بسم الله الرحمن الرحيم
شبكة المعالي الإسلامية
الإعلام المقروء
يقدم :
أدبيات أحمد مطر غير الشعرية
البطّة التي ماتت من الضحك
عثر رجل فقير على (بيضة)، وعلى الرغم من كونه جائعاً جداً، فإنه امتنع عن أكلها، واستخدم الذرّة الوحيدة الباقية من عقله لاستعادة الحكمة الصينية القائلة بتعلم الصيد بدلاً من ابتلاع السمكة المهداة من الصياد.
قال لنفسه: ليس عندي أكثر من وقت الفراغ، ولذلك سأجلس فوق هذه البيضة الى أن تفقس، وكل ما سيأتي منها سأتبناه.
وفكر في الأمر على النحو التالي: إذا كان الوليد فرخ دجاج فسأطعمه أفخر انواع الديدان ليكبر ويصبح دجاجة سمينة تبيض لي بيضاً كثيراً آكل بعضه وأبيع بعضه الآخر للملحنين ليسلقوه ويقدموه أغاني شبابية.
وإذا تبيّن انه ديك فسأبيعه لأحد احزاب المعارضة ليتخذه رمزاً له، كأن يضعه فوق مزبلة لكي يصيح، فالديك مثل تلك الاحزاب تماماً، يؤمن بأن الشمس لا تشرق إلا استجابة لصياحه.
وإذا تبيّن ان الوليد أوزّة، فسأهديها لأحد معسكرات الحركات التصحيحية من أجل ان يتدرب القادة على (مشية الأوزة).. أمّا إذا كانت من تلك الأوزات التي تبيض ذهباً، فستصادرها السلطة مني، وستعطيني بدلاً منها وساماً من النحاس، وهو كل ما ينقصني في هذه الحياة.
وإذا تبيّن أن الوليد أفعى، فستلدغني قبل ان أتبنّاها، وعندئذ سأدخل الجنة باعتباري من شهداء العمليات الجهادية (المتترّسة) كأيِّ واحد من أطفال العراق السعداء.
أمّا إذا كان الوليد سلحفاة، فسأهديها الى وزارة الاقتصاد، من أجل دفع عجلة التنمية، وبذلك سأكسب الأجر والثواب، اضافة الى تنمية ثوبي برقعة جديدة.(1/1)
بعد أسابيع من جلوسه فوق البيضة، فقست عن بطّة صغيرة جداً، وبرغم مرور أشهر على خروجها من القشرة، بقيت البطّة ضامرة وبائسة مثل كرة مضرب. وتبيّن للفقير أنها معاقة وعاقر وحولاء أيضاً ولا تعرف السباحة على الاطلاق، لكنّها، والحقّ يُقال، كانت تستطيع أن تقول: (واك).
رضي الرجل بقسمته صاغراً، وقال في نفسه: إنها ابنتي على كل حال، وإذا أنكرت بنوّتها فإنني لن أهنأ بأكلها لأنها أقلّ من لقمة. وعليه فإنني سأبقيها معي لكي تؤنسني.
ولم يدر الرجل ذو النية الطيبة بما تخبئه له الأقدار، فما أن سمعت وسائل الاعلام بخبر البطّة المعاقة الحولاء، حتى هبّت جميعها في منافسة حامية من أجل توقيع عقود عمل معها.
وفي النهاية فازت فضائية (آكلك منين يابطة) بتوقيع عقد مع الرجل تدفع له بمقتضاه مبلغاً ضخماً من المال، مقابل ان تحتكر طلّة البطلة المعجزة على شاشتها (حصرياً) كقائدة للتغيير، من خلال تقديمها للبرنامج الاجتماعي الهادف (أكاديمية البطّ).
لكن المحطة نبّهت الرجل الى أنه ليس بالـ ( واك) وحده يحيا البطّ ، وأنّ شرط المذيعة الناجحة هو أن تضحك عند إطلالتها على الجمهور.. حتّى لو كانت تذيع خبراً عن مصرع مائة طفل بانفجار سيارة مفخخة. وأبلغته بأنَّ القناة تضع مسألة الضحك، في هذه الحالة، ضمن بند (شر البليّة).
وأمام هذا الشرط اضطرّ الرجل إلى تدريب البطّة على الضحك، لكي تستكمل المؤهلات الضرورية للنجاح الفني، خاصة أنها جاءت إلى الدنيا وكلّ مؤهلاتها الاصلية معها: عارية.. وتهزّ.
ظل يكرّر عليها صبح مساء: (قاه قاه قاه).. وبعد وقت طويل وجهد جهيد تعلمت كيف تضحك. لكن لأنها معاقة وغبية وحولاء، فقد تعلّمت أن تضحك بالمقلوب: (هاق.. هاق).
وقد كان هذا نذير كارثة لم تكن في الحسبان، إذ لم يمض زمن حتّى سمعتها إحدى الحركات الجهادية، فاختطفتها على الفور، وحكمت باعدامها لأنها سكرانة !(1/2)
وفي مفاوضة يائسة حاول الرجل اقناع هيئة عملاء المسلحين - التي كانت تتوسط بينه وبين المجاهدين - بأنّ بطته عندما قالت (هاق هاق) لم تكن سكرانة، لكنها غبية تضحك بالمقلوب.
ولم تصل المفاوضات الى نهاية طيبة، ذلك لأن الضحك في مفهوم المجاهدين لم يكن أقل إثماً من السكر!
وعلى الفور قامت المجموعة الخاطفة بذبح البطّة، وأرسلت شريط ذبحها إلى فضائية (الذئب الوديع).. لكن الأخيرة امتنعت عن عرض الشريط، لأنه، حسب تصريح الناطق باسمها، يصدم المشاعر الانسانية، ويحرّض على قتل البطّ ، الأمر الذي يعتبر خروجاً على القواعد المهنية !
الموت لنا
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
تأتي الانقلابات لها بقادة من رحم المجهول فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق، وتذهب الانقلابات المضادة بالمجهولين، فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق للمجهولين الجدد.. وهكذا دواليك، حتى تضجر البنادق، وتسأم الدّبابات، وتملّ البلاغات الأولي، وتبقى الأمّة النشطة وحدها صامدة ضدّ الملل والضجر والسأم. ولفرط إخلاصها للهتاف العتيد، لا تنتبه للموت وهو يلملم وفاتها المعتّقة، فتموت وهي تهتف: يعيش.. يعيش !.
نحن أمّة لا تستحق الحياة. الحياة ليست عملة نقدية صغيرة ترمى للشحّاذين، ولا هي بضاعة رخيصة تباع في سوق السلع المستعملة.
الحياة قيمة كبرى لا يستأهل امتلاكها إلاّ من يستطيع دفع ثمنها.
ومَن لا يملك الكرامة لا يملك ثمن الحياة ولو امتلك أموال قارون.
وحتّى لو ابتاع أحد الكرام المحسنين هذه القيمة بغية توزيعها على المعوزين، لوجه اللّه، فإنها ستركن في حوزة هؤلاء حتى تصدأ، إذ لا يعرفون كيفية تشغيلها، ولا يعرفون ما إذا كانت تصلح للتبريد أم للتدفئة.
الحياة خسارة في هؤلاء، لأنّ مَن لا يتقنون استخدام الحطب للطبخ، من العسير عليهم أن يستخدموا شيئاً يسمّى (المايكروويف)، وكلّ ما سيمكنهم فعله عندما يمتلكونه هو أنهم سيباهون أمام الجيران بأنّ لديهم جهاز تلفزيون بلا هوائي!.(1/3)
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تحلف بالطلاق على طغاتها بألاّ يموتوا وألاّ يمرضوا وألاّ ينهزموا، لكي لا تقع الطامّة عليها بالاحتلال الأجنبي.
هي أمّة منزلية .. تفلفل على الاحتلال الداخلي، وتنتشي لمن يهتك عرضها إذا كان منها، وتتفجّر احتراماً وتوقيراً لمن يسرق لقمتها الوحيدة من بين أسنانها إذا كان من العائلة، وتفرفح لمن يحبسها في صندوق زبالة ويساقيها العصيّ في مؤخراتها، بشرط أن يكون واحداً من أبنائها البررة!.
هي أمّة ترى الاغتصاب الوطني عفّة، والسرقة الوطنية مجرّد اقتباس، والتعذيب الوطني شأن داخلي من العيب أن تشكو منه للغرباء. كلّه عسل.. إلاّ الاحتلال الأجنبي.
مليون طاغية.. ولا محتّل غريب واحد!.
وتنسى هذه الأمة الممحونة المفلفلة أنّ الطغيان الداخلي كان دائماً البوابة العريضة التي يدخل منها المحتل الخارجي. وتنسى هذه الأمّة المهتوكة العرض ذاتياً أنّ معظم الاحتلالات الأجنبية كانت رحمة من الله على عباده، مقابل نقمة الاستقلال الوطني المستبد.
لأنّ ذلك الاحتلال ينشغل عن النفوس بابتلاع الخيرات، فيما ينهض هذا الاستقلال علىابتلاع الأنفاس والنفوس والخيرات معاً.
وتنسى هذه الأمّة الفاجرة بالمجّان أنّ مَن يمّد نحره لكي يُذبح بسيف أخيه، ليس من حقه أن يتأوّه من سطوة سيف الغريب، إذ لا فرق بين السيوف في اللغة والعمل.
ومَن يستنكر الذبح العدواني ويستمرىء الذبح الأخوي هو ليس فيلسوفاً ولا حكيماً ولا وطنياً. بل هو كائن ساقط تماماً من سجلّ الحياء والحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنّها تباهي بفضلها على العالم، وهي قاعدة تشحذ الصّدقات على أرصفته.
أسلافها الذين تفضّلوا ماتوا وماتت مآثرهم، وهي لا تزال منذ ذلك الوقت تأكل وتشرب وتلبس وترى وتسمع وتتداوى وتسافر بفضل كرم الأجنبي الذي استفاد من فضل أسلافها ونمّاه وطوّره وجَمّل به حياته.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.(1/4)
لأنّ أمتن وأجمل الأبنية التي نراها في بلادنا، وأفضل مشروعات العمران والزراعة والرّي، وأدقّ النظم الإدارية التي نطبعها (بالكوبيا) عاماً بعد عام، بل وحتى نظم التسلّح والتدريب التي تعلفها بؤر تفقيس الانقلابات التصحيحية والتخطيئية المباركة لدينا.. بل وحتي أزياء ضبّاطنا وجنودنا، هي كلّها من مخلّفات الاحتلال الأجنبي البغيض الذي بذلنا الغالي والنفيس للخلاص منه، ثم استبدلناه بمومياءات لا تعرف حتى كتابة أسمائها!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تغرف من الغرب كلّ سيّئاته، ولا تغلط مرّة واحدة بأخذ شيء مفيد منه، وما أكثر الأشياء المفيدة لديه.
ما إن تظهر صرعة عري أو شذوذ أو تهتك أو عبادة شيطان في الغرب، حتى تجد ترجمتها الفورية لدينا، وبأسوأ وأبشع ممّا لدى الغرب نفسه.
في الوقت الذي ظهر برنامج (بوب آيدل) في بريطانيا، طلع لدينا (سوبرستار)، وزدنا عليه القبعة الأكاديمية فأصبح لدينا (ستار أكاديمي)، وقلّدنا حتى برنامج العهر الصريح (بلايند ديت) أو ما يمكن ترجمته إلي (موعد أعمى)، فلم نقصّر في أن نكون أكثر تخلّعاً من أهله.
حسناً.. إنّها عولمة، ولا بُدّ لنا أن نلحق بالرّكب (ولو بكشف ما فوق الرُّكب).. لكن ألم يسمع أحد عن البرنامج الكبير ذي الضجّة العارمة الذي نظمته محطة BBC تحت عنوان The Big Read أو (القراءة الكبرى)؟
لقد كان القوم يتنطّطون ويتراقصون على جانب، لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين في شأن أدمغتهم على الجانب الآخر، وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح الكتب التي طالعوها وأثّرت فيهم.
على مدى عدّة أسابيع، تمّ اختيار آلاف العناوين، وتمّ خضوعها للتصفيات ليتفوّق منها مائة عنوان، وليفوز من بينها عنوان واحد بكونه الكتاب الأكثر قراءة.(1/5)
على مدى عدّة أسابيع، والمكتبات التي بعدد محّلات أشرطة الكاسيت لدينا، تعرض في واجهاتها الكتب المرشحة، وتجري حسماً على أثمانها الرخيصة أصلاً، لتكون في متناول القراء.
على مدى عدّة أسابيع والدنيا قائمة وقاعدة في بريطانيا، وموضوع قيامها وقعودها هو الكتاب ولا شيء غيره!.
ألم تسمع عروبتنا بذلك؟
بل سمعت. لأنّ الضجيج كان أقوى مِن صوت المتنبي الذي أسمعتْ كلماته مَن به صمم.
لكنّ المشكلة هي أننا أمّة بدأ الوحي لديها بكلمة (إقرأ) وكأنه يلهب ظهرها بالسوط آمراً إيّاها بأن تكون أمّة أميّة حتى النخاع. إنّ أمّة (إقرأ) التي لا تقرأ.. لا تستحق الحياة.
إنّ أمّةً نسبة الأميّة فيها 43 بالمائة، بعد عشرات الأعوام من النفط والاستقلال الوطني والقومية العربية والشرعية الثورية والصحوة الإظلامية هي أمّة لا تستحق الحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة...لأنّنا أنهينا الخلافة الرّاشدة بالاغتيال، ووضعنا الإسلام بعدها في صندوق ربطناه بمليون سلسلة ورميناه في بحر الظلمات، وجعلنا القرآن العظيم مجّرد آيات تتلى في المآتم، ووضعناه على منصّة الشهود ليحلفوا في المحاكم على أن يقولوا الحقّ، وهو الشيء الذي لم نعرفه قط، منذ قتلنا الإسلام غيلة واستبدلناه بشيء لا علاقة له بالسماء ولا بالأرض، إكراماً لعيون السفلة المستبدين المستحوذين علي خير الناس ورقاب الناس.
واحد من أبطالنا الميامين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن نسف مئات الأبرياء في قطار مدريد، أعلن بعد حمد اللّه والثناء عليه، عن وقف العمليات حتى حين في بلاد الأندلس .
بلاد الأندلس؟!
أكانت ملك الذين خلّفوكم؟!
لماذا لا يصرّ الصهاينة المجرمون علي تسمية أرض فلسطين بإسرائيل، إذا كنّا لا نزال، حتى بعد خيبتنا التي طولها سبعمائة سنة، ندّعي ملكية أرض ليست لنا، احتللناها ظلماً وعدواناً باسم الإسلام البريء الذي اغتلناه، ومضينا نوقّع ببصمة إبهامه كلّ فعل قبيح لا تصدر فتواه إلاّ من شيطان؟(1/6)
علي مدي سبعة قرون، لم نترك في أرض الناس تلك علماً ولا عدالة ولا لغة ولا ديناً، بل انهمكنا في امتصاص خيراتها قطرة قطرة، واستعباد أبنائها، واستحياء نسائها، وتبادلهن إماءً بيعاً وإهداءً للتسرية عن أمير المؤمنين المثقل بالجهاد الليلي الوثير، والمتحلّي من الدين كلّه بمجرد ختم على رقعة يلعلع دون حاجة أو مناسبة: لا غالب إلاّ اللّه .
وقد صدق اللّه وعده، فكنسنا بكلّ قبائحنا وفجورنا وأمّيتنا عن وجه تلك الأرض، فثابت إلى نفسها، وكأنّنا لم نكن قد أثقلناها بوجودنا لسبعة قرون!.
البطل الميمون الذي أجزم أنّه لم يقرأ في حياته أكثر من ثلاثة كتب تكفيرية، يرفع يده متفضّلاً عن بلاد الأندلس!.
وهي بلاد ستكون متفضّلة لو بصقت في وجهه احتقاراً، لأنّ بصقتها نفحة حياة لا يستحقها ميّت مثله، يمشي ليوزّع الموت بين الأحياء.
تقول تقارير صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وتزمّر لها مؤيدةً تقارير الصندوق العربي للتنمية إنّ ما ترجمته إسبانيا من الكتب خلال عام واحد يعادل عدد الكتب التي ترجمتها الدول العربية كلّها في ألف عام!.
هذا في إسبانيا وحدها.. فماذا إذن عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا.. ودول الغرب الأخرى ومع ذلك فإننا نخرج ألسنتنا بكل وقاحة في وجوه هؤلاء الكفّار، ونحرمهم من بركة رضانا ونتركهم كاليتامى في فسطاطهم البائس، مستفيدين لوحدنا بنعمة فسطاط الإيمان!.
نحن الجثث المكدّسة التي لم تجد مُحسناً يكرمها بالدفن، تتباهى على الأحياء بعفنها، وتعتدي على رب السماوات والأرض بحيازة رحمته بأيديها، لتوزّعها بمعرفتها وبمزاجها على من تشاء وتحرم منها من تشاء.
مَن إذن للموتى بامتلاك مقادير الحياة؟!
لغة الأضداد!(1/7)
الاوروبيّون ليسوا جادّين حقا في مسألة الوحدة. كلاّ. إنّهم فقط يفعلون ذلك نكاية بي. دول مثل سوق الخردة، كلّ دولة لها في رقبة الاخرى طوفان من الدّم، خلطة متنافرة من الألسن مثل بهارات كالكوتا.. ومع ذلك، يتسمّت هؤلاء الخبثاء حول الطاولة، ويتصنّعون المودّة والألفة، وينفقون الوقت والمال والجهد، ولاهدف لهم من وراء ذلك إلاّ أن يجعلوني أتسمّم من الغيظ.
هراء. لن اترك لهم فرصة للفتك بي. لن اشاهد التلفزيون، ولن أقرأ الصّحف، ولن اسمح بدخول (اليورو) الي مطبخنا حتّى لومتنا من الجوع. دعهم يكملوا وحدتهم. دعهم يخسروا الوقت والمال والجهد، ليكتشفوا في النهاية انني لم أرَ ولم اسمع ولم أتسمّم من الغيظ، وأن مؤامرتهم لم تنجح.
ثمّ تعالوا.. لماذا اغتاظ؟
ماذا عندهم احسن ممّا عندنا؟
عندهم (بطاطا)؟ عندنا (بتاتاً)، واحذية (باتا) ايضا! عندهم شبكات مواصلات متلاحمة؟ عندنا شبكات كلمات متقاطعة: كلّ ثلاث او اربع خانات تقف في بلعومها خانة سوداء: (الموت للخونة)!
- أفقيا: يحاول زيارة بلد شقيق (ملحوظة: اسمك على الكومبيوتر. هل تودّ الرّجوع من حيث جئت، ام تُفضّل الدّخول في هذه الخانة الناصعة السّواد؟):
أربعة حروف: (يُحَبس)!
- عموديا: يطمح إلى المعالي: اربعة حروف: (يُشنق)!
ماذا عندهم؟ هاه؟ قوس (الرّخام؟ عندنا قوس قزح، ونجوم الظهر ايضا. عندهم (انتخابات)؟ عندنا (انتحابات). عندهم بيتزا؟ عندنا خارطة الوطن العربي! هل عندهم (لغة ضاد)؟ هيهات. نحن فقط عندنا، ومرفق طيّها شاعر أشعث أيضاً ينطّ في وجهك كلّما فتحت الاطلس:
فلا حَدٌّ يُباعدُنا
ولا دينٌ يُفرّقُنا
لِسانُ الضّادِ يجمعنا
بعدنانِ وقحطانِ
أمّا الدّين الذي لا يفرّقنا فمعلوم!
وأمّا (الضّاد) فنحن بفضل الباري ننطق به مثل الكناري: في الخليج والعراق نٌدلّله فنجعله (ظاءً). وفي مصر والشام ندلّلهُ أيضاً فنجعله (طاءً). أمّا في المغارب المزيانة ف..(إشنو يعني الدّاد؟).(1/8)
هذا ليس مُمهّاً. المهم أن الضاد يجمعنا بعدنان وقحطان. ولأننا اسريّون جدا، فنحن لا نجتمع في العادة الا في (بيت خالتنا)!
قل لي.. هل عند الاوروبيين اسماء اضداد؟
مستحيل. ليس على وجه الارض أمّة عندها اسماء (زهيرية) أكثر منّا.
مثلاً: مولى: سيّد مطاع، وأيضا عبد مملوك.
مثلاً: سليم: صحيح البدن، وايضا ملدوغ.
مثلاً: جُونه أبيض خالص ، وايضا اسود خالص.
مثلا: مهيب: رتبة عليا للعسكري الاصيل المخضرم في الجندية، وايضا لابن الشوارع الهارب من التجنيد.. وهَلمجّرا..
وعلى فكرة، ليس لدى الاوروبيين (هَلُمَّ جَرّاً). المواطن عندهم لا يأتي جَرّاً حتى لو أرادت اجهزة المخابرات ان تطمئن على صحّته!
كلّ هذا، والمرحوم عبدالله القصيمي ظل يردد حتى آخر حياته ان العرب ظاهرة صوتية!
غفرالله لك يا رجل. هذا افتراء فمتى كان لنا صوت حتى يكون ظاهرة؟!
الصوت الوحيد الذي امكن للعرب ان يطلقوه خلال اربعة عشر قرناً هو.. (صوت السهارى)!
البحث عن الذات
- أيها العصفور الجميل..أريد أن أصدح بالغناء مثلك، وأن أتنقّل بحرية مثلك.
قال العصفور:
-لكي تفعل كل هذا، ينبغي أن تكون عصفوراً مثلي..أأنت عصفور ؟
- لا أدري..ما رأيك أنت ؟
-إني أراك مخلوقاً مختلفاً . حاول أن تغني وأن تتنقل على طريقة جنسك .
- وما هو جنسي ؟
- إذا كنت لا تعرف ما جنسك ، فأنت، بلا ريب، حمار .
***
- أيها الحمار الطيب..أريد أن انهق بحرية مثلك، وأن أتنقّل دون هوية أو جواز سفر، مثلك .
قال الحمار :
- لكي تفعل هذا..يجب أن تكون حماراً مثلي . هل أنت حمار ؟
- ماذا تعتقد ؟
- قل عني حماراً يا ولدي، لكن صدّقني..هيئتك لا تدلُّ على أنك حمار .
- فماذا أكون ؟
- إذا كنت لا تعرف ماذا تكون..فأنت أكثر حموريّةً مني ! لعلك بغل .
***
- أيها البغل الصنديد..أريد أن أكون قوياً مثلك، لكي أستطيع أن أتحمّل كل هذا القهر،
وأريد أن أكون بليداً مثلك، لكي لا أتألم ممّا أراه في هذا الوطن .(1/9)
قال البغل :
- كُنْ..مَن يمنعك ؟
- تمنعني ذلَّتي وشدّة طاعتي .
- إذن أنت لست بغلاً .
- وماذا أكون ؟
- أعتقد أنك كلب .
***
- أيها الكلب الهُمام..أريد أن اطلق عقيرتي بالنباح مثلك، وأن اعقر مَن يُغضبني مثلك .
- هل أنت كلب ؟
- لا أدري..طول عمري أسمع المسؤولين ينادونني بهذا الاسم، لكنني لا أستطيع النباح أو العقر .
- لماذا لا تستطيع ؟
- لا أملك الشجاعة لذلك..إنهم هم الذين يبادرون إلى عقري دائماً .
- ما دمت لا تملك الشجاعة فأنت لست كلباً .
- إذَن فماذا أكون ؟
- هذا ليس شغلي..إعرف نفسك بنفسك..قم وابحث عن ذاتك .
- بحثت كثيراً دون جدوى .
- ما دمتَ تافهاً إلى هذا الحد..فلا بُدَّ أنك من جنس زَبَد البحر .
***
- أيُّها البحر العظيم..إنني تافه إلى هذا الحد..إنفِني من هذه الأرض أيها البحر العظيم .
إحملني فوق ظهرك واقذفني بعيداً كما تقذف الزَّبَد .
قال البحر :
- أأنت زَبَد ؟
- لا أدري..ماذا تعتقد ؟
- لحظةً واحدة..دعني أبسط موجتي لكي أستطيع أن أراك في مرآتها.. هه..حسناً، أدنُ قليلاً .
أوووه..اللعنة..أنت مواطن عربي !
- وما العمل ؟
- تسألني ما العمل ؟! أنت إذن مواطن عربي جداً . بصراحة..لو كنت مكانك لانتحرت .
- إبلعني، إذن، أيها البحر العظيم .
- آسف..لا أستطيع هضم مواطن مثلك .
- كيف أنتحر إذن ؟
- أسهل طريقة هي أن تضع إصبعك في مجرى الكهرباء .
- ليس في بيتي كهرباء .
- ألقِ بنفسك من فوق بيتك .
- وهل أموت إذا ألقيت بنفسي من فوق الرصيف ؟!
- مشرَّد إلى هذه الدرجة ؟! لماذا لا تشنق نفسك ؟
- ومن يعطيني ثمن الحبل ؟
- لا تملك حتى حبلاً ؟ أخنق نفسك بثيابك .
- ألا تراني عارياً أيها البحر العظيم ؟!
- إسمع..لم تبقَ إلاّ طريقة واحدة . إنها طريقة مجانية وسهلة، لكنها ستجعل انتحارك مُدويّاً .
- أرجوك أيها البحر العظيم..قل لي بسرعة..ماهي هذه الطريقة ؟
- إبقَ حَيّاً !
فيلم واقعي(1/10)
قرّر كاتب السيناريو أن يصنع فيلماً واقعياً حقاً . وقرر الناقد السينمائي أن ينقد السيناريو نقداً واقعياً حقاً .
جلس الكاتب، وجلس الناقد .
الكاتب: (منظر خارجي - نهار: الموظف يحمل أكياس فاكهة، واقف يقرع باب بيته)
الناقد: بداية سيئة. في الواقع، ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهاراً. لا بد له أن يدوخ الدوخات السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف الباصات، فإذا هبط المساء وعاد إلى بيته - إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة - فليس إلاّ مجنوناً ذلك الذي يصدّق أنه يحمل أكياس فاكهة !
الواقع انّه مفلس على الدوام. وإذا تصادف انه أخذ رشوة في ذلك اليوم، فالواقع أن الفاكهة غير موجودة في السوق .
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يقف ليقرع باب بيته) .
الناقد: هذا أحسن..وإذا أردت رأيي فالأفضل أن تُزوّدهُ بمفتاح. لا داعي لقرع الباب في هذا الوقت . انت تعرف أن قرع الباب - في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة - يرعب أهل الدار ويجعل قلوبهم في بلاعيمهم. الموظف نفسه لن يكون واقعياً إذا فعل ذلك بأهله كلّ يوم. نعم..يمكنك التمسّك بمسألة قرع الباب، على شرط أن تبدل الموظف بشرطي أو مخبر .
الكاتب: (منظر خارجي - ليل:الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل ..) لكن يا صديقي الناقد، ما ضرورة هذا المنظر؟ إنه يستهلك ثلاثين متراً من الفيلم الخام بلا فائدة. لماذا لا أضع الموظف في البيت منذ البداية ؟
الناقد: هذا ممكن، لكن الأفضل أن تُبقي على هذا المنظر. فالواقع ان جاره يراقب أوقات خروجه وعودته، وإذا لم يظهر عائداً، وفي نفس موعد عودته كل يوم، فإنك تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصاً. وهذا في الواقع أمر غير واقعي، بل ربما سيدعو الجار إلى اختلاق معلومات لا أصل لها .
الكاتب: (منظر داخلي - متوسط: الموظف يخطو داخل الممر...)
الناقد: خطأ، خطأ .. ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم .(1/11)
الكاتب: لكنَّ هذا غير واقعي على الإطلاق !
الناقد: بل واقعي على الإطلاق. أنت غير الواقعي. إنك تفترض دخول الموظف إلى بيت، وهنا وجه الخطأ. الموظف عادةً يدخل إلى وجر كلاب. نعم. هذا هو الواقع. البيت غرفة واحدة تبدأ من الشارع..دعك من أدونيس، البيت ثابت لكنّه متحوّل. فهو غرفة النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو الحوش .
الكاتب: (منظر داخلي - قريب: الموظف يخطو على أجساد أولاده النائمين - تنتقل الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت "كلوزآب" تبدو الزوجة مبتسمة، وعلى وجهها امارات الطيبة...
الزوجة: أهلاً.. أهلاً.. مساء الورد)
الناقد: إقطع.. بدأت بداية حسنة لكنك طيَّنتها. في الواقع ليس هناك زوجات طيبات، والزوجات أصلاً لا يبتسمن، خاصّة زوجات الموظفين..ثم ماهذا الحوار الذي مثل قلّته؟ مَن هذه التي تقول لزوجها أهلاً ثم تكرر الأهلاً ثم تشفع كل هذا بمساء الورد ؟!
أيّة واقعيّة في هذا ؟ دعها تنهض من بين أولادها نصف مغمضة، مشعثة الشعر، بالعة نصف كلامها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب.. ثم اتركها تولول كالمعتاد..
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا بلا عشاء، وأنت آتٍ في هذه الساعة ويداك فارغتان . مصيبتك بألف ياسنيّة..)
الكاتب: انظر ماذا فعلت..لو تركتني أزوّده بكيس واحد من الفاكهة على الأقل، لما اضطرَّ إلى مواجهة أناشيد سنيّة .
الناقد: زوّده يا أخي. لكنك لن تكون واقعياً. ثم أن أناشيد سنيّة لن تنقص حرفاً واحداً..بل ستزيد. إن كيس الفاكهة ليس حذاءً جديداً لابنته التي تهرّأ حذاؤها، ولا هو مصروفات الجامعة لابنه الأكبر، ولا أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الأوسط عن دفعها حتى الآن .
الكاتب: يصعب بناء الحبكة المشوّقة بوجود مثل هذه المشاكل التي لا حلَّ لها في الواقع .
الناقد: اجتهدْ..حاول أن تتخلّص من أولاده قبل مجيئه .
الكاتب: إنهم نائمون أصلاً. ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك ؟(1/12)
الناقد: دعهم نائمين..ولكن في مكان آخر. في السجن مثلاً. هذا منتهى الواقعيّة. لا يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الآن بكلمة معكّرة لأمن الدولة !
الكاتب: وماذا أفعل بسنيّة؟ إنَّ اناشيدها ستكون أشدَّ حماسةً في هذه الحالة .
الناقد: اقتلْها بالسكتة القلبية..من الواقعي أن تموت الأم الرؤوم مصدومةً باعتقال جميع أبنائها دفعةً واحدة .
الكاتب: ماذا يبقى من الفيلم إذن ؟!
الناقد: عندك الموظف .
الكاتب: ماذا أفعل بالموظف ؟
الناقد: لا تفعلْ أنت..دَعْ جاره يفعل . تخلّصْ من الجميع بضربة واحدة. الزوجة في ذمّة الله، والموظف وأولاده في ذمّة الدولة. ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد. فإذا فكّرتَ أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم .
الكاتب: كأنّك تقول لي ضع كلمة (النهاية) في بداية الفيلم . أيُّ فيلم هذا؟ لا يا أخي، دعنا نواصل حبكتنا كما كنا، وبعيداً عن السياسة .
الناقد: كما تشاء . واصل .
الكاتب: (كلوز - وجه الزوجة وهي غاضبة)
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا جائعين، وأنت آتٍ كالبغل في مثل هذه الساعة ويداك فارغتان كقلب أمِّ موسى. مصيبتك سوداء يا سنيّة)
(قطع - الكاميرا على وجه الزوج - يبدو هادئاً)
( الموظف: ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا. الصبر طيّب. نامي يا عزيزتي. الصباح رباح)
الناقد: هراء..هذا ليس موظفاً. هذا نبي ! بشرفك هل بإمكانك أن تتحلّى بمثل هذه الرقّة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنيّة؟ إنقل الكاميرا إلى وجه الموظف . كلوز رجاءً ، حتى أريك كيف تكون الواقعيّة...
(الموظف حانقاً يكاد وجهه يتفجّر بالدّم: عُدنا يا سنيّة يا بنت ال..؟ أكلّ ليلة تفتحين لي باب جهنم؟ ألا يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعالي. تعبت. إذهبي إلى الجحيم(يصفعها)إذهبي.. أنتِ طالق طالق طالق. طالق بالألف. طالق بالمليون ..هه)
((1/13)
الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي، أو كذمّة الحكومات. وتصرخ: وآآآآي.. وآآآآي)
(الكاميرا تنتقل إلى الأولاد. يستيقظون مذعورين على صوت امهم الحنون. يصرخ الأولاد. يزداد صراخ الموظف. قرع على الباب ولغط وراءه. تنتقل الكاميرا إلى الباب لكنها لا تلحق، الباب ينهدم تحت ضغط الجيران، وتمتلئ الغرفة بهم، ويتعلّق بعضهم بالمروحة لضيق المكان. ضجة الجيران تعلو.أحد الجيران - ولعلّه الذي يكتب التقارير - يحاول تهدئة الموقف)
(الجار: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي ؟
الموظف: لعنة الله عليها .
الجار: تعوّذ من الشيطان..ماالحكاية ؟
الزوجة: هووووء . طلَّقَني..بعد كلِّ المرّ الذي تحمّلته منه، طلّقني .
الجار: لا. انت عاقل يا أخي. ليس الطلاق أمراً بسيطاً .
الموظف: أبسط من مقابلتها كلّ يوم. لعنة الله عليها .
الزوجة: إسألوه يا ناس..ماذا فعلتُ له؟
الموظف: انقبري .
الجار: لكل مشكلة حل يا جماعة .
الموظف: لا حل .
الزوجة: يا ناس. يابني آدم. هل هي جريمة أن اقول له لا تشتم الرئيس ؟!
(الجار فاغر الفم والعينين..يحدّق في وجه الموظف..إظلام)
الكاتب: وبعد ؟!
الناقد: ليست هناك مشكلة.. بعد إعدام الزوج، سيمكن الزوجة أن تعمل خادمةً لتعيل أولادها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل . تصرَّفْ يا أخي. دع أحداً من الأولاد يترك الدراسة ليعمل سمكريّاً. أدخله في النقابة وعلّمه كتابة التقارير. أو دعه يواصل دراسته، لكن اجعل اخته تنخرط في الإتّحاد النسائي. بحبحها يا أخي. كل هذه الأمور واقعية .
الكاتب: واقعية تُوقع المصائب على رأسي.. أيّة رقابة ستجيز هذا السيناريو ؟!
الناقد: إذا أردت الواقع..أعترف لك بأنَّ الرقابة لن توافق .
الكاتب: ما العمل إذن ؟
الناقد: الواقعيّة المأمونة هي ألاّ يعود الموظف، ولا توجد سنيّة وأولادها، ولا يوجد البيت .
الكاتب: هذا أفضل .
يرفع الكاتب يده عن الدفتر..ويرفع الناقد لسانه عن النقد .
***(1/14)
في اليوم التالي.. يرفع الكاتب رجليه على الفلقة، ويرفع الناقد رجليه على المروحة .
في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة.. كلُّ شيء مُراقَب !
وجه
في ليلة من الليالي...
لحظة واحدة..كان بمستطاعنا - في الحقيقة - أن نقول (في ليلة من الصباحات)، فالكلام ملك أيدينا، ولا سلطة لأحد علينا، إذا أردنا تفجير اللغة قرباناً للتفاؤل . لكنَّ المشكلة - في الحقيقة - هي أن الصباحات لدينا لا تختلف عن الليالي .
نعود إلى القول إنه في ليلة من الليالي، خرج ثلاثة رجال للبحث عن الحقيقة .
وإنصافاً للحقيقة، نقول إنهم خرجوا للبحث عن الحقيقة في بلادنا بالذات، لأنها البلاد الوحيدة التي لم تكن تعرف الحقيقة .
ولمّا كان الظلام حالكاً، فقد تاه الرجال الثلاثة :
واحد منهم سقط في بئر، وذلك لأنه -في الحقيقة- لم يكن يحمل فانوساً . ويحسن بنا الإنتباه إلى أن الرجل كان يملك فانوساً، لكنه لم يكن يملك نفطاً وسبب ذلك هو أزمة النفط في بلادنا !
أمّا الرجل الثاني فقد زلق في طين أحد البساتين، فوقع على وجهه، وحين تمالك نفسه واستطاع أن يقف من جديد، لم ينسَ أن يقتلع معه شيئاً مكوّراً وبارداً، كان يستقر بين بطنه وبين الطين .
هو - في الحقيقة - لم يكن يعرف أين وقع، لأنه، هو أيضاً، لم يكن يحمل فانوساً، لغلاء النفط كما ذكرنا، ولأنه، من شدة جوعه لم يكن يحمل رأساً، وذلك - في الحقيقة - لغلاء الطعام، كما لم نذكر .
وعندما طلع الصباح، كان الرجل الأول قد وصل إلى مبنى البلدية يقطر زفتاً..أما الرجل الثاني فقد وصل بعده وهو يحمل بطيخة .
لكنَّ الرجل الثالث لم يصل إلاّ بعد ساعات من انعقاد المجلس البلدي .
لم يكن يقطر زفتاً ، ولم يكن يحمل بطيخة .
سأله رئيس البلدية : ماذا وجدت ؟
أطبق عينيه من فرط التعب، وزفر قائلاً : (لا شيء ) .(1/15)
عندئذ أطرق رئيس البلدية قليلاً، ثم رفع رأسه ببطء، وأعلن بمنتهى الهدوء والحسم : معنى هذا، أيها الأخوة، أن للحقيقة أكثر من وجه . ومنذ ذلك الوقت، نشأت في بلادنا ظاهرة التحزب .
المؤمنون بحقيقة الأول شكّلوا حزباً للزفت..ومنهم تكوّنت الحكومة .
والمؤمنون بحقيقة الثاني شكّلوا حزباً للبطيخ..ومنهم تكونت المعارضة .
أمّا المؤمنون بحقيقة الثالث فقد شكّلوا حزباً محايداً، جيبه يستعطي الزفت، وقلبه يتعاطى البطيخ، ورأسه يعطي ( اللاشيء ) .
ومن هؤلاء تكونت ( الحداثة ) !
يحدث في بلادنا
* ضبط إيقاع :
تعلّمتْ أختي العزف على الكمان، وتعلّمتُ أنا العزف على العود . كانت أمّي تعزف على الرِّق بمهارة، وكان أبي طبالاً مرموقاً .
توسّلت إلينا المعارضة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة الرّقص على الحبال .
وفي الوقت نفسه توسلت إلينا الحكومة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة القانون .
ولا نزال في حيرة شديدة..
ما أشد حيرة أصحاب المواهب في هذا البلد المحب للفن !
* مجاملة :
دعاني صديقي إلى العشاء، امس، وقدّم لي طبقاً فارغاً .
ولمّا كانت الأصول في بلادنا تقضي بردِّ الدعوة، فإنني دعوته إلى الغداء عندنا، هذا اليوم، دون أن يكون في نيّتي أن أقدّم له طبقاً فارغاً كما فعل..ذلك لأن تراثنا العائلي لا يسمح لنا باقتناء الأطباق !
لم أدر ماذا أصنع..كان الموقف محرجاً جداً..ولكي أحفظ ماء وجهي، استقبلت صديقي عند الباب بابتسامة عريضة، وصافحته بحرارة..ثم طردته فوراً .
أغلقت الباب وراءه، ثم ازدردتُ، بشهيّة، حلاوة ابتسامتي، ورحت ألعق من أصابعي حرارة المصافحة !
* ما نتعلّمه من الدنيا :
في إحصاء السكان الماضي كانت أسرتنا تتكوّن من عشرة أشخاص .
وفي الإحصاء الأخير قامت الدولة بحذف الصِّفر من العشرة !(1/16)
أنا الواحد المتبقّي سأعدم بعد يومين، أمّا الصفر المحذوف فقد أُعدموا لأنهم، قبل القبض عليَّ، لم يُبلّغوا السلطة بأني خائن .
حتى الآن أستطيع القول انَّ العمر لم يذهب دون فائدة..لقد تعلّمت من الدنيا أنَّ الصفر في بلادنا يُساوي تسعة .
ولا ريب عندي في أن الناس، بعد إعدامي، سيتعلّمون من الدنيا أنَّ العشرة في بلادنا تساوي صفراً .
قضيّة دعبول
استلقى "دعبول" على الأرض، وشرع في تقويس ظهره ببراعة لاعب "يوغا"..وظل يتدرج في تقوّسه شيئاً فشيئاً، حتى تم له في النهاية أن يُطبق رجليه على فمه .
وحالما استكمل شكله الدائري، فتح شدقيه بشهية بالغة، ثم ابتلع نفسه .
***
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة، فإن الخبر وصل إلى القطب الشمالي، حتى قبل أن يصل إلى "دعبول" نفسه !
جاءت، على الفور، وفود من شتى أنحاء العالم، واكتظ بيت دعبول على اتساعه بالصحافيين وعدسات التصوير وكاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات ولجان الحقوق المختلفة، حتى دعت الحاجة إلى تعطيل حركة المرور..ذلك لأن بيت دعبول هو رصيف الشارع العام .
كانت أنظار العالم كلها مصوبة إلى دعبول..وكان دعبول كلّه عبارة عن كرة مبهمة راقدة بسكون وسط الضجة العارمة .
***
صرخت مندوبة الجمعية العالمية للدفاع عن حقوق الأحذية :
من حق هذا المتوحش أن يفعل بنفسه مايريد، لكن ليس من حقه أن يبتلع الأحذية المسكينة..إنني أطالبه، باسم جمعيتنا الموقرة، بأن يطلق سراح الفردتين حالاً..من غير نقصان نعل أو مسمار .
***
وفي تلك الأثناء أصدر صندوق النقد الدولي احتجاجاً شديد اللهجة على هذا العمل الوحشي الجبان..وقال ناطق طلب عدم ذكر اسمه أن وراء احتجاج الصندوق أسباباً تنافسية، لكنه لم يُعطِ توضيحات أكثر .
***(1/17)
وأصدر رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الأزرار بياناً استنكر فيه العمل البربري الذي قام به دعبول، وركز على ضرورة إنقاذ الأزرار بأسرع وقت ممكن، كما ناشد الضمير العالمي الوقوف وقفة حازمة بوجه مثل هذه الأعمال اللا مسؤولة . وختم بيانه بالقول : إننا نحترم رغبة هذا الدعبول في ابتلاع قميصه وبنطلونه، بل وحتى حذائه..لكن ما ذنب هذه الأزرار الصغيرة المغلوبة على أمرها، والتي لا تستطيع النطق أو الدفاع عن نفسها بأية وسيلة ؟!
***
وفي كوالالمبور..أعدمت السلطات رجلاً حاول أن يقلِّد دعبول..وقال مسؤولون إنَّ هذا العمل يُعطي صورة بشعة للغربيين عن تخلّف سكان آسيا، وذلك حين يشاهدون واحداً منا وهو يأكل نفسه دون استعمال الشوكة والسكّين !
***
وأدلى مندوب جمعية الدفاع عن المصارين بحديث لإذاعة مونت كارلو، قال فيه إن جمعيته تندد بهذا العمل الآثم..وتطالب دعبول بالخروج حالاً من مصارينه الدقيقة والغليظة على حد سواء .
ومما جاء في الحديث قوله : إنني لم أرَ في حياتي كلها مثل هذه القسوة..ولا أدري كيف تأتّى لهذا البغل أن يخنق هذه المصارين الرقيقة بحشر نفسه فيها ! هل يظن نفسه قالباً من "الآيس كريم" ؟!
***
وناقش البيت الأبيض، في جلسات مطوّلة ما سمّاه ب"دابولز سيتيويشن"..وحذّر من احتمالات أن تعطل هذه المسألة مسيرة السلام في الشرق الأوسط..وأنحى باللاّئمة على بكين، كما حذّر إيران من مغبّة اللعب بالنار .
وفي الوقت نفسه أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بياناً أكّد فيه أن "بلعة دعبول" تعتبر تهديداً صارخاً لأمن إسرائيل .
***
وارتفع سعر الدولار إلى أعلى معدّل له منذ سبع سنوات، فيما انخفضت أسهم نفط بحر الشمال إلى أدنى معدل لها، ولم تتوفر على الفور أية معلومات عمّا إذا كان لقضية دعبول تأثير مباشر في هذا الشأن .
***(1/18)
وأدلى مندوب لجنة الدفاع عن حقوق الأقمشة بتصريح قال فيه : لا يهمنا نوع قماش قميصه أو بنطلونه..إنها مسألة مبدأ بالنسبة لنا، لا فرق إن كان قميصه من الحرير أو من الخيش..كلُّها في النهاية، أقمشة بكماء ضعيفة لا تحسن الدفاع عن نفسها..وعليه فإننا نطالب هذا الدعبول الأجرب بالإفراج عن قميصه وبنطلونه فوراً .
إن أنظار العالم تراقب معنا، بقلق شديد، معاناة هذه الأقمشة المرتهنة في جوف هذا الأحمق .
***
وأعلن أكثر من فصيل عربي معارض مسؤوليته عن بلع دعبول لنفسه، دون أن يتعرّض أيٌّ منها إلى مسألة بلع الأموال من أيّة جهة كانت..فيما نفت جميع الحكومات العربية أن يكون لها أي دور في مثل هذه(البلعة) .
وعززَّ هذا النفيَ تصريح لدبلوماسي غربي(رفض فقدان عمولاته) حيث قال أن خبرته الطويلة في الشؤون العربية تجعله يعتقد بأن هذا النوع من البلع غير متعارف عليه رسمياً لدى جميع حكومات المنطقة .
***
وأعربت الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق(البنكرياس)عن قلقها البالغ على مصير الغدّة المسكينة، واتخذت بالتعاون مع حركة الدفاع عن حقوق(الأنزيمات)إجراءات فورية لتقديم شكوى عاجلة إلى منظمة(الفيفا)على اعتبار أن دعبول في شكله الكروي الراهن، يدخل ضمن مسؤوليتها .
***
وفيما كان العالم يتابع هذه القضية بذهول وترقّب وقلق..بدا فجأة، أن كرة دعبول قد أخذت تتمدّد..
وعلى حين غرّة، انطلق منها صوت صاعق أقرب ما يكون إلى(تفوووو)..ثم استوى دعبول قائماً على قدميه حافياً عارياً !
بهت الجمهور الغفير..ولمعت فلاشات أجهزة التصوير، وتراكض مندوبو وسائل الإعلام لتسجيل صورة إفراج دعبول عن نفسه..لحظة بلحظة .
زمجر دعبول : يا أولاد الكلب المحترمين...ما أنا إلاّ جائع ،عارٍ ،مشرّد ،عاطل عن العمل..فماذا أفعل سوى أن آكل نفسي، لأكون أنا طعامي وأنا بيتي ؟!(1/19)
إنني ضحيّة كل هذه الجهات التي أنكرت واستنكرت واحتجت ونددّت ونفت وأعلنت وادّعت وحذّرت، في الوقت الذي كان فمي مغلقاً بجسمي، ولا قدرة لي على الشكوى أو نفي الإتهامات .
لقد تشرّفت، هذا اليوم، برؤية منظمات للدفاع عن حقوق كل شيء في هذه القرية الصغيرة..وها أنتم ترون أن الأحذية بخير، والأقمشة بخير، والمصارين بخير، والبنكرياس بخير، وإسرائيل بخير..وأنا الوحيد الذي ليس بخير..فلماذا لا أرى، وسط كل هذه القيامة، منظمة واحدة للدفاع عن حقوق دعبول ؟!
ستقولون، يا أولاد الكلب المحترمين، إنَّ الضغط الدولي قد أجبرني على الإفراج عن جسمي .
لا والله .. إنني،ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم !
***
تقول أنباء غير مؤكّدة إن السلطات أجبرت دعبول على ابتلاع نفسه..عقوبة له لوقوفه عارياً وسط الشارع..الأمر الذي يعتبر خدشاً للحياء العام !
ما بعد الزوال
كان بين الأنقاض ثلاثة رجال، هم كلُّ من تبقّى بعد المذبحة الأرضية . التراب تحت أرجلهم رماد، والسماء فوق رؤوسهم دخان .
الأول: فعلها الأشرار. طمعوا بها فدمّروها. لم يعيشوا ولم يتركوا الأبرياء يعيشون. ها نحن أولاء وحدنا على هذه الأرض. دعونا نفكّر في طريقة للحياة .
الثاني: أشتهي أن أدخّن .
الأول: دخّن كما تشاء..الهواء كلُّه تحت أمرك .
الثاني: كلاّ . أريد سيجارة. حبّذا لو كانت سيجارة أجنبية .
الثالث: ليس في الأرض أجانب يصنعون السجاير. نحن وحدنا الأحياء، وليس بيننا أجنبي .
الأول: كفاكما جدلاً. ليس هذا وقته. المهم الآن أن نجد ما نأكله .
الثالث: هذا صحيح. يجب أن نجد ما نأكله .
الثاني: أنا جائع في الحقيقة، لكن لا تظنّا أنني سأنسى رغبتي إذا ما شبعت. التدخين يكون أشهى بعد الطعام. ثم إنني أرغب في كوب من الشاي بعد أن آكل .(1/20)
الأول: أيّها الطيبان، هذه كماليات. الأمر الضروري هو أن نجد ما نأكله. لاحظا أننا سيمكننا مواصلة العيش بلا تبغ أو شاي، لكننا لن نعيش بلا طعام .
الثالث: السجاير أصلاً اختراع هولندي. هي أصل الشر. ليست سوى وسيلة من وسائل الإستعمار .
الأول: والشاي كذلك. صحيح انه اختراع صيني، إلاّ أن الإنجليز برعوا في جعله وسيلة من وسائل الإستعمار .
الثاني: يسقط الإستعمار .
الأول: لقد سقط فعلاً، لكنّه واأسفاه أسقط الدنيا كلَّها معه .
الثاني: لندخّن إذَن على شرف سقوط الإستعمار .
الأول: حاول أن تصبر يا صديقي، ودعنا الآن نفكّر في طريقة لاستعمار الأرض .
الثاني: فكّر وحدك. لن أسلك طريق الإمبريالية حتى لو مِتُّ جوعاً .
الأول: أنت مخطئ يا عزيزي. الإستعمار عمل عظيم. الإستعمار هو أصل وجود آدم على هذه الأرض، لكنَّ قراصنة الغرب هم الذين شوّهوا سمعته .
الثاني: إذن فهو مشوّه السمعة .
الأول: لنبدأ سمعته من جديد. دعونا نحسّنها على أيدينا .
الثالث: نعم. إنه مشوّه السمعة. نعم..دعونا نحسّن سمعته على أيدينا .
الثاني: إرفع قدمك عن أعصابي. إنك تؤلمني. أأنت معي أم معه ؟
الثالث: أنا معكما .
الأول: وأنا أيضاً معكما .
الثاني: أنا أكره وجهة نظرك، لكنني أحترمها. أمّا هذا فليس لديه وجهة نظر..ولذلك فأنا مضطر لأن أكرهه .
الأول: ينبغي ألاّ يكره أحدنا الآخر. ألا ترون أن الكراهية هي التي أوصلت الأرض إلى هذه النتيجة ؟
الثاني: إذن، أنا مضطر لأن لا أكرهه، وأحسب أن هذا الأمر سيجعلني محتاجاً إلى التدخين .
الثالث: التدخين مضر بالصحة .
الثاني: صحّتك أم صحّتي ؟
الثالث: صحّتك طبعاً. لكنني أتضايق أيضاً من رائحة التبغ .
الثاني: إبتعد عنّي حين أدخّن. بإمكانك مثلاً أن تخرج إلى القطب الشمالي .
الأول: في الواقع نحن لا نعرف موقعنا على الأرض بالضبط. ربّما نحن في القطب الشمالي فعلاً !(1/21)
الثاني: ليذهب إلى خط الإستواء. هناك سعة لمن لا يحب رائحة التبغ .
الأول: أووه..لا يعنيني تدخينك، ولا كراهيته للتدخين. إنني مهتم الآن بتحديد موقعنا على هذه الأرض .
الثاني: هل أنت متأكّد من أننا فوق الأرض حقّاً ؟
الأول: وأين يمكن أن نكون ؟!
الثاني: على المرّيخ مثلاً .
الثالث: لا يمكن. ليس على المريخ حياة .
الثاني: اسكت أنت. ماذا نعرف عن المريخ ؟ كلُّ ما نعرفه الآن هو أن ليس على الأرض حياة .
الثالث: عليها..نحن الثلاثة لا نزال أحياء .
الثاني: أيها الغبي، لم نتحقق بعد من أننا فوق الأرض. ثم مَن يستطيع أن يؤكد أننا أحياء ؟!
الأول: أعتقد أننا أحياء. فالموتى لا يتكلمون .
الثاني: هل مِتَّ من قبل لتعرف أن الموتى لا يتكلمون ؟ ربّما لم نكن نفهم كلام الموتى لأننا كنا أحياء. وها نحن أولاء يفهم بعضنا بعضاً لأننا ميتون !
هل تتذكرون ؟ عندما كنا نحيا في الوطن العربي لم نكن نتكلم إطلاقاً .
الثالث: هذا صحيح، أذكر ذلك جيداً .
الثاني: إذن فليس الموتى وحدهم الذين لا يتكلمون. كلُّ المسائل نسبيّة يا جماعة .
الثالث: لا أتفق معك. فنحن مازلنا عرباً..ومع ذلك فنحن نتكلّم .
الثاني: طبعاً لا تتفق معي، لأنّك مصّر على أن تظلَّ عربياً. إسمع يا رجل، ينبغي أن تدرك أنك تتكلم الآن لأنك لم تعد عربياً. أنت الآن عالمي. إذا أردت الدقّة أنت الآن ثلث نفوس العالم .
الثالث: أيُّ عالم ؟
الثاني: إذا لم نكن على المريخ، وإذا كنّا أحياء، فليس عندي شك في أنك العالم الثالث !
الأول: نحن جميعاً في موقع واحد .
الثاني: في اللحظة الراهنة نعم. لكنني أعتقد أنه جاءنا لاجئاً. ألا ترى أنه بلا رأي ؟
الأول: لقد عبَّر عن رأيه بكل وضوح .
الثاني: أيُّ رأي؟ إنه يردّد ما أقوله أو ما تقوله. لم يقل شيئاً سوى أن التدخين مضر بالصحّة .
الثالث: وبالبيئة أيضاً .
الثاني: البيئة ؟!(1/22)
الأول: اسكتا..البيئة نفسها تدخّن الآن. ينبغي أن نفكّر ريثما يزول هذا الدخان .
الثاني: لا أستطيع التفكير وهذا(الأخضر) مغروز في خاصرتي. قل له أن يشفق على أعصابي بقدر إشفاقه على البيئة .
الأول: إذا واصلنا الجدال فسنهلك .
الثاني: لا بأس، إذا كان الهلاك سيخلصني من هذا الببغاء .
الأول: الجدل مفيد إذا كان مفيداً .
الثالث: حكمة والله !
الأول: علينا أن ننظّم تفكيرنا وحوارنا .
الثاني: الإختلاف قائم لا محالة .
الثالث: نعم نحن نختلف لا محالة. علينا أن ننظّم تفكيرنا .
الثاني: وحوارنا كما قال .
الثالث: وحوارنا .
الثاني: ألم أقل إنك ببغاء ؟!
الأول: إننا ندور في حلقة مفرغة. لماذا لا ننتخب واحداً منّا ليكون هو القائد، ويكون على الآخَرين احترام رأيه ؟
الثاني: مَن يضمن لي أن يجري الإنتخاب دون تزوير ؟
الأول: أنا أضمن ذلك. إننا لم نعد في الوطن العربي، كما اننا جميعاً سنراقب العملية عن كثب .
الثالث: نحتاج إلى صندوق .
الثاني: ما حاجتنا للصندوق ؟!
الثالث: هه..كيف يجري الإنتخاب دون صندوق للاقتراع ؟
االثاني: إذا عثرنا على صندوق فأول ما سأفعله هو أن أضعك فيه وأشيّعك إلى مثواك الأخير .
الثالث: أنت دكتاتور .
الأول: كلاّ..هو ديمقراطي .
الثالث: لماذا يقف ضدَّ فكرة صندوق الاقتراع ؟
الثاني: يا كائن. ألا ترى أنه لا يوجد صندوق ؟
الثالث: نبحث عن صندوق .
الأول: حسناً..لننتخب أحدنا ليقود عملية البحث .
الثالث: هذا أحسن حل .
الثاني: كيف ننتخب ؟!
الأول: بالاقتراع .
الثالث: نحتاج إلى صندوق .
الأول: نحن نحاول انتخاب أحدنا ليقود عملية البحث عن صندوق .
الثالث: حل جيّد .
الثاني: سأقتل هذا الببغاء .
الأول: لا تشتبكا. بإمكاننا في هذه المرّة أن نجري الانتخاب بالتصويت المباشر .
الثالث: في هذه المرحلة فقط .
الثاني: أنا أرشّح نفسي .
الأول: وأنا ارشّح نفسي .
الثالث: وأنا أرشّح نفسي .
الثاني: أنت لا .(1/23)
الثالث: لماذا؟ أأنتما أحسن منّي ؟!
الثاني: إذا رشّحنا جميعاً فمن سيراقب سير الانتخاب؟ لابدَّ أن يتولّى أحدنا مهمة الرقابة .
الثالث: لننتخب أحدنا لهذه المهمة .
الثاني: أنا أرشّحك وأصوّت لصالحك .
الأول: سأصوّت ضدّه .
الثاني: إذن، أعيّنك أنت رئيساً للجنة الرقابية .
الثالث: مَن أنت حتى تعيّنه؟ كلاّ..يجب أن يجرى انتخاب .
الأول: لا شأن لي بانتخابات رئاسة اللجنة الرقابية، أنا مرشّح قيادة للبحث عن صندوق اقتراع لانتخابات القيادة العامة .
الثاني: أنا منسحب .
الأول: في هذه الحالة رشّح نفسك لانتخابات اللجنة الرقابية .
الثاني: لن أرشّح في أي انتخاب .
الثالث: إذن إدلِ بصوتك كمواطن عادي .
الثاني: لا ثقة لي بأي مرشّح. أنت مثلاً..ما هو برنامجك الانتخابي ؟
الثالث: برنامجي ؟!
الأول: ...ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الطيبَين. وأعد بشرفي انني إذا تمّ انتخابي، سأعمل بكل طاقاتي وبتفانٍ وإخلاص لتحقيق المكاسب التالية: أولاً :العثور على صندوق للاقتراع، ثانياً:إجراء انتخابات حرة مستندة إلى صندوق الاقتراع، ثالثاً:توحيد الصّف ومحاربة الأميّة وتوفير الوظائف وإطلاق حرية الرأي .
الثالث: ماذا يقول ؟!
الثاني: أحسن منك. رجل عنده برنامج .
الثالث: أهذا هو البرنامج ؟
الثاني: نعم. هذا هو. أم كنت تظنه برنامج(ما يطلبه المستمعون) ؟
الثالث: ويحي. هذا سهل. أنا أيضاً أستطيع أن أقول مثل هذا البرنامج .
الثاني: هات ما عندك .
الثالث: ..ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الثلاثة. وأقسم بشرفي أن أحقق المنجزات التالية: أولاً: العثور على صندوق، ثانياً: العثور على طعام، ثالثاً: توحيد الصف ومحاربة الإمبريالية .
الأول: حسناً..أمامك برنامجان .
الثاني: ليس في البرنامجين ما يغريني بانتخاب أحدكما. لم يتطرق أيّ منكما إلى ضرورة توفير السجاير لي .
الأول: الطعام أوّلاً .
الثالث: السجاير مضيعة للمال والصحّة .(1/24)
الثاني: انتخبا لوحدكما .
الأول: وماذا ستفعل أنت ؟
الثاني: مقاطعة الانتخابات .
الأول: موقف غير حضاري. لا يجوز للمواطن الأصيل أن يتخذ موقفاً سلبيّاً من قضيّة الانتخابات .
الثاني: لست سلبياً. أنا على الحياد. الحياد الإيجابي .
الأول: أعتقد أن لا مفر من القيادة الجماعية .
الثالث: كنا هكذا منذ البداية !
الأول: نعم. لكن بطريقة بدائية. أمّا الآن وقد تبلورت القضيّة، فإننا نستطيع أن نسمّي أنفسنا مجلس قيادة .
الثاني: نقود مَن ؟!
الأول: أنفسنا .
الثاني: هذه بدعة عربية. نحن الآن عالميون .
الأول: ماذا نفعل إذن ؟
الثاني: احسن شيء هو أن يمضي كل واحد منا في اتجاه .
الثالث: فكرة جيدة..لكنها أيضاً فكرة عربية .
الأول: لماذا انتما معقّدان من العروبة؟ لماذا لا نكون عرباً وعالميين في الوقت نفسه؟ ألا يكفي العرب كرامة عند الله أن يكون منهم الثلاثة الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة فوق الأرض ؟!
الثاني: على قيد الحياة؟ من قال إننا أحياء حقاً؟ فوق الأرض؟ من قال إن هذه هي الأرض حقاً؟ كرامة؟ أينبغي أن يزول جميع البشر لكي يستطيع ثلاثة من العرب أن يشعروا بكرامتهم ؟!
الثالث: إثنان فقط. أنا لا أشعر بالكرامة. كيف أشعر بها وأنت عاكف على إهانتي ؟
الثاني: إذا كانت كلمتي ثقيلة عليك فبإمكانك أن تطلب حقَّ اللجوء من هذا..
الأول: لا تحرجني. أنت تعلم أنني لا أستطيع البتَّ في طلبات اللجوء قبل الانتخابات .
الثاني: أقترح في هذه الحالة أن تجرى انتخابات مبكّرة .
الثالث: سنحتاج إلى صندوق..
الأول: وإلى ناخبين..
الثاني: وإلى لجنة رقابية...(1/25)