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ يُؤْتَى صَاحِبُهَا قَالَ عَلِيٌّ فِي قَبْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ مُوسَى فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَيَقُولُ رَأْسُهُ: لَا سَبِيلَ عَلَيَّ، إِنَّهُ وَعَى فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكَ
__________
(1) - برقم (18807) والإحسان برقم (2995) والنسائي 4/ 98 والترمذي (1085) وطب (3995و3998و4002و6368) وهو حديث صحيح.
(2) - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة - (ج 1 / ص 188)
(1/332)
عَلَيَّ سَبِيلٌ إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِي بِسُورَةِ الْمُلْكِ، وَإِنَّهَا فِي التَّوْرَاةِ مَنْ قَرَأَهَا، فَقَدْ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ " أخرجه ابن الضريس (1)
وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ، أَنَّ أَبَاعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحْرِمٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنًا لِعِيَاضِ بْنِ عُقْبَةَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاشْتَدَّ وَجَدُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الصِّدَفِ: يَا أَبَا يَحْيَى أَلَا أُبَشِّرُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بَرِئَ مِنَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ "
وعن أبي قَبِيلٍ الْمِصْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ "
وعَنْ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصِّدَفِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كَانَ يَقُولُ: " مَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وُقِيَ الْفَتَّانَ "
وعن عِكْرِمَةَ بْنَِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ: " مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خُتِمَ بِخَاتَمِ الْإِيْمَانِ، وَوُقِيَ عَذَابَ الْقَبْرِ "أخرجه أحمد (2)
وفي فيض القدير للمناوي (8108) (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اللّه تعالى فتنة القبر) لأن من مات يومها أو ليلتها فقد انكشف له الغطاء لأن يومها لا تسجر فيه جهنم وتغلق أبوابها ولا يعمل سلطان النار ما يعمل في سائر الأيام فإذا قبض فيه عبد كان دليلاً لسعادته وحسن مآبه لأن يوم الجمعة هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة فيميز اللّه بين أحبابه وأعدائه ويومهم الذي يدعوهم إلى زيارته في دار عدن وما قبض مؤمن في هذا اليوم الذي أفيض فيه من عظائم الرحمة ما لا يحصى إلا لكتبه له السعادة والسيادة فلذلك يقيه فتنة القبر.
__________
(1) - في فضائل القرآن برقم (223و224) والمجمع 7/ 128 والترغيب 2/ 238 والدر 6/ 247 وهو حديث صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي.
(2) - 2/ 169 (6739) والترمذي (1095) والمجمع 2/ 319 والترغيب 4/ 173 إِثْبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ لِلْبَيْهَقِيِّ (135 - 138) وجامع الأصول 9/ 272 وهو حديث صحيح لغيره.
(1/333)
فالذي لا يسأل في قبره هو: الشهيد، الصديق، الميت بالطاعون والبِطن، المرابط في سبيل الله، من يقرأ سورة الملك، من يموت ليلة الجمعة أو يومها، والأنبياء من باب أولى .. (1)
وعَنْ قَيْسٍ (الجذامي)، أَنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ لِلْقَتِيلِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِتَّ خِصَالٍ، يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ خَطِيئَةٍ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وُيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُؤَمَّنُ الْفَزَعَ الأَكْبَرَ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ" (2)
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ حَدِيثٍ قَبْلَهُ، وَهُوَ هَذَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ , وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ , وَيُحَلَّى بِحُلْيَةِ الْإِيمَانِ , وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأَكْبَرَ , وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ , وَالْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا , وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ , وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. الشاميين (4)
وعَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ ذَنْبَهُ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تُصِيبُ الأَرْضَ مِنْ دَمِهِ , وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ , وَيُزَوَّجُ الْحُورَ الْعِينِ , وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ , وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَيُؤَمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ أوْ فَزِعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (5)
__________
(1) - انظر شرح الصدور 208 - 211
(2) - الآحاد والمثاني (2734) صحيح.
(3) - مسند أحمد (17645) ومسند الشاميين (1120) صحيح
(4) - مسند الشاميين (1163) صحيح
(5) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 5 / ص 330) (19815) صحيح لغيره
(1/334)
والمستجير بالله تعالى يوقى عذاب القبر وفتنته، فعَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالَتِهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» (1).
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهِرَمِ، وَالْمَأْثَمِ، وَالْمَغْرَمِ " (2)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ صَلَّى عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ، وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَأَعِذْهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، أَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ، اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (3)
والدليل أيضاً قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا مَأْثَمٌ، وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ " (4)
__________
(1) -صحيح البخارى (6376)
(2) -المستدرك للحاكم (1984) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 343) (3074) صحيح
(4) - المستدرك للحاكم (1816) صحيح
(1/335)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ إِذًا نُكْثِرَ. قَالَ «اللَّهُ أَكْثَرُ». (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - سنن الترمذى (3922) صحيح
(1/336)
المبحثُ الثالث والثلاثون
الترهيب من النياحة على الميت وغيرها
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» وفي رواية عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ - رضى الله عنه - جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَاأَخَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ» رواه البخاري ومسلم (1)
اختلف أهل العلم في معناه، فقال بعضهم: هو منسوخ، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. وقال آخرون: ليس منسوخاً وحملوه على ما إذا أوصاهم بذلك. وقال آخرون: معناه يتألم من فعلهم لأن البكاء لا يرد القدر.
اختلف أهل العلم في معناه، فقال بعضهم: هو منسوخ، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. وقال آخرون: ليس منسوخاً وحملوه على ما إذا أوصاهم بذلك. وقال آخرون: معناه يتألم من فعلهم لأن البكاء لا يرد القدر.
وقال ابن بطال رحمه الله في شرح البخاري:
اختلف أهل العلم فى معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعذب الميت ببكاء أهله عليه»، فقالت طائفة: معناه أن يوصى بذلك الميت، فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وإليه ذهب البخارى فى قوله: إذا كان النوح من سنته، يعنى أن يوصى بذلك، وهو قول أهل الظاهر، وأنكروا قول عائشة، وأخذوا بحديث عمر، وابن عمر، والمغيرة أن الميت يعذب بما نيح.
وقال آخرون: معناه أن يمدح الميت فى ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية من الفتكات والغارات والقدرة على الظلم، وغير ذلك من الأفعال التى هى عند الله ذنوب، فهم يبكون لفقدها ويمدحونه بها، وهو يعذب من أجلها.
__________
(1) - البخاري 2/ 102 (1287 و 1290 و1292) ومسلم في الجنائز 17 (927و932) ومالك (559) والترمذي (1022) ونص (1867) وش (12113 - 12126) وهو حديث صحيح مشهور.
(1/337)
وقال آخرون: معناه أن الميت ليعذب ويحزن ببكاء أهله عليه، ويسوؤه إتيان ما يكره ربه، واحتجوا بحديث قَيْلَةَ حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: بكيتُ ثم قلت: والله يا رسول الله، لقد ولدته حرامًا، فقاتل معك يوم الربذة، ثم ذهب يمترى لى من خيبر فأصابته حمى فمات. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تكونى مسكينة لجررناك اليوم على وجهك، أتُغلب إحداكن على أن تصاحب صويحبةَ فى الدنيا معروفًا، حتى إذا حال بينه وبينه من هو أولى به، استرجع، فقال: رب أثبنى بما أمضيت، وأعنى على ما أبقيت، والذى نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكى فتستعين إليه صويحبة، فيا عباد الله، لا تعذبوا أمواتكم».
قال الطبرى: والدليل على أن بكاء الحى على الميت تعذيب من الحى له، لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن جلاس بن عمرو، عن أبى هريرة، قال: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم: من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته هل تزوجت أم لا».
وروى محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: كان ابن عمر فى جنازة رافع بن خديج بين قامتى السرير، فقال: إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقال ابن عباس: إن الميت لا يعذب ببكاء الحى. وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو أمر مجتمع عليه، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام: 164].
وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء فمعناه النياحة عند العلماء، لأن الله تعالى أضحك وأبكى، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب». وقال الرسول لعمر إذ نهى النساء عن البكاء: «دعهن يا عمر، فإن النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب». ونهى عن النياحة، ولعن النائحة والمُشِقَّة، وهى عن شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعوى الجاهلية.
(1/338)
وفى حديث أسامة، وأنس فى هذا الباب جواز البكاء الخفيف بدمع العين، قال الشافعى: أرخص فى البكاء بلا ندبة، ولا نياحة، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زيد فى عذاب الكافر باستحقاقه لا بذنب غيره، لأنه إذا بُكى عليه بذكر فتكاته وغاراته فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يَعُدُّون ذلك من فضائله وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله، هذا معنى قول عائشة: إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وهو موافق لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وتصويب الشافعى لقول عائشة، وإنكارها على ابن عمر يشبه أن يكون مذهب مالك، لدلالة ما فى موطئه عليه لأنه ذكر حديث عائشة، ولم يذكر خلافه عن أحد.
وفي رواية عَنْ عَمْرَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ غَفَرَ اللَّهُ لأَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِىَ أَوْ أَخْطَأَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِى قَبْرِهَا». قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وعَنِ مُوسَى بْنَ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ وَاجَبَلاَهُ وَاسَيِّدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِه أَهَكَذَا كُنْتَ» رواه الترمذي (1)
وَاجَبَلاَهُ وَاسَيِّدَاهُ ونحو ذلك مِمَّا يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ - يَلْهَزَانِه يلهزانه": أى يضربانه ويدفعانه
وعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَإِذَا قَالَتْ: وَاعَضُدَاهُ وَامَانِعَاهُ وَانَاصِرَاهُ وَاكَاسِيَاهُ حَبَّذَا الْمَيِّتُ، فَقِيلَ أَنَاصِرُهَا أَنْتَ، أَكَاسِيهَا أَنْتَ، أَعَاضِدُهَا أَنْتَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فَقَالَ: وَيْحَكَ، أُحَدِّثُكَ، عَنْ أَبِي مُوسَى
__________
(1) - برقم (1019) وهـ (1662) وشرح السنة 5/ 444 وهو حديث حسن.
(1/339)
، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَقُولُ هَذَا؟ فَأَيُّنَا كَذَبَ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَمَا كَذَبَ أَبُو مُوسَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» رواه الحاكم (1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَةٌ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّه: شَقُّ الْجَيْبِ، وَالنِّيَاحَةُ، وَالطَّعْنُ فِي النَّسَبِ» رواه الحاكم (2)
من الكفر:أي من أفعال أهل الكفر باللهت شق الجيب: تمزيق الثوب غضباً وسخطاً.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لاَ تُصَلِّى الْمَلاَئِكَةُ عَلَى نَائِحَةٍ وَلاَ عَلَى مُرِنَّةٍ» رواه احمد في مسنده (3) - مرنة: مولولة.
وعَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «النِّيَاحَةُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَإِنَّ النَّائِحَةَ إِذَا مَاتَتْ وَلَمْ تَتُبْ قَطَعَ اللَّهُ لَهَا ثِيَابًا مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعًا مِنْ لَهَبِ النَّارِ». أخرجه ابن ماجه (4)
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ غَرِيبٌ وَفِى أَرْضِ غُرْبَةٍ لأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ. فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِى فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ «أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِى الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ». مَرَّتَيْنِ فَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ.» رواه مسلم (5)
وعَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمَّا جَاءَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ المبحثُ - شَقِّ المبحثُ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ «
__________
(1) - المستدرك للحاكم (3755) صحيح
(2) - في المستدرك 1/ 383 برقم (1415) والإحسان (1487) وصحيح الترغيب (3525) والصحيحة (412) وهو حديث صحيح.
(3) - 2/ 362 (8980) وع (6003) وطيا (2570) والمجمع 3/ 13 (4015) وإتحاف الخيرة (1985) وهو حديث حسن.
(4) - ابن ماجه (1648) وهو حديث صحيح ومسلم (934) بنحوه -والقطران النحاس المذاب.
(5) - في الجنائز ح 10 (922) وش (12117) وطب (19096) وهق (7360) -قَوْلهَا: (تُسْعِدنِي) أَيْ تُسَاعِدنِي فِي الْبُكَاء وَالنَّوْح.
(1/340)
فَاحْثُ فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ». فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْعَنَاءِ أخرجه البخاري (1) - فَاحْثُ أي: ارم
قال السيوطي في شرح النسائي: قوله (فَاحْثُ فِي أَفْوَاههنَّ التُّرَاب) يُؤْخَذ مِنْ هَذَا أَنَّ التَّأْدِيب يَكُون بِمِثْلِ هَذَا وَنَحْوه وَهَذَا إِرْشَاد عَظِيم قَلَّ مَنْ يَتَفَطَّن لَهُ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ». رواه البخاري ومسلم (2)
أي ليس على طريقنا الكاملة من لطم الخدود وبقوة وسخط ومزق ملابسه ونادى بألفاظ الندبة والاستغاثة الجاهلية .. وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا كَانَ فِي الْفَتْرَة قَبْل الْإِسْلَام
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الْخَامِشَةَ وَجْهَهَا وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ» رواه ابن ماجه (3) _قَوْله (الْخَامِشَة وَجْههَا) مِنْ خَمَشَ وَجْهه إِذَا قَشَرَ جَلْدَة مِنْ بَاب نَصَرَ وَتَخْصِيص الْمَرْأَة لِمَا تَقَدَّمَ وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد النَّفْس الْخَامِشَة فَيَشْمَل الذَّكَر وَالْأُنْثَى.
ــــــــــــ
__________
(1) - البخاري (1299و1305) ومسلم (935) وأبو داود (3122) نص 4/ 15 (1858) وحم (27118) وك (4349) وهق (7336)
(2) - البخاري 2/ 103 و 104 و 4/ 223 (1294 و1297و 1298 و 3519) ومسلم في الإيمان ح 165 (103)
(3) - ابن ماجه (1652) وش (11343) والصحيحة (2147) وشرح السنة 3/ 290 وهو حديث حسن.
(1/341)
المبحثُ الرابع والثلاثون
الترهيب من إحداد المرأة على غير زوجها فوق ثلاث
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلاَثَةَ قَالَتْ زَيْنَبُ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّىَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» رواه البخاري ومسلم
وعند أبي داود عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثَةِ قَالَتْ زَيْنَبُ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّىَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا». قَالَتْ زَيْنَبُ وَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّىَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِى بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا». قَالَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمِّى أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِى تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ «لاَ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّمَا هِىَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ». قَالَ حُمَيْدٌ فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّىَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلاَ شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ
(1/342)
فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَىْءٍ إِلاَّ مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِى بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْحِفْشُ بَيْتٌ صَغِيرٌ. (1)
الخلوق: طيب مركب من الزعفران وغيره من أنواع الطيب تغلب عليه الحمرة والصفرة
العارضان: جانبا الوجه وصفحتا الخدين، أي لا يجوز لها أن تحزن عليه وتلبس ثياب الحزن، وتترك الزينة أكثر من ثلاثة أيام، إلا إذا كان المتوفى زوجها فتحد أربعة أشهر وعشرة أيام، ما لم تكن حاملاً، فإذا كانت حاملاً فعدتها تنتهي بوضع الحمل كما هو رأي جمهور الفقهاء.
الإحداد وهو ترك الزينة بأنواعها طوال مدة العدة، ولكنه غير واجب على كل معتدة.
فالمعتدة من طلاق رجعي لا إحداد عليها بالاتفاق، لأن زوجيتها قائمة بل يستحب لها التزين لأنه قد يكون طريقاً إلى تجديد رغبة زوجها فيها فيراجعها.
أما المعتدة من وفاة فيجب عليها الإحداد باتفاق الفقهاء ومنهم الحنفية فيجب عليها ترك التزين بملبس جرى العرف الناس بأنه من ملابس الزينة، ولا تقييد فيه بلون خاص لأن العرف يختلف فيه من زمن لآخر ومن بلد لغيره، وترك الحلي بكافة أشكاله، والطيب والادهان والكحل والحناء، ولا تكتحل إلا لضرورة، فإن كان يكفي في دفعها الاكتحال ليلاً اقتصرت عليه وإلا وقفت عند ما يدفعها، ولا فرق في ذلك بين الزوجة الكبيرة والصغيرة والحامل وغير حامل، أما ضرورات الحياة من الاستحمام والتنظيف وتسريح الشعر فليست ممنوعة منها.
وإنما وجب عليها ذلك لما ورد من الأحاديث: منها ما رواه أبو داود بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة وعشرا"، ولأن في ترك الزينة قطعاً لأطماع الراغبين فيها حيث لا زوج يحميها ويمنع عنها هؤلاء، ولأن الزواج نعمة عظيمة وقد فاتت بوفاة زوج وفيّ حافظ عليها إلى آخر لحظة في حياته، وفوات النعم ووفاء الزوج يقتضيها ترك التزين
__________
(1) - البخاري 2/ 99 و 7/ 76 و 79 (1280 و1281 و5334و 5339 و 5345) ومسلم في الطلاق باب 9 ح (58 و 59 و 62 و 63 و 65 (1486و1487) وأبو داود (2301) وهوحديث مشهور.
(1/343)
إظهاراً للأسف على ما فات ومقابلة الوفاء بالوفاء، وفوق ذلك فهو أدب جميل تقره الفطرة السليمة ويحمده الناس.
والإحداد: لا يخلو من حق للشارع فيه حيث أمر به ليحفظ المعتدة من طمع الطامعين، ولذلك قرر الفقهاء أنه لا يستطيع أحد إسقاطه، فلو أوصاها زوجها قبل وفاته بعدم الحداد لم يكن لها تركه.
أما المعتدة من طلاق بائن:
فذهب الحنفية إلى أن عليها الإحداد، لأن من مقاصده إظهار الحزن والأسى على فوات نعمة الزواج الذي كان يصونها ويكفيها مؤونة الحياة فأشبهت معتدة الوفاة.
وذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا إحداد عليها، لأنه وجب في حالة الوفاة أسفاً لفراق زوج وفيّ بعهده لآخر لحظة من حياته، فأقل ما تكافئه به هو إظهار الحزن والأسف على فراقه، أما المطلق فقد أساء إليها وحرمها من نعمة الزواج فكيف نلزمها بالحزن عليه؟ (1)
ــــــــــــــ
__________
(1) - انظر:
http://www.islampedia.com/MIE2/ahkam/AHKAM15.html
http://www.baitona.net/forum/baitona2/bait5084-21/
http://r-khair.890m.com/fkhislami/a7kam15.php
(1/344)
المبحثُ الخامس والثلاثون
النهي عن أكل ما اليتيم بغير حق
عَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّى أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّى أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِى لاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ». رواه مسلم (1)
قال النووي رحمه الله: هَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَات، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عَنْ الْقِيَام بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَة، وَأَمَّا الْخِزْي وَالنَّدَامَة فَهُوَ حَقّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِل فِيهَا فَيُخْزِيه اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَفْضَحهُ، وَيَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَعَدَلَ فِيهَا، فَلَهُ فَضْل عَظِيم، تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَحَدِيثِ: " سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه " وَالْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا عَقِب هَذَا (أَنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور) وَغَيْر ذَلِكَ، وَإِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِد عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَر فِيهَا حَذَّرَهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا، وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاء، وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِق مِنْ السَّلَف، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِين اِمْتَنَعُوا.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ قَالَ «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ». رواه البخاري ومسلم (2)
وسميت الموبقات: لأنها تدخل صاحبها النار.
وما وجدت هذه الموبقات أو إحداها في مجتمع إلا دب إليه الفساد والتفكك والتنافر والبغضاء والكراهية.
__________
(1) - في الإمارة ح17 (1826) وأبو داود (2870) ونص6/ 255 (3682) ون (6461) وك (7017)
(2) - البخاري 4/ 212 و 8/ 20 و 249 و 9/ 76 (2766 و 5764 و 6857) ومسلم (89) وأبو داود (2876) ونص (3686) وهق (13042)
(1/345)
ولهذا شدد الإسلام في عقوبة من ارتكب شيئا من هذه الموبقات نظرا لما تسببه من فساد مادي ومعنوي للمجتمعات المسلمة.
ونظرا لأنها تصطدم بمقاصد الشريعة الإسلامية الأساسية، والتي اتفقت على صيانتها الأديان وأصحاب العقول السليمة.
فقد اتفقت دعوة الأنبياء على صيانة الدين والنفس والعقل والمال والعرض والنسب والمحافظة عليها، وارتكاب هذه الكبائر يتنافى مع صيانة هذه الكليات، كما أنه يتنافى مع تكريم الله تعالى للإنسان وتشريفه أن يعبد غير الله تعالى، فمن أشرك بالله تعالى وعبد غيره من المخلوقات فقد انحط عن مرتبة الإنسانية لأنه مخلوق لعبادة الله تعالى وحده، والكون كله مسخر لخدمته لكي يؤدي هذه المهمة العظيمة.
ومن أساسيات الدعوة الإسلامية إقامة مجتمع مسلم متماسك قوي يعبد الله تعالى وحده لا شريك له ويعمر أرض الله تعالى وفق شريعته كما قال سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه: .... اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ {هود: 61}. ولا يمكن إقامة هذا المجتمع إذا كانت تنخر في جسمه الكبائر والموبقات. والله أعلم.
والمقصود هنا أنه قد يموت الوالد وأولاده صغار، فيتولى أمرهم آخر وربما أكل مالهم بغير حق أو أساء التصرف فيه فجاءت النصوص الشرعية تحرم ذلك تحريماً قاطعاً، لكي لا تضيع حقوقهم.
ويكفي قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (10) سورة النساء
إن هذا المال. . نار. . وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود. هي النار من باطن وظاهر. هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود وحتى لتكاد تراها العيون وهي تشوي البطون والجلود!
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين. خلصتها من رواسب الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت
(1/346)
فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى. . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال!
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً}. . الآية. . انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى. قل: إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم. والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم. .} «الآية» فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر إلى ذلك الأفق الوضيء; وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب. (1)
ــــــــــــــــ
__________
(1) - انظر تفسير ابن كثير عند تفسير الآية (220) من سورة البقرة
(1/347)
المبحثُ السادس والثلاثون
الترغيب في زيارة القبور
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ زَارَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ».رواه مسلم (1)
فيه دليل على جواز البكاء على الميت ولا حرج في ذلك بشرط ألا يكون فيه نواح أو ما شابه ذلك، وليس ذلك من سخط الله، ولا ينافي القدر، وهو عاطفة بشرية فطرية في النفس الإنسانية تحدث عندما يفقد الإنسان من يحب.
وسبب عدم الإذن بالاستغفار لها، لأنها من أهل الفترة لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء، أي ماتت قبل الرسالة.
وفي حاشية السندي على ابن ماجة: قَوْله (فَبَكَى وَأَبْكَى إِلَخْ) كَأَنَّهُ أَخَذَ التَّرْجَمَة مِنَ الْمَنْع عَنِ الِاسْتِغْفَار أَوْ مِنْ مُجَرَّد أَنَّهُ الظَّاهِر عَلَى مُقْتَضَى وَجُودهَا فِي وَقْت الْجَاهِلِيَّة لَا مِنْ قَوْله فَبَكَى وَأَبْكَى إِذْ لَا يَلْزَم مِنَ الْبُكَاء عِنْد الْحُضُور فِي ذُلّك الْمَحَلّ الْعَذَاب أَوْ الْكُفْر بَلْ يُمْكِن تَحَقُّقه مَعَ النَّجَاة وَالْإِسْلَام أَيْضًا لَكِنْ مَنْ يَقُول بِنَجَاةِ الْوَالِدَيْنِ لَهُمْ ثَلَاثَة مُسَالك فِي ذَلِكَ مَسْلَك أَنَّهُمَا مَا بَلَغَتْهُمَا الدَّعْوَة وَلَا عَذَاب عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغهُ الدَّعْوَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء، فَلَعَلَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَك يَقُول فِي تَأْوِيل الْحَدِيث: إِنَّ الِاسْتِغْفَار فَرْع تَصَوُّر الذَّنْب وَذَلِكَ فِي أَوَان التَّكْلِيف وَلَا يُعْقَل ذُلّك فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ الدَّعْوَة فَلَا حَاجَة إِلَى الِاسْتِغْفَار لَهُمْ فَيُمْكِن أَنَّهُ مَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَار إِلَّا لِأَهْلِ الدَّعْوَة لَا لِغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا نَاجِينَ، وَأَمَّا مَنْ يَقُول بِأَنَّهُمَا أُحْيِيَا لَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَا بِهِ فَيَحْمِل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل الْإِخْبَار، وَأَمَّا مَنْ يَقُول بِمَنْعِ الِاسْتِغْفَار لَهُمَا قَطْعًا فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل فَاتَّضَحَ وَجْه الْحَدِيث عَلَى جَمِيع الْمَسَالِك.
قلت: حديث إحيائهما لا يصح من وجه، فلا حجَّة فيه.
__________
(1) - في الجنائز ح 108 (976) وابن ماجه (1639) وأحمد 2/ 441 (9939)
(1/348)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنِّى نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فَاشْرَبُوا وَلاَ أُحِلُّ مُسْكِراً وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَضَاحِىِّ فَكُلُوا». رواه أحمد (1)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِى الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ».رواه ابن ماجه (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. رواه الترمذي (3)
وقال الترمذي: قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِى رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ. اهـ
وحمله بعضهم على تحريم زيارتهن للمقابر مطلقاً، وحمله آخرون على ما إذا ارتكبن محذورات كلطم ونواح وتكشف، وأجازوه إذا خلا من المحذورات لعموم النصوص التي تحث على زيارة القبور، لأنها تذكر الآخرة، والنساء بحاجة لذلك كالرجال تماماً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَا مِنْ أَحَدٍ مَرَّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِلاَّ عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار (4)
وقال ابن كثير رحمه في تفسيره: وقد استدلت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، بهذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - 3/ 38 (11637) ونص 8/ 311 والمجمع 3/ 57 و58 (4299) وش (11808) وهو حديث صحيح.
(2) - برقم (1638) ونص 8/ 311 (5670) والبيهقي 2/ 76 (7444) و الحاكم 1/ 376 (1387 و1393) وحم (1249 و4407و23707و23719و23754) من طرق كثيرة وهو حديث صحيح مشهور
(3) - برقم (1076) وأبو داود (3236) والنسائي 4/ 95 و أحمد 1/ 229 و 287 (8673 و8676) وعب (6705) وطب (3511 و3512) وصحيح الترغيب (3545) وابن أبي شيبه 2/ 376 والبيهقي 2/ 78 وهو حديث صحيح لغيره
(4) - الفيض (8062) ودليل الفالحين (3583) والاستذكار 1/ 184 وهو حديث حسن
(1/349)
القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر: يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون". وتأولته عائشة على أنه قال: "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق"
وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [له]، عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام".
[وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم". ثم ذكر روايات عديدة قال عقبها: " وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية"، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد، والله أعلم] (1)
وعن أبي هريرة قال: قال أبو رزين: يا رسول الله إن طريقي على الموتى فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم؟ قال: «قل: السلام عليكم أهل القبور من المسلمين
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 324)
(1/350)
والمؤمنين، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، قال: أبو رزين يا رسول الله يسمعون؟ قال: «يسمعون ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا»، قال: «يا أبا رزين ألا ترضى أن يرد عليك بعددهم من الملائكة». ولا يعرف إلا بهذا اللفظ أخرجه العقيلي (1)
وقال ابن القيّم: وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل , ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد , والسّلف مجمعون على هذا , وقد تواترت الآثار بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.وجاء في فتاوى العزّ بن عبد السّلام: والظّاهر أنّ الميّت يعرف الزّائر , لأنّا أمرنا بالسّلام عليهم , والشّرع لا يأمر بخطاب من لا يسمع.
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِى الَّذِى دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِى فَأَضَعُ ثَوْبِى فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِى وَأَبِى فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَىَّ ثِيَابِى حَيَاءً مِنْ عُمَرَ. أخرجه أحمد (2)
وهذا يدل على ورعها وعمق إيمانها وحيائها من الله تعالى، هذه المرأة المصون هي التي أراد المنافقون أن يلطخوا سمعتها بإفكهم فنزل القرآن ببراءتها وعفتها، لذلك فمن وقع فيها أو اتهمها فإنما يتهم الله تعالى ويكذب النص القرآني القاطع - عافانا الله من ذلك، (3)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (1719) وفيه جهالة، وله شواهد بنحوه عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وبريدة انظرها في جامع الأصول 11/ 154 - 158
(2) - 6/ 202 (26408) والحاكم 3/ 61 (4402) والمجمع (12704) وهو حديث صحيح
(3) - راجع كتاب عائشة أم المؤمنين للأستاذ عبد الحميد طهماز ط دار القلم
(1/351)
المبحثُ السابع والثلاثون
الترهيب من المرور بقبور الظالمين
عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِ الْحِجْرِ «لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ».
وفي رواية أخرى عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ». رواه البخاري ومسلم (1)
مساكن ثمود: هم قبيلة أرسل الله إليها سيدنا صالح عليه السلام فكذبوه فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم.
أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، أي: خشية أن يقع بكم العذاب، وفيه الحث على المراقبة عند المرور بديار الظالمين ومواضع العذاب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قوله: إلا أن تكونوا باكين ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول بل دائماً عند كل جزء من الدخول، وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية ... ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمة بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك. والتفكر وأيضاً في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له، فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم فقد شابههم في
__________
(1) - البخاري 1/ 118 و 6/ 9 و 101 (433و3380 و 3381 و 4419 و 4420 و 4702 و6994) ومسلم (2980) وعبد الرزاق (1623و1624) وطب (13478) والبيهقي 2/ 451 (4542) وغيرهم.
(1/352)
الإهمال، ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل مثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهى (1)
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الحيطة من مصاحبة الظالمين وعدم الذهاب إلى أماكنهم، أو المرور منها، فكيف بمن يصاحبهم وكيف بمن يكون منهم؟ قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (113) سورة هود.
ـــــــــــــ
__________
(1) - فتح الباري لابن حجر - (ج 2 / ص 157)
(1/353)
المبحثُ الثامن والثلاثون
أحوال الموتى في قبورهم
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْشَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلا عِنْدَ الْقَبْرِ»
وفي رواية عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَلا مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» أخرجه الطبراني (1)
أي أن من قال لا إله إلا الله بإخلاص، وعمل بموجبها من طاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومعصية للشيطان، فهؤلاء لا وحشة عليهم، أما مجرد التلفظ بها دون فهم معناها والعمل بموجبه فلا ينفعه ذلك. (2)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ " أخرجه أبو يعلى (3)
وهذه الحياة البرزخية تختلف عن الحياة في الدنيا، ولا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وليس من إشكال في القول بحياة الأنبياء والشهداء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبلغه صلاتنا وسلامنا، وأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، فكل ذلك قد ثبت بالسنة الصحيحة، يجب التسليم به دون السؤال عن الكيفية فالله أعلم بها.
__________
(1) - برقم (457و460) وطس (11502و11533) وهب (95) والمجمع 10/ 333 (16807 و16808و18324) وإتحاف الخيرة (6118) وخيثمة ص 197 وأمالي ابن بشران (743) والبعث والنشور (78 و79) والمطالب العالية (3478) والترغيب 2/ 416 وابن كثير 5/ 583 و 6/ 537 وتاريخ جرجان 325 والخطيب 1/ 266 و 5/ 305 و 10/ 265 وابن عدي 4/ 1582 وهو حديث ضعيف وله طرق
(2) - راجع فتاوى الشبكة الإسلامية (5398)
(3) - برقم (3331) و مسند البزار (6888) والمجمع (13812) وإتحاف المهرة (6531) وحياة الأنبياء للبيهقي (1و2و3) والمطالب 2/ 269 والفتح 6/ 487والميزان (1933) والصحيحة (621) وهو حديث صحيح
(1/354)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لاَ يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى ضَرَبْتُ خِبَائِى عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لاَ أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «هِىَ الْمَانِعَةُ هِىَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». أخرجه الترمذي (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «نِمْتُ فَرَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَان (2) ِ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَذَاكَ الْبِرُّ كَذَاكَ الْبِرُّ». وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ أخرجه أحمد (3)
البر: اسم جامع لكل معاني الخير والإحسان والصدق والطاعة وحسن الصلة والمعاملة
وعَنِ أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه، فإنهم يتزاورون في قبورهم» أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (4)
أما كيف يتزاورون فلا ندري تفصيل ذلك، فالله أعلم.
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَرَزْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ». قَالَ فَانْتَهَى الرَّجُلُ إِلَيْنَا فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ». قَالَ مِنْ أَهْلِى وَوَلَدِى وَعَشِيرَتِى. قَالَ «فَأَيْنَ تُرِيدُ». قَالَ أُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ «فَقَدْ أَصَبْتَهُ».قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى مَا الإِيمَانُ. قَالَ «تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً
__________
(1) - برقم (3133) وطب (12630) ودلائل النبوة (2965) وإثبات عذاب القبر (129) ومختصر قيام الليل (184) والحاكم 2/ 498 وهو حديث ضعيف وصح منه المرفوع فقط، فأكثر من قراءتها لتنجيك من عذاب القبر.
(2) - وفي الاستيعاب: حارثة بن النعمان بن نفع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك ابن النجار الأنصاري يكنى أبا عبد الله شهد بدراً وأحد والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من فضلاء الصحابة ....
(3) - أحمد 6/ 152 (25926) والحاكم 4/ 151 (7247) ون (8176) والإحسان (7141) وهب (7606) وخلق أفعال العباد (246) وهو حديث صحيح.
(4) - برقم (164) ومسلم مختصرا برقم (2805) وابن ماجه (1474) والنسائي 4/ 33 والخطيب 4/ 160 و 6/ 80 والعقيلي 2/ 55 (581) وعب (6209) وهب (8965) والصحيحة (1425) وابن عدي 5/ 1760 وتاريخ أصفهان 2/ 346 وهو حديث صحيح لغيره.
(1/355)
رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ». قَالَ قَدْ أَقْرَرْتُ. قَالَ ثُمَّ إِنَّ بَعِيرَهُ دَخَلَتْ يَدُهُ فِى شَبَكَةِ جُرْذَانٍ فَهَوَى بَعِيرُهُ وَهَوَى الرَّجُلُ فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «عَلَىَّ بِالرَّجُلِ». قَالَ فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ فَأَقْعَدَاهُ فَقَالاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ الرَّجُلُ. قَالَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَمَا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِى عَنِ الرَّجُلِ فَإِنِّى رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِى فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعاً». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)». قَالَ ثُمَّ قَالَ «دُونَكُمْ أَخَاكُمْ». قَالَ فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ - قَالَ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ. قَالَ فَقَالَ «الْحَدُوا وَلاَ تَشُقُّوا فَإِنَّ اللَّحْدَ لَنَا وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا» رواه أحمد (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «رَأَيْتُ جَعْفَرًا (2) يَطِيرُ فِى الْجَنَّةِ مَعَ الْمَلاَئِكَةِ».أخرجه الترمذي (3)
قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: (4383) (رأيت جعفر بن أبي طالب) هو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي استشهد بمؤتة (ملكاً) أي على صورة ملك من الملائكة (يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين) سميا جناحين لأن الطائر يجنحهما عند الطيران أي يميلهما عنده ومنه {وإن جنحوا للسلم} وهذا قاله لولده لما جاء الخبر بقتله وفي رواية عوّضه اللّه جناحين عن قطع يديه وذلك أنه أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه فقتل. قال القاضي: لما بذل نفسه في سبيل اللّه وحارب أعداءه حتى قطعت يداه ورجلاه أعطاه
__________
(1) - 4/ 359 (19695) ومعرفة الصحابة (6566) والمجمع 1/ 42 (116) وتنزيه الشريعة 2/ 361 وهو حسن لغيره.
(2) - وهو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الصحابي الجليل وهو الذي استشهد بغزوة مؤتة وكان أحد قوادها الثلاث انظر الأعلام وسير أعلام النبلاء.
(3) - برقم (4130) وطب (1449و2609) والإحسان (7172) ومعرفة الصحابة (1341) والمجمع (15496) والحاكم 3/ 209 والصحيحة (1226) من طرق وهو حديث صحيح.
(1/356)
اللّه أجنحة روحانية يطير بها مع الملائكة ولعله رآه في المنام أو في بعض مكاشفاته اهـ. وقال السهيلي: ليسا كجناحي الطائر لأن الصورة الآدمية أشرف بل قوة روحانية وقد عبر القرآن عن العضو بالجناح توسعاً {واضمم يدك إلى جناحك} واعترض بأنه لا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة المعهود [ص 9] وهو قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف. (تتمة) قال في الإصابة: كان أبو هريرة يقول: إن جعفر أفضل الناس بعد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، ورد عنه بسند صحيح. اهـ
فالحياة التي أثبتتها هذه الأحاديث للموتى إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ويجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها، أو محاولة تكييفها وتشبيهها بما هو معروف عندنا في الدنيا (1).
ــــــــــــــ
__________
(1) - راجع السلسلة الصحيحة 2/ 190 - 191
(1/357)
المبحثُ التاسع والثلاثون
باب صفة الدفن
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا».أخرجه أبو داود (1)
وفي عون المعبود شرح سنن أبي داود: (وَالشَّقّ): بِفَتْحِ الشِّين أَنْ يَحْفِر وَسَط أَرْض الْقَبْر وَيَبْنِي حَافَّتَاهُ بِلَبِنٍ أَوْ غَيْره وَيُوضَع الْمَيِّت بَيْنهمَا وَيُسْقَف عَلَيْهِ (لِغَيْرِنَا): مِنْ الْأُمَم السَّابِقَة فَاللَّحْد مِنْ خُصُوصِيَّات هَذِهِ الْأُمَّة. وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَفْضَلِيَّة اللَّحْد، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْي عَنْ الشَّقّ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ. أَنَّ اللَّحْد آثَر لَنَا وَالشَّقّ لَهُمْ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى اِخْتِيَار اللَّحْد، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ الشَّقّ لَا الْمَنْع مِنْهُ لَكِنَّ مَحَلّ أَفْضَلِيَّة اللَّحْد فِي الْأَرْض الصُّلْبَة وَإِلَّا فَالشَّقّ أَفْضَل. قَالَ اِبْن تَيْمِيَّةَ، وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى مُخَالَفَتنَا لِأَهْلِ الْكِتَاب فِي كُلّ مَا هُوَ شِعَارهمْ
عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ شُكِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْجِرَاحَاتُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ «احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ فِى قَبْرٍ وَاحِدٍ وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا». فَمَاتَ أَبِى فَقُدِّمَ بَيْنَ يَدَىْ رَجُلَيْنِ أخرجه الترمذي (2)
وفي تحفة الأحوذي: (وَأَحْسِنُوا) أَيْ أَحْسِنُوا إِلَى الْمَيِّتِ فِي الدَّفْنِ، قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلْمَظْهَرِ أَيْ اِجْعَلُوا الْقَبْرَ حَسَنًا بِتَسْوِيَةِ قَعْرِهِ اِرْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ التُّرَابِ وَالْقَذَاةِ وَغَيْرِهِمَا. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَأَعْمِقُوا، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: أَعْمَقَ الْبِئْرَ جَعَلَهَا عَمِيقَةً، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إِعْمَاقِ الْقَبْرِ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْإِعْمَاقِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَامَةً. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِلَى السُّرَّةِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِإِعْمَاقِهِ. وَأَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: أَعْمِقُوا الْقَبْرَ إِلَى قَدْرِ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ قَالَهُ فِي النَّيْلِ
__________
(1) - برقم (32210) والترمذي (1063) ونص (2021) وهـ (1621) وحم (16676) وعب (6386) وطب (2269 - 2280) من طرق وهو حديث صحيح لغيره
(2) - برقم (1817) وأبو داود (3217) ونص (2023و2027و2028) وهـ (1627) وحم (16688) وغيرهم وهو صحيح
(1/358)
(وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ) بِالنَّصْبِ أَيْ مِنَ الْأَمْوَاتِ
(فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) فِيهِ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ كَمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ
(وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) أَيْ إِلَى جِدَارِ اللَّحْدِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُعَظَّمِ عِلْمًا وَعَمَلًا حَيًّا وَمَيِّتًا"
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ مَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَيُعْطِي زَكَاةَ مَالِهِ يَحْتَسِبُهَا، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ إِنَّ رَجُلا سَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ فَقَالَ: هُوَ تِسْعٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَفِرَارٌ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَاسْتِحْلالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، ثُمَّ قَالَ: لاَ يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلاءِ الْكَبَائِرَ، وَيُقِيمُ الصَّلاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إِلاَّ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَارٍ أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ مِنْ ذَهَبٍ» أخرجه الحاكم (1)
عَنْ أَبِي حَازِمٍ مَوْلَى الْغِفَارِيِّينَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَيَاضِيُّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَقُلِ الَّذِينَ يَضَعُونَهُ حِينَ يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ: بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الحاكم (2)
عن أبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ يَوْمًا فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِى كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ وَقُبِرَ لَيْلاً فَزَجَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ».أخرجه مسلم (3)
__________
(1) - برقم (6970) وأبو داود (2877) وتهذيب الآثار (1567) عن ابن عمر وهق (6970 و6971) حسن لغيره
(2) - برقم (1355) والإرواء (747) وهو صحيح
(3) - برقم (2805) ود (3150) وت (1011) ونص (1906)
(1/359)
قال النووي في شرح مسلم: وَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْقَبْر لَيْلًا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ فَقِيلَ: سَبَبه أَنَّ الدَّفْن نَهَارًا يَحْضُرهُ كَثِيرُونَ مِنْ النَّاس وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْضُرهُ فِي اللَّيْل إِلَّا أَفْرَاد. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ لِرَدَاءَةِ الْكَفَن فَلَا يَبِين فِي اللَّيْل، وَيُؤَيِّدهُ أَوَّل الْحَدِيث وَآخِره، قَالَ الْقَاضِي: الْعِلَّتَانِ صَحِيحَتَانِ، قَالَ: وَالظَّاهِر أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَدَهُمَا مَعًا، قَالَ: وَقَدْ قِيلَ هَذَا.
قَوْله - صلى الله عليه وسلم -: (إِلَّا أَنْ يَضْطَرّ إِنْسَان إِلَى ذَلِكَ) دَلِيل أَنَّهُ لَا بَأْس بِهِ فِي وَقْت الضَّرُورَة. وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الدَّفْن فِي اللَّيْل فَكَرِهَهُ الْحَسَن الْبَصْرِيّ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يُسْتَدَلّ لَهُ بِهِ وَقَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: لَا يُكْرَه، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف دُفِنُوا لَيْلًا مِنْ غَيْر إِنْكَار، وَبِحَدِيثِ الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَالرَّجُل الَّذِي كَانَ يَقُمّ الْمَسْجِد، فَتُوُفِّيَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، وَسَأَلَهُمْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ لَيْلًا فَدَفَنَّاهُ فِي اللَّيْل، فَقَالَ: " أَلَا آذَنْتُمُونِي؟ " قَالُوا: كَانَتْ ظُلْمَة، وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ. وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّهْي كَانَ لِتَرْكِ الصَّلَاة، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُجَرَّد الدَّفْن بِاللَّيْلِ، وَإِنَّمَا نَهَى لِتَرْكِ الصَّلَاة أَوْ لِقِلَّةِ الْمُصَلِّينَ أَوْ عَنْ إِسَاءَة الْكَفَن أَوْ عَنْ الْمَجْمُوع كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا الدَّفْن فِي الْأَوْقَات الْمَنْهِيّ عَنْ الصَّلَاة فِيهَا وَالصَّلَاة عَلَى الْمَيِّت فِيهَا. فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه: لَا يُكْرَهَانِ إِلَّا أَنْ يَتَعَمَّد التَّأْخِير إِلَى ذَلِكَ الْوَقْت لِغَيْرِ سَبَب، بِهِ قَالَ اِبْن عَبْد الْحَكَم الْمَالِكِيّ، وَقَالَ مَالِك: لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بَعْد الْإِسْفَار وَالِاصْفِرَار حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس أَوْ تَغِيب إِلَّا أَنْ يُخْشَى عَلَيْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: عِنْد الطُّلُوع وَالْغُرُوب وَنِصْف النَّهَار. وَكَرِهَ اللَّيْث الصَّلَاة عَلَيْهَا فِي جَمِيع أَوْقَات النَّهْي.
وَفِي الْحَدِيث: الْأَمْر بِإِحْسَانِ الْكَفَن. قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ الْمُرَاد بِإِحْسَانِهِ السَّرَف فِيهِ وَالْمُغَالَاة وَنَفَاسَته، وَإِنَّمَا الْمُرَاد: نَظَافَته وَنَقَاؤُهُ وَكَثَافَته وَسَتْره وَتَوَسُّطه، وَكَوْنه مِنْ جِنْس لِبَاسه فِي الْحَيَاة غَالِبًا، لَا أَفْخَر مِنْهُ وَلَا أَحْقَر.
(1/360)
عن خَلَفٌ يَعْنِى ابْنَ خَلِيفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يَقُولُ أَظُنُّهُ سَمِعَهُ مِنْ مَوْلاَهُ وَمَوْلاَهُ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ: لَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ فِى الْقَبْرِ نَزَعَ الأَخِلَّةَ بِفِيهِ. قَوْلُهُ أَظُنُّهُ أَحْسَبُهُ مِنْ قَوْلِ الدُّورِىِّ. أخرجه البيهقي في السنن (1)
وفي هذا الحديث استحباب حل العقد من عند رأسه ورجليه، لأن عقدها كان للخوف من انتشارها، وقد أمن ذلك بدفنه.
عَنْ سَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ أنه قَالَ فِى مَرَضِهِ الَّذِى هَلَكَ فِيهِ الْحَدُوا لِى لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَىَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم (2)
قال النووي رحمه الله: وَفِيهِ دَلِيل لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرِينَ فِي أَنَّ الدَّفْن فِي اللَّحْد أَفْضَل مِنْ الشَّقّ إِذَا أَمْكَنَ اللَّحْد، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَاز اللَّحْد وَالشَّقّ.
قَوْله: (اِلْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِن نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -)
فِيهِ: اِسْتِحْبَاب اللَّحْد وَنَصْب اللَّبِن، وَأَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ عَدَد لَبِنَاته - صلى الله عليه وسلم - تِسْع.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلاَثًا. أخرجه ابن ماجة (3)
وفي هذا الحديث يستحب لمن الدفن عند القبر أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيديه جميعا بعد الفراغ من سد اللحد
وعَنِ الْقَاسِمِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا أُمَّهْ اكْشِفِى لِى عَنْ قَبْرِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ رضى الله عنهما فَكَشَفَتْ لِى عَنْ ثَلاَثَةِ قُبُورٍ لاَ مُشْرِفَةٍ وَلاَ لاَطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ قَالَ أَبُو عَلِىٍّ يُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُقَدَّمٌ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعُمَرُ عِنْدَ رِجْلَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه أبو داود (4)
__________
(1) - برقم (6961) والضعيفة (1763) والصواب أنه مرسل
(2) - برقم (966)
(3) - برقم (1632) وطب (64) وهو حديث صحيح
(4) - برقم (3222) والحاكم (1368) وهق (7006) وفيه ضعف
(1/361)
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ كَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَة قُبُور لَا مُرْتَفِعَة وَلَا مُنْخَفِضَة لَاصِقَة بِالْأَرْضِ مَبْسُوطَة مُسَوَّاة، وَالْبَطْح أَنْ يُجْعَل مَا اِرْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض مُسَطَّحًا حَتَّى يُسَوَّى وَيَذْهَب التَّفَاوُت كَذَا فِي الْمِرْقَاة. قَالَ السَّيِّد جَمَال الدِّين: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَال مَعْنَاهُ أُلْقِيَ فِيهَا بَطْحَاء الْعَرْصَة الْحَمْرَاء اِنْتَهَى. وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْر النَّجَّاد مِنْ طَرِيق جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رُفِعَ قَبْره مِنْ الْأَرْض شِبْرًا وَطُيِّنَ بِطِينٍ أَحْمَر مِنْ الْعَرْصَة اِنْتَهَى.
وعَنِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ أَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ - قَالَ كَثِيرٌ قَالَ الْمُطَّلِبُ قَالَ الَّذِى يُخْبِرُنِى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ «أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِى وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِى». أخرجه أبو داود (1)
تَعْلِيمُ الْقَبْرِ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ (2):
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْلِيمِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ الْقَبْرِ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِهِ، فَدُفِنَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إلَيْهَا رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَحَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَال: أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي" (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَعْلِيمُ الْقَبْرِ بِأَنْ يُوضَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ وَنَحْوُهُمَا، قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ (4)
__________
(1) - برقم (3208) وهو حديث حسن
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 251) فما بعدها
(3) - سنن أبى داود (3208) حسن
(4) - حاشية ابن عابدين 1/ 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 425، وروضة الطالبين 2/ 136، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 1/ 351، وكشاف القناع 2/ 138، 139.
(1/362)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ مُطْلَقًا لحديث جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. (1)
ولِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ جَابِرٍ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ. (2)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنْ بُوهِيَ بِهَا حَرُمَ.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: النَّقْشُ مَكْرُوهٌ وَلَوْ قُرْآنًا، وَيَنْبَغِي الْحُرْمَةُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى امْتِهَانِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالسُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ إنِ احْتِيجَ إلَيْهَا حَتَّى لاَ يَذْهَبَ الأَْثَرُ وَلاَ يُمْتَهَنَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا وَإِنْ صَحَّ فَقَدْ وُجِدَ الإِْجْمَاعُ الْعَمَلِيُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّهْيَ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ قَال هَذِهِ الأَْسَانِيدُ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ الْعَمَل عَلَيْهَا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَيُتَقَوَّى بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَمَل حَجَرًا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَال: أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي " فَإِنَّ الْكِتَابَةَ طَرِيقٌ إلَى تَعَرُّفِ الْقَبْرِ بِهَا، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّ مَحَل هَذَا الإِْجْمَاعِ الْعَمَلِيِّ عَلَى الرُّخْصَةِ فِيهَا مَا إذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى يُكْرَهَ كِتَابَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الشِّعْرِ أَوْ إطْرَاءُ مَدْحٍ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (3)
وعَنْ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدًا وَرَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً. أخرجه ابن ماجة (4)
ولا بأس يرش الماء على القبر ليثبت ترابه، وأما وضع الميت على سطح الأرض وعمل بناء عليه، فإنه مخالف لتعاليم الإسلام فالواجب الرجوع إلى السنَّة في دفن موتى المسلمين،
__________
(1) - صحيح مسلم (2289)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 335) (11864) صحيح
(3) - حاشية ابن عابدين 1/ 601 - 602، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 425، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلي 1/ 350، وروضة الطالبين 2/ 136، وكشاف القناع 2/ 140.
(4) - برقم (1618) وفيه ضعف
(1/363)
والله الموفق لما فيه صلاح العباد والبلاد. وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ أخرجه البغوي في شرح السنة (1)
تَطْيِينُ الْقَبْرِ وَتَجْصِيصُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ (2):
صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُرَشَّ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ مَاءٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذَلِكَ بِقَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ (3)، وَأَمَرَ بِهِ فِي قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ (4)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَيْهِ حَصًى صِغَارٌ، لِمَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ (5)، وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَثْبَتُ لَهُ وَأَبْعَدُ لِدُرُوسِهِ، وَأَمْنَعُ لِتُرَابِهِ مِنْ أَنْ تُذْهِبَهُ الرِّيَاحُ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْرُمُ رَشُّهُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَيُكْرَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ (6)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْيِينِ الْقَبْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُخْتَارِ - وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَطْيِينِ الْقَبْرِ، وَنَقَل التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالتَّطْيِينِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. وَدَلِيل الْجَوَازِ قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي وَصْفِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ " مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ"
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى كَرَاهَةِ تَطْيِينِ الْقَبْرِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: أَكْثَرُ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَطْيِينِهِ مِنْ فَوْقٍ، وَنَقَل ابْنُ عَاشِرٍ عَنْ شَيْخِهِ أَنَّهُ يَشْمَل تَطْيِينَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (7).
ــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (1478) وطس (6325) والتلخيص (793) صحيح مرسل
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 32 / ص 249)
(3) - أخرجه ابن ماجه (1/ 495)، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 274)
(4) - أخرجه البزار، (كشف الأستار 1/ 397)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 45 (4249): " رجاله موثقون إلا أن شيخ البزار محمد بن عبد الله لم أعرفه "
(5) - أخرجه الهيثمي (3/ 411) معضلاً.
(6) - حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/ 601، وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى 1/ 351، وروضة الطالبين 2/ 136، وكشاف القناع 2/ 138.
(7) - حاشية ابن عابدين 1/ 601، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ 424، وحاشية القليوبي 1/ 350، وروضة الطالبين 2/ 136، وكشاف القناع 2/ 138.
(1/364)
المبحثُ الأربعون
الترهيب من الجلوس على القبر وكسر عظم الميت أو نبشه إلا لضرورة
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ». رواه مسلم (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لأَنْ أَمْشِىَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ أَخْصِفَ نَعْلِى بِرِجْلِى أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَمْشِىَ عَلَى قَبْرِ مُسْلِمٍ وَمَا أُبَالِى أَوَسَطَ الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِى أَوْ وَسَطَ السُّوقِ». رواه ابن ماجه (2)
وعَنِ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ، قَالَ: انْزِلْ مِنَ الْقَبْرِ لاَ تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْر (3) ِ وَلا يُؤْذِيكَ (4)» رواه الحاكم (5)
وعَنِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا». رواه أبو داود (6)
أي لا يجوز الجلوس على القبر أو المرور فوقه أو كسر عظمه إذا كان مسلماً ومن فعل ذلك عاقبه الله تعالى. (7)
نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى لِضَرُورَةٍ (8):
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْقَبْرِ قَبْل الْبِلَى إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ أَوْ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ، وَمِنْ هَذِهِ الأَْغْرَاضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقٍ مَالِيَّةٍ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْمَيِّتِ نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَكَانِ الْقَبْرِ (9)
__________
(1) - في الجنائز باب 33 (971) وأبو داود (3230) ونص (2056) وابن ماجه (1633)
(2) - برقم (1634) وصحيح الجامع (5038) وهو حديث صحيح.
(3) - بالجلوس على قبره لإهانته.
(4) - يسبب لك عذاب الله في الآخرة بسبب هذا الجلوس.
(5) - برقم (6502) ومعرفة (4436) والفتح 3/ 225 وصحح إسناده والصحية (2960) وهو حديث صحيح
(6) - برقم (3209) وابن ماجه (1684) وأحمد 6/ 105 (25476) والبيهقي 4/ 508 (7330) والإحسان (3234) وهو حديث صحيح.
(7) - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - (1/ 458) والفقه الإسلامي وأدلته - (2/ 668)
(8) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (40/ 25)
(9) - حاشية ابن عابدين 1/ 602، وجواهر الإكليل 1/ 117، ومغني المحتاج 1/ 366، والمغني لابن قدامة 2/ 552، 553، والمجموع للنووي 5/ 303.
(1/366)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ وَقَعَ فِيهِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مَالٌ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْقَبْرِ وَدُفِنَ مَعَ الْمَيِّتِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخْرِجَ الْمَال، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْمَال الَّذِي يُنْبَشُ الْقَبْرُ مِنْ أَجْل اسْتِخْرَاجِهِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ، بَل يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً، وَلَوْ دِرْهَمًا كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، أَوْ خَاتَمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ هَذَا النَّبْشِ، هَل هُوَ وَاجِبٌ أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ أَمْ لاَ؟
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ - فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْمَال فِيهِ - وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ، وَإِنْ كَانَ الْمَال مِنَ التَّرِكَةِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، مَا لَمْ يُسَامِحْ مَالِكُهُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالِكُ ذَلِكَ حَرُمَ النَّبْشُ كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ اعْتِمَادُهُ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَنِ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: مَا لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مِمَّنْ يُحْتَاطُ لَهُ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ الْعَبَّادِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ النَّبْشُ سَوَاءٌ طَلَبَ مَالِكِهِ أَمْ لاَ، وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ (2).
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ يُخْرَجُ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ إِلاَّ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَمَا إِذَا سَقَطَ فِي الْقَبْرِ مَتَاعٌ، أَوْ كُفِّنَ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ، أَوْ دُفِنَ مَعَهُ مَالٌ وَلَوْ كَانَ الْمَال دِرْهَمًا (3).
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 1/ 602، وجواهر الإكليل 1/ 117، ومغني المحتاج 1/ 366، والمجموع للنووي 5/ 300 - 303، والمغني لابن قدامة 2/ 553، وكشاف القناع 2/ 145.
(2) - المجموع للنووي 5/ 300 - 303، وتحفة المحتاج مع الحاشيتين 3/ 204، ومغني المحتاج 1/ 366.
(3) - حاشية ابن عابدين 1/ 602، وفتح القدير 2/ 101.
(1/367)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يُنْبَشُ الْقَبْرُ مِنْ أَجْلِهَا إِذَا نُسِيَ مَعَهُ مَالٌ نَحْوُ ثَوْبٍ أَوْ خَاتَمٍ أَوْ دَنَانِيرَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَال لِغَيْرِ الْمَيِّتِ أُخْرِجَ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أُخْرِجَ إِنْ كَانَ نَفِيسًا وَلَمْ يُسَامِحْ فِيهِ الْوَرَثَةُ (1).
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ نَبْشِ الْقَبْرِ عَدَمَ تَغَيُّرِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ أُجْبِرَ غَيْرُ الْوَارِثِ عَلَى أَخْذِ عِوَضِهِ وَلاَ شَيْءَ لِوَارِثِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ لِلْوَارِثِ إِذَا كَانَ الْمَال غَيْرَ نَفِيسٍ، أَيْ غَيْرَ ذِي بَالٍ (2).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ وَقَعَ فِي الْقَبْرِ مَالٌ لَهُ قِيمَةٌ عُرْفًا أَوْ رَمَاهُ رَبُّهُ فِيهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَأُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي أَخْذِهِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي لَحْدِهِ أَلْقَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ خَاتَمَهُ فِي الْقَبْرِ، ثُمَّ قَالَ: خَاتَمِي خَاتَمِي فَقَالُوا: ادْخُلْ فَخُذْهُ فَدَخَلَ ثُمَّ، قَالَ: " أَهِيلُوا عَلَيَّ التُّرَابَ "، فَأَهَالُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ حَتَّى بَلَغَ أَنْصَافَ سَاقَيْهِ، فَخَرَجَ , فَلَمَّا سُوِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: " اخْرُجُوا حَتَّى أُغْلِقَ الْبَابَ، فَإِنِّي أَحْدَثُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "، فَقَالُوا: لَعَمْرِي لَئِنْ كُنْتَ أَرَدْتَهَا لَقَدْ أَصَبْتَهَا " (3)، وَقَال أَحْمَدُ: إِذَا نَسِيَ الْحَفَّارُ مِسْحَاتَهُ فِي الْقَبْرِ جَازَ أَنْ يُنْبَشَ (4).
نَبْشُ الْقَبْرِ مِنْ أَجْل مَالٍ بَلَعَهُ الْمَيِّتُ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ بَلَعَ مَال غَيْرِهِ وَلاَ مَال لَهُ وَمَاتَ هَل يُشَقُّ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَال حُرْمَةِ الأَْعْلَى وَهُوَ الآْدَمِيُّ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الأَْدْنَى وَهُوَ الْمَال؛ وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوِ ابْتَلَعَ الْمَال إِذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلاَتِ اتِّفَاقًا فَكَذَا مَيِّتًا.
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي؛ وَلأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَةُ الآْدَمِيِّ أَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ صِيَانَةِ الْمَال لَكِنَّهُ أَزَال احْتِرَامَهُ بِتَعَدِّيهِ، قَالُوا: وَهَذَا الْقَوْل أَوْلَى، وَلَوْ تَرَكَ مَالاً فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا بَلَعَهُ، وَلاَ يُشَقُّ
__________
(1) - جواهر الإكليل 1/ 117، والخرشي وبهامشه حاشية العدوي 2/ 144 - 145.
(2) - جواهر الإكليل 1/ 117، والخرشي مع حاشية العدوي 2/ 144 - 145.
(3) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (2190) صحيح مرسل
(4) - كشاف القناع 2/ 145.
(1/368)
بَطْنُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ فِي جَوْفِهِ مَالٌ لِغَيْرِهِ بِلاَ تَعَدٍّ مِنْهُ لاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ اتِّفَاقًا، كَمَا لاَ يُشَقُّ الْحَيُّ مُطْلَقًا لإِِفْضَائِهِ إِلَى الْهَلاَكِ لاَ لِمُجَرَّدِ الاِحْتِرَامِ (1).
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ شِقِّ بِطْنِ الْمُبْتَلِعِ يَخْتَلِفُ قَبْل الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ، أَمْ يَسْتَوِي فِيهِ الأَْمْرَانِ، وَالأَْقْرَبُ إِلَى مَفْهُومِ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ أَيْ يُشَقُّ بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال الْمَبْلُوعِ حَتَّى بَعْدَ دَفْنِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ نَبْشِ قَبْرِهِ لِهَذَا الْغَرَضِ كَمَا لَوْ دُفِنَ مَعَهُ الْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُ الْمَيِّتِ عَنْ مَالٍ ابْتَلَعَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَاتَ وَهُوَ فِي بَطْنِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذَا كَثُرَ فَبَلَغَ نِصَابَ زَكَاةٍ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ (2).
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ بَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْمَال نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ مَا ابْتَلَعَهُ مَال نَفْسِهِ فَرَجَّحَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ لإِِخْرَاجِ الْمَال لأَِنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ فِي حَال حَيَاتِهِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا بَلَعَ مَال نَفْسِهِ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ بَطْنُهُ لاِسْتِخْرَاجِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ كَمَال الأَْجْنَبِيِّ (3).
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَال الَّذِي ابْتَلَعَهُ لِغَيْرِهِ فَمَاتَ وَدُفِنَ، وَطَلَبَهُ مَالِكُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ بَدَلَهُ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ، وَيُشَقُّ جَوْفُهُ وُجُوبًا لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال ثُمَّ يُدْفَعُ لِمَالِكِهِ، أَمَّا إِذَا ضَمِنَهُ أَحَدٌ مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ دُفِعَ لِصَاحِبِ الْمَال بَدَلُهُ فَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ نَبْشُهُ وَشَقُّ جَوْفِهِ؛ لِقِيَام بَدَلِهِ مَقَامَهُ، وَصَوْنًا لِلْمَيِّتِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطْلُبْ صَاحِبُ الْمَال مَالَهُ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَلاَ يُشَقُّ بَطْنُهُ، بَل يَجِبُ قِيمَةُ الْمَال الْمَبْلُوعِ فِي تَرِكَتِهِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا " (4)، قَالُوا: وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 1/ 602، وفتح القدير 2/ 102 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) - جواهر الإكليل 1/ 117.
(3) - تحفة المحتاج 3/ 204، وقليوبي وعميرة 1/ 352، والمجموع للنووي 5/ 300، 303، ومغني المحتاج 1/ 366.
(4) - مر تخريجه
(1/369)
كَسْرَ الْعَظْمِ وَشَقَّ الْجَوْفِ فِي الْحَيَاةِ لاَ يَجُوزُ لاِسْتِخْرَاجِ جَوْهَرَةٍ وَغَيْرِهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ (1).
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا بَلَعَ مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَقِيَتْ مَالِيَّتُهُ كَخَاتَمٍ مَثَلاً وَطَلَبَهُ رَبُّهُ لَمْ يُنْبَشْ وَغُرِّمَ ذَلِكَ مِنْ تَرِكَتِهِ؛ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ غُرْمُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ الْمَيِّتُ؛ لِعَدَمِ تَرِكَةٍ وَنَحْوِهِ نُبِشَ الْقَبْرُ وَشُقَّ جَوْفُهُ وَأُخِذَ الْمَال، فَدُفِعَ لِرَبِّهِ وَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ وَارِثٌ أَوْ غَيْرُهُ بِبَذْل قِيمَةِ الْمَال لِرَبِّهِ، وَإِلاَّ فَلاَ يُنْبَشُ صَوْنًا لِحُرْمَتِهِ مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْمَال، وَإِنْ بَلَعَ مَال الْغَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِ فَلاَ يُضْمَنُ الْمَال الَّذِي بَلَعَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ طَلَبَ لِرَبِّهِ عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُتَعَرَّضُ لِلْمَيِّتِ بِنَبْشٍ أَوْ شَقٍّ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ مَالِكَ الْمَال هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى مَالِهِ بِالإِْذْنِ لَهُ فَهُوَ كَمَالِهِ (2).
أَمَّا إِذَا بَلِيَ جَسَدُهُ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَال وَظُهُورُهُ وَتَخَلُّصُهُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ نَبْشُهُ وَإِخْرَاجُ الْمَال مِنَ الْقَبْرِ وَدَفْعُهُ إِلَى صَاحِبِهِ؛ فعَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِى بُجَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «هَذَا قَبْرُ أَبِى رِغَالٍ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِى أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ». فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. " (3)، وَلأَِنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لِلْمَال (4)
__________
(1) - تحفة المحتاج 3/ 204، وقليوبي وعميرة 1/ 352، والمجموع للنووي 5/ 300 - 303، ومغني المحتاج 1/ 366.
(2) - كشاف القناع 2/ 145 - 146.
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (3090) ضعيف
(4) - كشاف القناع 2/ 145 - 146، والمغني لابن قدامة 2/ 552.
(1/370)
وَإِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ لَمْ يُنْبَشْ قَبْرُهُ قَبْل أَنْ يَبْلَى جَسَدُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِهْلاَكٌ لِمَال نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُنْبَشُ قَبْرُهُ وَيُشَقُّ جَوْفُهُ فَيُخْرَجُ الْمَال وَيُوَفَّى مِنْهُ دَيْنُهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ (1).
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل - إِنْ بَلَعَ مَال نَفْسِهِ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا تُرِكَ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ؛ لأَِنَّ فِيهِ حِفْظَ الْمَال مِنَ الضَّيَاعِ وَنَفْعَ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ (2).
__________
(1) - كشاف القناع 2/ 146.
(2) - المغني لابن قدامة 2/ 552.
(1/371)
المبحثُ الواحد والأربعون
النهي عن تجصيص القبر ورفعه والصلاة إليه
عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا» وفي رواية عَنْ أَبِى مَرْثَدٍ الْغَنَوِىِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «لاَ تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلاَ تَجْلِسُوا عَلَيْهَا». أخرجه مسلم في صحيحه (1)
فِيهِ تَصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاة إِلَى قَبْر. قَالَ الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه -: وَأَكْرَه أَنْ يُعَظَّم مَخْلُوق حَتَّى يُجْعَل قَبْره مَسْجِدًا مَخَافَة الْفِتْنَة عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ بَعْده مِنْ النَّاس. (2)
وعَنْ أَبِى الْهَيَّاجِ الأَسَدِىِّ قَالَ قَالَ لِى عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ أَلاَّ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ. أخرجه مسلم (3)
وقال النووي رحمه الله: (أَلَّا تَدَع تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْته) فِيهِ الْأَمْر بِتَغْيِيرِ صُوَر ذَوَات الْأَرْوَاح
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. أخرجه مسلم (4)
قال النووي رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيث كَرَاهَة تَجْصِيص الْقَبْر وَالْبِنَاء عَلَيْهِ وَتَحْرِيم الْقُعُود، وَالْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس عَلَيْهِ. هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء، وَقَالَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ: الْمُرَاد بِالْقُعُودِ الْجُلُوس، وَمِمَّا يُوَضِّحهُ الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة بَعْد هَذَا: (لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُور). وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (لَأَنْ يَجْلِس أَحَدكُمْ عَلَى جَمْرَة فَتَحْرِقُ ثِيَابه فَتَخْلُص إِلَى جِلْده خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِس عَلَى قَبْر) قَالَ أَصْحَابنَا: تَجْصِيص الْقَبْر مَكْرُوه، وَالْقُعُود عَلَيْهِ حَرَام، وَكَذَا الِاسْتِنَاد إِلَيْهِ وَالِاتِّكَاء عَلَيْهِ.
__________
(1) - صحيح مسلم (2295)
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 394)
(3) - برقم (969) وأحمد (752)
(4) - برقم (970) وعب (9489) وش (11763)
(1/372)
وَأَمَّا الْبِنَاء عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِي مِلْك الْبَانِي فَمَكْرُوه، وَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَة مُسَبَّلَة فَحَرَام. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيّ وَالْأَصْحَاب. قَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْأُمّ: وَرَأَيْت الْأَئِمَّة بِمَكَّة يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى، وَيُؤَيِّدُ الْهَدْمَ قَوْلُهُ: (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْته).
وفي الموسوعة الفقهية (1):
" يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ كَانَ يَمْلِكُهَا الْمَيِّتُ، أَوْ أَرْضٍ مَوَاتٍ بِلاَ قَصْدِ مُبَاهَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ حَرُمَ الْبِنَاءُ، وَيُهْدَمُ إِنْ بُنِيَ؛ لأَِنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا. (2)
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ، فَفِي الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - قَال فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (3)
ــــــــــــــ
__________
(1) -الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 8 / ص 211)
(2) - مغني المحتاج 1/ 364، وبلغة السالك 1/ 427.
(3) - صحيح البخارى (1330) ومسلم (1212)
قَوْله (مَسَاجِد) أَيْ قِبْلَة لِلصَّلَاةِ يُصَلُّونَ إِلَيْهَا أَوْ بَنَوْا مَسَاجِدَ عَلَيْهَا يُصَلُّونَ فِيهَا وَلَعَلَّ وَجْهَ الْكَرَاهَة أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى عِبَادَة نَفْس الْقَبْر سِيَّمَا فِي الْأَنْبِيَاء وَالْأَحْبَار. شرح سنن النسائي - (ج 3 / ص 284)
(1/373)
المبحثُ الثاني والأربعون
الحث على تعزية المسلم
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ». رواه الترمذي (1)
لذا تستحب التعزية لأنها نوع من المواساة وفيها موعظة وعبرة، وتسلية لأهل الميت عن مصابهم.
وعن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ، إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». أخرجه ابن ماجة (2)
التَّعْزِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَزَّى: إِِذَا صَبَّرَ الْمُصَابَ وَوَاسَاهُ وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: هِيَ الأَْمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْل عَلَيْهِ بِوَعْدِ الأَْجْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوِزْرِ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ (3)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْزِيَةِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ. وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا: خَبَرُ: مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْل أَجْرِهِ.
وَخَبَرِ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَل الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
كَيْفِيَّةُ التَّعْزِيَةِ وَلِمَنْ تَكُونُ:
يُعَزَّى أَهْل الْمُصِيبَةِ، كِبَارُهُمْ وَصِغَارُهُمْ، ذُكُورُهُمْ وَإِِنَاثُهُمْ، إِلاَّ الصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَالشَّابَّةُ مِنَ النِّسَاءِ، فَلاَ يُعَزِّيهَا إِلاَّ النِّسَاءُ وَمَحَارِمُهَا، خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ. وَنَقَل ابْنُ
__________
(1) - برقم (1094) وابن ماجه (1670) وابن عدي 5/ 1838 و 6/ 2113 والحلية 7/ 164 والخطيب 4/ 25 و 11/ 451 والبيهقي 4/ 95 وشرح السنة 5/ 458 وهو حسن لغيره،
(2) - برقم (1669) حسن لغيره
(3) - أسنى المطالب 1/ 334، ومغني المحتاج 1/ 355، وحاشية الدسوقي 1/ 419، وحاشية ابن عابدين 1/ 603.
(1/374)
عَابِدِينَ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: تُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يُفْتِنَّ. وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَنُدِبَ تَعْزِيَةٌ لأَِهْل الْمَيِّتِ إِلاَّ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ (1)
مُدَّةُ التَّعْزِيَةِ:
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ مُدَّةَ التَّعْزِيَةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِِذْنِ الشَّارِعِ فِي الإِِْحْدَادِ فِي الثَّلاَثِ فَقَطْ، بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (2)، وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا سُكُونُ قَلْبِ الْمُصَابِ، وَالْغَالِبُ سُكُونُهُ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ، فَلاَ يُجَدَّدُ لَهُ الْحُزْنُ بِالتَّعْزِيَةِ، إِلاَّ إِِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا (الْمُعَزَّى أَوِ الْمُعَزِّي) غَائِبًا، فَلَمْ يَحْضُرْ إِلاَّ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ، فَإِِنَّهُ يُعَزِّيهِ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ.
وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ أَمَدَ لِلتَّعْزِيَةِ، بَل تَبْقَى بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ الدُّعَاءُ، وَالْحَمْل عَلَى الصَّبْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ يَحْصُل عَلَى طُول الزَّمَانِ.
وَقْتُ التَّعْزِيَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِِلَى أَنَّ الأَْفْضَل فِي التَّعْزِيَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الدَّفْنِ؛ لأَِنَّ أَهْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ مَشْغُولُونَ بِتَجْهِيزِهِ؛ وَلأَِنَّ وَحْشَتَهُمْ بَعْدَ دَفْنِهِ لِفِرَاقِهِ أَكْثَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَوْلَى بِالتَّعْزِيَةِ.
وَقَال جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ شِدَّةُ جَزَعٍ قَبْل الدَّفْنِ، فَتُعَجَّل التَّعْزِيَةُ، لِيَذْهَبَ جَزَعُهُمْ أَوْ يَخِفَّ. وَحُكِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ تُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الدَّفْنِ (3)
مَكَانُ التَّعْزِيَةِ:
كَرِهَ الْفُقَهَاءُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ. وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ، بِأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْل الْمَيِّتِ فِي مَكَان لِيَأْتِيَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لأَِنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ
__________
(1) - مغني المحتاج 1/ 354، 355، والمغني 2/ 543 - 545، وحاشية الدسوقي 1/ 419، 603، وحاشية ابن عابدين 1/ 603 - 604.
(2) - أخرجه البخاري (الفتح 3/ 146 ط السلفية) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها. وصحيح مسلم (3798)
(3) - المجموع 5/ 306.
(1/375)
يُجَدِّدُ الْحُزْنَ. وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ عَلَى بَابِ الدَّارِ، إِِذَا اشْتَمَل عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، كَفَرْشِ الْبُسُطِ وَالأَْطْعِمَةِ مِنْ أَهْل الْمَيِّتِ.
وَنَقَل الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ شَرْحِ السَّيِّدِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لَهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِِلَى أَنَّ الأَْفْضَل كَوْنُ التَّعْزِيَةِ فِي بَيْتِ الْمُصَابِ (2)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّمَا الْمَكْرُوهُ الْبَيْتُوتَةُ عِنْدَ أَهْل الْمَيِّتِ، وَأَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِمْ مَنْ عَزَّى مَرَّةً، أَوْ يَسْتَدِيمَ الْمُعَزِّي الْجُلُوسَ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى قَدْرِ التَّعْزِيَةِ (3)
صِيغَةُ التَّعْزِيَةِ:
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا، إِلاَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الإِِْمَامَ أَحْمَدَ قَال: يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَزَّى رَجُلاً فَقَال: رَحِمَكَ اللَّهُ وَآجَرَكَ (4)، وَعَزَّى أَحْمَدُ أَبَا طَالِبٍ (أَحَدَ أَصْحَابِهِ) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكُمْ. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِِذَا عَزَّى مُسْلِمًا بِمُسْلِمٍ قَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَن عَزَاك، وَرَحِمَ اللَّهُ مَيِّتَكَ.
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: أَنْ يَقُول مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَائِلاً يَقُول: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُل مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُل هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُل مَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ (5)
وَهَل يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ أَوِ الْعَكْسُ؟
ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِِلَى أَنَّهُ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَبِالْعَكْسِ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ. وَذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ: إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ
__________
(1) - الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 339.
(2) - الدسوقي 1/ 419.
(3) - كشاف القناع 2/ 160.
(4) - الأثر عن الإمام أحمد. رواه أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 138 - 139 نشر دار المعرفة.
(5) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 4 / ص 60) (7342) ضعيف
(1/376)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ عَزَّى مُسْلِمًا بِكَافِرٍ قَال: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 12 / ص 287) فما بعد ومغني المحتاج 1/ 355، وابن عابدين 1/ 603، والمغني 1/ 544 - 545، وحاشية الدسوقي 1/ 419.
(1/377)
المبحثُ الثالث والأربعون
الحث على صنع الطعام لأهل الميت
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ». أخرجه أبو داود (1)
يُسْتَحَبُّ إِعْدَادُ طَعَامٍ لأَِهْل الْمَيِّتِ، يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ إِعَانَةً لَهُمْ وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ شُغِلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهِمْ عَنْ إِصْلاَحِ طَعَامٍ لأَِنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: اصْنَعُوا لأَِهْل جَعْفَرٍ طَعَامًا. فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ. (وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ يُصْنَعُ لَهُمْ طَعَامٌ، أَلاَّ يَكُونُوا قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى نِيَاحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِلاَّ حَرُمَ إِرْسَال طَعَامٍ لَهُمْ، لأَِنَّهُمْ عُصَاةٌ، وَكَرِهَ الْفُقَهَاءُ إِطْعَامَ أَهْل الْمَيِّتِ لِلنَّاسِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي السُّرُورِ لاَ فِي الشُّرُورِ. (2).
قال الجزيري رحمه الله في الفقه على المذاهب الأربعة: "ومن البدع المكروهة ما يفعل الآن من ذبح الذبائح عند خروج الميت، من البيت، أو عند القبر، وإعداد الطعام لمن يجتمع للتعزيه: وتقديمه لهم كما يفعل ذلك في الأفراح ومحافل السرور وإذا كان في الورثة قاصر عن درجة البلوغ، حرم إعداد الطعام وتقديمه، روى الإمام أحمد، وابن ماجة عن جرير بن عبد الله قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة". أما إعداد الجيران والأصدقاء طعاماً لأهل الميت وبعثه لهم، فذلك مندوب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يشغلهم"، ويلح عليهم في الأكل، لأن الحزن قد يمنعهم منه (3) ..
__________
(1) - برقم (3134) والترمذي برقم (1014) وابن ماجة (1678) وأحمد برقم (1778) والحاكم (1377) وطب (1454) وهق (7347و7348) وهو حديث حسن صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 5 / ص 120) وابن عابدين 1/ 603، والدسوقي 1/ 419، والمغني 2/ 550، وقليوبي 1/ 353
(3) - الفقه على المذاهب الأربعة - (ج 1 / ص 851)
(1/378)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الاِجْتِمَاعَ إِلَى أهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ أخرجه أحمد (1)
قلت: نهى كثير من العلماء المعاصرين عن الاجتماع في اليوم الثالث من دفن الميت أو بعده وختم القرآن وصنع طعام لهم.
وأرى أن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت جائزة إن شاء الله ولا حرج فيها، إذا خلت من المنكرات
ـــــــــــــ
__________
(1) - برقم (7084) وهو حديث صحيح
(1/379)
المبحثُ الرابع والأربعون
النهي عن شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» أخرجه البخاري (1)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: قَوْله: (لَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَهْل سُنِّتَتَا وَطَرِيقَتنَا، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ إِخْرَاجه عَنْ الدِّين، وَلَكِنْ فَائِدَة إِيرَاده بِهَذَا اللَّفْظ الْمُبَالَغَة فِي الرَّدْع عَنْ الْوُقُوع فِي مِثْل ذَلِكَ كَمَا يَقُول الرَّجُل لِوَلَدِهِ عِنْد مُعَاتَبَته: لَسْت مِنْك وَلَسْت مِنِّي، أَيْ مَا أَنْتَ عَلَى طَرِيقَتِي. وَقَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير مَا مُلَخَّصه: التَّأْوِيل الْأَوَّل يَسْتَلْزِم أَنْ يَكُون الْخَبَر إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ أَمْر وُجُودِيّ، وَهَذَا يُصَان كَلَام الشَّارِع عَنْ الْحَمْل عَلَيْهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَال: الْمُرَاد أَنَّ الْوَاقِع فِي ذَلِكَ يَكُون قَدْ تَعَرَّضَ لِأَنْ يُهْجَر وَيُعْرَض عَنْهُ فَلَا يَخْتَلِط بِجَمَاعَةِ السُّنَّة تَأْدِيبًا لَهُ عَلَى اِسْتِصْحَابه حَاله الْجَاهِلِيَّة الَّتِي قَبَّحَهَا الْإِسْلَام، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْحَمْل عَلَى مَا لَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَدْر زَائِد عَلَى الْفِعْل الْمَوْجُود. وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَان أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه الْخَوْض فِي تَأْوِيله وَيَقُول: يَنْبَغِي أَنْ يُمْسَك عَنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَوْقَع فِي النُّفُوس وَأَبْلَغ فِي الزَّجْر. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى دِيننَا الْكَامِل، أَيْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَرْع مِنْ فُرُوع الدِّين وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَصْله، حَكَاهُ اِبْن الْعَرَبِيّ. وَيَظْهَر لِي أَنَّ هَذَا النَّفْي يُفَسِّرهُ التَّبَرِّي الْآتِي فِي حَدِيث أَبِي مُوسَى بَعْد بَاب حَيْثُ قَالَ " بَرِئَ مِنْهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " وَأَصْل الْبَرَاءَة الِانْفِصَال مِنْ الشَّيْء، وَكَأَنَّهُ تَوَعَّدَهُ بِأَنْ لَا يُدْخِلهُ فِي شَفَاعَته مَثَلًا. وَقَالَ الْمُهَلَّب: قَوْله أَنَا بَرِيء أَيْ مِنْ فَاعِل مَا ذُكِرَ وَقْت ذَلِكَ الْفِعْل، وَلَمْ يُرِدْ نَفْيَهُ عَنْ الْإِسْلَام. قُلْت: بَيْنهمَا وَاسِطَة تُعْرَف مِمَّا تَقَدَّمَ أَوَّل الْكَلَام، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيم مَا ذُكِرَ مِنْ شَقّ الْجَيْب وَغَيْره. وَكَأَنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ مَا تَضْمَنَّهُ ذَلِكَ مِنْ عَدَم الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِالِاسْتِحْلَالِ مَعَ الْعِلْم بِالتَّحْرِيمِ أَوْ التَّسَخُّط مَثَلًا بِمَا وَقَعَ فَلَا مَانِع مِنْ حَمْل النَّفْي عَلَى الْإِخْرَاج مِنْ الدِّين.
__________
(1) - برقم (1294 و 1297 و 1298 و 3519) ومسلم (103) والترمذي (1015) وابن ماجة (1651)
(1/380)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِى بُرْدَةَ بْنِ أَبِى مُوسَى قَالاَ أُغْمِىَ عَلَى أَبِى مُوسَى وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ. قَالاَ ثُمَّ أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ تَعْلَمِى - وَكَانَ يُحَدِّثُهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَنَا بَرِىءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ». أخرجه مسلم (1)
قال النووي رحمه الله: الصَّالِقَة وَقَعَتْ فِي الْأُصُول بِالصَّادِ وَسَلَقَ بِالسِّينِ وَهُمَا صَحِيحَانِ وَهُمَا لُغَتَانِ السَّلْق وَالصَّلْق وَسَلَقَ وَصَلَق. وَهِيَ صَالِقَة وَسَالِقَة: وَهِيَ الَّتِي تَرْفَع صَوْتهَا عِنْد الْمُصِيبَة. وَالْحَالِقَة: هِيَ الَّتِي تَحْلِق شَعْرهَا عِنْد الْمُصِيبَة، وَالشَّاقَّة: الَّتِي تَشُقّ ثَوْبهَا عِنْد الْمُصِيبَة. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور الظَّاهِر الْمَعْرُوف. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاض عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: الصَّلْقُ ضَرْبُ الْوَجْهِ،
قَوْله: (أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ) أَيْ مِنْ فِعْلهنَّ، أَوْ مَا يَسْتَوْجِبْنَ مِنْ الْعُقُوبَة، أَوْ مِنْ عُهْدَة مَا لَزِمَنِي مِنْ بَيَانِهِ. وَأَصْل الْبَرَاءَةِ الِانْفِصَالُ. هَذَا كَلَام الْقَاضِي وَيَجُوز أَنْ يُرَاد بِهِ ظَاهِره وَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ فَاعِل هَذِهِ الْأُمُور، وَلَا يُقَدَّر فِيهِ حَذْفٌ (2).
ــــــــــــــ
__________
(1) - برقم (104) وابن ماجة (1653)
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 212)
(1/381)
المبحثُ الخامس والأربعون
ما ينفع الميت في قبره
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لِكُلِّ إِنْسَانٍ ثَلاثَةُ أَخِلاءَ: إِمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ مَا أَنْفَقْتَ فَلَكَ، وَمَا أَمْسَكْتَ فَلَيْسَ لَكَ وَذَلِكَ مَالُهُ، وَإِمَّا خَلِيلٌ، فَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ، فَإِذَا أَتَيْتَ بَابَ الْمَلِكِ تَرَكْتُكَ وَرَجَعْتُ فَذَاكَ أَهْلُهُ وَحَشَمُهُ، وَإِمَّا خَلِيلٌ، فَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ حَيْثُ دَخَلْتَ، وَحَيْثُ خَرَجْتَ فَذَاكَ عَمَلُهُ، فَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ لأَهْوَنَ الثَّلاثَةِ عَلَيَّ» أخرجه الحاكم (1)
وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ - صلى الله عليه وسلم -: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» أخرجه البخاري ومسلم (2)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: قَوْله (يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ) هَذَا يَقَع فِي الْأَغْلَب وَرُبَّ مَيِّتٍ لَا يَتْبَعُهُ إِلَّا عَمَلُهُ فَقَطْ وَالْمُرَادُ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَرُفْقَتِهِ وَدَوَابِّهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَإِذَا اِنْقَضَى أَمْرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِ رَجَعُوا، سَوَاءٌ أَقَامُوا بَعْدَ الدَّفْنِ أَمْ لَا وَمَعْنَى بَقَاءِ عَمَلِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ الْقَبْرَ
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». أخرجه مسلم (3)
قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ عَمَل الْمَيِّت يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ، وَيَنْقَطِع تَجَدُّد الْجَوَاب لَهُ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة؛ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبهَا؛ فَإِنَّ الْوَلَد مِنْ
__________
(1) - 1/ 371 (1375) وطيالسي (2113) وإتحاف الخيرة (7146) والمطالب (3222) والمجمع 10/ 252 وهو حديث صحيح لطرقه
(2) - البخاري (6514) ومسلم (2960) والترمذي (2553) وأحمد (12408)
(3) - برقم (1631) والبخاري في الأدب المفرد (38) وأبو داود (2882) والترمذي (1432) ونص (3666) وحم (9079) والدعا طب (1152 - 1158).
(1/382)
كَسْبه، وَكَذَلِكَ الْعِلْم الَّذِي خَلَّفَهُ مِنْ تَعْلِيم أَوْ تَصْنِيف، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة الْجَارِيَة، وَهِيَ الْوَقْف.
وَفِيهِ فَضِيلَة الزَّوَاج لِرَجَاءِ وَلَد صَالِح، وَقَدْ سَبَقَ بَيَان اِخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِيهِ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح. وَفِيهِ دَلِيل لِصِحَّةِ أَصْل الْوَقْف، وَعَظِيم ثَوَابه، وَبَيَان فَضِيلَة الْعِلْم، وَالْحَثّ عَلَى الِاسْتِكْثَار مِنْهُ. وَالتَّرْغِيب فِي تَوْرِيثه بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّصْنِيف وَالْإِيضَاح، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَار مِنْ الْعُلُوم الْأَنْفَع فَالْأَنْفَع. وَفِيهِ أَنَّ الدُّعَاء يَصِل ثَوَابه إِلَى الْمَيِّت، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَة، وَهُمَا مُجْمَع عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ قَضَاء الدَّيْن كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا الْحَجّ فَيَجْزِي عَنْ الْمَيِّت عِنْد الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ، وَهَذَا دَاخِل فِي قَضَاء الدَّيْن إِنْ كَانَ حَجًّا وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا وَصَّى بِهِ وَهُوَ مِنْ بَاب الْوَصَايَا، وَأَمَّا إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام فَالصَّحِيح أَنَّ الْوَلِيّ يَصُوم عَنْهُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَة فِي كِتَاب الصِّيَام.
وَأَمَّا قِرَاءَة الْقُرْآن فَالْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهَا إِلَى الْمَيِّت وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه: يَصِل ثَوَابهَا إِلَى الْمَيِّت.
وَذَهَبَ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّهُ يَصِل إِلَى الْمَيِّت ثَوَاب جَمِيع الْعِبَادَات مِنْ الصَّلَاة وَالصَّوْم الْقِرَاءَة وَغَيْر ذَلِكَ، وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ فِي بَاب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ أَنَّ اِبْن عُمَرَ أَمَرَ مَنْ مَاتَتْ أُمُّهَا وَعَلَيْهَا صَلَاةٌ أَنْ تُصَلِّيَ عَنْهَا. وَحَكَى صَاحِب الْحَاوِي عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ أَنَّهُمَا قَالَا بِجَوَازِ الصَّلَاة عَنْ الْمَيِّت. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سَعْد عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن هِبَة اللَّه بْن أَبِي عَصْرُون مِنْ أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كِتَابه الِانْتِصَار إِلَى اِخْتِيَار هَذَا، وَقَالَ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ مِنْ أَصْحَابنَا فِي كِتَابه التَّهْذِيب: لَا يَبْعُد أَنْ يُطْعَمَ عَنْ كُلّ صَلَاة مُدٌّ مِنْ طَعَام وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ ضَعِيفَةٌ. وَدَلِيلهمْ الْقِيَاس عَلَى الدُّعَاء وَالصَّدَقَة وَالْحَجّ فَإِنَّهَا تَصِلُ بِالْإِجْمَاعِ وَدَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ قَوْلُ اللَّهِ: تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا مَاتَ اِبْن آدَمَ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ " وَاخْتَلَفَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي حَجّ الْأَجِير هَلْ تَقَعَانِ عَنْ الْأَجِير أَمْ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ؟ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
(1/383)
وعَنِ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ «أَرْبَعَةٌ تَجْرِى عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مُرَابِطٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً أُجْرِىَ لَهُ مِثْلُ مَا عَمِلَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَجْرُهَا لَهُ مَا جَرَتْ وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَداً صَالِحاً فَهُوَ يَدْعُو لَهُ». أخرجه أحمد (1)
وعَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى صَدْرِ النَّهَارِ قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِى النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِى السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ «(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وَالآيَةَ الَّتِى فِى الْحَشْرِ (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ - قَالَ - ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ». أخرجه مسلم (2)
إن المقصود منه أن من سنَّ من الأعمال الواقعة تحت ما أمر الله ورسوله به وندب إليه فهو من الأعمال المحمودة التي يثاب عليها صاحبها، فيكون له أجرها وأجر من عمل بها، وإن لم يكن لهذه الأعمال مثالٌ موجود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذا الباب قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعة: نعمت البدعة هذه. وهذا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسنُّ الاجتماع لها طوال أيام الشهر، إنما صلَّى بهم ليالي ثم ترك ذلك، ولا كان الاجتماع لها على عهد أبي بكر، وكان عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس عليها وندبهم إليها -
__________
(1) - 5/ 261 (22906) وطب (7737) والمجمع 1/ 167 (768 و4758) والفيض (850) والترغيب 1/ 119 وهو حديث صحيح لشواهده.
(2) - برقم (1017) ونص (2566) وحم (19674و19693)
(1/384)
على النحو المعروف الآن - ومع ذلك فالاجتماع لصلاة التراويح سنة حسنة؛ لأنها موافقة للأصول الشرعية، فقد رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان، وصلَّى بهم جماعة ليالي من رمضان ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الأمة، فلما مات - صلوات الله وسلامه عليه - وانقطع الوحي واستقرت الفرائض على ما هي عليه، كان فعل عمر لها -مع انتفاء المانع الذي خشيه النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة حسنة، ومن هذا الباب أيضاً أن الصحابة جمعوا القرآن وكتبوه في المصاحف وجمعوا الناس على المصاحف العثمانية، وأحرقوا ما سوى ذلك من المصاحف التي كانت عند الصحابة، واتبعهم الناس على ذلك فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه، وهذا كله من قبيل السنة الحسنة مع أنه يندرج تحت أصول كانت موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مندرج فيما ندبت إليه الشريعة من الألفة وجمع الكلمة وعدم التفرق وحفظ القرآن ... إلخ.
فالصدقة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع، وعمل هذا الرجل عمل بما هو مشروع، ولكنه كان البادئ بهذا الخير، ويؤيد ذلك أيضاً أن كون العمل حسناً أو سيئاً إنما يعرف من جهة الشرع لا غير، فلا بد للعمل حتى يكون سنة حسنة أن يكون مندرجاً تحت ما هو مشروع. (1)
وعَنِ أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من علّم آية من كتاب الله تعالى، كان له ثوابها ما تليت» أخرجه أبو سهل القطان في " حديثه عن شيوخه (2)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِى صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ». أخرجه ابن ماجه (3)
__________
(1) - راجع فتاوى الشبكة الإسلامية رقم (29016)
(2) - والحلية 8/ 224 وعساكر 59/ 290والصحيحة (1335) وإسناده صحيح.
(3) - برقم (249) وصححه ابن خزيمة (2293) وصحيح الترغيب (77) والحلية 2/ 344 والمجمع 1/ 167 وهب (3494) وهو حديث حسن لغيره
(1/385)
وعَنِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ يَارَبِّ أَنَّى لِى هَذِهِ فَيَقُولُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ». أخرجه أحمد (1)
وعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَوَيَّ قَدْ هَلَكَا، فَهَلْ بَقِيَ لِي بَعْدَ مَوْتِهِمَا مِنْ بِرِّهِمَا شَيْءٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ، الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عُهُودِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ رَحِمِهِمَا الَّتِي لاَ رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَ الرَّجُلُ: مَا أَكْثَرَ هَذَا، يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَطْيَبَهُ، قَالَ: فَاعْمَلْ بِهِ. (2)
وعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رضى الله عنه - تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهْوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَىْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَ فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِى الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا أخرجه البخاري (3)
وعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ فَأَىُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ «الْمَاءُ». قَالَ فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ هَذِهِ لأُمِّ سَعْدٍ. أخرجه أحمد (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِى مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ». أخرجه النسائي (5)
__________
(1) - أحمد 2/ 209 (10890) وهـ (3791) وهق 7/ 79 والمجمع 10/ 210 (17595) وهو حديث حسن
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 162) (418) وشعب الإيمان للبيهقي (7724) حسن لغيره
(3) - في الوصايا باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة، (2756 و 2762 و 2770) ود (2884) وت (671) وحم (3135و3572)
(4) - أبو داود (1683) وصحيح الترغيب (962) وحم6/ 7 ونص 6/ 255 وابن ماجه (3684) والترمذي (669) وهو حديث حسن وله شاهد في المجمع 3/ 138 فيصح به.
(5) - نص برقم (2651) وحم (16554) عن عبد الله بن الزبير وطب (3470و11160 و17231 و19596) عن حُصَيْنِ بن عَوْفٍ وابْنِ عَبَّاسٍ ومَرْوَانَ بن قَيْسٍ وسَوْدَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وطس (100 و1540) عن أنس وابن عباس والمجمع 3/ 282 (5683) وعن عقبة بن عامر عند مسلم (1149). وغيرهم وهو حديث متواتر
(1/386)
وعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِمَا مَعَ صَلاَتِك وَأَنْ تَصُومَ عْنهُمَا مَعَ صِيَامِك وَأَنْ تَصَدَّقَ، عَنْهُمَا مَعَ صَدَقَتِك» أخرجه ابن أبي شيبة (1)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». أخرجه الشيخان (2)
وقد دلت هذه الأحاديث على أنه يصل إلى الميت - المسلم ثواب الدعاء والاستغفار والصدقة والواجبات الدينية البدنية والمالية التي تدخلها النيابة كالحج والصوم وهذا بلا خلاف. والجمهور على جواز وصول ثواب العبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن إلى غير فاعلها.
وفي المغني لابن قدامة: (1686) فَصْلٌ: قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا دَخَلْتُمْ الْمَقَابِرَ اقْرَءُوا آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَثَلَاثَ مَرَّاتٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إنَّ فَضْلَهُ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ (3)
وَمَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ وَجَعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْوَاتِ وَالأَْحْيَاءِ جَازَ، وَيَصِل ثَوَابُهَا إِلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ الْمَحْضَةَ، كَالصَّلاَةِ وَالتِّلاَوَةِ، فَلاَ يَصِل ثَوَابُهَا إِلَى الْمَيِّتِ عِنْدَهُمَا، وَمُقْتَضَى تَحْرِيرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ انْتِفَاعُ الْمَيِّتِ بِالْقِرَاءَةِ لاَ حُصُول ثَوَابِهَا لَهُ. وَلِلْعَلاَّمَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَلاَمٌ مُشْبِعٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَرَاجِعْ كِتَابَ الرُّوحِ " لَهُ "
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ تَصِل لِلْمَيِّتِ وَأَنَّهَا عِنْدَ الْقَبْرِ أَحْسَنُ مَزِيَّةٌ (4)
__________
(1) - 3/ 387 (12083) والخطيب 1/ 363 وهو حديث معضل.
(2) - البخاري 3/ 46 (1952) ومسلم (1147) وهو حديث مشهور.
(3) - وراجع الفقه الإسلامي أستاذنا الزجيلي 2/ 55 - 552 والدر المختار 1/ 844 وفتح القدير 1/ 473 والشرح الكبير 1/ 423 ومغني المحتاج 3/ 69 - 70 والمغني 2/ 566 - 570 والمهذب 1/ 464 ونيل الأوطار 4/ 91 - 93، وفقه السنة 1/ 567 - 570 والروح لابن القيم ص 117 - 143 وهو من أروع ما كتب في هذا الباب.
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 45)
(1/387)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا وَجَعَل ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ وَالاِسْتِغْفَارُ وَالصَّدَقَةُ وَأَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ فَلاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا إِذَا كَانَتِ الْوَاجِبَاتُ مِمَّا يَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ} (سورة الحشر / 10) وَقَال تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (سورة محمد / 19)} وَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَِبِي سَلَمَةَ حِينَ مَاتَ، وَلِلْمَيِّتِ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (1)، وَلِكُل مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، وَسَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى.
وَقَال لِلَّذِي سَأَلَهُ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ.
وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، وَفِيهَا دَلاَلَةٌ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِسَائِرِ الْقُرَبِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ وَالدُّعَاءَ وَالاِسْتِغْفَارَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ وَقَدْ أَوْصَل اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ فِي ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ " يس "، وَتَخْفِيفِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَهْل الْمَقَابِرِ بِقِرَاءَتِهِ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: لَوْ كَانَ أَبُوكَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ، بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا عَامٌّ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ عَمَل بِرٍّ وَطَاعَةٍ، فَوَصَل نَفْعُهُ وَثَوَابُهُ، كَالصَّدَقَةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الْوَاجِبَ وَالصَّدَقَةَ وَالدُّعَاءَ وَالاِسْتِغْفَارَ لاَ يُفْعَل عَنِ الْمَيِّتِ، وَلاَ يَصِل ثَوَابُهُ إِلَيْهِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (سورة النجم / 39)} وَقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا مَاتَ الإِْنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، وَلأَِنَّ نَفْعَهُ لاَ يَتَعَدَّى فَاعِلَهُ، فَلاَ يَتَعَدَّى ثَوَابُهُ. وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا قُرِئَ
__________
(1) - أخرجه مسلم (2/ 662 - 663 ط عيسى الحلبي)
(1/388)
الْقُرْآنُ عِنْدَ الْمَيِّتِ أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ ثَوَابُهُ كَانَ الثَّوَابُ لِقَارِئِهِ، وَيَكُونُ الْمَيِّتُ كَأَنَّهُ حَاضِرُهَا وَتُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ (1)
وَسُئِلَ ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - {إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ} فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ؟ (2).
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ وَبِمَا يُعْمَلُ عَنْهُ مِنَ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) [غافر/7 - 9]}. فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَوِقَايَةِ الْعَذَابِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (19) سورة محمد، وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبِّ {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (41) سورة إبراهيم، وَقَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (28) سورة نوح، فَقَدْ ذَكَرَ اسْتِغْفَارَ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا بِذَلِكَ وَإِخْبَارًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ. وَمِنَ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ: صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَيِّتِ وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - المغني 2/ 567 - 568.
(2) - مجموع الفتاوى - (ج 24 / ص 306) فما بعد
(1/389)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ السُّنَنَ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ بَلْ لَمْ يُنْكِرُ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَشَفَاعَتُهُ دُعَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَجَاحِدُ مِثْلِ ذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَنْبَأَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضى الله عنهم أَخَا بَنِى سَاعِدَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهْوَ غَائِبٌ، فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّى تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، فَهَلْ يَنْفَعُهَا شَىْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنِّى أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِى الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا. (1)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» (2)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أَبِى مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ» (3) ..
وعن عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَنْحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ بَدَنَةً وَأَنَّ عَمْراً سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ» (4).
وَفِي سُنَنِ الدارقطني: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي أَبَوَيْنِ وَكُنْت أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا. فَكَيْفَ بِالْبِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - {إنَّ مِنْ بَعْدِ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك وَأَنْ تَصَدَّقَ لَهُمَا مَعَ صَدَقَتِك}. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الطالقاني قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ {إنَّ الْبِرَّ بَعْدَ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتِك
__________
(1) - صحيح البخارى (2756)
(2) - صحيح البخارى (1388) - افتلتت: ماتت فجأة وأخذت نفسها فلتة
(3) - صحيح مسلم (4306)
(4) - مسند أحمد (6875) حسن
(1/390)
وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك؟} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَا إسْحَاقَ عَمَّنْ هَذَا؟ قُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ: ثِقَةٌ قُلْت: عَمَّنْ؟ قَالَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ. فَقَالَ: ثِقَةٌ عَمَّنْ؟ قُلْت: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلَافٌ، وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ (1).
وَالْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ: كَالْعِتْقِ. وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَمَعَ هَذَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» (2).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّى ذَلِكِ عَنْهَا». قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ «فَصُومِى عَنْ أُمِّكِ» (3).
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، أَكُنْتِ تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ (4).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ - قَالَ - فَقَالَ «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ». قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا
__________
(1) - صحيح مسلم (34) - المفازة: الصحراء البعيدة عن العمار والماء تفاؤلا من الفوز بالنجاة منها
(2) - صحيح البخارى (1952) وصحيح مسلم (2748)
(3) - صحيح مسلم (2752)
(4) - مسند أبي عوانة (2330) صحيح
(1/391)
صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ «صُومِى عَنْهَا». قَالَتْ إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «حُجِّى عَنْهَا» (1).
. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مَا نَذَرَ وَأَنَّهُ شُبِّهَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ. وَالْأَئِمَّةُ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ مَنْ بَلَغَتْهُ وَإِنَّمَا خَالَفَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرٍو بِأَنَّهُمْ إذَا صَامُوا عَنِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ.
وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِي عِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا اخْتِلَافٌ شَاذٌّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ. حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» (2).
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ إِنَّ أُخْتِى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَاقْضِ اللَّهَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» (3).
وَفِي سنن أبي داود عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ كُنْتُ تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِوَلِيدَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ تِلْكَ الْوَلِيدَةَ. قَالَ «قَدْ وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ فِى الْمِيرَاثِ». قَالَتْ وَإِنَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَيُجْزِئُ - أَوْ يَقْضِى - عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ». قَالَتْ وَإِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ - أَوْ يَقْضِى - عَنْهَا أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ» (4).
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: " أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ ". كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ. وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدًا وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا وَشَبَّهَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ بِالدَّيْنِ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ. كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْأَخِ. فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ
__________
(1) - صحيح مسلم (2753)
(2) - صحيح البخارى (1852)
(3) - صحيح البخارى (6699)
(4) - سنن أبى داود (2879) صحيح
(1/392)
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ، فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (39) سورة النجم، ولا حديث «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (1). بَلْ هَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ.
أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ: {انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ} فَذِكْرُ الْوَلَدِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا قَالَ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (2) سورة المسد، قَالُوا: إنَّهُ وَلَدُهُ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - {َأطْيَبُ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ.} (2).
فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِيَ فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَبِ وَنَحْوِهِمْ. فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ بَلْ بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ. وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: {انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ. .} لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَدُهُ كَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلِلنَّاسِ عَنْهَا أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. كَمَا قِيلَ: إنَّهَا تَخْتَصُّ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَقِيلَ: إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَقِيلَ: إنَّهَا تَنَالُ السَّعْيَ مُبَاشَرَةً وَسَبَبًا، وَالْإِيمَانُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حَقٌّ لَا يُخَالِفُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَهَذَا حَقٌّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ. كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنَ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ. وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَهُ لَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ. فَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ فَيُثَابُ الْمُصَلِّي عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي
__________
(1) - صحيح مسلم (4310)
(2) - صحيح ابن حبان - (ج 10 / ص 73) (4260) صحيح
(1/393)
هُوَ صَلَاتُهُ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا يُرْحَمُ بِصَلَاةِ الْحَيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ أَوْجَبَ» (1)
فَاَللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُ هَذَا السَّاعِيَ عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ وَيَرْحَمُ ذَلِكَ الْمَيِّتَ بِسَعْيِ هَذَا الْحَيِّ لِدُعَائِهِ لَهُ وَصَدَقَتِهِ عَنْهُ وَصِيَامِهِ عَنْهُ وَحَجِّهِ عَنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَن صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ، فَأَتَاهَا فَوَجَدَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَجِدْ أَبَا الدَّرْدَاءَ، فَقَالَتْ لَهُ: تُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَإِنَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ: إنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ مُسْتَجَابَةٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ قَالَ: آمِينَ، وَلَك بِمِثْلِهِ، ثُمَّ خَرَجْت إِلَى السُّوقِ فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَحَدَّثَنِي، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِ ذَلِكَ. (2).
فَهَذَا مِنَ السَّعْيِ الَّذِي يَنْفَعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ يُثِيبُ اللَّهُ هَذَا وَيَرْحَمُ هَذَا، .. وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ يُرْحَمُ بِهِ يَكُونُ مِنْ سَعْيِهِ، بَلْ أَطْفَالُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ آبَائِهِمْ بِلَا سَعْيٍ فَاَلَّذِي لَمْ يَجُزْ إلَّا بِهِ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ انْتِفَاعٍ؛ لِئَلَّا يَطْلُبَ الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ عَلَى غَيْرِ عَمَلِهِ وَهُوَ كَالدَّيْنِ يُوَفِّيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ مَا وَفَّى بِهِ الدَّيْنَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُوَفِّي لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ (3)
دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ:
مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ» (4).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ قَالَ
__________
(1) - سنن أبى داود (3168) حسن
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 197) (29768) صحيح
(3) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (3/ 366) ومجموع الفتاوى لابن تيمية - (24/ 313)
(4) - صحيح مسلم برقم (2241)
(1/394)
نَعَمْ. قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لاَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» (1). .
وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ، فعَنْ مُعَاذٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ» (2)
__________
(1) - صحيح مسلم برقم (2242)
(2) - مسند أحمد برقم (22694) وهو حديث حسن لغيره.
(1/395)
الصلاة على الميت:
قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار: بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَنْ صَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَشَفَعُوا لَهُ أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِ إذَا كَانَ لَهُمْ عَدَدٌ ذُكِرَ مِقْدَارُهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ
عن عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيعِ عَائِشَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً فَيَشْفَعُوا لَهُ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ "
وعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً فَيَشْفَعُوا لَهُ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ "
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غُفِرَ لَهُ "
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَدَدِ الْجَمَاعَةِ الْمُشَفَّعِينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ لِكُرَيْبٍ: انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا قَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ " وَوَجَدْنَا عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُوَافِقُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيُخَالِفُ مَا رَوَيْنَاهُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ أَنْ يَكُونُوا مِائَةً يَشْفَعُونَ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ " قَالَ سَلَّامٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ شُعَيْبَ بْنَ الْحَبْحَابِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. "
فَقَالَ قَائِلٌ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. فَكَانَ جَوَابَنَا عَنْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللهُ جَادَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغُفْرَانِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْهُمْ بِشَفَاعَتِهِمْ لَهُ , ثُمَّ جَادَ لَهُ بِالْغُفْرَانِ بِشَفَاعَةِ أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ فَكَانَ خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ هُوَ آخِرُ مَا كَانَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا جَادَ بِسَبَبِهِ بِالْغُفْرَانِ لِلْمُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِشَفَاعَتِهِمْ وَكَانَ خَبَرُ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُتَقَدِّمَيْنِ لِذَلِكَ فَقَالَ: وَلِمَ حَمَلْتَ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْتَ وَلَمْ تَحْمِلْهُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ هُمَا الْمُتَأَخِّرَانِ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ. فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ وَعَوْنِهِ أَنَّ اللهَ لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَجُودَ بِغُفْرَانٍ بِمَعْنًى , ثُمَّ يَرْجِعَ عَنِ الْغُفْرَانِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجُودَ بِالْغُفْرَانِ بِمَعْنًى , ثُمَّ يَجُودَ بِالْغُفْرَانِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَبِأَيْسَرِهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّذِينَ جَادَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ اخْتِلَافُ الْعَدَدَيْنِ فِي الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1/ 242) (264 - 271) وغالبها صحيح
(/)
خاتمة
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت/30 - 33]
هكذا تتنزل ملائكة الرحمة بالبشرى على الذين آمنوا بالله، ثم استقاموا على هذا الإيمان حتى الموت
تتنزل عليهم عند موتهم فتقول لهم بأمر الله:
لا تخافوا مما أنتم قادمون عليه في القبر، وعند البعث والحشر، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر الدنيا من مال وولد وأهل، فإنا نخلفكم فيه.
وأبشروا بأن الله قد رضي عنكم، وكتب لكم الجنة.
وهذه البشرى عند الموت أمّنتْ للمؤمن مستقبله الزاهر السعيد، وأمَّنتْ له الحفظ والرعايةَ بأمر الله تعالى في أهلهِ ومالهِ وولدِه، وكلِّ ما خلَّفه.
فهل بقي شيء تتوق إليه نفس إنسانٍ؟!
وهل توجد أيُّ شركةٍ عالميةٍ، أو أيُّ سلطةٍ أرضيةٍ تستطيع أن تؤمِّنَ لأي إنسان مستقبلَ ما بعد الموتِ على المدى اللانهائي أو على أي مدى؟!
وهل توجد أيُّ شركةٍ أو أيًّ سلطةٍ تستطيعُ أن تؤمِّنَ لميتٍ على أهله وأولاده وأموالهِ؟ وأن يكون هذا التأمين على مدى بعيدٍ جداً؟ ...
الجواب:
لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه إلا اللهُ وحدَه، وكفى بالله وكيلاً وحفيظاً.
فعليك أيها الإنسانُ بالاستقامةِ الدائمةِ على الطريق، الذي رسمه الله لكَ، لتبشركَ ملائكةُ الرحمن بالجنة والرضوانِ، وإياكَ والابتعادَ عنه لكي لا تخسرَ سعادةَ الدارين.
أنتَ لا تدري متى ستموتُ؟ ولا المكانَ أو الزمانَ؟
(1/396)
فشمِّرْ عن ساعد الجِدِّ في هذه الحياة.
إن الله سبحانه وتعالى ما خلقك عبثاً، وإنما خلقكَ لكي تؤديَ الأمانةَ التي أناطها بكَ، إنها أمانةُ التكليفِ والاستخلافِ في هذه الأرضِ.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب
إن الله سيسألُك عن كلِّ تصرفاتِك في يومٍ لا ريبَ فيه. قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} (24) سورة الصافات
فتزودْ لذلكَ اليومِ، وخيرُ الزاد التقوى كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة.
فإذا تزودتَ جاءكَ اليوم الذي يزولُ عنك فيه الخوفُ والحزنُ نهائياً.
فهيا قبل أن يأتيك الموتُ وعندها ينقطع الرجاءُ ويزول الأملُ، ويبطلُ العمل، ولا ينفعك إلا ما قدمت ... {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (89) سورة الشعراء
والحمد لله رب العالمين
(1/397)
قصيدة التائبين
حطّت ببابك لهفتي ورِغابي ... فاقبل بحقك أوبتي ومثابي
واجعل لها سبباً يقرّبُ غايتي ... يا ملهم الغايات والأسبابِ
هذي الجوارح شاهدات بالذي ... قد كان من لهوي ومن تطرابي
تسعى إليك يشدُّها الأمل الذي ... لولاه كان العمرُ محضَ سرابِ
يا ربِّ عما كان جئتُك تائباً ... فاقبل بحقِّك أوبتي ومثابي
يا ربِّ عن ماضيَّ جئتُك تائباً ... فاكتب ليَ الغفران يوم حسابي
يا ربِّ للآتي أتيتك سائلاً ... فبنور وجهك ردّني لصوابي
فلأنتَ يا ربّاهُ مَن هتفوا له ... سبحان من يعطي بغير حساب
يمحو ويثبت ما يشاء وعنده ... أمُّ الكتاب وعلم كلّ كتابِ (1)
__________
(1) - حتى ترضى لمصطفى عكرمة 26 - 28
(1/398)
المصادر الهامة
1. تفسير الطبري (جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ) الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
2. تفسير ابن كثير الشاملة 2 (و) موقع التفاسير (و) - موافق للمبطوع
3. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
4. تفسير الألوسي الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
5. أيسر التفاسير لأسعد حومد الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
6. التفسير الميسر الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
7. تفسير السعدي الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
8. تفسير ابن أبي حاتم الشاملة 2 (و) موقع التفاسير
9. التفسير القرآني بالقرآن عبد الكريم الخطيب - موافق للمبطوع
10. في ظلال القرآن الشاملة 2 (و) - موافق للمبطوع
11. الوسيط لسيد طنطاوي الشاملة 2 (و) - موافق للمبطوع
12. شرح الطحاوية في العقيدة السلفية= الشاملة 2
13. اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث الشاملة 2
14. مجمل اعتقاد أئمة السلف ابن تيمية الشاملة 2
15. منهاج السنة النبوية ابن تيمية= الشاملة 2 = محمد رشاد سالم
16. درء التعارض بين العقل والنقل ابن تيمية= الشاملة 2= دار الكنوز الأدبية الرياض
17. المنتقى - شرح الموطأ للباجي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
18. موطأ مالك المكنز
19. صحيح البخارى المكنز
20. صحيح مسلم المكنز
21. مختصر صحيح المسلم للمنذري الشاملة 3 (و) ت الألباني
22. سنن أبى داود المطنز
23. سنن الترمذى المكنز
24. سنن النسائى المكنز
25. سنن ابن ماجه الكننز
26. مصنف عبد الرزاق المكتب الإسلامي (و) الشاملة 2
27. مصنف ابن أبي شيبة عوامة (و) الشاملة 2
28. مسند أحمد الكنز
29. مسند الشاشي جامع الحديث النبوي
30. مسند أحمد بن حنبل (بأحكام شعيب الأرنؤوط) دار صادر
31. أخبار مكة للأزرقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
32. الإبانة الكبرى لابن بطة الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
33. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
34. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
35. المستدرك للحاكم دار المعرفة (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
36. المعجم الكبير للطبراني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
37. المعجم الأوسط للطبراني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
(1/399)
38. المعجم الصغير للطبراني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
39. تفسير ابن أبي حاتم الشاملة 2 (و) موقع التفاسير (و) جامع الحديث النبوي
40. تهذيب الآثار للطبري الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
41. دلائل النبوة للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
42. السنن الكبرى للبيهقي المكنز (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
43. شعب الإيمان للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
44. سنن الدارمى المكنز (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
45. مسند أبي عوانة الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
46. مسند إسحاق بن راهويه الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
47. مسند البزار 1 - 14كاملا الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
48. مسند أبي يعلى الموصلي ت حسين الأسد دار المأمون (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
49. مسند الحميدى المكنز (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
50. مسند الروياني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
51. مسند السراج الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
52. سنن الدارقطنى المكنز (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
53. صحيح ابن حبان مؤسسة الرسالة (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
54. صحيح ابن خزيمة الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
55. مسند الشاميين للطبراني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
56. مسند الشهاب القضاعي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
57. مسند الطيالسي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
58. مسند عبد بن حميد الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
59. مسند الشافعي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
60. شرح معاني الآثار الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي (و) موقع الإسلام
61. مشكل الآثار للطحاوي، مؤسسة الرسالة (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
62. معرفة السنن والآثار للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
63. السنن الصغرى للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
64. المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
65. معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
66. موسوعة السنة النبوية - للمؤلف مخطوط
67. الأحاديث المختارة للضياء (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
68. شرح السنة ـ للإمام البغوى متنا وشرحا مؤسسة الرسالة (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
69. مجمع الزوائد (و) دار المعرفة (و) الشاملة 2
70. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
71. المسند الجامع مؤسسة الرسالة (و) الشاملة 2
72. جامع الأصول لابن الأثير ت - عبد القادر الأرناؤوط (و) الشاملة 2
73. عمل اليوم والليلة للنسائي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
74. عمل اليوم والليلة لابن السني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
(1/400)
75. الترغيب والترهيب للمنري (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
76. حديث خيثمة الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
77. أخبار أصبهان الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
78. أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
79. أمالي ابن بشران الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
80. أمثال الحديث لأبي الشيخ الأصبهاني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
81. الآداب للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
82. الأدب المفرد للبخاري الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
83. الأسماء والصفات للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
84. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
85. الأموال للقاسم بن سلام الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
86. الاعتقاد للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
87. الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك لابن شاهين الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
88. التوحيد لابن خزيمة الشاملة 2
89. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
90. الدعاء للطبراني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
91. الدعوات الكبير للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
92. الزهد الكبير للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
93. الزهد لأحمد بن حنبل الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
94. الزهد لهناد بن السري الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
95. الزهد والرقائق لابن المبارك الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
96. السنة لأبي بكر بن الخلال الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
97. السنة لابن أبي عاصم الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
98. السنة لعبد الله بن أحمد الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
99. الفوائد الشهير بالغيلانيات لأبي بكر الشافعي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
100. القراءة عند القبور لأبي بكر بن الخلال الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
101. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
102. المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
103. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي الشاملة2
104. تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
105. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
106. خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لِلْبُخَارِيِّ الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
107. طبقات المحدثين بأصبهان لأبي الشيخ الأصبهاني الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
(1/401)
108. فضائل الأوقات للبيهقي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
109. فضائل الصحابة لأحمد الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
110. فضائل القرآن للفريابي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
111. ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي
112. الوسيط في أصول الحديث د- محمد محمد أبو شهبة
113. فضائل القرآن للقاسم بن سلام الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
114. فضائل القرآن لمحمد بن الضريس الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
115. فوائد تمام الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
116. مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
117. معجم الصحابة لابن قانع الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
118. قصر الأمل لابن أبي الدنيا الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
119. المقاصد الحسنة للسخاوي الشاملة 2
120. كشف الخفاء للعجلوني الشاملة 2
121. من تكلم فيه وهو موثق أو صالح الحديث للذهبي الشاملة 2
122. نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
123. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
124. روضة المحدثين الشاملة 2
125. تخريج أحاديث الإحياء للعراقي الشاملة 2
126. هدي الساري (مقدمة الفتح) لابن حجر الشاملة 2
127. تغليق التعليق لابن حجر الشاملة 2 (و) المطبوع
128. الفتاوى الحديثية للحويني الشاملة 2
129. تنزيه الشريعة المرفوعة لابن عراق الشاملة 2
130. إتحاف السادة المتقين للزبيدي دار الفكر
131. علل الحديث لابن أبي حاتم الشاملة 2
132. الضعفاء والمتروكين للنسائي الشاملة 2
133. الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
134. تاريخ ابن معين رواية الدوري الشاملة 2
135. تاريخ معرفة الثقات لابن شاهين الشاملة 2
136. جرح الرواة وتعديلهم محمود عيدان أحمد الدليمي الشاملة 2
137. مشاهير علماء الأمصار ابن حبان الشاملة 2
138. قسم الحديث والمصطلح الشاملة 2
139. تحفة المحتاج في تخريج أحاديث المنهاج لابن الملقن (و) الشاملة 2
140. البدر المنير لابن الملقن (و) الشاملة 2
141. خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام للإمام النووي (و) الشاملة 2
142. السلسلة الضعيفة للألباني (و) الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
143. السلسلة الصحيحة للألباني (و) الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
(1/402)
144. رياض الصالحين ت الألباني (و) الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
145. مشكاة المصابيح ت الألباني (و) الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
146. صحيح الترغيب والترهيب (و) الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
147. صحيح وضعيف سنن أبي داود الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
148. صحيح وضعيف سنن الترمذي الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
149. صحيح وضعيف سنن النسائي الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
150. صحيح وضعيف سنن ابن ماجة الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
151. صحيح وضعيف الجامع الصغير الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
152. الجامع الصغير وزيادته الشاملة 2 (و) المكتب الإسلامي
153. علل الحديث لابن أبي حاتم الشاملة 2
154. علل الدارقطني الشاملة 2
155. تاريخ جرجان للسهمي الشاملة 2
156. موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل الشاملة 2
157. موسوعة أقوال الدارقطني الشاملة 2
158. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر الشاملة 2
159. فتح الباري لابن حجر الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
160. فتح الباري لابن رجب الشاملة 2
161. عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني الشاملة 2
162. شرح البخاري ابن بطال الشاملة 2
163. شرح النووي على مسلم الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
164. عون المعبود للآبادي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
165. تحفة الأحوذي المباركفوي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
166. تأويل مختلف الحديث ابن قتيبة الشاملة 2
167. الشَّرِيعَةُ لِلْآجُرِّيِّ الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
168. شُكْرُ اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ لِلْخَرَائِطِيِّ الشاملة 2
169. شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية الشاملة 2
170. فيض القدير، شرح الجامع الصغير الشاملة 2
171. جامع العلوم والحكم الشاملة 2 (و) تحقيق الفحل
172. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
173. تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام الشاملة 2
174. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح الشاملة 2
175. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين الشاملة 2
176. بلوغ المرام من أدلة الأحكام الشاملة 2
177. مختصر منهاج القاصدين نشر دار البيان
178. شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم الشاملة 2
179. كشف المشكل من حديث الصحيحين الشاملة 2
180. التحفة الربانية شرح الأربعين النووية الشاملة 2
181. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين الشاملة 2
182. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين الشاملة 2
(1/403)
183. مجموع فتاوى ابن تيمية الشاملة 2 (و) دار الباز
184. جواهر الإكليل شرح مختصر خليل الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
185. حاشية الجمل الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
186. القوانين الفقهية لابن جزي الشاملة 2
187. فتاوى الأزهر الشاملة 2
188. الموسوعة الفقهية الكويتية الشاملة 2 (و) موقع الإسلام (و) دار السلاسل
189. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشاملة 2
190. مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين الشاملة 2
191. فتاوى السبكي الشاملة 2
192. فتاوى الرملي الشاملة 2
193. الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
194. شرح سنن أبي داود ـ عبد المحسن العباد الشاملة 2
195. لقاءات الباب المفتوح الشاملة 2
196. دروس وفتاوى الحرم المدني الشاملة 2
197. فتاوى من موقع الإسلام اليوم الشاملة 2
198. فتاوى الإسلام سؤال وجواب الشاملة 2
199. فتاوى يسألونك الشاملة 2
200. مجموع فتاوى ومقالات ابن باز الشاملة 2
201. مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية الشاملة 2
202. فتاوى الإسلام سؤال وجواب الشاملة 2
203. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم الشاملة 2
204. فتاوى الشبكة الإسلامية الشاملة 2
205. الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي الشاملة 2
206. الفقه الإسلامي وأدلته الزحيلي الشاملة 2 (و) دار الفكر
207. الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية الشاملة 2
208. طرح التثريب الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
209. الفتوحات الربانية على الأذكار النووية لابن علان دار الفكر
210. نيل الأوطار الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
211. المحلى لابن حزم الشاملة 2
212. حاشية رد المحتار الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
213. تكملة حاشية رد المحتار الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
214. المبسوط للسرخسي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
215. الهداية للمرغياني الشاملة 2
216. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
217. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
218. فتح القدير لابن الهمام الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
219. البحر الرائق شرح كنز الدقائق الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
220. مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه الشاملة 2
221. رد المحتار على الدر المختار الشاملة 2
(1/404)
222. المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة الشاملة 2
223. حاشية الطحاوي على المراقي الشاملة 2
224. الشرح الكبير للشيخ الدردير الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
225. الشرح الصغير الشاملة 2
226. التاج والإكليل لمختصر خليل الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
227. مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
228. شرح الزرقاني على مختصر خليل الشاملة 2
229. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
230. منح الجليل شرح مختصر خليل الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
231. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة القرطبي الشاملة 2
232. بداية المجتهد ونهاية المقتصد الشاملة 2
233. روضة الطالبين وعمدة المفتين الشاملة 2
234. المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي الشاملة 2
235. المجموع شرح المهذب للنووي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
236. أسنى المطالب بشرح روض الطالب الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
237. شرح البهجة الوردية الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
238. حاشيتا قليوبي - وعميرة الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
239. تحفة المحتاج في شرح المنهاج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
240. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
241. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
242. حاشية البجيرمي على الخطيب الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
243. حاشية البجيرمي على المنهج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
244. الأم للشافعي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
245. الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي الشاملة 2
246. دليل المحتاج شرح المنهاج للإمام النووي الشاملة 2
247. الشرح الكبير لابن قدامة الشاملة 2
248. الفروع لابن مفلح الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
249. شرح منتهى الإرادات الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
250. كشاف القناع عن متن الإقناع الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
251. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
252. المغني لابن قدامة الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
253. المبدع شرح المقنع الشاملة 2
254. شرح زاد المستقنع لابن عثيمين الشاملة 2
255. أصول السرخسي الشاملة 2
256. الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الشاملة 2
257. الإحكام في أصول الأحكام للآمدي الشاملة 2
258. المحصول للرازي الشاملة 2
259. المستصفى للغزالي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
(1/405)
260. تهذيب الفروق والقواعد السنية فى الأسرار الفقهية الشاملة 2
261. أنوار البروق في أنواع الفروق الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
262. كشف الأسرار للبزدوي الشاملة 2
263. إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
264. البحر المحيط للزركشي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
265. التقرير والتحبير لابن أمير الحاج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
266. شرح الكوكب المنير للفتوحي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
267. حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
268. الفصول في الأصول للرازي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
269. التلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين الشاملة 2
270. من أصول الفقه على منهج أهل الحديث - الرقمية الشاملة 2
271. البرهان في أصول الفقه الجويني - الرقمية الشاملة 2
272. تلقيح الافهام العلية بشرح القواعد الفقهية الشاملة 2
273. حجة الله البالغة للدهلوي الشاملة 2
274. بحوث في علم أصول الفقه الشاملة 2 الكردي
275. القول المفيد في الاجتهاد والتقليد للشوكاني الشاملة 2
276. الموافقات للشاطبي الشاملة 2
277. إرشاد الفحول لتحقيق الحق من علم الأصول الشاملة 2
278. الإبهاج في شرح المنهاج الشاملة 2
279. الأصول من علم الأصول الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
280. التقرير والتحبير الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
281. المسودة في أصول الفقه الشاملة 2
282. معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة الشاملة 2
283. نهاية السول شرح منهاج الوصول الشاملة 2
284. إحياء علوم الدين دار الفكر (و) الشاملة 2
285. حلية الأولياء لأبي نعيم الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
286. الأذكار للنووي الشاملة 2
287. أدب الدنيا والدين الماوردي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
288. المدخل لابن الحاج الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
289. الآداب الشرعية لابن مفلح الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
290. الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر المكي الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
291. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
292. غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب السفاريني الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
293. رياض الصالحين للنووي -ت الألباني - الفحل
294. لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية للشعراني الشاملة 2
295. الروح لابن القيم الشاملة 2
(1/406)
296. مدارج السالكين لابن القيم الشاملة 2
297. مقدمة ابن الصلاح الشاملة 2
298. معرفة علوم الحديث للحاكم الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
299. الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث الشاملة 2
300. قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث الشاملة 2
301. الكفاية في علم الرواية الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
302. فتح المغيث بشرح ألفية الحديث السخاوي (و) الشاملة 2
303. المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل فاروق حمادة
304. الاقتراح في فن الاصطلاح للحافظ ابن دقيق العيد الشاملة 2
305. توضيح الأفكار للصنعاني (و) الشاملة 2
306. قواعد في علوم الحديث للتهانوي ت أبو غدة
307. منهج النقد في علوم الحديث - دار الفكر - العتر (و) الشاملة 2
308. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي (و) الشاملة 2
309. نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (و) الشاملة 2
310. التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر الشاملة 2
311. تيسير مصطلح الحديث الطحان (و) الشاملة 2
312. تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع (و) الشاملة 2
313. شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (و) الشاملة 2
314. النكت على ابن الصلاح لابن حجر (و) الشاملة 2
315. الموقظة في علم مصطلح الحديث الذهبي (و) الشاملة 2
316. سؤالات الحاكم للدارقطني الشاملة 2
317. شرح الموقطة للذهبي الشاملة 2
318. رسالة في الجرح والتعديل للمنذري الشاملة 2
319. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح العراقي (و) الشاملة 2
320. شرح التبصرة والتذكرة العراقي (و) الشاملة 2 ت الفحل
321. التذكرة في علوم الحديث لابن الملقن الشاملة 2
322. بحوث في المصطلح للفحل (و) الشاملة 2
323. توجيه النظر إلى أصول الأثر الجزائري (و) الشاملة 2 (و) تحقيق أبو غدة
324. المنهج الحديث في علوم الحديث للشيخ السماحي
325. الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي (و) الشاملة 2 أبو غدة
326. زاد المعاد لابن القيم (و) الشاملة 2 (و) موقع الإسلام
327. تذكرة السامع والمتكلم (و) الشاملة 2
328. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي (و) الشاملة 2
329. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (و) الشاملة 2
330. الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابن حجر (و) الشاملة 2
331. الثقات ابن حبان (و) الشاملة 2
332. المجروحين ابن حبان (و) الشاملة 2
333. التاريخ الكبير البخاري (و) الشاملة 2
334. التاريخ الأوسط للبخاري
(1/407)
335. الطبقات الكبرى لابن سعد (و) الشاملة 2 (و) جامع الحديث النبوي
336. تذكرة الحفاظ للذهبي (و) الشاملة 2
337. من له رواية في الكتب الستة للذهبي (و) الشاملة 2
338. ميزان الاعتدال للذهبي (و) الشاملة 2 دار المعرفة
339. تاريخ دمشق لابن عساكر (و) الشاملة 2 دار الفكر
340. طبقات الشافعية للسبكي (و) الشاملة 2
341. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (و) الشاملة 2
342. الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (و) الشاملة 2
343. كشف الإيهام لما تضمنه تحرير التقريب من الأوهام (للفحل)
344. معرفة الثقات للعجلي (و) الشاملة 2
345. غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر الشاملة 2
346. ضعفاء العقيلي (و) الشاملة 2
347. الجامع في الجرح والتعديل (و) الشاملة 2
348. تهذيب الكمال للمزي (و) الشاملة 2 ت عواد بشار مؤسسة الرسالة
349. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة (و) الشاملة 2 ت عوامة
350. تقريب التهذيب لابن حجر (و) الشاملة 2
351. تهذيب التهذيب لابن حجر (و) الشاملة 2
352. تعجيل المنفعة لابن حجر (و) الشاملة 2
353. لسان الميزان للحافظ ابن حجر (و) الشاملة 2
354. معرفة الرواة المتكلم فيه بما لا يوجب الرد للذهبي الشاملة 2
355. خلاصة تهذيب تهذيب الكمال ـ للكمال الخزرجى (و) الشاملة 2
356. سير أعلام النبلاء مؤسسة الرسالة (و) الشاملة 2
357. المغني في الضعفاء للذهبي (و) الشاملة 2
358. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (و) الشاملة 2
359. البداية والنهاية لابن كثير (و) الشاملة 2
360. الخلاصة في أحكام الحديث الضعيف للمؤلف
361. تاريخ الإسلام للذهبي (و) الشاملة 2 ت التدمري
362. الفصل في الملل والنحل لابن حزم مكتبة الخانجي - القاهرة
363. النهاية في غريب الأثر (و) الشاملة 2
364. تاج العروس للزبيدي (و) الشاملة 2
365. معجم لسان المحدثين خلف الشاملة 2
366. لسان العرب لابن منظور (و) الشاملة 2
367. المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية (و) الشاملة 2
368. المصباح المنير الفيومي (و) الشاملة 2
369. مختار الصحاح الرازي الشاملة 2
370. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (و) الشاملة 2
371. الحافظ ابن حجر ومنهجه في التقريب - للمؤلف
372. المنهج المأمول ببيان معنى قول ابن حجر مقبول لأبي محمد الألفي
373. الإكليل ببيان احتجاج الأئمة بروايات المجاهيل لأبي محمد الألفي
(1/408)
374. منهج دراسة الأسانيد والحكم عليها للعاني - الأردن
375. شَذَرَاتٌ مِنَ الْمَنْهَجِ الْمَأْمُولِ بِبَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ مَقْبُولْ / أبو محمد الألفي
376. الإكليل ببيان احتجاج الأئمة بروايات المجاهيل لأبي محمد الألفي
377. تحرير التقريب مؤسسة الرسالة
378. حتى ترضى لمصطفى عكرمة
379. الشاملة 2 (و) 3
380. برنامج قالون
(1/409)
جريدة الرموز:
خ= البخاري
م= مسلم
ت = الترمذي
د= أبو داود
نص= النسائي في المجتبى
ن= سنن النسائي الكبرى
هـ = ابن ماجة
حم= أحمد
طب= الطبراني في الكبير
طس= الطبراني في الأوسط
طص= الطبراني في الصغير
بز= البزار في مسنده
ع= أبو يعلى الموصلي
حب= ابن حبان في صحيحه
هق= البيهقي في السنن الكبرى
هب= البيهقي في شعب الإيمان
قط= الدارقطني في السنن
مي= الدارمي في سننه
عاصم= ابن أبي عاصم في السنة
ش= ابن أبي شيبة في المصنف
عب= عبد الرزاق في المصنف
مجمع= مجمع الزوائد للهيثمي
طيا= أبو داود الطيالسي
دعا طب= الدعاء للطبراني
ن عمل = النسائي في عمل اليوم والليلة
صحيح الترغيب= صحيح الترغيب والترهيب للألباني
صحيح الجامع= صحيح الجامع الصغير للألباني
(1/410)
الصحيحة= سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني
الضعيفة =سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني
الإتحاف= إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي
(1/411)