البارع في إقطاع الشارع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. عرض على ورقة صورتها: فرع يجوز للإمام إقطاع الشارع على الأصح فيصير المقطع به كالمتحجر ولا يجوز لأحد تملكه بالأحياء وفي وجه غريب يجوز للإمام تملك ما فضل عن حاجة الطريق ومراد قائله أن للإمام التملك للمسلمين لا لنفسه. وذكر الرافعي في الجنايات أنه تقدم في الأحياء أن الأكثرين جوزوا الإقطاع وأن المقطع يبنى فيه ويتملك وهذا ذهول فإن الأصح في الصلح منع البناء وهنا منع التملك انتهى. وأقول هذا الفرع منقول برمته من التكملة للزركشي والكلام عليه من وجهين: الوجه الأول في ذكر حكم المسألة إجمالا وحكمها على ما هو المفهوم من المنقول بعد مراجعة ما تيسر من كتب المذهب كالروضة والشرح وتهذيب البغوي وكافي الخوارزمي ونهاية إمام الحرمين وبسيط الغزالي ووسيطه والأحكام السلطانية للماوردي والتلخيص لابن القاص والبلغة للجرجاني وتعليق القاضي الحسين وغير ذلك، ومن كتب المتأخرين الكفاية لابن الرفعة وشرح المنهاج للسبكي والمهمات والخادم أن الإمام إذا أقطع أحدا موضعا من الشارع كان المقطع أولى به من غيره للارتفاق خاصة دون التملك والبناء وأنه لو جاء أحد بعد صدور الإقطاع إلى هذا الموضع فجلس فيه أزعج منه ولا يقر ولو كان المقطع غائبا عنه وليس فيه أمتعته فإن قلت مقتضى قوله كالمتحجر أنه لو جاء أحد وتعدى وجلس لم يمنع لأن المشبه به وهو المتحجر قالوا أنه يصير أحق من غيره ومع ذلك لو تعدى غيره وبنى لم يكن عليه سوى الإثم ويملك البقية بالإحياء ومقتضى ذلك أن المتعدي هنا ليس عليه سوى الإثم ولا يزعج قلت ليس الأمر كذلك كما سنبينه مفصلا. الوجه الثاني في الكلام على ذلك من حيث التفصيل فنقول في هذا الفرع المسؤول عنه أمور أحدها أن قوله كالمتحجر زيادة زادها الزركشي وليست في كلام الشيخين ولا غيرهما كما سنبين ذلك عند سياق عباراتهم وحينئذ فلا يرد أصلا(1/1)
السؤال المتقدم وعلى تقدير توجهه فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الوجه الأول أن القاعدة المقررة أنه لا يلزم استواء المشبه والمشبه به من كل وجه فيكون التشبيه في الأحقية فقط لا في القدر الزائد أيضا من حصول متعد بعد ثبوت الأحقية وهذا واضح، الثاني الفرق بين الصورتين فإن مسألة المتحجر البقعة فيها تقبل التملك فإذا وجد الأحياء الذي هو أقوى سببا عمل بمقتضاه وقدم على التحجر الذي هو أضعف وذلك من باب نسخ السبب الضعيف لوجود أقوى منه ونظيره إدخال الحج على العمرة وطروء الحدث الأكبر على الأصغر وتقديم المباشرة على السبب في باب الجنايات، وأما مسألة الشارع فالبقعة فيها لا تقبل التملك فلم يوجد سبب أقوى يقدم على هذا السبب فتمسكنا بالسبب السابق الذي هو إقطاع الإمام وألغى كلما طرأ بعده، الثالث أن قوله عقب هذا التشبيه ولا يجوز لأحد تملكه بالأحياء يجري مجرى القيد لمحل التشبيه فيكون في معنى قوله إنه كالمتحجر إلا أنه لا يجوز لأحد أن يتملكه فتكون هذه الجملة مخرجة لتلك الصورة المذكورة في المتحجر وهو تعدى شخص عليه بالأحياء فلا تأتى هنا ويكون إخراجها من منطوق الكلام لا من مفهومه ولهذا عبر بقوله لأحد الدال على العموم ولم يقل ولا يجوز له تملكه أي للمقطع ليفيد أن المقطع وغيره في ذلك سواء فبكل من هذه الأوجه الثلاثة عرف أن العبارة لا تعطى ذلك المقتضى المذكور، ووجه رابع وهو أنه شبهه بالمتحجر من حيث أنه لم يملك البقعة بالتحجر وكذلك هو لا يملك البقعة بالإقطاع وعلى هذا فقوله بعده ولا يجوز لأحد تملكه بالإحياء جار مجرى التفسير لا مجرى التقييد، الأمر الثاني أن قوله وذكر الرافعي في الجنايات إلى قوله وهذا ذهول سبقه إليه ابن الرفعة في الكفاية ثم السبكي في شرح المنهاج ثم الأسنوي في المهمات فاعتمده الزركشي هنا وحاول في الخادم التأويل والجمع بين كلام الرافعي ونحن نسوق ما تيسر من عبارات الأصحاب في المسألة قال في الروضة وهل(1/2)
قطاع الإمام فيه مدخل وجهان أصحهما عند الجمهور نعم وهو المنصوص لأن له فيه نظرا ولهذا يزعج من أضر جلوسه، وأما تملك شيء من ذلك فلا سبيل إليه بحال، وحكى وجه في الرقم للعبادي وفي شرح مختصر الجويني لأبي طاهر أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق والمعروف الأول- هذه عبارة الروضة فانظر كيف لم يذكر فيها قوله كالمتحجر وقال البغوي في التهذيب: القطائع قسمان أحدهما ما يملك وهو ما مضى من إحياء الموات والثاني إقطاع إرفاق لا تملك فيه كمقاعد الأسواق والطرق الواسعة ويجوز للسلطان إقطاعه لكنه لا يملكه بل يكون أولى به ويمنع أن يبني دكة لأنه يضيق الطريق ويضر بالضرير وبالبصير بالليل وإذا أقطع السلطان موضعا كان أحق به سواء نقل متاعه إليه أو لم ينقل لأن للإمام النظر والاجتهاد وإذا أقطعه ثبت يده عليه، وقال الخوارزمي في الكافي القطائع ضربان إقطاع إرفاق وإقطاع تملك أما إقطاع الإرفاق وهو أن يقطع الإمام أو نائبه من إنسان موضعا من مقاعد الأسواق والطريق الواسعة ليجلس فيه للبيع والشراء فيجوز إذا كان لا يضر بالمارة هذا هو المذهب، ولو أقطعه السلطان موضعا منه لا يملكه ويكون أولى به نقل متاعه إليه أو لم ينقل ولو قام عنه أو غاب عنه لا ينقطع حقه عنه حتى لو عاد كان أولى به ولو قعد فيه بالسبق من غير إقطاع كان أولى به ما دام هو فيه وكذا لو قام وترك فيه شيئا من متاعه فليس لغيره إزعاجه منه ولو لم يترك فيه شيئا فسبق إليه غيره كان الثاني أحق به والفرق بينهما أن الاستحقاق تم بالإقطاع وهو باق بعد الذهاب والاستحقاق ههنا بكونه فيه وقد زال - هذا هو المذهب انتهى كلام الخوارزمي بحروفه فانظر كيف صرح بأن المقطع أحق به ولو قام أو غاب ولم يكن له فيه متاع وإنه لو أراد أحد الجلوس فيه في غيبته أزعج بخلاف من قعد بالسبق من غير إقطاع إذا قام ولم يترك متاعه كان لغيره الجلوس فيه ثم فرق بين المسألتين ببقاء الاستحقاق بعد(1/3)
الذهاب بالإقطاع وهذا ما قدمنا ذكره في أول الكلام على المسألة، وقال الماوردي في الأحكام السلطانية وأما القسم الثالث وهو ما اختص بأفنية الشوارع والطرقات فهو موقوف على نظر السلطان وفي حكم نظره وجهان أحدهما أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار والإصلاح بينهم عند التشاجر وليس له أن يقيم جالسا ولا أن يقدم مؤخرا ويكون السابق إلى المكان أحق به من المسبوق، والوجه الثاني أن نظره فيه نظر مجتهد فيما يراه صلاحا من اجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه وتقديم من يقدمه كما يجتهد في أموال بيت المال وإقطاع الموات ولا يجعل السابق أحق على هذا الوجه وليس له على الوجهين أن يأخذ منهم على الجلوس أجرا وإذا تاركهم على التراضي كان السابق إلى المكان أحق من المسبوق انتهى، والوجه الثاني هو الذي ذكر في الروضة أنه الأصح فانظر كيف صرح الماوردي بان السابق لا يجعل أحق على هذا الوجه تقديما لإقطاع الإمام، وقال السبكي في شرح المنهاج وهل لإقطاع الإمام مدخل في الشوارع وجهان أصحهما نعم ورجحه الأكثرون ونص عليه الشافعي لأن للإمام نظرا واجتهادا في أن الجلوس في الموضع هل هو مضر أولا ولهذا يزعج من رأى جلوسه مضرا وإنما يزعجه الإمام وإذا كان لاجتهاده فيه مدخل فكذلك لإقطاعه، والثاني وهو اختيار الجوري والقفال ورجحه الغزالي أنه لا مدخل للإقطاع في ذلك لأنها منتفع بها من غير عمل فأشبهت المعادن الظاهرة ولأنه لا مدخل للتمليك فيها فلا معنى للإقطاع بخلاف الموات، قال الرافعي وللنزاع فيه مجال في قوله لا مدخل للتمليك فيه لأن في الرقم للعبادي وفي شرح مختصر الجويني لابن طاهر وجه أن للإمام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق وزاد الرافعي فقال في كتاب الجنايات فيما إذا حفر بئرا في شارع بإذن الإمام أن الذي أورده أصحابنا العراقيون والروياني وصاحب التتمة لا ضمان وجوزوا أن يخصص الإمام قطعة من الشارع ببعض الناس فإن الخلاف(1/4)
راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات أن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع وبينا أن الأكثرين قالوا نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه هذا كلامه في الجنايات، قال السبكي ولم يتقدم منه في إحياء الموات إلا ما ذكرناه فقوله بينا أن الأكثرين قالوا نعم يريد به تجويز الإقطاع وهو صحيح وقوله وجوزوا للمقطع أن يبني فيه يمكن تمشيته على قول من يقول بجواز بناء دكة في الشارع وقد تقدم في الصلح أن الأصح خلافه وقوله ويتملكه لا يمكن تمشيته إلا على ما حكاه هنا عن الرقم وشرح مختصر الجويني وهو وجه غريب منكر لا يكاد يعرف فلا يبني عليه قال والظاهر أن الرافعي لما تكلم في الجنايات طال عهده بما ذكره في الصلح وفي إحياء الموات ولم يحرره، قال ابن الرفعة وكيف قدر فهو بعيد إلا إذا جهل السبب الذي صار به الشارع شارعا وإذا جهل السبب ومنه ما يمتنع معه التملك جزما ومنه ما لا يكون كذلك فكيف يقدم على تملكه وأيضا فإن الشارع وإن اتسع في وقت قد يكون في وقت آخر بقدر الحاجة أو أضيق وهو موضوع شارعا لعموم الأوقات، قال السبكي وهذا الذي قاله ابن الرفعة صحيح ثم قال وإذا جوزنا الإقطاع في ذلك فإنما معناه أن يصير المقطع أحق بالارتفاق به من غيره قال وقد تكرر في كلام الشافعي والأصحاب أن الإقطاع قسمان إقطاع إرفاق وهو هذا وإقطاع تمليك وهو ما تقدم في الموات ليتملك بالإحياء فالشارع وإن أطلق عليه اسم الموات فيما عدا المرور ونحوه لا يدخله الإحياء ولا الحمى ولا إقطاع التمليك، ثم قال السبكي: فرع عن الأحكام السلطانية للماوردي إذا قلنا بدخول الإقطاع فلا يجعل السابق أحق قال فإن أراد السابق بعد الإقطاع فصحيح لأن بالإقطاع صار المقطع أحق وأما إذا سبق واحد قبل الإقطاع فينبغي أن يمتنع الإقطاع لغيره ما دام حقه باقيا ولا يأتي فيه خلاف لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) وحاصله أن السبق موجب للأحقية قطعا بالحديث(1/5)
والإقطاع موجب للأحقية على الصحيح فإن تعارضا قدم الأقدم تاريخا ولو فرضنا أنهما حصلا في وقت واحد فينبغي تقديم السبق لأنه ثابت بالنص وإنما لم نقدمه بعد الإقطاع لأنا نجعل الإقطاع سبقا انتهى كلام السبكي. فانظر كيف نقل عن الماوردي أن السابق مع الإقطاع لا حق له وحمله على السابق بعد صدور الإقطاع وقال إنه صحيح وعلله بأن بالإقطاع صار المقطع أحق وبأنا نجعل الإقطاع سبقا وهو عين ما نقلناه في أول الكلام على المسألة، الأمر الثالث في بقية ما يتعلق بكلام الرافعي قال في المهمات بعد سياق كلاميه ولا شك في أن المذكور هناك يعنى في الجنايات سهو فإنه أحال على المذكور هنا فأطلق القول من غير إمعان وقال في الخادم بعد أن ساق كلام الرافعي وكلام ابن الرفعة في الاعتراض عليه الذي يظهر أنهما مسألتان إحداهما أن الإمام هل له أن يملك ابتداء والأصح المنع وهو المذكور هنا والثانية أنه إذا أقطعه الإمام ذلك فهل للمقطع أن يتملكه إذا بنى فيه والأصح نعم وهو المذكور في الجنايات قال والحاصل أن هذا الإقطاع بمثابة إقطاع الموات إذا بنى فيه تملك وليس للإمام أن يملكه ابتداء قال فإن قلت يمنع من هذا حوالة الرافعي في الجنايات على المذكور هنا وهو لم يذكر هنا التملك بضم اللام وإنما ذكر التمليك، قلت قد ذكر هنا جواز الإقطاع ومن لازمه جواز التملك وقد صرح بهذا اللازم في الجنايات وأيضا فلم يقل في الجنايات أنه يملكه بل يتملكه ومعناه أنه يتملكه بالإحياء للمسلمين قال على أن الصواب المذكور هنا وفيما نقله هناك عن الأكثرين نظر أما قولهم إنهم جوزوا فيه البناء فلا يتأتى فيه الأعلى تجويز بناء دكة في الشارع إذا لم يضر وهو وجه والأصح كما قاله في باب الصلح المنع وإن لم يضر، وأما قولهم إنهم جوزوا تملكه فلا يتأتى إلا على ما حكاه هنا عن الرقم وهو وجه غريب قلت حط محط كلام الخادم على إبقاء الاعتراض على الرافعي والحكم عليه بالسهو فيما ذكره في(1/6)
الجنايات وهو معذور في ذلك فانه حاول الجمع بينهما بالطريق التي ذكرها فوجدها لا تتمشى على الراجح فرجع إلى مواقفه المعترضين، وأقول لا بأس بتأويل كلام الرافعي على وجه يمنع نسبة الذهول والسهو إليه وعبارته في الجنايات وإن حفر لمصلحة عامة ففيه الوجهان أو القولان والخلاف راجع إلى ما تقدم في إحياء الموات إن إقطاع الإمام هل له مدخل في الشوارع وبينا أن الأكثرين قالوا نعم وجوزوا للمقطع أن يبني فيه ويتملكه انتهى. فمحمل الإيراد هنا إجراء الكلام على أن قوله وجوزوا معطوف على قالوا فيكون منسوبا للأكثرين وعلى أن قوله ويتملكه الضمير فيه راجع إلى الشارع كما هو راجع إليه في قوله أن يبني فيه ويندفع الأول بأن يجعل قوله وجوزوا مستأنفا لا معطوفا على خبران فيكون إشارة إلى الوجه المذكور في الصلح أنه يجوز البناء في الطريق وهو وجه مشهور لا غريب وإن لم يكن هو المصحح، والقصد بسياق ذلك هنا الإشارة إلى بناء الخلاف في مسألة حفر البئر على هذا الخلاف المذكور في إحياء الموات في إقطاع الإمام للشارع وعلى الخلاف المذكور في جواز البناء في الشارع ويوضح ما قلناه من الاستئناف وعدم العطف إن مسألة البناء ليست مذكورة في إحياء الموات وإنما هي مذكورة في باب الصلح فكيف يظن بالرافعي أنه يعزو إلى باب مسألتين وليس فيه إلا إحداهما فتعين أن الذي عزاه إلى إحياء الموات إنما هو مسألة إقطاع الإمام فقط وهي التي حكى فيها هناك عن الأكثرين الجواز وتم الكلام عند قوله وبينا أن الأكثرين قالوا نعم ثم استأنف كلاما آخر على طريق التذييل مرشحا لما ذكره فقال وجوزوا أي طائفة من الأصحاب للمقطع أن يبني فيه فيكون ذلك ترشيحا لجواز حفر البئر في الشارع لمصلحة عامة الذي هو الأظهر ولا يلزم من ذلك أن يكون الراجح في مسألة البناء الجواز لما أشرنا إليه من أن القصد بسياق ذلك بناء الخلاف على الخلاف والترشيح ولا يلزم من بناء الخلاف في مسألة على الخلاف في أخرى(1/7)
أن يستويا في الترجيح وأما اعتراضهم عليه في قوله ويتملكه بأن الوجه القائل بتملك الشارع المحكى في إحياء الموات غريب منكر لا يبنى عليه ولا يعول فضلا عن أن يعزى إلى الأكثرين فإنه يندفع بأيسر شيء وذلك أن الاعتراض مبنى على أن الضمير في يتملكه عائد إلى الشارع ونحن نقول ليس عائدا إلى الشارع بل إلى البناء المفهوم من قوله يبنى فيه فيكون ذلك ترشيحا لجواز حفر البئر لأنه إذا قالت فرقة بجواز أن يبنى في الشارع ما يكون ملكا لبانيه فجواز حفر البئر ؟؟ لا تملك وتجعل لعموم المسلمين أولى. هذا ما تيسر تأويل كلام الرافعي عليه وهو وإن كان فيه بعض تكلف فإنه أولى من نسبة الإمام الرافعي إلى السهو والذهول. ومن النقول في المسألة عودا وانعطافا على ما تقدم قال ابن القاص في تلخيصه القطائع فرقتان أحدهما مضى والثاني إقطاع إرفاق لا يملك مثل المقاعد في الأسواق هو أحق به، وقال إمام الحرمين في النهاية الذي صار معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يقطع القاعد فله ذلك كما له أن يقطع الموات من محييه، وقال الغزالي في البسيط الإمام هل له أن يقطع مقاعد الأسواق؟ الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن له ذلك كما في الموات، وذكر في الوسيط نحوه، وقال الجرجاني في البلغة وأما الشوارع والرحاب الواسعة فلكل أحد أن يرتفق بالقعود فيها للبيع والشراء بحيث لا يضر بالمجتازين ومتى تركها كان غيره أحق بها وإن قام عنها ليعود إليها في غد كان أولى بها فإن أقطع الإمام مكانا منها كان المقطع أحق بالارتفاق به من غيره، وقال القاضي حسين في تعليقه الإقطاع قسمان أحدهما إقطاع تمليك وهو الموات الذي يتملكه المقطع بإحداث أمر فيه والثاني إقطاع إرفاق وهو مثل الرباطات ومقاعد الأسواق فللإمام أن يقطعها من شاء ليجلس فيها للتجارة وغيرها إذا كان لا يتضرر المارة به إذ لاجتهاده مدخل في هذه المواضع بدليل أنه يمنع عنه من يجلس فيه على وجه يتضرر به الناس بخلاف المعادن(1/8)
الظاهرة فإنه لا مدخل لاجتهاد الإمام فيها إذ لا يسوغ له منع أحد عنها بحال تم الحكم فيه أن المقطع أحق به ما دام يتردد ويرجع إليه فإن أعرض عنه وتركه فللغير أن يجلس فيه وإن اشتغل عنه بعذر أو غيره فحقه قائم فيه ليس للغير أن يجلس مكانه وإذا مرض أو غاب إن كانت المدة قصيرة لم يكن للغير أن يجلس مكانه وإن طالت المدة فللغير الجلوس مكانه ولا يملكه المقطع بحال إذ ليس فيه أثر عمارة ولا عين مال بخلاف الموات والمعادن الباطنة على أحد القولين انتهى. فهذه عبارات مشاهير أئمة الأصحاب ليس فيها تعرض لتشبيهه بالمتحجر حتى يتوهم أن يأتي في المتعدي عليه على ما يأتي في المتعدى على المتحجر والله أعلم. قال مؤلفه رضي الله عنه ألفته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثمانمائة.(1/9)
الجواب الحاتم عن سؤال الخاتم
مسألة - التختم بالفضة هل له وزن معلوم لا يجوز الزيادة عليه وهل يجوز 00التختم بسائر المعادن كالنحاس والحديد وهل يجوز تعدد الخواتم من الفضة وهل تختم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضة أو بغيرها وهل تباح الفصوص في الخواتيم للرجال وهل كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم بفص وما كان فصه وهل تختم في اليمن أو الشمال وهل كان فصه مما يلي ظاهر الكف أو باطنه وهل الحديث الذي ورد أن رجلا دخل عليه صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم نحاس فقال ما لي أرى عليك رائحة أهل النار صحيح ومن رواه وهل يؤخذ منه التحريم أو الكراهة.(1/1)
الجواب - أما الوزن فلم يتعرض له أصحابنا في كتب الفقه ولكن ورد في الحديث (ولا تتمه مثقالا) قال الزركشي في الخادم لم يتعرض أصحابنا لقدر الخاتم ولعلهم اكتفوا بالعرف فما خرج عنه إسراف، وأما التختم بسائر المعادن ماعدا الذهب فغير حرام بلا خلاف لكن هل يكره وجهان أحدهما نعم لحديث بريدة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال (ما لي أجد منك ريح الأصنام) فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) فطرحه فقال يا رسول الله من أي شيء أتخذه قال (اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا) أخرجه أبو داود والترمذي وفي سنده رجل متكلم فيه فضعفه النووي في شرح المهذب لأجله ولكن ابن حبان صححه فأخرجه في صحيحه، وهذا هو الحديث المسؤول عنه في السؤال، والوجه الثاني أنه لا يكره ورجحه النووي في الروضة وشرح المهذب قال لضعف الحديث الأول، ولما أخرجه أبو داود بإسناد جيد عن معيقيب الصحابي قال كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوى عليه فضة، وأما التعدد فصرح به الدارمي من أصحابنا فقال يكره للرجل أن يلبس فوق خاتمين فضة فمقتضاه جواز الخاتمين بلا كراهة وارتضاه 0الأسنوي وقيده الخوارزمي في الكافي بأن لا يجمع بينهما في إصبع، وأما هل تختم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضة أو بغيرها فسيأتي حديث أنه كان خاتمه من ورق وتقدم حديث معيقيب، أنه كان خاتمه من حديد، وأما تختمه بالذهب فقد كان قبل ذلك ثم نهى عنه وطرحه كما في الصحيح، وأما الفص فمباح للرجال وغيرهم قال النووي في شرح المهذب يجوز الخاتم بفص وبلا فص ويجعل الفص من باطن كفه أو ظاهرها وباطنها أفضل للأحاديث الصحيحة فيه انتهى، وأما فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري أن فصه كان منه وفي صحيح مسلم عن أنس قال كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا فجمع بين الحديثين بالحمل على التعدد وذكر في شرح قوله(1/2)
وكان فصه حبشيا أنه حجر من بلاد الحبشة وقيل جزع أو عقيق لأن ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة، ورأيت في المفردات في الطب لابن البيطار أنه صنف من الزبرجد، وأما هل تختم صلى الله عليه وسلم في اليمن أو اليسار فقد تختم في كل منهما صح كل ذلك من فعله قال النووي في شرح المهذب التختم في اليمن أو اليسار كلاهما صح فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه في اليمن أفضل لأنه زينة واليمن بها أولى، وقال الحافظ ابن حجر ورد تختمه صلى الله عليه وسلم في اليمين من حديث ابن عمر عند البخاري وأنس عند مسلم وابن عباس وعبد الله بن جعفر عند الترمذي وجابر عنده في الشمائل وعلي عند أبي داود والنسائي وعائشة عند البزاز وأبي أمامة عند الطبراني وأبي هريرة عند الدار قطني في غرائب مالك فهؤلاء تسعة من الصحابة، وورد تختمه باليسار من حديث أنس عند مسلم وابن عمر عند أبي داود وأبي سعيد عند ابن سعد ووردت رواية ضعيفة أنه تختم أولا في اليمين ثم حوله إلى اليسار أخرجها ابن عدي من حديث ابن عمر واعتمد عليها البغوي في شرح السنة فجمع بين الأحاديث المختلفة بأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم في يساره وكان ذلك آخر الأمرين، وقال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال لا يثبت هذا ولكن في يمينه أكثر، وأما هل كان فصه مما يلي باطن الكف أو ظاهره فقد 0ورد أيضا كلاهما من فعله صلى الله عليه وسلم ولكن أحاديث الباطن أصح وأكثر فلذلك كان أفضل والله أعلم.(1/3)
الحبل الوثيق في نصرة الصديق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد فقد رفع إلى سؤال في قوله تعالى (لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى) إلى آخر السورة هل نزل ذلك في رجلين معينين وما سبب نزوله وهل المراد بالأتقى أبو بكر الصديق أو الآية عامة فيه وفي غيره، وذكر السائل أن السبب في هذا السؤال أن الأمير ازدمر حاجب الحجاب والأمير خاير بك من حديد وقع بينهما تنازع في أبي بكر رضي الله عنه هل هو أفضل الصحابة وأن خاير بك قائل بذلك وأن ازدمر ينكر ذلك وأنه طالب خاير بك بدليل من القرآن على أن أبا بكر أفضل وأن خاير بك استدل عليه بقوله تعالى وسيجنبها الأتقى فإنها نزلت في حق أبي بكر وقد قال الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وأن ازدمر قال الأتقى عام في أبي بكر وغيره وطالب كل منهما الآخر بشهادة العلماء له بنصره قوله وأن الشيخ شمس الدين الجوجري كتب على سؤال نظير هذا السؤال فقلت أرني ما كتب فأرانيه فإذا فيه أن الآية وإن نزلت في أبي بكر فإنها عامة المعنى إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقلت هذا شأن من يلقي نفسه في كل واد والرجل فقيه فما له يتكلم في غير فنه وهذه المسألة تفسيرية حديثية أصولية كلامية نحوية فمن لم يكن متبحرا في هذه العلوم الخمسة لم يحسن التكلم في هذه المسألة وأنا أوضح الكلام عليها في فصلين:(1/1)
(الفصل الأول): في تقرير أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه، قال البزار في مسنده حدثنا بعض أصحابنا عن بشر ابن السري ثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال نزلت هذه الآية (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى) إلى آخر السورة في أبي بكر الصديق، وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني محمد ابن إبراهيم الأنماطي ثنا هرون بن معروف ثنا بشر بن السرى به وقال ابن المنذر في تفسيره حدثنا موسى بن هرون ثنا هرون بن معروف ثنا بشر بن السري به وقال الآجري في الشريعة ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا محمود بن آدم المروزي ثنا بشر بن السري به، وقال ابن أبي حاتم في تفسيره ثنا أبي ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا سفيان ثنا هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة وفيه نزلت (وسيجنبها الأتقى) إلى آخر السورة، وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى ثنا ابن ثور عن معمر قال أخبرني عن سعيد في قوله (وسيجنبها الأتقى) قال نزلت في أبي بكر أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاءا ولا شكورا ستة أو سبعة منهم بلال وعامر بن فهيرة، وقال ابن إسحاق حدثني محمد ابن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله عن أبيه قال قال أبو قحافة لأبي بكر أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت اعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقوموني دونك فقال يا أبة إني إنما أريد ما أريد ثم نزلت هذه الآيات فيه (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتّى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق زياد البكائي عن ابن إسحاق، وقال صحيح على وجه مسلم، وقال ابن جرير حدثني هرون بن إدريس الأصم ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال كان أبو بكر الصديق يعتق(1/2)
على الاسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك أعتقت رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك فقال أي أبت إنما أريد ما عند الله قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى) إلى قوله (وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا منصور ابن أبي مزاحم ثنا ابن أبي الوضاح عن يونس بن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبى بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه لله فأنزل الله (والليل إذا يغشى) إلى آخرها في أبي بكر وأمية بن خلف، وقال الآجري في الشريعة ثنا حامد بن شعيب أبو العباس البلخي ثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا أبو سعيد المؤدب عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود قال إن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبى بن خلف ببردة وعشرة أواق فاعتقه لله فأنزل الله (والليل إذا يغشى) إلى قوله (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى) يعني أبا بكر (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) قال لم يصنع ذلك أبو بكر ليد كانت منه إليه فيكافئه بها (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) وفي تفسيره البغوي قال سعيد بن المسيب بلغني أن أمية ابن خلف قال لأبي بكر الصديق في بلال حين قال أتبيعنيه قال نعم أبيعه بقسطاس عبد لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش وكان مشركا يأبى الإسلام فاشتراه أبو بكر به فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) وفي تفسير القرطبي روى عطاء أو الضحاك عن ابن عباس قال عذب المشركون بلالا فاشتراه أبو بكر برطل من ذهب من أمية بن خلف وأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده فنزلت (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) قال(1/3)
الآجري: هذا وما قدمناه من الأحاديث يدل على أن الله خص أبا بكر بأشياء فضله بها على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهذا ما يتعلق بنزول الآية وهو من علم الحديث ويأتي في الفصل بعد هذا ما يتعلق بها من العلوم الأربعة التفسير والكلام وأصول الفقه والنحو وقد تواردت خلائق من المفسرين لا يحصون على أنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه وكذا أصحاب الكتب المؤلفة في المبهمات.
(الفصل الثاني): في تضعيف ما أفتى به الجوجري وذلك من أربعة وجوه ثلاثة جدلية وواحد من طريق التحقيق فأما الثلاثة الأولى فأحدها أن نقول لا شك انه لو جاز لأحد أن يفتي في مسألة بمجرد نظره لها في كتاب أو كتابين من غير أن يكون متقنا لذلك الفن بجميع أطرافه ماهرا فيه متبحرا فيه لجاز لآحاد الطلبة أن يفتوا بل العوام والسوقة لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفا بعدة من المسائل تعلمها من عالم أو رآها في كتاب ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي وقد نص العلماء على أن العامي لو تعلم مسائل وعرفها لم يكن له أن يفتي بها إنما يفتي المتبحر في العلم العارف بتنزيل الوقائع الجزئية على الكلية الكليات المقررة في الكتب وما شرطوا في المفتي أن يكون مجتهدا إلا لهذا المعنى وأمثاله والمدار الآن على التبحر فمن تبحر في فن أفتى به وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه ويطلق قلمه فيه وهو لم يقف على متفرقات كلام أرباب ذلك الفن فلعله يعتمد على مقالة مرجوحة وهو يظنها عندهم صحيحة وهذه المسألة من ذلك كما سنبينه، وكذلك ليس لأحد أن يفتي في العربية وقصارى أمره النظر في ابن المصنف والتوضيح ونحو ذلك بل حتى يحيط بالفن خبرة ويقف على غرائبه وغوامضه ونوادره فضلا عن ظواهره ومشاهيره، وما مثل من يفتي في النحو وقصارى أمره ما ذكر إلا مثل ما قرأ المنهاج واقتصر عليه وأراد أن يفتي في الفقه فلو جاءته مسألة من الروضة مثلا فإن كان دينا قال هذه لم أقف عليها وإن كان غير ذلك(1/4)
أنكرها بالكلية وقال هذا شيء لم يقله أحد بل ولا والله لا يكتفي في إباحة الفتوى بحفظ الروضة وحدها فماذا يصنع في المسائل التي اختلف فيها الترجيح، ماذا يصنع في المسائل ذات الصور والأقسام، ولم يذكر في الروضة بقية صورها وأقسامها، ماذا يصنع في مسائل لها قيود ومحال تركت من الروضة وهي مفرقة في شرح المهذب وغيره من الكتب، ماذا يصنع في مسائل خلت عنها الروضة بالكلية بل لابد في المفتى من أن يضم إلى الروضة حمل كتب فإن لم ينهض إلى ذلك وعسر عليه النظر في كتاب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه المتقدمين فلا أقل من استيعاب كتب المتأخرين وقد قال ابن بلبان الحنفي في كتابه زلة القارئ قال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني في خزانة الأكمل لا يجوز لأحد أن يفتي في هذا الباب يعني باب اللحن في القراءة إلا بعد معرفة ثلاثة أشياء حقيقة النحو والقراءات الشواذ وأقاويل المتقدمين والمتأخرين من أصحابنا في هذا الباب، الوجه الثاني أن يقول لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم وأئمة المفسرين وأصناف شتى كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم فكان تفسيره في غاية الاتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن الذي تلك الحيثية منه فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل والأثر وأجلها تفسير ابن جرير الطبري فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كاشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين وسائر تفاسير المحدثين المسندة كسعيد بن منصور والقرباني وابن المنذر وابن(1/5)
أبي حاتم وأبي الشيخ ومن جرى مجراهم ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه كابن فورك والباقلاني وإمام الحرمين والإمام فخر الدين والاصبهاني ونحوهم، ومن أراد التكلم عليها من حيث الأعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه كأبي حيان، ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف وتفسير الطيبي ونحو ذلك، ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ابن جرير ونحوه لأجل معرفة الأرجح في التفسير وكتاب الإمام فخر الدين ونحوه لأجل معرفة التقرير الكلامي ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرر والاستدلال بها على أفضلية الصديق ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك والباقلاني والشهرستاني وإمام الحرمين والغزالي ومن جرى مجراهم ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ويعتزل الراحة والشغل ولا يسأم ولا يضجر يدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل أشكال وأعد له الجواب المقبول حطم حينئذٍ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله ويظهر فيه بادئ الرأي مع الراحة والاتكال على الشهرة وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاج إليه فيه فإنه لا يليق ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمم على قوله أن يقول الظاهر كذا أو كذا أو هذا الذي ظهر لي من غير اعتماد على مستند بيده أو حجة يظهرها كأنه الشيخ أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمدا على(1/6)
الإلهام الواقع في قلبه ذاك إلهامه صواب لا يخطئ وبعد موتات ماتها في الله، الوجه الثالث أن نقول لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان فالمفتي طبيب الأديان وذلك طبيب الأبدان وقد قال عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور قال السبكي ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصور الحادثة فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما خاصا هذا كلام السبكي قرره في كتاب ألفه في شأن رافضي حكم بقتله وسماه غيرة الإيمان الجلى لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقال السبكي أيضا في فتاويه ما معناه يوجد في فتاوى المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة لأنها وردت على وقائع فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتي بها بذلك ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره وهذه الواقعة المسؤول عنها تتعلق برافضي وليته رافضي فقط بل زنديق جاهل من كبار الجهلة ولقد اجتمعت به مرة فرأيت منه العجب من إنكاره الاحتجاج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد أقواله الشريفة ويقول لعنه الله وفض فاه النبي واسطى ما قاله وهو في القرآن فصحيح وما قاله وليس في القرآن وذكر كلمة لا أستطيع ذكرها فرجعت من عنده ولم أجتمع به إلى الآن وألفت مؤلفا سميته مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة وكان من جملة أقواله في ذلك المجلس على عنده العلم والشجاعة وأبو بكر ليس عنده ذلك وإنما زوجه بابنته وأنفق عليه ماله فكافأه بالخلافة بعده فقلت له وردت الأحاديث بأن أبا بكر أعلم الصحابة وأشجعهم فقال هذه الأحاديث كذب ثم أعاد الآن الكلام في ذلك مع خاير بك وطلب منه الاستدلال على أفضلية أبي بكر بآية من القرآن لأنه لا يرى الحديث حجة فذكر له خاير بك هذه(1/7)
الآية ولم يقلها من عند نفسه بل رآها في بعض كتب الكلام فذكرها فكان لا يليق بالجوجري في مثل هذه الواقعة أن يفتي بأن الآية ليست خاصة بأبي بكر ولا دالة على أفضليته فيؤيد مقالة الرافضي ويثبته على معتقده الخبيث ويدحض حجة قررها أئمة كل فرد منهم أعلم بالتفسير والكلام وأصول الفقه من مائة ألف من مثل الجوجري والله لو كان هذا القول في الآية هو المرجوح لكان اللائق في مثل هذه الواقعة أن يفتي به فكيف وهو الراجح والذي أفتى به الجوجري قول مرجوح، هذه الوجوه الثلاثة الجدلية وأما الوجه الذي يرد به عليه من جهة التحقيق فأقول قال البغوي في معالم التنزيل يريد بالأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى يطلب أن يكون عند الله زكيا لا رياء ولا سمعة يعني أبا بكر الصديق في قول الجميع وقال ابن الخازن في تفسيره الأتقى هنا أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهبت الشيعة إلى أن المراد به علي فانظر إلى نقل هؤلاء الأئمة الثلاثة إجماع المفسرين على أن المراد بالأتقى أبو بكر لا كل تقى، وقال الأصبهاني في تفسيره خص الصلى بالأشقى والتجنب بالأتقى وقد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء لأن الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل الأشقى وجعل مختصا بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له وقيل الأتقى وجعل مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له. انتهى، وهذا صريح في أن المراد بالأتقى أتقى الأتقياء على الاطلاق لا مطلق التقى وأتقى الأتقياء على الإطلاق بعد النبيين أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقال النسفي في تفسيره الأتقى الأكمل تقوى وهو صفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقال ودل على فضله على جميع الأمة قال تعالى (إن أكرمكم(1/8)
عند الله أتقاكم) انتهى. وقال القرطبي في تفسيره قال ابن عباس الأتقى أبو بكر الصديق وقال بعض أهل المعاني أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي واحد ووحيد فوضع أفعل موضع فعيل انتهى. وهذا الذي نقله عن بعض أهل المعاني هو الذي أفتى به الجوجري عادلا عن قول جميع المفسرين إلى قول بعض أهل النحو قال ابن الصلاح حيث رأيت في كتب التفسير قال أهل المعاني فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش وابن الأنباري انتهى. وكذا نقل ابن جرير في تفسيره هذه المقالة عن بعض أهل العربية ثم قال والصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل أنها في أبي بكر بعتقه من أعتق من المماليك ابتغاء وجه الله فأنت ترى هذه النقول تنادي على أن الذي أفتى به الجوجري مقالة في الآية لبعض النحويين مشى عليها بعض المصنفين في التفسير وأن الذي وردت به الآثار وقاله المفسرون من السلف وصححه الخلف اختصاصها بأبي بكر ابقاء للصيغة على بابها هذا بيان رجحان ذلك من حيث التفسير وأما من حيث أصول الفقه والعربية فأقول قول الجوجري إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فرع أن يكون في اللفظ عموم حتى يكون العبرة به والآية لا عموم فيها أصلا ورأسا بل هي نص في الخصوص وبيان ذلك من وجهين: أحدهما أن العموم إنما يستفاد في مثل هذه الصيغة من أل الموصولة والتعريفية وليست أل هذه موصولة قطعا لأن الأتقى أفعل تفضيل وأل الموصولة لا توصل بأفعل التفضيل بإجماع النحاة وإنما توصل باسم الفاعل والمفعول وفي الصفة المشبهة خلاف وأما أفعل التفضيل فلا توصل به بلا خلاف وأما التعريفية فإنما تفيد العموم إذا دخلت على الجمع فإن دخلت على مفرد لم تفده كما اختار الإمام فخر الدين ومن قال إنها تفيده فيه قيده بأن لا يكون هناك عهد فإن كان لم تفده قطعا هذا هو المقرر في علم الأصول والأتقى مفرد لا جمع(1/9)
والعهد فيه موجود فلا عموم فيه قطعا فعلم بذلك أنه لا عموم في الأتقى فتأمل فإنه نفيس فتح الله به علي تأييدا للجناب الصديقي، الوجه الثاني أن الأتقى أفعل تفضيل وأفعل التفضيل لا عموم فيه بل وضعه للخصوص فإنه لتفرد الموصوف بالصفة وأنه لا مساوى له فيها كما تقول زيد أفضل الناس أو الأفضل فإنها صيغة خصوص قطعا عقلا ونقلا ولا يجوز أن تتناول غيره أبدا فبان بذلك أنه لا عموم في الأتقى وإلى ذلك يشير تقرير الاصبهاني حيث قال فإن قلت كيف قال لا يصلاها إلا الأشقى وسيجنبها الأتقى وقد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص بالصلى أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله وسيجنبها الأتقى فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة قلت الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل الأشقي وجعل مختصا بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له وقيل الأتقى وجعل مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له هذه عبارة وهي صريحة في إرادة الخصوص أخذا من صيغة أفعل التفضيل ومن جنح من أهل العربية إلى أنها للعموم احتاج إلى تأويل الأتقى بالتقى ليخرج عن التفضيل وهذا مجاز قطعا والمجاز خلاف الأصل ولا يصار إليه إلا بدليل ولا دليل يساعده بل الدليل يعارضه وهو الأحاديث الواردة في سبب النزول وإجماع المفسرين كما نقله من تقدم فثبت بهذا كله أن الكلام على حقيقته للتفضيل وأن اللام للعهد وأنه لا عموم فيه أصلا فإن قلت: لم يؤخذ العموم من لفظ الأتقى بل من لفظ الذي يؤتى فإن الذي من صيغ العموم قلت: هذه غفلة منك وجهل بالعربية فإن الذي وصف للأتقى وقد تبين أن الأتقى خاص فيجب أن تكون صفته كذلك لما تقرر في العربية أن الوصف لا يكون أعم من الموصوف بل مساويا له أو أخص منه فاشدد بهذا الكلام(1/10)
يديك وعض عليه بناجذيك على أن في قوله (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) وقوله (ولسوف يرضى) ما يشير إلى التنصيص على التخصيص وقد قرر الإمام فخر الدين اختصاص الآية بأبي بكر والاستدلال بها على أفضليته بطريق آخر فقال أجمع المفسرون منا على أن المراد بالأتقى أبو بكر وذهب الشيعة إلى أن المراد به علي والدلالة النقلية ترد ذلك وتؤيد الأول وبيان ذلك أن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق لقوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقيكم) والأكرم هو الأفضل فالأتقى المذكور هنا هو أفضل الخلق عند الله والأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي ولا يمكن حمل الآية على علي فتعين حملها على أبي بكر وإنما لم يكن حملها على علي لأنه قال عقيب صفة هذا الأتقى وما لأحد عنده من نعمة تجزي وهذا والوصف لا يصدق على علي لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخذه من أبيه فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه فكان الرسول صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب جزاؤها أما أبو بكر فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول وإنما كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين وهذه النعمة ولا تجزي لقوله تعالى (لا أسألكم عليه أجرا) والمذكور هنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزي فعلم أن هذه الآية لا تصلح لعلي وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق وثبت أن ذلك الأفضل من الآية إما أبو بكر وإما علي وثبت أن الآية غير صالحة لعلي تعين حملها على أبي بكر وثبت دلالة الآية أيضا على أن أبا بكر أفضل الأمة انتهى كلام الإمام.(1/11)
الحظ الوافر من المغنم في استدراك الكافر إذا أسلم
مسألة - الكافر إذا أسلم وأراد أن يقضي ما فاته في زمن الكفر من صلاة وصوم وزكاة هل له ذلك وهل ثبت أن أحدا من الصحابة فعل ذلك حين أسلم.
الجواب - نعم له ذلك، وذلك مأخوذ من كلام الأصحاب إجمالا وتفصيلا أما الإجمال فقال النووي في شرح المهذب اتفق أصحابنا في كتب الفروع على أن الكافر الأصلي لا تجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، ومرادهم أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي فاقتصر على نفي اللزوم فيبقى الجواز، وعبارة المهذب فإذا أسلم لم يخاطب بقضائها لقوله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأن في إيجاب ذلك عليهم تنفيرا فعفى عنه فاقتصر على نفي الإيجاب فيبقى الجواز أو الاستحباب، وأما التفصيل فإن الفقهاء قد قرنوا في كتاب الصلاة بين الكافر والصبي والمجنون والمغمى عليه والحائض في عدم وجوب الصلاة، ونص بعضهم على أن الصبي إذا بلغ وقد فاتته صلاة يسن له قضاؤها ولا تجب عليه، وأن المجنون والمغمى عليه يستحب لهما قضاء الصلاة الفائتة في زمن الجنون والإغماء - كذا نقله الأسنوي عن البحر للروياني، ونقل عنه وعن شرح الوسيط للعجلي أن الحائض يكره لها القضاء. فهذه فروع منقولة والكافر في معنى ذلك فيجوز له القضاء إن لم يصل الأمر إلى درجة الاستحباب ولا يمكن القول بالتحريم بل ولا بالكراهة، ويفارق الحائض فإن ترك الصلاة للحائض عزيمة وبسبب ليست متعدية به والقضاء لها بدعة، ولهذا قالت عائشة لمن سألتها عن ذلك أحرورية أنت، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الصلاة عليها، وترك الصلاة للكافر بسبب هو متعد به وإسقاط القضاء عنه من باب الرخصة مع قول الأكثرين بوجوبها عليه حال الكفر وعقوبته عليها في الآخرة كما تقرر في الأصول. فاتضح بهذا الفرق بينه وبين الحائض حيث يكره لها القضاء ولا يكره له بل يجوز أو(1/1)
يندب، ويقاس بصلاة الكافر جميع فروع الشريعة من زكاة وصوم، هذا ما أخذته من نصوص المذهب، وأما الأدلة فوردت أحاديث يستنبط منها جواز ذلك بل ندبه: منها ما أخرجه الأئمة الستة وغيرهم عن عمر بن الخطاب أنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك قال النووي في شرح مسلم من قال إن نذر الكافر لا يصح وهم جمهور أصحابنا حملوا الحديث على الاستحباب أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل الذي نذرته في الجاهلية انتهى. وفي هذا دلالة على أن الكافر يستحب له أن يتدارك القرب التي لو فعلها في حال كفره لم تصح منه ولو كان مسلما لزمته، وهذه دلالة ظاهرة لا شبهة فيها، وقال الخطابي في معالم السنن في هذا الحديث دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعة، وقال القمولي من متأخري أصحابنا في الجواهر إذا نذر الكافر لم يصح نذره لكن يندب له الوفاء إذا أسلم فلو نذر اليهودي أو النصراني صلاة أو صوما ثم أسلم استحب له الوفاء ويفعل صلاة شرعنا وصوم شرعنا لا صلاة شرعه وصومه - هذا كلام القمولي، وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة استدل بهذا الحديث من يرى صحة النذر من الكافر وهو قول أو وجه في مذهب الشافعي والأظهر أنه لا يصح لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب، ومن يقول بهذا احتاج إلى أن يأول الحديث بأنه أمر أن يأتي باعتكاف يوم يشبه ما نذر فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالنذر وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة، وعلى هذا يكون قوله أوف بنذرك من مجاز الحذف أو مجاز التشبيه، ومنها ما أخرجه مسلم عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية 0يعني أتبرر بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف من الخير قلت فو الله لا أدع شيئا منعته في الجاهلية إلا فعلت في الإسلام مثله. قلت هذا الحديث يؤخذ منه بدلالة الإشارة استدراك ما فات في الجاهلية فإنه لما صدر منه ما(1/2)
صدر من القربات في الجاهلية كأنه لم يرها تامة لفقد وصف الإسلام فأعاد فعلها في الإسلام استدراكا لما فات من وصف التمام، واخرج الحاكم في المستدرك عن هشام عن أبيه قال اعتق حكيم مائة رقبة وحمل على مائة بعير في الجاهلية فلما أسلم اعتق مائة وحمل على مائة بعير، هذا الحديث فيه التصريح بوفائه بما وعد به. ومنها ما روى أن أبا سفيان لما أسلم قال يا رسول الله لا أترك موقفا قاتلت فيه المسلمين إلا قاتلت مثله الكفار ولا درهما أنفقته في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت مثله في سبيل الله، هذا الحديث صريح بمنطوقه في استدراك تكفير ما مضى في الكفر من فعل المناهي وهو غير لازم فيحمل على الندب ويؤخذ من فحواه استحباب استدراك ما مضى في الكفر من ترك الأوامر، وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن عكرمة بن أبي جهل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم جئت مرحبا بالراكب المهاجر مرحبا بالراكب المهاجر فقلت والله يا رسول الله لا أدع نفقة أنفقتها إلا أنفقت مثلها في سبيل الله، هذا أيضا من استدراك تكفير ما مضى من فعل المنهيات في حال الكفر.(1/3)