أدعياء السلفية
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الفاضل ظهرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا (فلسطين) فرقة تطلق على نفسها (السلفية) تعتبر الحكام الحاليين أولي أمر تجب مبايعتهم، ويحرم الخروج عليهم تحت أي ظرف، إلا إن استحلوا ترك الحكم بما أنزل الله استحلالاً قلبياً، وينسبون هذا القول إلى أهل السنة والجماعة، وإن كل من يخالف هذا القول يعتبر خارجياً تكفيرياً تجب معاداته والتحذير منه،فما صحة ما يدعون إليه مع بيان حكم التعامل معهم أو تكثير سوادهم؟حفظك الله تعالى، ونفع بعلمك آمين.
* * *
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذه جماعة بدأت بالانتشار فعلاً في مجتمعنا، وقد سمعنا عنها العجب العجاب،وقد نقل لنا كثير من طلاب العلم بعض ما يدعون إليه أبرزه ما تضمنه في سؤالك حفظك الله تعالى.
وكنت أود الرد على بعض شبهاتهم التي يلبسون بها على العامة بشكل مفصل، ولكن سؤالك دفعني للرد على هذه المسألة بشكل خاص وهأنذا أرد على سؤالك رداً موجزاً ألقي الضوء على أهم ما قعّدوا عليه قولهم مستعيناً بالله سبحانه راجياً الأجر والمثوبة منه.
أولاً:
هذا القول بناء على مذهبهم الفاسد الذي يقضي بإخراج العمل من الإيمان، وجعل الإيمان يقوم على تصديق القلب، وإقرار اللسان، وأما العمل عندهم فهو شرط كمال وهو مذهب المرجئة الضالين المخالفين لأهل السنة والجماعة، إذ الإيمان عند أهل السنة هو قول وعمل يزيد وينقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة : أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية).(1/1)
فانظر يرحمك الله تعالى كيف جعل ابن تيمية رحمه الله هذا التعريف من أصول أهل السنة والجماعة، أي من القواعد التي يقوم عليها دينهم، وكما هو معروف في الأصول أن الشيء يعرف بما يبينه ويحده، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن حقيقة الإيمان عند أهل السنة تقوم على ثلاثة أركان وهي عمل القلب، عمل اللسان، عمل الجوارح، فعمل الجوارح من أركان الإيمان، والركن كما هو معلوم، الجانب الأقوى الذي إذا ترك عدم الأصل وإن أتي بسائر الأركان، مثال ذلك الصلاة، فلو صلى رجل من غير ركوع مع إتيانه بسائر أركان الصلاة، لا يعتبر قد صلى لمَ؟ لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة، وهكذا من لم يأت بعمل الجوارح لا يعتبر مؤمناً وإن أقر بلسانه، وصدق بقلبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ولا نؤدي الأمانة ولا نفي بالعهد ولا نصل الرحم ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضاً ونقاتلك مع أعدائك، هل كان يتوهم عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم؛ أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم أهل شفاعتي يوم القيامة ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك) أهـ(1/2)
والمتأمل في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يجده يرد على طائفتين من الناس، الأولى الخوارج الذين يكفرون الناس بالكبائر، الثانية المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، بل ويجعل ضلال هؤلاء معلوماً من الدين بالضرورة، أي لا يخفى على عوام أهل السنة ناهيك عن أن يخفى على خواصهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: هل كان يتوهم عاقل؟! أي لا يخفى هذا الأمر إلا على من سلب الله منه العقل نعوذ بالله سبحانه من الضلال بعد الهدى.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، هو عين مذهب أهل السنة والجماعة، بل كل من يخالف ذلك يعتبر خارجاً عن مذهب أهل السنة بقدر مخالفته لهم، خاصة إن كان خلافه لهم يتعلق بأصل من أصولهم،كالمسألة التي نحن بصددها.ومن الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في مسمى الإيمان قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.(1/3)
وإنما أداة حصر تدل على القصر، أي يبين الله سبحانه أن الإيمان مشتمل على عمل الباطن وعمل الظاهر، فقوله: {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} عمل الباطن وهو القلب، وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} عمل الجوارح، ثم قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً}. فالمؤمنون الحق، أي الذين تحققوا على حقيقة الإيمان، أي هم الذين يجمعون بين عمل الباطن وعمل الظاهر، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، ففي هذه الآية الكريمة يقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه لرسوله صلى الله عليه وسلم نافياً الإيمان عن الزاعمين له حتى ينقادوا ظاهراً وباطناً إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله سبحانه: {حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}. دليل على انقياد الظاهر. وقوله سبحانه: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ}. دليل على انقياد الباطن. والفرق بين الآيتين، أن الآية الأولى دلت على إثبات الإيمان لمن جمع بين عمل الظاهر وعمل الباطن، والآية الثانية،دلت على نفي الإيمان عن الذين لا ينقادون إلى حكم الله ظاهراً وباطناً.
ولكن قد يقول البعض: إن نفي الإيمان هنا يدل على نفي الكمال وليس الحقيقة.(1/4)
أقول: هذا أيضاً بناء على أصل مذهبهم القائم على إخراج العمل عن مسمى الإيمان،وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ولنأخذ على سبيل المثال هاتين الآيتين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
جاء في سبب نزول هاتين الآيتين في تفسير "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"؛ أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ..} الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها طيبة، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) .(1/5)
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري أن هذه الآية أنزلت فينا {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}؛ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : (من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين . فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية) .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : ( إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله . . . ! تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم، فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء . فنزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} إلى قوله { حتى يهاجروا في سبيل الله } يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم، {فإن تولوا } قال : عن الهجرة " ).(1/6)
وأخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف " أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأسلموا وأصابهم وباء المدينة حماها فأركسوا، خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا، إنهم مسلمون . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة عن عبد الرحمن: أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ارتكسوا فرجعوا إلى قومهم، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفوهم فسألوهم : ما ردكم ؟ فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم : نافقتم، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول، فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة، يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون . وقائل يقول : هم مؤمنون، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتلهم، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه وبين محمد عليه السلام حلف، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .(1/7)
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}، قال : ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش، كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال . وقال بعضهم : لا يحل ذلك لكم . فتشاجروا فيهما، فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِؤ حتى بلغ { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم}.
وأخرج ابن جرير عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، أو كان ذلك منهم كذبا، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماؤهم حلال . وطائفة قالت : دماؤهم حرام . فأنزل الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من ولايتهم آخرون، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين، وبرأ المؤمنين من ولايتهم، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .(1/8)
وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة، فاختلف المسلمون فيهم، فقالت طائفة : لو لقيناهم قتلناهم وأخذنا ما في أيديهم . وقال بعضهم : لا يصلح لكم ذلك، إخوانكم انطلقوا تجارا . فنزلت هذه الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
وما نستفيده من هاتين الآيتين، أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الحكم على طائفة تخلفت عن نصر المؤمنين مع إظهارها للإسلام، فقالت طائفة من المسلمين: هم مسلمون لأنهم يشهدون شهادة الحق، وقالت الطائفة الأخرى:هم منافقون خارجون عن الإسلام بسبب تخاذلهم وعدم نصرهم للمؤمنين وتوليهم للكافرين، فأنكر الله سبحانه على المؤمنين هذا الخلاف الذي الأصل فيه أن لا يكون، ثم بين حكمه في هؤلاء المتخلفين بأنهم منافقون ظاهرو النفاق.(1/9)
ودليل أن هؤلاء مظهرون للإسلام وقوع الخلاف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلو أنهم كفروا كفراً صريحاً بأن أعلنوا الردة لما وقع الخلاف بين الصحابة، ولكنهم لما أظهروا الإسلام، وجاءوا بما يناقضه اختلف الصحابة فيهم على قولين، فمنهم من اعتبرهم لم يخرجوا عن الإسلام بسبب إتيانهم بالشهادتين، ومنهم من حكم عليهم بالكفر وهم الذين أيدهم الله بقوله، وهذا التأييد من الله تضمن معنى الإنكار إذ جاء بصيغة الاستفهام الإنكاري وهو قوله سبحانه: {فما لكم}، وهذا القول هو أن العمل من الإيمان وأنه من أتى بما يناقضه يحكم عليه بالكفر، إلا أن يكون معذوراً شرعاً، كأن يكون جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً،أو مخطأً، وهذا ما قرره علماء أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاعتقاد والاستحلال القلبي.
ولكن قد يستدرك علينا بقولهم: إننا نقول؛ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
فأقول: هذا القول صحيح وأنتم تقولونه، ولكن ما يهمنا هو، هل تقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: إن العمل شرط صحة في الإيمان، أم هو شرط كمال، فإن قالوا: هو شرط كمال، وهذا هو قولهم. قلنا هذا هو معتقد المرجئة،لأن ما كان شرط كمال لا يكون جزء الشيء، بل هو مكمل له، وعليه فلا يزول الشيء بزوال كماله، بل يزول بزوال موجبه، وعليه يكون قولهم مجرد لفظ يلبسون به على العامة، وهو غير مراد في مسألة التحقيق فافهم ذلك وكن منه على ثبت، والله يتولاك برعايته.
ثانياً:
لقد وصف الله سبحانه المتحاكمين إلى غير شرعه بصفات عديدة كلها تدل على الكفر والزندقة والردة والعياذ بالله، منها:
1) الكفر: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
2) الظلم: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.(1/10)
3) الفسق: قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
هذه كلها ألفاظ تدل على الكفر الأكبر، إذ الخطاب بها موجه إلى اليهود والنصارى وسيأتي تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى.
4) النفاق: قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}.
5) عدم الإيمان: قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
6) الجاهلية: قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون}.
7) الطاغوت: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
فهذه ألفاظ تدل كلها على الكفر الصراح.
ولكن قد يستدرك علينا بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كفر دون كفر).
أقول: هذا الأثر إما أن يراد به الحكم، وإما أن يراد به الحاكم فأما الحكم فغير مراد قطعاً إذ وصفه الله سبحانه بالطاغوت والجاهلية ولا يقال طاغوت أصغر وطاغوت أكبر، أو جاهلية صغرى وجاهلية كبرى، فالطاغوت هو شرك محض، إذن فلا يبقى إلا الحكم على الحاكم ، والقول بإطلاق عدم كفر الحاكم غير مراد،إذ ليس كل حاكم كفره أصغر إذ هنالك تفصيل، ولا يحصر الكفر بالاستحلال،وهذا القول كما سبق من معتقد المرجئة وليس من معتقد أهل السنة والجماعة.(1/11)
بل القول بأن الحاكم لا يكفر إلا إذا أعتقد بقلبه صحة الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه، يخرج من هذه القاعدة اليهود الذين نزلت الآيات بحقهم لأنهم لا يعتقدون في قلوبهم صحة ما يحكمون به بل يعتقدون الحق وذلك من عموم الأدلة الدالة على معرفتهم التامة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فاليهود لم يعتقدوا صحة دينهم وما يتحاكمون إليه، بل اعتقدوا الحق ومع ذلك فهم كافرون الكفر الأكبر ولا يخالف مسلم ذلك.
وعليه: فلا يشترط في تكفير الحاكم الذي لا يحكم بالإسلام أن يكون معتقداً ذلك بقلبه، بل نحكم بكفره لمجرد تركه لحكم الله سبحانه إلا أن يكون معذوراً كأن يكون جاهلاً، أو مكرهاً، أو مخطأ، أو متأولاً، وأما من حكم بغير شرع الله عالماً بذلك مصراً عليه مظهراً العداوة للمؤمنين، والموالاة للكافرين، وأرغم الناس على ذلك طواعية غير مكره فما يمنعنا من تكفيره؟ إلا أن نكون معتقدين معتقد المرجئة الذين لا يكفرون بالنواقض حتى يعتقد الإنسان ذلك بقلبه، عصمنا الله سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأما الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلا يؤخذ على عمومه، إنما هو خاص بحكام معينين حملهم على ذلك ما استثنى من الأعذار.(1/12)
وما يؤكد أن مظهر الكفر كافر إلا أن يكون مكرهاً قوله تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، فهذه الآية صريحة الدلالة بأن الذين يظهرون الكفر يكفرون إلا أن يكونوا مكرهين على الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان ، وهذا بلا شك ينص على الكفر الظاهر دون الباطن، أي من أظهر الكفر ويكون حال إظهاره للكفر مكرهاً عليه مبغضاَ في الباطن له فهذا ليس بكافر.
وأما من أظهر الكفر غير مكره فهذا من شرح بالكفر صدراً فيحكم بكفره، وإظهار الكفر لا يكون باللسان فحسب بل يكون بالعمل كذلك، ودليل على أن المقصود بالكفر كفر الظاهر أن الآية نزلت كما نقل أهل التفسير بحق عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، إذ أظهر الكفر لقومه بسبب ما لقي من الأذى وكان قلبه مطمئناً بالإيمان .
ثالثاً:(1/13)
قد سبق القول بأن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه كفر، وثمة قضية ثانية، وهي التفريق بين ترك الحكم واستبداله، فإنه من استبدل الحكم بما أنزل الله سبحانه بقوانين وضعية يكون قد نصب نفسه شريكاً لله سبحانه إذ التشريع يختص الله به قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فليس الحكم إلا لله وقد قرن الله سبحانه بين الحكم والعبادة، أي من يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه يكون عابداً لما يتحاكم إليه، إذ العبادة هي التذلل والخضوع، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، لذا جعل الله سبحانه الحكم بغير ما شرع طاغوتاً إذ قال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، والواجب على أهل الإيمان هو الكفر بالطاغوت قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وفي الآية التي قبلها قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}.
ومع هذه الآيات لنا وقفات:
1) أن الكفر بالطاغوت من شرط الإيمان، ويوضح ذلك تقديم الله سبحانه للكفر بالطاغوت على الإيمان به إذ قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ}. فالكفر بالطاغوت نتيجة الإيمان بالله سبحانه، إذ لا يكون الكفر بالطاغوت، إلا من خلال الإيمان بالله.(1/14)
2) أن مما أوجبه الله سبحانه علينا الكفر بالطاغوت قال سبحانه: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}، أي أمروا أن يكفروا به، ولازم الكفر بالطاغوت بغضه وإظهار المعاداة لأهله كما قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
وعليه فالواجب على المسلم الكفر بالطاغوت لا موالاته والمنافحة عنه وإظهار العداوة لأعدائه كما يفعل أولئك المجرمون الذين يقيمون الولاء والبراء في الطواغيت .
3) أن الله سبحانه جعل الناس قسمين، إما متحاكمين لشرعه وهم عباده وأولياؤه، وإما متحاكمين للطاغوت وهم عباد الشيطان والعياذ بالله قال تعالى: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً). أي يضلهم بسبب بعدهم عن التحاكم إلى شرع الله، إذن فالتحاكم إلى الطاغوت إرادة الشيطان المخالفة لإرادة الرحمن ولا عجب في ذلك فالله سبحانه يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}.(1/15)
وعليه فالإنسان إن كان معرضاَ عن عبادة الله سبحانه، فهو خاضع لعبادة الشيطان، فإن كل من خرج عن طاعة الله فهو داخل في طاعة الشيطان وذلك لأن الشيطان يأمر بمعصية الله ولا شك بأن الخروج عن حكم الله هو دخول في حكم غيره وهذا هو ما قصدت، وهو أن المتحاكم إلى غير شرع الله معرض عن عبادته سبحانه، ومن هذه حاله فهو عدو لله و لرسوله وللمؤمنين، وهذا من تجب معاداته حتى يؤمن بالله وحده.
4) أن التشريع شرك لأنه مما أختص به الله سبحانه نفسه إذ قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
والحكام المتحاكمين إلى غير شرع الله قد شرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله سبحانه، فهم مشرعون تشريعات مناهضة لتشريع الله سبحانه، ومن أصول أهل السنة والجماعة نبذ الشرك والتبرؤ منه وتحذير الناس من خطورته وما يترتب عليه من مصائب جمة، وهذه قضية تساهل فيها كثير من أهل العلم، إذ نرى كثيراً منهم يركز على شرك القبور والمقامات وقد يكون في كثير من أحواله غير موجود، في الوقت الذي يقللون فيه من شرك الحاكمية.
بل من المفجع أن بعضهم ذهب إلى أن القول بتوحيد الحاكمية بدعة ضلالة، ولا أدري ماذا يريدون بذلك، هل يريدون أن الله قد يشاركه في الحكم غيره، أم أن هذا التقسيم مخالف لأصول أهل السنة والجماعة.
فإن كان الأول فهذا الكفر بالله الصراح .
وإن كان الثاني، فنقول: ما هو الدليل على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات،؟ بل أين الدليل على القول بتوحيد الأسماء والصفات؟(1/16)
فإن قالوا: النصوص تدل على ذلك.
قلت: كذلك النصوص تدل على توحيد الحاكمية.
فإن قالوا: لم يثبت عن العلماء أنهم قالوا بتوحيد الحاكمية.
قلت: فالقول بتوحيد الحاكمية كالقول في توحيد الأسماء والصفات، فإن التوحيد إما أن يكون متعلقاً بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وهذا توحيد الربوبية، وإما أن يكون متعلقاً بتوحيد العبادة، وهذا ما يسمى بتوحيد الألوهية، ولا قسم ثالث، فالأسماء والصفات أما أن تندرج تحت توحيد الربوبية، وإما أن تندرج تحت توحيد الألوهية وليست قسماً ثالثاً، وأما إفراد العلماء لها قسماً مستقلاً فبسبب وقوع الخلاف فيها، فأراد العلماء أن يبينوا أن القول في الأسماء والصفات كالقول في الذات، وأن هذا من الإيمان بالله سبحانه، وهكذا اليوم غاب عن كثير من الناس أن الحكم لا يكون إلا لله وأن الانقياد إلى غير حكم الله سبحانه شرك، وعليه، فلا يكون الحكم إلا لله الذي هو الحق والعدل البعيد عن الجاهلية والكفر والظلم والفسق .
رابعاً:
الأصل في تنصيب الإمام، إقامة الدين، والذود عن الإسلام وأهله.
فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه). رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
فالإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه، فهو يعمل على إعلاء كلمة التوحيد ونشرها في الأمم، ويقاتل الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).(1/17)
فالإمام مسؤول عن تبليغ الدين ونشره والذود عنه، والمسلمون على ذلك بايعوه، ومن مستلزمات البيعة الحفاظ على معتقد المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهذه كلها تدخل ضمن مسؤولية الإمام، بل إن من أعظم ما أنيط بالحاكم من أعمال الحفاظ على وحدة المسلمين كما في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الآخر منهما). رواه مسلم.
وهذا من باب الحفاظ على وحدة المسلمين، وما نستفيده من الحديث من الناحية المسلكية ما يلي:
1) أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان، وذلك حفاظاً على وحدتهم التي فيها قوتهم، فإن تعدد الأئمة في الأمة الواحدة يوجب خلافها المؤدي إلى هلاكها قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وهذا واضح لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، فإذا كان وجود إمامين في الأمة يؤدي إلى هلاكها بسبب عوامل اختلافها.
فكيف بحال الأمة اليوم؟ نسأل الله سبحانه العافية، فقد أصبحت الأمة تعيش في دويلات متفرقة تفتقر إلى أبسط شؤون الحياة، والظاهر فيها السلطنة وخروج بعضها على بعض، فهي تجتمع على موالاة الكافرين والعمل على تمرير مخططاتهم في الوقت الذي يعادي فيه بعضها بعضاً عصبية ابتغاء نيل متاع الحياة الدنيا وزينتها، بل أصبح الولاء والبراء قائماً في هذه الدول التي لا صلة لها بالدين اللهم إلا بالتسمية، وغالب أهلها يقومون على أساس التقوقع في هذه الدول دون الرابط الشرعي، فهذا فلسطيني وذاك أردني، وهذا، وهذا، وهذا، فلا يحق للفلسطيني العيش في غير الأرض التي يولد فيها إلا بإذن الدولة التي يقيم فيها مع مراعاة عدم التمتع بحقوق المواطنة، والحق للدولة بإخراجه في أي وقت، وهذا عام في عامة المسلمين.(1/18)
فأي فرقة أعظم من هذه الفرقة؟ وأي اختلاف أعظم من هذا الاختلاف؟ وأي جاهلية أعظم من هذه الجاهلية؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا) صححه الألباني في الصحيح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية) رواه مسلم .
فأين المسلمون المتعصبون لقومياتهم من هذه الأحاديث؟ هل رضي أولئك أن يموتوا ميتة جاهلية؟ هل رضوا بأن يكونوا من الجاهلين؟ فإن كل من اتصف بهذه الصفات ففيه جاهلية أجل فيه صفات من الجاهلية الأولى ويخشى على دينه، ثم ماذا نقول بمن تزّيا بزي أهل العلم،وادعى ظلماً بأنه على نهج السلف،وقد أخذ يزين للظالمين ظلمهم ويبارك لهم طغيانهم ويتفنن بإصدار الفتاوى الهالكة ضد من أنكر أعمالهم، ولو كان ذلك بالكلمة العابرة، فهم عنده أولو الأمر والنهي الذين لا أمر فوق أمرهم، ولا نهي مع نهيهم وبعد ذلك كله يقول متنطعاً هذه ليست فرقة ولا اختلاف، بل هذا عين الحق. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2) جواز قتل المسلم المبايع من قبل المسلمين إذا بويع وكان للمسلمين إمام غيره، وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما).
ومن المعلوم أن الآخر حصلت له الخلافة بمبايعة بعض الناس له وهذا مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم (بويع) وهذا لا يتم إلا من خلال فعل المبايعة وهي لا تكون إلا من خلال أناس يبايعونه على الخلافة.(1/19)
إذن فالإسلام يجيز قتل الخليفة الثاني ومن بايعه وذلك حماية لوحدة الأمة، ومن تبدر هذا الأمر علم يقيناً بأن المسألة عظيمة للغاية وذلك،أن الله سبحانه عظم قتل المسلم بغير الحق وتوعد كل من فعل ذلك بجهنم وبالغضب واللعنة والعذاب الأليم قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، وقد دلت الأحاديث على تعظيم قتل المؤمن بغير حق، وما يتعلق بالقاتل من أحكام في الدنيا والآخرة.
من ذلك ما رواه ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله للدينا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق). رواه النسائي والترمذي وغيرهما وصححه الألباني .
وفي حديث آخر عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه). رواه البخاري.
وفي هذا الحديث يأمر صلى الله عليه والسلم المسلمين بأن يقتل بعضهم بعضاً، وهو واضح من قوله: (فاقتلوا الآخر منهما) وهذا يعني قتل الآخر ومن معه من المسلمين، ولولا أن وحدة المسلمين أعظم من أن يقتل بعضهم بعضاً لما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الخليفة الآخر.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن عرفجة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان). رواه مسلم.
وبهذا يعلم خطورة الأمر وحرمة تعدد الخلفاء في الأمة الواحدة.(1/20)
3) لا يشترط من القول بوجوب الخروج على الخليفة الثاني أن يكون كافراً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (فاقتلوا الآخر منهما). لا يدل على كفره، و إنما القتل بسبب إتيانه بفعل يستحق عليه القتل وذلك من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة). رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فبين صلى الله عليه وسلم أن التارك لدينه المفارق للجماعة مهدور الدم وإن كان من المسلمين، وهذا رد على من يشترط بالخروج على الحاكم تحقق خروجه من الملة وسيأتي زيادة تفصيل لذلك في النقطة التالية إن شاء الله تعالى.
4) إن الخليفة الثاني لا تنعقد له البيعة وإن بويع له من قبل بعض المسلمين ، فلا تجب طاعته، بل تجب منابذته والخروج عليه، ولا يصح السكوت عليه إلا لعذر شرعي،أو مصلحة شرعية راجحة، وأما القول بأن تعدد الخلفاء جائز وطاعتهم واجبة ما استلموا زمام الحكم وإن أتوا بكل ناقض من نواقض الإيمان، وتركوا شروطه حتى يستحلوا ذلك بقلوبهم، فهذا قول فاسد يؤدي إلى هدم الدين وطمس معالمه، ونشر الفساد والانحلال في الأمة التي جعلها الله سبحانه خير أمة أخرجت للناس،،بل يهدم أبسط قواعد الدين وهو القيام بالعدل ونشره في الناس كآفة، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.(1/21)
والشاهد في هذه القضية أن الحاكم يبايع من قبل الأمة لإقامة دين الله سبحانه، والذود عنه، والدفاع عن المسلمين وأعراضهم وأموالهم، فإن تخلف الحاكم عن ذلك فلا عبرة من وجوده، ولا يخالف الأمراء في دول الكفر بل الأمراء في دول الكفر خير منه، فهم يخلصون لبلدانهم، ويعملون على حماية شعوبهم. بل يجعلون ولاءهم وبراءهم في مصلحة شعوبهم، وأما هؤلاء الحكام فهم يعملون على قطع كل صلة تربطهم بشعوبهم إلا ما كان يصب في مصالحهم الشخصية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خامساً:
طاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك التزامهم بأحكام الله سبحانه وهذا واضح من قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وفي الحديث الصحيح : (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) صححه الألباني في الصحيح الجامع .
فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل؟! لا طاعة لمن عصى الله). رواه أحمد، وابن ماجه، وغيرهما، وصححه الألباني.
وهذا الحديث يدلنا على أمور عدة وهي:
1) أنهم لا يلتزمون السنة، بل يبتدعون البدع في الدين، والبدعة هي التقرب إلى الله سبحانه بعبادة لا دليل عليها لا من الكتاب ولا من السنة، إذن فهم عابدون لله ولكن على غير ما شرع .(1/22)
2) أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، أي أنهم يصلون ، ولكن يتساهلون في أدائها.
3) أن من فعل ذلك فلا طاعة له، ولفظ طاعة، هنا يقع اسماً للا النافية للجنس ، فدل ذلك على العموم،أي لا طاعة في كبير ولا صغير، فقد نفى صلى الله عليه وسلم عنهم جنس الطاعة ولا استثناء في ذلك هنا.
4) إذا كان لا طاعة لمن خالف السنة وأظهر البدعة، وأخر الصلاة عن وقتها، فكيف بمن بدل دين الله سبحانه، أحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله، ووالى الكافرين، وعادى المؤمنين، وأشاع الفساد في الأرض؟!
وبذلك يتبين دجل الذين يقولون بوجوب طاعة أولي الأمر مطلقاً وإن أتوا بكل ما يناقض الإسلام،ما لم يعتقدوا صحة ذلك بقلوبهم.
سادساً:
دلت الأحاديث الصحيحة على وجوب الخروج على الحاكم إن أظهر الكفر البواح من ذلك ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). رواه مسلم .
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قيل : يا رسول الله ألا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).(1/23)
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب طاعة الحكام إلا أن يظهروا الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، ومن الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، استبدال شرع الله سبحانه،وقد سبق ذكر المسألة مع ذكر الأدلة عليها ولا يشترط في إظهار الحاكم للكفر البواح أن يكون كافراً في الباطن، بل قد يكون مسلماً ومع ذلك يكون مظهراً للكفر البواح، فقد ينتفي عنه الكفر لوجود معارض كالجهل، أو التأويل وما إلى ذلك ولكن لا نستطيع أن ننفي عنه الكفر ظاهراً، فكل من أتى كفراً يعتبر مظهراً للكفر وإن لم يعتقد صحته، وهذا فيما يتعلق بالحكم على المسألة أما حكمنا عليه بالكفر فينظر، فإن انتفت موانع التكفير وثبتت شروطه حكمنا عليه بالكفر.
والشاهد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا) والرؤية هنا الرؤيا العينية، وليست القلبية، إذ لو كانت الرؤيا القلبية لما استطعنا الحكم عليه بالكفر حتى يصرح هو أو نشق عن قلبه، وهذا يرجع إلى أصول المرجئة الذين يجعلون للإيمان ركنين، التصديق بالقلب، والنطق باللسان، على خلاف أهل السنة الذين يجعلون العمل من الإيمان، وأنه من أتى ناقضاً من نواقضه يكفر إلا أن يكون معذوراً وقد بينا الأمور التي يعذر بها المسلم، والشاهد من هذه المسألة أنه إذا ظهر من الحاكم الكفر البواح وجب الخروج عليه وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وما ينبني على هذه المسألة أنه من وجب الخروج عليه سقطت ولايته، ومن سقطت ولايته فلا يعتبر أميراً للمسلمين تجب طاعته، بل من يقول بذلك فعليه أن يراجع حساباته بنفسه قبل أن يحاسب عليها في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولكن هنالك مسألة لا بد من ذكرها وهي: أن الحاكم، وإن وجب الخروج عليه لإظهاره للكفر البواح، فلا يخرج عليه حتى تتحقق شروط الخروج وهي:
1) إظهار الكفر البواح، وقد مضى القول فيه.(1/24)
2) المقدرة العلمية والعملية، فأما الأولى فهي مبنية على النقطة قبلها وهي تحقق الكفر البواح، وهذا لا يكون إلا من خلال أهل العلم الذين يفرقون بين الكفر البواح وغيره، حتى لا يقول في دين الله من ليسوا من أهله فتفسد البلاد والعباد. وأما الثانية فهي مبنية على القواعد العامة منها قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). مسلم .
3) أن لا تكون فتنة الخروج على الحاكم أعظم من فتنة الحاكم، وذلك أن الهدف من الخروج عليه تحقيق المصلحة الشرعية، وهي إقامة دين الله، فإن غلب على الظن أن الخروج على الحاكم سيؤدي إلى نتائج سلبية فلا يصح الخروج عليه، ويجب الصبر.
4) أن تقام الحجة على الحاكم وذلك من منطلق قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}، وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).
إلا أنه لا يعني عدم تحقق هذه الشروط القعود والتخاذل بل الواجب العمل على تحقيق الاستطاعة ضمن الضوابط الشرعية وهذا من منطلق القاعدة الشرعية التي تنص على: (الوسائل لها حكم المقاصد). وقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
سابعاً:(1/25)
وهنالك دليل آخر على عدم صحة ولاية هؤلاء الحكام وهو دليل متضمن وإن كان بعيداً عن الواقع، ومفاده أن من معتقد أهل السنة والجماعة خروج المهدي ، وهو الإمام الذي يقيم الله سبحانه على يديه الخلافة على منهاج النبوة، وهذا ما نرجحه من عموم الأدلة، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء إن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فقد بشر الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وهذه الخلافة حتماً ستلغي تلك الإمارات المتناثرة وتجمعها تحت إمرة الخليفة الراشد وهذا يدل على عدم مشروعية تلك الإمارات، وإلا لكان المهدي من الخوارج كما يزعمون، ومن كان هذا وصفه فلا يكون خليفة راشداً،ومن باب آخر فإنه يجب على كل مسلم أن يكون تحت إمرة هذا الخليفة ومن خرج عن إمارته فمات فميتة جاهلية.
كما دل على ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة، لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية) رواه مسلم .
وعليه فإن هذه الإمارات ليست على هدي النبوة، فهي إمارات ساقطة لا يجوز مناصرتها أو الذود عنها، أو الولاء والبراء فيها، والواجب على كل مسلم أن يكون مع الحق، وأن ينصر الحق.
ثامناُ:(1/26)
نقول لهؤلاء، أي الذين يعتبرون الحكام ولاة أمور شرعيين، إذ يوجبون على الناس طاعتهم ويحرمون الخروج عليهم، بل يذهبون إلى أبعد من هذا الحد، إلى عدم جواز الإنكار عليهم إلا سراً ومن خلال أهل العلم (المقربين من الأمراء)، ما هو الواجب على المسلمين أمام هذه الفتن التي تعترفون بوجودها وأهوالها؟ بل ما هو دور العلماء في المجتمع؟ وما هو دور طلبة العلم؟ كيف السبيل إلى القضاء على مظاهر الشرك التي لا يخلو درس من دروسكم إلا وأشرتم إلى خطورته وأخذتم تقسمونه وتبينون أنواعه؟ ما هو السبيل إلى تحكيم شرع الله إذا رفض حكامكم المسلمون ولاة أموركم ذلك؟ ما هو سبيل النجاة؟
فلن يجد هؤلاء جواباً على هذه الأسئلة.
بل ما الذي يحملهم على التغيير وهم يعتبرون الحكام حكاماً شرعيين؟ فهم لا يعملون على تغيير الحكام لأن ذلك خروج عليهم فهم يصفون من ينادي بذلك بالتكفيري والخارجي، أي خارج عن طاعة أولي الأمر، ولا يتورعون عن وصفهم بكلاب أهل النار، إذن فمن يخرج على الحاكم فهو من كلاب أهل النار وهم بلا ريب لا يريدون أن يتصفوا بهذا الوصف، بل هم يفرون منه أيما فرار، ويظهرون العداوة والبغضاء لكل من خالفهم، ويحذرون منه ومن علمه، بل يعتبرون تنفير الناس عنه من أعظم القربات التي يتقربون بها إلى الله سبحانه، فمن كان هذا حاله فهو حتماً لا يعمل للتغيير اللهم إلا أن يعمل على تغيير الناس وذلك من خلال دعوتهم للتبرئ من الخوارج (كلاب أهل النار) الذين يطالبون بالخروج على الحكام واستبدالهم بحاكم شرعي،وإعطاء الولاء والطاعة لأولي الأمر ومباركة أعمالهم ، أجل هذا هو واقعهم، وهذه هي دعوتهم، وهذا ما يريدونه ويعملون على تحقيقه نسأل الله العافية والثبات على الحق حتى الممات.
تاسعاً:
وهذه النقطة تتعلق بالشق الثاني من السؤال وهو ما يتعلق بالتعامل معهم وتكثير سوادهم، والجواب عليها يكون من عدة نقاط هي :(1/27)
1) هم أناس يجترئون الكذب على منهج السلف الصالح، إذ ينسبون القول بأن العمل شرط كمال إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويريدون بذلك، إخراج العمل عن مسمى الإيمان، فهم لا يكفرون إلا بالاستحلال القلبي، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يجعلون العمل من الإيمان، ولذا ثبت عن كثير منهم كالإمام أحمد في أحد القولين عنه أنه كفر تارك الصلاة الكفر الناقل عن الملة، وإن كان تركه للصلاة كسلاً، وإلى هذا ذهب في العصر الحاضر كثير من أهل السنة منهم سماحة الشيخ ابن باز وفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمها الله تعالى، والصلاة من أعمال الجوارح، بل من قرأ حكم تارك الصلاة لفضيلة الشيخ ابن عثيمين يجد أن الأدلة التي استدل بها على كفر تارك الصلاة أقل قوة من الأدلة الدالة على كفر مستبدل حكم الله سبحانه، وعليه، فإن نسبة قولهم هذا الذي هو في حقيقة الأمر مذهب المرجئة إلى أهل السنة والجماعة (السلف الصالح) كذب وافتراء.
2) هؤلاء قوم يفصلون الدين عن الدولة، أي يجعلون الدين لأولي الأمر وليس للمسلمين عامة، فلا يجوز لأي إنسان أن يتدخل في الدين أو يعترض على أولي الأمر، لأن ذلك يعد خروجاً عليهم، ومن فعل ذلك فهو (من كلاب أهل النار). ولذا نجدهم يشتد نكيرهم على المخالفين لهم خاصة في هذه المسألة ، ومن هذه حالهم فلا ريب أنهم لا يعملون لإصلاح المجتمع أو تغييره،بل قد يعملون لمصلحة الحكام أعاذنا الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.(1/28)
3) هؤلاء قوم ظالمون لأنهم راكنون إلى الظالمين قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، والحكام ظالمون بلا ريب لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، والركون إلى الظالمين ظلم، بل توعد الله سبحانه من فعل ذلك بالعذاب الأليم، ودليل ركونهم إلى الظالمين مدافعتهم عنهم وإقامة الولاء والبراء فيهم، فمن قال عن الحكام: هم ألوا أمر،فهذا سلفي على منهج أهل السنة، ومن قال: إنهم ظالمون فاسقون، فهذا تكفيري خارجي لا بد من التحذير منه والتشهير به، فأي ركون بعد هذا؟!
4) وعليه فإن كل من أعانهم على ظلمهم، أو عمل على تكثير سوادهم، أو ترك الإنكار عليهم فحكمه حكمهم، بل هو شريك لهم في ظلمهم وتطاولهم على عباد الله الصالحين، ولا أرى سبباً يجعل الناس يلتفون حولهم إلا المصالح الدنيوية، فهم تجمعهم المصالح، وتفرقهم الأهواء، وكثير منهم يقول سراً، نعلم أنهم على غير الحق ولكن نريد... وهذا والله هو النفاق بعينه، كيف يكثر سوادهم على ما هم عليه من الآثام والظلم ومعاداة الناس بغير الحق، والحكم الفصل الذي ليس بالهزل أن كل من ناصرهم أو عمل على تكثير سوادهم متهم، متهم، متهم.
والله سبحانه أعلى واعلم
وصلِ اللهم على محمد بن عبد الله النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز
الأربعاء 9 /ربيع أول /1425 هـ
الموافق 28 /4/ 2004 م
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info(1/29)